جامع الافكار وناقد الانظار الجزء ١

جامع الافكار وناقد الانظار0%

جامع الافكار وناقد الانظار مؤلف:
المحقق: مجيد هاديزاده
الناشر: مؤسسة انتشارات حكمت
تصنيف: مفاهيم عقائدية
ISBN: 964-5616-70-7
الصفحات: 482

جامع الافكار وناقد الانظار

مؤلف: محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]
المحقق: مجيد هاديزاده
الناشر: مؤسسة انتشارات حكمت
تصنيف:

ISBN: 964-5616-70-7
الصفحات: 482
المشاهدات: 29551
تحميل: 2606


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 482 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 29551 / تحميل: 2606
الحجم الحجم الحجم
جامع الافكار وناقد الانظار

جامع الافكار وناقد الانظار الجزء 1

مؤلف:
الناشر: مؤسسة انتشارات حكمت
ISBN: 964-5616-70-7
العربية

اتصافها بالوجود أو نفس الوجود ـ نظرا إلى المذاهب الثلاثة المتقدّمة ـ ، وإن ترتّب عليه بالعرض اتصاف المحلّ به.

وبالجملة لو لوحظ مجرّد وجود الحالّ في نفسه وقطع النظر عن اتصاف المحلّ به لم يكن الأثر المترتّب عليه هو الاتصاف ؛ ولو لوحظ وجوده بمحلّه كان الأثر المترتّب على الجعل أوّلا في هذه الملاحظة هو الاتصاف ، ويكون المقدور بالذات أيضا هو اتصاف المحلّ الموجود بالحالّ ، ويكون هذا الاتصاف معروض الموجودية والوحدة العددية ، ووحدته انّما هو بوحدة وجود الوصف الحالّ أو منشأ انتزاعه. فاذا تعدّد الجاعل لاتصاف جسم مثلا بالحركة فلا ريب في أنّ الحركة الّتي يوجدها فيه أحد الجاعلين غير الحركة الّتي يوجدها الآخر فيه بالشخص ، فيتعدّد الاتصاف ويكون الاتصاف الصادر من أحدهما غير الاتصاف الصادر من الآخر بالشخص. ثمّ الاتصاف المقدور بالذات ليس هو الاتصاف بشرط الوحدة والوجود ليلزم عدم اشتراك المقدور / ١٠١ MB / بالذات بين القادرين ، بل المقدور بالذات هو الاتصاف من حيث هو ـ أي : لا بشرط الوجود والوحدة ـ ، كما انّ المقدور بالذات في الماهية هي الماهية من حيث هي ـ أي : لا بشرطها ـ. ولا ريب انّ الاتصاف من حيث هو أمر واحد مشترك بينهما.

ثمّ لا يخفى انّ جعل الشيء الموجود شيئا آخر على ثلاثة أقسام :

الأوّل : أن يكون الجعل المتعلّق بوجود الحالّ لمحلّه والجعل المتعلّق لوجوده في نفسه متّحدا ـ أي : لا يكون أحد الجعلين مغايرا للآخر ـ. وهذا إنّما يكون إذا كان وجود الحالّ في نفسه هو بعينه وجوده لمحلّه ، فيكون الجعل المتعلّق بوجود الحال هو بعينه الجعل المتعلّق بوجوده لمحلّه ، ويكون غرض الجاعل ابتداء ايجاد الحالّ واتصاف المحلّ به. كما في افاضة الاعراض على الموضوعات واتصافها بها ، إذ وجود الأعراض في أنفسها وجوداتها لموضوعاتها ـ كما صرّح به الشيخ الرئيس ـ ، فيكون الأثر لهذا الجعل شيئا واحدا ـ أعني : وجود الحالّ الّذي هو بعينه اتصاف المحلّ به ـ.

الثاني : أن يكون الجعل المتعلّق بوجود الحالّ لمحلّه جعلا مغايرا للجعل المتعلّق

٤٤١

بوجود الحالّ في نفسه ، لكن كان لازما له ومتأخّرا عنه بالذات. كما في اتصاف الهيولى بالصورة ، إذ وجود الصورة متقدّم على اتصاف الهيولى بها ؛ بل على وجود الهيولى أيضا ، لكن من حيث هو وجود الصورة المطلقة الكلّية لا من حيث هو وجود هذه الصورة الشخصية. وعلى هذا يتحقّق جعلان : أحدهما : الجعل المتعلّق بوجود الصورة في نفسها ، وأثره هو ماهية الصورة أو اتصافها بوجودها أو وجودها / ٩٦ DB / ـ على اختلاف الأقوال في جعل الليس أيسا ـ ؛

وثانيهما : الجعل المتعلّق بوجود الصورة للهيولى واتصافها بها ، وأثره هو اتصاف الهيولى بها.

الثالث : أن لا يتحقّق جعل لوجود الحالّ في نفسه أصلا ، بل يتحقّق أوّلا جعل مركّب متعلّق بالاتصاف لا يكون جعلا للحالّ بوجه ولا يكون للحالّ جعل آخر يكون هذا الجعل تابعا له ، فيكون أثره هو الاتصاف فقط دون الوصف ـ كما في جعل الشيء متّصفا بالصفات السلبية والاعتبارية ـ.

والمقدور بالذات في هذه الاقسام الثلاثة كلّها هو الاتصاف ، ووحدته العددية بوحدة وجود الصفة أو منشأ انتزاعها. وانما هو مقدور بالذات إذا أخذ لا بشرط الوحدة والوجود وإن كان في الواقع معروضا لهما ، كما إذا أخذ بشرطهما. فالمشترك بين القادرين على جميع أقسام الجعل هو مفروض الموجودية والوحدة العددية لا بشرطهما ، وما لا يجوز اشتراكه هو الموجود الواحد بما هو موجود واحد ، فلا اشكال ؛ انتهى ما قيل في الجواب عن الشبهة المذكورة مع توضيحه وتنقيحه.

وأنت تعلم انّ حاصله يرجع إلى أنّ المقدور بالذات في جميع أقسام الجعل وعلى جميع المذاهب هو معروض الموجودية والوحدة العددية ـ أعني : الماهية والاتصاف ـ ، لا بشرطهما ، لأنّ المقدور بالحقيقة هو ما يخرج من الليس إلى الأيس لا نفس هذا الاخراج الّذي هو فعل الايجاد ، ولا مجرّد الأيس الّذي هو الوجود ، والمخرج من الليس إلى الأيس ليس إلاّ الماهية لا بشرط الوجود. والوحدة العددية أو الاتصاف الّذي هو أيضا نوع ماهية والماهية لا بشرطهما واحد بالمعنى لا بالعدد ، فكونها مقدورة

٤٤٢

للواجب ولغيره لا يوجب توارد العلل المستقلّة على معلول واحد شخصي ، ولا كون المعنى العامّ مع ضعف وجوده علّة للواحد بالشخص ، لأنّ الماهية بدون ضمّ الوحدة العددية والخصوصية الشخصية ليست واحدة بالعدد ، بل تكون واحدة بالعدد إذا اعتبرت مع وجودها ووحدتها العددية ، فهي بهذا الاعتبار ليست مقدورة بالذات لقادرين حتّى يلزم المفسدتان ، بل مقدورة لأحدهما فقط. ولا يمكن أن يصدر بعينها بهذه الوحدة والوجود الخاصّ عن الآخر ، بل تلك الماهية إذا صدرت عن الآخر تكون مغايرة بالعدد للماهية الصادرة عن الأوّل لاقترانهما بوجود آخر ووحدة عددية أخرى وإن اتّحدتا من حيث الحقيقة والمعنى ، فالمعنى العامّ الّذي هو القدرة المشتركة بين القادرين لا يكون علّة لواحد بالعدد ، بل يكون علّة أيضا لأمر عامّ والعلّة الواحد بالعدد انّما هو واحد بالعدد أيضا من أفراد العامّ ، فالعامّ علّة للعامّ والخاصّ علّة / ١٠٢ MA / للخاصّ.

وأنت تعلم انّ الواحد بالمعنى انّما يتصوّر في الحقائق الكلّية ـ كالانسان وغيره ـ دون الأفراد والأشخاص ، فحقيقة كلام هذا المجيب يرجع إلى : انّ كلّ ما يصدر عن غيره ـ تعالى ـ من فرد مندرج تحت نوع ـ كزيد المندرج تحت الانسان مثلا ـ يمكن للواجب أن يوجد فرد آخر لهذا النوع ـ كعمرو مثلا ـ ، فيشتركان الفردان في الماهية ، وهي لكونها في نفسهما واحدة بالمعنى وإن اختلفت بالعدد ؛ والمقدور بالذات هي تلك الماهية من حيث واحدة بالمعنى لا من حيث اقترانها بالخصوصيات من الوجود والوحدة العددية. فمن حيث وحدتها المعنويّة لا يلزم عدم اشتراك المقدور بالذات بينهما ، إذ الماهية المتحقّقة في ضمن زيد هي بعينها متحقّقة في ضمن عمرو ، والتفاوت بينهما إنّما هو بانضمام الخصوصيات الخارجة من الوجود والشخص ، فالماهية مع وحدتها المعنوية وكلّيتها متحقّقة في ضمن جميع الأفراد. وهذا هو معنى وجود الكلّى الطبيعي في الخارج ، فالماهية المتحقّقة في ضمن زيد الموجودة من أحد القادرين إذا أوجدها الآخر في ضمن عمرو يصدق انّه أوجد تلك الماهية ، فالمقدورات بالذات أمر متحقّق موجود في الخارج مشترك بينهما ، إلاّ أنّه من حيث انتفاء الوحدة العددية لا يلزم المفسدتان المذكورتان. و

٤٤٣

أمّا الوجود فلمّا كان افرادها متخالفة بالحقيقة عند الحكماء والمشترك بينهما لم يكن أمرا موجودا متحقّقا في الخارج بل أمرا اعتباريا عرضيا ، فلا يتحقّق بين وجود زيد ووجود عمرو مثلا أمر متحقّق في الخارج يكون مشتركا. فاذا افاض غيره ـ تعالى ـ وجود زيد فان امكن للواجب أيضا أن يفيض وجود زيد بعينه لزم المفسدتان ؛ وان افاض وجود عمرو لزم عدم اشتراك المقدور بالذات واشتراكهما في الوجود / ٩٧ DA / المطلق الّذي هو مفهوم عرضي غير مفيد ، لأنّه ليس امرا متحصّلا في الخارج ولا يتعلّق به الجعل أصالة.

وغير خفي انّه على ما ذكره المجيب يلزم أن لا يكون الأشخاص والأفراد الصادرة عن غيره ـ تعالى ـ من حيث هي اشخاص وأفراد ممكنة له ـ تعالى ـ ، بل المقدور له انّما هو اشخاص وافراد اخر ، فزيد الموجود من غيره ـ تعالى ـ لا يكون ممكن الصدور عنه ـ تعالى ـ بالنظر إلى ذاته ـ تعالى ـ. لأنّ الوجود ونشأته وساير ما يلزمها داخلة في حقيقة الشخص ، فالشخص من حيث هو شخص لا يكون له مقدورا له ـ تعالى ـ ومقدورية الماهية الانسانية لا مدخلية لها لمقدورية الشخص من حيث انّه شخص. والظاهر انّ المجيب يلزمه ويقول : انّ ذلك لاستحالة خارج عن عموم قدرته ـ تعالى ـ ، فعموم قدرته ـ تعالى ـ مخصّص بغير الجزئيات والأشخاص الصادرة عن غيره ـ تعالى ـ.

ولا يخفى انّه يمكن أن يقال : هذا وهن في عموم قدرته ـ تعالى ـ وعظم سلطانه! ، فانّه تعالى ـ حينئذ لا يكون قادرا على ايجاد كلّ شخص صدر من غيره. وقدرته على ايجاد غير ذلك الشخص ممّا هو داخل معه تحت أمر كلّي لا يدفع صدق عموم شمول قدرته لهذه الاشخاص بعينها.

وأيضا : ما ذكره المجيب انما يتأتّى في أفراد الجوهر ممّا يدخل تحت أمر كلّي واحد بالوحدة المعنوية موجود في الخارج ، ولا يتأتى في أفراد الأعراض ـ كالافعال الصادرة عن العباد مثل الاحسان والضرب وامثالهما ـ ؛ وفي اتصاف الجسم بالحركة ممّا جعل المجيب المقدور بالذات فيه نفس الاتصاف ، لأنّها ليست من الحقائق المحصّلة في الخارج ، فلا يكون ما به الاشتراك في أفرادها أمرا موجودا في الخارج ، بل ما به الاشتراك بينهما

٤٤٤

أمر عرضي اعتباري ـ كمفهوم الضرب والحركة ـ أو مفهوم الاتصاف. فلو جعل زيد مثلا عمروا متّصفا بالحركة فلو امكن للواجب أن يجعل عمروا متّصفا بتلك الحركة بعينها وبذلك الاتصاف ، لزم المفسدتان ؛ ولو لم يمكنه ذلك بل أمكن له اتّصافه بحركة أخرى بدل تلك الحركة حتّى تختلف الحركتان بالعدد وبتعدّد الاتصاف أيضا بالعدد وكان المقدور بالذات هو نفس الاتصاف المشترك بين الواجب وبين زيد وعدم لزوم عدم الاشتراك في المقدور بالذات حينئذ ـ لاشتراكهما في مفهوم الاتصاف ـ ؛ فيرد : انّ مفهوم الاتصاف أمر غير متحصّل في الخارج وليس مثل الطبائع الكلّية الموجودة في الخارج حتّى يكون وجودها الخارجي ووحدتها المعنوية مصحّحا لاشتراك المقدور / ١٠٣ MB / بالذات. ولو صحّ مثل ذلك الاشتراك المقدور بالذات لصحّ أن يقال : المقدور بالذات هي نفس الايجاد والافاضة أو الوجود المطلق المشترك بين الموجودات ، ولا حاجة إلى جعل المقدور بالذات هو الماهية من حيث هي دون الوجود ـ كما ارتكبه هذا المجيب ـ. وعلى هذا فكلّ ما يصدر عن غيره ـ تعالى ـ أمكن أن يقال : انّه مقدور له ـ تعالى ـ إذا امكن له أن يوجد موجودا ما ولو كان مغايرا له في النوعية والجنسية لاشتراكهما في الايجاد والوجود المطلق. ولا ريب انّه لا مدخلية لمثل ذلك لعموم القدرة المطلوبة للقوم ، لأنّ ذلك ثابت لكلّ من يقدر على تأثير ما. فظهر ان الجواب الّذي ذكره هذا المجيب للشبهة المذكورة غير تامّ.

نعم! يمكن أن يقرّر هذا الجواب على وجه يصير تامّا ؛ وهو : انّ المقدور بالذات في مطلق الجعل ـ سواء كان المجعول جوهرا أو عرضا ، قارّا أو غير قارّ ، وبالجملة أيّ نوع منه كان حتّى مثل الاتصاف في مثل جعل الشيء شيئا آخر ـ هو الماهية. ومعنى كونها مقدورة لشيء أن يمكنه فعل الماهية ـ أي : جعلها موجودة بلوازمها ـ ، ولو كانت تلك الماهية مثل الاتصاف. ومآل الأقوال الثلاثة في الجعل ـ أعني : كون المجعول نفس الماهية أو الوجود أو اتصافها به ـ إلى أنّ الجاعل انّما يوجد الماهية ويخرجها من العدم إلى الوجود ، وإنّما الفرق في تعلّق الجعل أوّلا بنفس الماهية أو وجودها أو اتصافها به ؛ ولا مخالفة بينها في أنّ فعل الجاعل هو ايجاد الماهية وابرازها من كتم العدم إلى الوجود.

٤٤٥

فالأثر المترتّب على الجعل أوّلا هو الماهية الخارجية ـ أي : الموجودة ـ ، ثمّ يترتب عليه جميع لوازمها الخارجية ووحدتها العددية. فالمقدور بالذات لمّا كان هو الماهية وكان معنى مقدوريتها امكان افاضة الوجود من حيث هو وجود لا من حيث هو وجود خاصّ معيّن ، فيكون معنى مقدورية فعل واحد شخصي امكان افاضة الوجود ـ من حيث هو وجود ـ على ماهية هذا الفعل. فمعنى كون الحركة مقدورة للواجب ولزيد أن يمكن لهما افاضة الوجود على ماهية الحركة ـ أي : اخراج ماهيتها من العدم إلى الوجود ـ. ولا ريب في أنّه ممكن لهما ، لأنّ كلاّ منهما قادر على ايجاد الحركة في محلّ خاصّ واحد وبه يتصحّح / ٩٧ DB / اشتراك المقدور بالذات ـ أي : الماهية ـ ، لان افاضة الوجود عليها واخراجها من العدم إلى الوجود مشترك بينهما. ولا يلزم حينئذ وجود علّتين لمعلول واحد شخصي لأنّ الشخص انّما هو نحو الوجود وما يلزمه ، ونحو الوجود وما يلزمه متغايران بالعدد في صورة تعدّد الفاعل. ولا يمكن أن يكون نفس الشخص ـ أي : نحو الوجود وخصوصية الوجود الخاصّ وتعيّنه ـ من حيث هو صادر عن أحد الفاعلين صادرا عن الآخر ، لأنّ ذلك يرفع المناسبة بين العلّة والمعلول ، وهو محال. فخصوصية الحركة الصادرة عن زيد ونحو وجودها وتعيّنها لا يمكن أن يصدر عن الواجب ، لأنّ صدوره لانحطاط مرتبته في الوجود لا يناسب ذاته المقدّسة ولا يليق بعلوّ شأنه. وحينئذ يمكن أن يقال : انّه لا يمكن أن يصدر عنه هذا التعين بالنظر إلى ذاته ، إلاّ انّه لا يمكن أن يصدر عنه بالنظر إلى ذات هذا التعين ولا يلزم منه وجود علّتين لمعلول واحد شخصي ، لأنّ شرط تحقّق العلّية وجود امكان الصدور عن الطرفين ، فاذا فقد الامكان من طرف المعلول ارتفعت العلّية والمعلولية ولو كان الامكان من طرف العلّة متحقّقا ، فانّ صدور الكذب من الواجب ممكن بالنظر إلى ذاته ، إلاّ أنّه لقبحه وعدم مناسبته لذاته الجسيمة لا يصير ذاته سببا وعلّة لصدوره وعلّيته البتة. وعلى التقديرين لا يكون عدم كونه ـ تعالى ـ علّة للتشخّص والتعيّن الصادر عن زيد مثلا وهنا في عموم قدرته ونقصا في عظم سلطانه ، فتأمّل ؛ هذا.

ويمكن أن يقال في الجواب : انّ جميع الأشخاص والأفراد بعينها ممكنة الصدور

٤٤٦

عن الواجب ـ تعالى ـ بالنظر إلى ذاته ، وانّ هذا الشخص من الفعل بوحدته الشخصية ووجوده الشخصي الصادر عن زيد على / ١٠٣ MA / الظاهر يمكن أن يصدر عنه ـ تعالى ـ بالنظر إلى ذاته. وبالجملة صدور جميع الممكنات بأجناسها وأنواعها وأشخاصها ولوازمها وتعيناتها ووحداتها الشخصية عن الواجب ـ تعالى ـ ممكن بالنظر إلى ذاته ، ومع ذلك لا يلزم توارد العلل المستقلّة على أمر واحد شخصي ولا علّية المعنى العامّ للواحد الشخصي ؛ أمّا على طريقة الحكماء فظاهر ، لأنّهم لا يثبتون التأثير والايجاد لشيء من الممكنات ويقولون : الممكن لكونه محض القوّة والعدم لا يمكن أن يصير منشئا للايجاد والافاضة ، فإيجاد الجميع والافاضة على الكلّ انّما هو منه ـ تعالى ـ بلا واسطة وان كان بعض الممكنات شرائط ووسائط لحصول الايجاد والافاضة من الواجب ـ تعالى ـ. فعلّة كلّ موجود شخصي بوحدته الشخصية ووجوده الشخصي وكلّ فعل شخصي كذلك منحصر بالواجب ـ تعالى ـ عندهم ، ولا شريك له في الافاضة اصلا حتّى يلزم تصوّر علّتين لمعلول واحد فضلا عن تواردهما عليه. وما ذهبوا إليه من وجوب ترتيب الصدور في الموجودات من العقول والنفوس والطبائع والعناصر والمركّبات لا ينافي القول بعدم الواسطة والافاضة ، لأنّ المراد بعدم الواسطة في التأثير انّ المخرج لكلّ شيء من القوّة والعدم لا يكون إلاّ من هو بريء من كلّ وجه عن العدم وهو ليس إلاّ الواجب سبحانه ـ ، والمراد بوجوب ترتيب صدور الأشياء عنه ـ تعالى ـ انّه يجب حفظ مرتبة وجودها بطريق التناوب بأن يصدر الأشرف فالاشرف ثمّ الاحسن فالأحسن ـ لعدم لياقتها بغير هذا الوجه من الصدور ـ ، فلو كان بنحو آخر لم يصدر شيء لاستلزامه اجتماع المتنافيين من كون الشيء مثلا عقلا وغير عقل ، لأنّه لو صدر العقل في مقام النفس ومرتبتها لم يصدر العقل ، ولو صدر العرض في مقام الجوهر ومرتبته لم يصدر العرض ـ وهكذا غير ذلك من مراتب الموجودات ـ. فعند الحكماء قدرته ـ تعالى ـ مع ارادته اللتين هما عين ذاته ـ تعالى ـ متعلّقة بكلّ شيء على الترتيب السببي والمسببي اللائق بنظام العالم على وجه أكمل وأتمّ.

فان قيل : الحركات والتحريكات الحاصلة في الأجسام لاشتمالها على جهة القوّة

٤٤٧

يجب أن تكون في فاعلها أيضا جهة القوّة ، فالاوّل ـ سبحانه ـ لتجرّده وتعاليه عن جهة القوّة لا يمكن أن يكون فاعلا قريبا مباشرا لها عند الحكماء؟ ؛

قلنا : قد تقدّم انّ تحقّق جهة القوّة في فاعل ما فيه جهة القوّة غير لازم ؛ ولو سلّم نقول : انّ توسيط المثل وغيره ممّا يكون به جهة القوّة لا ينافي قرب الفاعل الموجد المؤثّر ، وذلك كما انّ الواحد من جميع الجهات عند الفلاسفة لا يمكن أن يصدر عنه إلاّ واحد مع انّ صدور جميع الموجودات القارّة انّما هو عنه ـ تعالى ـ عند جميعهم ، وذلك بتوسيط العقول وغيرها. والتأثير والايجاد انّما هو عنه ـ تعالى ـ وتلك الوسائط كالآلات والشرائط في صدور / ٩٨ DA / الكثرة عنه ـ كما نقل عنه في شرح الاشارات(١) وغيره ـ ، لا أنّها المؤثّرات القريبة وهو العلّة البعيدة ـ كما هو معروف عند غير المحقّقين من المتفلسفة ـ. نظير ذلك صدور الحركات الارادية عن نفوسنا ، اذ تحريك النفس الناطقة المجرّدة لليد مثلا لا يمكن إلاّ بانبعاث الميل الجزئي وتوسيط القوى الآلية وتحريك الأعصاب والعضلات ، وذلك لا يستلزم كون التأثير من تلك الوسائط.

وكذلك ادراكها للمتوهّمات والمتخيّلات والمحسوسات لا يمكن إلاّ بالآلات وهو المدرك للجميع بالحقيقة.

وأمّا على طريقة المعتزلة فلأنّ كلّ شخص من حيث هو أنّه شخص إذا صدر عن غيره ـ سبحانه ـ فيمكن صدوره عنه ـ تعالى ـ أيضا بالنظر إلى ذاته ، إلاّ أنّه لمّا صدر عن الغير لبعض المصالح الراجعة إلى نظام الخير صار هذا الصدور منشئا لاستحالة صدوره عن الله ـ سبحانه ـ ، لأنّ الشخص من حيث انّه واحد بعينه لا يمكن أن يقع في الخارج مرّتين ، فالامكان بالنظر إلى ذاته ـ تعالى ـ حاصل ، فلا يلزم نفي شمول قدرته بالمعنى المقصود للشخص بعينه. والامتناع قد حصل بالغير ، فلا يلزم صحّة توارد العلّتين على الشخص في الواقع. وإلى هذا اشار المحقّق الطوسى في مبحث القدرة من الأعراض بقوله : ولا يتّحد وقوع المقدور مع تعدّد القادر »(٢) ؛ فانّ افحام لفظ

__________________

(١) راجع : شرح الاشارات والتنبيهات ، المطبوع مع المحاكمات ، ج ٣ ، ص ٢٤٩ ؛ شرحي الاشارات ، ج ٢ ، ص ٤٧.

(٢) راجع : تجريد الاعتقاد ، المسألة الثالثة والعشرون من الفصل الخامس من المقصد

٤٤٨

« الوقوع » اشارة إلى انّه يجوز أن يكون لمعلول واحد شخصى علّتان مستقلّتان ، لكن إذا وقع المعلول بأحدهما امتنع أن / ١٠٣ MB / يقع بالآخر ؛ فلا يمكن وقوع المقدور الواحد الشخصي إلاّ من قادر واحد وإن امكن كونهما معلولا لهما بالنظر إلى ذاتهما.

ثمّ تعيّن صدور بعض المعلولات عن غيره ـ تعالى ـ وعدم صدوره عنه ـ سبحانه ـ مع صحّة صدوره عنه ـ تعالى ـ أيضا لأجل ملاحظة بعض المصالح الراجعة إلى النظام الأعلى مثلا لا يصحّ أن يصدر أفعال العباد منه ـ تعالى ـ بالنظر إلى الإرادة والعلم بالأصلح ، لأنّ صدورها منه ـ تعالى ـ يوجب الالجاء المنافي للتكليف ، فلم تبق القدرة مع الإرادة بها. وهذا لا يوجب امتناع تعلّق نفس القدرة من حيث هي قدرة بها ، إذ الايجاد غير معتبر في القدرة وإلاّ لزم عدم اقتداره ـ تعالى ـ على خلق العالم حين كان العالم معدوما ؛ وهو باطل بالاتفاق. فمجرّد عدم ايجاد الواجب افعال العباد لا يقتضي عدم شمول قدرته بالمعنى المشهور لها ، بل يصحّ أن يتعلّق بها من غير اعتبار العلم بالأصلح ؛ هذا.

وقد علمت انّه لو عمّم القدرة وأريد بها شمولها لجميع الاشياء ـ سواء كان بلا واسطة أو بواسطة ـ لكانت القدرة المستجمعة لجميع شرائط التأثير والقدرة بالمعنى المشهور ـ أي : امكان الفعل والترك بالنظر إلى الذات ـ عامّة شاملة بالنظر إلى جميع الموجودات ، وكان الجميع صادرا عنه ـ تعالى ـ ؛ فيكون الواجب حينئذ بالنظر إلى اعمال العباد فاعلا بعيدا لا قريبا. ونفي الفاعلية القريبة لا يوجب نفي الفاعلية البعيدة بمعنى انّه لو لم يوجد البعيد على وجه يكون قادرا لم يصدر تلك الأفعال عنه ، لأنّ الصدور فرع وجود المصدر ؛ وهذا لا يوجب الالجاء ، لأنّ جعل الشيء قادرا يؤكّد اقتداره على افعاله ويمكّنه على الفعل والترك ؛ هذا.

وبقي الكلام في أنّه بناء على قواعد الاعتزال إذا كان الواحد الشخصي الصادر عن زيد مثلا ممكن الصدور عن الواجب بالنظر إلى ذاته لزم جواز كون علّتين مستقلّتين لشيء واحد بعينه وإن لم يصدر إلاّ عن أحدهما ، مع انّه باطل ؛ لأنّ المناسبة

__________________

الثاني ؛ كشف المراد ، ص ١٩٢.

٤٤٩

بين العلّة والمعلول لازمة والواحد من حيث هو واحد لا يناسب المختلفين.

والجواب : انّ وجوب المناسبة بين العلّة والمعلول أوجب عدم جواز كون الواحد من حيث هو واحد علّة لكثير ومعلولا لكثير من حيث هو كثير في مرتبة واحدة ، لأنّ الواحد إذا كان علّة لكثير أو معلولا له يجب أن يكون مناسبا لهؤلاء الكثير والوحدة من حيث هي وحدة مغايرة ومخالفة للكثرة من حيث هي كثرة ، فلو كان الواحد من حيث هو واحد مناسبا للكثرة من حيث هي كثرة لكان مغايرا ومخالفا لنفسه ، فعدم جواز التسلسل بين الواحد والكثير إنّما إذا كان أحدهما علّة للآخر من حيث الكثرة أو الوحدة والآخر معلولا له من حيث المقابل ، فلو كان الواحد علّة لكثير أو معلولا له من حيث اشتماله على جهات تعدّد الكثير أو من حيث اشتراك الكثير في جهة واحدة أو كونه في مراتب كثيرة لكان جائزا. ولذا صرّح الحكماء بأنّه إن كان كثير معلولا أو علّة لواحد يجب أن يكون لها مراتب كثيرة / ٩٨ DB / أو يكون للواحد جهات تعدّد الكثير أو للكثير اشتراك في جهة واحدة يكون الفعل بينهما بهذا الاعتبار. وإذا عرفت ذلك تعلم انّ امكان صدور واحد بعينه من قدرة الواجب بذاته ومن قدرة زيد هي صادرة عن قدرة الله لا يوجب علّية الكثير من حيث هو كثير للواحد من حيث هو واحد ؛ ولا يدفع المناسبة بين العلّة والمعلول ، لأنّ قدرة زيد لمّا كانت صادرة عن قدرة الله فبين القدرتين مناسبة البتة ، والفعل الواحد بالشخص لمّا كان صادرا عن قدرة زيد فيكون مناسبا لها ، وإذا كان مناسبا لها يكون مناسبا لقدرة الواجب أيضا ، لأنّ المناسب للمناسب مناسب. فعلّية الواجب وزيد لهذا الفعل الواحد انّما هو من جهتين مناسبتين هما : القدرة الواجبة الثابتة له ـ تعالى ـ بذاته ، و: قدرة زيد الفائضة منه ـ سبحانه ـ. فتتحقّق في الكثير ـ أعني : الواجب وزيد ـ جهة مشتركة ـ أي : مفهوم القدرة ـ بها يتصحّح كون الواجب وزيد علّتين لواحد شخصي.

وأنت تعلم انّ هذا القول ـ أي : جعل العلّة للواحد الشخصي هو القدرة المشتركة بين الواجب وبين زيد ـ يستلزم فسادين :

أحدهما : انّه يلزم أن يكون المعنى العامّ مع ضعف وحدته ووجوده علّة موجدة

٤٥٠

لواحد شخصى ، وقد مرّ بطلانه ؛

وثانيهما : انّ هذا الأمر العامّ المشترك بين الواجب وبين زيد إن كان ذاتيا لزم تركّبه ـ تعالى عنه علوّا كبيرا! ـ ، وان كان عرضيا كان تابعا لما به الاشتراك الذاتي ، وإلاّ / ١٠٤ MA / بطل التناسب ، لأنّ الأشياء المختلفة بتمام الحقيقة لو كانت مشتركة في معنى واحد عرضي من دون استناده إلى معنى مشترك ذاتي لزم علّية الكثرة من حيث هي كثرة للواحد الشخصي من حيث أنّه واحد ، وقد ظهر بطلانه. وإذا كان تابعا لما به الاشتراك الذاتي عاد محذور التركيب.

ومن هذا يظهر أنّ الأصوب ما ذهب إليه محقّقوا الحكماء من أنّ الافاضة على الكلّ وايجاد كلّ ممكن من الممكنات انّما هو من الواجب ـ عزّ اسمه ـ ، وغيره من الوسائط انّما هو شروط وآلات ومعدّات ، وليس أصل الافاضة والتأثير منه مطلقا ـ : لا من الجهة المستندة إلى ذاته ولا من الجهة المستندة إليه تعالى ـ. وحينئذ فعلّة كلّ موجود كائنا ما كان وكلّ ممكن من الممكنات ليست إلاّ هو ، فلا يلزم تحقّق علّتين لواحد بالشخص.

والحاصل : انّه لو كان واحد من الموجودات معلولا لغيره ـ تعالى ـ بمعنى أن يكون موجدا منه أو امكن له ايجاده بالنظر إلى ذاته وإن لم يصدر منه بالفعل فامّا أن يكون هذا الواحد مقدورا له ـ تعالى ـ بالنظر إلى ذاته بلا واسطة بجهة مشتركة بينه وبين الغير فيستلزم المفسدتان المذكورتان ، أو بجهة خاصّة به ـ تعالى ـ حتّى يكون كلّ من الواجب وغيره قادرا على ايجاد الواحد بالشخص بجهة مختصّة به ـ أي : من حيث انّهما مختلفتان بتمام الحقيقة ـ لزم وجود علّتين مختلفتين بجميع الوجوه للواحد الشخصي ؛ وامّا أن لا يكون هذا الواحد مقدورا له بالنظر إلى ذاته بلا واسطة ، وحينئذ إن لم يكن مقدورا له بالواسطة أيضا لزم نفي القدرة عنه ـ تعالى ـ راسا ، وهو خلاف ما اجمع عليه العقلاء ؛ وإن كان مقدورا له بالواسطة لزم عدم شمول قدرته بالمعنى المشهور للكلّ بلا واسطة وكونه عاجزا بالنظر إلى ذاته عن ايجاد ما يوجده غيره ممّا هو معلول له ـ تعالى ـ ، وهو أيضا بديهى البطلان. فبقي أن يكون التأثير في الكلّ منحصرا به

٤٥١

ـ تعالى ـ ولا يكون معه شريك في الايجاد حتّى لا يلزم شيء من المفاسد المذكورة.

فان قيل : يلزم على هذا أن يكون أفعال العباد مستندة إليه ـ تعالى ـ ولا يكون مستندة إليهم ، إذ لو كانت مستندة إليهم لنقلنا الكلام إلى كلّ فعل واحد شخصي من تلك الأفعال ، فيلزم أحد المفاسد المذكورة ؛ وإذا لم تكن مستندة إليهم يلزم الجبر في التكليف! ؛

قلنا : يمكن أن يقال : انّ كونهم شروطا ووسائط للافاضة والايجاد يكفي لاستناد افعالهم إليه. وقد اشير إلى انّ ذلك أحد التوجيهات لتصحيح الأمر بين الأمرين.

فان قيل : على ما تقدّم في كلام المجيب الأوّل من جواز صدور الواحد بالمعنى المشترك بين شخصين من علّتين فليجز صدور معلول واحد من الواحد بالمعنى المشترك بين العلّتين ، فيجوز أن تكون القدرة المشتركة بين الواجب وزيد علّة لمعلول واحد بالشخص ؛

قلنا : معلولية المعنى العامّ أمر معقول ليس فيها مفسدة. وأمّا علّيته فغير معقولة ، لضعف وجوده ولاستلزامه التركيب في الواجب ، فلا يجوز علّيته لواحد ولا كثير ؛ هذا.

( مسلك الصوفيّة في اثبات عموم القدرة )

واعلم! انّ للصوفية / ٩٩ DA / مسلكا آخر في اثبات عموم القدرة وهو ـ على ما ذكره بعضهم ـ : انّ التأثير بالغير لا يستقرّ ما لم ينضمّ إليه التأثير بالذات ـ أعني التأثير التامّ المبرّى عن شوائب القوّة والامكان ـ ، وهو ينحصر في حقّه ـ تعالى ـ ، فيرجع جميع التأثيرات الامكانية إلى هذا التأثير الّذي هو بالذات. وارجاعها إليه يقتضي ارجاع مباديها ـ أي : القدرة الّتي بالغير ـ إلى منشأها ـ أعني : القدرة الّتي هي بالذات ـ ، فظهر شمول قدرة الله ـ تعالى ـ لكلّ شيء بهذا المعنى ـ أي : بمعنى انبساط تلك القدرة المطلقة الكاملة في هياكل الموجودات وظهورها في تلك المجالى على وجه

٤٥٢

النزول من غير أن ينقص عن رتبتها الكاملة ومرتبتها المطلقة ـ. وهذا هو توحيد الأفعال وتوحيد الصفات. ومنه يعلم أيضا كيفية ارجاع الذوات الممكنة إلى ذاته المقدّسة على وجه يعرفه العارفون ، وهو توحيد الذات ، وهذه نهاية مرتبة التوحيد ومن لم يبلغ إلى هذه المرتبة في التوحيد فهو قاصر في معرفة الله ـ تعالى ـ ؛ انتهى.

وحاصل كلامهم : انّ الوجود المطلق التامّ الكامل الّذي هو الحقيقة الواجبيّة إذا نزل وانبسط على المهيات الامكانية حصلت الكثرات والوجودات الامكانية من غير أن ينقص / ١٠٤ MB / عن رتبتها الكاملة ومرتبتها المطلقة ، فذوات الممكنات مجال ومرايا له وهويات الاشياء شئونات له ـ وهذا هو توحيد الذات عندهم ـ. والقدرة المطلقة التامّة الكاملة بالذات ـ الّتي هي القدرة الواجبة ـ إذا تنزّلت وانبسطت بانبساط الوجود في هياكل الموجودات حصلت القدرة الّتي للأشياء من غير نقصان في مرتبتها المطلقة ورتبتها الذاتية الكاملة ، فتلك القدر هي المظاهر والمجالى والشئونات الذاتية لها ، وقس عليها العلم والإرادة وغيرهما من الصفات الكمالية الإلهيّة ـ وهذا هو توحيد الصفات عندهم ـ. والتأثير المطلق التامّ الكامل بالذات ـ أي : التأثير الواجبي ـ إذا تنزّل وانبسط بانبساط الوجود والقدرة في هويات الممكنات حصلت التأثيرات الغيرية الامكانية من غير انحطاط في مرتبته العليا ونقصان في رتبته الأسنى ؛ فتلك التأثيرات الغيرية الامكانية مجال ومظاهر لهذا التأثير التامّ بالذات ـ وهذا هو توحيد الافعال عندهم ـ.

وأنت تعلم انّ هذا المسلك مبنى على طريقة وحدة الوجود ؛ وعقول أمثالنا قاصرة عن دركه والاذعان به والقبول لحقّيّته!.

فائدة

قول المحقق الطوسي في التجريد : « وعمومية العلّة تستلزم عمومية الصفة » ـ على ما اشير إليه ـ اشارة إلى الدليل الّذي ذكر أوّلا ، فالمراد من « العلّة » : الامكان ، ومن « الصفة » : المقدورية. يعنى : انّ علّة المقدورية عامّة في جميع الممكنات ، فانّ علّتها

٤٥٣

الامكان وهو وصف مشترك بين جميع الممكنات ، فيكون معلوله ـ أعني : المقدورية ـ عامّا في جميعها ، فيكون جميع الممكنات مقدورا له ـ تعالى ـ.

ويمكن أن يراد من « الصفة » : الاحتياج إلى المؤثّر.

ثمّ المراد منه إمّا اثبات عمومية القدرة بالمعنى لجميع الممكنات بلا واسطة أو اعمّ من أن يكون بواسطة أو بدونها ، وإمّا اثبات عمومية القدرة المستجمعة لجميع شرائط التأثير بالنسبة إلى جميع الموجودات إمّا بلا واسطة أو اعمّ من أن يكون بواسطة. وقد عرفت انّ مطلوب القوم وما هو محلّ النزاع من هذه الاحتمالات ما ذا ، وانّ أيّا من هذه الاحتمالات يمكن أن يثبت بهذا الدليل وايّا منها لا يمكن أن يثبت به.

وقيل : يمكن أن يراد « بالعلّة » في تلك العبارة : دليل اختيار الواجب ـ وهو الحدوث ـ ، ويكون المراد : انّ الحدوث لمّا كان عامّا بالنسبة إلى كلّ افعاله يكون اختياره عامّا بالنسبة إلى كلّ افعاله. وعلى هذا لا يكون المراد تعميم القدرة بالمعنى المشهور بالنسبة إلى كلّ الممكنات ، بل يكون المراد : انّ صدور كلّ افعاله إنّما هو بالقدرة والاختيار.

وأنت تعلم انّ المراد من القدرة حينئذ : القدرة الملزومة للحدوث ؛ وغير خفيّ انّ اثبات هذا الأمر قليل الفائدة جدّا بالنسبة إلى ما هو مطلوب القوم.

تتميم

اعلم! أنّ هذا الاصل ـ أعني : عموم قدرة الله وشمولها لجميع المهيات الامكانية ـ أعظم الأصول الملية ، وقد ابتنى عليه كثير من المطالب الاسلامية.

والمخالف فيه فرق أعظمها : الثنوية ، القائلون بفاعلين اثنين ،

منهم : المانوية : أصحاب ماني الحكيم البابلي الّذي ظهر في زمان / ٩٩ DB / سابور بن أردشير بن بابك ، وذلك بعد عصر عيسى ـعليه‌السلام ـ ، فأخذ دينا بين المجوسية والنصرانية فقال بنبوّة المسيح ، وزعم انّ العالم مصنوع من أصلين قديمين أحدهما : نور ، والآخر : ظلمة. وأنّهما أزليان لم يزالا ولا يزالان ، وهما حسّاسان سميعان ودرّاكان

٤٥٤

بصيران. وهو قد أنكر وجود شيء وحدوثه لا من أصل قديم. وقال : انّ فاعل الخير بأسره هو النور وفاعل الشرّ بأسره هو الظلمة.

ومنهم : الديصانية : اصحاب الديصان ، اثبتوا أصلين قديمين : النور والظلمة ، وقالوا : النور يفعل الخير قصدا واختيارا والظلمة يفعل الشرّ طبعا واضطرارا.

ومنهم : المجوس : الذاهبون إلى أنّ فاعل الخير هو يزدان وفاعل الشرّ هو أهرمن ـ ويعنون به الشيطان ـ. وقالوا : انّ يزدان قديم أزلي وأهرمن حادث منه. وذكروا في سبب حدوثه وفي سبب قدرته على فعل الشرّ ما يشمئزّ طباع العقلاء عن استماعه!.

ثمّ الظاهر من كلام الشهرستاني في الملل والنحل انّ المجوس لا تعدّون من الثنوية حيث قال : الثنوية أصحاب الاثنين الأزليين ، وهم يزعمون انّ النور والظلمة أزليان قديمان متساويان في القدم والازلية مع اختلافهما في الجوهر والطبع / ١٠٥ MA / والفعل. بخلاف المجوس ، فانّهم قالوا بحدوث الظلام وذكروا سبب حدوثه(١) . ويؤيّد عدم كون المجوس من الثنوية ـ : المنكرين لهذا الأصل بالكلّية القائلين بتعدّد المبدأ ـ انّهم قالوا : انّ ايجاد أهرمن ليس شرّا ، بل انّما الشرّ منه ، فيزدان اوجد اهرمن وجميع الشرور يصدر من اهرمن. ولا ريب انّه على هذا لا يكون المجوس قائلين بإلهين اثنين ، بل يسندون الجميع إليه ـ تعالى ـ. لكنّهم لم يجعلوا الشرور مستندة إليه ـ تعالى ـ بلا واسطة ـ لكونه خيرا محضا ـ ، بل اسندوها إلى اهرمن وقالوا : انّ ايجاد اهرمن ليس شرّا ، بل خير ، لأنّ اعطاء الوجود خير مطلقا وانّما صدر الشرّ عن اهرمن لا عنه ـ تعالى ـ.

ثمّ شبهة هؤلاء الطوائف الثلاث : هي انّا نجد فى العالم خيرا كثيرا وشرّا كثيرا وإنّ الواحد لا يكون خيرا وشرّيرا ، فلكلّ منهما فاعل على حدة. وبتقرير آخر اوضح : انّ الله خير محض فلا يمكن أن يوجد الشرّ. بيان ذلك : انّ ذاته المقدّسة عالم بجميع الخيرات والشرور غير محتاج إلى شيء منها ، ومن كان كذلك لا يصدر عنه الشر بالضرورة ، فيكون خيرا محضا لا يمكن أن يوجد الشرّ. أو لأنّه ـ تعالى ـ عين الوجود و

__________________

(١) راجع : الملل والنحل ، ج ١ ، ص ٢٢٤ ، باختلاف يسير في اللفظ.

٤٥٥

الوجود خير محض ـ على ما هو المشهور ـ ، فهو ـ تعالى ـ خير محض إذ الشرّ ليس إلاّ العدم ، ولا يمكن صدور العدم عن الوجود ـ على ما هو طريقة الحكماء ـ. أو انّه ـ تعالى ـ واحد محض منزّه عن شوائب الكثرة والتركيب وكلّ فاعل فعل يجب أن يكون

بينهما مناسبة لا محالة ، والواجب ـ سبحانه ـ قد فعل خيرات كثيرة ظاهرة ، فلو صدر منه ـ سبحانه ـ مع ذلك شرّ أو ظلم لزم اشتمال محض الأحدية الخالصة على كثرة متقابلة.

وأجيب عن تلك الشبهة بوجوه ثلاثة :

أحدها : انّ الشرور الواقعة في العالم انّما هي شرور اضافية ـ أي : وجودات توصف بالشرّ بالإضافة ، كوجود النار في الثوب مثلا ومصادفة القاطع للعضو المقطوع ـ ، وهذه الشرور وإن استدعت علّة موجودة لكن هذا الاستدعاء من حيث أنّها خيرات لا من حيث أنّها شرور ، فهي من حيث كونها شرورا مجعولة وصادرة من المبدأ الّذي هو صرف الوجود بالعرض لا بالذات. ولا استحالة فيه ، انّما المحال صدور الشرّ عن الخير المحض بالذات ، ولم يلزم ذلك.

والتوضيح : انّ هذه الأمور الّتي تظنّ أنها شرور ـ مثل الأمراض والاسقام والمصائب والاعدام ـ فانّها وان كانت من وجه شرورا ولكنّها لازم خيرات كثيرة لو تركت لتركت هذه ، وهو ـ سبحانه ـ لا يفعلها من حيث أنّها شرور بل انّما يفعلها من حيث انّها خيرات. فهي من الحيثية الّتي بها صدرت عنه ـ سبحانه ـ انّما هي خيرات كثيرة وإن كانت باعتبار آخر شرورا قليلة. مثال ذلك انّ سآمة لو لصغت اصبعا واحدة من انسان لو تركت تلك الاصبع ليسري السمّ إلى بدنه كلّه وادّى إلى قتله ، فالطبيب الحبيب يقطع الاصبع البتة لينجيه من الموت. فالقطع وان كان من حيث فقد الاصبع ووجدان الألم شرّا لكن الطبيب لم يفعله من هذه الجهة ، بل انّما فعله من حيث هو سبب الحياة ، فهو انّما يفعل خيرا كثيرا لو لم يفعله لكان قد فعل اذن شرّا كثيرا. وعلى هذا فجميع الشرور الوجودية الواقعة / ١٠٠ DA / في العالم شرور اضافية واقعة في القضاء الإلهي بالعرض ولا يوجد شرّ يكون متعلّقا لارادته ـ تعالى ـ بالذات ـ لا كثير و

٤٥٦

لا قليل ـ.

وهذا الحكم يشتمل على دعويين : إحداهما : انّ كلّ ما يوجد في العالم من الشرور شرّ اضافي ولا يوجد في العالم شرّ حقيقي. وسرّ ذلك انّ الشرّ الحقيقي هو العدم والخير الفيضى هو الوجود ، فانّ الوجود بما هو وجود والموجود بما هو موجود خير محض لا شرية فيه اصلا ، إذ لو كان في نفس معنى الوجود والموجود شرّية لكان كلّ وجود شرّا ، والعدم والمعدوم بخلاف ذلك ؛ ولذا إن يحتسب الأمور الّتي تظنّ أنّها شرور وجدت شرّياتها راجعة امّا إلى أعدام لذوات ـ كالموت والفناء ـ أو فقدان لكمالات ـ كالظلم والزنا ـ ، فانّهما من حيث كونهما أثرين لقوّتى الغضب والشهوة خير لهما وكمال ، وليست شرّا إلاّ من حيث فقدان المال وهتك الستر(١) . فلا يوجد موجود يكون شرّا حقيقيا. فان كان موجود شرّا فانّما يكون شرا بالإضافة إلى شيء آخر ـ كالنار بالنسبة إلى الثوب والقاطع بالنسبة إلى العضو المقطوع ، فانّ النار من حيث هو موجود خير في ذاتها ليس فيها بهذا الاعتبار شرّية أصلا ، وانّما شرّيتها بالنسبة إلى ما يتّفق احراقها له ـ. وكذا لا يوجد عدم يكون خيرا حقيقيّا. نعم! قد يتّصف العدم بالخير الاضافى كعدم ما وجوده شرّ / ١٠٥ MB / اضافي لشيء بالنسبة إلى هذا الشيء ، فانّ عدم النار خير بالنسبة إلى الثوب المحروق. ولا ريب في أنّ وقوع هذا الشرّ الاضافي لم يكن مرادا بالذات ومقصودا بالاصالة ، بل انّما دخل في عالم الايجاد بالعرض ، فانّ المقصود بالذات من ايجاد النار بلوازمها انّما هو كونها خيرا يترتّب عليها المنافع العظيمة في عالم الايجاد. ثمّ ربما تقع شرّية منها بفعل أحد على ثوب شخص محرقة أو على خشب من بيت فيسري إلى أن يحرق البيت كلّه أو البلد كلّه. وكذا الحال في الطوفانات والطواعين وغيرها من البليات العامّة والخاصّة للحيوانات ، فانّ القصد الأوّل والإرادة الذاتية من ايجاد تلك العلل والاسباب انّما هو خيرات عامّة بالنسبة إلى النظام الأصلح ، وقد يلزمها شرور بالنسبة إلى بعض الافراد والأشخاص.

ووقوعها في القضاء الإلهي والإرادة الأزلية انّما هو بالعرض. والوقوع بالعرض

__________________

(١) الاصل : السرّ.

٤٥٧

لا استحالة فيه ، إذ هو من لوازم الطبائع وخواصّ الاشياء ولا مدخلية للارادة الالهيّة.

ولا يمكن دفع تلك الشرور الاضافية ، لأنّ دفعها إنّما هو منع للأشياء والمهيات عن تأثيراتها الذاتية اللازمة لا نفسها الضرورية في نظام الخير ، وهو غير ممكن. فاذا ألقى انسان نارا على ثوب فاحترقه لم يكن لقائل أن يقول : لم لم يمنع الله ـ تعالى ـ هذه النار عن احراق الثوب؟ ؛ لأنّ كون النار محرقة وثبوت الاحراق لها عن اللوازم الذاتية لها ، فلا معنى لمنعها عنه. وكذا ليس له ان يقول : لم لم يمنع الله الانسان عن الالقاء؟ ؛ لأنّ هذا أيضا من لوازم اختياره وقدرته اللازمة في نظام الخير. فإيجاد لوازم النار وتأثيراته واختيار العبد وقدرته وان كان من الله ـ سبحانه ـ إلاّ أنّ المقصود بالذات من ايجادها إنّما كان ما يلزمها من الخيرات الجمّة والمنافع العظيمة ، ولم يكن المقصود من ايجادها احراق نفس محترمة أو مال محترم ، وانّما وقع ذلك إمّا بالعرض(١) .

وعلى هذا فجواب الشبهة الثنوية : انّ الشرور لوقوعها بالعرض وعدم كونها مقصودة بالذات للواجب وعدم صدورها منه ـ تعالى ـ بلا واسطة لا يلزم كونها فاعلا للشرّ ، فلا يلزم كون الواحد خيرا شرّيرا ولا كون الخير المحض والفاعل للخير فاعلا للشرّ أيضا ولاستنادها إلى بعض الموجودات المخلوقة له ـ تعالى ـ وامكان صدورها عنه ـ تعالى بالنظر إلى الذات بلا واسطة ـ وإن لم يصدر عنه بالنظر إلى العلم والإرادة ـ لا يلزم وجود فاعل واحد مستقلّ للشرّ غير مخلوق له ـ تعالى كما قالت المانوية والديصانية ـ ، أو مخلوق له ـ تعالى ، كما قال المجوس ـ ، فلا يلزم نفى عموم القدرة. ويأتى لذلك زيادة بيان.

وثانيها : انّ الشرور الواقعة في العالم شرور قليلة لو تركت تركت الخيرات الكثيرة ، كما انّه لو لصغت اصبع واحدة ولم تقطع يسري السمّ إلى جميع البدن ، فقطع الاصبع وإن كان شرّا إلاّ أنّه شرّ قليل لو لم يفعل لادّى إلى ترك الخير الكثير. وعلى هذا فجميع الشرور الواقعة في العالم مستندة إليه ـ تعالى ـ. إلاّ أنّه لكونها شرورا قليلة لو تركت تركت الخيرات الكثيرة لم يكن في فعلها بأس ، بل يجب فعلها / ١٠٠ DB /

__________________

(١) كذا في النسختين.

٤٥٨

بالنسبة إلى الخير المحض. فما يوجد في العالم إمّا خير محض ليس فيه شرّية أصلا أو ما هو خيره غالب على شرّه. ولا يوجد في العالم شرّ محض لا يكون فيه خير أصلا ولا ما هو شرّه غالب على خيره ولا ما هو خيره وشرّه متساويان ؛ فانّ الأشياء عند العقل على خمسة احتمالات :

أحدها : الشيء الّذي لا خير فيه أصلا ؛

وثانيها : الشيء الّذي لا شرّ فيه أصلا ؛

وثالثها : الشيء الّذي يتساوى الخير والشرّ فيه ؛

ورابعها : ما يكون خيريته غالبا ؛

وخامسها : ما تكون فيه غلبة الشرّ.

وذات الواجب بالذات لمّا وجب أن يكون مبدأ لجميع الخيرات ولم يمكن أن يصير مبدأ للشرّ وجب أن يصدر عنه قسمان من الأقسام المذكورة ـ أي : القسم الثاني الّذي ليس فيه شرّية اصلا والرابع الّذي خيريته غالب ، لان ترك الخير الكثير لأجل الشرّ القليل شر كثير ـ ، وأن لا يصدر عنه الاقسام الثلاثة الأخر لاستلزام صدورها مبدئيّته ـ تعالى ـ للشرّ.

والأمر في الواقع والخارج كذلك ، لأنّ جميع الأشياء الموجودة في العالم لا يخلوا من كونه خيرا محضا أو ما هو خيريته غالب ، ولا يوجد فيه شيء يكون واحدا من الأقسام الثلاثة الأخر.

ثمّ الخير المحض هو الواجب ـ تعالى شأنه ـ ، اذ هو محض الوجود وعينه والوجود المحض خير محض ، إذ لا عدم فيه بوجه ؛ ومناط الشرّ هو العدم والشرّ المحض لا وجود له ، إذ كلّ موجود لا يخلوا عن الوجود وهو خير ، فلا ينفكّ موجود عن الخير.

/ ١٠٦ MA / ووجود ما شرّه غالب على الخير أو ما يتساوى الخير والشرّ فيه خلاف مقتضى الحكمة ، بل مجرّد ثبوت أنّ الوجود خير محض يوجب عدم تحقّق موجود يكون شرّه أغلب أو مساويا للخير ، فالموجودات الممكنة كلّها ممّا يغلب خيره على شرّه. إلاّ أنّ ما فيه شوب العدم اقلّ يكون إلى الخير المحض اقرب. ولغلبة خيرها على شرّها

٤٥٩

وجب صدورها عن الواجب ، لأنّ ترك الخير الكثير لأجل الشرّ القليل شرّ كثير ؛ فلا ينبغي وقوعه من الحكيم.

والفرق بين هذا الوجه والوجه الأوّل : انّ في هذا الوجه التزم وقوع الشرّ في القضاء الإلهي بالذات ، إلاّ أنّه قيل : انّ ما نفع(١) شرّ قليل تركه يوجب ترك الخير الكثير ، فلا مانع من استناده إليه ـ تعالى ـ ؛ وفي الوجه الأوّل لم يلتزم وقوع الشرّ اصلا في القضاء الإلهي بالذات ، ومنع استناد الشرّ بالذات ـ كثيرا كان أو قليلا ـ إليه ـ سبحانه ـ.

بل قيل : انّ ما يقع من الشرور في القضاء الإلهي فوقوعه بالعرض ، والتزم عدم المنع في الوقوع بالعرض. فعلى هذا الوجه ـ أي : الوجه الثاني ـ فدفع شبهة الثنوية : انّ الواجب ـ تعالى ـ مبدأ لأشياء خيريتها غالب ، ولا بأس بصدور ما فيه غلبة الخير عنه ـ تعالى ـ وإن وجد فيها شرّ قليل. فمن حيث انّ تلك الشرور شرور قليلة خيريتها غالبة لا يلزم فساد في استنادها إليه ـ تعالى ـ ، ومن حيث استنادها إليه ـ تعالى ـ دون غيره لا يرد وهن على عموم قدرته ـ سبحانه ـ.

وغير خفيّ انّ شبهة الثنوية بالتقرير الأوضح المذكور اشتملت على تعليلات ثلاثة لعدم جواز مبدئية الواجب للشرّ ، فعلى هذا الوجه وان اندفعت الشبهة بالتعليل الأوّل إلاّ أنّها لا تندفع بالتعليلين الأخيرين ، إذ حاصل الشبهة على التعليل الثاني انّ الواجب ـ تعالى شأنه ـ صرف الوجود ومحض الموجود الخير ، فيمتنع أن يصير مبدأ للشرّ ـ سواء كان قليلا أو كثيرا ـ ، اذ الشرّ إمّا عدم أو تابع له وراجع إليه ، فكيف يمكن أن يحصل العدم عمّا هو موجود محض لا عدم فيه بوجه من الوجوه؟!. وحاصلها على التعليل الآخر انّ الواجب ـ سبحانه ـ واحد بسيط من جميع الجهات مناسب للخير وإن كان بهذه المثابة يمتنع صدور الشرّ عنه لعدم المناسبة ـ سواء كان كثيرا أو قليلا ـ.

والقول بأنّ ترك الخير الكثير لأجل الشرّ القليل شرّ كثير ، مغالطة في هذا

__________________

(١) كذا في النسختين ؛ والظاهر : + وفيه.

٤٦٠