شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية الجزء ٣

شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية0%

شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية مؤلف:
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 697

شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية

مؤلف: حبيب طاهر الشمري
تصنيف:

الصفحات: 697
المشاهدات: 160193
تحميل: 2679

توضيحات:

الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 697 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 160193 / تحميل: 2679
الحجم الحجم الحجم
شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية

شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية الجزء 3

مؤلف:
العربية

دخل في خصومات مع المذاهب الإسلاميّة من خلال عقيدته الفاسدة التي تتضمّن أنّ الله تعالى جسم ذو أعضاء مثل البشر، وقد خلق آدم على صورته، وأنّه ينطق بحرف وصوت، وأنّه بذاته على عرشه وأنّ الناس يرونه يوم القيامة وأنّه يتحرّك من مكان إلى آخر، وينزل إلى السماء الدنيا كلّ ليلة جمعة فينادي هل من مستغفر فأغفر له! ثمّ يعرج إلى السماء السابعة، وإنّ جهنّم لا يسكن زفيرها حتّى يضع الجبّار رجله فيها فتسكن وينزوي بعضها إلى بعض وتقول طق طق! وأنكر عالم البرزخ! فلعلّه يخادع نفسه ويعلّلها أن تستكين إلى حين، ولكن لاتَ حين مَناص؛ فليلة الوحشة التي لا يسلم من ضغطة قبرها وهولها إلّا نبيّ أو وصيّ أو وليّ امتحن الله قلبه بالإيمان ولم يشاقق الله ورسوله ووليّه وصالحي المؤمنين واعتقد الكفريّات ووالى الخوارج كلاب النار! وعتاة بني سفيان والحجّاج وزياد، وقدّم معاوية ويزيد على أمير المؤمنين عليّ والسبطين الحسن والحسينعليهم‌السلام ، وحمل حملة ظالمة على شيعة أهل البيت، رماهم بكلّ إفكٍ وفِريةٍ، وقاد بنفسه جيشاً هاجمهم في الجبل السوري.

لم يكن ابن تيميه مسلماً! فهو لم يشنّ الغارة على الشيعة وحسب وإن كان قد اختصّهم بالقسط الأوفر من حملة التشهير والتكفير، وحملته النكراء على أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام ؛ فقد فتح باب المعركة مع الأشاعرة والمعتزلة، فهاجمهم وهاجموه. ولم يكن يفتي بآراء مذهب من المذاهب الإسلاميّة وإنّما بما يتحصّل له من رأي، مع قلّة علمه كما أخبر تلميذه الوفي ابن الوردي؛ فجاء بآراء شاذّة بدَّعُوه لأجلها، وفتاوى مخالفة لنصوص القرآن والسنّة.

وكان جانب العقيدة وما جاء به من تجسيد وتبعيض وغير ذلك من صفات النقص ممّا هي لازمة للحوادث والمخلوقات، الأهمّ في إثارة الخلاف بين الخارجيّ ابن تيميه

١٠١

وبين المسلمين بمذاهبهم أجمع؛ وممّا أثار عليه العامّة والخاصّة: فتواه بحرمة زيارة قبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقبور الأولياء والصالحين.

ابن تيميه أمام القضاء

بعد الذي أحدثه ابن تيميه من فتنة، أخذ، وأخذ معه تلميذه ابن قيّم الجوزيّة في جماعة من أصحابه وعزّروا، وأصاب الحنابلة بسببه أذىً كثير، وقدّم إلى القضاء، فكان حكم قضاة المذاهب الأربعة: الشافعيّ والحنفيّ والمالكيّ والحنبليّ إجماعاً، إذ أصدروا حكمهم بحبسه لفساد عقيدته في ذات الله تعالى، فهو مشبّه مجسّم، ولسوء عقيدته في النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، من خلال منعه من زيارته، فأخذ وحبس في قلعة دمشق وذلك سنة (٧٢٦ هـ) وحبس معه تلميذه ابن القيّم ونودي عليه بدمشق: من اعتقد عقيدة ابن تيميه حلّ دمه وماله(١) . وفي سنة (٧٢٨ هـ) خرج ابن تيميه من الحبس جسداً بلا روح، ليطوي آخر صفحة من صفحات سجونه؛ وأطلق سراح ابن القيّم، وكان قد أفتى بما أفتى به أستاذه ابن تيميه من تحريم الزيارة؛ وكان وفيّاً لأستاذه إذ انصرف إلى جمع تراثه وإحياء مؤلّفاته.

أشرنا إلى أنّ ابن تيميه سجن مرّات عدّة، ونذكر الآن هذه الحبوس بإيجاز شديد:

فقد أخذ سنة (٦٩٨ هـ) بسبب المسألة الحمويّة في الصفات وقدّم إلى القاضي الحنفي، فطافوا به في سكك دمشق ونودي عليه بأنّه لا يستفتى(٢) .

وفي سنة (٧٠٥ هـ) اجتمع العلماء والفقهاء بقلعة مصر؛ وصدر الحكم بشأن ابن

____________________

(١) دفع الشّبه، تقي الدين الحصيني: ٤٥ - ٤٧، الدرر الكامنة، لابن حجر ١: ١٤٧، تاريخ ابن الوردي ٢: ٧٢٨.

(٢) العقود الدريّة: ١٩٥.

١٠٢

تيميه لقوله: إنّ الله تكلّم بالقرآن بحرف وصوت، وأنّه تعالى على عرشه بذاته، وأنّ الله يشار إليه الإشارة الحسيّة. فاقيم وأخواه وسجنوا بالجبّ بقلعة الجبل، وجرت أمور طويلة(١) .

بقي ابن تيميه في غيابت الجبّ سنة ونصفاً؛ ثمّ كتب براءة من عقيدته وتعهّداً إلّا يعود، فأخرج. إنّ براءته من عقيدته وتعهّده إلّا يعود إلى آرائه وفتاواه، إعتراف منه بخطيئته وإقراره على نفسه؛ فهل وفي بعهده أم كان من المنافقين وهي إحدى التّهم الموجّهة إليه في القضاء بسبب تنقيصه للإمام عليّعليه‌السلام ؟!

إنّ الذي في ابن تيميه يمنعه إلّا أن يحارش، فما أن خرج من السجن حتّى بادى الصوفيّة بالعداوة وهاجم ابن عربي وتكلّم في صفوة الأولياء؛ فسجن سنةً ونصفاً(٢) .

وفي سنة (٧١٨ هـ) اعتقل في مسألة الحلف بالطلاق وعقد لذلك مجلس ونودي به في البلد(٣) .

سنة (٧٢٦ هـ) اعتقل وطيف به على دابّة بالمقلوب حاسر الرأس مضروباً بالدرّة وقد تكلّمنا عنها إذ مكث في السجن إلى سنة (٧٢٨ هـ) حيث هلك.

إنّ الخارجيّ هذا (ابن تيميه) هو خلاصة روح الناصبيّة البغيضة وخارجة الأوائل، والغريب تفرّده من بين الخوارج بالخوض في ذات الله تعالى على نحو أخرجه من ربقة الإسلام وهو ما لم تكن فرقة من فرق الخوارج تتعرّض له وإذا كان ابن هند في ناصبيّته وخروجه على أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام بشعار الثأر لدم عثمان، وسبّه لعليّ على

____________________

(١) نفس المصدر السابق: ١٩٦ - ١٩٧.

(٢) العقود الدرّيّة: ١٩٧ - ١٩٨.

(٣) نفس المصدر السابق: ٢٥٩.

١٠٣

منابر المسلمين؛ فإنّه لا يحجم عن الإقرار له بفضائله بين آونة وأخرى، أمّا الناصبيّ ابن تيميه فهو بخروجه على أمير المؤمنينعليه‌السلام ، لم يبق فضيلةً له إلّا وأنكرها ولا خصوصيّة إلّا ونفاها وغاية الأمر فيما لا يجد فيه بُدّاً من قبوله، مع قلّة ذلك، أن يجعله مشتركاً بينه وبين غيره، أو أن يصرف معناه إلى غير ما وضع له، أو أن يقطع من الحديث ألفاظاً مثل حديث الثقلين إذ يذكره هكذا (إنّي تارك فيكم القرآن ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا)! فأين الثقلين، وعترتي أهل بيتي؟!

١٠٤

حُرمة المدينة وفضلها

واسمها القديم (يثرب)، فنَسَخَه القرآن الكريم لقباحته، وسمّاها (المدينة) في سور عدّة، وتمسّك بالاسم الأوّل المنافقون والذين في قلوبهم مرض. ففي يوم الأحزاب إذ اجتمعت قوى الشرّ من يهود ومشركين وكان لأبي سفيان شرف قيادتها؛ جاءت لقطع شأفة الإسلام وكان يوماً عصيباً زاغت الأبصار فيه وبلغت القلوب الحناجر، ونجم النفاق:( وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مّرَضٌ مّا وَعَدَنَا اللّهُ وَرَسُولُهُ إِلّا غُرُوراً * وَإِذْ قَالَت طّائِفَةٌ مّنْهُمْ يَاأَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا ) (١) الآية.

فالمنافقون وجدوها سانحةً للإفصاح عن كوامنهم، فها هي جموع الأحزاب جاءت لخلاصهم من الإسلام! فمن الوفاء أن يُضعفوا الجبهة الداخليّة لعسكر الإسلام بإيجاد ثلمة فيه من خلال انسحابهم ورجوعهم، وقد تعلّلوا لذلك أنّ بيوتهم عورة، ونفى القرآن ذلك وإنّما، إن يريدون إلّا فراراً.

وظهروا على حقيقتهم فهم الآن ردّوا الأشياء إلى أسمائها التي اندرست، فالمدينة صارت يثرب، ولولاهم وأنّ القرآن الكريم يتحدّث عن أحوالهم لـما وجدت لهذا

____________________

(١) الأحزاب: ١٢ - ١٣.

١٠٥

الاسم في القرآن من أثر!

ويثرب اشتقاقه من التّثريب وهو التّقريع والتّقهير بالذنب(١) . ويقال: ثرّب فلان على فلان، إذا لامه ووبّخه، وهو التثريب(٢) . ومنه قوله تعالى:( لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ ) (٣) .

فاسمها المبارك: (المدينة) بحذف مقدّر وهو (المنوّرة) أو بإطلاقها فلا يراد منها إلّا (مدينة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ). فإذا قيل: المدينة انصرف الذهن إلى مكان واحد لا غير، هو: المدينة المنوّرة بنور الهجرة والرسالة التي انطلق شعاعها من مكّة المكرّمة، فلمّا ضاقت الأمور برسول الله وكادوا أن يقتلوه، أمره الله سبحانه بالهجرة إلى مدينة الأنصار، فكان انبعاث نور الإسلام منها أوسع وأسرع.

ولكونها حاضنة الرسالة ومثوى الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقبره على تُرعة من ترع الجنّة، فقد صارت حرماً كما أنّ مكّة حرم.

روى مسلم قال: حدّثنا قتيبة بن سعيد، حدّثنا عبد العزيز بن محمّد الدّراورديّ، عن عمرو بن يحيى المازنيّ، عن عبّاد بن تميم، عن عمّه عبد الله بن زيد بن عاصم أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: (إنّ إبراهيم حرّم مكّة ودعا لأهلها، وإنّي حرّمت المدينة كما حرّم إبراهيم مكّة وإنّي دعوت في صاعها ومُدّها ما دعا به إبراهيم لأهل مكّة)(٤) .

ذكر النووي في شرحه، قال: قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (إنّ إبراهيم حرّم مكّة) هذا دليل لمن يقول إنّ تحريم مكّة إنّما هو من زمن إبراهيمعليه‌السلام ؛ والصحيح أنّه كان يوم خلق الله السماوات

____________________

(١) المفردات في غريب القرآن، للراغب الأصفهاني: ٨٥.

(٢) الاشتقاق، لابن دريد: ٣٥.

(٣) يوسف: ٩٢.

(٤) صحيح مسلم ٩: ١٣٤ - ١٣٥، باب فضل المدينة ودعاء النبي فيها بالبركة وبيان تحريمها.

١٠٦

والأرض وقد كانت المسألة مستوفاة قريباً - سنرى -. وذكروا في تحريم إبراهيم احتمالين أحدهما أنّه حرّمها بأمر الله تعالى بذلك، لا باجتهاده، فلهذا أضاف التحريم إليه تارة وإلى الله تارة؛ والثاني أنّه دعا لها فحرّمها الله بدعوته فأضيف التحريم إليه لذلك. وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (وإنّي حرّمت المدينة كما حرّم إبراهيم مكّة) وذكر مسلم الأحاديث التي بعده بمعناه.

هذه الأحاديث حجّة ظاهرة للشافعيّ ومالك، ففيهما في تحريم صيد المدينة وشجرها. وبسنده أخرج مسلم عن رافع بن خديج قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (إنّ إبراهيم حرّم مكّة وإنّي أحرّم ما بين لابتيها - يريد المدينة)(١) .

وعن نافع بن جبير أنّ مروان بن الحكم خطب الناس فذكر مكّة وأهلها وحرمتها ولم يذكر المدينة وأهلها وحرمتها، فناداه رافع بن خديج فقال: ما لي أسمعك ذكرت مكّة وأهلها وحرمتها ولم تذكر المدينة وأهلها وحرمتها وقد حرّم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما بين لابتيها، وذلك عندنا في أديم خولانيّ إن شئت أقرأتكه؟ قال: فسكت مروان ثمّ قال: قد سمعت بعض ذلك!(٢)

قال: حدثنا أبوبكر قال: حدّثنا محمّد بن عبد الله الأسديّ حدّثنا سفيان عن أبي الزّبير عن جابر قال: قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (إنّ إبراهيم حرّم مكّة وإنّي حرّمت المدينة ما بين لابتيها، لا يقطع عضاهها ولا يصاد صيدها)(٣) .

____________________

(١) صحيح مسلم ٩: ١٣٥. واللابة: الحرّة وهي الأرض الملبسة حجارة سوداء. وللمدينة لابتان شرقيّة وغربيّة وهي بينهما.

(٢) نفس المصدر السابق. وانظر الحقد الأمويّ المروانيّ! على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل المدينة فمروان بعد الاحتجاج عليه يقول: قد سمعت بعض ذلك؟!

(٣) نفس المصدر السابق: ١٣٦.

١٠٧

وبسنده عن سعد بن أبي وقّاص قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (إنّي أحرّم ما بين لابتي المدينة أن يقطع عضاهها أو يقتل صيدها) وقال: (المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، لا يدعها أحد رغبة عنها إلّا أبدله الله فيها من هو خير منه، ولا يثبت أحد على لَأْوائِها وجَهْدها إلّا كنت له شفيعا أو شهيداً يوم القيامة)(١) .

وللقاضي عياض تفسير للحديث الشريف يظهر من خلاله فضيلة أهل المدينة الذين صاروا لأسباب عدّة ومنها احتفاء النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهم واختصاصهم بفضائل وأنّهم موضع شفاعته وهو الشهيد عليهم يوم القيامة.

قال القاضي عياض: (قال أهل اللغة اللأواء: بالمدّ الشدّة والجوع، وأمّا الجهد فهو المشقّة...، ومجيء أو في لفظ الحديث، إمّا أن يكون للتقسيم فيكون شهيداً لبعض أهل المدينة، وشفيعاً لبقيّتهم، إمّا تشفيعاً للعاصين وشهيداً للمطيعين، وإما شهيداً لمن مات في حياته وشفيعاً لمن مات بعده..، وهذه خصوصيّة زائدة على الشفاعة للمذنبين أو للعالمين في القيامة وعلى شهادته على جميع الأُمّة وقد قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في شهداء أحد: (أنا شهيد على هؤلاء)، فيكون لتخصيصهم بهذا كلّه مزيد، أو زيادة منزلة وحظوة. قال: وقد يكون (أو) بمعنى الواو - واو العطف - فيكون لأهل المدينة شفيعاً وشهيداً. وقد روى: (إلاّ كنتُ له شهيداً أو شفيعاً). قال: وإذا جعلنا (أو) للشكّ؛ فإن كانت اللفظة الصحيحة (شهيداً) اندفع الاعتراض لأنّها زائدة على الشفاعة المدّخرة المجرّدة لغيرهم؛ وإن كانت اللفظة الصحيحة (شفيعاً)؛ فاختصاص أهل المدينة بهذا مع ما جاء من عمومها وادّخارها لجميع هذه الأمّة؛ أنّ هذه شفاعة أخرى غير العامّة التي هي لإخراج أمّته من النار ومعافاة بعضهم منها بشفاعتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في القيامة، وتكون هذه

____________________

(١) صحيح مسلم ٩: ١٣٦.

١٠٨

الشفاعة لأهل المدينة بزيادة الدرجات أو تخفيف الحساب أو بما شاء الله من ذلك، أو بإكرامهم يوم القيامة بأنواع من الكرامة كإيوائهم إلى ظلّ العرش، أو كونهم في روح وعلى منابر أو الإسراع بهم إلى الجنّة أو غير ذلك من خصوص الكرامات الواردة لبعضهم دون بعض، والله أعلم(١) .

هذه هي المدينة المنوّرة، فهي حرام مثلما مكّة حرام؛ وأهلها خير أهل فقد آمنوا إذ كفرت قريش وغيرها، وآووا ونصروا وجاهدوا وبذلوا وذكر لهم القرآن فضيلة السبق إلى الإسلام، هم والسابقون من المهاجرين.

فهي طيبة، وطابة، والمدينة المنوّرة، ومدينة الرسول؛ وليست: نتنة! وأهلها أهل حرم لايجوز انتهاكه، فضلاً عن استباحتها أيّاماً ثلاث!

ومسلم بسنده عن سعد بن أبي وقّاص أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال ثمّ ذكر مثل الحديث السابق وزاد في الحديث: (ولا يريد أحد أهل المدينة بسوء إلّا أذابهُ الله في النار ذوب الرّصاص، أو ذوب الملح في الماء)(٢) .

وكان كما قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقد هلك مسرف بن عقبة المرّي الغطفاني وأصل قبيلته من نجد الزلازل والفتن، هلك منصرفه من المدينة وبعد فعلته النكراء ليوقع بمكّة، فعاجلته عقوبة الله تعالى فمات بين المدينة ومكّة، واخترم الله القدير عمر يزيد، إذ مضى الشأميّون إلى الحرم الثاني مكّة وفعلوا فعلتهم الشنيعة فجاءهم الخبر أنّ يزيد مات في ليلةٍ مرّات عدّة ثمّ زهقت روحه مع آخر جرعة خمر! عندها فتّ في عضد الشأميّين وصاروا فِرَقاً!( إِنّ بَطْشَ رَبّكَ لَشَدِيدٌ ) (٣) .

____________________

(١) هامش صحيح مسلم ٩: ١٣٦ - ١٣٧.

(٢) نفس المصدر السابق: ١٣٨.

(٣) البروج: ١٢.

١٠٩

التغليظ في حرمة المدينة

مسلم بسنده عن أبي سعيد المهْريِّ أنّه أصابهم بالمدينة جَهْدٌ وشدّة وأنّه أتى أبا سعيد الخدريّ فقال له: إنّي كثير العيال وقد أصابتنا شدّة فأردت أن أنقل عيالي إلى بعض الرّيف، فقال أبو سعيد: لا تفعل، ألزم المدينة فإنّا قد خرجنا مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أظنّ أنّه قال حتّى قدمنا عُسْفان فأقام بها ليالي فقال الناس والله ما نحن هاهنا في شيء وإنّ عيالنا لَخُلُوفٌ(١) ما نأمنُ عليهم. فبلغ ذلك النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال: (ما هذا الذي بلغني من حديثكم، والذي أحلف به أو والذي نفسي بيده لقد هممت، أو إن شئتم لآمرنّ بناقتي ترحل(٢) ثمّ لا أحلّ له عُقْدةً حتّى أقدم المدينة)(٣) . وقال: (أللّهم إنّ إبراهيم حرّم مكّة فجعلها حرماً وإنّي حرّمت المدينة حراماً ما بين مَأزِمَيْها(٤) أن لا يهراق فيها دم ولا يحمل فيها سلاح لقتال، ولا تُخْبَطَ فيها شجرةٌ إلّا لِعَلْفٍ(٥) . أللّهم بارك لنا في مدينتنا، أللّهم بارك لنا في صاعنا أللّهم بارك لنا في مُدّنا، أللّهم بارك لنا في مدينتنا، أللّهم اجعل مع البركة بركتين)(٦) .

فإنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحبّ المدينة حبّاً شديداً ويرجو أن يصلها بسرعة وقد حرّمها حرمةً

____________________

(١) خُلُوف: أي ليس عندهم رجال ولا من يحميهم.

(٢) تُرحَل: أي يشدّ عليها رحلها.

(٣) (لا أحلّ لها عقدةً...) معناه: أو أصل المسير ولا أحل عن راحلتي عقدةً من عُقَد حملها ورحلها حتّى أصل المدينة لمبالغتي في الإسراع إلى المدينة.

(٤) المأزم: هوالجبل، وقيل المضيق بين الجبلين ونحوه، والأوّل هو الصواب هنا، ومعناه ما بين جبليها كما في حديث أنس وغيره.

(٥) العلف اسم للحشيش والتبن والشعير ونحوهما، وفيه جواز أخذ أوراق الشجر للعلف، بخلاف خبط الأغصان وقطعها فإنّه حرام.

(٦) صحيح مسلم ٩: ١٤٦ - ١٤٧.

١١٠

غليظة ودعا لها بالبركة المضاعفة، وقد سمّاها: مدينتنا مرّتين! ومن هنا يتّضح السرّ في بغض الأمويّين للمدينة وأهلها من تسمية الجبابرة لها: (أم نتن) وأهلها (يهود) و (أخبث أهل)، والإيقاع بأهلها والسخرية بمقام رسول الله وشخصه؛ فإنّ أهل المدينة هو رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبه سمّيت وبه شرفت، ثمّ بايعه أهلها على النّصرة فكانوا خير أهل.

وأخرج مسلم بسنده عن عاصم الأحول قال: سألت أنساً أحرّم رسول الله المدينة؟ قال: نعم، هي حرام لا يُختلى خَلاها فمن فعل ذلك فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين!(١)

فكيف بقطع الرؤوس صبراً وضرب الرضيع بالحائط فيتناثر دماغه وتُبقر بطن الحامل فتموت مع جنينها( وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيّ ذَنبٍ قُتِلَتْ ) (٢) .

ولكن يبدو أنّ للشأميّين أفئدة تفقه ما لا يفقه المسلمون فهم( لَهُمْ قُلُوبٌ لاَيَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَيُبْصِرُونَ بِهَا ) (٣) ؛ وذلك لاستحواذ الشيطان عليهم فقست قلوبهم( فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِن ذِكْرِ اللّهِ ) (٤) .

ويحسن أن نذكر بعض الشعر لابن النابغة عمرو، وزير ابن هند معاوية و مستشاره في الملمّات، فقد علّمه وقادته سبيل النجاة من سيف ذي الفقار، بكشف عوراتهم! لمعرفته أنّ عليًّاعليه‌السلام عليٌّ عن الدنيّات وإن كان فيها الانتصار! فهوعليه‌السلام منتصر للحقّ مقاتل في سبيل الله، فكيف يجهز القرآن الناطق على رجال كلّهم عورات! إلّا أنّهم

____________________

(١) نفس المصدر السابق: ١٤١.

(٢) التكوير: ٨ - ٩.

(٣) الأعراف: ١٧٩.

(٤) الزمر: ٢٢.

١١١

كشفوا عن الموضع المشترك بينهم وبين المؤمن المتّقي ذلك الموضع الذي يسمّى (عورة) و (فرج) وقد أُمروا بحفظه من أن يظهر وينكشف، ومن أن يستفاد منه فيما حرّم الله تعالى:( وَالّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلّا عَلَى‏ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ) (١) .

وأُمروا بغضّ الأبصار عمّا دون الفَرْج، فكيف وأستاه عمرو ومعاوية والضحّاك مكشوفة بسَوادها في ساح الوغى، فأشاح أبو الحسن عليّعليه‌السلام بوجهه ترفّعاً وإكراماً لذي الفقار الذي هتف به الوحي يوم بدر ويوم أحد، عملاً منه بالقرآن؛ أليس هو مع القرآن والقرآن معه، والله تعالى يقول:( قُل لّلْمُؤْمِنِينَ يُغُضّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكَى‏ لَهُمْ إِنّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ) (٢) .

فكشف أولئك فروجهم فتردّوا، وغضّ أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام بصره فزكى وعلا؛ وهو في البدء زكيٌّ عليٌّ.

وأمّا شعر ابن النابغة ففيه إقرار بإمامة أمير المؤمنين وفضائله، وفضل أهل العراق فهم أهل التّقى والعقول، وأمّا أهل الشأم فهم بَقَر بُكم يُساقون...، ويذكر كشف السوءات! وحيلته في رفع المصاحف وغير ذلك وهذا بعض شعره:

ولماّ عصيت إمام الهدى

وفي جيشه كلّ مستفحل

أبا البَقَرِ البُكْم أهل الشآم

لأهلِ التُّقى والحِجَى أُبتلي؟

فقلت: نعم، قم فإنّي أرى

قتال المفضَّل بالأفضلِ

____________________

(١) المؤمنون: ٥ - ٦؛ المعارج: ٢٩ - ٣٠.

(٢) النور: ٣٠.

١١٢

فَبِي حاربوا سيّدَ الأوصياء

بقَوْلي: دمٌ طُلَّ من نَعْثَلِ(١) !

وكِدتُ لهم أن أقاموا الرِّماح

عليها المصاحفُ في القَسْطَلِ

وعلّمتُهم كشْفَ سوءاتهمْ

لردِّ الغَضَنْفَرَةِ المقْبِلِ

ورقيتك المنبرَ المشْمَخِرََّ

بلا حدِّ سيفٍ ولا منصلِ

ولو لم تكن أنتَ من أهله

وربِّ المقام ولم تكملِ!

نصرناك من جهلنا يا ابنَ هند

على النبأ الأعظم الأفضلِ!

وحيث رفعناك فوق الرؤوس

نزلنا إلى أسفل الأسفل!

وكم قد سمِعنا من المصطفى

وصايا مخصّصةًفي عليّ؟!؟؟

وفي يوم (خُمٍّ) رقى منبراً

يُبلِّغ، والرِّكبُ لم يَرحلِ

وفي كفّهِ كُفّه مُعلناً

يُنادي بأمرِ العزيز العلي:

ألستُ بكُمْ منكم في النفوس

بأولى؟ فقالوا: بلى فافعلِ

فأَنْحَلهُ إمرةَ المؤمنين

من الله مُستخلَف المنْحَلِ

وقال: فَمَن كنت مولىً له

فهذا له اليوم نِعْمَ الولي

فوالِ مُواليه يا ذا الجلا

ل وعادِ مُعادي أخِ المرسَلِ

ولا تَنْقُضوا العهدَ مِن عِتْرتي

فقاطِعُهم بيَ لم يُوصَلِ

فَبَخْبَخَ شيخُك لـمّا رأى

عُرَى عَقدِ حَيْدرَ لم تُحْلَلِ

____________________

(١) اسم لعثمان كانت عائشة تُسمّه به وتقول: أقتلوا نعثلاً فقد كفر.

(٢) هو قول عمر بن الخطّاب لعليّ بعد أن نصبه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم الغدير أميراً للمسلمين وخليفة من بعده، فهنّأه عمر وقال: بخّ بخّ لك يا عليّ أصبحت وليّ كلّ مسلم ومسلمة.

١١٣

فقال: وليُّكُمُ فاحفظوه

فَمَدْخَلُه فيكمُ مَدْخَلي

وإنّا وما كان من فعلنا

لَفي النار في الدَّرك الأسفلِ

وما دمُ عثمان منجٍ لنا

من الله في الموقف المخْجَلِ

وإنّ عليًّا غداً خصمُنا

ويعتزُّ باللهِ والمرسَلِ

يُحاسبُنا عن أُمورٍ جَرَتْ

ونحن عن الحقّ في مَعْزِلِ

فما عُذْرُنا يوم كَشْفش الغطا؟!

لك الويلُ منه غداً، ثمّ لي(١)

أحد في حديث النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

وأخرج مسلم بسنده عن أنس خادم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال: أقبل النبيّ حتّى إذا بدا له أحد قال: (جَبَلٌ يحبّنا ونحبّه)، فلمّا أشرف على المدينة قال: (أللّهم إنّي أحرّم ما بين جبليها مثلَ ما حرّم إبراهيم مكّة، أللّهم بارك لهم في مُدِّهم وصاعهم)(٢) .

ذكر النووي في شرحه قوله: حتّى إذا بدا له أحد قال: (هذا جبل يحبّنا ونحبّه)، قال: الصحيح المختار أنّ معناه أنّ أحُداً يحبّنا حقيقةً، جعل الله تعالى فيه تمييزاً يحبّ به كما قال تعالى:( وَإِنّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ ) (٣) ، وكما حنّ الجذع اليابس(٤) ، وكما رجف حراء فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (اسكن حراء فليس عليك إلّا نبيّ أو شهيد) الحديث.

____________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٢: ٥٢٢.

(٢) صحيح مسلم ٩: ١٣٩.

(٣) البقرة: ٧٤. في تفسير ابن زمنين ١: ٣٤، وتفسير الطبريّ ١: ٤٠٨، ح ١٣٢١: قال مجاهد: كلّ حجر انفجر منه ماء أو تردّى من رأس جبل فهو من خشية الله.

(٤) عن ابن عباس: كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخطب إلى خشبة كانت في المسجد، فلمّا صنع المنبر فصعده رسول الله، حنّت الخشبة، فنزل رسول الله فاحتضنها فسكنت. طبقات ابن سعد ١: ١٨٨.

١١٤

فسكن حراء. وكما سبّح الحصى في يده، وكما من حديث الشاة(١) ، وكما قال سبحانه وتعالى:( وَإِن مِن شَيْ‏ءٍ إِلّا يُسَبّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِن لّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ) (٢) قال: معنى هذه الآية أنّ كلّ شيء يسبّح حقيقة بحسب حاله ولكن لا نفقهه واختاره المحقّقون في معنى الحديث وأنّ أُحُداً يحبّنا حقيقةً. وقيل: أهله، فحذف المضاف (أهل أُحُد) وأقام المضاف إليه (أُحُد) مقامه، والله أعلم(٣) .

وعاد مسلم إلى ذكر جبل أحُد، فجزم المحقّق بأنّ هذا الحبّ على ظاهره أي عائد إلى الجبل نفسه.

فبسند آخر من طريق قتادة عن أنس قال: نظر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى أحد فقال: (إنّ أُحُدا جبل يحبّنا ونحبّه)(٤) .

قال النووي: يحبّنا أهله وهم أهل المدينة ونحبّهم والصحيح أنّه على ظاهره وأنّ معناه: يحبّنا هو بنفسه وقد جعل الله فيه تمييزاً، وقد سبق بيان هذا الحديث قريباً والله أعلم(٥) .

ذكر مقاتل بن سليمان (ت ١٥٠ هـ) بشأن الآية التي استدلّ بها النووي من سورة

____________________

(١) عن أبي سلمة قال: كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لا يأكل الصدقة ويأكل الهدية، فأهدت إليه يهوديّة شاة مصليّة (مطبوخة) فأكل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منها هو وأصحابه. فقالت: إنّي مسمومة، فقال لأصحابه: ارفعوا أيديكم فإنّها قد أخبرت أنّها مسمومة، قال: فرفعوا أيديهم، قال: فمات بشر بن البراء، فأرسل إليها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال: ما حملك على ما صنعت؟ قالت: أردت أن أعلم إن كنت نبيّاً لم يضررك. وإن كنت ملكا أرحت الناس منك، قال: فأمر بها فقتلت. (طبقات ابن سعد ١: ١٧٢).

(٢) الإسراء: ٤٤.

(٣) هامش صحيح مسلم ٥: ١٣٩.

(٤) نفس المصدر السابق: ١٦٢.

(٥) نفس المصدر السابق: ١٦٢ - ١٦٣.

١١٥

الإسراء:( تُسَبّحُ لَهُ السّماوَاتُ السّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنّ وَإِن مِن شَيْ‏ءٍ إِلّا يُسَبّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِن لّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ) الآية.

قال: عظّم نفسه جلّ وعلا، فقال سبحانه:( تُسَبّحُ لَهُ ) ، يعني تذكرة،( السّماوَاتُ السّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنّ وَإِن مِن شَيْ‏ءٍ ) يعني وما من شيء( إِلّا يُسَبّحُ بِحَمْدِهِ ) يقول: إلّا يذكر الله بأمره، يعني من نبت، إذا كان في معدنه، أو دابّة، أو خلق،( وَلكِن لّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ) ، يقول: ولكن لا تسمعون ذكرهم لله عزّ وجلّ(١) .

فالمعنيان مقبولان في مسألة (جبل أُحُد) فهو على ظاهره بقرينة تسبيح السماوات والأرض وهي ليس من جنس العاقل: من بشر أو ملائكة أو جنّ، وذكر ضمير ما تضمّه السماوات والأرض في التسبيح( وَمَن فِيهِنّ ) وعاد إلى العموم الشامل:( وَإِن مِن شَيْ‏ءٍ ) فهي عموم الموجودات من عاقلة وغيرها ومن جامدة بحسب الظاهر من نبات ما زال في معدنه أي تربته لم يقطع ولم يُقلَع.

أمّا لم خصّ أُحُداً بهذه الكرامة؟! أليس الجبل الثاني المقابل له والمحيط بمدينة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يسبّح وأنّ فيه تمييزاً فهو مثل أحُد في المحبّة؟ فليس هذا من شأننا إنّما عِلْم ذلك عند الله تعالى، ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. ولكن لنا أن نقول: إنّ أحُداً صار جنّة الشهداء في وقعة أُحُد وما بعدها، والمدينة مدينة الأنصار وحاضرة الإسلام ومثوى سيّد الرّسل صلّى الله عليه وعليهم وعلى آله الطاهرين، فلأجل ذلك حرّم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المدينة حرمة مغلّظةً ولعن من أراد بأهلها سوءاً أو أحدث بها حدثاً يؤدّي إلى هتك

____________________

(١) تفسير مقاتل بن سليمان ٢: ٢٥٨ - ٢٥٩.

١١٦

حرمتها؛ ولأجله خرج سيّد الشهداء سبط رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وريحانته وسيّد شباب أهل الجنّة من المدينة ووّدع جدّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باكياً على مفارقته لأنّه عارف أنّ القوم لن يتركوه، فإمّا أن يبايع بيعة ضلال وإمّا أن يقتل؛ والأمّة في خَدَرٍ وسُبات من سيرة يزيد الخمور والكلاب والقرود والزنا...، فاختار طريق الشهادة التي مضى إليها وهو على بصيرة من أمره أخبره بذلك الصادق الأمين جدّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبكاه وقبّله في منحره وأراه التُربة التي ستروى من دمه ودماء أهل بيته والبدور من صحابته من أُسْد العراق يقتلهم أثنا عشر ألفاً وفي قول عشرون ألفاً من أهل الشأم ومعهم أربعة آلاف من خوارج وعثمانيّة الكوفة والحمراء من أبناء خراسان جلبهم ابن سميّة، وهم من أبناء ملوك الأكاسرة، فكان يصول بهم ويسلّطهم على مشايخ ورؤساء قبائل الكوفة فيقتلون ويحبسون.

فلمّا كان ابن مرجانة عبيد الله ساقهم مع أولئك الخوارج والعثمانيّة بقيادة ابن عمّ يزيد: عمر بن سعد العذريّ!.

المهمّ في هذه الملاحظة السريعة أنّ الإمام المفدّى الحسينعليه‌السلام لم يكن سبباً في هتك حرمة الحرمين الشريفين.

لعنة من أحدث في المدينة

عن عاصم قال قلت لأنس بن مالك: حرّم رسول الله المدينة؟ قال: نعم؛ ما بين كذا إلى كذا، فمن أحدث بها حدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه يومَ القيامة صَرْفاً ولا عَدْلاً(١) .

وبسند عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: (المدينة حَرَمٌ فمن أحدث فيها حَدَثاً أو آوى مُحْدِثاً فعليه لعنةُ الله والملائكة والناس أجمعين؛ لا يُقبل منه يومَ

____________________

(١) صحيح مسلم ٥: ١٤٠ - ١٤١.

١١٧

القيامة عَدْلٌ ولا صَرْفٌ)(١) .

وبنفس الإسناد عن سفيان عن الأعمش مثله ولم يقل: يوم القيامة؛ وزاد فيه: (وذمّة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم، فمن أَخْفَرَ مسلماً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. لا يقبل منه عدل ولا صرف)(٢) .

فهذا النكير على من أحدث أمراً يقلق به أمن أهل المدينة ويسيء إلى قدسيّتها التي أراد لها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ أو آوى المحُدِثَ وضمّه إليه فجعله في كنفه وحمايته، فعلى المحدِث ومن حماه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، زيادةً في التنكير، وهو وعيد شديد لمن ارتكب ذلك واستدلّوا على ذلك بأنّه من الكبائر لأنّ اللعنة لا تكون إلّا في كبيرة، ومعناه أنّ الله تعالى يلعنه وكذا الملائكة والناس أجمعون، مبالغةً في إبعاده عن رحمة الله تعالى فإنّ اللعن في اللغة هو الطرد والإبعاد؛ فالمراد هنا العذاب الذي يستحقّه على ذنبه.

(ولا يقبل منه عَدْل ولا صَرْف): العدل أي الفدية، والصرف التوبة. قال القاضي عياض: قد يكون معنى الفدية هنا أنّه لا توجد أو لا يجد في القيامة فداء يفتدي به بخلاف غيره من المذنبين الذين يتفضّل الله عزّ وجلّ على من يشاء منهم بأن يفديه من النار بيهوديّ أو نصرانيّ كما ثبت في الصحيح(٣) .

هذه هي المدينة وعظيم حرمتها، فمن أحدث بها حدثاً لا شفاعة له، ولا توبة له مقبولة وفديته مردودة إذ لا قيمة لها ما زال قد حدثه في المدينة!

____________________

(١) صحيح مسلم ٥: ١٤٥.

(٢) نفس المصدر السابق.

(٣) حاشية صحيح مسلم ٥: ١٤١.

١١٨

وأمّا قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (وذمّة المسلمين واحدة فمن أخفر مسلماً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه عدل ولا صرف). فالذمّة هنا الأمان، فأمان المسلمين للكافر صحيح؛ فإذا أمنه أحد من المسلمين حرم على غيره التعرّض له مادام في أمان المسلم وللأمان شروط معروفة. ويسعى به أدناهم، أي أنّ أمان المرأة وهي غير محاربة مثل الرجل فأمانها صحيح محفوظ محترم، وكذلك أمان العبد.

وقوله: (فمن أخفر ذمّة مسلم) معناه: من نقض أمان مسلم وفي اللغة: أخفرت الرجل إذا نقضت عهده وخفرته إذا أمنته.

هذه مبادئ الإسلام وقد نقض صرحها بنو أميّة عبد عبد شمس، وذوو العاهات المنتسبون إليه أو المدّعون إليهم أو قادتهم وكلّ له عاهته في النسب أو الخلقة والتكوين والانتماء القبليّ.

ولذا بعد القتل الذريع العام الذي تلا وقعة الحرّة واستباحة المدينة ثلاثة أيّام يقطعون الرؤوس عوضَ عِضاها! ويبقرون البطون الحوامل ويفجرون بالبواكر. بعد الأيّام السوداء الثلاث تلك أعطى قائد جيش الأبدال -كذا! -، والقيادة ألوان! الأمان؛ فكان يجيء أحدهم فيسأله ويسخر منه ويأمر بضرب عنقه صبراً! أو يمنّ عليه: فيطلب منه أن يبايع ليزيد أنّه عبد قنّ له يتصرّف به كيف شاء! فإذا أبى ذلك ضرب عنقه.( وَالّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدّارِ ) (١) .

وإذا كان ابن هند شقّ عليه أن يُصاح خمس مرّات (أشهد أنّ محمّداً رسول الله) ثمّ

____________________

(١) الرعد: ٢٥.

١١٩

يُعقّب: إلّا دفناً دفناً، أي بدفن معالم رسالة الإسلام وتشويه معالمه الناصعة، وتصدّيه وخروجه على أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام ومتابعة ذلك بما ذكرناه من غارات على الحاجّ، على نهج الخوارج المارقة، وبعثه البعوث للإرجاف بأهل الحرمين...، ناقضاً بذلك العهد والميثاق مع سيّد الوصيّينعليه‌السلام ؛ ومن قبل ولمجرّد أنّ حصب أهل العراق واليهم، وإن لم يوضّح لنا الراوي السبب، وإلاّ فأهل العراق قد حصبوا ولاةً طغاةً عدّة لمخالفتهم السّنّة وإتيانهم البدعة؛ ففي تلك التي كانت على عهد عمر دعا عليهم بالهلاك وأن يسلّط عليهم غلام ثقيف – لـما كان يسمعه من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بخروج ثقفيّ مبير كذّاب - فكان الحجّاج، وكما دعا عمر: أن يتسلّط أهل الشام على أهل العراق! وأن يقعوا تحت طائلة السيف الثقفيّ؛ فكان ذلك إشارة إلى معاوية وهو غنيّ عنها، فصار يسلّط على العراق جبّاراً بعد آخر، وينتقيهم من ذوي العاهات كما انتقاه الشيطان للشأم وهو هو في الدين! وفي النّسب فقد ذكرنا قصّته واشتراك أربعة رجال في هند والنسّابة يقولون: إنّه وعتبة أخاه لأمّه وفي القصّة تفصيل لمحاولة تخلّص هند من عتبة إذ أمرت جاريتها أن تضعه على قارعة الطريق....

ولا نعيد كلّ ما ذكرناه في هذا الأمر، إلّا أنّ الكلام يجرّ إلى الكلام وكما يقولون الحديث ذو شجون والتذكير لازم؛ ويوم الفتح وجاءت النساء يبايعن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكان من أحد ما شرط عليهنّ: أن لا يزنين؛ فلم تعترضه إلّا هند أمّ معاوية، قالت: وهل تزني الحرّة؟! فنظر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى عمر بن الخطّاب وابتسم.

ولا نريد الإضافة في نسبهم وبعدهم عن الإسلام فقد نزل بهم بياناً في القرآن، ولعنهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسمّاهم قبائل وأفراداً، وذكر الحرّة وكربلاء، ولم يسلم بيت الله الحرام من فسّاق عجّل عمر بالاستعداد للعدوان على العراق، وكان من ضحايا

١٢٠