شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية الجزء ٣

شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية0%

شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية مؤلف:
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 697

شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية

مؤلف: حبيب طاهر الشمري
تصنيف:

الصفحات: 697
المشاهدات: 163102
تحميل: 2844

توضيحات:

الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 697 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 163102 / تحميل: 2844
الحجم الحجم الحجم
شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية

شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية الجزء 3

مؤلف:
العربية

وفي قوله تعالى:( رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ ) (١) .

عن وهب بن منبّه: قيل إنّها الكوفة(٢) .

وقال أبو جعفر - الصادقعليه‌السلام -:( رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ ) ، الكوفة، والمعين: الفُرات)(٣) .

وعن محمّد بن مسلم قال: سألت الصادق عن قول الله عزّ وجلّ، وذكر الآية، قال: (الربوة: النجف، والقرار: المسجد، والمعين: الفُرات). ثمّ قال: (إنّ نفقة بالكوفة الدرهم الواحد يعدل بمئة درهم في غيرها والركعة بمئة ركعة. ومن أحبّ أن يتوضّأ بماء الجنّة ويشرب من ماء الجنّة ويغتسل بماء الجنّة فعليه بماء الفرات، فإنّ فيه مثعبين من الجنّة(٤) ، وينزل من الجنّة كلّ ليلة مثقالان من مسك في الفرات. وكان أمير المؤمنين عليّ يأتي النجف ويقول: وادي السلام، ومجمع أرواح المؤمنين، ونعم المضجع للمؤمن هذا المكان. وكان يقول: أللّهم اجعل قبري بها)(٥) .

وسرت تلك التسمية على مقبرة النجف الأشرف حتّى يومنا، ويحرص المؤمنون مهما بعدت بهم الشّقّة على دفن موتاهم في وادي السّلام.

وقد حقّق الله تعالى لأميرالمؤمنين أمنيته واستجاب له دعاءه؛ فهو سيّد الوصيّين، ويعلم ما لهذه البقعة من شأن فكان يتعاهدها بالزيارة ويذكرها بالخير ويدعو الله تعالى أن يجعل قبره فيها وليس مثل أمير المؤمنين من يُرَدُّ دعاؤه، فاستُشهد في القَرار، مسجد

____________________

(١) المؤمنون: ٥٠.

(٢) مختصر تاريخ دمشق ١: ٨٩.

(٣) نفس المصدر السابق.

(٤) المثعَبْ: واحد مَثَاعب (الحياض).

(٥) نفس المصدر السابق.

١٤١

الكوفة؛ ودفن في الربوة، النجف، إلى جنب نبيّي الله: آدم، ونوحعليهما‌السلام إذ يرد في الأثر وفي زيارة أمير المؤمنينعليه‌السلام : (السّلام عليك وعلى ضَجِيعَيْك آدمَ ونُوح) ومن هنا تتجلّى منزلة هذه البقعة المباركة من بين البقاع، فيها من علمت من الأنبياء، وخير الأوصياء سلام الله عليهم أجمعين.

قال أبو الغنائم: في النجف ماءٌ طيّبٌ تنزله العرب، يُقال له: السلام(١) .

الكوفة موضع ابتلاء

والكوفة حالها حال البقاع المقدّسة المباركة: مكّة، والمدينة، فقد أنبأ أمير المؤمنينعليه‌السلام أنّها ستكون موضع ابتلاء وعرضة للجبابرة المفسدين، وأنّ الله سبحانه منتقم ممّن أرادها بسوء. قالعليه‌السلام : (كأنّي بك يا كوفة تمدّين مدّ الأديم العكاظيّ، تُعْرَكِينَ بالنّوازِل، وتُرْكَبِين بالزلازل، وإنّي لأعلم أنّه ما أراد بك جبّار سوءاً إلّا ابتلاه الله بشاغل، ورماه بقاتل)(٢) .

عُكاظ: اسم موضع بناحية مكّة كانت العرب تجتمع فيه كلّ سنة يقيمون به سوقاً مدّة شهر، ويتبايعون ويتناشدون الأشعار ويتفاخرون، فلمّا جاء الإسلام رفع ذلك. وأديم عكاظيّ منسوب إليها لكثرة ما كان يباع منه. والعرك أي: الدلك. والنوازل هي: المصائب، تقدير لحال الكوفة المستقبلة حال تجاذب أيدي الظالمين لأهلها بأنواع الظلم. ثمّ أشار إلى مشاهدة ثانية لـما يقع لمن أراد بهم سوءً وأوقع بهم ما أوقع من البلاء، فأشار إلى أنّهم جبابرة ثمّ إلى ابتلاء الله بعضهم بشاغل في نفسه عمّا يريد من سوء أو يهمّ به من حادث خراب ورمى بعضهم بقاتل.

____________________

(١) مختصر تاريخ دمشق ١: ٨٩.

(٢) نهج البلاغة، خطبة رقم ٤٦.

١٤٢

قال المنصور لجعفر بن محمّدعليهما‌السلام: إنّي قد هممت أن أبعث إلى الكوفة من ينقض منازلها، ويجمّر نخلها، ويستصفي أموالها، ويقتل أهل الرّيبة منها؛ فأشر عليّ. فقالعليه‌السلام : (إنّ المرء ليقتدي بسلفه، ولك أسلاف ثلاثة: سليمان أُعْطي فشكر، وأيّوب ابتُليَ فصبر، ويوسف قدَرَ فغفر، فاقتد بأيّهم شئت). فصمت قليلاً، ثمّ قال: قد غفرت(١) .

وابن أمّ الحجّاج، أو المتمنّية(٢) : جبّار شقيّ، تطول أخباره ونذكرها في موضعها ولكن قبل ذكر عاقبته نذكر نزراً من خبره؛ وقد ذكرنا سيرته مع أهل المدينة وتحقيره وتهديده لهم ومخالفته سنّة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الأنصار واستخفافه بالنبيّ وتفضيله عبد الملك ابن مروان عليه! وقوله في المدينة: أمّ نَتَن ثمّ فعله ببيت الله الحرام. وهكذا هم الطغاة يفرغون سخطهم الناجم من عقدهم النفسيّة وعاهاتهم، على كلّ شيء رفع الله شأنه، والكوفة من ذلك.

خطبة الحجّاج في أهل الكوفة: كان من الحجّاج أوّل دخوله الكوفة فصعد المنبر وخطب، جاء في كلامه: إنّ الله ضرب( مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مّطْمَئِنّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِن كُلّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ) (٣) !

____________________

(١) شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد ٣: ١٩٨.

(٢) والحجّاج، مضافاً إلى معاناته من أصله، ومن عيوب بدنه؛ فإنّه مثل سميّه ابن سميّة، مغموز في أمّه الفارعة، ولها قصّة في تسميتها المتمنّية، نوجزها: أنّها تمنّت أنّها على سطح فياح وعندها نصر ابن حجّاج فقالت:

هل من سبيل إلى خمر فأشربها

أم هل سبيل إلى نصر بن حجّاج

أنساب الأشراف ٧: ٣٧٥.

(٣) النحل: ١١٢.

١٤٣

فذلك حرم الله تعالى وحرم نبيّه إبراهيم الخليلعليه‌السلام ، وتلك المدينة حرم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذه الكوفة حرم الوصيّعليه‌السلام وكلّها هدف ذوي العاهات، لم يعتبر أحدهم بما جرى للذي حلّ بقبله. وهل يليق برمح الإسلام، وقبّته ومدد المسلمين وأنصار الله وسنام العرب العاملين بطاعة الله والشاكرين لنعمته، مدوّخي البعير ومن حمل والضاربين أبناء البغايا على كفرهم بخروجهم على نفس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى ألجؤوهم إلى الدفاع عن أنفسهم بعوراتهم وكم أعدّ ابن هند فرسه ليهرب من وراء فسطاطه حتّى أنقذته حيلة ابن النابغة ومكره....

أمثل هؤلاء ينعتون بالكفر؟! نعم هم كافرون بالجبت والطاغوت كافرون بتسلّط أبناء البغايا ويحافظون على أصولهم وأعراضهم فكانوا سنام العرب ورمح الإسلام وقبّته، أحبّهم أهل البيتعليهم‌السلام وبغضهم أعداء الله ورسوله وأعداء أهل بيته.

قال المدائني في إسناده: قدم الحجّاج في سنة خمس وسبعين في رجب، فبدأ بالكوفة، فخطب أهلها وتوعّدهم، وأرسل إلى وجوههم وإلى كثير من العامّة، فقال: أخبروني عن الولاة قبلي، ما كانوا يعاقبون به العصاة؟ قالوا: الضرب والحبس، قال: لكنّي لا أعاقبهم إلّا بالسيف....

وقال ليزيد بن علاقة السكسكي صاحب شرطة: اجعل سيفك سوطاً، فمن وجدته بعد ثالثة عاصياً فاقتله(١) .

وكان إلهه الذي ظلّ عاكفاً عليه من دون الله! عبد الملك بن مروان يشدّ من أزره وينفخ في جاعريته ليوغل في دماء أهل العراق، فقد كتب إليه ابن المتمنّية الحجّاج يشرح له بعض أفعاله بهم فأجابه عبدالملك: (أما بعد فقد بلغني كتابك، وأنت

____________________

(١) أنساب الأشراف ٧: ٢٧٥.

١٤٤

الناصح النجيب الأمين بالغيب القليل العيب، فإذا رابك من أهل العراق ريب فاقتل أدناهم، يرعب منك أقصاهم والسلام)(١) . بهذه الروح المجبولة على حقد متأصّل على أهل العراق، وهم هنا أهل الكوفة بلا شك إذ العراق آنذاك مصران البصرة، والكوفة؛ فأمّا البصرة فوُلاؤُها لأهل البيت يومذاك قليل، والكوفة هي التي أسقطت الهودج من ظهر حامله بالبصرة وقدّمت في قتال الخوارج الناكثين قسطاً وافراً من الشهداء، وهي التي دوّخت خوارج الشأم القاسطين وكادت تلحق الشأم بالعراق لولا مكر ابن النابغة عمرو، وللكوفة شرف إبادة ثمانية آلاف من خوارج النهروان، فهم ترابيّة! حقّاً ولا أمل في الشجرة الملعونة ومن والاها، ومن جاء بعدها إلّا أن يريد بالكوفة سوءاً، ولكنّها مهوى أفئدة المؤمنين وإليها انتهى طوفان نوح، وهي لا غيرها عاصمة حكم المهديّ المنتظر عجّل الله تعالى فرجه.

موت الطاغية

بعد قتله لسيّد قرّاء الكوفة (سعيد بن جبير)، لم يلبث إلّا أربعين ليلة لم يذق بها طعم نوم، كان كلّما نام رأى سعيد بن جبير آخذاً بمجامع ثوبه ويقول: يا عدوّ الله فيم قتلتني؟ فيهبّ فزعاً وهو يقول: ما لي ولسعيد بن جبير!(٢)

وأصابه الزّمهرير، وقرّح جوفه حتّى كانت القديدة تدلّى في حلقه ثمّ تجبذ فيخرج فيها الدود وهو يصيح: ما لي ولسعيد بن جبير، فلم يزل كذلك حتّى مات(٣) .

وكان الذي أخذ سعيد بن جبير: خالد بن عبد الله القسريّ، أمّه نصرانيّة، وكان

____________________

(١) أنساب الأشراف ٧: ٢٩٢.

(٢) نفس المصدر السابق: ٣٧١.

(٣) نفس المصدر السابق: ٣٦٩.

١٤٥

والياً على مكّة من قبل الوليد بن عبدالملك، فبعث به إلى الحجّاج(١) .

عن هشام الدّستوائي قال: رأيت سعيد بن جبير يطوف بالبيت مقيّداً ورأيته دخل الكعبة عاشر عشرة مقيّدين(٢) .

عن عبدالملك بن أبي سليمان قال: سمع خالد - القسريّ - صوت القيود فقال: ما هذا؟ فقيل له: سعيد بن جبير وطلق بن حبيب وأصحابهما يطوفون بالبيت. فقال: اقطعوا عليهم الطواف!(٣)

بدل قطع القيود، أمر بقطع الطواف عليهم.

وكانت ولاية خالد بن عبد الله القسريّ على الكوفة سنة ثماني عشرة ومائة(٤) .

وأخباره تطول في فساده واستحواذه على بيت المال واتّخاذه ضياعاً مع تعسّف وظلم واضطهاد لأهل الكوفة واستهتار بالحرمات بدأها أبوه، وانتهج هو سيرة أبيه. ذكر أبو الفرج الأصفهانيّ: أنّ أمّه كانت روميّة نصرانيّة وهبها عبد الملك لأبيه. فبنى لها كنيسة في ظهر قبلة المسجد الجامع بالكوفة. فكان إذا أراد المؤذّن أن يؤذّن، ضرب لها بالناقوس. وإذا قام الخطيب على المنبر رفع النصارى أصواتهم بقراءتهم!(٥)

هذه هي البلايا التي حذّر منها أمير المؤمنينعليه‌السلام والتي ستصيب سنام العرب وقبّة الإسلام! وقد بدأت من عهود سابقة إذ صلّى الوليد في المسجد سكراناً، فصلّى الصبح أربع ركعات وتقيّأ في المحراب...، وحصبه أهل الكوفة وأخرجوه، ثمّ جاء آخر

____________________

(١) طبقات ابن سعد ٦: ٢٦٤.

(٢) نفس المصدر السابق.

(٣) نفس المصدر السابق.

(٤) نفس المصدر السابق.

(٥) الأغاني، لأبي الفرج الأصفهانيّ ١٩: ٥٩.

١٤٦

فشكوه إلى عثمان وهكذا وقد ذكرنا تفاصيل ذلك في الجزء الثاني من (شهداء الإسلام) في أسباب ثورة الأقاليم على عثمان.

ومن أخبار خالد التي تدلّ على كفره وانحراف عقيدته، ما ذكره فضيل بن الزبير قال: سمعت خالداً - القَسْريّ - يقول: زمزم لا تُنزح ولا تُذَمّ! بلى والله إنّها لتُنزح وتُذَم! هذا أمير... قد ساق لكم قناة بمكّة من حالها وحالها(١) .

قال البلاذريّ: حدّثني محمّد بن سعد عن الواقديّ في إسناده أنّ خالداً قال: إنّ نبيّ الله إسماعيل استسقى ربّه فسقاه ملحاً أجاجاً، وسقى أمير... عذباً زلالاً، بئراً احتفرها له(٢) .

وقال أبو عاصم النبيل: ساق خالد الماء إلى مكّة فنصب طستاً إلى جانب زمزم، ثمّ خطب فقال: قد جئتكم بماء الغادية لا يشبه ماء أم الخنافس - يعني زمزم -(٣) .

وأيضاً أبو عاصم النبيل عن عمر بن قيس أنّه سمع خالداً يقول حين أخذ سعيد ابن جبير، وطَلْق بن حبيب بمكّة: كأنّكم أنكرتم ما صنعت، والله لو كتب إليّ أمير... أن أنقضها حجراً حجراً لفعلت - يعني الكعبة -(٤) . فهو والحجّاج حذو النّعل بالنّعل والقذّة بالقذّة؛ خارجيان قذران لا من جنس خوارج النهروان ولا من جاء بعدهم من فرق الخوارج، فأولئك لا يعلنون بغيضةً لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويدفعون عن بيت الله الحرام، مع مروقهم؛ وأمّا الحجّاج فقد عرفت سيرته وقوله في حقّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وفي الأنصار، وعدوانه على البيت الحرام، وادّعائه الوحي!

____________________

(١) أنساب الأشراف ٩: ٥٨. وكان وقتها خالد والياً على مكّة.

(٢) نفس المصدر السابق.

(٣) نفس المصدر السابق. وقد مضى ما فيه الكفاية في فضل زمزم وأنّها آية بين المؤمنين والمنافقين!

(٤) نفس المصدر السابق: ٥٩.

١٤٧

وخالد لا قيمة لدم سعيد بن جبير وصحبه عنده، وهو غير متردّد في نقض الكعبة وتخريبها؛ وسمعت كلامه في ماء زمزم. بعد: هل خرج على أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام ؟

بسندٍ عن سفيان بن أبي عبد الله قال: سمعت خالداً يقول: أللّهم العن عليّ بن أبي طالب بن عبد المطّلب بن هاشم زوج فاطمة، وأبا الحسن والحسين، هل كنَّيْتُ؟(١)

إيغالاً بالخروج عن الدين ودخولاً في الكفر، ومنتهى الناصبيّة؛ يلعن سيّد الوصيّين وأميرالمؤمنين حقّاً عليًّا أبا السبطين نفس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والنبأ العظيم وزوج سيّدة نساء أهل الجنّة، بهذه الصورة البشعة! هنيئاً لابن تيميه والوهّابيّين الذين يناصبون عليًّا وأهل بيته العداء فهم خوارج القرون المتأخّرة؛ ويوالون بني أميّة وذوي العاهات. وعقيدتهم هي نفسها عقيدة صنمهم الذين يعبدونه من دون الله وهو من أبناء الأمّهات منقطع النسب كما ترجمنا له، ذلك هو ابن تيميه الجدّ الثالث أو الرابع للأسوة جميعاً!! فعقيدتهم التي يفتون بها والتي أراد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بوحي من الله تعالى أن ينفيها من الحرم المكّي وبعد جهاد سنوات خرج بلا اختيار إلى المدينة المنوّرة ليبدأ ويتمّ مسيرته هناك.

وكان الخارجيّ الأوّل والخوارج الذين ذكرناهم من أرض الزلازل والفتن (نجد) وبالتعيين من تميم أوّلاً ثم غطفان...، وبعد خروج الخارجيّ الثالث - بحسب التقسيم الذي تعارف عليه أصحاب الدراسات، وإلاّ فلنا رأي في ذلك، فهم كما ذكرنا أوسع أفقاً وكلّ جبهة لها وجهتها التي هي إليها والأمم الذي تنضوي تحته - وخوارج الوهّابيّين نجديّون تميميّون استدلّوا على الحرم المكيّ بأعرابيّتهم الفجّة وعقيدتهم المنحرفة من تجسيم وتشبيه وتبعيض لله. تعالى الله عمّا يصفون، وكلّ ما ذكرناه من

____________________

(١) أنساب الأشراف ٩: ٥٩.

١٤٨

عقيدة ابن تيميه فهم يكفّرون من يخالف ذلك. وانتهجوا نهج ابن تيميه والحجّاج وزياد وابن مرجانة وابن النصرانيّة في العداء لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومحاربة زيارته والحكم بالشرك على زيارته وزيارة الأولياء والتوسّل بهم إلى الله تعالى، ونصبوا العداء لعليّ أمير المؤمنين وللزهراء الطاهرة والأئمّة من ولدهم وفضّلوا عليهم ابن هند وابن ميسون وابن سميّة وابن النابغة وابن مرجانة، وأصدروا كتباً نفخ الشيطان فيها بأمجاد هؤلاء وحمل على آل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وشتموا علناً عبر الفضائيّات أهل البيتعليهم‌السلام .

فالموعد قريب ويحاسب كلّ امرئ بنيّته ولا نقول إلاّ: أللّهم عاملهم بعدلك.

دعاء الأسقف أرجى من دعاء عليّ!

واتّخذ خالد كنيسة لأمّه في قصر الإمارة، وكانت امتنعت من القدوم عليه فلم يزل بها حتّى قدمت الكوفة، وأمر المؤذّنين إلّا يؤذّنوا حتّى يضرب النصارى بنواقيسهم(١) .

قال: وحدّثني عبد الله بن صالح عن قوم من أهل الكوفة قالوا: اتّخذ خالد طستاً في مسجد الكوفة ميضأة، وحفر لها قناة من الفرات، ثمّ أخذ بيد أسقف النصارى يمشي به في المسجد حتى وقف على الطست ثمّ قال للأسقف: ادع لنا بالبركة فوالله لدعاؤك أرجى عندي من دعاء عليّ بن أبي طالب!(٢)

( وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ) (٣) .

ما وجدنا النصارى يناصبون عليًّا، ولا وجدنا المارقة! الذين أمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبا

____________________

(١) أنساب الأشراف ٩: ٥٨.

(٢) نفس المصدر السابق.

(٣) النمل: ١٤.

١٤٩

الحسن عليّعليه‌السلام بقتالهم يشنعون وينصبون لعليّ وأهل بيته مثل خالد جهنّم هذا، والحجّاج، ومعاوية ويزيد، وزياد وعبيد الله وعمر بن سعد وما عرفنا أنّ قتل أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام كان على أيدي المارقة إلّا ما كان من شأن أمير المؤمنين عليّ وليّ الله وخيرته من خلقه وأحبّه إليهم بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ وأمّا الباقون فكان قتلهم على أيدي أصحاب القصور الخوارج من العهدين الأمويّ والعبّاسيّ.

إنّ لعن خالد جهنّم لأميرالمؤمنين بالصورة التي ذكرناها سابقاً وهي شاهد على زندقته وخروجه عن الدين هو والذي ولاّه. وهنا يأخذ بيد الأسقف راجياً منه أن يدعو لهم بالبركة في المسجد الأعظم ويتحدّى مشاعر المسلمين بأن يقول له: (لدعاؤك أرجى عندي من دعاء عليّ بن أبي طالب) إذاً هو في دخيلة نفسه يعرف من هو عليّ وأثر دعاء عليّ، إلّا أنّه الحسد يعمي ويصمّ وينقل من الجنّة إلى النار.

ويبدو أنّ خالد هذا دعيّ، فتعاورته العاهات وعقد النّقص فسخط على الله تعالى ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلى عليّ أمير المؤمنين وآله الطاهرينعليهم‌السلام وعلى خيار المسلمين وفضلائهم. فأبوه خسيس لا مقام له، وأمّه نصرانيّة أبت أن تدخل الإسلام، وقد قيل فيه أنّه كان دعيّاً؛ أعوذ بالله من مملكة ملوكها وولاتهم أدعياء ذوو عاهات.

ذكر البلاذريّ أنّ امرأة دخلت على خالد تشكو حالها، فقال لها خالد: من أنت؟ قالت: امرأة أكبّ عليها الزمان فلم يدع لها سبداً ولا لبداً ولا صافناً ولا ماهناً. فقيل لها: هل لك أن يتزوّجك الأمير؟ قالت: والله لئن فقدت نشباً ما فقدتُ حسباً وما كنت لأتزوّج دعيّاً وإن مثرياً غنيّاً(١) . فالمرأة ألجأتها الحاجة، فلمّا عرض عليها الزواج من الأمير! أبت ذلك لأنّه دعيّ.

____________________

(١) أنساب الأشراف ٩: ٦٨.

١٥٠

إغراقه في الكفر

وأخباره القبيحة والمذمومة من الكثرة لو جمعت صارت كتاباً، منها خبر يصعب ذكره ويستحى من نقله! لـما فيه من تجاوز على حضرت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتعديّ على ذات الله القدسيّة! رأينا أن نذكره زيادةً في بيان حقائق الطغاة من ذوي العاهات الذين هم موضع تبجيل ابن تيميه ويفضّلهم على أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام وشيعتهم.

قالوا: وكُلّم في عامل له ضرب رجلاً، وسُئل أن يقتصّ منه، فقال: أقتصّ من عامل؟! فوالله لئن اقتصصتُ منه لأقصّ من نفسي، ولئن اقتصصتُ من نفسي ليقصّنّ أمير... من نفسه، ولئن أقصّ أمير... من نفسه ليقصّنّ رسول الله من نفسه، ولئن أقصّ رسول الله من نفسه ليقصنّ هاه هاه - يريده تبارك وتعالى! -(١) .

فسلّط الله عليه جلّاداً عذّبه حتّى مات تحت سياطه؛ وذلك أنّ أخبار إثرائه الفاحش وصلت هشام بن عبدالملك، وهو معروف ببخله! فكتب إلى خالد القَسْريّ كتاباً مطوّلاً لم يبق له من ذارية تنقّصه في جدّه (يزيد بن أسد بن كُرْز القَسْريّ)، قال فيه: ولقد حشدَ جدُّك يزيد بن أسد مع معاوية يوم صفّين، وعرض دينه ودمه - أي باعه لمعاوية! - فما اصطنع إليه، ولا ولاّه ما اصطنع إليك أمير... وولاّك وقِبَله من أشراف أهل اليمن مَن قبيلتُه أشرف من قبيلتك...؛ وإنّها لقريبٌ منك مأخذها سريعٌ مكرها... فيما صنعتَ وارتكبتَ بالعراق من أهله، واستعانتك باليهود والنصارى والمجوس، تولّيهم أموال المسلمين وخراجهم، وتسلّطهم عليهم، نزعَ بك إلى ذلك عِرْقُ سوءٍ من التي قامت عنك، فبئس الجنين أنت عُدَيُّ نفسه...، وراح يتوعّده ويعدّد عيوبه من ضعف الطبيعة وسوء التدبير وفساد بطانته وخاصّته وغلبة جاريته

____________________

(١) أنساب الأشراف ٩: ٦٠.

١٥١

الزانية! عليه، وغير ذلك من الرذائل(١) .

وكتب هشام إلى (يوسف بن عمر) وهو عامله على اليمن، بولايته على العراق لـِما بلغه من خبثه؛ فتمكّن من خالد فحبسه وجميع عمّاله وعذّب يوسف خالداً شديداً من غير أن يبلغ نفسه، ثمّ أتاه كتاب من هشام في استخلاصه إلى ما قبله، فوجّهه إليه.

فكان مقيماً بالشأم إلى أن مات هشام، فردّه الوليد بن يزيد إلى يوسف بالعراق، فعذّبه حتّى قتله!(٢) .

وطاغوتٌ أسكرته لذّة الاستلحاق وعارُها! ابن سميّة زياد، فكان شغله الشاغل تتبّع شيعة عليّ والعترة الطاهرة، يعرض عليهم البراءة من عليّ الذي حبّه إيمان وبغضه نفاق، وعليّ قسيم النار والجنّة، يُحشر إذ يُحشر مع رسول الله وتُحشر شيعته بإخلاص معه؛ فأين يُحشر مُبغضوه ومحاربوه (وحربه حربٌ لله ولرسوله)؛ فكان ابن سميّة يقتل ويقطع أيدي وأرجل من لم يبرأ من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لـما علمت أنّهما نفس واحد في أكثر من موضع ومن ذلك آية المباهلة.

قال أبو الفرج ابن الجوزيّ: إنّ زياداً لـمـّا حصبه أهل الكوفة، وهو يخطب على المنبر، قطع أيدي ثمانين منهم، وهمّ أن يخرّب دورهم، ويجمّر نخلهم، فجمعهم حتّى ملأ بهم المسجد والرّحبة، يعرضهم على البراءة من عليّعليه‌السلام ؛ وعلم أنّهم سيمتنعون، فيحتجّ بذلك على استئصالهم، وإخراب بلدهم.

قال عبدالرحمن بن السائب الأنصاريّ: فإنّي لمع نفر من قومي، والناس يومئذ في أمر عظيم؛ إذ هوّمت تهويمةً، فرأيت شيئاً أقبل، طويل العنق، مثل عنق البعير، فقلت:

____________________

(١) الأخبار الموفّقيّات، للزبير بن بكّار (ت ٢٥٦ هـ): ٢٨٩ - ٢٩٥.

(٢) الأخبار الموفّقيّات: ٢٩٦، تاريخ الطبري ٥: ٥٤١.

١٥٢

ما أنت؟ قال: أنا النَّقّاد ذو الرقبة، بعثت إلى صاحب هذا القصر، فاستيقظت فزعاً، فقلت لأصحابي: هل رأيتم ما رأيت؟ قالوا: لا؛ فأخبرتهم، وخرج علينا صاحب القصر، فقال: انصرفوا، إنّ الامير يقول لكم: إنّي عنكم مشغول اليوم، وإذا بالطاعون قد ضربه، فكان يقول: إنّي لأجد في النّصف من جسدي حرّ النار حتّى مات، فقال عبد الرحمن بن السائب:

ما كان مُنْتَهِياً عمّا أراد بنا

حتّى تناوله النَّقّاد ذو الرَّقَبَه

فأثبت الشِّقَّ منه ضربةٌ عظُمَتْ

كما تناول ظُلماً صاحب الرَّحَبَه(١)

وقوله: (صاحب الرحبه)، لأنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام كان يجلس معظم وقته في رحبة المسجد يحكم بين الناس فنسب إليه بهذا الاعتبار.

وذكر البلاذري عن الوليد بن مسلم: طعن زياد فمكث شهراً ثمّ مات(٢) .

وذكر خبر النقّاد مع اختلاف، قال: حدّثني عبّاس بن هشام عن أبيه عن أبي مخنف عن القاسم بن النضر العبسي عن أبيه عن عمّه قال: أرسل إلينا زياد لنلعن عليًّا ونبرأ منه، فإنّا لمجتمعون إذ أَغفيتُ إغفاءةً، فرأيتُ رجلاً أسود فراعني فقلت له: من أنت؟ فقال: أنا النَقّادُ ذو الرَقَبة، أرسلت إلى هذا الشاتم صاحب الرحبة، فأتانا رسول زياد فقال: انصرفوا فإنّ الأمير عليل فعرضت له الأكِلة فمات بعد ثلاثة أيّام، فقلت:

ما كان مُنْتَهشياً عمّا أراد بنا

حتّى أُتِيحَ له النَقّاد ذو الرَقَبَه

فجلَّلَ الرأس منه ضربةً عَجِلاً

لمّا تناول بَغْياً صاحبَ الرَحَبَه(٣)

____________________

(١) شرح نهج البلاغة ٣: ١٩٩.

(٢) أنساب الأشراف ٥: ٢٨٨.

(٣) نفس المصدر السابق: ٢٨٤ - ٢٨٥.

١٥٣

وممّن تسلّط على الكوفة: يزيد بن عمرو بن هبيرة بن مَعَيَّة بن سُكين بن خديج بن بَغِيض بن رَيْث بن غَطَفان، الغَطَفانيّ. ولي العراقَيْن، هو وأبوه قبله، لمروان بن محمّد، وليزيد بن عبدالملك. وظلما وجارا في الحكم ولم يدم أمرهما فقد تنكّر لهما السلطان فأوقع بهما وقتلهما، وقتل مع يزيد ابنه داود(١) .

أمّا ابن مرجانة، وسميّة عبيد الله

فحاله حال ابن سميّة زياد، وابن المتمنّية الحجّاج، وابن النابغة عمرو وابن المتمتّعة الذي هتك حُرمة البيت الحرام...، وما أكثر الأبناء أميرهم ابن هند!

من يسمع بابن مرجانة يظنّه شيئاً مذكوراً! إلّا أنّه أقلّ من ورقة صفراء في الشجرة الملعونة! ولولا الناقص لَـما سمعنا لابن مرجانة من ذكر! فهو الذي أحيا أمره:

إنّ عبيد الله هذا فيه مطعن في نسبته إلى ابن سميّة، فهو دعيّ ابن دعيّ هكذا تجد ذكره وفي أحسن الأحوال فهو ابن مرجانة. ولذلك لـمـّا أراد ابن هند أن يوثّق أواصره مع ابن سميّة زياد؛ زوّجه ابنة حكيم بن طليق بن سفيان بن أميّة. وقال له: ائتني بولدك أزوّجهم فزوّج المغيرة بن زياد من ابنة المهاجرين طليق بن سفيان بن أميّة. وزوّج فاختة بنت عتبة (المقتول بأحد كافراً) من عبد الرحمن بن زياد. وزوّج ابنته عائشة بنت معاوية من محمّد بن زياد. وزوّج ابنته صفيّة أيضاً من محمّد بن زياد.

وأمّا ابنتا يزيد، فقد تزوّجهما عبّاد بن زياد واحدة بعد اخرى(٢) .

ولا تجد لعبيد الله بينهم ذكراً؟!

ومن خبره وهو طويل: أنّ عبيد الله قدم على معاوية بعد هلاك زياد فوجده لاهياً

____________________

(١) جمهرة أنساب العرب: ٢٥٥.

(٢) انظر نسب قريش، لمصعب الزبيري: ١٢٨ ومواضع أخرى، وكتب النسب الأخرى.

١٥٤

عنه، فجعل يتصدّى له بخلوة ليسبُر من رأيه ما كره أن يُشرك به عمله، ففطن معاوية لذلك فبعث إلى يزيد ومروان وعمرو بن العاص وغيرهم من خاصّته. فتكلّم عبيد الله يشكو ما حلّ بهم بعد هلاك زياد وشماتة الناس بالمسْتَلْحَق والمسْتَلْحِق ويرجو معاوية أن ينصفهم....

فهدَر معاوية! بتوبيخ عبيد الله، وإنّ زياداً كفر بنعمة استلحاقه وتمرّده! وكلامه طويل هذا آخره: فاذهب إليك، فأنت نَجْل الدَّغَل، وعِترة النَّغَل، والآخر شرّ(١) .

يزيد وسيلة ابن عمّه!

فقال يزيد: إنّ للشاهد غيرَ حكم الغائب، وقد حضرك زياد، وله مواطن معدودة بخير، لا يفسدها التظنّي ولا تغيّرها التُّهم، وأهلوه أهلوك! التحقوا بك، وتوسّطوا شأنك....

شهادة من مثل يزيد الخمور والقرود والكلاب، الجامع بين الأُختين، والبنت وأمّها بحقّ زياد، فهو لم يقرّر دعوة زياد وحسب، وإنّما جعل من سُميّة شريكة هند في وضع معاوية...، فكيف لا يستأسد الذليل ويكون ليزيد نعله الذي ينتعله؟!

فنظر معاوية إلى عبيد الله فقال: يا ابن أخي، إنّي لأعرَف بك من أبيك، وكأنّي بك في غمرة لا يخطوها السابح؛ فالزم ابن عمِّك، فإنّ لـما قال حقّاً.

فخرجوا، ولزم عبيد الله يزيد يرد مجالسه ويطأ عِقَبه أياماً، حتّى رمى به معاوية إلى البصرة والياً عليها. ثمّ لم تزل توكسه أفعاله حتّى قتله الله بالخازر(٢) .

( وَطُبِعَ عَلَى‏ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَيَفْقَهُونَ ) (٣) .

____________________

(١) العقد الفريد ٤: ١٧٢ - ١٧٤.

(٢) نفس المصدر السابق: ١٧٤ - ١٧٥.

(٣) التوبة: ٨٧.

١٥٥

وإلاّ أيّ إغراق في الكفر، والنفاق، والرذيلة، التي كان عليها معاوية؛ يعني ابن هند، وقد قلنا: إنّ كتب التاريخ والأدب غرقى بهذه التسمية، سواء من يخاطبه، أو حينما ينهد ويتكلّم عن نفسه فلا نجده يقول: وأنا معاوية، وكأنّما يخاف أن يتصدّى له أحد فيقول له: وما معاوية إلّا كلبة عوت فاستعوت معها الكلاب، وهو يسمع أبا سفيان يقول لهند: كيف رأيتي ابني يزيد بن أبي سفيان، من ابنك معاوية؟ وقد مرّ بنا، فتأصّل في نفسه أنّه ابن هند؛ ولذا لـمّا أراد أن يستقوي بابن سميّة زياداً، لم يجد بأساً في ذلك، وزوّج بنات آل أبي سفيان من ولد زياد، والآن وقد هلك زياد، قلب ابن هند له ظهر المجن ورماه بحاصب وأظهر أنّه قد استلحقه! يريد بذا إقصاء الذليل عبيد الله ابن مرجانة! ثمّ عاد ليجعل من ابن مرجانة ابن أخيه! ويطلب منه لزوم ابن عمّه يزيد، وبعد ولاّه البصرة، وبعد هلاك معاوية كتب يزيد إلى عبيد الله للتحوّل إلى الكوفة وضبطها قبل ورود الإمام المفدّى الحسينعليه‌السلام ، فسار ابن مرجانة سيرة زياد بن أبيه وشدّ على قتل الحسينعليه‌السلام وهتك حرمات الكوفة، ولـمّا قدّر الله تعالى للمختار أن يخرج من حبسه وكان وهو في الحبس يحلف بالله أن يأخذ بثار أهل البيتعليهم‌السلام ، فكانوا يعجبون لقوله، فلمّا خرج جمع شيعة أهل البيتعليهم‌السلام ونادى بشعار: يا لثارات الحسين، وراح يتتبّع قتلة الحسين فيهدم بيوتهم ويقتلهم، وهرب ابن مرجانة مصعداً حتّى وصل الخارز، نهر بين إربل والموصل؛ فبعث المختار إبراهيم بن مالك الأشتر في طلبه حتّى ظفر به فقتله واحتزّ راسه وبعثه إلى المختار.

هلاك يزيد: وقد ذكرناه غير مرّة لتكرّر المناسبة، يزيد أمير كلّ عاهر وفاجر، وفي عصرنا فهو أمير الوهّابيّين، يقرّون له ولعشيرته وبطانته بالفضل وإنّه الأمير حقّاً وشرعاً، وأنّ الإمام الحسينعليه‌السلام خارج على إمام زمانه.

بعد هتكه لحُرَم الكوفة وما أوقعه بالحسينعليه‌السلام ومن معه، ثمّ عدوانه على طيبة

١٥٦

(المدينة المنوّرة)، والحرم المكّي؛ بات آخر ليلة من عمره اللامبارك معذّباً يتقيّأ الخمر، يضعون له الطست فيمتلأ فيرفعونه ويأتون بآخر حتّى قذف بروحه مع آخر جرعة خمر، إلّا أنّ ابن كثير ذكر قصّة طريفة في هلاك يزيد، قال: قيل: إنّ سبب موته أنّه حمل قردةً وجعل ينقزها فعضّه والله أعلم بصحّة ذلك(١) .

قيل لأبي مسلم الخولاني يوم مات يزيد: ألا تصلّي على يزيد؟ فقال: يُصلّي عليه ظِباءُ حُوّارين، وقيل: دفن بها(٢) .

قال ابن عَرادَة السعدي:

أَبني أُميّةَ إنّ آخِرَ مُلْكِكُم

جَسَدٌ بحُوّارينَ ثَمَّ مُقيمُ

طَرقَتْ مَنِيَّتُه وعندَ وسادِه

كوبٌ وزِقٌ راعِفٌ مَرْثومُ

ومُرِنّةٌ تبكي على نَشَواتِهش

بالصَّنْجِ تقعُدُ ساعةً وتقومُ(٣)

____________________

(١) البداية والنهاية، لابن كثير ٨: ٢٣٦.

(٢) أنساب الأشراف ٥: ٧٦.

(٣) نفس المصدر السابق. والشعر وصف لعاقبة يزيد فهو لم يدخل معه في قبره إلّا ما اشتهر به من خمر (كوب وزقّ) وسماعه الغناء.

١٥٧

١٥٨

فضائل الأنصار

إنّ أهل المدينة الذين أرجف بهم بُسر بن أبي أرطاة، حتّى أشعرهم أنّه مُوقعٌ بهم، وشتمهم وتنقّصهم إنفاذاً لأمر ابن هند - معاوية -، على ما ذكرنا في: مبحث الغارات؛ وتبعه الطاغية معاوية إذ قدِمَ عليهم فاستقبلوه قرب المدينة، فأهانهم وتوعّدهم إذ لم يخرجوا لاستقباله عن بُعْد؛ فصار ذلك سنّة لخلفه الناقص وقادته إذ أوقع بأهل المدينة وكان من دستوره لقائده مسرف (مسلم بن عقبة) إن ظفر بأهل المدينة قيبيحها ثلاثة أيّام يفعل ما يشاء...، فبعد القتل الذريع الذي لم ينج منه رضيع ولا امرأة ولا شيخ مسنّ... ونهب وسلب وتجاوز على النساء حتّى حبلت ألف من غير زوج، فكانت هذه واحدة من مكارم أهل الشأم. وفي اليوم الثالث وضع للمجرم كرسيّاً جلس عليه وراح يعدّد قبائل المدينة ويشتمهم ويسخر منهم!، ثمّ يؤتى برؤوس وأشراف المدينة فيطلب منهم البيعة ليزيد على أنّه عبد قنّ له يفعل به ما يشاء، فإن أبي أمر بضرب عنقه صبراً.

وكان أهل الشأم يقاتلون أهل المدينة ويقولون: يا يهود!(١)

والحجّاج، ورقة أخرى في الشجرة الملعونة، له مواقف وأقوال كفّره علماء المسلمين لأجلها، من ذلك:

____________________

(١) أنساب الأشراف ٥: ٣٤٥.

١٥٩

حدّث بزيغ بن خالد الضبي قال: سمعت الحجّاج يخطب فقال في خطبته: رسول أحدكم أكرم عليه أم خليفته في أهله! فقلت في نفسي: لله عليّ إلّا أصلّي خلفك صلاة أبداً، وإن وجدت قوماً يجاهدونك لأجاهدنّكم معهم(١) .

يعني بذلك عبدالملك بن مروان والنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم !!

وذكر البلاذريّ فقال: حدّثني محمّد بن سعد عن الواقديّ في إسناده قال: لـمّا خرج الحجّاج من المدينة قال: الحمد لله الذي أخرجني من أمِّ نَتْن! أهلها أخبثُ أهل - عين كلام قادة الغارات أيّام معاوية - أغشّه لأمير...، وأحسده له على نعمته، والله لولا ما كان يأتيني من كتب أمير... فيهم لجعلتها مثل جَوْف الحمار أعوادٌ يعوذون بها، ورِمّة قد بَلِيَت، يقولون: منبر رسول الله، وقبر رسول الله؛ فبلغ جابر بن عبد الله قوله فقال: إنّ أمامه ما يسوءه، قد قال فرعون ما قال، ثمّ أخذه الله بعد أن أنْظَره(٢) .

وكتب إلى عبدالملك بن مروان: إنّ خليفة الله في أرضه أكرم عليه من رسوله إليهم(٣) .

وخطب الحجّاج يوماً فقال: أيّا الناس إنّي أريد الحجّ، وقد استخلفت عليكم ابني هذا وأوصيته فيكم بخلاف وصيّة رسول الله بالأنصار، فإنّ رسول الله أوصى أن يقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم، ألا وإنّي أوصيته أن لا يقبل من محسنكم ولا يعفو عن مسيئكم، وإنّكم ستقولون بعدي مقالةً لا يمكنكم من إظهارها إلّا مخافتي؛ تقولون: لا أحسن الله له الصحابة، ألا وإنّي قائل: لا أحسن الله عليكم الخلافة، ثمّ نزل(٤) .

____________________

(١) مختصر تاريخ دمشق ٦: ٢١٤.

(٢) أنساب الأشراف ٧: ١٣٦.

(٣) العقد الفريد ٥: ٣١٢.

(٤) أنساب الأشراف ١٣: ٣٥٥.

١٦٠