شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية الجزء ٣

شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية0%

شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية مؤلف:
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 697

شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية

مؤلف: حبيب طاهر الشمري
تصنيف:

الصفحات: 697
المشاهدات: 163109
تحميل: 2844

توضيحات:

الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 697 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 163109 / تحميل: 2844
الحجم الحجم الحجم
شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية

شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية الجزء 3

مؤلف:
العربية

وأقرب الناس عهداً بالنبيّ ومَنْ

جبريل عونٌ له في الغسل والكفن

ما فيه ما فيهمُ لا يمترون به

وليس في القوم ما فيه من الحسن

ما ذا الذي ردّهم عنه فتعلمه

ها إنّ ذا غبننا من أعظم الغبَن(١)

قال الزبير: فبعث إليه عليّ فنهاه وأمره إلّا يعود، وقال: (سلامة الدين أحبّ إلينا من غيره)(٢) .

إذاً: سلامة الدين فوق كلّ شيء ومقدّم على كلّ أمر، وإلاّ ليس فيهم صناديد بدر وقد جزّرهم، ولا أصحاب ألوية أُحد وقد قطّرهم وصاحب النار قد لجأ هو وطلحة التيميّ في مجموعة إلى صخرة استجابة لهتاف الشيطان: قُتِل محمّد! فقعدوا هناك يشربون ويأكلون ولا ندري هل كان أكلهم (ثريد)، وأمّا عثمان وجمع فلم يقعوا فيما وقع فيه أهل الصخرة! وإنّما ذهبوا بها عريضةً حتّى بلغوا الجَلْعب قُربَ المدينة فتلقّتهم نسوة المدينة بالتحقير ولم يرجعوا إلّا بعد ثلاثة أيّام.

وليس فيهم أعلام العرب كان يحصدهم في وقعة صفّين ونأسف للتاريخ إذ لم يدوّن لنا مجموع قتلاه في تلك الوقعة، هذا لوحده، أمّا أسود العراق وأشترها ومرقالها وعمّارها و...، فقد قالوا أنّ قتلاها كذا ألف حتّى تجاوزوا الأربعين ألف شأمي، وقلنا: كان حصيد أبي الحسنعليه‌السلام ممّا لا يعدّ وإن ذكروا كثيراً منهم، إلّا أنّها (ليلة الهرير) وأكثر من خمسمائة قتيل له وحدهعليه‌السلام ، فهل كان المحرّقون وأنصارهم إلّا أولئك أصحاب الصخرة والموتورون؟ وكم عددهم لو اجتمعوا أمام القائل (والله لو اجتمعت العرب جميعاً على قتالي وحيداً لَـمَا ولّيت فراراً). ولكنّها الوصية والعَهْد.

____________________

(١) الموفّقيّات: ٥٨٠ - ٥٨١.

(٢) نفس المصدر السابق.

٢٢١

وذكر الزبير مشاهد من أحوال الناس بعد بيعة أبي بكر يطول بيانها من ذلك أنّه لـمّا كان من الغد، قام أبوبكر فخطب الناس، وقال: (إنّ لي شيطاناً يعتريني! فإيّاكم وإيّاي إذا غضت)(١) .

وقبلَ عرض بعض هذه المشاهد؛ نسأل: هل إنّ شيطان أبي بكر هو الذي أوقعه في هاوية لا مخرج منها لـمّا أمر عمر بن الخطّاب بأخذ عليّ بأعنف العنف وتحريق بيت العصمة والسيادة؟

ويبدو أنّ عمر بن الخطّاب أيضاً له شيطاناً يعتريه، ففي غضب أبي بكر اعتراه شيطانه فلم يجد غير عمر من يرسله، فلمّا أرسله اعتراه شيطانه فلم يعد يميّز بين سيّدة نساء العالمين ويردّها بعنف ويحرق باب بيت النبوّة.

ذكر الزبير بن بكّار في (الموفّقيّات):

أنَّ سريةً جاءت لعبد الرحمن أو لعبيد الله بن عمر بن الخطّاب إليه تشكوه فقال: ألا تعذرني من أبي عيسى؟ قال: ومن أبي عيسى؟ قالت: ابنك عبيد الله، قال: ويحك! وقد تكنّيت بأبي عيسى! ثمّ دعاه فقال: إيهاً أكتنيت بأبي عيسى! فحذر وفزع، وأخذ يده وعضّها ثمّ ضربه وقال: ويلك! وهل لعيسى أب؟ أتدري ما كُنَى العرب؟ أبو سَلَمة، أبو حَنْظَلة، أبو مُرّة(٢) .

قال الزبير:

وكان عمر إذا غضب على بعض أهله لم يسكن غضبه حتّى يعضّ يده عضّاً شديداً. وكان عبد الله بن الزبير كذلك، ولقوّة هذا الخلق عنده أضمر عبد الله بن عبّاس في

____________________

(١) الموفّقيّات: ٥٧٩.

(٢) نفس المصدر السابق: ٦٠٢ / ٣٩١.

٢٢٢

خلافته إبطال القول بالعَوْل(١) وأظهره بعده، فقيل له: هلاّ قلت هذا في أيّام عمر! فقال: هبتُه(٢) .

بُعداً لمهاجمة البيوت وتحريقها مفيدين من العهود والوصايا! وذبح من تصل إليه يد مع الأمر بالتحريق. فشتّان بين هذا وبين مبدأ أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام في الحرب.

مبدأ عليّعليه‌السلام في القتال

يوم الجمل وغيره من الأيّام، أمرعليه‌السلام أصحابه أن يصافّوهم ولا يبدؤوهم بقتال ولا يرموهم بسهم ولا يضربوهم بسيف ولا يطعنوهم برمح، وأن لا يجهزوا على جريح ولا يمثّلوا بقتيل، ولا يدخلوا داراً بغير إذن، ولا يشتموا أحداً ولا يلحقوا مدبراً ولا يهيجوا إمرأةً، ولا يأخذوا إلّا ما في عسكرهم، ولا يكشفوا عورةً، ولا يهتكوا ستراً.

عليٌّ! إنّ الغُلاة هم الذين خرجوا على الله ورسوله فحاربوك، وأوغلوا في دماء المسلمين من أجل الحاكميّة؛ والروافض هم الذين رفضوك وقد ارتضاك الله تعالى ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصالح المؤمنين، بل ران على قلوبهم فهم لا يفقهون.

ذكر الزبير مواقف المنحرفين عن أميرالمؤمنين، قال:

وكان خالد بن الوليد شيعةً لأبي بكر ومن المنحرفين عن عليّ(٣) فقام خطيباً، فقال:

____________________

(١) العَوْل: إرتفاع الحساب في الفرائض.

(٢) الموفّقيّات: ٦٠٢.

(٣) كيف لا يكون كذلك والمخزوميّات تحت آل مروان والحجّاج وآل طلحة وآل أبي بكر! ويوم بدر وتر أمير المؤمنين بني مخزوم، قوم خالد، بأكثر من نفر، منهم في الصميم من القربى منه:

١ - أبو قيس بن الوليد بن المغيرة المخزومي، أخو خالد بن الوليد. قتله عليّ بن أبي طالب. (المغازي، للواقديّ ١: ١٥، النسب، لابن سلّام: ٢١٠، أنساب الأشراف، للبلاذريّ ١: ٣٥٩،

٢٢٣

____________________

الإرشاد، للمفيد: ٦٣).

٢ - عبد الله بن أبي رفاعة بن أميّة بن المغيرة المخزومي. ابن عمّ خالد بن الوليد، قتله عليّ بن أبي طالب. (نفس المصادر السابقة).

٣ - مسعود بن أميّة بن المغيرة المخزوميّ. ابن عمّ خالد بن الوليد. قتله عليّ بن أبي طالب. (السيرة، لابن هشام ٢: ٣٦٨، المغازي ١: ١٥٠، أنساب الأشراف ١: ٣٥٩، الإرشاد: ٦٣).

وذكر ابن إسحاق: عبد الله بن المنذر بن أبي رفاعة بن عابد المخزوميّ. قتله عليّ بن أبي طالب. ولعلّه آخر. (السيرة النبويّة، لابن هشام ٢: ٣٦٩).

هؤلاء ألصق الناس بخالد المخزوميّ الذي فعل أفعاله الشنيعة منها قتله لمالك صاحب صدقات رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على تميم ودخوله بامرأته من غير عدّه، فلمّا قالوا لأبي بكر وأكثروا، قال: سيف من سيوف الله سلّه على أعدائه، فلن أغمده! ومن هنا جاءت تسمية خالد سيف الله.

ومن قوم خالد ممّن وتره بهم أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام يوم بدر:

٤ - يزيد بن تميم التميميّ، حليف بني مخزوم (وحليف القوم منهم) قتله عليّ بن أبي طالب. (أنساب الأشراف ١: ٣٥٩، المغازي ١: ١٥٠).

٥ - حرملة بن عمرو بن أبي عتبة من بني مخزوم. قتله عليّ بن أبي طالب. (السيرة النبويّة، لابن هشام ٢: ٣٦٨، المغازي ١: ١٥٠، أنساب الأشراف ١: ٣٥٩).

٦ - حاجز بن السائب بن عويمر بن عائذ بن عمران بن مخزوم (المغازي ١: ١٥١). وقيل: جابر بن السائب (أنساب الأشراف). وعن ابن الكلبيّ، وأبي عبيد، وابن هشام قالوا: حاجب بن السائب بن عويمر. قتله عليّ بن أبي طالب. (السيرة النبويّة، لابن هشام ٢: ٣٧٠، النسب: ٢١٢، الإرشاد: ٦٣).

٧ - عويمر بن السائب (أخو الذي سبقه). قتله عليّ بن أبي طالب. (نفس المصادر).

وليت خالداً برز إلى عليّعليه‌السلام ، ليلحقه بأخيه وابني عمّه وقومه فيريحه من العناء والنّصب!

وعليّعليه‌السلام وتر خالد بن الوليد بن المغيرة المخزوميّ يوم أحد بقتل ابني عمّه:

١ - أبو أميّة بن أبي حذيفة بن المغيرة المخزوميّ، ابن عمّ خالد. قتله عليّ بن أبي طالب. (السيرة، لابن هشام ٣: ١٣٥، المغازي ١: ٣٠٨، أنساب الأشراف ١: ٤٠٧، تاريخ خليفة: ٣٨، المعارف: ١٦٠، الإرشاد: ٨١).

٢ - هشام بن أبي أميّة بن المغيرة المخزوميّ. ابن عمّ خالد بن الوليد بن المغيرة المخزوميّ. قتله عليّ ابن أبي طالب. (طبقات ابن سعد ٢: ٤٣، الإرشاد: ٨١، مختصر تاريخ دمشق ١٧: ٣٢١).

ويوم الخندق (الأحزاب) إذ جاءت قوى الضلال بنفاقها ويهودها وشركها تقدمها (قريش) بزعامة أبي سفيان، وقريش هي الرائدة في مواقف الشرّ جميعها ولذا فإنّ (الأئمّة من قريش) بشهادة ابن النابغة عمرو! وعلى هذا أصفقت كلمتهم في مكافحة الأنصار!

في هذا اليوم، استطاع عَمرو بن عبد وَدّ أخو بني عامر بن لؤيّ، وابنه حِسْل بن عمرو، وضِرار

٢٢٤

(...، وإنّه والله، ما صاحب الأمر - يعني أبابكر - بالمسؤول عنه ولا المختَلف فيه، ولا الخفيّ الشخص ولا المغموز القناة)(١) .

____________________

ابن الخطّاب الفِهريّ. ومن بني مخزوم: هُبيرة بن أبي وهب المخزوميّ، وعِكرمة بن أبي جهل بن هشام بن المغيرة المخزوميّ؛ خالد ابن عمّ أبي جهل، ونَوْفل بن عبد الله بن المغيرة المخزوميّ ابن عمّ خالد بن الوليد. فطلب عمرو أن يبرز إليه أحد، فخَنَس الجميع بما فيهم أبطال التحريق! وبارزه عليّ فقتله. وانهزم الباقون. (السيرة النبويّة، لابن هشام ٣: ٢٦٥، تاريخ اليعقوبي ٢: ٥٠، طبقات ابن سعد ٢: ٦٦، المغازي ٢: ٤٩٦، المحبّر: ١٧٥، جمهرة النسب: ١١٠، أنساب الأشراف ١: ٤٢٩، النسب، لابن سلاّم: ٢١٧، تاريخ الطبريّ ٢: ٢٤٠).

قال ابن هشام: وحدّثني الثقة عن ابن شهاب الزّهريّ أنّه قال: قتل عليّ بن أبي طالب يومئذ عمرو بن عبد وُدّ وابنه حِسْل بن عمرو. (السيرة ٣: ٢٦٥).

قال اليعقوبيّ: وكَبا بِنَوْفل - ابن عمّ خالد - فرسه فلحقه عليّ فقتله. (تاريخ اليعقوبي ٢: ٥، المغازي ٢: ٤٩٦، تاريخ الطبريّ ٢: ٢٤٠، جمهرة النسب: ٨٧، نسب قريش: ٣١٩).

هؤلاء بنو عمّ خالد بن الوليد بن المغيرة المخزوميّ ممّن جنْدلَهم سيف ذي الفقار؛ مع أخ خالد بن الوليد، في معارك ثلاث، غير من صرعهم إلى جهنّم من قوم خالد؛ فكيف لا يكون منحرفاً عن عليّعليه‌السلام ؟!

وهل صحّ من خالد إسلام؟ صحيح أنّ أمّ عمر بن الخطّاب مخزوميّة وأنّها ابنة عمّ خالد فهي: حَنْتَمة بنتُ هاشم بن المغيرة المخزميّة، وخالد بن الوليد بن المغيرة المخزوميّ، إلّا أنّ هذا ليس بشافع لخالد فهو حتّى ذي القعدة سنة سبع، ما زال في كفر وزندقة! فخالد خال عمر؛ وليس بقاعدة مطّردة وحتميّة: (الخال أحد الضجيعين!) في قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعمر أسلم قبل خالد بقليل.

شهر ذي القعدة سنة سبع خرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معتمراً عمرة القضاء وتسمّى عمرة القصاص، لأنّ المشركين صدّوا رسول الله عن العمرة في شهر ذي القعدة سنة ستّ. (السيرة النبويّة، لابن هشام ٤: ١٢).

فرار خالد: (وكان خالد بن الوليد خرج من مكّة فراراً أن يرى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه، كراهةً للإسلام وأهله). (نسب قريش: ٣٢٤).

وكان ابنه عبدالرحمن بن خالد بن الوليد، على سرّ أبيه، وكان عظيم الشأن عند أهل الشأم، وشهد مع معاوية صفّين؛ ومع ذلك ولما رآه من تعظيم أهل الشأم له، خافه وحسده فدسّ إليه بطريق متطبّب يقال ابن أثال، فسقاه في دواء شربة فمات. (نفس المصدر السابق: ٣٢٤ - ٣٢٧).

(١) الموفقيّات: ٥٨١ / ٣٨١.

٢٢٥

موقف الأنصار من بيعة أبي بكر

قال الزبير: وحدثنا محمّد بن موسى الأنصاريّ، قال: حدّثني إبراهيم بن سعيد بن إبراهيم بن عبدالرحمن بن عوف الزّهريّ قال:

لمّا بويع أبوبكر واستقرّ أمره، ندم قوم كثير من الأنصار على بيعته ولام بعضهم بعضاً، وذكروا عليّ بن أبي طالب وهتفوا باسمه. وإنّه في داره فلم يخرج إليهم(١) ؛ وجزع لذلك المهاجرون، وكثر في ذلك الكلام!

وكان أشدّ قريشٍ على الأنصار نفرٌ فيهم، وهم: سهيل بن عمرو أحد بني عامر بن لؤيّ؛ والحارث بن هشام، وعكرمة بن أبي جهل المخزوميّان، وهؤلاء أشراف قريش الذين حاربوا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثمّ دخلوا في الإسلام، وكلّهم موتور قد وتره الأنصار.

أمّا سهيل بن عمرو فأسره مالك بن الدخشم يوم بدر، وأمّا الحارث بن هشام فضربه عروة بن عمرو فجرحه يوم بدر، وهو فارّ عن أخيه. وأمّا عكرمة بن أبي جهل فقتل أباه ابنا عفراء، وسلبه درعه يوم بدر زياد بن لبيد، وفي أنفسهم ذلك.

فلمّا اعتزلت الأنصار تجمّع هؤلاء، فقام سهيل بن عمرو فقال: يا معشر قريش، إنّ هؤلاء القوم قد سمّاهم الله الأنصار، وأثنى عليهم في القرآن فلهم بذلك حظّ عظيم وشأن غالب، وقد دعوا إلى أنفسهم وإلى عليّ بن أبي طالب، وعليّ في بيته لو شاء لردّهم! فادعوهم إلى صاحبكم وإلى تجديد بيعته، فإن أجابوكم وإلاّ قاتلوهم، فوالله إنّي لأرجوا الله أن ينصركم عليهم كما نُصرتم به(٢) .

____________________

(١) هذا ما يؤكّد أنّهعليه‌السلام متّبع وصيّة نبيّ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعهده، وإلاّ فقد ذاقت قريش زعاف حدّ سيف ذي الفقار، وها هي كتيبة الإسلام (الأنصار) معه!

(٢) الموفّقيّات: ٥٨٣ - ٥٨٤ / ٣٨٢.

٢٢٦

تهافت أقوال وحُجج داحضة، يحُكم غَزله ويُنقضه، فهو يقرّ بفضل القوم لأنّ الله عزّ وجلّ هو الذي سمّاهم الأنصار وما في هذا من معنى، فهم أنصار الله من خلال نصرة دينه ونبيّه وإيوائهم للمهاجرين فراراً من ظلم سهيل بن عمرو وفلان وفلان من قريش فقاسموهم أسباب الحياة، فاستحقّوا دعاء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهم وللمدينة بالبركة والحرمة ومضاعفة الخير وأن يجعل الله تعالى البركة فيهم ضعفي ما بمكّة! وأن يعجّل الله تعالى بانتقامه ممّن أحدث بها حدثاً وأراد بها سوءاً. ولم يتحوّل منها وإنّما جعلها مقرّ حكومتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وانتهى الأمر به أن دخل معهم، لثقته بهم، في حلف غاية في الشدّة.

ونورد من أخبار العقبة الثانية وهو طويل: (خرج من الأنصار ثلاثة وسبعون رجلاً، ومعهم امرأتان حتّى اجتمعوا عند العقبة، فجاءهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومعه عمّه العبّاس بن عبد المطّلب، وهو يومئذ على دين قومه، إلّا أنّه أحبّ أن يحضر أمر ابن أخيه ويتوثّق له. فلمّا جلس كان أوّل من تكلّم العبّاس فقال: يا معشر الخزرج - وكانت العرب إنّما يسمّون هذا الحيّ من الأنصار: الخزرج، خزرجها وأوسها -: إنّ محمّداً منّا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا، ممّن هو على مثل رأينا فيه، فهو في عزّ في قومه ومَنَعة في بلده، وإنّه أبى إلّا الانحيازَ إليكم، واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنّكم وافون بما دعوتموه إليه، ومانعوه ممّن خالفه، فأنتم وما تحمّلتم من ذلك، وإن كنتم تَروْن أنّكم مُسْلموه وخاذِلوه بعد الخروج به إليكم، فمن الآن فَدَعُوه، فإنّه في عِزّ ومَنَعة من قومه وبلده. فقالوا له: قد سمعنا ما قلت، فتكلّمْ يا رسول الله، فخذ لنفسك ولربّك ما أحببت. فتكلّم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فتلا القرآن، ودعا إلى الله، ورغّب في الإسلام، ثمّ قال: (أبايعكم على أن تمنعوني ممّا تمنعون منه نساءكم وأبناءكم).

٢٢٧

فأخذ البَراء بن مَعْرور بيده ثمّ قال: نعم، والذي بعثك لنمنعنَّك ممّا نمنع منه أُزُرَنا(١) ، فبايِعْنا يا رسول الله، فنحن والله أبناء الحروب، وأهل الحَلْقة(٢) ، ورِثناها كابراً عن كابر. فاعترض القول، والبراء يكلّم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أبو الهيثم بن التّيهان، فقال: يا رسول الله، إنّ بيننا وبين الرجال حبالاً حبالاً، وإنّا قاطعوها - يعني اليهود - فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك، ثمّ أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ فتبسّم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثمّ قال: (بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم منّي، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم)(٣) . وليس مثل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول ما لا يفعل! أو يقول ما لا يدري! على جرأة: إنّ الرجل ليهجر! أعوذ بالله من ذلك.

ولقد وجدنا من حلف النبيّ مع الأنصار أنّه منهم وهم منه فمَن نال منهم نال من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وحربهم حرب لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، للحرمة الواحدة!

وسهيل بن عمرو إذ أقرّ بشأن الأنصار الغالب! لأنّ القرآن سمّاهم بهذا الاسم (الأنصار)، فهو لم يشر إلى أقوال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيهم، وضمّ نفسه الزكيّة إليهم وأنّ سلمهم سلمه وحربهم حربه وإراقة دمائهم إراقة دمه الطاهر! ونقض غزله إذ مضى في القول أنّهم هتفوا باسم عليّ، وعليّ في البيت لو شاء لردّهم!

ولذا فهو يرى دعوة الأنصار ليجدّدوا بيعتهم فإن لم يفعلوا وجب قتالهم وأنّهم منتصرون عليهم - كما يرى - كما نصرهم من قبل.

لو أنّ شخصاً في أقصى الصين عارف بعليّعليه‌السلام ، وهتف باسمه، فعليٌّ مسؤول عنه.

____________________

(١) أزرنا: أي نساءنا. والمرأة قد يكنّى عنها بالإزار، كما يكنّى بالإزار عن النفس.

(٢) الحلقة: أي السلاح.

(٣) السيرة النبويّة، لابن هشام ٢: ٨٣ - ٨٥.

٢٢٨

والأنصار لـمّا اجتمعت كلمتهم لم يجدوا غير عليّ كُفؤاً بل ولم يجدوا من يقرب منه منزلةً!

هذا بشأن الأنصار، أمّا بشأن أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام: فهو غير مسؤول عن أفعال غيره، وإنّما هناك سلطان إن تعامل مع الأشياء بحكمةٍ وعقل ولم يَعْترِه شيطانه، ولم يُرسل ثائر المزاج يعضّ يده غضباً، وإنّما تخيّر جماعة من ذوي الحجى - وإن كان أكثرهم ما زال معتزلاً - لمفاوضة الأنصار بالتي هي أحسن؛ فهو أفضل من الدعوة إلى القتال وإن أدّى إلى الانتصار المزعوم. ولا أدري متى نصرهم الله تعالى؟ في معاركهم مع رسول الله وأنصاره من أهل المدينة الطيّبة! وسهيل بن عمرو هو الذي كتب بيده معاهدة عمرة القضيّة (القصاص) - مضى ذكرها - سنة سبع، وأبى على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يكتب فيها بسم الله الرحمن الرحيم، ورفض كتابة رسول الله مقرونةً باسم النبيّ، محتجّاً: لو كنت أعلم أنّك نبيّ ما قاتلتك؛ ولم يسلم سهيل بن عمرو إلّا يوم فتح مكّة فهو من الطّلقاء. وهو إذا كان موتوراً بأسر الأنصار له يوم بدر؛ فهو موتور وتره أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام بقتل ابن عمّه فارس قريش ٠ عمرو بن عبد بن أبي قيس بن عبد ودّ العامريّ) وهو (سهيل بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ودّ) فاضطغنها المقهوم بسيف الأنصار والموتور بذي الفقار، فأعرب عن مكنونه إذ هتفوا باسم عليّ وقبلهم هتف الوحي ببسالته ونزل القرآن بولايته وأكّده رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرّةً بعد أخرى، فما ذنب الأنصار بعدئذ؛ ومن ثمّ أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام ؛ أم أمنتم صولة الأنصار احتراماً لوصيّة النبيّ لهم بالصبر بعده لـما يلقونه من أثرة (الأئمّة من قريش)، واطمأنّت نفوسكم لحملة الكرّار عليّ لوصيّة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له بما أوصى الأنصار (الصبر)!

٢٢٩

قال الزبير: ثمّ قام الحارث بن هشام(١) فقال: إن يكن الأنصار تبوّأت الدار والإيمان من قبل، ونقلوا رسول الله إلى دورهم من دورنا، فآووا ونصروا، ثمّ ما رضوا حتّى قاسمونا الأموال، وكفّونا العمل، فإنّهم قد لهجوا بأمر، إن نبتوا عليه، فإنّهم قد خرجوا ممّا وُسِموا به، وليس بيننا وبينهم إلّا السيف، وإن نزعوا عنه فقد فعلوا الأَوْلى بهم، والمظنون معهم(٢) .

المنطق واحد: فهو لا يستطيع دفع حقيقة تلك هي أنّ الأنصار تقدّمت في إسلامها وعظم إيمانها حتّى صارت بقعةً مؤهّلةً أن يتحوّل إليها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويترك أحبّ البقاع إليه (مكّة) ولو أنّ المشركين من أمثال الحارث بن هشام وإخوته وعشيرته وبني حرب وغيرهم لم يتحوّل، حتّى صار إلى الدعاء بأن يحبّب الله له المدينة كحبّه مكّة وأشدّ، وأن يجعل البركة فيها ضعفي ما في مكّة. كلّ هذا والحارث وقومه ومشركوا قريش عاكفون على آلهتهم يستمدونها النصر! حتّى جاء النّصر من الله تعالى لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والفتح المبين؛ فدخل النبيّ مكّة في عشرة آلاف مسلم، وعملت الفؤوس في آلهة الشرك تحطيماً وتكسيراً من غير أن تردّ عن نفسها شيئاً فآمن عندها من آمن من أهل مكّة ومنهم من قال بالتوحيد وأظهر الإسلام حفظاً على نفسه ولكن قتْل الأحبّة! جرح لـمـّا يندمل!

____________________

(١) الحارث بن هشام بن المغيرة المخزوميّ، ابن عمّ خالد بن الوليد بن المغيرة المخزوميّ. شهد بدراً مع المشركين؛ فكان فيمن انهزم، فعيّره حسّان بن ثابت، وله شعر في ذلك. وكان مع المشركين يوم أحد، ولم يزل متمسّكاً بالشّرك حتّى يوم فتح مكّة فأظهر الإسلام. يقولون إنّ أم هانئ استأمنت له فأمّنه رسول الله، وخرج أيّام عمر بأهله إلى الشأم فأقام بها حتّى مات. نسب قريش: ٣٠١ - ٣٠٢.

(٢) نفس المصدر السابق: ٥٨٤.

٢٣٠

وهذا المخزوميّ الحارث بن هشام وقد ذكر الزبير شيئاً من سيرته وذكرنا شيئاً آخر، ونذكر هنا بعضاً آخر: فقد قتل أخوه لأبيه وأمّه (عمرو، وهو أبوجهل بن هشام) قتل يوم بدر كافراً. وذكرنا فيمن قتلهم أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام ، يوم بدر: أبو قيس بن الوليد، أخو خالد بن الوليد؛ ومسعود بن أميّة بن المغيرة، ابن عمّ خالد، وعبد الله بن أبي رفاعة بن أميّة بن المغيرة، ابن عمّ خالد؛ وهشام بن المغيرة هو عمّ خالد بن الوليد بن المغيرة. وغير هؤلاء فقد ذكرنا عدداً ممّن قتلهم أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام يوم بدر وهم قوم بني المغيرة من بني مخزوم، غير مَن قتل منهم يومَ أُحد!

وبعد إقراره مرغماً! بفضل الأنصار في أنّ دارهم هي دار الإيمان وهم أهل السبق وبهم انتصر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد قاسموا المهاجرين أموالهم وكفوهم العمل! بعد كلّ هذا فليس لهم أن يطلبوا أمراً إنّما هو لمن لم يرمِ بسهم ولم يطعن برمح ولا خدش بسيف ولم يضمّ رسول الله نفسه إليه ولم يجعل حربه حربه وسلمه سلمه ودمه دمه!! مثلما جعل ذلك للأنصار.

فإذا تكلّموا في ذلك فقد أخرجهم المخزوميّ الحارث بن هشام ممّا وسموا به وليس بينه وبينهم إلّا السيف الذي ما نفعه يوم بدر، إذ ولّى هارباً عن أخيه منشغلاً بجرحه؛ فمن أين أتته العزيمة الآن في مجابهة الأنصار، الوصيّة بالصبر على الأثرة؟!

عِكرمة بن أبي جَهْل: قال: ثمّ قام عكرمة بن أبي جهل(١) فقال: والله لولا قول رسول الله: (الأئمّة من قريش)، ما أنكرنا إمرة الأنصار ولكانوا لها أهلاً، ولكنّه قول لا شكّ فيه ولا خيار، وقد عجلت الأنصار علينا، والله ما قبضنا عليهم الأمر ولا أخرجناهم من الشورى، وإنّ الذي هم فيه من فلتات الأمور ونزغات الشيطان، وما لا يبلغه المنى ولا يحمله الأمل، أعذِروا إلى القوم فإن أبوا فقاتلوهم، فوالله لو لم يبق

____________________

(١) عكرمة هذا ابن أخ الحارث بن هشام المتكلّم قبله، موتور بأبيه ومن ذكرنا من آل مخزوم كما ذكرنا.

٢٣١

من قريش كلّها إلّا رجل واحد لصيّر هذا الأمر فيه(١) .

لا كلام مع عكرمة فهو موتور وَتَره الأنصار بأبيه أبي الجهل والضّلال! وموتور بحشد من بني مخزوم. ولكن لو علِم من الأنصار جِدّاً، هل يفوه بذلك؟!

ومن هوان الدنيا أن يكون أبو سفيان من المتكلّمين في الأنصار فيشنأهم!

قال: وحضر أبو سفيان صخر بن حرب فقال:

يا معشر قريش، إنّه ليس للأنصار أن يتفضّلوا على الناس حتّى يقرّوا بفضلنا عليهم، فإن تفضَّلوا فحسبنا حيث انتهى بها، وإلاّ فحسبهم حيث انتهى بهم، وأيم الله لئن بطروا المعيشة وكفروا النعمة، لنضربنّهم على الإسلام كما ضربوا عليه(٢) .

لقد فضّلهم الله تعالى، ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وفضلّكم خاصّة أنت ومعشر المتكلّمين: أنّكم حاربتم الإسلام حتّى سنة الفتح المبين، فأظهرتم الإسلام تعوّذاً، فدخلتم فيه مقهرين وخرجتم منه طائعين. ذكركم في الجاهليّة خامل وسيرتكم مذمومة، وفي الإسلام طلبتم ثارات بدر وحنين. نسبكم مدخول! وأنت وابناك ممّن لعنهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أكثر من موضع! فبأيّ شيء تَفْضُلونَ أنصار الله ورسوله؟!

وعجب قولك: بطروا المعيشة! وكفروا النعمة؛ وكأنّهم عالة عليك وعلى قريش! وأنت المنعوت بالشُّحّ حتّى شَكَتْكَ هِندٌ إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فرخّص لها أن تأخذ من جيبك مقدار حاجتها، مع تقلّبك بين البغايا وحانات الخمور؛ والأنصار قاسمت إخوانهم المهاجرين كلّ شيء من أسباب الحياة. وأيّ نعمة كفَر الأنصار بها؟ نعمةَ الإسلام التي ضربتك وقومك وأحزاب الضّلالة عليه؟! فلو كفروا به؛ لنقض رسول

____________________

(١) نسب قريش: ٣٠١ - ٣٠٢.

(٢) نفس المصدر السابق: ٥٨٤ - ٥٨٥.

٢٣٢

اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حلفه معهم، ولما أبقى حربهم حربه وسلمهم سلمه، فالهدم الهدم والدم الدم؛ ولنقل ذلك - وحاشا له أن يفعل! - إليك؛ لتكون آخر عمرك رجلاً شجاعاً وتأخذ بثارات حنظلة وشيبة وعتبة وعقبة وو...؛ ولكن كيف يحالفك وقد لعنك؟! وممّن تأخذ ثارك؟ فأوّل من تبدأ به أخاه ووصيّه عليّ بن أبي طالب!

قال الزبير بن بكّار: فلمّا بلغ الأنصار قول هؤلاء الرّهط قام خطيبهم ثابت بن قيس ابن شماس فقال:

يا معشر الأنصار، إنّما يكبر عليكم هذا القول لو قاله أهل الدين من قريش، أمّا إذا كان من أهل الدنيا لا سيّما من أقوام كلّهم موتور فلا يكبُرنّ عليهم، إنّما الرأي والقول مع الأخيار المهاجرين. فإن تكلّمت رجال قريش الذين هم أهل الآخرة مثل كلام هؤلاء، فعند ذلك قولوا ما أحببتم وإلاّ فأمسكوا(١) .

وما أن سكنت الأمور حتّى قدم عمرو بن العاص في سفر كان فيه فحرّك الفتنة ونال من سعد بن عبادة والأنصار، وله في ذلك شعر، فبلغ الأنصار ذلك فبعثوا إليه لسانهم وشاعرهم النعمان بن العجلان، فأتى عمراً وهو في جماعة من المهاجرين فردّ عليه مقالته وممّا قال له:

فأمّا المهاجرون والأنصار فلا فرق بينهم أبداً، ولكنّك يا ابن العاص وترت بني عبد مناف بمسيرك إلى الحبشة لقتل جعفر وأصحابه، ووترت بني مخزوم بإهلاك عُمارة ابن الوليد، ثمّ انصرف فقال:

فقل لقريشٍ: نحن أصحاب مكّة

ويوم حُنين والفوارس في بدر

وأصحاب أحْدٍ والنضير وخيبرٍ

ونحن رجعنا من قُريظةَ بالذكر

ويوم بأرض الشام أدخل جعفر

وزيد وعبدالله في عَلَقٍ يجري

____________________

(١) نسب قريش: ٥٨٥.

٢٣٣

وفي كلّ يوم ينكر الكلبُ أهله

نطاعن فيه بالمثقّفةِ السُّمْر

ونضرب في نقع العجاجة أرؤساً

ببِيضٍ كأمثال البروق إذا تسري

نصرنا وآوينا النبيّ ولم نخفْ

صروف الليالي والعظيمَ من الأمر

وقلنا لقوم هاجروا قبل: مرحباً

وأهلاً وسهلاً قد أمنتم من الفقر

نقاسمكم أموالنا وبيوتنا

كقسمة أيسار الجزور على الشَّطر

ونكفيكُم الأمر الذي تكرهونه!

وكنّا أناساً نُذهب العُسر باليُسر

وقلتُم: حرامٌ نصب سعد ونصبكم

عتيق بن عثمان حلالٌ أبابكر

وأهلٌ أبوبكر لها خير قائمٍ

وإنّ عليًّا كان أخْلقَ بالأمر

وكان هواناً في عليّ وإنّه

لأهلٌ لها يا عمرو بن حيث لا تدري

فذاك بعون الله يدعو إلى الهدى

وينهى عن الفحشاء والبغي والنُّكر

وصيُّ النبيّ المصطفى وابنُ عمّه

وقاتلُ فرسان الضلالة والكفر

فلو لا اتقاء الله لم تذهبوا بها

ولكن هذا الخير أجمعُ للصبر

ولم نرضَ إلّا بالرضا ولربّما

ضربنا بأيدينا إلى أسفل القِدر(١)

تعقيب: قوله (وتَرتَ بني عبد مناف...)؛ ذلك أنّ قريشاً بعثت عمرو بن العاص وعُمارة بن الوليد إلى النجاشيّ بشأن المهاجرين إليه مع جعفر بن أبي طالب لتسليمهم إلى قريش وقد جمعوا للنجاشيّ هديّة، فلمّا يئس عمرو، مَحِلَ - أي وشى - عند النجاشيّ، فتزعم قريش أنّه سَحَره، فذهب مع الوحش فلم يزل مستوحشاً حتّى مات(٢) .

____________________

(١) نسب قريش: ٥٩٢ - ٥٩٤.

(٢) جمهرة النسب: ٨٨، نسب قريش: ٣٢٢، طبقات ابن سعد ٤: ١٠٥.

٢٣٤

فلمّا انتهى شعر النعمان وكلامه إلى قريش غضب كثير منهم، وألفى ذلك قدوم خالد بن سعيد بن العاص من اليمن، وكان رسول الله استعمله عليها، وكان له ولأخيه أثر عظيم في الإسلام، وهما من أوّل من أسلم من قريش، ولهما عبادة وفضل.

فغضب للأنصار، وشتم عمرو بن العاص، وقال: يا معشر قريش، إنّ عمراً دخل في الإسلام حين لم يجد بدّاً من الدخول فيه، فلمّا لم يستطع أن يكيده بيده كاده بلسانه، وإنّ من كيده الإسلام تفريقه وقطعه بين المهاجرين والأنصار.

والله ما حاربناهم للدّين ولا للدّنيا، ولقد بذلوا دماءهم لله فينا وما بذلنا دماءنا لله فيهم، وقاسمونا ديارهم وأموالهم وما فعلنا مثل ذلك بهم، وآثرونا على الفقر وحرمناهم على الغنى، ولقد وصّى رسول الله بهم، وعزّاهم عن جفوة السلطان، فأعوذ بالله أن أكون إيّاكم الخَلَف المضيّع، والسلطان الجاني!

ولخالد بن سعيد شعر في ذلك يردّ على عمرو بن العاص ويتكلّم فيه عن فضائل الأنصار، لم نذكره خوف الإطالة(١) .

ابن العاص والأنصار، مرّة أخرى!

حاله حال معاوية فإنّ الذي فيهما ما زال يحركهما حتّى أرداهما في هاوية سحيقة! قال الزبير: ثمّ إنّ رجالاً من سفهاء قريش ومثيري الفتن منهم، أجمعوا إلى عمرو بن العاص فقالوا له: إنّك لسان قريش ورجلها في الجاهليّة والإسلام، فلا تدع الأنصار وما قالت، وأكثروا عليه من ذلك، فراح إلى المسجد، وفيه ناس من قريش وغيرها، فتكلّم وقال: إنّ الأنصار ترى لنفسها ما ليس لها، وأيمُ الله وددتُ أنّ الله خلّى عنّا

____________________

(١) الموفّقيّات: ٥٩٤ - ٥٩٥.

٢٣٥

وعنهم، وقضى فيهم وفينا بما أحبّ، ولنحن الذين أفسدنا على أنفسنا، أحرزناهم عن كلّ مكروه! وقدّمناهم إلى كلّ محبوب حتّى أمنوا المخوف، فلمّا جاز لهم ذلك صَغروا حقّنا ولم يراعوا ما أعظمنا من حقوقهم(١) .

ثمّ التفت فرأى الفضل بن العبّاس بن عبد المطّلب! وندم على قوله، للخؤولة التي بين ولد عبدالمطّلب وبين الأنصار، ولأنّ الأنصار كانت تعظّم عليًّا، وتهتف باسمه حينئذ، فقال الفضل: يا عمرو، إنّه ليس لنا أن نكتم ما سمعنا منك، وليس لنا أن نجيبك وأبو الحسن شاهد بالمدينة إلّا أن يأمرنا فنفعل.

ثمّ رجع الفضل إلى عليّ فحدّثه، فغضب وقال: (آذى الله ورسوله)، ثمّ أتى المسجد، فاجتمع إليه كثير من قريش وتكلّم مغضباً فقال: (يا معشر قريش، إنّ حبّ الأنصار إيمان وبغضهم نفاق، وقد قضوا ما عليهم وبقي ما عليكم. واذكروا أنّ الله رغب لنبيّكم عن مكّة فنقله إلى المدينة، وكره له قريشاً فنقله إلى الأنصار، ثمّ قدمنا عليهم ديارهم، فقاسمونا الأموال وكفونا العمل، فصرنا منهم بين بذل الغنيّ وإيثار الفقير، ثمّ حاربنا الناس فوقونا بأنفسهم، وقد أنزل الله تعالى فيهم آية من القرآن، جمع لهم فينا خمس نعم، فقال:( وَالّذِينَ تَبَوّءُوْا الدّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى‏ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) (٢) .

____________________

(١) نفس المصدر السابق: ٥٩٥ / ٣٨٦. (عجب! ولا عجب من ابن النابغة؛ من لا يعلم أنّ الأنصار هم الذين آووا المهاجرين وقاسموهم ما يملكون ودفعوا عنهم كلّ مكروه؛ فقلب ابن النابغة الأمور).

(٢) الحشر: ٩.

٢٣٦

ألا وإنّ عمرو بن العاص قد قام مقاماً آذى فيه الميّت والحيّ، ساء به الواتر وسرّ به الموتور فاستحقّ من المستمع الجواب ومن الغائب المقت، وإنّه مَن أحبّ الله ورسوله أحبّ الأنصار، فليكفف عمرو عنّا نفسه)(١) .

قال الزبير: فمشت قريش عند ذلك إلى عمرو بن العاص فقالوا: أيّها الرجل، أما إذ غضب عليّ فاكفُف(٢) .

إذاً إذا صار الأمر في حقّ غيره غضب الليث فهابته قريش، كيف وصوارم بني هاشم والأنصار مرهفة! أمّا في حقّ نفسه فهو قيد الوصيّة.

قال الزبير: وقال عليٌّ للفضل: (يا فضل، انصر الأنصار بلسانك ويدك، فإنّهم منك وإنّك منهم)، فقال الفضل:

قلتَ يا عمرو مقالاً فاحشاً

إنْ تعدو يا عمرو والله فلك

إنّما الأنصارُ سيفٌ قاطع

مَن تصيبه ظُبَة السيف هلك(٣)

وسيوفٌ قاطع مضرَبهُا

وسهام الله في يوم الحَلَك

نصروا الدين وآووا أهله

منزلٌ رحْبٌ ورِزق مشترك

وإذا الحربُ تلظّت نارها

بركوا فيها إذا الموت بَرك

ودخل الفضل على عليّ فأسمعه شعره، ففرح به وقال: وريْتُ بك زنادي يا فضل، أنت شاعر قريش وفتاها، فأظهر شعرك وابعث به إلى الأنصار).

فلمّا بلغ ذلك الأنصار قالت: لا أحد يجيب إلّا حسّان الحسام. فبعثوا إلى حسّان بن

____________________

(١) الموفّقيّات: ٥٩٦.

(٢) نفس المصدر السابق: ٥٩٧ / ٣٨٧.

(٣) ظبة السيف: حدّه.

٢٣٧

ثابت، فعرضوا عليه شعر الفضل فقال: كيف أصنع بجوابه! إنْ لم أتحرَّ قوافيه فضحني، فرويداً حتّى أقفوا أثره في القوافي. فقال له خُزَيمَة بن ثابت - ذو الشهادتين - إذ جعل النبي شهادته تعدل شهادة رجلين -: اذكر عليًّا يكفِك عن كلّ شيء، فقال:

جزى الله عنّا والجزاءُ بكفِّه

أبا حسنٍ عنّا ومَن كأبي حسن!

سبقتَ قريشاً بالذي أنت أهله

فصدرُك مشروح وقلبك ممتَحن

تمنّت رجالٌ من قريش أعزّةٌ

مكانك، هيهات الهزال من السِّمَن

وأنت من الإسلام في كلّ موطن

بمنزلة الدَّلو البَطين من الرَسَن

غضبتَ لنا إذ قام عمروٌ بخطبةٍ

أمات بها التقوى وأحيا بها الإحَن

فكنتَ المرُجّى من لؤيّ بن غالب

لما كان منهم والذي كان لم يكن

حفظت رسول الله فينا وعهده

إليك ومَن أولى به منك مَنْ ومَنْ؟!

ألستَ أخاه في الهدى و وصيَّه

وأعلَمَ منهم بالكتاب وبالسُّنن

فحقك ما دامت بنجد وشيجةٌ

عظيمٌ علينا ثمّ بعد على اليمن

قال الزبير: وبعثت الأنصار بهذا الشعر إلى عليّ بن أبي طالب، فخرج إلى المسجد فقال لمن به من قريش وغيرهم: (يا معشر قريش، إنّ الله جعل الأنصار أنصاراً، فأثنى عليهم في الكتاب، فلا خير فيكم بعدهم. إنّه لا يزال سفيه من قريش وغيرهم وتره الإسلام ودفعه عن الحقّ وأطفأ شرفه وفضّل غيره عليه، يقوم مقاماً فاحشاً فيذكر الأنصار، فاتّقوا الله وارعوا حقّهم، فو الله لو زالوا لزلتُ معهم لأنّ رسول الله قال لهم: أزول معكم حيثما زُلتم). فقال المسلمون جميعاً: رحمك الله يا أبا الحسن، قلت قولاً صادقاً.

٢٣٨

قال الزبير: وترك عمرو بن العاص المدينة، وخرج منها حتّى رضي عنه عليٌّ والمهاجرون(١) .

هذه هي الأنصار في مجدها وفضلها، نطق القرآن الكريم بذلك، ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وخير البريّة: خليفة رسول الله وأميرالمؤمنين حقّاً عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام وخيرة الأمّة؛ فاتخذ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مدينتهم مقرّاً له ومدفناً وأبى أن يرجع إلى مكّة إلّا في حجّ وعمرة؛ وحالفهم من بين الأقوام؛ ولم ينكر فضلهم ويزيلهم عن منزلتهم التي أنزلهم الله ورسوله ووليّه إيّاها، إلّا مشكوك في إيمانه مدخول في نسبه مع تفاوت في هذه المسألة.

ومع ذلك كلّهم وكما ذكرنا: فإنّ الذي فتح باب التعرّض بالإهانة للأنصار ولمدينة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومن ثمّ إراقة دمائهم ودماء أهل البيتعليهم‌السلام ، هم الأوائل بما أحدثوه يوم السقيفة وتتبّع من لم يعط البيعة وقد خرج إلى بلد آخر فشكّوا فؤاده ونسبوا ذلك إلى الجنّ! وسلّطوا الأدعياء والطّلقاء على رقاب المسلمين ودافعوا عن الزّناة ودرؤوا عنهم الحدّ! فلم تكن همّة المتسلّطين إلّا الطلب بثارات بدر وأحد وحنين. فبدأها معاوية بغارات التهديد والإرجاف والوعيد ثمّ كانت كربلاء وتبعتها الحرّة فالعدوان على بيت الله الحرام ودكّ الكعبة بالمنجنيق مرّتين. وبمعرفة العدوّ والخصم وسيرته، تعرف فضل الآخر فبعد الذي كان من ابن النابغة، كان الوليد بن عُقْبة بن أبي مُعَيْط.

قال الزبير: ثمّ إنّ الوليد بن عقبة بن أبي معيط، وكان يبغض الأنصار، لأنّهم أسّروا أباه يوم بدر، وضربوا عنقه بين يدي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قام يشتم الأنصار ويذكرهم بالهُجْر. وممّا قاله: (والله ما نستطيع مودّتهم لأنّه لا يزال قائل منهم يذكر ذلّنا بمكّة وعزّنا بالمدينة، ولا ينفكّون يعيّرون موتانا ويغيظون أحياءنا....).

____________________

(١) الموفّقيّات: ٥٩٨ - ٥٩٩.

٢٣٩

وله شعر يردّ به على الأنصار وينكر فضلهم، ويردّ على حسّان بن ثابت، هذا آخر بيت منه:

وأهلٌ بأن يُهجَوا بكلّ قصيدة

وأهلُ بأن يُرمَوا بنبل فواقر

ففشا شعره في الناس، فغضبت الأنصار وغضب لها من قريش قوم، منهم ضرار بن الخطّاب الفهريّ وزيد بن الخطّاب(١) ، ويزيد بن أبي سفيان، فبعثوا إلى الوليد فجاء.

فتكلّم زيد بن الخطاب فقال: يا ابن عُقبة بن أبي مُعَيْط! أما والله لو كنت من الفقراء المهاجرين الذي أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً؛ لأحببت الأنصار، ولكنّك من الجفاة في الإسلام البطآء عنه الذين دخلوا فيه بعد أن ظهر أمر الله وهم كارهون.

إنّا نعلم أنّا أتيناهم ونحن فقراء فأغنونا، ثمّ أصبنا الغنى فكفّوا عنّا. ولم يرزؤونا شيئاً. فأمّا ذكرهم ذلّة قريش بمكّة وعزّها بالمدينة فكذلك كنّا. وكذلك قال الله تعالى:( وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطّفَكُمُ النّاسُ ) (٢) ، فنصرنا الله بهم، وآوانا إلى مدينتهم. وأمّا غضبك لقريش فإنّا لا ننصر

____________________

(١) زيد بن الخطّاب، أخو عمر بن الخطّاب لأبيه. كان من المهاجرين الأوّلين. أسلم قبل عمر. شهد بدراً. (السيرة، لابن هشام ٢: ٣٣٩، المغازي ١: ١٥٦، طبقات خليفة: ٥٥) وأحداً والخندق والمشاهد الأخرى (طبقات ابن سعد ٣: ٣٧٧، الاستيعاب ١: ٥٤١، تهذيب الكمال ١٠: ٦٥٠، أسد الغابة ٢: ٢٨٦). وفي نسب قريش: ٣٤٨: شهد بدراً وأحداً. وشهد بيعة الرضوان (الاستيعاب ١: ٥٤١). وقتل يوم اليمامة (جمهرة النسب: ١٠٥، نسب قريش: ٣٤٨، جمهرة أنساب العرب: ١٥٦، تاريخ خليفة: ٧٣، طبقات ابن سعد ٣: ٣٧٧، كتاب النسب: ٢١٧، فتوح البلدان: ١٠١، الفتوح ٢: ٣٢، المحبّر: ٧٣، ثقات ابن حبّان ١: ٣١٩، الاشتقاق: ١٣٤، المستدرك على الصحيحين ٣: ٢٥٢، الاستيعاب ١: ٥٤١، تاريخ الطبري ٢: ٥١٢، تهذيب الكمال ١٠: ٦٥، أسد الغابة ٢: ٢٨٦، طبقات خليفة: ٥٥).

(٢) الأنفال: ٢٦.

٢٤٠