شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية الجزء ٣

شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية0%

شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية مؤلف:
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 697

شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية

مؤلف: حبيب طاهر الشمري
تصنيف:

الصفحات: 697
المشاهدات: 162523
تحميل: 2826

توضيحات:

الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 697 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 162523 / تحميل: 2826
الحجم الحجم الحجم
شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية

شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية الجزء 3

مؤلف:
العربية

للعبد الروميّ الذي جاش به البحر، المستحلق لعبده ذكوان واحتفل بتزويجه من امرأته؛ فهو أمر لا يطاق سماعه! أمّا أن يتخلّف فرس أميّة فهو من تخلّف صاحبه ويزيد في تاريخ أميّة نواقص هو لها أهل.

أجري الجوادان، وكان السبق لجواد عبد المطّلب، وعملا بالشرط استلم عبد المطّلب ما شرطه ووزّع منه ما يقبل التوزيع على قريش وأراد أن يجزّ ناصية أميّة ولكن أميّة افتدى ناصيته بأن يكون عبداً لعبد المطّلب عشر سنين - بدلاً من سنة واحدة - (فكان أميّة في حشم عبد المطّلب وعضاريطه عشر سنين)(١) .

ويدلّ على هذه العبوديّة قول أبي طالب حين تظاهر عبد شمس ونوفل على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد ذكرنا الأبيات.

ويدلّ عليه أيضاً ما افتخر به عبد الله بن جعفر على يزيد عند معاوية جاء فيه أنّ عبد الله قال ليزيد: بأيّ آبائك تفاخرني؟ بحرب الذي أجرناه، أم بأميّة الذي ملكناه أم بعبد شمس الذي كفلناه؟

يقول ذلك على مسمع من معاوية فيقرّ معاوية فخره ويأمر يزيد إلّا يفاخر الهاشميين لأنّهم (قوم لا يجهلون ما علموا ولا يجد مبغضهم لهم سبّاً)(٢) .

ذكرنا منافرة حرب لعبد المطّلب، مع ما ذكروا فيها أنّ عبد المطّلب لم يكن ساعياً إليها إذ ليس من شأنه أن يتنزّل إلى مثل حرب فيباريه عن طريق المسابقة، وإنّما ذكرناها إذ ذكرها المؤرّخون. وأخّرنا ذكر منافرة هي متقدّمة عليها، لأنّ لنا عليها ملاحظات أكثر، سنذكرها رغم تلك الملاحظات التي لا تلغي التاريخ على شهرته. ونتكلّم قليلاً

____________________

(١) شرح نهج البلاغة ٣: ٤٦٦.

(٢) نفس المصدر السابق: ٤٦٥.

٢٨١

عن هذا السِفر الخالد، شَيْبة الحمد(١) ، عبد المطّلب بن هاشم سيّد قريش وأمّه سَلْمى بنت عمرو أحد بني عديّ بن النجّار.

وهاشم كان سيّد قريش بلا منازع، واسمه عمرو بن عبد مناف وإنّما سمّي هاشماً في قصّة ملخّصها: أصاب قومَه مجاعة، فأرسل عمرو ماله فاشترى به من الشام كعكاً وذبح الجِمال وطبخها وثرد بها الكعك وأطعم أهل مكّة وغيرهم فأشبعهم فسمّوه هاشماً وكان إليه السقاية والرفادة إلى أن مات؛ فولى السقاية والرفادة المطّلب بن عبد مناف، وكانت قريش تسمّيه الفيض لسماحته وفضله(٢) . وكان يقال لهاشم والمطلب: البدران(٣) .

قال ابن سعد: أخبرنا محمّد بن عمر بن واقد الأسلمي قال: كان المطلب بن عبد مناف بن قصيّ أكبر من هاشم ومن عبد شمس، وهو الذي عقد الحلف لقريش من النجاشيّ في متجرها، وكان شريفاً في قومه مطاعاً سيّداً(٤) .

وكانت وفاة هاشم بغزّة، في تجارة له، وابنه شيبة إذ ذاك مع أمّه عند أخواله.

سلسلة بعضها من بعض وشجرة مباركة يجري على أيدي أبنائها الخير وما يصلح أحوالهم، فالذي حقّقه الله تعالى من خير على يد المطلب بن عبد مناف لقريش إذ أخذ الحلف لها من قيصر لأن تختلف آمنةً، وأمّا مَن على الطريق فألّفهم على أن تحمل قريش بضائعهم، ولا كراء على أهل الطريق، فكتب له قيصر كتاباً، وكتب إلى النجاشيّ أن يدخل قريشاً أرضه، وكانوا تجّاراً(٥) .

____________________

(١) جَمهرة النسب: ٢٧. وفي تاريخ الطبريّ ٢: ٨ سمّي شيبة لوجود شيب في مقدّم رأسه.

(٢) المصادر جميعاً.

(٣) أنساب الأشراف ١: ٦٩.

(٤) طبقات ابن سعد ١: ٨١.

(٥) نفس المصدر السابق: ٧٨.

٢٨٢

كلّ هذه المنزلة السامقة والعطاء الثَّر بما يعمّ الجميع والسخاء الذي غيّر اسم عمرو إلى هاشم؛ وهاشم لـمّا يتجاوز العقد الثالث من عمره فأقصى الروايتين أنّه مات وعمره خمس وعشرون سنة ويرى البعض أنّ الثبت أنّه توفّي وعمره عشرون سنة.

قال ابن سعد: أخبرنا هشام بن محمّد بن السائب الكلبي عن أبيه قال: أوصى هاشم بن عبد مناف إلى أخيه المطّلب بن عبد مناف. فبنو هاشم وبنو المطّلب يد واحدة إلى اليوم، وبنو عبد شمس وبنو نوفل ابنا عبد مناف يد إلى اليوم(١) . وهو ما ذكره أبو طالب في شعره بتخصيص عبد شمس ونوفل.

عبد المُطّلب

قلنا إنّ هاشماً ذهب في تجارة ووافاه الأجل بغزّة فدفن بها، وكان قد ترك صغيره شَيْبة مع أمّه عند أخواله.

قال ابن سعد عن الواقدي قال: وقدم ثابت بن المنذر، وهو أبو حسّان الشاعر مكّة معتمراً فلقي المطّلب وكان له خليلاً، فقال له: لو رأيت ابن أخيك شيبة فينا لرأيت جمالاً وهيبة وشرفاً، لقد نظرت إليه وهو يناضل فتياناً من أخواله فيُدخل مِرْماتيَه جميعاً في مثل راحتي هذه ويقول كلما خَسَقَ: أنا ابن عمرو العُلى، فقال المطّلب: لا أمسي حتّى أخرج إليه فأقدم به...، فخرج المطّلب فورد المدينة وجعل يسأل عنه حتّى وجده يرمي في فتيان من أخواله فلمّا رآه عرف شبْه أبيه فيه ففاضت عيناه وضمّه إليه وكساه حلّة يمانيّة...، وبعد أن استرضى أمّه حمله معه إلى مكّة (٢).

وقريب منه ذكر البلاذريّ، قال: بلغ عمّه المطّلب بن عبد مناف خبرُه في لبسه

____________________

(١) طبقات ابن سعد: ٧٩.

(٢) نفس المصدر السابق: ٨٢ - ٨٣.

٢٨٣

ونظافته وشبهه بهاشم أبيه، فاشتاق إليه، فركب إلى المدينة، فوافاه وهو يرمي مع الصبيان. فلمّا أصاب قال: أنا ابن هاشم، أنا ابن سيّد البطحاء، فقال له: من أنت يا غلام؟ قال: أنا شيبة بن هاشم بن عبد مناف؛ قال: وأنا عمّك المطّلب بن عبد مناف وقد جئت لحملك إلى بلدك وقومك ومنزل أبيك وجوار بيت الله...(١) .

فدخل المطّلب مكّة ومعه شيبة مردفه على بعيره، فقالت قريش: عبد المطّلب ابتاعه، فبها سمّي شيبة عبد المطّلب. فقال المطلّب: ويحكم! إنّما هو ابن أخي هاشم، قدمت به من المدينة. فلم يزل عبد المطّلب مقيماً بمكّة حتّى أدرك، وخرج المطّلب تاجراً إلى أرض اليمن فتوفّي بردمان من أرض اليمن. فولي عبد المطّلب بن هاشم السقاية والرّفادة بعد عمّه المطّلب، فأقامها للناس، وأقام لقومه ما كان آباؤه يقيمون قبله لقومهم من أمرهم، وشرف في قومه شرفاً لم يبلغه أحد من آبائه، وأحبّه قومه وعظم خطره فيهم(٢) .

إنّ الله تعالى إذا أحبّ امرء لأسباب يعلمها عزّ وجلّ فيه؛ جمع له محاسن النفس والبدن؛ يروى أنّ عثمان تمنّى رجلا يحدّثه عن الملوك وعمّا مضى، فذكر له رجل بحضر موت، فأحضره فكان بينهما حديث يطول منه أن سأله: أرأيت عبد المطّلب؟ فقال: نعم؛ رأيت رجلاً قعداً أبيض طويلاً مقرون الحاجبين بين عينيه غرّة يقال إنّ فيها بركة، وإنّ فيه بركة. قال: أفرأيت أميّة؟ قال: نعم، رأيت رجلا آدم دميماً قصيراً أعمى يقال إنّه نكد؛ فقال عثمان يكفيك من شرّ سماعه، وأمر بإخراج الرجل(٣) .

____________________

(١) أنساب الأشراف ١: ٧١ - ٧٢.

(٢) السيرة النبوية، لابن هاشم ١: ١٤٥، ١٥٠؛ طبقات ابن سعد ١: ٨٣. وفي أنساب الأشراف ١: ٧٢، وتاريخ الطبريّ ٢: ٩، إنّ قريش كانت تسأل المطّلب عن شيبة فيقول: هو عبد لي، فصار اسمه عبد المطّلب؛ ولو صحّ إنّما خوفاً عليه، ومع هذا فالأوّل أصحّ وأقرب إلى خُلق المطّلب.

(٣) شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد ٣: ٤٦٧.

٢٨٤

وقال معاوية لدغفل النسّابة: أرأيت عبد المطّلب؟ قال: نعم. قال: كيف رأيته قال: رأيتُه رجلا نبيلاً جميلاً وضيئاً كان على وجهه نور النبوّة. قال معاوية: أفرأيت أُميّة؟ قال: نعم. قال: كيف رأيته؟ قال: رأيته رجلاً ضئيلاً منحنياً أعمى يقوده عبده ذكوان، فقال معاوية: ذلك ابنه أبو عمرو، قال دغفل: أنتم تقولون ذلك أمّا قريش فلم تكن تعرف إلّا أنّه عبده(١) .

ولم يكن عبد المطّلب ليسفّ مثل غيره فيقع في شراك الشرك، فهو مع وفور العقل وطهارة النسب وعلى جبينه غرّة النبوّة فهي تتنقل من أجداده إليه فإلى ولده مؤمن قريش وسيّد البطحاء أبي طالب، نصير رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن حفيده الزكي عبد الله، لتستقرّ في سيّد البشر محمّد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

قال الواقديّ عنه: وكان يَتَألَّهُ ويُعظّم الظلم والجور(٢) .

وذكر ابن سعد بأسانيد عدّة، قالوا: كان عبد المطّلب أحسن قريش وجهاً وأمدّه جسماً وأحلمه حلماً وأجوده كفّاً وأبعد الناس من كلّ موبقة تفسد الرجال، ولم يره ملك إلّا أكرمه وشفّعه وكان سيّد قريش حتّى هلك(٣) .

كان عبد المطّلب يُطعم الحاجّ ويسقيهم في حياض من أدم بمكّة، فلمّا سُقي زمزم ترك السقْي في الحياض بمكّة وسقاهم من زمزم حين حفرها، وكان يحمل الماء من زمزم إلى عرفة فيسقيهم، وكانت زمزم سُقْيا من الله. فما أكرم عبد المطّلب عند الله تعالى! وفي قصّة زمزم دروس وعِبَر:

____________________

(١) شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد ٣: ٤٦٦. ما لمعاوية وأميّة؟ وقد ذكرنا الكثير في نسبه، فلو سأله عن هند، وأصح ما قيل في صيرورته منها كان له أفضل.

(٢) طبقان ابن سعد ١: ٨٥.

(٣) نفس المصدر السابق.

٢٨٥

أُتي عبد المطّلب في المنام فقيل له: احفر طِيبة(١) ، قال: قلت: وما طِيبة؟ قال: ثمّ ذهب عنّي. فلمّا كان الغد، جاءه فقال: احفر بَرّة(٢) ، قال: وما برّة؟ فلمّا كان الغد أتاه فقال: احفر المضْنُونة(٣) ؟ قال: وما المضنونة؟ فلمّا كان الغد أتاه فقال: حَفْرُ زمزم؟ قال: لا تُنْزَحُ ولا تُذَمّ(٤) ، تسقي الحجيج الأعظم، وهي بين الفرث والدم عند نُقْرة الغراب الأَعْصم؛ قال: وكان غراب أعصم لا يبرح عند الذبائح مكان الفرث والدم؛ وهي شرب لك ولولدك من بعدك؛ فغدا عبد المطّلب بمعوله ومسحاته معه ابنه الحارث بن عبد المطّلب، وليس له يومئذ ولد غيره، فجعل عبد المطّلب يحفر بالمعول ويغرف بالمسحاة في المكتل فيحمله الحارث فيلقيه خارجاً، فحفر ثلاثة أيّام ثمّ بَدا له الطّوِيّ(٥) فكبّر وقال: هذا طويّ إسماعيل، فعرفت قريش أنّه أدرك الماء فأتوه فقالوا: أشركنا فيه، فقال: ما أنا بفاعل، هذا أمر خصصت به دونكم فاجعلوا بيننا وبينكم من شئتم أحاكمكم إليه، قالوا: كاهنة بني سعد هُذيم، وكانت بمعان من أشراف الشأم(٦) ، فخرجوا إليها وخرج مع عبد المطّلب عشرون نفر من بني عبد مناف، وخرجت قريش بعشرين رجلاً، فلمّا كانوا في الطريق فنى ماء عبد المطّلب وأصحابه، فاستسقوا من معهم من قبائل قريش، فأبوا عليهم...، فجلس عبد المطّلب وأصحابه ينتظرون الموت! ثمّ إنّ عبد المطلب قال لأصحابه: والله إنّ القاءنا بأيدينا هكذا لَعجزٌ، ألا نضرب في الأرض فعسى الله أن يرزقنا ماء ببعض هذه البلاد! فارتحلوا، وقام عبد المطّلب

____________________

(١) قيل لزمزم طيبة، لأنّها للطيّبين والطيّبات من ولد إبراهيم.

(٢) قيل لها برة، لأنّها فاضت على الأبرار وغاضت عن الفجّار.

(٣) قيل لها مضنونة، لأنّها ضنّ بها على غير المؤمنين.

(٤) في السيرة: لا تنزف؛ وكلاهما بمعنى: لا يفرغ ماؤها ولا يلحق قعرها.

(٥) في السيرة: الطّيّ، وهي الحجارة التي طوى بها البئر.

(٦) أشراف الشأم: ما ارتفع من أرضه.

٢٨٦

إلى راحلته فركبها، فلمّا انبعثت به انفجر تحت خُفّها عينُ ماءٍ عَذْبٍ، فكبّر عبد المطّلب وكبّر أصحابه وشربوا جميعاً، ثمّ دعا القبائل من قريش فقال: هلمّوا إلى الماء الروّاء فقد سقانا الله، فشربوا واستقوا وقالوا: قد قضي لك علينا، الذي سقاك هذا الماء بهذه الفَلاة هو الذي سقاك زمزم، فوالله لا نخاصمك فيها أبداً! فرجع ورجعوا معه ولم يصلوا إلى الكاهنة وخلّوا بينه وبين زمزم(١) .

عبد المطّلب يتألّه، كما ذكر الواقديّ؛ أي موحّد لا يشرك بالله شيئاً. وهو قد اجتمعت فيه صفات الجمال الخلقيّة والخلقيّة وليس فيه واحدة من مفاسد أميّة ولا حرب..؛ وهو سيّد قريش؛ لا يراه ملك إلّا واحتفى به فأكرمه وشفّعه.

ولم يكن غير عبد المطّلب أهلاً لكرامة الله تعالى ليستخرج زمزم ويجعلها نحلة له ولولده.

ودرسٌ في قصّة زمزم آخر: إنّ الماء نفد وكاد العطش يأتي على جماعة عبد المطّلب، ولبوا من رفقتهم من قريش شيئاً من الماء فمنعوهم لآمَةً إلّا أنّ إيمان عبد المطّلب بالله تعالى، وهمّته وعزيمته الماضية، فلم ييأس من رَوح الله عزّ وجلّ ونهض وكلّه أمل أن يحصل على الماء! ولم يخيّب الله سبحانه عبده المخلص؛ فزيادة في كراماته فقد منّ عليه بكرامة نظيرة بكرامة ومعجزة حفيده رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث نبع الماء من أصابعه الشريفة؛ فإنّ عبد المطّلب الموحّد ما أن استقرّ على راحلته، فلمّا انبعثت به انفجر تحت خفّها عين ماء، ولم يكن الماء أجاج إذ هو في صحراء! وإنّما ماء عذب. ولم يستخفّ المشهد عبد المطّلب ولم يدهشه! فهو إيمان كلّه، وحصيف كلّه؛ فلم يستحوذه ما حدث، ولم يشكر اللاّت وهُبَل! رفع صوته بالتكبير (الله أكبر)؛ وكبّر معه رفقته من بني عبد مناف؛ حقيقةً: مشهد مدهش لنا!

____________________

(١) طبقات ابن سعد ١: ٨٤ - ٨٥، السيرة النبويّة، لابن هاشم ١: ١٥١ - ١٥٣.

٢٨٧

ويزيد الموقف روعةً وعبدالمطّلب رفعةً أن يدعو قريش التي شحّت عليه ولو بقطرة ماء يبلّ بها شفتيه، لتشرب وتسقي رواءً من غير منّةٍ! فهو رضوان الله عليه يردّ الفضل إلى الله عزّ وجلّ: (... فقد سقانا الله) ولـمّا رأت قريش هذه الكرامة التي خصّ الله تعالى بها عبد المطّلب مع ما له من فضائل؛ رجعت إلى رشدها وأعلنت أنّ الله سبحانه قضى لعبد المطّلب عليها، فلا حاجة لحكم كاهنة بني سعد؛ وخلّت بين عبد المطّلب وبين زمزم.

ونظير موقف قريش في منع الماء عن عبد المطّلب وبني عبد مناف؛ ما وقع بصفّين؛ فقد وصل جيش ابن هند إلى مشرعة ماء قبل جيش أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام ، وعسكروا عليه وأوصى ابن هند أن لا يذوق عسكر أمير المؤمنين الماء أو يموتوا عطشاً! خُلُقٌ سيّئ موروث وقرين سوء لا ينفكّ منه فهو يجري منه مجرى الدم فيخزيه ويُرْدِيه وإلاّ أين ذهب عنه: أنّ في جيش عليّ كلّ مُسْتَفْحِل غايته رضى الله والشهادة مبتغاه؛ فمثل هذا يموت عطشاً! حتّى يروّي المشرعة من دمه أو يجهز على قرينه فيرتوي من ماء الفرات!

هجم عسكر الإيمان على الخوارج البُغاة، فما انجلت الغُبرة إلّا والمشرعة بيد جند حفيد عبد المطّلب ذي المكرُمات؛ وما أشبه الموقفين، أليس الصفات الخُلُقيّة تُتوارث مثلما تتوارث الخَلقيّة؟! نادى عليٌّ وجندُه على أهل الشأم أن هلمّوا فاشربوا واسقوا؛ فكان الشأميّ يمرّ على العراقيّ فلا يعرض له بسوء وربما حادثه.

وأعادها خوارج الطفّ؛ فقد كانت أوامر ابن ميسون المدعوّ للمعاوية وهذا المدعو لأربعة وقيل لفلان المغنّي ولفلان - دعنا من نَتَنه -، ولقد علمتَ من حال حمامة وحرب وأميّة وحتّى عبد شمس؛ في حال التنزّل ونسبته إليهم! أمرَ الناقص بأخذ

٢٨٨

الآفاق على سبط رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وريحانته وسيّد شباب أهل الجنّة ومنعه وعيالاته من الماء؛ سنّة متوارثة وخلق رديّ متحدّر...، وأميره على الكوفة: ابن مرجانة الخراسانيّة بغيّ من ذوي الرايات؛ والمدعوّ لابن سميّة الخراسانيّة من ذوات الرايات تقلّبت من فراش إلى آخر؛ حتّى كانت الليلة المشؤومة إذ جمع له إبليس خزايات أربع أو ستّة تراودوها على ذفر في إبطيها فانعقدت نطفة زياد في تلك الليلة؛ فلمّا شبّ، ما زال صخر (أبو سفيان) يردّد على المسامع بأنّه هو الذي وضعه في رحم أمّه، من غير أن يندى له جبين! والحال أنّه واحد من نفر واقعوا سميّة في طهر واحد فحملت!

وتسافل معاوية أكثر من صخر إذ استلحق ابن سميّة زياداً وسمّاه زياد بن أبي سفيان، وزوّجه وزوّج ولده من ابنته ومن بنات سفيان وآل أبي سفيان على ما ذكرنا، كيف والحال هذه لا يمتثل ابن مرجانة أوامر ابن ميسون وإن عظم الخَطب وسُعّرت الجحيم.

وأمّا قائد الجيش: عمر بن سعد بن أبي وقّاص؛ وسعد هو المخذّل عن أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام إذ جعله ابن الخطّاب في الستّة لاختيار خليفة مع ترجحي الكفّة التي فيها ابن عوف؛ وما كان لهم الخيرة يومئذ ولا يوم السقيفة! بعد أن اختار الله سبحانه لهم عليًّا وقرن ولايته بولايته وولاية رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ ولو كان هذا النصّ القرآني لوحده لقامت الحجّة البالغة وبطل حكم الحاكمين بغير ما أنزل الله وتهاوت دعاوى أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر من يصلّي بالناس في علّته فدلّ على فضله، فلو صحّ شيء من ذلك لأمَر مَن أمر الله بتفضيله ذلك هو عليّ! ولو صحّ شيء من ذلك لـما كان الاعتراض على رسول الله إذ أراد كتابة الوصيّة، فإن قيل: غيره الذي اعترض وهو وزيره وخليفته! لكان من الواجب عليه أن يضمّ صوته إلى جبهة المؤيِّدين بتقديم القرطاس والقلم للنبيّ ومن هذه الجبهة النسوة اللاّتي نادين من خلف الستر: ويحكم، قدّموا لرسول الله ما يريد،

٢٨٩

وكان جواب عمر لهنّ قاسياً: إنّكن صويحبات يوسف...، ثمّ قوله في حقّ النبيّ: إنّ الرجل ليَهْجُر!! ذهبت النبوّة وبات من عرَض الرجال، واللام لفت نظر وتوكيد؛ ويهجر: يُهذي - معاذَ الله - لا يدري ما يقول! وهو كلام لا يقال بحقّ رجل موقّر محترم؛ فكيف إذا كان نبيّاً خاتم الرّسل مُسدّداً بالوحي! ولو كان الأمر كما يقولون في شيء من الحق، فإنّه لـمـّا طردهم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من رحمة الله تعالى وبقي معه عليّ لبقي أبو بكر معه ولم يذهب في جملة الخارجين على أمر النبيّ، ليدخل صراعاً من أجل الحكم في السقيفة.

فعمر بن سعد، يحمل إرثاً، أضف إلى ذلك فهو ابن عمّ يزيد؛ جدّته حَمْنة بنت سفيان، وكان ضعيفاً في نفسه لا دين له، فوعده الناقص بمُلك الريّ إن هو قاد الجيش وظفر بالإمام الحسينعليه‌السلام فقتله عطشاً....

نفذ الماء الذي حمله ابن رسول الله، وتعالى بكاء الأطفال من شدّة الظمأ وليس هنا سرد المواقف في ذلك إلّا ذكر واقعة تختزل جِبلّة القوم ونترك لابن تيميه والوهّابيّين وآل سعود النجديّين ولكلّ ناصبيّ أعمى البصيرة حكمهم: إنّ سيّد شباب أهل الجنّة، ابن سيّد الوصيّين، ابن سيّدة نساء العالمين، سبط سيّد المرسلين وريحانته؛ هو الذي يُقاتلهم ويُقاتلونه، ولا يكون سيّداً في الجنّة ولا يكون سيّداً في الأرض! ولا يكون سيّداً وابناً لرسول الله يُباهل به، وهو من أهل بيت طهّرهم الله أي عصمهم، وهم العدل والثقل الثاني بعد القرآن، وحربهم حرب لله ولرسوله....

فهو حقّ يُقاتل باطل؛ هذا أقلّ ما يقال! فنقول: الحسينعليه‌السلام هو الذي يقاتلهم ويقاتلونه، يقاتلهم في عدّة لم تصل المائة يقابلهم من أهل الشأم خمسة عشر ألفاً! ومن خوارج الكوفة أربعة آلاف.

٢٩٠

منعُ الماء: ليس هنا تفصيل الوقعة، ولا حتّى الحديث تفصيلاً عن خُلُق الخوارج قتلة الحسينعليه‌السلام وأهل بيته وأصحابه، في أمر الماء، فهم نُطَفٌ في أصلاب الرجال وأرحام النساء كلّما قطع منهم قَرن ظهر قَرن آخر.

أرسل الإمامعليه‌السلام إلى القوم ليعطوه شيئاً من الماء؛ فأجابه جلف جافي: أن يا حسين، انظر إلى الماء كأنّه بطون الحيتان...، لن تذوقه حتّى ترِد الحامية!

لا عجب لهذا المنطق من قوم قاتل بهم ابن هند أمير المؤمنين عليًّاعليه‌السلام وبعده السبط المجتبى الحسنعليه‌السلام ، والآن يقاتل ابن مرجانة بأمر الناقص ابن ميسون الحسينعليه‌السلام . ولكن أن يرد سيّد شباب أهل الجنّة الحامية؛ فأين يكون قاتله والآمر بقتله؟

وموقف آخر يترجم خسّة عسكر الشأم؛ فقد خرج الإمامعليه‌السلام يحمل طفله الرضيع وهو يلوع من العطش! وطلب منهم أن يأخذوه فيسقوه شربة ماء إن كانوا يظنّون إنّما يريده لنفسه؛ فما كان منهم إلّا أن سقوه سهماً ذبحه من الوريد إلى الوريد.

وبعد انتهاء المعركة مثّلوا بالأجساد وسلبوه كلّ لباس وقطعوا رؤوسهم وحملوها على الرماح مع سبايا آل بيت الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من بلد إلى بلد....

وحسبك هذا التفاوت بين عبد المطّلب وقومه من قريش في أمر الماء وبين ابن هند وأهل الشأم وأميرالؤمنين عليّعليه‌السلام وأهل العراق في الأمر ذاته، وهذا الذي كان يوم كربلاء.

ونذكّر بما كان من الزبير وطلحة وابن عوف في تحريضهم على عثمان ومنعهم إدخال الماء إليه حتّى أدخله أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام إليه.

هذه هي مسيرة الماء بين النفوس الفيّاضة بالخير، والمجبولة على الرذيلة.

٢٩١

قصّة ماء أخرى

وذكروا أنّ لعبد المطّلب ماء بالطائف يدعى الهرم. فغلبه عليه جندب بن الحارث الثقفيّ وقوم من ثقيف، فتنافروا إلى الكاهن العذريّ، تنافرا على إبلٍ سمّوها. وخرجوا إليه فنفد ماء عبد المطّلب وأصحابه، فطلبوا إلى الثقفيّين أن يسقوهم، فأبوا، ففجّر الله لهم عيناً من تحت جران بعير عبد المطّلب، فحمد الله عزّ وجلّ وعلم أنّ ذلك منّة، فشربوا ريّهم وحملوا حاجتهم، ونفد ماء الثقفيّين فبعثوا إلى عبد المطّلب يستسقونه فسقاهم، وأتوا الكاهن فنفّر عبد المطّلب عليهم، فأخذ عبد المطّلب الإبل فنحرها، وأخذ الهرم ورجع وقد فضّله عليه وفضّل قومه على قومه(١) .

وفي أنساب الأشراف، زيادة طويلة منها أنّ الكاهن قال:

أما وربّ القلص الرواسم

يحملن أزوالا بقيّ طاسم

إنّ سناء المجد والمحارم

في شبة الحمد سليل هاشم(٢)

أبي النبي المرتضى للعالم

ثمّ قال:

إنّ بني النّضر كرام ساده

من مضر الحمراء في القلاده(٣)

أهل سناء وملوك قاده

مزارهم بأرضهم عباده(٤)

إنّ مقالي فاعلموا شهاده(٥) .(٦)

____________________

(١) طبقات ابن سعد ١: ٨٧ - ٨٨.

(٢) في المنمّق: ١٠٢: (في شيبة الحمد الندى ابن هاشم).

(٣) في المنمّق: (إنّ مقالي فاسمعوا شهادة أنّ = بني النضر كرام سادة).

(٤) في المنمّق: (من مضر الحمراء في القلادة = أهل سناء وملوك قادة).

(٥) في المنمّق: (زيارة البيت لهم عبادة).

(٦) أنساب الأشراف ١: ٨٣.

٢٩٢

شهامة عبد المطّلب

قال الكلبيّ: حجّ قوم من جذام، ففقدوا رجلاً منهم اغتيل منهم بمكّة، ولقيهم حذافة بن غانم العدويّ فربطوه. وقم عبد المطّلب من الطائف، وقد كفّ بصره، وأبو لهب يقوده، فهتف به حذافة. فأتاهم، فقال: قد عرفتم تجارتي وكثرة مالي؛ وأنا أحلف لكم لأعطينّكم عشرين أوقية ذهباً، أو عشراً من الإبل، وغير ذلك ممّا يرضيكم، وهذا ردائي رهن بذلك. فقبلوا منه، وأطلقوا حذافة. فأردفه، حتّى أدخله مكّة، ووفى لهم عبد المطّلب بما جعل لهم.

فقال العدوي:

أخارج إما أهلكن فلا يزل

لشيبة منكم شاكراً آخر الدهر

وأولاده بيض الوجوه وجوههم

تضيء ظلام الليل كالقمر البدر

لهو لهم خير الكهول ونسلهم

كنسل الملوك لا قصار ولا خدر

لساقي الحجيج ثمّ للشيخ هاشم

وعبد مناف ذلك السيد الفهري

أبوكم قصيّ كان يدعى مجمعا

به جمع الله القبائل من فهر(١)

عبد المطّلب يثأر لجاره

بسند عن محمّد بن السائب الكلبيّ وغيره، قالوا: كان عبد المطّلب من حلماء قريش وحكّامها، وكان في جواره يهوديّ يقال له أدينة، وكان اليهوديّ يتسوّق في أسواق تهامة بماله، فغاظ ذلك حرباً فألّب عليه فتياناً من قريش، وقال: هذا العلج الذي يقطع إليكم ويخوض بلادكم بمالٍ جمّ كثير من غير جوار ولا خيل؛ والله لو

____________________

(١) أنساب الأشراف ١: ٧٣ - ٧٤.

٢٩٣

قتلتموه وأخذتم ماله، ما خفتم تبعة ولاعرض لكم أحد يطلب بدمه. فشدّ عليه عامر ابن عبد مناف بن عبد الدار بن قصيّ، وصخر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرّة، فقتلاه. فجعل عبد المطّلب لا يعرف له قاتلاً، فلم يزل يبحث عن أمره حتّى علم خبره بعد. فأتى حرب بن أميّة، فأنّبه بصنيعه وطلب بدم جاره، فأجار حرب قاتليه ولم يسلمهما وأخفاهما. وطالبه عبد المطّلب بهما، فتغالظا في القول. حتّى دعاهما المحك إلى المنافرة فجعلا بينهما نفيل بن عبد العزّى العدويّ، جدّ عمر بن الخطّاب. فقال لحرب: (أتنافر رجلاً هو أطول منك قامة، وأوسم منك وسامة، وأعظم منك هامة، وأكثر منك ولداً، وأجزل منك صفداً، وأطول منك مذوداً(١) ؛ وإنّي لأقول هذا، وإنّك لبعيد الغضب، رفيع الصيت في العرب، جلد النزيرة(٢) ، ولكنّك نافرت منفرّاً). فنفّر عبد المطّلب، فغضب حرب، وأغلظ لنفيل. ولم يفارقه عبد المطّلب حتّى أخذ منه مائة ناقة، ودفعها إلى ابن عمّ اليهوديّ، وارتجع ماله إلّا شيئاً كان شعث منه، فغرمه من ماله(٣) .

ومن جاور عبد المطّلب فما ظلم، ولا هظم! رجل يهودي عاش بجوار عبد المطّلب يتجر بماله وينتفع ويستشعر الأمان بهذا الجوار؛ إلّا أنّ ذا العاهات حرباً بن أميّة، وليتها أمة! لخفّت وطأتها على نفسه؛ وهو يعلم الارض التي جاش بها البحر، ويعلم علوّ كعب هاشم العلى على عبد شمس ممّا يحكم عقد النقص في نفس أميّة ليورثها إلى حرب منزولاً، لتتجذّر في الشجرة المعلونة؛ مع انفجار فجر الهداية وبزوغ شمس الإسلام في البيت الهاشمي!؛ فالنبيّ محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بن عبد الله بن عبد المطّلب بن هاشم بن

____________________

(١) الذود: السوق والطرد والدفع. والمذود وعاء يقدّم فيه الطعام.

(٢) النزير: الإلحاح في السؤال والاحتثاث والاستعجال. وهي صفة مذمومة.

(٣) طبقات ابن سعد ١: ٨٧، أنساب الأشراف ١: ٨١ - ٨٢.

٢٩٤

عبد مناف؛ والإمامة في عليّعليه‌السلام بن أبي طالب بن عبد المطّلب بن هاشم بن عبد مناف.

ولا أظنّ حرباً نفس على اليهوديّ تجارته وكثرة ماله بقدر كونه في جوار عظيم قريش وسيّد بني هاشم عبد المطّلب رضي الله عنه! وإلاّ فاليهود من الوفرة في شبه جزيرة العرب وحرفتهم التجارة في الأغلب؛ وفيمن نسب إلى بني أميّة فيهم أعراق يهوديّة كما ذكرنا في تحقيق بعضهم. وأيّاً كان الذي أثار حفيظة حرب فعمد إلى قتل اليهوديّ فإنّ عبد المطّلب أبت أخلاقه أن يخفر ذمّة جاره حتّى بعد موته؛ فانتصر له وأخذ فديته وماله فأعطاه إلى ابن عمّه؛ ولـمّا كان مال اليهودي قد نقص منه شيء، فقد أتمّه عبد المطّلب من ماله الخاص! وهذا منتهى الخلق العالي والكرم الذي لا يعرف حدوداً.

الاستسقاء برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

بعدّة أسانيد عن رقيقة بنت أبي سيفي بن هاشم، قالت: تتابعت على قريش سنون ذهبت بالأموال، فسمعت في النوم قائلاً يقول: (هذا أوان نبيّ مبعوث فيكم، معشر قريش، وبه يأتيكم الحيا(١) والخصب؛ فليخرج رجل منكم طوال عظام، أبيض مقرون الحاجبين أهدب الأشفار، جعد الشعر أشمّ العرنين، من أوسطكم نسباً؛ فليخرج هو وولده وولد ولده، وليخرج من كلّ بطن رجل فتطهّروا وتطيّبوا ثمّ استلموا الركن حتّى يعلوا أبا قبيس، ثمّ يتقدّم هذا الرجل فيستسقي ويؤمّنون فإنّكم ستسقون)، فأصبحت فقصّت رؤياها عليهم، فنظروا فوجدوا هذه الصفات في عبد المطّلب، فاجتمعوا عليه، وفعلوا ما أمروا به. وكان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع عبد المطّلب، فقدّموا وخرج

____________________

(١) الحيا: المطر والخصب.

٢٩٥

معهم من كلّ بطن منهم رجل، ثمّ علوا على أبي قبيس، والنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معهم، فتقدّم عبد المطّلب فقال: لاهمّ، هؤلاء عبادك بنو إمائك وقد نزل بهم ما ترى وتتابعت عليهم هذه السنون فذهبت بالخفّ والظلف، وأشفت الأنفس منهم على التلف والحتف، فأذهب عنّا الجدب، وائتنا بالحياة والخصب. فما برحوا حتّى سالت الأودية، وبرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، سقوا، فقالت رقيقة:

بشيبة الحمد أسقى الله بلدتنا

وقد فقدنا الحيا واستبطئ المطر

فجاد بالماء جونيّ له سبل

دان فعاشت به الأنعام والشجر

منّاً من الله بالميمون طائره

وخير من بشّرت يوماً به مضر

مبارك الأمر يستسقى الغمام به

ما في الأنام له عدل ولا خطر(١)

أكثر من مشهد وعبد المطّلب سبيل خير ووسيلة حياة ومنها ما اقترن وجوده الشريف بانبثاق الماء العذب ومن تلك المياه: ماء زمزم الذي مضى على جريانه مئات السنين ولم ينقطع. والماء لا استغناء عنه وهو قوام الحياة؛ قال تعالى:

( وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلّ شَيْ‏ءٍ حَيّ ) (٢) .

ألا ترى: إنّ المحدّثة جاءها في نومها من يبشّر بانبعاث نبيّ من قريش به الحياة والخصب. ثمّ أمرها بخروج رجل له صفات من الجمال والهيئة يتبعه من بطون القبائل رجل؛ يستقي الرجل ربّه، ويؤمّن الآخرون؛ فيسقيهم الله عزّ وجلّ؛ فصدقت رؤياها في عبد المطّلب إذ لم تات تلك الخصال لغيره؛ كيف وقد أخرج معه حفيده الذي كان يتوسّم فيه صفات وعلامات النبوّة، فكان الاستسقاء إرهاصة بظهور نبوّة نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

____________________

(١) أنساب الأشراف ١: ٩١، طبقات ابن سعد ١: ٨٩ - ٩٠، المنمّق: ١٦٦ - ١٦٩.

(٢) الأنبياء: ٣٠.

٢٩٦

جرت على لسان جدّه المتحنّث؛ وسالت أودية بمياهها بعد سنين جفاف عجاف؛ فخصّ هذا البيت بالفيض والسماحة والروّاء، وحرم من ذلك البيت الأمويّ، فكان الحسد والمنافرة والعداء....

عبد المطّلب يتحنّث

الواقدي: حدّثني عبد الله بن جعفر، أنّ مخرمة بن نوفل الزهريّ قال: مات عبد المطّلب وأنا شاهده مع قريش، وقد قاربت عشرين سنة، وأنّ أمّي رقيقة بنت أبي صيفي بن هاشم كانت لدة عبد المطّلب، فتقول لي: شقّ قميصك على خالك لمن تستبقيه بعده. قال: ونظرت إلى نساء بني عبد مناف قد جززن الشعور. وإنّه ليقال إنّه يومئذ ابن ما بين الثمانين إلى التسعين، وإن كان لمعتدل القناة. وكان أوّل من تحنّث بحراء. والتحنّث التألّه والتبرر، وكان إذا أهلّ هلال شهر رمضان، دخل بحراء فلم يخرج حتّى ينسلخ الشهر، ويطعم المساكين. وكان يعظم الظلم بمكّة، ويكثر الطواف بالبيت(١) .

عناية عبد المطّلب برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

توفّي عبد الله بن عبد المطّلب، وآمنة بنت وهب حامل بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلمّا وضعته أرسلت إلى جدّه أنّه قد ولد لك غلام. فنهض مسروراً ومعه بنوه حتّى أتاه فنظر إليه. وحدّثته بما رأت منه، وبسهولة حمله وولادته. فأخذه عبد المطّلب في خرقة فأدخله الكعبة وقال:

الحمد لله الذي أعطاني

هذا الغلام الطيّب الأردان

____________________

(١) أنساب الأشراف ١: ٩٢ - ٩٣.

٢٩٧

أعيذه بالبيت ذي الأركان

من كلّ ذي بغي وذي شنآن(١)

وحاسد مضطرب العنان(٢)

المدائني، عن يزيد بن عياض، عن الزهريّ وحفص بن عمر، عن هشام بن الكلبي، عن أبيه، أنّ عبد المطّلب كان إذا أتي بالطعام، أجلس النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى جانبه، وربّما أقعده على فخذه، فيؤثره بأطيب طعامه. وكان رقيقاً عليه برّاً به. فربما أتي بالطعام وليس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حاضراً، فلا يمسّ شيئاً منه حتّى يؤتى به، وكان يفرش له في ظلّ الكعبة، ويجلس بنوه حول فراشه إلى خروجه، فإذا خرج، قاموا على رأسه مع عبيده، إجلالا له، وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يأتي وهو غلام جفر، فيجلس على الفراش، فيأخذه أعمامه ليؤخّروه، فيقول عبد المطّلب: مهلاً، دعوا ابني ما تريدون منه. ثمّ يقول: دعوه فإنّ له لشأناً، أما ترونه؟ ويقبّل رأسه وفمه، ويمسح ظهره، ويسرّ بكلامه وما يرى منه(٣) .

البلاذريّ: حدّثني محمّد بن إسماعيل الضرير الواسطيّ، حدّثنا عليّ بن عاصم، عن داود بن أبي هند، عن العباس بن عبد الرحمن الهاشميّ، عن الكندير بن سعيد، عن أبيه قال: حججت في الجاهليّة، فإذا أنا بشيخ مربوع يطوف بالبيت، وهو يقول:

ردّ عليّ راكبي محمّدا

واصطنعن بردّه عندي يدا

فقلت: من هذا الشيخ؟ قالوا: عبد المطّلب بن هاشم، قلت: ما شأنه؟ قالوا: أضلّ إبلا له، فخرج في طلبها بنيّ ابنه: محمذد بن عبد الله، وقد أبطأ عليه، فقد أخذه ما ترى؛ قال: برحت حتّى رجع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو غلام، وجاء بالإبل، فسمعت عبد

____________________

(١) في طبقات ابن سعد: قد ساد في المهد على الغلمان = أعيذه بالله ذي الأركان.

(٢) أنساب الأشراف ١: ٨٩، طبقات ابن سعد ١: ١٠٣.

(٣) نفس المصدر السابق: ٨٩ - ٩٠.

٢٩٨

المطّلب يقول له: يا بنيّ، لقد جزعت عليك جزعاً، لا تفارقني بعده حتّى أموت(١) .

قد يقال: إنّ عناية عبد المطّلب برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أمر عادي، فهو جدّه لأبيه، فتأخذه العاطفة والحميّة على العناية والرعاية له.

إلاّ أنّ ثمّة أمور تدفع هذا التفسير؛ فإنّ رجلاً مثل عبد المطّلب لم يكن يسلك هذا المسلك مع أبناءه مع عاطفته الأبويّة، وإجلالهم له على نحو ما علمناه.

وعبد المطّلب رضوان الله عليه، مع موفور عقله؛ يؤثر حفيده على نفسه وولده بأطيب الطعام، ويجلسه إلى جنبه أو على فخذه. فإذا قال أحد: ومع ذا، فلا يزيد أنّ عبد المطّلب إنّما أراد أن يعوّض النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتمه! ولكن ألا يكفي أن يحتفي به على هذا النحو في مجلس الطعام؟ حتّى يعظّمه في مجلسه الخاص في ظلّ الكعبة حيث يقف بنو عبد المطّلب مع عبيده على رأسه إجلالاً لعبد المطّلب، فإذا جاء رسول الله وهو يومئذ غلام، أخذه أعمامه ليؤخّروه، اعترضهم عبد المطّلب وقال: دعوا ابني ما تريدون منه! ثمّ أفصح لهم عن سرّ احتفاءه به فقال: فإنّ له لشأناً، أما ترونه؟ إنّ عبد المطّلب المتألّه يرى ما لا يراه غيره من مستقبل حفيده المبارك. فهو متحنّث يعتكف في غار حراء طيلة شهر رمضان، يطعم المساكين، أعظم قريشاً حلماً وأبعدهم من كلّ موبقة ومذنبة تفسد الرجال، وقد سمع من آمنة ما سمعه بشأن سهولة حملها ووضعها للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وما رأته منه بعد الوضع؛ فلم يستخفّه ذلك! إنّما أخذه وأدخله الكعبة، وعوّذه بالله تعالى متأمّلاً له سيادة.

وعبد المطّلب مبارك في نفسه أجرى الله تعالى له كرامات ذكرناها إذ فجّر الماء له أكثر من مرّة، وبه وبحفيده النبيّ الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سقى الله قريشاً بعد جدب سنين.

____________________

(١) أنساب الأشراف ١: ٩٠.

٢٩٩

وعبد المطّلب لم يجزع على إبله المفقودة، إنّما كان جزعه كلّه على بنيّ ابنه - وهو لغة في التحبيب - الذي خرج في طلب الإبل، فابطأ؛ فلم يضرع مؤمن قريش وعظيمها للتوسّل بهبل، وإساف ونائلة! إنّما توجّه إلى الله تعالى يدعوه أن يردّ عليه بنيّ ابنه، وقد أخذ منه إبطاؤه عليه كلّ مأخذه، فما برح مستجاب الدعوة: عبد المطّلب إلّا ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قادم ومعه الإبل، ولم يخف عبد المطّلب على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما كان منه، وطلب منه أن لا يفارقه حتّى يموت!

عبد المطّلب يوصي برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ولم يغمض لعبد المطّلب رضي الله عنه جفن حتّى أوصى برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

قالوا: ولـمّا احتضر عبد المطّلب، جمع بنيه فأوصاهم برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . وكان الزبير ابن عبد المطّلب، وأبو طالب أخوي عبد الله لأمّه وأبيه. وكان الزبير أسنّهما. فاقترع الزبير وأبوطالب أيّهما يكفل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأصابت القرعة أبا طالب، فأخذه إليه. ويقال: بل اختاره رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الزبير، وكان ألطف عمّيه به. ويقال: بل أوصاه عبد المطّلب بأن يكفله بعده(١) .

وروى بعضهم أنّ الزبير كفل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى مات. ثمّ كفله أبو طالب بعده؛ وذلك غلط لأنّ الزبير شهد حلف الفضول، ولرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يومئذ نيف وعشرون سنة. لا اختلاف بين العلماء في أنّ شخوص رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الشأم مع أبي طالب (رضي الله عنه) بعد موت عبد المطّلب (رضي الله عنه) بأقلّ من خمس سنين(٢) .

ولمّا كان ميل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى عمّه أبي طالب إذ كان ألطف به، وإنّه خرج معه بعد موت جدّه بأقلّ من خمس سنين؛ فإذا كان الأمر كذلك ترجّح القول أنّ عبد المطّلب

____________________

(١) أنساب الأشراف ١: ٩٣.

(٢) نفس المصدر السابق.

٣٠٠