شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية الجزء ٣

شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية0%

شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية مؤلف:
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 697

شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية

مؤلف: حبيب طاهر الشمري
تصنيف:

الصفحات: 697
المشاهدات: 160151
تحميل: 2677

توضيحات:

الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 697 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 160151 / تحميل: 2677
الحجم الحجم الحجم
شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية

شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية الجزء 3

مؤلف:
العربية

هؤلاء يكون أبو طالب في خلافهم على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟! هل كان من المستهزئين برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ إذاً لكفى الله نبيّه منه حيث كفاه المستهزئين فلحقه ما لحقهم من الخزايات؛ حاشا لأبي طالب أن يختزى. أم هو من المؤذين لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو الذي صاول قريشاً بنفسه وولده وعشيرته! أم أنّ الجملة اليتيمة التي أذاعها أعداء أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام أنّ أبا طالب مع حدبه على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، مات مشركاً، دليل صادق!

وهذا شعر أبي طالب يترم حقيقته؛ ينطق بالتوحيد والمعاد، وآمن بنبوّة ابن أخيه وهو لم يبعث بعد، وما زال ينطق بنبوّته وأنّه تبع له ويأمر ولديه بلزومه ففيه الفلاح. ولنعد إلى رحابه، فهذه بعض أخباره:

قال ابن إسحاق:

ثمّ إنّ قريشاً حين عزموا أنّ أباطالب قد أبى خذلان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واستلامه، وإجماعه لفراقهم في ذلك وعداوتهم، مشوا إليه بعمارة بن الوليد بن المغيرة، أنهد(١) فتىً في قريش وأجمله، فخذه فلك عقله ونصره، واتّخذه ولداً فهو لك، وأسلم إلينا ابن أخيك هذا الذي قد خالف دينك ودين آبائك، وفرّق جماعة قومك، وسفّه أحلامهم، فنقتله، فإنّما هو رجل برجل، فقال: والله لبئس ما تسومونني! أتعطوني ابنكم أغذوه لكم، وأعطيكم ابني تقتلونه! هذا والله ما لا يكون أبداً. فقال المطعم بن عديّ بن نوفل بن عبد مناف بن قصيّ: والله يا أبا طالب لقد أنصفك قومك! وجهدوا على التخلّص ممّا تكرهه، فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئاً؛ فقال أبوطالب للمطعم: والله ما أنصفوني، ولكنّك قد أجمعت خذلاني ومظاهرة القوم عليّ، فاصنع ما بدا لك،

____________________

(١) أنهد: أشدّ وأقوى.

٣٤١

فحقب(١) الأمر وحميت الحرب وتنابذ القوم وبادى بعضهم بعضاً(٢) .

بئس الرأي ألقاه الشيطان إلى أوليائه! وتعس العشير، سفهاء الأحلام هؤلاء الذين أراد أعداء عليّعليه‌السلام إلصاق أبيه أبا طالبرضي‌الله‌عنه بهم وإشراكه بشركهم! فهم في المرّة الأولى صرفهم أبوطالب برفق، فإذا تأتّى له جمع شمل بني هاشم وبني المطّلب، بادى القوم العداوة. وجهر بإيمانه:

منعنا الرسول رسول المليك

ببيض تلألأ كلمع البروق

أذبّ وأحمي رسول المليك

حماية حام عليه شفيق

وما أن أدب لأعدائه

دبيب البكار حذار الفنيق

ولكن أزئر لهم سامياً

كما زأر ليث بغيل مضيق(٣)

ثمّ قال شعره الذي جمع فيه فخر قريش بعبد مناف، وأنهى شرف عبد مناف بهاشم، فإذا فخرت هاشم، فإنّ محمّداً هو المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم:

وإن فخرت يوماً فإنّ محمّداً

هو المصطفى من سرّها وكريمها

تداعت قريش غثّها وسمينها

علينا فلم تظفر وطاشت حلومها

في أبيات ذكرناها.

فهو مؤمن برسالة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي جاء بالتوحيد ونبذ ما سوى الله تعالى، وهو يتحدّى جمع قريش دفاعاً عن المصطفى مجمع الفخر والشرف. والآن جاؤوا بصفقة خائبة! وهذه المرّة عدلوا عن قولهم السابق (وإنّك على مثل ما نحن عليه من خلافه)،

____________________

(١) حقب: زاد واشتدّ.

(٢) السيرة النبويّة، لابن هشام ١: ٢٨٥ - ٢٨٦.

(٣) سيرة ابن إسحاق: ١٤٩.

٣٤٢

فقد علموا أنّ ذلك لا ينال من ثبات أبي طالب إذ لا شيء من المماثلة بينهم وبينه وهو أجلّ شأناً وأرفع منزلة من أن يقرنوا أنفسهم به؛ فأبدلوا قولهم في مخاطبته، قالوا: (ابن أخيك الذي قد خالف دينك ودين آبائك)، فأبو طالب على دين أبيه عبد المطّلب؛ وعبد المطّلب متألّه يشهد بوحدانيّة الله تعالى، يعتكف شهر رمضان في غار حراء ويطعم المساكين، حنيفاً عزّ وجاره فهو يأبى الظلم، وعلى هذا نشأ أبوطالب، فكانت نفسه منفتحة على الله تعالى وقبول الإسلام، فكان متّعداً على التضحية بنفسه وولده وعشيرته في حفظ وسلامة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم، يرى في ذلك سبيل النجاة. وكان كلامه هذه المرّة معهم قاطعاً لا رفق فيه (هذا والله ما لا يكون أبداً). واشتدّ أبوطالب في الردّ على المطعم بن عديّ، وتحدّاهم، وحميت الحرب. وقال عند ذلك يعرّض بالمطعم بن عديّ، ومن خذله من بني عبد مناف، ومن عاداه من قبائل قريش:

ألا قُلْ لعمرو والوليد ومُطْعمٍ

ألا ليت حظّي من حياطتكم بِكْرُ(١)

أرى أخوَيْنا من أبينا وأُمّنا

إذا سُئلا قالا إلى غيرنا الأمرُ

بلى لهما أمرٌ ولكن تَجَرْجَما(٢)

كماجُرجمتْ من رأس ذي عَلَق الصَّخر(٣)

أخُصّ خصوصاً عبد شمس ونوفلاً

هما نَبذانا مثلَ ما يُنبذ الجمر

هما أغمزا(٤) للقوم في أخوَيْهما

فقد أصبحا منهم أكفّهما صِفر(٥)

____________________

(١) البكر: الفتى من الإبل، يريد أن بكراً من الإبل أنفع لي منكم.

(٢) تجرجم: سقط وانحدر.

(٣) ذو علق: اسم جبل في ديار بني أسد.

(٤) أغمزه: استضعفه وعابه وصغر شأنه.

(٥) صفر: خالي.

٣٤٣

هما أشركا في المجد من لا ابا له

من الناس إلا أن يرس(١) له ذكر

وليداً أبوه كان عبداً لجدّنا

إلى علجة زرقاء جاش بها البحر(٢)

وتيم ومخزوم وزهرة منهم

وكانوا لنا مولى إذا ابتغي النّصر

وقد سفهت أحلامهم وعقولهم

وكانوا كجفر بئس ما صنعت جفر(٣)

أبو طالب يتحدّى القبائل ويتعوّذ بحرم مكّة ويشيد بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أثر التحدّي الذي أعلنه أبو طالب لقريش ومَن والاها في خلافها لرسول الله قال قصيدةً طويلةً نقتطف منها هذه الأبيات:

ولما رايتُ القومَ لا وُدَّ لهم

وقد قطعوا كلَّ العُرَى والوسائل

وقد صارحونا بالعداوة والأذى

وقد طاوعُوا أمْرَ العدو الـمُزايل

وقد حالفوا قوماً علينا أَظِنّةً

يَعَضُّون غيظاً خلفنا بالأنامل

صبرتُ لهم نفسي بسَمْراء سَمْحةٍ

وأبيضَ عَضْب من تُراث الـُمقاول

وأحضرتُ عند البيت رَهطي وإخوتي

وأمسكتُ من أثوابه بالوصائل(٤)

قياماً معاً مستقبلين رِتاجَه

حيثُ يَقْضى حَلْفه كلُّ نافلْ(٥)

أعوذُ بربّ الناس من كلّ طاعنٍ

علينا بسوء أو مُلحّ بباطل

ومن كاشحٍ يسعى لنا بمَعيبةٍ

ومن مُلْحِق في الدين ما لم نحاول

____________________

(١) رست الحديث، إذا حدثت به في خفاء.

(٢) البيت هذا في السيرة، لابن إسحاق: ١٥٣.

(٣) في سيرة ابن إسحاق: (وكانوا كجفر شرها ضغطت جفر).

(٤) الوصائل: ثياب حمر فيها خطوط، كان يكسى بها البيت.

(٥) كلّ نافل: أي كلّ متبرئ.

٣٤٤

وثَوْرٍ ومَن أرسى ثَبيراً مكانَهُ

وراقٍ لَيَرْقى في حِراء ونازل

وبالبيت حقّ البيت من بطن مكّة

وباللهِ إنّ الله ليس بغافل

وبالحَجر الـمُسْودّ إذ يَمْسحونه

إذا اكتنفوه بالضُّحى والأصائل

ومَوطئ إبراهيم في الصخر رَطْبة

على قَدَميْه حافياً غير ناعل

ومضى يُعدّد مشاعر الحجّ! الأشواط بين الصفا والمروة، وعرفة، والمزدلفة، والجَمْرة الكبرى ورمي الحجارة...، وقد أوضحنا معنى قوله: موطئ إبراهيم؛ وثور وثبير؛ وهو إذ يواجه دهماء العرب، فقد أعدّ لذلك نفساً صابرة لا تتضعضع ينصره رَهْطه الأخصّون، وقبل النزال توجّه بمن معه إلى بيت الله لا إلى هُبَل! متعوّذاً ببيت الحقّ وبربّ الناس، الله سبحانه الذي لا يغفل عن نصرة من ينصر نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ أمشرك أبو طالب بعد كلّ هذا؟! وأبو طالب يجيب على ذلك! إذ يقول:

فهل بعد هذا من مَعاذٍ لعائذٍ

وهل من مُعيذٍ يتّقي الله عاذل

فليس بعد بيت الله ومشاعر الحجّ الإبراهيميّ شيء يعوذ به العائذ، ولا عدوان على تقيّ الله؛ إيمان أم شرك هذا؟!

ويمضي أبوطالب طابَ فُوه يتلو آياتٍ في الـمُضي قُدُماً في نُصرة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

كذبتم وبيت اللهِ نُبْزَى محمّداً

ولـمّا نطاعن دونه ونُناضل(١)

ونُسْلمه حتّى نصرَّع حولَه

ونَذْهل عن أبنائنا والحلائل(٢)

ويسترسل في وصف قومه ونَجْدتهم وبسالتهم؛ ثمّ يصف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

____________________

(١) نبزى محمّداً: أي نُسْلَبه ونُغلَب عليه.

(٢) الحلائل: جمع حليلة، وهي الزوجة.

٣٤٥

وأبيض يُسْتسقى الغَمام بوَجْهه

ثِمال اليتامى عصمةٌ للأرامل(١)

يلوذُ به الهلاّك من آل هاشم

فهم عنده في رحمة وفواضِلِ

ويذكر أسماء المشركين الذين تمالؤوا على معاداة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتحزّبوا على بني هاشم فيعيبهم ويُظهر مثالبهم ومناقص قبائلهم؛ ويتحدّاهم بنشر الدعوة! فيقول:

فأبلغ قصيّاً أن سيُنشر أمرنا

وبشّر قصيّاً بعدنا بالتخاذل

ويختم قصيدته بفضائل النبيّ، قال:

لعمري لقد كلِّفت وجداً بأحمد

وإخوته دَأْبَ الـمُحِبِّ الـمُواصل

فمَن مِثلُه في الناس أيّ مؤمَّل

إذا قاسه الحُكّام عند التفاضل

حليمٌ رشيدٌ عادلٌ غيرُ طائش

يُوالي إلهً ليس عنه بغافل

لقد علموا أنّ ابنَنا لا مُكذَّبٌ

لدينا ولا يُعنَى بقولِ الأباطل

فأصبح فينا أحمدٌ في أَرومة

تُقصِّر عنه سَوْرة الـمُتطاول(٢)

حَدِبْتُ بنفسي دونه وحَمَيْتُه

ودافعتُ عنه بالذُّرا والكَلاكِل

فأيَّده ربُّ العباد بنَصره

وأظهر ديناً حقُّه غير باطل

رجالٌ كرامٌ غيرُ مِيلٍ نَماهُم

إلى الخير آباءٌ كرام المحاصل(٣)

إنّ أبا طالب العاقل قد استحوذ عليه محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهو لا ينفكّ يحبّه وما ذلك إلّا أنّه لم يجد من يفضله في حلم وعقل وعدل وإتّزان ومن ثَمّ فهو يدعو إلى إلهٍ يسمع ويرى وينصره، لا من جنس آلهة القوم صُمّ بُكم؛ فدين محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حقّ لا باطل فيه؛ فماذا بعد

____________________

(١) ثمال اليتامى: الذي يثملهم ويقوم بهم.

(٢) السورة (بضم السين): المنزلة. وبفتحها: الشدّة والبطش.

(٣) السيرة النبويّة، لابن هشام ١: ٢٩١ - ٢٩٩.

٣٤٦

الشهادتين إلّا الإسلام؟!

وقصيدة أبي طالب اللّاميّة تربو على تسعين بيتاً.

أبوطالب يخاطب قريشاً بشأن الصحيفة

لـمّا رأت قريش أنّ أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نزلوا بلداً آمناً (الحبشة) وأنّ النجاشي منع مَن لجأ إليه منهم؛ كتبوا كتاباً تعاقدوا فيه على بني هاشم، وبني المطّلب أن لا ينكحوا منهم ولا يُنكحوهم، ولا يبيعوهم شيئاً، ولا يبتاعوا منهم، وتواثقوا على ذلك وكتبوه في صحيفة جعلوها في جوف الكعبة. فلمّا صنعت قريش ذلك انحازت بنو هاشم وبنو المطّلب إلى أبي طالب فدخوا معه في شِعْبه واجتمعوا إليه؛ فأقاموا على ذلك سنتين أو ثلاثاً حتّى جُهِدوا لا يصل إليهم شيءٌ إلّا سرّاً مستخفياً مَن أراد صِلَتهم من قريش. وفي ذلك يقول أبوطالب:

ألا أبلغا عنّي على ذاتٍ بَيْننا

لُؤَيّاً وخُصّا من لؤيٍّ بني كعب

ألم تعلموا أنّا وجدنا محمّداً

نبيّاً كموسى خُطّ في أول الكُتْب

وأنّ عليه في العِباد محبّةً

ولا خيرَ ممّن خصّه الله بالحُبّ

ويحذرهم مغبّةَ حرب شاملة ثمّ يقول:

فلسنا وربِّ البيت نُسْلم أحمداً

لعزّاءَ من عضّ الزمان ولا كرْب(١)

ولما تَبِنْ منّا ومنكم سَوالف

وأيدٍ أُترّت بالقُساسيّة الشُّهب(٢)

في أبيات يظهر صمود قومه وكفاحهم. وكلامنا في شهادة أبي طالب على نفسه في

____________________

(١) العزّاء: الشدّة ومثله عض الزمان.

(٢) سيرة ابن إسحاق: ١٥٧، السيرة النبويّة، لابن هشام ١: ٣٧٧ - ٣٧٨.

٣٤٧

كلّ مناسبة، وكفى بالمرء شاهداً على نفسه؛ فهو قد وجد في كتب الأوّلين ذكر نبوّة موسى ومحمّدعليهما‌السلام ، ولـمّا كان محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نبيّاً، فهو يُقاتل دونه لأنّه مؤمن بنبوّته.

وقال أيضاً متحدّياً القوم وصحيفتهم الجائرة:

ألا أبلغا عنّي لؤيّاً رسالة

بحقّ وما تُغني رسالةُ مرسل

بني عمّنا الأدنين تيماً نخصّهم

وأخوتنا من عبد شمس ونوفل

أظاهرتم قوماً علينا ولاية

وأمر غَوي من غُواة وجهل

يقولون إن قد قتلنا محمّداً

أقرّت نواصي هاشم بالتذلّل

كذبتم وربّ الهَدي(١) تدمى نحورها

بمكّة والركن العتيق المقبل

تناولونه أو تعطلون لقتله

صوارم تفري كلّ عظم ومفصل

ويمضي في تحدّيه أن ينالوا من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إلى أن يقول:

فإن كنتم ترجون قتْلَ محمّد

فروموا بما جمعتم نقل يَدْبَل(٢)

فإنّا سنمنعه بكلّ طمرة

وذي ميعة نهد المراكل هيكل(٣)

وكلّ رُديني طمى كعوبه

وعضب كما ماض الغمامة مفصل(٤)

بأيمان شُم من ذوابة هاشم

مغاوير بالأبطال في كلّ محفل(٥)

فلمّا سمعت قريش بذلك، رأوا منه الجدّ وأيسوا منه، فأبدوا لبني عبد المطّلب

____________________

(١) الهدي: ما يهدى إلى البيت الحرام من النعم لتنحر.

(٢) يدبل: جبل بنجد.

(٣) الطمرة: جواد، وما بعده وصف له.

(٤) رُديني اسم رُمح، وطمى غطّى، الكعوب ما بين الابنوبتين من القصب، والعضب: الحسام القاطع.

(٥) سيرة ابن إسحاق: ١٥٧ - ١٥٨.

٣٤٨

الجفاء وكتبوا صحيفتهم الظالمة.

مباهلة: فلمّا رأى أبوطالب ما فعل المشركون، انطلق بمَن معه من المسلمين فقاموا بين أستار الكعبة، فدعوا الله على ظلم قومهم لهم، وفي قطيعتهم أرحامهم واجتماعهم على محاربتهم، وبتأوّلهم سفك دمائهم، فقال أبوطالب: أللّهمّ إن أبى قومنا إلّا النصر علينا، فعجّل نصرنا، وحل بينهم وبين قتْل ابن أخي. ثمّ أقبل إلى جمع قريش وهم ينظرون إليه وإلى أصحابه، فقال أبو طالب: ندعو بربّ هذا البيت على القاطع المنتهك للمحارم، والله لتنتهنّ عن الذي تريدون، أو لينزلنّ الله بكم في قطيعتنا بعض الذي تكرهون، فأجابوه إنكم يا بني عبد المطّلب لا صلح بيننا وبينكم ولا رحم إلّا على قتْل هذا الصبيّ السفيه!

( أَلاَ إِنّهُمْ هُمُ السّفَهَاءُ وَلكِن لاَيَعْلَمُونَ ) (١) .

ثمّ عمدَ أبو طالب فأدخل الشعب ابن أخيه وبني أبيه ومن اتّبعهم فدخلوا شعبهم، وهو شعب في ناحية من مكّة، فلمّا قدم عمرو بن العاصي وعبد الله بن أبي ربيعة إلى قريش وأخبروهم بالذي قاله النجاشي لمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه، اشتدّ وجدهم وضيّقوا عليهم ونادى منادي الوليد بن المغيرة المخزوميّ في قريش: أيما رجل وجدتموه عند طعام يشتريه فزيدوا عليه، وحولوا بينهم وبينه ومن لم يكن عنده نقد فليشتر و عليَّ النقد! ففعلوا ذلك ثلاث سنين حتّى بلغ القوم الجهد الشديد، وحتّى سمعوا أصوات صبيانهم يتضاغون من وراء الشعب(٢) ؛ وأبو طالب ذلك الشيخ الطاعن في السنّ، لم تزده المحن إلّا عزيمة وصلابةً ومضيّاً في خطّ الرسالة.

____________________

(١) البقرة: ١٣.

(٢) سيرة ابن إسحاق: ١٥٩.

٣٤٩

تضحية وفداء

ذكر ابن إسحاق، قال: كان أبوطالب يخاف أن يغتالوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليلاً أو سرّاً، فكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا أخذ مضجعه أو رقد، بعثه أبو طالب عن فراشه وجعله بينه وبين بَنيه خشية أن يقتلوه(١) .( أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتّخَذَ إِلهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلّهُ اللّهُ عَلَى‏ عِلْمٍ ) (٢) ،( وَمَنْ أَضَلّ مِمّنِ اتّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللّهِ ) (٣) .

ألا يمكن لأبي طالب أن يقول لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم: لقد نصرتُك بنفسي ونابذت قريش والقبائل العداوة في نصرتك، وولدي ورهطي معك، وأنا الآن كبر سنّي فلعلّ القوم يخلون سبيلي لأذهب إلى بيتي، فقد أضرّت بي المقاطعة...؟ لم يكن من هذا شيء، مضى أبو طالب على بصيرة من أمره، فقد آمن بما جاء به ابن أخيهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإنّ النجاة في ذلك كما أرشد ولده إليه. أرأيت؛ إن لم تكن تابع هوى أو وهّابيّاً أو ممّن ضلّله الخارجيّ ابن تَيميه؛ أرأيتَ رجلاً تحمله الحميّة على بذل مهجته والتضحية بأعزّ الناس إليه: وُلده قرابين في سبيل حفظ ابن أخيه وسلامته من خطر محتمل؟! ومتى وجدتم أو قرأتم سيرة رجل عظيم قومه يصف نفسه أنّه تَبِعٌ لابن أخيه ويصفه بمعالي الأخلاق وأنّ مكارم وشرف قريش تجمّعت في عبد مَناف، ومن ثَمّ في هاشم لتنتهي جميعها في محمّد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ ! ويفقد زعامته ومنزلته الاجتماعيّة بين قريش ومن تبعها من القبائل من أجل تابعيّته لابن أخيه، ويتحمّل الحصار مع حياطته الدائبة وفداءه بوُلده في حماية النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

____________________

(١) سيرة ابن إسحاق: ١٦٠.

(٢) الجاثية: ٢٣.

(٣) القصص: ٥٠.

٣٥٠

وهوعليه‌السلام وفي هذا الظرف الصعب ينشد الشعر بما يعرب عن إيمان لا يضعف ونفس لا تستكين وعزيمة ماضية في نصرة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

ألا من لهم آخر الليل معتم

طواني وأخرى النجم لم يتقحم

طواني وقد نامت عيون كثيرة

وسائر أخرى ساهر لم ينوم

لأحلام أقوام أرادوا محمّداً

بسوء ومن لا يتقي الظلم يظلم

سعوا سفهاً واقتادهم سوء رأيهم

على قليل من رأيهم غير محكم

رجاء أمور لم يسألوا نظامها

وإن حشدوا في كلّ نفر وموسم

يرجون أن نسخا بقتل محمّد

ولم تختضب سمر العوالي من الدم

يرجون منا خطة دون نيلها

ضراب وطعن بالوشيج المقوم

كذبتم وبيت الله لا تقتلونه

جماجم تلقى بالحطيم وزمزم

وتقطع أرحام وتنسى حليلة

حليلها ونغشاً محرماً بعد محرم

وينهض قوم في الدروع إليكم

يذبون عن أحسابهم كل مجرم(١)

أبوطالبرضي‌الله‌عنه رسول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى قريش

للموضع الخاص والمنزلة المتفردة لأبي طالبرضي‌الله‌عنه من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، مثلما منزلة ولده العلي عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام الذي خصّه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتبليغ (براءة)؛ فكذلك خصّ أبا طالب بإبلاغ قريش نبأ صحيفتهم الجائرة وما سلّط الله تعالى عليها.

ففي السيرة لابن هشام: أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لأبي طالب: يا عمّ، إنّ ربّي قد سلّط

____________________

(١) سيرة ابن إسحاق: ١٦٠.

٣٥١

الأرضة على صحيفة قريش، فلم تَدَعْ اسماً هو لله إلّا أثبتته فيها، ونفت الظُلم والقطيعة والبُهتان؛ فقال: أربُّك أخبرك بهذا؟ قال: نعم؛ قال: فو الله ما يدخل عليك أحدٌ، ثمّ خرج إلى قريش فقال: يا معشر قريش، إنّ ابن أخي أخبرني بكذا وكذا، فهلمّ صحيفتكم، فإن كان كما قال ابنُ أخي فانتهوا عن قطيعتنا، وانزلوا عمّا فيها، وإن كان كاذباً دفعتُ ابنُ أخي إليكم، فتعاقدوا على ذلك، ثم نظروا، فإذا هي كما قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فزادهم ذلك شرّاً! فعند ذلك صنع الرهطُ من قريش في نقض الصحيفة ما صنعوا(١) .

إنّ سؤال أبي طالب لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (أربُّك أخبرك بهذا؟) ليس تشكيكاً منه بقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو الذي يصفه بالصدق والأمانة ومعالي الأخلاق ومنتهى الفخر وأنّه رسول المليك، يفديه بولده وعشيرته ونفسه وتحمّل معه القطيعة المهلكة لأكثر من سنتين؛ إنّما أراد أن يعلم وهو ليس بعيداً عن رسول الله، في هذا الشعب ووسط هذا الرهط، هل الأمر إخبار من الله تعالى له؛ مثل قول إبراهيم الخليلعليه‌السلام لربّه عزّ وجلّ في أن يره كيف يحيي الموتى؟ فلمّا قال له ربّه: أوَلَمْ تؤمن؟! قال: بلى! ولكن ليطمئنّ قلبي. أي أنا مؤمن يا ربّ، ولكن أُريد أن تُكرمني فتُرني هذا الأمر، فأصلُ حدَّ اليقين الّذي بعده لا يخطر في نفسي سؤال عن ذلك. فكذلك أبوطالب فما زاده جواب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم: (نعم)! إلّا إيماناً وتصديقاً؛ ولم يردّ عليه قولاً، إنّما قال: (فو الله ما يدخل عليك أحد) فالفاء تعقيباً على قول النبي؛ وتصديقاً حيث حلف بالله أنّه ما يدخل عليه أحدٌ من قريش ولا غيرها فيُخبره خبر الصحيفة؛ ولم يبق إلّا الوحي الذي يُخبره عن الله تعالى؛ والذي آمن به أبوطالب، وهم به مشركون! وكم هي ثقة أبي

____________________

(١) السيرة النبوية، لابن هشام ٢: ١٦ - ١٧.

٣٥٢

طالب بقول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ وإلاّ كيف صار إلى قريش في موقف تحدّي حرج؛ تعهّد لهم فيه إن لم يكن أمر الصحيفة على ما وصفه ابنُ أخيه النبيّ، فهو كاذب ويدفعه إليهم؛ وعلى عكسه إن كان أمرها كما وصف، فالصحيفة باطلة. فإذا هي كما قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومبعوثه أبوطالب.

إنّ الوثائق تترى يعضّد بعضها بعضاً في أنّ أبا طالب ما أشرك ليؤمن وما زاده الإسلام إلّا شرفاً وسؤدداً. وفي خبر الصحيفة نجد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يُعلم عمّه بما أوحي إليه بشأنها ولم يطلب منه أن يجاهر القومَ بها؛ إلّا أنّ هذا الرجل الْمُلهَم يجد فيها وسيلةً لأن يهدّ عرش الغواية القرشيّ ويشقّ صفّهم، حتّى قام منهم رجال نقضوا الصحيفة ومزّقوها.

وقال أبوطالب في شأن الصحيفة، نذكر هذه الأبيات:

وما ذنب من يدعو إلى البر والتقى

ولم يستطع أن يا رب الشعب يَأرب

وقد جرّبوا فيما مضى غبَّ أمرهم

وما عالم أمراً كمن لم يجرب

وقد كان في أمر الصحيفة عبرة

متى ما يخبر غائب القوم يعجب

محى الله منها كفرهم وعقوقهم

وما نقموا من باطل الحق معرب

فأصبح ما قالوا من الأمر باطلاً

ومن يختلق ما ليس بالحق يكذب

وأمسى ابن عبد الله فينا مصدّقاً(١)

على سخط من قومنا غير معتب

فلا تحسبوا يا مسلمين محمّداً

لذي عربة منا ولا متغرب

ستمنعه منّا يدُ هاشميّة

مركبها في الناس خير مركب(٢)

____________________

(١) في أيّ شيء مصدّق؟! ليس إلّا الدعوة إلى التوحيد ونبذ الشرك!

(٢) سيرة ابن إسحاق: ١٦٣ - ١٦٤.

٣٥٣

وأبوطالبعليه‌السلام على هداية من أمره ووعي لصحّة معتقده فهو ينتصر لابن أخيه لأنّه نبيّ، فهو بذلك ينتصر للدين الذي آمن به ويرى فيه الرشاد وسبيل النجاة. وهو على الفطرة الطاهرة وبما ورثه عن آبائه الطيّبين يأبى الظلم والبغي. ومن شعره قوله وقد غضب لعثمان بن مظعون حين عذّبته قريش ونالت منه:

أمِن تذكّر دهر غير مأمونِ

أصبحت مكتئباً نبكي لمحزونِ

أم من تذكّر أقوامٍ ذوي سفهٍ

يغشون بالظلم من يدعو إلى الدين؟!

ألا ترون أذلّ الله جمعكم

إنّا غضبنا لعثمان بن مظعون؟

ونمنع الضيم من يبغي مضيَّما

بكلّ مطَّرد في الكف مسنونِ

ومرهفات كأن الملح خالطها

يُشفي بها الداء من هام المجانين

حتّى تقرَّ رجال لا حلوم لها

بعد الصعوبة بالأسماح واللين

أو تؤمنوا بكتابٍ منزلٍ عجبٍ

على نبيٍّ كموسى أو كذي النون(١)

اللّهمّ غفرانك! أن نثبت إيمان أبي طالب! الذي ما كفر لينتقل إلى إيمان، وهو حكيم نفسه، يؤمن بكتابك المنزل المعجز (عجب)، ويؤمن بالنبيّ الذي نزل عليه القرآن الكريم، وهو عارف بقصص الأنبياء وما أنزلت عليهم من كتب.

ومن شعره يمدح النبيّ الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله:

لقد أكرم الله النبيّ محمّداً

فأكرمُ خلق الله في الناس أحمد

وشقّ له من اسمه ليجلّه

فذو العرش محمود وهذا محمّد

أخرجه البخاري في تاريخه الصغير من طريق علي بن زيد، وأبو نعيم في دلائل

____________________

(١) شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد ٣: ٣١٣.

٣٥٤

النبوّة ١: ٦، وابن عساكر في تاريخه ١: ٢٧٥، وابن أبي الحديد في شرحه ٣: ٢١٥، وابن كثير في تاريخه ١: ٢٦٦، وابن حجر في الإصابة ٤: ١١٥، والقسطلان في المواهب اللدنيّة ١: ٥١٨ نقلاً عن تاريخ البخاري، والديار بكري في تاريخ الخميس ١: ٢٥٤.

فما من موقف ومناسبة إلّا وصرّح بنبوّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنّه أكرم خلق الله لا لأنّه ابن أخيه، وإنّما لأنّ الله تعالى هو الذي اجتباه وأكرمه وقرن اسمه باسمه.

وهو تبع لمحمّد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومفتتن به لعظيم أخلاقه وقربه من الله عزّ وجلّ ولأنّ دينه خير الأديان - مرّ ذكره -.

ومن شعرهعليه‌السلام يؤكّد فيه نبوءة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويتحدّث فيه عن تقدّمه وسيادته وطيب أرومته وتفانيه في نصرته:

أنت النبيّ محمّدٌ

قرمٌ أغرُّ مسوّدُ

لمسوّدين أكارم

طابوا وطاب المولدُ

نعم الأُرومة أصلها

عمرو الخضمّ الأوحدُ

في أبيات أخرى منها:

أنّى تُضام ولم أمت

وأنا الشجاع العربدُ

وبطاح مكّة لا يُرى

فيها نجيعٌ أسودُ

وبنوا أبيك كأنّهم

أسد العرين توقَّدوا

ولقد عهدتك صادقاً

في القول لا يتزيَّد

ما زلت تنطق بالصوا

بِ وأنت طفلٌ أمردُ(١)

____________________

(١) شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد ٣: ٣١٥.

٣٥٥

ومن شعره يخاطب النبيّ ويسكن جأشه، ويأمره بإظهار الدعوة:

لا يمنعنَّك من حقٍّ تقوم به

أيدٌ تصول ولا ساقٌ بأصواتِ

فإنّ كفّك كفّي إن مليت بهم

ودون نفسك نفسي في الملِمّات(١)

أمشركٌ أبو طالبعليه‌السلام وهو يقول مقالاته الخطرة فيه، فأكرم الناس طُرّاً محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وسرّ ذلك لا لطيب أُرومته، وأَكرِم بها؛ ولكن: لأنّ الله تعالى أكرمه، وما بعد الله سبحانه إلّا ضلال. ومن كرمه أن شقّ للنبيّ من اسمه اسماً.

وهو إذ يخاطب النبيّ يقول: أنت النبيّ، وأنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نطق بالحقّ والصواب وهو طفل. ويدعوه للجهر بدعوته من غير وجل من العتاة فمعه أكفّ وايد تصول منها كفّ أبي طالب ونفسه تزهق ولا يصلوا إلى النبيّ.

أحميّة من أبي طالب كلّ هذا الفداء لابن أخيه؛ إذن كفاه هذا، ولكن لم هذا الخطاب المتوالي بأنّه النبيّ، وأنّه مخطوط في الكتب نبيّ مثل يوشع وذي النون. إنّ الفارق بين أبي طالب والمشركين هو الإيمان بنبوّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتصديقه؛ فآمن أبو طالب وجاهد بنفسه وبنيه ورهطه؛ وازداد المشركون عتوّاً وحرباً لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ومن شعره يوصي بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

أوصي بنصرِ نبيّ الخير أربعة

إبني عليًّا وشيخ القوم عبّاسا

وحمزة الأسد الحامي حقيقته

وجعفراً أن تذودوا دونه الناسا

كونوا فداءً لكم أُمّي وما ولدت

في نصر أحمد دون الناس أتراساً(٢)

ومن شعره وقد أجمع لنصرة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم:

____________________

(١) شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد ٣: ٣١٥.

(٢) متشابهات القرآن، ابن شهر آشوب، في تفسيره (ولينصرنّ الله من ينصره) من سورة الحجّ.

٣٥٦

والله لن يصلوا إليك بجمعهم

حتّى أوسّد في التراب دفينا!

إمضي لأمرك ما عليك غضاضة

وابْشر وقرّ بذاك عيونا

ودعوتني وعلمتُ أنّك ناصحٌ

فلقد صدقتَ وكنتَ قديماً أمينا

وعرضتَ ديناً قد عرفتُ بأنّه

من خير أديان البريّة دينا(١)

أيّ مضيٍّ وعزيمة أوتيهما أبو طالب على كبر سنّه، وأيّ فداء ونصرة تصل حدّ الموت من أجل سلامة النبيّ ومضيّه في طريق الدعوة؛ أيّ إشراق نفس وطهارة قلب يدرك الرسالة فيؤمن بها فيما قست قلوب قريش ومعهم أخوه (أبو لهب) فتبّ أبو لهب وأمّا أبو طالب فأجاب دعوة رسول الله لمعرفته أنّه لا يدعو إلّا إلى خير فهو الصادق الأمين؛ وبحسّه المرهف وعقله الراجح وجد أبوطالب في دين الإسلام أنّه خير الأديان السماوية التي عرفها؛ فكيف بالوثنيّة والصنميّة؟! أمثل أبي طالب الحصيف وبعد قيام الحجّة له، أتراه بعد ذلك كلّه ينصره بلسانه وولده ويعوّض نفسه للهلكة وقلبه مشرك بالله؟!

نهاية المطاف: إنّ أبا طالب لو كان أبا أحد من رجالهم لنشروا فضائله وتغنّوا بأمجاده؛ إلّا أنّه أبو عليّعليه‌السلام سابقهم إلى كلّ فضيلة والمختصّ بمعالي الطيّبات الطاهر من كلّ نقيصة شبّ وشاب عليها غيره من شانئيه الخوارج، فشتموه! وأيّ شتيمة أعظم من أن يقال عن شيخ البطحاء ومؤمن قريش وشريفها وحامي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمجاهد بولده ورهطه ونفسه حتّى النفس الأخير: أنّه مات مشركاً؟! وإذا كان أبو

____________________

(١) سيرة ابن إسحاق: ١٥٥، فتح الباري ٧: ١٥٣، المواهب اللدنيّة ١: ٦١، السيرة الحلبيّة ١: ٣٠٥، ديوان أبي طالب: ١٢، السيرة النبويّة، لزيني دحلان هامش السيرة الحلبية ١: ٩١، بلوغ الإرب ١: ٣٢٥، شرح ابن أبي الحديد ٣: ٣٠٦.

٣٥٧

طالب أبا أمير المؤمنينعليه‌السلام ؛ فهو عمّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم، فشتمه والنيل منه، هو كذلك من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم !

لقد ألفنا من الخوارج النواصب قاموس الشتائم والإسقاط والأفائك، وذكرنا المجاهد الآخذ بثأر أهل البيتعليهم‌السلام وصحبهم الكرام، المختاررضي‌الله‌عنه وما جنته العصابة الزبيريّة والأمويّة في الافتراء عليه. وكيفيه فخراً أنّ الدعيّ ابن سميّة لـمـّا كتب كتاب زور إلى ابن هند في شأن كوكبة الهدى حجر بن عديّ وصحبه الكرام رضوان الله تعالى عليهم، والذي كتب الكتاب أبو بردة بن أبي موسى الأشعري! كلّفه ابن سميّة بكتابته فأنعم وكتبه بما تقرّ له عين ابن سميّة! وجمع حشداً أغلبهم من قتلة سبط رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحسين بن عليّ سيّد شباب أهل الجنّة الشهيد بكربلاءعليه‌السلام ؛ فلمّا علم المختار بالخبر خرج من الكوفة لئلاّ يطلب منه الشهادة.

ولمّا كان مخالفاً لابن أسماء عبد الله بعد أن كان معه؛ فلمّا رأى منه أموراً منها بغضه لبني هاشم وتركه الصلاة على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أربعين جمعة! فلمّا سئل قال: إنّ له أهيل سوء إذا سمعوا ذلك شنفوا برؤوسهم!! مع بخل شديد وغير ذلك، فارقه واستولى على الكوفة وتعقّب قتلة الحسين؛ انطبق عدوّا الأمس اللّدودان: بنو مروان، وبنو الزبير بفرعيه! لـما ستعلم من معنى ذلك فأكثر البيوتات قيل فيها شيء حتّى عبد الله العائذ صاحب فتنتي الحرم والحرّة، فإذا مررنا بالزبير وجدها الهول! فهو حسود تربّى في أجواء مظلمة وله مع أسماء قصص انتهت بالطلاق، وكان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحذّر عليًّاعليه‌السلام من غدره! وأنّه يقاتله وهو ظالم له، فكان كذلك والزبير عقدته في العوّام، فكما قيل في أميّة، وذكوان؛ قيل في العوّام من أنّه قبطيّ مصريّ تبنّاه خويلد، ولقد كانت صفيّة بنت عبد المطّلب تحسن تأديبه بالضرب! هذه وغيرها كثير من مفردات عقد النقص في

٣٥٨

نفوس ذوي العاهات والتي طهرت منها الشجرة المباركة والدوحة الهاشميّة وكانت درّة مشكاتها وصفوتها أحمد الذي بشّرت به الرسالات السابقة وما جعفر وعليّ وأبو طالب إلّا كواكباً في فلك شمس محمّد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وقد جرى ذكر المختار وعديّ، وستقف على ذكر صلحائهم عند الله في أعلى علّيين، لم تسطع أبواق السفيانيين ومن جاء بعدهم أن تنال منهم.

والذي جرى لهؤلاء جرى لبضعة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمّ أبيها كماكان يسمّيها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، مع علمهم بمنزلتها الخاصّة عند الله تعالى، فقد تقدّم للزواج أبوبكر، وعمر، فأعرض عنهما بوجهه، ولم يردّ جواباً، وفي قول: كان يقول: (أمرها إلى ربّها) ثمّ جمعهم فزوّجها عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام (١) .

ومن الطريف! ما يذكرون في هذا الباب، أنّ أبابكر وعمر أتيا ابن عوف فقالا: أنت أكثر قريش مالاً! فلو أتيت رسول الله فخطبت فاطمة زادك الله مالاً إلى مالك وشرفاً إلى شرفك. فأتى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: يا رسول الله، زوّجني فاطمة، فأعرض عنه فأتاهما فقال: قد نزل بي مثل الذي نزل بكما(٢) .

فالقوم كانوا يرجون شرفاً من الزواج بفاطمةعليها‌السلام ، فيقال: إنّ فلان صهر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. فهي لهم مسألة ربح ولذا لـمّا خابت آمالهما توجّها صوب ابن عوف ظنّاً أنّه سيكون الفائز لـما يملك من ثروة! وكأنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طالب مال! فكان تزويجه لعليّ دحضاً لذلك. وكان تزويج فاطمة من عليّ بأمر الله تعالى. بسند عن أنس أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

____________________

(١) المناقب، للخوارزميّ: ٣٤٣، مناقب الإمام عليّ، لابن المغازلي: ٣٤٦ حديث ٣٩٧ و ٣٤٧ حديث ٣٤٩، كفاية الطالب: ٣٠٤، أسد الغابة ١: ٤٦٢، فضائل الخمسة ٢: ١٣٠، الرياض النضرة ٢: ١٨٠، ذخائر العقبى: ٢٧، الذريّة الطاهرة: ٩٣ حديث ٨٣، ٨٥ - ٨٧ حديث ٩٤ - ٩٥.

(٢) كفاية الطالب: ٣٠٢ - ٣٠٣، مجمع الزوائد ٩: ٢٠٩، كنز العمال ٧: ١١٣.

٣٥٩

أقبل على أبي بكر وعمر، فقال: (إنّ الله أمرني أن أزوّجها من عليّ).

وبعد هذا التطلّع للتشرّف من الزواج بفاطمة الصدّيقة الكبرى، أصدر أبوبكر أمره إلى عمر بأن يأتي بعليّ بن أبي طالبعليهما‌السلام بأعنف العنف! وكانعليه‌السلام معتزلاً في جمع من بني هاشم الفتنة في بيت فاطمة الزهراءعليها‌السلام بنت محمّد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ وهرع ابن الخطّاب في جمع يحمل حطباً وقبساً من نار!

فخرجت الزهراء لعلهم يستحون إن رأوها! فقالت: أجئت لتحرق علينا البيت يا ابن الخطاب؟ قال: نعم!

فاين هذا الموقف من التودّد للزواج منها، وفي البيت سبطا رسول الله وذريّته الحسن والحسين، فكان بداية خطّ خارطة الطريق لهتك حرمة أهل بيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من يومئذ، وأتبعوا ذلك بتمكين بني صخر وهند من الشأم ثمّ بسط يد ابن هند فيها، وعلّوا منزلة ابن سميّة زياد! أيّام عمر فمهّد لابن هند أن يستلحقه....

يبدو أنّ القوم اكتنزوا شجاعتهم واختزنوا بطولتهم لليلة الخميس، ليلة الرّزيّة كما كان يسمّيها ابن عبّاس، حينما اشتدّ برسول الله وجعه فطلب أن يقرّبوا له قرطاساً ليكتب لهم ما إن تمسّكوا به فلن يضلّوا بعده أبداً، فانبرى عمر بن الخطّاب قائلاً: كفى بكتاب الله، وضمّ بعض القوم أصواتهم إلى صوته تأييداً له ومظاهرةً على رسول الله! ونادت النسوة من خلف السّتر: ويحكم! اتقوا الله وقدّموا لرسول الله ما يريد؛ فناداهن ابن الخطّاب: اسكتن، إنّكن صويحبات يوسف...، في كلام بذيء! فطردهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبقي معه ابن عمّه عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام وكان أقسى قول قاله ابن الخطّاب وهو يعترض على تقديم ما طلبه النبيّ هو: دعوه! إنّ الرجل ليهجر! أي أتركوه وشأنه، فهو - حاشا لك يا رسول الله، وغفراناً أن ننطقها يا رب! - رجلٌ،

٣٦٠