شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية الجزء ٣

شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية0%

شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية مؤلف:
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 697

شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية

مؤلف: حبيب طاهر الشمري
تصنيف:

الصفحات: 697
المشاهدات: 162810
تحميل: 2835

توضيحات:

الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 697 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 162810 / تحميل: 2835
الحجم الحجم الحجم
شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية

شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية الجزء 3

مؤلف:
العربية

وأحد وغيرها، ولعلّه كان مرهقاً أو لعلّة أخرى فأعطى فضيلة قتل بطل يهود (خيبر) - مرحب - إلى أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام فقتله وكان الفتح على يديه؛ لأنّه (يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله) - ذكرنا الحديث -، ولو كان فيهم مثل عليّ أو أفضل منه لجعله أخاه؛ فيوم المؤاخاة جعل يضمّ النظير إلى نظيره وأبقى عليًّا، فآخاه - ذكرنا مصادره - ويومها في مواقف عديدة قال لعليّعليه‌السلام : (أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي) وهارونعليه‌السلام نبيّ ووصيّ أحد الرّسل أولى العزم ونبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سيّد الأنبياء والرّسل، فوصيّه أفضل من وصيّ غيره! وهارون توفّي في عهد موسىعليه‌السلام ؛ فقول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليّعليه‌السلام : (أنت منيّ بمنزلة هارون من موسى) الظاهر في العصمة، بضمّ معنى آخر هو (الإمامة) فعليّ عاش بعد رسول الله، وهو لم يقل له: هذه المنزلة ما دمت حيّاً، فانتبه!

حبّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للحسنعليه‌السلام

بسند عن محمّد بن فضيل بن غزوان، عن فضيل بن مرزوق، عن عدي بن ثابت، عن البراء بن عازب قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للحسن:

(أللّهم إنّي قد أحببته فأحبّه وأحبّ من أحبّه)(١) .

____________________

(١) صحيح البخاري ٩: ٣٧٤، الأدب المفرد له ح ٨٦، صحيح ابن حبّان: ١٥ / ٤١٦ / ٦٩٦٢، صحيح مسلم: ٢٤٢٢ / ٥٨ - ٥٩، المصنّف، لابن أبي شيبة ٦ / ٣٨٢ / ٣٢١٨٢، مسند أحمد: ٣ / ٥٤٢ و ٤٦١، الفضائل له ح ١٣٥٣ و ١٣٨٨، مسند الطيالسي: ٧٣٢، سنن الترمذيّ: ٥ / ٦١ / ٣٧٨٢ و ٣٧٨٣، السنن الكبرى، للنسائي ج ٥ ح ٣ من مناقب الحسنين، المعجم الكبير: ٣ / ٣١ / ٤٥٨٢ و ٢٥٨٤، المعجم الأوسط: ٢ / ٥٧٩ / ١٩٩٣، السنن الكبرى، للبهقي ١٠ / ٢٣٣، شرح السنّة، للبغوي: ١٤ / ١٣٤ / ٢٩٣٢، تاريخ بغداد: ١٢ / ٩، مناقب أميرالمؤمنين، للكوفي ٢ / ٦٤ / ٧١٨.

٤٤١

شهادةٌ من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الله تعالى: أنّه يحبّ الحسن ويسأل الله تعالى أن يحبّه، وأن يحبّ من يحبّه. ولم يكن من حرق البيت عليه يحبه، ولا من حاربه وقد أخذت البيعة له طواعية، يحبّه؛ وكيف يحبّه ولـمّا تجفّ أقدام أهل الشأم من الدماء وخيولهم من عرقها، وقد هلك مهم في حربهم لأميرالمؤمنين عليّعليه‌السلام أكثر من (٤٥) ألفاً، وهم قد أدخل الإسلام إلى بلادهم يزيد بن أبي سفيان ومعاوية ابن هند الذي أفرده بحكم الشأم عمر بن الخطّاب، فأدّبهم بآدابه ومن تلك الآداب: المنع من حديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتربيتهم على بغض أهل البيتعليهم‌السلام .

أقول: ما إن انتهت صفّين واتّفق الفريقان على هدنة لمدّة سنة بعدها ينظروا في أمرهم، ورجع أهل الشأم إلى شأمهم وأهل العراق إلى عراقهم، ثمّ كانت حركة الخوارج المارقين ومعركة النهروان التي انتهت بما أنبأ به أمير المؤمنين أن لا يقتل من جيشه إلّا دون العشرة، ولا ينجو منهم إلّا دون العشرة فكان كما قال. ثمّ استشهدعليه‌السلام ، فبايع الناس الإمام الحسنعليه‌السلام ؛ فتحرّك ابن هند ومعه أهل الشأم لحرب سبط رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فدينهم دين ابن هند وكفى بابن النابغة عمرو أن يصفهم على ما مرّ بنا. فبهم وبخوارج الكوفة وعثمانيتها وبأساليب الغدر، استشهد سبط رسول الله الحسينعليه‌السلام وهم الذين تفرّدوا بوقعة الحرّ النكراء، وهم وحدهم الذين انتهكوا حرمة البيت الحرام بعد هتكهم حرمة المدينة المنوّرة، وتخريبهم وحرقهم الكعبة المشرّفة! وأعادوا فعلتهم هذه بالبيت الحرام وهدم وحرق الكعبة أيّام عبد الملك بن مروان؛ هذا غير الغارات التي تحدّثنا عنها ناكثا لعهوده، فهاجم المدينة المنوّرة ومكّة المكرّمة وقطع سبيل الحاجّ وقتل من وصلت إليه يد جنده من أهل الشأم.

ولم يفعل الخوارج المارقون ما فعله خوارج الشأم أتباع ابن هند! وكان سلوك

٤٤٢

الخوارج الأوائل من إقصائهم أهل البيت عن مراتبهم التي رتّبها الله لهم، ومصادرتهم حقوقهم مثل (فدك)، وحرقهم البيت الذي كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يدخل مسجده لصلاة الفجر إلا بعد أن يق عنده فيسلم على أهله ويرفع صوته بذلك: (السلام عليكم أهل البيت، إنّما يريد الله أن يذهب عنكم الرّجس ويطهّركم تطهيراً؛ الصلاة أهل البيت) - يقولها ثلاثاً.

إنّ فضل أيّ من أهل البيتعليهم‌السلام راجع إلى الآخر، وهو مشترك بينهم؛ فإذا قيل: بيت سيادة، لم تذهب الخواطر والنفوس إلا الى هذا البيت النبوي العلوي العلوي الذي أوّله سيّد الرّسل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعماده ابن مؤمن قريش وشريفها مثل الجهاد رضوان الله عليه أبو طالب؛ أمّه أوّل المبايعات؛ عوّضت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حنان الوالدة المؤمنة الصالحة تلك هي الجوهرة الفريدة آمنة بنت وهب؛ وزوجه الطهر الطاهرة بضعة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وابناه ريحانتا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتدرّجاً في آبائه مصابيح الهدى وفخر الإنسانيّة، لا عيب في أحدهم وإن بعدت سلسلة الآباء؛ فإذا قيل: من فخر ولد آدمعليه‌السلام ؟ قيل: هموا. ولم تكن هذه السيادة لفخر النسب وإن زكى؛ ولا من عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المسدّد بالوحي والذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى؛ إنّما هو من عند الله تعالى؛ ومن السيرة الذاتيّة لكلّ شمس مشرقة في هذا البيت الذي منع الله تعالى ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يشركهم مفاخر الرجال! ونساؤه أن يشركوهم بما اختصّهم الله تعالى به من الفخر والعصمة ولم يخرج بغيرهم يتحدّى النصارى بهم؛ فغلبهم بهم؛ فكانوا أهل بيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حقّاً، وترجمان القرآن وعدله، وهما تركة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أمّته لا يجوز العمل بما عند أحدهما دون الآخر؛ وهتك حرمة أحدهما، هتك لحرمة الثقل الثاني وعدله؛ فلينظر كلّ من هتك حرمة أهل البيتعليهم‌السلام ، مستقرّهم يوم الحساب!

٤٤٣

حديث الثقلين

من طرق عدة، يرد قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم:

(إنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي، لن تضلّوا ما استمسكتم بهما، ولن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض)(١) .

____________________

(١) الصمنّف، لعبد الرزّاق ٤ / ٥٢ / ٦٩٤٣، المصنف، لابن أبي شيبة ١٠ / ٥٠٦ و ١٢ / ٩٧ / ١٢٢٣٠، صحيح مسلم ٤ / ١٨٧٤ و ٧ / ١٢٢ / ٢٠٤٨ و ٣ ص ١٤ و ١٧ و ٢٦ و ٥٩، و ١٧ / ١٦٩، وفضائل الصحابة له ح ١٧٠ و ٣٥ - ٣٦، و ٦٧ ح ١١٤، سنن الترمذيّ في باب مناقب أهل البيت ٥ / ٣٢٨ / ٣٨٧٦ و ١٢ / ١٢٦، كتاب الولاية، لابن عقدة: ١٧٥، المعرفة والتاريخ ١ / ٥٣٦ - ٥٣٧، المعجم الكبير ٥ / ١٦٦ / ٤٩٦٩ و ١٨٣ / ٥٠٨٣ وأجزاء وصفحات اخرى منه، مسند أبي يعلى ٢ / ٣٧٦ / ١١٤٠ وح ٤٨ و ٥٣ و ١٦٦، سنن الدارمي ٢ / ٤٢١ وو ٣ / ٤٣١، السنّة، لابن أبي عاصم ٦٢٩ / ١٥٥٠ و ١٥٥٥، المعجم الصغير ١: ٢٥٥، المعيار والموازنة: ٣٥، المستدرك على الصحيحين ٣: ١٤٨ - ١٤٩، الشافي ١ / ٩٨٩ - ٩٩٩، ورواه الثعلبي في تفسير قوله تعالى:( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرّقُوا ) - آل عمران: ١٠٣، مشكل الآثار ٤ / ٢٥٤ / ٢٧٩٧. قال الطحاوي: فمن أخرج عترة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من المكان الذي جعلهم الله به على لسان نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.. . فجعلهم كسواهم... كان به ملعوناً؛ سنن البيهقي ٢ / ١٤٨ و ١٠ / ١١٤ ومواضع أخرى، شرح السنّة، للبغوي ١٤ / ١١٧ / ٣٩١٣ ومواضع أخرى، كشف الأستار ١٩٠ / ٢٥٤٠، صحيح ابن حبّان ١ / ١٣٣ / ١٢٣، الصواعق المحرقة: ٧٥، الأمالي الخميسيّة ١ / ١٥٤ ومواضع أخرى، فرائد السمطين ٢ / ١٤٤ ومواضع أخرى، أنساب الأشراف ٢ / ١٨٣، إكمال الدين، للصدوق ١ / ٣٦ باب ٢٢، مناقب الإمام عليّ، لابن المغازلي: ٢٣٦ ح ٢٤٨ ومواضع أخرى، مناقب أميرالمؤمنين، للكوفي ١ / ٧٤٨ / ٦١٥ - ٦١٧، ونفسه ٧٧٨ / ٦٣٢ - ٦٣٣ و ٧٨٥ / ٦٣٥ و ٧٩٧ / ٦٣٩ و ٨٢٣ / ٦٦٣ و ٨٣ / ٦٧٠، غاية المرام: ٥٣٩، أمالي المحاملي ٣ / ٣٨، البداية والنهاية ٧ / ٣٦٠، المؤتلف والمختلف، للدار قطني ٤ / ٢٠٦٠، معاني الأخبار، للصدوق: ٩٠ باب ٣٤، عيون أخبار الرضا: ٤٦، المناقب، للخوارزمي ح ١٨٥، سنن أبي داود ٤ / ٢٩٤ / ٤٩٧٣، تفسير ابن كثير ٤ / ١١٣ (تفسير آية المودّة من سورة الشورى)، موارد الظمآن، للهيثمي رقم ٢٢٤٤، طبقات ابن سعد ٣ / ١٩٤، خصائص أميرالمؤمنين، للنسائي ٩٦ / ٧٨، تاريخ بغداد ٨ / ٤٤٨، كنز العمّال ١٣: ٦٤١، مجمع الفوائد، للهيثمي ٩ / ١٦٣، كفاية الطالب: ١١ الباب الأوّل، فتح القدير ٧ / ٧٤.

٤٤٤

فالحديث بيّن واضح أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو مرجع الأُمّة في العقيدة والاحكام، وقد أوكلها من بعده إلى منبعين فيهما الهداية والنور؛ وما أتى به النبيّ ينبغي أتّباعه، وما نهى عنه يجب تركه كما تبيّن لنا فيما مضى. فكان الواجب التزام ما أمر به جميعا أو تركه كذلك ممّا دلّ على عصمة الثقل الثاني بالتبعة لثقله الأول (القرآن). وهذا الذي ذهب إليه الطحاوي الحنفي (ت ٣٢١ هـ) شيخ البخاري، في كلامه عن حديث الثقلين، وقد ذكرنا بعضه في الهامش ونعيد ذكره كاملاً؛ قال أبو جعفر - الطحاوي: (فمن أخرج عترة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعليهم من المكان الذي جعلهم الله به على لسان نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ممّا قد ذكرنا في هذه الآثار فجعلهم كسواهم ممّن ليس من أهل بيته وعترته كان به ملعونا إذ كان قد خالف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما فعل من ذلك)(١) .

فهل عمل الخوارج من يومهم الأوّل، مروراً بابن هند، إلى ابن تيميه فالوهّابيّين بقول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأنزلوا عترة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته الذين طهّرهم الله تطهيراً بآية التطهير، وهم أهل الكساء، المنزلة التي أنزلهم الله إيّاها، أم حسدوهم في حياة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى شكى سيّد المسلمين أمير المؤمنين ما يجد من حسد قريش له، فكان من جواب رسول الله له: أنّه سيلقى من بعده أذىً كثيراً وعليه أن يصبر! فلمّا سمعها الذين في قلوبهم مرض مع علمهم أنّ عليًّاعليه‌السلام لا يعصي لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمراً وأنّه ملتوم بوصيّته وأنّه مقدّم لمصلحة الإسلام على كلّ شيء؛ نفخوا بسبلتهم وشمّروا عن سواعد كانت تلوذ برسول الله وبأخيه عليّ الذي كفاهم بأس الأعداء وزرع في كلّ بيت قرشي أو حليف ناحة! وشنّوا الغارة على بيت مهبط الوحي، بيت أهل رسول الله الذي كان لا يتعدّاه حتّى يرفع صوته بالسّلام عليه: (السّلام عليكم أهل البيت؛ إنّما

____________________

(١) مشكل الآثار، للطحاوي الحنفي ٤: ٢٥٤ / ٣٧٩٩.

٤٤٥

يريد الله أن يذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً) وما كان يصنع مثل ذلك ببيت من تلك البيوت، ولهذا ولغيره من عظيم الخصائص صار من أخرجهم من مكانهم الذي جعلهم الله فيه ملعوناً، كما ذكر الطحاوي.

كيف يكون حال من هتك حرمة هذا البيت بالتحريق والوعيد الشديد لمن لم يبايع وشهر عليهم السيف وقتلهم؛ ولمن أعلن أن لا جنّة ولا نار وتاجر بالأصنام وأباح حرم الرسول وهتك حرمة بيت الله، وخالف سنّة رسول الله وحرقها، ولو كان يسعفه الأمر لحرق القرآن! أو لم يجعل الوليد كتاب الله هدفاً لسهمه، وصلّى بالناس صلاة الصبح سكراناً، فزادهم ثمّ التفت إليهم وقال: هل أزيدكم؟!

بسند عن عائشة أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: (ستّة ألعنهم، لعنهم الله وكلّ نبيّ مجاب: الزائد في كتاب الله، والمكذّب بقدر الله، والمتسلّط بالجبروت يذلّ به من أعزّ الله عزّوجلّ ويعزّ من أذلّ الله عزّ وجلّ، والتارك لسنّتي، والمستحلّ لحرم الله عزّوجلّ، والمستحلّ من عترتي ما حرم الله عزّوجلّ)(١) .

وما نال أمّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعترته الطاهرة على يد أحد ما نالهم على يد المتسلّط بالجبروت واشتقاقه من الجبريّة مثل الملكوت من الملك؛ فانظر في سلطان الجميع، في قربه وبعده من الجبروت، ومن لعنه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منهم لتسلّطه الجبروتي، ومن خلال سيرته في إعزاز من أذلّة تعالى بذنوبه وإذلال من أعزّه الله ورفع مقامه لطهارته؛ تعرف من هو الجبروت؟

وفي الحديث لعن من استحلّ ما حرّم الله عزّ وجلّ فيجعل من حرم الله كما سواه ممّا لم يحرّمه من بلاده، وقد أبان سبحانه حرمه من سائر الأصقاع من منع عباده من

____________________

(١) مشكل الآثار، للطحاوي الحنفيّ ٤: ٢٥٤ / ٣٧٩٣.

٤٤٦

دخوله إلّا محرمين إمّا بالحجّ أو بالعمرة من تحريم صيده، ومن دخله كان آمناً لقوله تعالى:( وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً ) (١) . وبتحريمه عضاهه للحرمة التي لم يجعلها لعضاه غيرها ومن منعه القتال فيه، من لا يجب قتاله، لأنّه قد أعلمنا عزّ وجلّ على لسان رسوله إنّ مكّة لا تغزى بعد العام الذي غزاه وأنّه لا يقتل قرشيّ بعد عامه ذلك صبراً، اي لا تقتلوا أهلها بعد ذلك العام، فيغزون كما غزوا في ذلك العام للكفر الذي أباح دماء أهلها القرشيّين في ذلك العام؛ فمن أنزل الحرم بخلاف تلك المنزلة كان به ملعوناً. ولذلك أذاع ابن الزبير في أوّل أمره: أنّه عائذ ببيت الله، لعلّ جيوش الشأم تكفّ عنه؛ ولا أدري! نسي أو تناسى أنّهم طوع المتسلّط بالجبروت المشتهر بالخمر وملاعبة الكلاب والقرود والفهود؛ ومن قبل شنّوا الغارات على الحرمين الشريفين، ولم يكن وقتها تمرّد ولا حتّى عائذ!

وكان منه أن حرّض أهل المدينة على خلع أسفه متسلّط بالجبروت فكان الحرّة، ثمّ عطف جيش الشأم على بيت الله فدكّوا قبلة المسلمين فهدموها وحرقوا ستائرها وهم يرقصون ويتغنون فرحاً بما فعلوا؛ ولولا أنّ خبر هلاك طاغيتهم المتسلّط بالجبروت قد وصلهم لـما رجعوا إلّا برأس ابن الزبير؛ عند ذلك اختلفوا وصاروا أكثر من فرقة ورجعوا إلى الشأم لتبدأ مرحلة جديدة هي تسلّط مروان بن الحكم، وفي عهد ابنه عبد الملك خرّبت الكعبة مرّة أخرى على ايدي أهل الشأم ولم يرجعوا إلّا بعد أن قتل ابن الزبير وصلب.

وقوله: (والمستحلّ من عترتي ما حرّم الله) وعترته هم أهل بيته الذين على دينه

____________________

(١) آل عمران: ٩٧.

٤٤٧

وعلى التمسّك بأمره، ولذا قرنهم بكتاب الله كما في حديث الثقلين، وأهل بيته الذين على دينه هم أهل الكساء: عليّ، وفاطمة، والحسن، والحسينعليهم‌السلام ، الذين جمعهم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معه تحت الكساء ودعا لهم وقال: (أللّهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً) وفيهم نزلت آية التطهير. فمن أخرجهم عن مكانتهم ومنزلتهم التي أنزلهم الله تعالى إيّاها كافر بالقرآن لأنّ أهل البيت بعض القرآن لـما نزل فيهم، فليس بمؤمن من آمن ببعض القرآن وكفر ببعضه، ومن فعل ذلك فله خزي في الحياة الدنيا وله يوم الآخرة عذاب عظيم! وحاله حال من استحلّ حرم الله عزّ وجلّ فيما استحلّ من حرمة أهل البيتعليهم‌السلام ، فكلا المستحلّين موضع لعنة سيّد الأنبياء والرسل، ودعوة كلّ نبيّ مجاب! فأين يكون من استحلّ حرمة أهل بيته بالمداهمة والتحريق ومصادرة نحلة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ابنته الصدّيقة الطاهرةعليها‌السلام وتكذيب دعواها وماتت وهي واجدة على القوم! وأقصوا أمير المؤمنين بنصّ القرآن الكريم وأحاديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، عن تلك المنزلة؛ ولـمـّا بويع بيعة شرعيّة عامّةً خرج عليه ابن هند فحاربه، ثمّ حارب من بعده ثاني العترة السبط الزكي الحسن بن عليّعليهما‌السلام ، ومن بعد ذلك قتل ابن ميسون سيّد شباب أهل الجنّة الحسين بن عليّعليهما‌السلام وتوالت المصائب على العترة الطاهرة وشيعتهم حتّى يومنا.

فأين يكون الفريقان الباغي والمبغى عليه، العترة الطاهرة وشيعتهم ومن تسلّط بالجبروت فقتلهم ونكّل بهم، هل يجتمع الفريقان في مكان واحد؟! فهذا ليس من عدل الله تعالى الذي جعل قتل النفس الواحدة مثل قتل الناس جميعاً؛ هذا في عموم الناس! كيف إذا صار إلى قتل عترة نبيّه وشيعتهم خير البريّة، وقتل من طهّرهم من دون خلقه وكانوا معجزة نبيّه يوم المباهلة وأمر سبحانه بولايتهم؟! ولـمّا كانوا مع

٤٤٨

الحقّ والحقّ معهم لا يفارقهم، وهم عدل القرآن والثقل الثاني اللّذان تركهما رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأوصى بهما، فإنّ القرآن معهما دنياً وآخرة ويأبى أن يحشر مع ثقله عدوّه وقاتله!

الصلاة على أهل البيت في العبادة

الصلاة عمود الدين ومعراج المؤمن وصلة العبد بربه... وفي هذه العبادة العظيمة يصلّى على النبيّ وأهل بيته عقب التشهّد في كلّ صلاة، ولا يجوز ذكر غيرهم فيها وإلاّ بطلت الصلاة، فحال غيرهم حال المبطلات الأخرى. فأيّ منزلة هي منزلة أهل البيتعليهم‌السلام حتّى يذكروا في الصلاة؛ وهل تجوز صلاة خارجيّ ناصبيّ، إن كان من المصلّين! وقد استحلّ حرمة أهل البيت، وهو أحد الستّة الذين لعنهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟!

وقد جرى الكلام عن هذه الفضيلة والمنزلة الرفيعة متوسّعاً في ترجمة سيّد الشهداء أبي عبد الله الحسين بن عليّعليهما‌السلام.

بيعة الإمام الحسنعليه‌السلام

كانت بيعة الإمام الحسن نظير بيعة أبيه أمير المؤمنينعليهما‌السلام، فلم يكن فيها بطش وتهديد بالقتل! ولم تكن جبريّة وإنّما على علن من الجميع ورضاهم.

البلاذريّ: حدّثني عباس بن هشام الكلبي عن أبيه عن أبي مخنف وعوانةبن الحكم في إسنادهما، قالوا: لـمّا قتل عليّ بن أبي طالب قام قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري فخطب وحمد الله وأثنى عليه، ثمّ وصف فضل عليّ وسابقته وقرابته والذي كان عليه في هديه وعدله وزهده، وقرّظ الحسن ووصف حاله ومكانه من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والذي هو أهله في هديه وحلمه واستحقاقه الأمر بعد أبيه، ورغّبهم في بيعته، ودعاهم إلى طاعته، وكان قيس أوّل من بايعه ثمّ ابتدر الناس بيعته(١) .

____________________

(١) أنساب الأشراف ٣: ٢٧٨.

٤٤٩

وقد كان قيس عامل عليّ على آذربيجان فكتب إليه في القدوم للغزو معه، فقدم فشهد مقتله(١) .

____________________

(١) نفس المصدر السابق. وقيس سيّد ابن سيّد؛ فهو قيس بن سعد بن عبادة بن دليم بن حارثة بن أبي حزيمة بن ثعلبة بن طريف بن الخزرج بن ساعدة الخزرجيّ. وسعد بن عبادة، سيّد الخزرج، أبو ثابت ويقال: أبو قيس، المدنيّ، صاحب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأمّ سعد: عمرة بنت مسعود؛ من بني مالك بن النجّار بن الخزرج. من المبايعات، توفّيت بالمدينة ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غائب في غزوة دومة الجندل، وكان سعد معه في تلك الغزوة، فلمّا قدم رسول الله المدينة أتى قبرها فصلّى عليها. شهد سعد العقبة مع السبعين من الأنصار، وبيعة الرضوان وكان أحد النقباء الاثني عشر، وشهد بدراً وأحداً والخندق والمشاهد كلّها مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكان سيّداً جواداً. كان سعد بن عبادة والمنذر بن عمرو، وأبو دجانة لـمّا أسلموا يكسرون أصنام بني ساعدة. وهو من بيت عريق في الكرم؛ كان سعد وعدّة من آبائه ينادى على آطامهم: من أصبّ الشّحم واللّحم فليأت أطم دليم ابن حارثة. وكذلك كان يصنع ابنه قيس بن سعد بن عبادة. وكان راية رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المواطن كلّها راية المهاجرين مع عليّ بن أبي طالب وراية الأنصار مع سعد بن عبادة.

وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا أمسى قسم ناساً من أهل الصفّة بين رجال من أصحابه، فكان الرجل يذهب بالرجل، والرجل يذهب بالرجلين...، وكان سعد بن عبادة يرجع كلّ ليلة إلى أهله بثمانين منهم يعشّيهم.

عن ابن عبّاس: كانت راية رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المواطن كلّها راية المهاجرين مع عليّ بن أبي طالب، وراية الأنصار مع سعد بن عبادة. (مسند أحمد ١ / ٣٦٨). وقال حمّاد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس: لـمّا بلغ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إقبال أبي سفيان قال: أشيروا عليّ، فقام أبوبكر فقال له: اجلس! ثمّ قام عمر فقال له: اجلس! فقام سعد بن عبادة: إيّانا تريد يا رسول الله؟ فلو امرتنا أن نخيضها البحر لأخضناها، ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى برك الغماد لفعلنا ذلك. (مسند أحمد ٣ / ٣٦٨، ٢١٩، ٢٥٥٧، ٢٨٧؛ وصحيح مسلم ٥ / ١٧٠ و ٨ / ١٦٣؛ وسنن أبي داود: ٢٦٨١). امتنع سعد بن عبادة من بيعة أبي بكر، فبعث إليه أبوبكر أن بايع، فقال: لا والله حتّى أراميكم بما في كنانتي وأقاتلكم بمن تبعني من قومي وعشيرتي. فلمّا جاء الخبر إلى أبي بكر قال بشير بن سعد: إنّه قد أبى ولجّ وليس بمبايعكم أو يقتل ولن يقتل حتّى يقتل معه ولده وعشيرته ولن يقتلوا حتّى تقتل الخزرج، ولن تقتل الخزرج حتّى تقتل الأوس، فلا تحركوه...، فقبل أبوبكر نصيحة بشير فترك سعداً، فلمّا ولي عمر لقيه ذات يوم في طريق المدينة فقال: إيه يا سعد! فقال سعد: إيه يا عمر، فقال عمر: أنت صاحب ما أنت صاحبه؟ فقال: نعم أنا ذاك وقد أفضى هذا الأمر إليك، كان والله صاحبك أحبّ إلينا منك وقد والله أصبحت كارهاً لجوارك. فقال عمر: إنّه من كره

٤٥٠

جوار جاره تحوّل عنه، فقال سعد: أما إنّي غير مستنسئ بذلك وأنا متحوّل إلى جوار من هو خير منك، فخرج مهاجراً إلى الشأم واستوطن حوران. ولم يتركه عمر بل ارسل خلفه رجلاً يسأله إن كان ما زال على رأيه أو يبايع ولـمّا علم أنّه مصرّ على موقفه سدّد مبعوث عمر سهماً إلى قلب سعد فقتله وأشاعوا أنّ الجنّ قتله لأنّه بال واقفاً! ولم يقولوا إن كان قاتله من جنّ الجنّ أم الإنس كأن يكون الرجل الذي بعثه عمر - وقد ذكرنا اسم الرجل والمصادر التي ذكرت أنّه مأمور بقتله إن امتنع - ولا ندري لم تقتل الجنّ رجلاً بال واقفاً (انظر ابن سعد ٣: ٦١٦ - ٦١٧ و ٧: ٣٩٠ - ٣٩١) وانظر في ترجمة سعد بن عبادة المصنف، لابن أبي شيبة: ١٣ رقم ١٥٧٨٢، السيرة النبويّة، لابن هشام في مواضع متعدّدة، المغازي للواقدي في مواضع عدّة، طبقات خليفة: ٩٧ و ٣٠٣ و تاريخه: ٧٢ و ١١٧ و ١٣٥، تاريخ البخاري الكبير: ٤ ترجمة ١٩١١، صحيح مسلم ٥: ١٧٠ و ٨: ١٦٣، وسنن أبي داود (٢٦٨١)، المعارف، لابن قتيبة: ٢٥٩، المعرفة، ليعقوب ١: ٢٩٤، المعجم الكبير، للطبراني: ٦ رقم ٥٢٧... وكتب التراجم والتاريخ والحديث.

وابنه: قيس بن سعد بن عبادة: صحابيّ وأبوه صحابيّ؛ وكان قيس من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام ، والإمام الحسن بن عليّعليهما‌السلام (الكشي: ٦٣ و ٧٢) وهو من العشرة الذين نصروا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ وممّن لم يبايع أبا بكر (رجال ابن داود: ٢٧٩ / ١٢١٠).

وقد ذكرنا من كرم بيته أنّه وأباه وأجداده كانوا يطعمون الطعام فكانوا يقف أحدهم فينادي: من أحبّ الشّحم واللّحم فليأت أطم دليم بن حارثة. وقيس بن سعد أوّل من بايع الإمام الحسنعليه‌السلام بعد أن خطب في الناس فبيّن فضل أمير المؤمنينعليه‌السلام ومدح الإمام الحسنعليه‌السلام بما هو أهله، ولـمّا بايع قيس ابتدر الناس بيعته. وقد ذكره الطبريّ في سنده عن الزّهريّ قال: جعل عليّعليه‌السلام قيس بن سعد على مقدّمته إلى اذربيجان وعلى أرضها، وشرطة الخميس وكانوا أربعين ألفاً بايعوا عليًّا على الموت ولم يزل قيس يدارئ ذلك الجيش حتّى قتل الحسنعليه‌السلام واستخلف أهل العراق الحسن بن عليعليه‌السلام على الخلافة. (تاريخ الطبري ٤: ١٢١). وفي رجال البرقي: ٣؛ في ذكر أصحاب أمير المؤمنينعليه‌السلام ، قال: وأصحاب أمير المؤمنين الذي كانوا شرطة الخميس كانوا ستّة آلاف رجل؛ وقال عليّ بن الحكم: أصحاب أمير المؤمنين الذي قال لهم: (تشرّطوا إنّما أشارطكم على الجنّة، ولست أشارطكم على ذهب ولا فضّة، إنّ نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لأصحابه فيما مضى: تشرّطوا فإنّي لست أشارطكم إلّا على الجنّة). فهل يجتمع قيس مع الخوارج في مكان واحد؟! قال أنس بن مالك: كان قيس بن سعد من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمنزلة صاحب الشّرطة من الأمير. (الاستيعاب ٣: ١٢٨٩).

وكان قيس بن سعد بن عبادة خادماً للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خدمه عشر سنين. ومن جوده: بسند عن جابر بن عبد الله خرجنا في بعث وعلينا قيس بن سعد بن عبادة فنحر لنا تسع ركائب، فلمّا قدمنا على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذكر له ذلك، فقال: (إنّ الجود من شيمة أهل ذلك البيت). (الاستيعاب ٣: ١٢٩٠).

٤٥١

وقال هشام بن عروة، عن أبيه: باع قيس بن سعد مالاً من معاوية بتسعين ألفاً، فأمر منادياً فنادى في المدينة: من أراد القرض فليأت منزل سعد، فأقرض أربعين أو خمسين، وأجاز بالباقي، وكتب على من أقرضه صكّاً، فمرض مرضاً قلّ عوّاده فقال لزوجته: لم ترين قلّ عوّادي؟ قالت: للذي لك عليهم من الدّين. فأرسل إلى كلّ رجل بصكه. (تاريخ بغداد ١: ١٧٨ - ١٧٩).

ومن أخباره مع ابن هند: كان قيس بن سعد بن عبادة عاملاً لعليّ على مصر، فكتب إليه معاوية: أما بعد، فإنذك يهوديّ ابن يهوديّ، إن ظفر أحبّ الفريقين إليك عزلك واستبدل بك، وإن ظفر أبغضهما غليك نكّل بك وقتلك، وقد كان أبوك أوتر قوسه، ورمى غرضه، فأكثر الحزّ وأخطأ المفصل، فخذله قومه، وأدركه يومه، ثمّ مات بحوران طريداً. فكتب إليه قيس بن سعد: أمّا بعد، فإنّما أنت وثن ابن وثن، دخلت في الإسلام كرهاً، وخرجت منه طوعاً، لم يقدم إيمانك ولم يحدث نفاقك، وكان ابي أوتر قوسه ورمى غرضه، فشغب به من لم يبلغ عقبه، ولا شقّ غباره؛ ونحن أنصار الدين الذي منه خرجت، وأعداء الدين الذي فيه دخلت. (مروج الذهب ٣: ١٦ - ١٧). وإذا كان هذا منطق قيس بن سعد بن عبادة مع معاوية في وجود الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام ومكاتبةً، فإنّه شؤبوب اضطرمت في كبد ابن هند بمحضر منه في مجلسه، وأميرالمؤمنينعليه‌السلام قد استشهد.

(دخل قيس بن سعد بن عبادة، بعد وفاة عليّ ووقوع الصلح في جماعة من الأنصار، على معاوية، فقال لهم معاوية: يا معشر الأنصار، بم تطلبون ما قبلي؟! فو الله لقد كنتم قليلاً معي كثيراً عليّ، ولفللتم حدّي يوم صفّين حتّى رأيت المنايا تلظّى في أسنّتكم، وهجوتموني في ألافي بأشدّ من وقع الأسنّة، حتّى إذا أقام الله ما حاولتم ميله قلتم: ارع فينا وصيّة رسول الله، هيهات يأبى ذلك الحقين العذرة! فقال قيس: نطلب ما قبلك بالإسلام الكافي به الله، لا بما تمتّ به إليك الأحزاب. وأمّا عداوتنا لك فلو شئت كففتها عنك. وأمّا هجاؤنا فقول يزول باطله ويثبت حقّه. وأمّا استقامة الأمر فعلى كره كان منّا. وأمّا فلّنا حدّك يوم صفّين فإنّا كنّا مع رجل نرى طاعته لله طاعة. وأمّا قولك: يأبى الحقين العذرة فليس دون الله يد تحجزك منّا يا معاوية. فقال معاوية: ارفعوا حوائجكم. (المصدر السابق: ١٧).

لله أمّ قامت عن قيس بن سعد بن عبادة، فلا السيف يردعه ولا اللسان يقطعه؛ ولا الشيطان ينفكّ عن قرينه معاوية، هوت به هامه في هاوية، فهو بحقّ معاوية وما معاوية إلّا كلبة عوت فاستعوت الكلاب - مرّ بنا جواب البعض له في ذلك والتفسير اللّغوي لكلمة معاوية - فما دخل عليه شريف من الأشراف، رجلاً كان أم امرأة، فرداً كان أو جماعة، وحتّى الأعراب، إلّا ونبحهم! وحارشهم. فهو ما أن دخل عليه أنصار الله ورسوله، وفيهم قيس بن سعد وكان الصلح قد أبرم - وإن خان ابن هند كلّ بنود الصلح مع الإمام المعصوم بما ذكرنا بعضاً من الأدلّة قرآناً وسنّة في عصمتهعليه‌السلام - حتّى نقله قرينه قرين السوء الشيطان الرجيم إلى عرصات صفّين

٤٥٢

فرأى أنّ الأنصار هم عصب جيش أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام ، ولاحت له رماحهم تلظّى المنايا في أسنّتها كما صرّح وكان أكثر الشهداء يوم صفّين منهم وأكثر هلكى الشأم على أيدي الأنصار حتّى كادوا يصلوا إليه فيطهّروا الأرض من وثنيّته وعهره وبدعه التي ابتداعها، لولا خضوع أعراب نجد من أسد وغطفان وتميم ممّن لم يقدم إسلامهم ولم يكونوا شيعة لأميرالمؤمنين على نحو التشيّع الذي أمر به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو الطاعة المطلقة لهعليه‌السلام كما كان يوم الغدير إذ أخذ له البيعة وأنّه وليّ من وليّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ودعا له ولمن والاه بالنصرة، وبالخذلان لمن خذله وعاداه. والأحاديث جمّة في هذا المعنى من ذلك حديث الثقلين وحديث المنزلة وقرن طاعته بطاعتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمره بقتال الخوارج بفرقهم الثلاث: الناكثين - يوم البعير - والقاسطين البغاة - ابن هند وأهل الشأم، والمارقين يوم النهروان، وإنّ قتاله وقتال أهل بيته وسلمهم، قتال وسلم لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهذا ما فهمه الشيعة الإماميّة من يومهم الأوّل بتعليم النبيّ لهم هذا المعنى. والأنصار إذ يطلبون حقّهم الذي حبسه ابن هند، وراح يتعلّل عليهم بالملكيّة التي قاتل عليها الأنصار، وكان يقول: أنا أوّل ملك، فكان جواب قيس صادراً من مدرسة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد أمضى عشر سنين يخدمه ويرى فعله ويسمع كلامه ويقاتل معه؛ فلمّا رجع الحقّ إلى صاحبه أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام ، كان من شيعته وحامل راية قبيلته في معارك أميرالمؤمنين. والأنصار الذين أذاقوا ابن هند مرّ المنايا، وقد ضمّ أمير المؤمنين نفسه الطاهرة إليهم ووقف إلى صفّهم فمن أراد أن ينال منهم ينال منهعليه‌السلام ، هذا والأمر لم ينته إليه بعد، ذكرنا تفصيله في (فضائل الأنصار). فهم تبع للقرآن الكريم، ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ ولذا يطلبون حقّهم الذي قرّره لهم الإسلام وكفله الله لهم، لاحقين العذرة ابن هند! وصلات أحزاب الضلالة والنفاق. والأنصار تبع الحقّ، فما لابن هند وما مضى؟! وليس في هجاء الأنصار إلّا قول الحقّ من غير فحش، فهم مع شرفهم في أنفسهم، فإنّهم مع إمام عدل معصوم لا يبدأ أعداءه بقتال ويأمر أصحابه أن لا يشتموا خصمهم وإن شتمهم، ويأمر أصحابه أن لا يهجون أحداً إلّا بوصف عمله ولا يزيد على ذلك. ومتى استقام الأمر لابن هند وما هي كرامته عند الله تعالى ليستقيم له الأمر؟! إنّما هي فتنة حذّر منها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنبأ أنّ ابنه (الحسن الزكيعليه‌السلام) هو السيّد الذي يصلح الله به بين فئتين عظيمتين. وقد خرجعليه‌السلام لملاقاة ابن هند، ومعه ما يزيد على أربعين ألفاً من أهل الكوفة واضعين سيوفهم على عواتقهم على نحو خروجهم لنصرة أمير المؤمنينعليه‌السلام يوم الجمل، وكان طليعتهم: قيس بن سعد بن عبادة، وقد اندسّ في جيشه عدد كبير من الخوارج المارقين فلمّا حانت الفرصة لهم طعنوا الإمام الحسنعليه‌السلام ، ووصل الخبر قيس بن سعد؛ فكان موقفه نظير مالك الأشتر، لم يتضعضع، ولكن لـمّا ذكّر بمحنة الإمام رجع إليه، وجرت مفاوضات الصلح وشرط الإمام الحسنعليه‌السلام شروطاً وافق عليها ابن هند، لم يف بها، وكان قيس بن سعد ضدّ الصّلح حتّى جاءه ابن هند فنكس قيس يديه في حجره فمدّ معاوية يده وأخذ يد قيس ومسح عليها!

٤٥٣

وانظر إلى قيس إذ يعقّب على قول ابن هند إذ يكشف عن سرّ الأنصار في فلّهم حدّ ابن هند يوم صفّين ذلك أنّهم كانوا مع رجل يرون طاعته طاعةً لله، فإنّهم كما أمروا بالصلاة وغيرها من العبادات ولا يستقيم إسلامهم إلّا بتأديتها، فكذلك طاعتهم لأميرالمؤمنين عليّعليه‌السلام هي طاعة لله الذي أمر بها وذلك قوله:( أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) و( إِنّمَا وَلِيّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالّذِينَ آمَنُوا الّذِينَ يُقِيمُونَ الصّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) فوليّ الأمر الذي تجب طاعته هو الله تعالى ثمّ رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي بلّغ رسالته، ثمّ وليّ الله ورسوله وقد عرّف به سبحانه أنّه المتصدّق حال الركوع، وبالإجماع المتواتر أنّه أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه وعلى أبيه سلام الله - ذكرنا مصادره - فهنيئاً لأنصار الله ورسوله ووليّه، وسحقاً وبعداً لأعدائهم.

وما أبلغك قيس بن سعد بن عبادة، وأشدّ وطأتك على ابن هند! فلقد سرت معه جملةً بجملة تهدم ما بنى؛ فلقد نفيت إيمانه فلو كان مؤمناً لرعى وصيّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالأنصار فإنّه الذي سنّ سنّته السيّئة إذ أمر ولاته في كلّ مكان أن يجعلوا من شتم ولعن أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام ، واجباً متمّماً للصلاة! فكيف يرعى وصيّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الأنصار الذي ضربوه وربيبه أبا سفيان على الإسلام، ورأى المنايا على أسنّتهم تلظّى يوم صفّين. وكيف يرعى وصيّة رسول الله فيهم وقد سمعه يقول فيهم: (لو سلك الناس وادياً وسلك الأنصار وادياً، لسلكت وادي الأنصار)! وابن هند حسود حقود على ما عرف من طبعه، فكان يصرّح ببغضه وحسده لرسول الله وأنّه يسعى لدفن ذكرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (إلاّ دفناً دفناً) وهو غير مبتدع في ذلك بعد أن عرف سنّة سلفه في مخالفة كتاب الله وحرق سنّته والعدوان على أهل بيته حسداً من عند أنفسهم، وعهدهم بجاهليّتهم ما زال عوده مخضرّاً! كما وجدهم للأنصار ألدّاء ولهم من الحاسدين وقد بعثوا جنّياً قتل سيّد الأنصار، وكان عفريتاً! فلم يخطأ قلب سعد بن عبادة رضي الله عنه.

وبابن هند اقتدى ولاة بني ذوي العاهات! وقد ذكرنا للحجّاج المبير الكذّاب والذي كان يتوعّد به عمر أهل العراق؛ فإنّه قال عن نفسه: أنا لجوج حقود حسود. فقال له عبد الملك بن مروان: إذاً بينك وبين إبليس نسب! فقال: إنّ الشيطان إذ رآني سالمني. قال محمّد بن إرديس الشافعيّ بعد روايته الخبر: إنّما يكون من لؤم العنصر وتعادي الطبائع واختلاف التركيب وفساد مزاج البنية وضعف عقد العقل، والحاسد طويل الحسرات عادم الراحات (مختصر تاريخ دمشق ٦: ٢١٧).

وعلى ما علم من حال الحجّاج الذليل لبني مروان، وإنّه كان يصول بهم ولا يعرف لله وقاراً ولا لرسول الله منزلةً، وكان عبد الملك بن مروان يعجبه ما كان يقوله المبير الكذّاب الحجّاج الثقفيّ ويكتب إليه! من ذلك ما رواه أبو عياش قال: كنّا عند عبد الملك بن مروان إذ أتاه كتاب الحجّاج يعظّم فيه أمر الخلافة، ويزعم أن ما قامت السماوات والأرض إلّا بها، وأنّ الخليفة عند الله أفضل

٤٥٤

من الملائكة المقرّبين، والأنبياء والمرسلين... (العقد الفريد ٥: ٣١٠ - ٣١١). وهو القائل: إنّ خليفة الله في أرضه أكرم عليه من رسوله إليهم. وقال وهو يرى المؤمنين يطوفون بقبر رسول الله: إنّهم يطوفون بعظام ورمة! هلاّ طافوا بقبر أمير... عبد الملك بن مروان! (العقد الفريد ٥: ٣١٠). هذا بعض من كثير من أخبار الحجّاج وكفره، وقد ذكرنا في غير هذا الموضع أكثر من ذلك؛ منها: أقواله بشأن المدينة: أمّ نتن! وقد سمّاها النبيّ (طيبة) و (طابة) ونسب أهلها إلى النفاق، وأمّ المؤمنين: أمّ أيمن إلى الكذب، وادّعى النبوّة وزعم أنّه ما يعمل إلّا بوحي! وأنّ ابن مروان كذلك يوحى إليه... وكان عددالذين قتلهم الحجّاج مائة وعشرين ألفاً!

والحجّاج هو القائل بشأن أهل المدينة: أخبث أهل...، والله لولا ما كان يأتيني من كتب أمير... فيهم لجعلتها مثل جوف الحمار! أعواد يعوذون بها، ورمّة قد بليت، يقولون: منبر رسول الله، وقبر رسول الله....

والحجّاج هو صاحب الفعلة الشنيعة إذ قاد أهل الشأم في حملتهم الثانية على بيت الله الحرام وذلك أيّام عبد الملك بن مروان فدكّوا الكعبة بالمجانيق وحرّقوها، وكان فعلتهم الأولى أيّام الناقص بن ميسون، فهم على رأي ملكهم ابن مروان، وقائدهم الحجّاج، لا يرون لبيت الله حرمة، ولذلك كان عليهم قتل سبط رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحسينعليه‌السلام أمراً ميسوراً، ووقعتهم بأهل المدينة يوم الحرّة؛ ومن قبل ذلك قتالهم للإمام السبط الزكي الإمام الحسنعليه‌السلام ، وخروجهم لقتال أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام بصفّين.

إنّ الحجّاج المشوّه، يرى اتّباع وصيّه ابن مروان أولى من وصيّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقد قال للأنصار: (الدم الدم، والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم منّي، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم) (السيرة النبويّة، لابن هشام ٢: ٨٣).

وأمّا الحجّاج فقد خطب يوماً فقال: (أيّها الناس إنّي أريد الحجّ، وقد استخلفت عليكم ابني هذا وأوصيته بخلاف وصيّة رسول الله بالأنصار فإنّ رسول الله أوصى أن يقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم، ألا وإنّي أوصيته أن لا يقبل من محسنكم ولا يعفو عن مسيئكم، وإنّكم ستقولون بعدي مقالةً لا يمكنكم إظهارها إلّا مخافتي، تقولون: لا أحسن الله له الصحابة، ألا وإنّي قائل: لا أحسن الله عليكم الخلافة ثمّ نزل. (أنساب الأشراف ١٣: ٣٥٥).

وإذا كان هذا منطق الحجّاج مع الأنصار لأنّهم نصروا الله ورسوله فإنّ عبد الله بن عمر لم يكن من الأنصار، فإنّه لم يسلم من ابن أمّ الحجّاج، مع فضل عمر على معاوية ويزيد إذ أسّس له ملكه على الشام وامتدّ هذا الفضل في بني مروان، فإنّ الحجاج سرت إليه البغيضة لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، من معاوية الذي لعنه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مواطن كثيرة ودعا إلى قتله إن رؤي على المنبر، فرأوه ولم يقتلوه خوفاً من عمر! فما أفلحوا.

وقد ذكرنا قصّة ابن المستفرمة في قتله عبد الله بن عمر بن الخطّاب وقد رآه ذو العاهات يتتبّع آثار

٤٥٥

وفي الفتوح: لـمّا مضى عليّ بن أبي طالب [عليه‌السلام ] إلى سبيل الله اجتمع الناس إلى ابنه الحسن، فبايعوه ورضوا به وبأخيه الحسين من بعده. قال: فنادى الحسن في الناس فجمعهم في مسجد الكوفة، ثمّ صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال: إنّ الدنيا دار بلاء وفتنة وكلّ ما فيها فآئل إلى زوال واضمحلال، وقد نبّأنا الله عنها لكي نعتبه، وتقدم إلينا فيها بالوعد لكي نزدجر، فلا يكون له علينا حجّة بعد الإعذار والإنذار، فازهدوا فيما يفنى، وارغبوا فيما يبقى، وخافوا الله في السرّ والعلانية؛ ألا وقد علمتم أنّ أمير المؤمنين عليًّاعليه‌السلام ، عاش بقدر ومات بأجل، وإنّي أبايعكم على أن تحاربوا من حاربت وتسالموا من سالمت.

____________________

رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيقف عندها فأغاض الحجّاج ذلك فنفر بناقة ابن عمر، فعاد ابن عمر إليها، فدسّ الحجّاج إليه من قتله.

إنّ الحجّاج الذي هو موضع تبجيل الخارجيّ ابن تيميه، وبه كان عمر يتوعّد أهل العراق، لم يكن يجرأ هو وأسياده بدءاً بابن هند على التطاول على الأنصار لولا أنّهم عرفوا بوصيّة رسول الله الأنصار بأنّهم سيلقون بعده أثرةً وأوصاهم بالصبر حتّى يلقوه على الحوض، فهي نفس وصيّتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأميرالمؤمنين عليّعليه‌السلام ، ولولا الوصيّة لم يجرأ أولئك على أفعالهم وألسنتهم إلى أهل بيته، ولا إلى كتيبة الإسلام الأنصار وإلى سيّدهم سعد بن عبادة، ولا جرأ ابن هند على ملاسنة ابنه قيس بن سعد....

انظر: ترجمة قيس بن سعد بن عبادة وأخباره في: طبقات ابن سعد ٦: ٥٢، تاريخ الدوري ٢: ٤٩١، تاريخ خليفة: ١٩٧ و ٢٠١ و ٣٢٧، وطبقاته: ٩٧ و ١٤٠ و ٢٩٢، مسند أحمد ٣: ٤٢١ و ٦: ٦، تاريخ البخاري الكبير: ٧ الترجمة ٦٣٦، المعرفة، ليعقوب ١: ٢٩٩ و ٢: ٧٥٦ و ٨١١ و ٣: ٨٢، الجرح والتعديل: ٧ الترجمة ٥٦٠، ثقات ابن حبّان ٣: ٣٣٩، رجال صحيح مسلم: ١٤٧، معجم الطبراني الكبير ١٨: ٣٤٦، تاريخ الخطيب ١: ١٧٧، الاستيعاب ٣: ١٢٨٩، الإصابة: ٣ الترجمة ٧١٧٧، تهذيب التهذيب ٨: ٣٩٥ - ٣٩٦، التقريب ٢: ١٢٨، شذرات الذهب ١: ٥٢، نهاية السؤول: ٣٠٦، العبر: ٤١ و ٤٨، أسد الغابة ٤: ٢١٥، الكاشف: ٢ الترجمة ٤٦٦٨، وقعة صفّين: ١٥ ومواضع كثيرة، العقد الفريد ١: ١٨١ و ٣: ٣٢٩ و ٤: ١٢٠ و ٥: ٨٦.

٤٥٦

فقال الناس: سمعنا وأطعنا، فمرنا بأمرك يا أمير المؤمنين(١) .

والبلاذريّ: خرج عبيد الله بن العبّاس بن عبدالمطّلب إلى الناس بعد وفاة عليّ [عليه‌السلام ] ودفنه فقال: إنّ أمير المؤمنين رحمه الله قد توفي برّاً تقيّاً، عدلاً مرضيّاً، أحيا سنّة نبيّه وابن عمّه، وقضى بالحقّ في أمّته. وقد ترك خلفاً رضيّاً مباركاً حليماً فإن أحببتم خرج غليكم فبايعتموه، وإن كرهتم ذلك فليس أحد على أحد.

فبكى الناس وقالوا: يخرج مطاعاً عزيزاً، فخرج الحسن فخطبهم فقال: اتّقوا الله أيّها الناس حقّ تقاته فإنّا أمراؤكم وأضيافكم، ونحن أهل البيت الذين قال الله:( لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (٢) . والله لو طلبتم ما بين جابلق وجابرس مثلي في قرابتي وموضعي ما وجدتموه، ثمّ ذكر ما كان عليه أبوه من الفضل والزهد والأخذ بأحسن الهدى، وخروجه من الدنيا خميصاً لم يدع إلّا سبعمائة درهم فضلت من عطائه، فأراد أن يبتاع بها خادماً. فبكى الناس ثمّ بايعوه، وكانت بيعته التي أخذ على الناس أن يحاربوا من حارب ويسالموا من سالم(٣) .

الطبري: بسنده عن أبي خالد بن جابر قال: سمعت الحسن يقول لـمّا قتل عليّعليه‌السلام وقد قام خطيباً فقال: لقد قتل الليلة رجل، في ليلة فيها نزل القرآن وفيها رفع عيسى ابن مريمعليه‌السلام وفيها قتل يوشع بن نون فتى موسىعليه‌السلام . والله ما سبقه أحد كان قبله ولا يدركه أحد يكون بعده، والله إن كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليبعثه في السّريّة وجبريل عن يمينه وميكائيل عن يساره، والله ما ترك صفراء ولا بيضاء إلّا سبعمائة أرصدها لخادمه(٤) .

____________________

(١) الفتوح، لابن أعثم ٤: ١٤٨.

(٢) الأحزاب: ٣٣.

(٣) أنساب الأشراف ٣: ٢٧٩.

(٤) تاريخ الطبري ٤: ١٢١.

٤٥٧

قال: وفي هذه السنة (سنة ٤٠ هـ) بويع للحسن بن عليّ بالخلافة. وقيل: إنّ أوّل من بايعه قيس بن سعد قال له: ابسط يدك أبايعك على كتاب الله عزّ وجلّ وسنّة نبيّه وقتال المحلّين فقال له الحسنعليه‌السلام : على كتاب الله وسنّة نبيّه فإنّ ذلك يأتي من وراء كلّ شرط فبايعه وسكت وبايعه الناس(١) .

من النصوص السابقة، وجدنا أنّ البيعة للإمام السبط الزكي الحسنعليه‌السلام كانت بيعة عامّة، كما ذكرنا من قبل ولم تكن قسريّة جبريّة؛ وكانت أوّل يد مسحت على يد الإمام الحسنعليه‌السلام يد قيس بن سعد بن عبادة ولم تكن يده شلاّء! ولم يكن فيها اصطراع مثلما جرى في مؤامرة السقيفة كاد يودي بحياة سيّد الخزرج سعد بن عبادة! ولو جرّد الأنصار بأوسها وخرجها السيف! وكلّهم تبع لسعد، ومعهم المعارضة القويّة من المهاجرين؛ فلا أظنّ، وإنّما أقطع انّ تلك المجموعة التي خرجت لتوّها من حجرة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مطرودة من قبل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لخروجها عليه وإساءتها الأدب بحضرته - على ما مرّ بنا - تصمد ساعة واحد لتلك السّباع التي أذاقت المشركين المرّ، وبسيوفها وبذي الفقار كانت المجموعة المهاجمة! موتورةً؛ ذكرنا قتلاهم. إلّا أنّهم قدّموا دينهم على دنياهم، ممّا أعطى محبّي (الأريكة) فسحةً لأن يصولوا في السقيفة، فإذا حقّقوا أملهم ونابوا بغيتهم، أمر صاحب (الأريكة) بمهاجمة بيت من بيوت الله، ذكر القرآن قدسيّته وفضله في أكثر من موضع من ذلك آية التطهير، وليس في بيوت الخوارج على الله ورسوله وأهل البيت، بيت طاهر؛ وإذا كان بيت الله قد طهّره الله تعالى على يد أنبيائه( أَن طَهّرَا بَيْتِيَ ) ، فقد تولّى الله تطهير هذا البيت( إِنّمَا

____________________

(١) تاريخ الطبريّ ٤: ١٢١.

٤٥٨

يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً ) بلا واسطة. فكان ذلك العدوان فاتحة شرّ! وما ابن هند إلّا ثمرة ذلك العدوان، لا سيّما أنّ الشأم من حواضر الرومان وقد دخلها الغزاة تحت راية الإسلام ولم يمض طويلاً حتّى مات أبو عبيدة بالطاعون فجاء الأمر من الحجاز بإفراد دمشق بابن صخر يزيد، ولم يمض كثير وقت حتّى هلك يزيد وقد تولّى الأريكة عمر بن الخطّاب وكان مفتتناً بابن هند معاوية كسرى العرب كما يسمّيه عمر بن الخطّاب، وقد لعنه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مواطن منها المواطن الستّة، وحكم عليه بجهنّم، مرّ تفصيل ذلك. وبيّنة ابن هند: أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر أبا الحسن عليّعليه‌السلام بقتال ثلاث فئات من الخوارج: الناكثين وهم أهل البعير، والباغين وهم ابن هند ومعه أهل الشأم، والمارقين. وقد نصب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عمّار بن ياسر علامة فارقة بين أهل الغيمان وأهل الضّلال إذ قال: (عمّار تقتله الفئة الباغية).

بعد موت يزيد، أطلق عمر يد ابن هند فضمّ إليه الشأم جميعاً فكان إسلام أهلها من إسلام ابن هند، الذي ما كلّمه أحد من العارفين به إلّا وقال له: أظهرت الإسلام كرهاً وخرجت منه طوعاً.

وترجم حاله تجارته بالأصنام النحاسيّة ولأجل هذا وغيره ردّ عليه قيس بن سعد ابن عبادة إذ شتمه ابن هند بقوله: إنّما أنت يهوديّ ابن يهوديّ!! فقال قيس: إنّما انت وثن ابن وثن.

وقد ذكرنا من سيرته مع النساء الزواني! وممارسته السرقة وخروجه على القرآن والنبيّ في البدع الكثيرة التي جاء بها، ومن ذلك منعه من حديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، واستلحاقه ابن سميّة زياداً بأبي سفيان في وقت لم يثبت نسب معاوية إلى أبي سفيان.

٤٥٩

ومن جرائمه العظمى خروجه على إمام الحقّ أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام فقاتله، ثمّ قاتل سيّد شباب أهل الجنّة الحسن بن عليّعليهما‌السلام والذي كانت بيعته لا عن جيوش غازية كما حصل للشأم ولا على شاكلة السقيفة ولا مؤامرة الشورى في بيت مغلق على ستّة نفر مع جعل شرط في حال التساوي في اختيار نفر ينظر إن كان في صفّه عبدالرحمن ابن عوف فيؤخذ برأيه، وإن لم يختاروا شخصاً، فلصهيب - الذي له موقف مشكور! لدى المحرّق يوم الهجوم على البيت الطاهر الحرام - أن يقتلهم! وإنّما كانت بيعة علنيّة عامّة ولم تكن طاغوتيّة. لم تمتدّ يد أو رجل لتنال من أحد! ولم يجر فيها كلام يغضب الله مثلاً دعاء على أحد بالهلاك.

ففي نصّ: خطب قيس بن سعد فذكر أمير المؤمنين بما هو فيه ثمّ ذكر الحسن وقدره ومنزلته... ودعا الناس إلى بيعته وطاعته، وكان هو أوّل من بايعه ثمّ ابتدر الناس بيعته.

وفي نصّ: لـمّا مضى عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام إلى سبيل ربّه، اجتمع الناس إلى ابنه الحسن، فرضوا به وبأخيه الحسين من بعده. فخطب الإمام الحسنعليه‌السلام ومن خطبته: إنّي أبايعكم على أن تحاربوا من حاربت وتسالموا من سالمت. فأظهروا السمع والطاعة المطلقة. قالوا: سمعنا وأطعنا، فمرنا بأمرك يا أمير المؤمنين أي سمعنا قولك وأطعناك فيه فأنت أميرنا نطيعك في سلمك وحربك فمرنا نسمع.

ومبايعتهم له على ما تقدّم ولأخيه الحسينعليه‌السلام من بعده ممّا يدلّل على أنّهم بايعوا عن صدق ومعرفة لمقام الإمامة بمفهومها عند شيعة أهل البيت الإماميّة.

وفي النص الذي ذكره البلاذري وفيه عبيد الله بن العبّاس الذي خطب الناس وذكر سيرة أمير المؤمنين وأنّه ترك خلفاً مباركاً طيّباً. وخيّرهم في بيعته فإن كانوا كارهين ذلك فلا سلطان لأحد على أحد.

٤٦٠