شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية الجزء ٣

شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية0%

شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية مؤلف:
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 697

شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية

مؤلف: حبيب طاهر الشمري
تصنيف:

الصفحات: 697
المشاهدات: 162487
تحميل: 2820

توضيحات:

الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 697 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 162487 / تحميل: 2820
الحجم الحجم الحجم
شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية

شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية الجزء 3

مؤلف:
العربية

وأهل العراق، وفي إحدى الكتيبتين الحقّ وإمام الهدى ومعه عمّار بن ياسر).

قال أبو نوح: لعمر الله إنّه لفينا!

قال: أجادّ في قتالنا؟

قال أبو نوح: نعم وربّ الكعبة، لهو أشدّ على قتالكم منّي! ولوددت أنّكم خلق واحد وبدات بك قبلهم ,انت ابن عمّي!

قال ذو الكلاع: ويلك علام تتمنّى ذلك منّي؟! والله ما قطعتك فيما بيني وبينك وإنّ رحمك لقريبة، وما يسرّني أن أقتلك ز

قال أبو نوح: إنّ الله قطع بالإسلام أرحاماً قريبة، ووصل به أرحاماً متباعدة وإنّي لقاتلك أنت وأصحابك، ونحن على الحقّ وأنت على الباطل مقيمون مع أئمّة الكفر ورؤوس الأحزاب.

ثمّ طلب ذو الكلاع من أبي نوح أن يأتي معه ليسمع عمرو بن العاص فذهب معه؛ وقال ذو الكلاع لعمرو: هل لك في رجل ناصح يخبرك عن عمّار بن ياسر؟

فقال عمرو: إنّي لأرى عليك سيما أبي تراب!

قال أبو نوح: عليّ سيما محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه، وعليك سيما أبي جهل وفرعون.

فقال له عمرو: أذكّرك بالله يا أبا نوح إلّا ما صدقتنا ولم تكذبنا، أفيكم عمّار بن ياسر؟

فقال له أبو نوح: ما أنا بمخبرك حتّى تخبرني لم تسألني عنه؛ فإنّ فينا من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عدّة غيره، وكلّهم جادّون على قتالكم؟

قال عمرو: سمعت رسول الله يقول: (إنّ عمّاراً تقتله الفئة الباغية، وإنّه ليس ينبغي لعمّار أن يفارق الحقّ وأن تأكل النار منه شيئاً).

٤٨١

فقال أبو نوح: لا إله إلّا الله والله أكبر! إنّه لفينا، جادّ على قتالكم.

قال عمرو: والله إنّه لجادّ على قتالنا؟!

قال: نعم والله الذي لا إله إلّا هو، ولقد حدّثني يوم الجمل أنّا سنظهر عليكم، ولقد حدّثني أمس أن لو ضربتمونا حتّى تبلغوا بنا سعفات هجر لعلمنا أنّا على حقّ وأنّكم على باطل وقتلانا في الجنّة وقتلاكم في النار.

فقال له عمرو: هل تستطيع أن تجمع بيني وبينه؟

قال: نعم.

فركب عمرو وركب معه نفر من صحبه وخرج إليه عمّار في عدد من صحبه. فتشهّد عمرو، فقال له عمّار: اسكت! فقد تركتها في حياة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبعد موته، ونحن أحقّ بها منك، فإن شئت كانت خصومة فيدفع حقّنا باطلك؛ وإن شئت كانت خطبة فنحن أعلم بفصل الخطاب منك، وإن شئت أخبرتك بكلمة تفصل بيننا وبينك وتكفّرك قبل القيام وتشهد بها على نفسك ولا تستطيع أن تكذّبني.

قال عمرو: يا أبا اليقظان، ليس لهذا جئت، إنّما جئت لأنّي رأيتك أطوع هذا العكسر فيهم، أذكّرك الله إلّا كففت سلاحهم وحقنت دماءهم وحرّضت على ذلك، فعلام تقاتلنا؟ أولسنا نعبد إلهاً واحداً، ونصلّي إلى قبلتكم، وندعو دعوتكم، ونقرأ كتابكم، ونؤمن برسولكم؟!

قال عمّار: الحمد لله الذي أخرجها من فيك، إنّها لي ولأصحابي: القبلة، والدين، وعبادة الرحمن، والنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والكتاب من دونك ودون أصحابك، وجعلك ضالاًّ مضلاًّ، لا تعلم هاد أنت أم ضالّ وجعلك أعمى. وسأعلمك علام قاتلتك عليه أنت وأصحابك. أمرني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن أقاتل الناكثين وقد فعلت؛ وأمرني أن أقاتل

٤٨٢

القاسطين، فانتم هم. وأمّا المارقون فما أدري أدركهم أم لا. أيّها الأبتر! ألست تعلم أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لعليّ: (من كنت مولاه فعليٌّ مولاه. أللّهم وال من والاه وعاد من عاداه) وأنا مولى الله ورسوله وعليّ بعده، وليس لك مولىً.

قال له عمرو: لم تشتمني يا أبا اليقظان ولست أشتمك؟!

قال عمّار: وبم تشتمني، أتستطيع تقول: إنّي عصيت الله ورسوله يوماً قطُّ؟

قال له عمرو: إنّ فيك مسبّات سوى ذلك!

فقال عمّار: إنّ الكريم من أكرمه الله، كنت وضيعاً فرفعني الله، ومملوكاً فأعتقني الله، وضعيفاً فقوّاني الله، وفقيراً فأغناني الله(١) .

من كان مع الحقّ كان الحقّ معه ينطق على لسانه، فقد قرّر عمّار رضي الله عنه ابن النابغة أنّ الدين، والكتاب، والقبلة، وعبادة الرحمن والنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ كلّ ذلك لعليّ وعمّار وصحبهما؛ وليس من ذلك شيء لابن هند وابن النابغة وصحبهم أهل الضلال؛ ولاجله يقاتلهم عمّار بأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما قاتلهم قبل أن يستسلموا! ولم يسلموا؛ وكما قاتل راية الضلال يوم الجمل، طاعةً منه لله تعالى ولرسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولوليّه المنصوب من الله وبتبليغ رسوله.

وبعد هذا التقرير عاد ابن النابغة إلى جاهليّته يتلمّس مسبّات في عمّار! ولم يكن عمّار غافلاً عمّا اراد ابن النابغة في كلامه وهو عزّ الجاهليّة، ولا عزّ فيها واقعاً، إنّما هو الجبت والطاغوت والخيلاء وسدانة أحجار سمّوها آلهةً فهي غساف ونائلة ومناة وهبل وقد تهاوت تحت مطارق المسلمين وآل عمّار البيت الشهيد؛ فأمّه سميّة؛ وشتّان بينها وبين سميّة أمّ زياد، فبينهما بعد المشرقين؛ فالثانية من زواني خراسان من ذوات

____________________

(١) وقعة صفّين: ٣٣٣ - ٣٣٧.

٤٨٣

الرايات ركبها في ليلة سبعة كان ثمرة مياههم عمرو؛ وأمّا الأولى فهي سابعة سبعة في الإسلام، أسلمت هي وزوجها ياسر وابنها عمّار وابنها عبد الله؛ فكان بنو المغيرة في بني مخزوم يعذّبونها أشدّ العذاب على الإسلام وهي تأبى غيره حتّى قتلوها؛ طعنها أبو جهل بحربة فقتلها فكانت أوّل شهيدة في الإسلام؛ وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرّ بهم وهم يعذّبون بالأبطح في رمضاء مكّة، فيقول: (صبراً آل ياسر، موعدكم الجنّة)(١) .

وقتل ياسر، وعبد الله ابنه شهيدين؛ كانت شهادتهم بمكّة قبل الهجرة، وبقي عمّار فشهد مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بدراً وأحداً وحنين ومغازي رسول الله الأخرى؛ وشهد مع وليّ الله عليّعليه‌السلام الجمل وصفّين. أهذه هي المسبّات الأخرى التي أشار إليها ابن النابغة؟! ولنا أن نقول: إنّنا مع إجلالنا العظيم لعمّار؛ لنعجب ممّن يعتريه الشكّ في أمره لمكان عمّار ولا يعتريه الشكّ لمكان عليّعليه‌السلام ، ويستدلّ على أنّ الحقّ مع أهل العراق لوجود عمّار فيهم ولا يستدلّ على ذلك لوجود عليّ فيهم وهو إمامهم وأميرهم، ويحذر من قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعمّار: (تقتلك الفئة الباغية) ولا يحذر من قول رسول الله لعليّ: (أللّهم وال من والاه وعاد من عاداه)!

وإذا كان الحقّ مع عمّار ملازماً له؛ فهو مولى عليّ بعد الله ورسوله فالحقّ كلّ الحقّ مع عليّعليه‌السلام ؛ ولذا كان خيرة الصحابة وأهل بيت الرحمة والأنصار مع عليّ أمير المؤمنينعليه‌السلام ؛ لا لعصبيّة وإنّما انتصاراً للحقّ على الضلال؛ فما لسيّدي شباب أهل الجنّة أحدي عدل القرآن المأمور بالرجوع إليهما في أخذ الأحكام التعبّديّة وهو عين العصمة، أن يزيغا عن الحقّ ويركبا الباطل، حاشا لهما، وهما إمامان إن قاما وإن قعدا، كما صرّح بذلك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهما إمامان معصومان على أيّ حال وفي كلّ آن، وهما

____________________

(١) السيرة، لابن إسحاق: ١٩٢، أسد الغابة ٥: ٤٦٧، الاستيعاب ٤: ٣٣٠.

٤٨٤

كذلك إن قاما بالجهاد أو قعدا عنه لأنّهما لا يصنعا إلّا ما توافق مع إمامتهما وعصمتهما؛ وقد عرف لهما ذلك حشد من خيرة أصحاب رسول الله وأصحاب أبيهما، فشهدوا مشاهدهما. فاستشهد من استشهد معهما؛ فيما انتفض كثيرون منهم في وقعة عين الوردة؛ أو مع المجاهد السديد المختار رضوان الله تعالى عليه؛ واستشهد آخرون على أيدي الطغاة وبمواضع متفرّقة.

موقف الإمام الحسنعليه‌السلام

تسلّم الإمام الحسنعليه‌السلام الحكم بعد استشهاد أبيه الإمام عليّعليه‌السلام وتعييناً: صبيحة الليلة التي استشهد فيها أمير المؤمنينعليه‌السلام ؛ ممّا قوّى موجة الشكّ في رساليّة المعركة التي يخوضها الإمام الحسن، حتّى أنّ الإيحاء لدى كثير بأنّ المعركة هي معركة بيت مع بيت، وهي بالتالي ليست معركة رساليّة.

فلذا وللأسباب والملابسات التي مرّ ذكرها، عقّدت موقف الإمام من مسألة الحكم وصار أمام خيارات:

الخيار الأوّل:

وهو إغراء الزعامات وأصحاب النفوذ بإعطائهم الأموال ووعدهم بالمناصب لاستمالتهم إلى جانبه؛ وهذا الخيار اقترحه البعض عليه إلّا أنّ الإمامعليه‌السلام رفضه ماضياً على سيرة أبيهعليه‌السلام .

فقد كتب إليه عبد الله بن العبّاس بن عبد المطّلب، وفيه: لعبد الله الحسن أمير المؤمنين من عبد الله بن عباس، أما بعد يا ابن رسول الله! فإنّ المسلمين ولّوك أمرهم بعد أبيك، وقد أنكروا قعودك عن معاوية وطلبك لحقّك، فشمّر للحرب

٤٨٥

وجاهد عدوّك، ودار أصحابك وولّ أهل البيوتات والشرف وما تريد من الأعمال، فإنّك تشتري بذلك قلوبهم، واقتد بما جاء عن أئمّة العدل من تأليف القلوب والإصلاح بين الناس، واعلم أنّ الحرب خدعة؛ ولك في ذلك سعة ما زلت محارباً ما لم ينتقص حقاً لمسلم هو له؛ وقد علمت أنّ أباك عليًّا إنّما رغب الناس عنه وصاروا إلى معاوية لأنّه واسى بينهم في الفيء وسوى بينهم في العطاء، فثقل ذلك عليهم، واعلم بأنّك إنّما تحارب من قد حارب الله ورسوله حتّى أظهر الله أمره...(١) .

فابن عبّاس يطلب من الإمامعليه‌السلام بمداراة أصحابه وإرضائهم؛ ولا يكون ذلك إلّا عن إغضاء الإمام عن حرام يراه وأثرة يسكت عنها؛ وتولية أهل البيوتات على نسبهم وشرفهم بين قومهم فيشتري بذلك قلوبهم؛ اقتداءً بمن سبقه إذ أمّر أبوبكر خالد بن الوليد فعمل ما عمل وأفسد حتّى راح عمر يطالبه بنزعه فلمّا أكثر عليه في الطلب قال له: أتريد أن أغمد سيفاً سلّه الله على أعدائه! فصار خالد يدعى سيف الله المسلول، لذلك. وما زال أبوبكر ينقله من موقع إلى آخر رغم فعلته ببني أسد وبني فزارة من القتل الذريع للنساء والرجال والأطفال؛ وفعلته ببني يربوع، وقد رأى حسن إسلامهم وأذانهم وتأديتهم الصلاة في وقتها وبعد أن أمن القوم من خالد وقومه؛ غدر بهم فقتلهم وقتل الرجل الصالح مالك بن نويرة رضي الله عنه، ودخل بامرأته ليلة قتله. ثمّ بعث به في فتوح العراق، وهناك فعل أفعالاً ذمّم بسببها، فبعثه في بعوث فتوح الشأم واحداً من القوّاد(٢) .

وبعث ضمن القوّاد يزيد بن أبي سفيان ومعه ابن هند معاوية يحمل رايته فلمّا مات

____________________

(١) الفتوح ٤: ١٤٩.

(٢) ذكرنا تفاصيل ذلك في الجزء الثاني من (شهداء الإسلام).

٤٨٦

أبو عبيدة؛ نصب أبوبكر يزيد على دمشق فلمّا انتهى الأمر إلى عمر وقد مات يزيد، نصب ابن هند مكانه ثمّ بسط سلطانه على جميع الشأم؛ فلمّا صار الأمر إلى عثمان ضمّ مصر وأقطار أخرى إليه - مرّ تفصيل ذلك بنا -.

فهذا الذي أراده ابن عبّاس في كتابه إلى الإمام المعصوم، وهيهات أن يصنععليه‌السلام صنيع بني تيم، وعدي، وأميّة.

وقوله: (واعلم بأنّ الحرب خدعة)، وكأنّه جاء بأمر جديد! وأميرالمؤمنين عليّعليه‌السلام هو القائل: ما معاوية بأمكر منّي! إلّا أنّه يغدر ويفجر؛ والإمام الحسنعليه‌السلام على سرّ أبيهعليه‌السلام لا يريد نصراً عسكريّاً يأتي من تلك الطرق المرفوضة في الإسلام، فهو في سلمه وحربه إنّما يريد إحقاق الحقّ وإزهاق الباطل وحفظ وسلامة جماعة المسلمين.

وقوله: (وقد علمت أنّ أباك عليًّا إنّما رغب الناس عنه وصاروا إلى معاوية لأنّه واسى بينهم في الفيء وسوى بينهم في العطاء فثقل ذلك عليهم).

فعجب! فمتى رغب الناس عن أمير المؤمنين لذلك، وهم ينتقلون معه من أتون حرب مسعرة إلى ثانية فثالثة وسيوفهم على عواتقهم لخوض رابعة مع ابن هند لولا انّ المنيّة عاجلته. وحتّى الخوارج المارقة لم يحتجّوا عليه بما ذكره ابن عبّاس، وإنّما لشبهة وقعت لهم في أمر التحكيم؛ فلمّا ناظرهمعليه‌السلام ، استأمن إليه منهم ثمانية آلاف.

وأمّا طلحة والزبير وعائشة: فأمّا عائشة فقد كانت تحرّض على عثمان لأنّه أخّر عطاءها قليلاً، فلمّا صار الأمر إلى أمير المؤمنين شقّ عليها ذلك لحسد دفين آفته العناية الخاصّة من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعليّعليه‌السلام حتّى أنّه زوّجه بضعته الطاهرة ولم تطهر واحدة من نسائه ومنهنّ عائشة! إلّا خديجة رضوان الله تعالى عليها، وهي أمّ سيّدة نساء أهل الجنّة، ولم يقل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مثل هذا بشأن عائشة وإنّما حذّرها أن تكون من الخوارج

٤٨٧

الناكثين فتنبحها كلاب الحوأب. ولعلّ ما زاد في حنقها على أمير المؤمنينعليه‌السلام أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ردّ أباها ولم يزوّجه سيّدة نساء العالمين فاطمةعليها‌السلام ، وكذا ردّ عمر وعبد الرحمن بن عوف وفيّ كلّ مرّة يقول أمرها إلى الله حتّى جاءه جبريلعليه‌السلام بأمر الله تعالى في زواج فاطمة من عليّعليهما‌السلام .

وأمّا طلحة والزبير فحسدهما لعليّعليه‌السلام قديم، وقد ذكرنا قصّة محاولة الزبير للغدر بعليّ والفتك به. ولـمّا صار الأمر إليه لم يتحقّق لهما رغبتهما في ولاية بعض الأقاليم لمعرفته بهما، فلمّا رأيا ذلك خرجا عليه اقتداءً بمن خرج عليه من قبل. وفي البصرة تشاحّ طلحة والزبير على الصلاة حتّى أصلحت بينهما عائشة. ولـمّا سئلا عن سبب مجيئهما قالا: علمنا أنّ هاهنا دراهم فجئنا نأخذها.

فغذا كان ابن عبّاس يعني هذا؛ فنعم ما صنع أمير المؤمنينعليه‌السلام وللإمام الحسنعليه‌السلام أسوة بأبيه في ذلك.

الخيار الثاني:

وهو أن يتجّه الإمام إلى الصلح من أوّل أمره ما دام على الأمر على النحو الذي شرحنا فيه حال المجتمع الكوفيّ.

وقد استبعد الإمام هذا الخيار مثلما استبعد الخيار الأوّل؛ لأنّه في مثل هذا الصلح سيضفي شرعيةً على حكم ابن هند من غير أن يحقّق للمجتمع الإسلامي، ولشيعته مكسباً.

ومع الحالة المعقّدة والمحنة التي كان الإمام يعاني منها مضافاً إلى المبدأ الذي انتهجه أهل البيتعليهم‌السلام وكان من العلامات الفارقة بينهم وبين الآخرين، ذلك المبدأ السامي وهو أن لا يبدأوا غيرهم بقتال حتّى يبدأهم.

٤٨٨

فكان خيارهعليه‌السلام هوأن لا يبدأ بحرب مع رجل يتلبّس وجه من يريد حقن ماء المسلمين، وبناء على هذا استجاب الإمام لدعوة الصلح؛ فكانت الاستجابة نصراً على معاوية وفضحاً لسياسته المخادعة وكشفاً لحقيقته أمام الجماهير. ذلك أنّ الإمامعليه‌السلام يعلم أنّ الإمامعليه‌السلام يعلم أنّ ابن هند لا وفاء له، وبالأمس القريب خان العهود والمواثيق مع أمير المؤمنين ووليّ المسلمين عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ؛ فشنّ غاراته يقطع السبيل على الحاجّ ويقتل الأبرياء نساء وأطفالاً وهتك حرمة الحرمين.

وقد فضحه الله تعالى. فبسند عن عليّ بن الجعد قال: حدّثنا قيس بن الربيع عن عطاء بن السائب، عن الشعبي قال: خطب معاوية حين بويع له فقال: (ما اختلفت أمّة بعد نبيّها إلّا ظهر أهل باطلها على أهل حقّها)، ثمّ إنّه انتبه فندم! فقال: إلّا هذه الأُمّة فإنّها وإنّها(١) .

فهو محض باطل وحليف الشيطان، فكان حقّاً على الله أن يفضحه ويظهر مكامن نفسه؛ فابن هند وأتباعه أهل باطل. وكما لم يلتزم بمواثيقه لأميرالمؤمنين فإنّه لم يلتزم بعهده مع الإمام الحسنعليه‌السلام ، وجعل كلّ التزام تحت قدميه! على ما سنذكره.

وابن هند لا يهمّه أمر الناس، أطاعوا الله أم عصوه؛ إنّما هي الإمرة التي أتته وهو غير مصدّق، أفي يقظة هو أو في نوم؟!

عن الأعمش عن عمرو بن مرّة عن سعيد بن سويد قال: صلّى بنا معاوية بالنخيلة الجمعة في الصحن ثمّ خطبنا فقال: إنّي والله ما قاتلتكم لتصلّوا ولا لتصوموا ولا لتحجّوا ولا لتزكّوا إنّكم لتفعلون ذلك. وإنّما قاتلتكم لأتأمّر عليكم وقد أعطاني الله ذلك وأنتم كارهون(٢) .

____________________

(١) مقاتل الطالبيّين: ٤٥.

(٢) مقاتل الطالبيّين: ٤٥، ومختصر تاريخ دمشق ٢٥: ٤٣.

٤٨٩

إذا كان هذا كلام ابن هند مع أهل العراق الذين قاتلوه فأذاقوه مرّ الحياة؛ فأقبح منه كلامه مع أهل المدينة، وأسوأ منهجاً. قال الشعبي: لـمـّا قدم معاوية المدينة عام الجماعة تلقّته رجال من قريش فقالوا: الحمد لله الذي أعزّ نصرك وأعلى أمرك. فما ردّ عليهم جواباً حتّى دخل المدينة، فقصد المسجد وعلا المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال: أما بعد فإنّي والله ما وليت أمركم حين وليته إلّا وأنا أعلم أنّكم لا تسرّون بولايتي ولا تحبّونها، وإنّي لعالم بما في نفوسكم، ولكنّي خالستكم بسيفي هذا مخالسةً؛ ولقد رمت نفسي على عمل ابن أبي قحافة! فلم أجدها تقوم بذلك، وأردتها على عمل ابن الخطّاب! فكانت أشدّ نفوراً، وحاولتها على سنيّات عثمان فأبت عليّ، وأين مثل هؤلاء؟ هيهات أن يدرك فضلهم أحد ممّن بعدهم! غير أنّي قد سلكت بها طريقاً لي فيه منفعة ولكم فيه مثل ذلك، ولكّ فيه مؤاكلة حسنة، ومشاربة جميلة، ما استقامت السيرة وحسنت الطاعة، فإن لم تجدوني خيركم فأنا خيركم لكم؛ والله لا أحمل السيف على من لا سيف معه، ومهما تقدّم ممّا قد علمتموه فقد جعلته دبر أذني، وإن لم تجدوني أقوم بحقّكم كلّه فارضوا منّي ببعضه، فإنّها ليست بقائبة قوبها(١) وإنّ السيل إذا جاء يترى وإن قلّ أغثى، وإيّاكم والفتنة فلا تهمّوا بها فإنّها تفسد المعيشة وتكدّر النعمة، وتورث الاستئصال، وأستغفر الله لي ولكم. ثمّ نزل(٢) .

ولله في خلقه شؤون! وإلاّ متى كان ابن هند شيئاً مذكوراً! لا في جاهليّة ولا في إسلام، ويتقلّب في خزايات؛ فهو يدعى إلى أربعة وإلى الصبّاح مغنّ أسود وإلى وحشي فقد وعدته أن تعطيه ضمير الصدر إن قتل حمزةعليه‌السلام ، فلمّا قتله؛ وفّت و حقّقت قولها

____________________

(١) مثل معناه أنّ الفرخ إذا فارق بيضته لم يعد إليها.

(٢) مختصر تاريخ دمشق ٢٥: ٤٥.

٤٩٠

له: اشف واشتف. أبهذا يأنف ابن هند أن يردّ على رجال قريش وقد خرجوا من المدينة يستقبلوه ويدعون له؟! فهلّا ردّ التحيّة بمثلها إن لم يطق أن يردّها بأحسن منها! إلّا أنّ هذا خلق الإسلام الذي كان مباعداً له وعدوّاً لدوداً لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولحامّته ولجماعة المسلمين. ولم يدخل الإسلام قلبه حتّى عام الفتح فاستسلم تحت بارقة السيوف وخرج منه كما يخرج السهم من الرمية لم يعلق به من الإسلام شيء؛ حاله حال الخوارج المارقين.

وما قبض الله تعالى رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إليه إلّا ولعنات النبيّ تلاحق ابن هند التي لم تربّه إلّا على الخطايا والتقلّب بين أحضان الرجال؛ فمن أزواج ثلاثة إلى معاشرة ستّة ثمرتهم معاوية فاستلحقه أبوسفيان! كما ادّعى ابن سميّة المدعى إلى ستّة وغلب عليه (ابن أبيه) لاختلاط المياه؛ ثمّ استلحقه ابن هند فعصى الله تعالى في أمره بدعوة الأبناء إلى آبائهم؛ وعصى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي جعل الولد للفراش وللعاهر الحجر فلم تزده هند إلّا شذوذاً وإغراقاً في الخزايات حتّى مات إثر مجامعته زنجيّة! مرّ تفصيله وبيانه.

وهو يراها تضرب بالدفّ وتسهل! تحرّض الرجال على قتل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ففجعها أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام بأبيها (عتبة بن ربيعة) وبذا فجع معاوية بجدّه لأمّه؛ كان ذلك يوم بدر. وكذلك فجعها يومئذ بعمّها شيبة بن ربيعة؛ وبالوليد بن عتبة بن ربيعة خال معاوية. وفجع أبا سفيان بابنه حنظلة بن أبي سفيان؛ كلّ ذلك كان يوم بدر الكبرى؛ وليس من سبب إلّا أنّ قوم هند وأبي سفيان ومن معهم جاؤوا انتصاراً للاّت والعزّى وهبل ولا جتثاث شأفة المسلمين؛ فكان عليعليه‌السلام الذي هتف جبريل ببسالته في وقعتي بدر وأحد، والمسلمون معه يجاهدون في سبيل الله.

ويوم بدر هلك من عبّاد الأصنام والأوثان سبعون وأسر منهم سبعون. قتل فتى

٤٩١

الإسلام وسيف ذي الفقار من أولئك السبعين ستّاً وعشرين وشارك عمّه حمزة في قتل ثلاثة(١) .

ولم نسمع أنّ ابن هند قد جرح واحداً فضلاً عن قتله من المسلمين في أيّ وقعة بين المشركين والمسلمين؛ فمن أين تأتّت له هذه الصفاقة! حتّى يتحدّى قريش على نحو ما ذكرناه، ثمّ علا المنبر ليخلط حقّاً بباطل ويشوب صدقاً كذباً، لقد صدق في قوله: (أنا أعلم أنّكم لا تسرّون بولايتي ولا تحبّونها)؛ ومن يحبّ ابن هند ويسرّ بولايته إلّا يكون من سنخه، والمرء مع من أحبّ؛ وقد لعنه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مواطن شتّى وأعلن عنه أنّه في تابوت مقفل عليه في قعر جهنّم، فلا يحبّه من رغب عن الجنّة وفضّل جهنّم عليها؟! وكيف لا يكرهون من أمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقتله إن رؤي على منبره فلمّا أراد قتله أحد المسلمين لـمـّا رآه على المنبر في العراق حجبه عبد الله بن مسعود وقال له حتّى يأتي الأمر من عمر، فمات عمر وابن هند متسلّط على دمشق.

وما لابن هند وسيرة ابن أبي قحافة، هل كانت سيرة إسلاميّة؟ فلم لم تقم نفسه بها. ويعظم الأمر إذ يجد نفسه أشدّ نفوراً من عمل ابن الخطّاب! ومن سنيّات عثمان، وانظر حيث يذكر ابن أبي قحافة، وابن الخطّاب فلا يذكرهما بالاسم، وهما ربّا نعمته في تسليطه على الشأم، ولكن يذكر عثمان. فما العيب في الأوّلين؟! و (هيهات أن يدرك فضلهم أحد ممّن بعدهم) أيعني بذلك أمير المؤمنين عليًّاعليه‌السلام نفس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما في آية المباهلة؛ وأخوه يوم المؤاخاة وما بعده، وهو ما كان يفخر به عليّعليه‌السلام فيهتف

____________________

(١) انظر السيرة النبويّة، لابن هشام ٢: ٣٦٦ - ٣٧٢، والمغازي ١: ١٤٨ - ١٥٢، والمحبّر: ١٧٥ - ١٧٦، وطبقات ابن سعد ٢: ١٧ و ٥: ٣١، والنسب: ١٩٩ و ٢٠٢ و ٢٠٤ و ٢٠٥ و ٢١٠ و ٢١٢ و ٢١٣ و ٢١٥ و ٢٥٠، وأنساب الأشراف ١: ٣٥٥ و ٣٥٦ - ٣٥٧ و ٣٥٩ - ٣٦٠، وتاريخ الطبري ٢: ١٤٨، وكتاب الثقات ١: ٦٥، والإرشاد: ٦٠ و ٦٢ - ٦٣.

٤٩٢

صادقاً بأنّه أخو رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسابقها إلى الإسلام وصدّيق هذه الأُمّة وفاروقها، لا يقولها بعده أحد إلّا كذّاب!

وهل أنزل منه أحداً بمنزلة هارون من موسى إلّا عليّ؟! وعليّ طاهر معصوم هو وزوجته الطاهرة المعصومة فاطمة وابناهما الحسنان طاهران معصومان، ذكر ذلك القرآن الكريم، ولذا ضمّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفسه الطاهرة إليهم ولم يأذن لأحد أن يكون معهم إلّا جبريلعليه‌السلام لـمـّا استأذن النبيّ أن يكون معهم تحت الكساء فأذن له لأنّه ملك مقرّب معصوم طاهر.

فلو كان عليّ لم يبلغ شأو من ذكر ابن هند، لخرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يباهل بهم وبنسائهم وأولادهم وينصب واحداً منهم مكان نفسه ثمّ يلحّ بالدعاء إلى الله عزّ وجلّ بأن يحلّ اللعنة على الكاذبين! ولم تنزل آية في تنصيب واحد ممّن ذكر وليّاً للمسلمين ولكن نزل قرآن في ولاية عليّعليه‌السلام . ولم يرفع يد واحد من أولئك يوم الغدير ليجعله أمير المؤمنين ووليّاً للمسلمين. وإنّما رفع يد عليّعليه‌السلام حتّى بان بياض إبط رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ودعا له (أللّهم وال من والاه وعاد من عاداه)، فهل والى ابن هند عليًّا أم كان ناصبيّاً يتعبّد ببغض عليّ، وخارجيّاً خرج على عليّ وحاربه وسنّ سبّ عليّ دبر كلّ صلاة، وسبّ عليّ سبّ لله كما علمت. والبراءة منه، ودين عليّ دين النبيّ، فالبراءة منه براءة من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وعليّ وبنوه سفينة النجاة وصراط الله المستقيم، فهل ركبوا السفينة فنجوا أم تخلّفوا عنها فغرقوا وحادوا عن الصراط المستقيم؟! وعليّ باب مدينة علم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فعليّ وزوجته وابناهعليهم‌السلام أطهر بيت وأشرفه وأفضله؛ وحربهم حرب لله ولرسوله، فأين يكون ابن هند يوم الآخرة وقد حارب عليًّا والحسنعليهما‌السلام ؟!

٤٩٣

منطق جاهليّ:

وقوله: (وإن لم تجدوني أقوم بحقّكم كلّه فارضوا منّي ببعضه)! فلمعرفته بنفسه وأنّه يبخس الناس حقّهم؛ فقد قدّم بين يدي معذرته! أن يرضوا منه بالبعض ويسكتوا!

من أين جاء بهذا الحكم؟! وهل مساواة أهل مدينة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالظلم من خلال انتقاصهم حقوقهم، مع تفصيل أهل الشأم عليهم في ذلك، دليل على تحوّل ابن هند من جاهليّة إلى إسلام؟! وعقّب متوعّداً إن هم طلبوا حقّهم وسمّى ذلك فتنةً تورث الاستئصال! أي القتل العام؛ كلّ ذلك وأهل المدينة لم يقع منهم أمر مريب يثير حنقه، إلّا أنّه حقد دفين لمن ضربوه وقومه بسيوفهم وأرغموهم على إظهار الإسلام دون أن تفارق الأصنام قلوبهم! وقد وجدنا ابن هند بعد تسلّطه على الشأم يتاجر بالأصنام النحاسيّة إلى الهند؛ وأبو سفيان وقد حظر مع المسلمين يوم يرموك، فكان هو ومجموعة من قريش إذا مال الروم على المسلمين قالوا: إيه بني الأصفر! تشجيعاً للروم وشماتة بالمسلمين، والأزلام في كنانة أبي سفيان. وقد حذّر ابن هند ابن ميسون من أهل المدينة، فلمّا كانت وقعة الحرّة أباح الدعيّ ابن الدعيّ المدينة لأهل الشأم ثلاثة أيّام يفعلون ما يشاؤون، فقتلوهم قتلاً ذريعاً: الرجال والنساء والشيوخ والأطفال ولم يسلم حتّى الرضيع! ووقعوا على النساء وحبلت ألف امرأة من غير زوج ولم يسمع أذان في المدينة طيلة الأيّام تلك. ونهبوا وسلبوا كلّ ما وقعت عليه أبصارهم.

وقفة مع ابن عبّاس:

وقد مرّ بنا كتاب ابن عبّاس إلى الإمام الحسنعليه‌السلام يسأله إلّا يقتدي بأبيه

٤٩٤

أميرالمؤمنين عليّعليه‌السلام في مساواته بين الناس في الفيء والعطاء، وإنّما عليه مداراة أصحابه فيولّي أهل البيوتات ويشتري قلوبهم بالمال، وقد رفض الإمام هذا الرأي ورفض فكرة أنّ الحرب خدعة، فهوعليه‌السلام لا يريد مكسباً دنيويّاً أو أن يحقّق نصراً عسكريّاً تحقيقاً لذاته. كان الإمام يريد تحقيق الأهداف الإسلاميّة النبيلة وغايته رضا الله تعالى وله بأبيه أسوة فهوعليه‌السلام ما زال ينتقل من نصر مؤزّر إلى ظفر باهر وانتهى به الأمر أن استشهد في محراب الصلاة ساجداً لله سبحانه إذا بادره خارجيّ شرب حليب يهوديّة، فضربه على رأسه بسيف شراه بثلاثة آلاف وصقله بثلاثة آلاف وسمّه بثلاثة آلاف! وفي لحظة الضربة استحضر أمير المؤمنين ما كان يخبره رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أمره، فتيقّن أنّه غاد إلى الله ورسوله وذلك هو الفوز العظيم فهتف صلوات الله وسلامه عليه: (فزت وربّ الكعبة)! فازعليه‌السلام بالجنّة والرضوان، إلّا أنّ الأُمّة تهيّأت للمحن وتمهّد السبيل لابن هند إذ قبل شهادة أمير المؤمنينعليه‌السلام كان أهل الشأم يدعون ابن هند: الأمير؛ فلمّا استشهد أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام ، بايعوه على أنّه أمير الـ....

وفي الكوفة: بايع الناس الإمام الحسنعليه‌السلام بالخلافة وإمرة المؤمنين. قال ابن أعثم: لـمـّا مضى عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام إلى سبيل الله، اجتمع الناس إلى ابنه الحسن فبايعوه ورضوا به وبأخيه الحسين من بعده.

قال: فنادى الحسن في الناس فجمعهم في مسجد الكوفة، ثمّ صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: أيّها الناس، إنّ الدنيا دار بلاء وفتنة، وكلّ ما فيها فآئل إلى زوال واضمحلال، وقد أنبأنا الله عنها لكي نعتبه، وتقدّم إلينا فيها بالوعد لكي نزدجر، فلا يكون له علينا حجّة بعد الإعذار والإنذار، فازهدوا فيما يفنى، وارغبوا فيما يبقى وخافوا الله في السرّ والعلانية؛ ألا وقد علمتم أنّ أمير المؤمنين عليًّا رحمه الله حيّاً وميّتاً،

٤٩٥

عاش بقدر ومات بأجل، وإنّي أبايعكم على أن تحاربوا من حاربت وتسالموا من سالمت؛ فقال الناس: سمعنا وأطعنا، فمرنا بأمرك يا أميرالمؤمنين. قال: فأقام الحسن -عليه‌السلام - بالكوفة شهرين لا ينفذ إلى معاوية أحداً ولا ذكر المسير إلى الشأم(١) .

وبأسانيد عدّة أخرج أبو الفرج الأصفهاني؛ قالوا:

خطب الحسن بن عليّ بعد وفاة أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام ، فقال: لقد قبض في هذه الليلة رجل لم يسبقه الأوّلون بعمل ولا يدركه الآخرون بعمل، ولقد كان يجاهد مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيقيه بنفسه، ولقد كان يوجّهه برايته، فيكتنفه جبرئيل عن يمينه، وميكائيل عن يساره، فلا يرجع حتّى يفتح الله عليه؛ ولقد توفّي في الليلة التي عرج فيها بعيسى ابن مريم وتوفّي فيها يوشع بن نون وصيّ موسى. وما خلّف صفراء ولا بيضاء إلّا سبعمائة درهم بقيت من عطائه أراد أن يبتاع بها خادماً لأهله ثمّ خنقته العبرة فبكى وبكى الناس معه. ثمّ قال أيّها الناس، من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا الحسن بن محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أنا ابن البشير، أنا ابن النذير، أنا ابن الداعي إلى الله عزّ وجلّ بإذنه، وأنا ابن السراج المنير، وأنا من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيراً والذين افترض الله مودّتهم في كتابه إذ يقول:( وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً ) (٢) . فاقتراف الحسنة مودّتنا أهل البيت.

قال أبو مخنف عن رجاله: ثمّ قام ابن عبّاس(٣) بين يديه، فدعا الناس إلى بيعته

____________________

(١) الفتوح، لابن أعثم ٤: ١٤٨.

(٢) الشورى: ٢٣.

(٣) أطلقه ولم يحدّده، والظاهر أنّه عبيد الله بن العبّاس لأنّه كان مع الإمام الحسنعليه‌السلام قبل قبل أن يتغيّر! وعبد الله كان بعيداً عن الكوفة.

٤٩٦

فاستجابوا له وقالوا: ما أحبّه إلينا وأحقّه بالخلافة فبايعوه(١) .

ومثل رواية الأصفهاني في الطبري، قال: وفي هذه السنة أعني سنة أربعين بويع للحسن بالخلافة.

وقيل: إنّ أوّل من بايعه قيس بن سعد قال له: ابسط يدك أبايعك على كتاب الله عزّوجلّ وسنّة نبيّه وقتال المحلّين فقال الحسنعليه‌السلام : على كتاب الله وسنّة نبيّه فإنّ ذلك يأتي من وراء كلّ شرط؛ فبايعه وسكت وبايعه الناس(٢) .

وفي رواية البلاذري:

حدّثني عبّاس بن هشام الكلبي عن أبيه عن أبي مخنف وعوانة بن الحكم في إسنادهما، وحدّثني عبد الله بن صالح العجلي عن الثقة عن ابن جعدبة عن صالح بن كيسان قالوا: لـمـّا قتل عليّ بن أبي طالب بالكوفة، قام قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري فخطب فحمد الله وأثنى عليه ثمّ وصف فضل عليّ وسابقته وقرابته والذي كان عليه في هديه وعدله وزهده وقرّظ الحسن ووصف حاله ومكانه من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والذي هو أهله في هديه وحلمه واستحقاقه الأمر بعد أبيه، ورغّبهم في بيعته، ودعاهم إلى طاعته، وكان قيس أوّل من بايعه ثمّ ابتدر الناس بيعته.

وقد كان قي عامل عليّ على آذربيجان فكتب إليه في القدوم للغزو معه، فقدم فشهد مقتله(٣) .

قال: وخرج عبيد الله بن العبّاس بن عبد المطّلب إلى الناس بعد وفاة عليّ ودفنه

____________________

(١) مقاتل الطالبيّين: ٣٢ - ٣٣.

(٢) تاريخ الطبري ٤: ١٢١.

(٣) أنساب الأشراف ٣: ٢٧٨.

٤٩٧

فقال: إنّ أمير المؤمنين رحمه الله تعالى فقد توفّي برّاً تقيّاً، عدلاً مرضياً، أحيا سنّة نبيّه وابن عمّه، وقضى بالحقّ في أمّته. وقد ترك خلفاً رضيّاً مباركاً حليماً فإن أحببتم خرج إليكم فبايعتموه، وإن كرهتم ذلك فليس أحد على أحد. فبكى الناس وقالوا: يخرج مطاعاً عزيزاً، فخرج الحسن فخطبهم فقال: اتّقو الله أيّها الناس حقّ تقاته فإنّا أمراؤكم وأضيافكم، ونحن أهل البيت الذين قال الله:( لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (١) . والله لو طلبتم مثلي في قرابتي وموضعي ما وجدتموه، ثمّ ذكر ما كان عليه أبوه من الفضل والزهد والأخذ بأحسن الهدى، وخروجه من الدنيا خميصاً لم يدع إلّا سبعمائة درهم فضلت من عطائه، فأراد أن يبتاع بها خادماً. فبكى الناس ثمّ بايعوه، وكانت بيعته التي أخذ على الناس أن يحاربوا من حارب ويسالموا من سالم(٢) .

موجز البيعة:

الذي وجدناه في بيعة الإمام الحسنعليه‌السلام أنّها نظير بيعة أبيه أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام ، فلم تكن فلتةً وقى الله شرّها وثمرة ممالأة في ظلّ سقيفة جرّت إلى صراع بين الأجنحة ذات النفوذ وكادت تأتي على حياة سيّد الخزرج، ووفاءً للعهود والمواقف المشكورة! عهد الأوّل للثاني، وزواها الثاني عن صاحبها قرآناً وسنّةً وسيرةً ذاتيّة! بتشكيله فريق عمل على ما هو معروف للجميع. وبعد مضيّ اتّجهت الأنظار صوب أمير المؤمنينعليه‌السلام ، ولمعرفة أصحاب البعير أن لا حظّ لهما في الأمر بادرا أن يكونا أوّل

____________________

(١) الأحزاب: ٣٣.

(٢) أنساب الأشراف ٣: ٢٧٩.

٤٩٨

من بايع أمير المؤمنين أملاً أن يكون لهما نصيب في الأمر مع ما تنطوي جوائحهم عليه من أميرالمؤمنين! إلّا أنّ أمير المؤمنين خيّب آمالهما فنكثا البيعة وخرجا يتبعان بعيراً وصاحبته.

لقد جاءا أمير المؤمنينعليه‌السلام في بيته وعرضا عليه البيعة، فأبى عليهما وعرض عليهما أن يبايع لأحدهما بعد تراض منهما على أحدهما وأن تكون البيعة عامّة في المسجد فمن بايع له الناس كانعليه‌السلام كأحدهم! فأحرجهما بذلك لمعرفتهما أنّ المسلمين لن يبايعوا لأحدهما وعليّعليه‌السلام موجود، وبذلك يخسروا كلّ شيء.

وعاودوا مراجعته، فقالعليه‌السلام : إنّ هذا الأمر لا يكون مخالسةً ولابدّ أن يكون على رؤوس الملأ علانيةً وبرضى المسلمين، فقبلا. واحتشد المسلمون وبعد أن تكلّم عدد من الأنصار فذكروا فضائل أمير المؤمنين ثمّ قالوا: ولو علمنا مكان أحد هو أفضل منه وأجمل لهذا الأمر وأولى به لدعوناكم إليه. فقال الناس كلّهم وبكلمة واحدة: رضينا به طائعين غير كارهين. فقال لهم عليّ: أخبروني عن قولكم هذا: أحقّ واجب من الله عليكم أم رأي رأيتموه من عند أنفسكم؟ قالوا: بل هو واجب أوجبه الله عزّ وجلّ لك علينا، فقال عليّ: فانصرفوا يومكم هذا إلى غدٍ. فلمّا كان من غد أقبل الناس إلى المسجد، وجاء عليّ بن أبي طالب، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال: ايّها الناس إنّ الأمر أمركم فاختاروا لأنفسكم من أحببتم وأنا سامع مطيع لكم!

فصاح الناس من كلّ ناحية وقالوا: نحن على ما كنّا عليه بالأمس، فابسط يدك حتّى يبايعك الناس، فسكت عليّ، وقام طلحة إلى عليّ فبايعه وضرب يده على يد عليّ، وكان به شلل من ضربة اصابته يوم أحد، فلمّا وقعت يده على يد عليّ قال قبيصة بن جابر: إنّا لله وإنّا إليه راجعون! أوّل يد وقعت على كفّ أمير المؤمنين يد شلاّء، لا والله

٤٩٩

لا يتمّ هذا الأمر من قبل طلحة بن عبيد الله أبداً. ثمّ وثب الزبير وبايع، وبايع الناس بعد ذلك(١) .

إنّ الذي كان من أمير المؤمنينعليه‌السلام إنّما أراد ليقطع الطريق على معاذير المشاغبين، وهو يعلم ما تُكنّه صدور طلحة والزبير من كراهية وحسد له وتطلّع إلى الإمارة، وقد أعلمه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما سيكون من الفتن ومنها حرب الجمل.

ذكر الطبري عن موسى بن عُقبة عن أبي حبيبة مولى الزبير، قال: لـمـّا قتل الناس عثمان وبايعوا عليًّا جاء عليّ إلى الزبير فاستأذن عليه فأعلمته به، فسلّ السيف ووضعه تحت فراشه! ثمّ قال: ائذن له فأذِنتُ له، فدخل فسلّم على الزبير وهو واقف بنحوه ثمّ خرج، فقال الزبير: لقد دخل المرء ما أقصاه، قُم في مقامه فانظر: هل ترى من السيف شيئاً فقمت في مقامه فرأيتُ ذُبابَ السيف فأخبرتُه، فقال: ذاك أعجلَ الرجل(٢) .

لقد كان ابن العوّام من العزم على قتل أمير المؤمنين غدراً بعد ليلة من بيعته، فما يرجى منه بعد؟ وقد أنبأه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه سيقاتل عليًّا وهو ظالم له فكان كما أنبأ.

وفي البصرة، أخذ جارية بن قدامة السّعدي البيعة لأميرالمؤمنين وكان بها عبد الله ابن عامر بن كريز والياً لعثمان، ففرّ منها إلى مكّة.

وفي الكوفة، بايع هاشم بن عُتبة المرقال أمير المؤمنين وقال: هذه يميني وشمالي لعليٍّ.

وفي المدائن، بايع حذيفة بن اليمان لأميرالمؤمنين واضعاً يده اليمنى على اليسرى وحثّ الناس على بيعته ونصرته وقال: لا أبايع بعده لأحد من قريش، ما بعده إلّا

____________________

(١) الفتوح ٢: ٢٤٣ - ٢٤٦، تاريخ الطبري ٣: ٤٥٦.

(٢) تاريخ الطبري ٣: ٤٥٤.

٥٠٠