شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية الجزء ٣

شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية0%

شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية مؤلف:
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 697

شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية

مؤلف: حبيب طاهر الشمري
تصنيف:

الصفحات: 697
المشاهدات: 160080
تحميل: 2675

توضيحات:

الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 697 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 160080 / تحميل: 2675
الحجم الحجم الحجم
شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية

شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية الجزء 3

مؤلف:
العربية

الرايات! ولم تزده صحبته لزوج هند (أبو سفيان) إلّا خَبالاً! علّمه كيف يسرق بعير الأعرابي حتّى أحرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أبا سفيان ومعاوية ابن هند فجاءا بالبعير.

وتعلّم من أبي سفيان التردّد على مواخير الخمور ومراودة ذوات الرايات واستلحاق أبناء الشُبهة إذ كان أبو سفيان يزعم أنّه هو الذي وضع زياد بن سُميّة في رحم أمّه وقد غلب ماؤه على ماء الرجال الذين تراودوا سُميّة، فوقر في قلب ابن هند ذلك؛ فإذا احتاج إلى صولة ابن سميّة استلحقه وادّعاه وأقام الشهود بعد أن أرشاهم فصيّره أخاه: زياد بن أبي سفيان؛ ومعاوية نفسه لم يثبت نسبه إلى أبي سفيان؟! ولذا لم يشقّ عليه أن يدّعي ابن ميسون يزيد؛ فصيّره: يزيد بن معاوية ابن هند.

فهنيئاً لمن والى هؤلاء وسمّاهم أمراء المؤمنين وناصب لأجلهم العداء والبغيضة لأهل بيت النبوّة ومعدن الرسالة وأنت تعلم من حديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ حبّ عليّ إيمان وبغضه نفاق(١) .

ولا تظنّ أنّ ابن هند خرج على إمام زمانه وهو يحبّه! ولم يصله هذا الحديث؛ ولم يسمع بإمرة عليّعليه‌السلام بأمر الله تعالى وذلك يوم الغدير، ولا ولايته في القرآن في آية

____________________

(١) يرد ذلك من طرق عدّة في: صحيح مسلم ٢: ٦٤، سنن النسائي ٨: ١١٥ - ١١٦، خصائص أمير المؤمنين علي، له: ١٠١ / ٩٧ - ٩٩، سنن الترمذي ١٠: ٢٣٩، المعيار والموازنة: ٢٢٤، العقد الفريد ٥: ٣٥٤، الحميديّ ١: ٣١، ابن ماجة: ١١٤، السنّة، لابن أبي عاصم ٢: ٥٩٨، المصنّف، لابن أبي شيبة ٧: ١٥٩ / ١، سنن أبي يعلى ١: ٢، ابن حبّان ٢: ١٧٧ / ٢، أنساب الأشراف ٢: ٩٦، مسند أحمد ١: ٨٤ و ٩٥ و ١٢٨، فضائل الصحابة له: ٩٤٨ - ٩٦١، علوم الحديث، للحاكم: ١٨٠، الخطيب في تاريخه ٢: ٢٥٥ و ١٤: ٤٢٦، ابن النجّار في ذيل تاريخ بغداد: ١٠٢ - ١٠٣، مناقب ابن المغازلي: ٢٢٥ - ٢٣١، المحاسن والمساوئ، للبيهقي ١: ٢٩٠، تفسير الحبري: ٣٥٠، بشارة المصطفى، للطبريّ: ٦٤ و ٧٦ وغيرها، الرياض النضرة ٢: ٢١٤، كفاية الطالب: ٦٩، تذكرة الخواصّ: ١٥، شرح السنّة، للبغوي ٢: ٧١٧، مسند البزار ٣: ١٨٢، معجم الصحابة، للبغوي: ٤٢٠، معالم التنزيل ٦: ١٨٠.

٥٤١

التصدّق حال الركوع، ولا حديث تبليغ براءة، ولا قرأ آية التطهير ولم يعلم فيمن نزلت ولا آية المباهلة وبمن باهل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وغير ذلك كثير وكثير.

وربّما يعذره خلفه النواصب أنّ سيّدهم وأميرهم لم يكن من أهل القرآن ومجالس العلم إنّما شغلته بطنه لدعوة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيه: (أللّهم لا تُشبع بطنه) فكان يأكل ولا يشبع ولـمّا تفضّل عليه أبوبكر إذ بعثه مع يزيد بن أبي سفيان يحمل رايته وكان يزيد أحد أمراء فتح دمشق ثمّ لـمـّا مات يزيد أقرّه عمر بن الخطّاب على دمشق ثمّ وسّع له! فأعطاه جميع الشأم، وضمّ إليه عثمان مصر وبعض الأقاليم؛ فكانت نشوة الحكم قد أنسته حتّى الذي سمعه أو أثارت كوامنه كما صرّح في خطبته بالنُخيلة لـمّا قال: (ما اختلفت أمّة بعد نبيّها حتّى غلب أهل باطلها أهل حقّها)، فمارس في حكمه التمرّد على إمام زمانه عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ثمّ على الإمام الحسنعليه‌السلام ؛ وصرّح بحقيقته أمام المغيرة بن شعبة لـمّا قال: إنّ ابن أبي كبشة - يعني النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - يصاح به خمس مرّات... لا والله إلّا دفناً دفناً!!

ولذلك صار سهلاً عليه وهو في بيئة تعينه على ما يريد، فتاجر بالخمر وتماثيل النحاس واشتهر بالزنا مع تنويعه للنساء ففيهنّ الفارسيّة والتركيّة والزنجيّة، وصار مطيّة لهذه وتلك تركبه فيزحف بها، وتلوي أخرى السوط على رأسه ويموت بسبب زنية! وقد مرّ تفصيل ذلك ولكن صار الخطاب إلى النواصب فلا بدّ من التذكير إيجازاً.

فإذا كان حبّ عليّ إيمان وبغضه نفاق، فكيف بحربه وسبّه على منابر المسلمين؟! ونحن نعلم أنّ المؤمن في الجنّة والمنافق في جهنّم؛ فأين يصار بمعاوية ومن والاه؟!

وبعد حربه لأميرالمؤمنين عليّعليه‌السلام حارب الإمام الحسنعليه‌السلام فلمّا عضّته الحرب طلب الصلح فأجاب سيّد شباب أهل الجنّة ووضع شروطاً هي العمل بكتاب الله

٥٤٢

وسنّة نبيّه وحفظ دماء المسلمين أينما كانوا...، ورفض ما شرطه له ابن هند من مال، وأن يكون له الحكم بعد هلاك ابن هند.

وحرب الحسن وبغضه وكذلك أخيه حسيناً مثل حبّ وبغض وحرب أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام!

حب وبغض الحسن والحسينعليهما‌السلام

بأسانيد عدّة ومن طرق مختلفة فإنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صرّح بشأن الحسن والحسين مثلما في أبيهما؛ فأين يُصار بابن هند ومَن حارب الحسن والحسينعليهما‌السلام وشيعتهم هل إلّا إلى جهنّم؟ والناصبيّ مع من أحبّ.

بسندٍ عن أبي هريرة قال: سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: (من أحبّ حسناً وحسيناً أحبّني ومن أبغضهما أبغضني)(١) .

وإذا كان حبّ عليّعليه‌السلام إيمان وبغضه نفاق؛ ولذا كانعليه‌السلام قسيم النار والجنّة إذ المؤمن في الجنّة والمنافق في النار؛ فكيف الحال مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟!

بسندٍ عن سلمان المحمّدي قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للحسن والحسين: (من أحبّهما أحببته، ومن أحببته أحبّه الله، ومن أحبّه الله أدخله جنّات النعيم؛ ومن أبغضهما أو بغى

____________________

(١) الأدب المفرد، للبخاري: ٢٠٤، مسند أحمد ٢: ٨٨٠ و ٢٤٠ و ٥٣١، سنن ابن ماجة ١: ٥١، طبقات ابن سعد ح ٣٨ و ٥٥ من ترجمة الإمام الحسن، النسائي في كتاب الفضائل: ٩٠، مسند أبي يعلى ١١: ٧٨ / ٦٢١٥، الكامل، لابن عدي ٣: ٣٤٤ / ٧٩٣ ومواضع أخرى، السنن الكبرى، للنسائي - كتاب المناقب ح ٦٥ باب مناقب الحسنين، المعجم الكبير ٣: ٤٧ / ٢٦٤٥ - ٢٦٤٩، تاريخ بغداد ١: ١٤١، المستدرك على الصحيحين ٣: ١٧٧ ووافقه الذهبي، صحيح مسلم ٧: ١٢٩، حلية الأولياء ٢: ٣٥، أمالي الطوسي ح ٣٨، المصنّف، لابن أبي شيبة ١٢: ١٠١، مناقب الكوفي ٢: ٦١ / ٧١٦ وغيره.

٥٤٣

عليهما أبغضته، ومن أبغضته أبغضه الله، ومن أبغضه الله أدخله عذاب جهنّم وله عذاب مقيم)(١) .

ولقد بغى ابن هند على الإمام الحسنعليه‌السلام ، ولـمّا رأى كتائب أهل العراق وأنّ الواحد منهم يزن الكتيبة، هرع يطلب الصلح؛ فأجابه الإمامعليه‌السلام حقناً للدماء، فلمّا تمّ واستوثق، نكث وغدر؛ ومن قبل قاتل أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام فلمّا كان من الخوارج المارقين ما كان وكتب كتاب الهدنة لمدّة سنة وعاد أهل العراق إلى عراقهم وأهل الشأم إلى شأمهم غدر ابن هند وراح يشنّ الغارات - ذكرنا بعضها في الغارات -.

وحرب أهل البيتعليهم‌السلام حرب لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا يحارب رسول الله إلّا كافر!

عن زيد بن أرقم: أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لعليّ وفاطمة وحسن وحسينعليهم‌السلام : (أنا حرب لمن حاربكم، سلم لمن سالمكم)(٢) .

كفر معاوية

سيرة ابن هند حتّى لحظة موته تشير إلى أنّه ما آمن منذ كفر، وقد أوردنا الأدلّة الكثيرة في كفره وزندقته.

قول سعد في معاوية

بسند عن غنيم بن قيس قال: سألت سعد بن مالك عن مُتعة الحجّ فقلت: إنّ

____________________

(١) المعجم الكبير ٣: ٥٠ / ٢٦٥٥.

(٢) مسند أحمد ٢: ٢٢، صحيح الترمذي، سنن ابن ماجة: ١٤، المعجم الصغير ٢: ٣، تاريخ بغداد ٧: ١٣٦، المستدرك على الصحيحين ٣: ١٤٩، المعجم الكبير ١: ٩٤٧ و ٣: ٢٦٤٦، مناقب الإمام عليّ، لابن المغازلي: ٦٦، الصواعق المحرقة: ١١٢، البداية والنهاية ٨: ٢٠٥، ذخائر العقبى: ٢٥، كفاية الطالب: ٣٣١، الرياض النضرة ٢: ١٩٩، كنز العمّال ٦: ٢١٦، تاريخ بغداد ٧: ١٣٦.

٥٤٤

معاوية ينهى عنها؟ فقال: وما يدري الفاسق؟ فعلناها على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومعاوية كافر بالله(١) .

حتّى اللحظة التي صرّح فيها سعد بن أبي وقّاص فابن هند لا تطاوعه نفسه أن ينزع من الكفر ويدخل فيما دخل فيه الناس من الإسلام، ولعلّ تصريح سعد هذا هو أهمّ الأسباب في اغتيال ابن هند إيّاه، على ما ستعلم.

جعدة تسمّ الحسنعليه‌السلام

بعد الصّلح وما شرط الإمام الحسنعليه‌السلام على معاوية عادعليه‌السلام إلى المدينة، وقد وقفنا على خروقات ابن هند وخيانته للعهود والمواثيق التي أخذها عليه السبط الزكيعليه‌السلام ومن ذلك: أن لا يعهد معاوية إلى أحد بعده وإنّما الأمر شورى بين المسلمين.

وكان هذا الشرط الأخير، وما قبله: بكتاب الله وسنّة نبيّه؛ أثقل شيء على ابن هند.

ذكر الأصفهاني في ذلك: أراد معاوية البيعة لابنه يزيد فلم يكن شيء أثقل من أمر الحسن بن عليّ وسعد بن أبي وقّاص فدسّ إليهما سمّاً فماتا منه(٢) .

أمّا سمّ ابن هند للإمام الحسنعليه‌السلام ، فأمر غير غريب وقد قاتله فلمّا ظنّ أنّه إنّما

____________________

(١) التاريخ الكبير ١: ١٢٥، صحيح مسلم ٢: ٨٩٨، المصنّف، لابن أبي شيبة ٢: ٨٩٨، الموطّأ، لمالك ١: ٣٤٤، سنن الشافعي ١: ٣٧٣، الناسخ والمنسوخ، لأبي عبيد: ٣٢٦، مسند الدورقي: ١٢٣ و ١٢٤، المعرفة والتاريخ ١: ٣٦٣، غريب الحديث، للحربي ١: ١٧١، سنن الترمذي ح ٨٢٣، سنن النسائي ٥: ٥٢، سنن البيهقي ٥: ١٧، سنن الدارمي رقم ١٨١٤، مسند البزار رقم ١٢٣٢، مسند أبي يعلى: ٨٢٧، صحيح ابن حبّان رقم ٣٩٢٣، موضّح أوهام الجمع والتفريق ٢: ٣١٧ ومواضع أخرى، معرفة علوم الحديث، للحاكم: ١٢٢، مناقب أميرالمؤمنين، للكوفي ٢: ١٣٨ / ٧٩١، إنّ بعض المصادر ذكرته في أكثر من موضع.

(٢) مقاتل الطالبيّين: ٤٨.

٥٤٥

أحيط به، راح يتوسّل بالصّلح فلمّا صار الأمر إليه ثقل أمر وجود الإمام فسعى إلى الخلاص منه. أمّا سعد بن أبي وقّاص، فأمر غريب أن يسعى ابن هند لقتله! فلم يكن لسعد أثر في الأمّة كما كان للإمام الحسنعليه‌السلام ولم تكن له معارضة ملحوظة. وسعد أمّه حنتمة بنت سفيان بن أميّة، فهو من جهة الأم في الصميم من آل سفيان، وابنه عمر بن سعد بن أبي وقّاص ابن ابن عمّ يزيد بن ميسون، هذا لو نسبنا يزيد إلى معاوية! وقد قاد عمر بن سعد خوارج وعثمانيّة الكوفة وجيوش أهل الشأم لقتال سيّد شباب أهل الجنّة. وأمّا لماذا سعى ابن هند لتصفية سعد بن أبي وقّاص؟ فلعلّه لـما رواه سعد بكفر ابن هند، مرّ بنا!

بسندٍ عن جرير بن مغيرة قال: أرسل معاوية إلى ابنة الأشعث: إنّي مزوّجك بيزيد على أن تسمّي الحسن بن عليّ، وبعث إليها بمائة ألف درهم، فقبلت وسمّت الحسن، فسوّغها المال ولم يزوّجها من يزيد فخلف عليها رجل من آل طلحة فأولدها فكان إذا وقع بينهم وبين بطون قريش كلام عيّروهم وقالوا: يا بني مُسِمّة الأزواج(١) .

عن ابن جُعْدُبة: كانت جَعْدة بنت الأشعث بن قيس تحت الحسن بن عليّ، فدسّ إليها يزيد أن سُمّي الحسن إنّني زوجك، ففعلت، فلمّا مات الحسن بعثت جَعْدَةُ إلى يزيد تسأله الوفاء بما وعدها، فقال: إنّا والله لم نَرْضك للحسن فنرضاك لأنفسنا(٢) .

وقال سفيان بن عُيينة، عن رَقَبَة بن مَصْقلة: لـمّا حضر الحسن بن عليّ الموت، قال: أخرجوا فراشي إلى صحن الدار حتّى أنظر في ملكوت السماوات. فأخرجوا فراشه،

____________________

(١) مقاتل الطالبيّين: ٤٨، والإرشاد: ١٧١، شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد ٤: ١٧، أنساب الأشراف ٣: ٢٩٤، مروج الذهب ٣: ٥.

(٢) تهذيب الكمال، للمِزي السلفي ٦: ٢٥٣.

٥٤٦

فرفع رأسه إلى السماء فنظر، ثمّ قال: أللّهم إنّي أحتسب نفسي عندك، فإنّها أعزُّ الأنفس عليَّ. فكان ممّا صنع الله له أن احتسب نفسه عنده(١) .

ومَن كان حسبه الله فقد كفاه أمر دنياه وآخرته وانتصف له ممّن ظلمه وهضمه حقّه يوم تجزى كلّ نفس بما كسبت؛ فسلام على سادات أهل الجنّة والعَقَبة التي من اجتازها دخل الجنّة وفاز والله بولائهم الفائزون.

وصيّة الإمام في دفنه

بسند عن هشام بن عروة عن أبيه قال: قال الحسن حين حضرته الوفاة: ادفنوني عند قبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا أن تخافوا أن يكون في ذلك شرّ، فإن خفتم الشرّ فادفنوني عند أمّي.

وتوفّي فلمّا أرادوا دفنه أبى ذلك مروان وقال: لا يُدفن عثمان في حش كوكب ويُدفن الحسن هاهنا. فاجتمع بنو هاشم وبنو أميّة فأعان هؤلاء قوم وهؤلاء قوم، وجاؤوا بالسلاح فقال أبو هريرة لمروان: يا مروان! أتمنع الحسن أن يُدفن في هذا الموضع وقد سمعتُ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول له ولأخيه الحسين: (هما سيّدا شباب أهل الجنّة). فقال مروان: دعنا عنك، لقد ضاع حديث رسول الله إن كان لا يحفظه غيرك وغير أبي سعيد الخُدْري! إنّما أسلمتَ أيّام خيبر؛ قال: صدقتَ، أسلمتُ أيّام خيبر، إنّما لزمتُ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلم أكن أُفارقه، وكنت أسأله وعنيتُ بذلك حتّى علمتُ وعرفت مَن أحبَّ ومن أبغضَ ومن قرّبَ ومن أبعد، ومن أقرَّ ومن نفى، ومن دعا له ومن لعنه.

____________________

(١) حلية الأولياء ٢: ٣٨ - ٣٩.

٥٤٧

فلمّا رأت عائشة السلاح والرجال، وخافت أن يعظم الشرّ بينهم وتُسفك الدماء قالت: البيت بيتي ولا آذن أن يُدفن فيه أحد!(١)

وكان معاوية قد كتب إلى مروان يأمره بمنع دفن الحسن عند قبر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكتب: إذا مات الحسن فامنع من ذلك أشدّ المنع كما منعنا من دفن عثمان مع النبيّ(٢) .

عليّ بن طاهر بن زيد: لـمّا أرادوا دفنه ركبت عائشة بغلاً واستنفرت بني أميّة مروان بن الحكم ومن كان منهم ومن حشمهم وهو القائل فيوماً على بغلٍ ويوماً على جمل(٣) .

الوزغ بن الوزغ، ابن الزرقاء مروان المدعى إلى الحكم! وقد مرّ بنا نسبه الحقيقي، والحكم هو طريدُ رسول الله نفاه من المدينة وأعاده عثمان، يمنع بأمر ابن هند وبمؤازرة عائشة التي أرادت إعادة يوم الجمل ولكن هذه المرّة ركبت على بغلٍ! ربّما لتُنسي الناس اسم الجمل، فكان يوم البَغْل! وفي الأوّل حاربت سيّد الوصيّين وفي الثاني خرجت لحرب سيّد شباب أهل الجنّة. ثمّ ما بالُها إذ رأت الرجال والسلاح أن قالت: البيتُ بيتي ولا آذن أن يُدفن فيه أحد؟! هلاّ قالت: البيت بيتي وهذا ابن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وريحانتُه من الدنيا، وإنّي أذنت أن يُدفن عند قبر جدّه!

وليس حديث (الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة) ممّا تفرّد به أبو هريرة وأبو سعيد الخُدْري! وما العيب لو كان الأمر كذلك؟! هل دعيّ طريد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والذي لعنه رسول الله، وهو في بطن أُمّه، لعنه ولعن ذرّيته، أفضل من أبي هريرة وأبي

____________________

(١) أنساب الأشراف ٣: ٢٩٨.

(٢) نفس المصدر السابق.

(٣) مقاتل الطالبيّين: ٤٩.

٥٤٨

سعيد الخُدْري؟! وقد ذكرنا طرق الحديث ومصادره فإذا هي تنتهي بعلية الصحابة والتابعين؛ وأمّا مصادره فهي المصنّفات والمسانيد والصحاح والسُنن والتاريخ والرجال المعتبرة.

قالوا في السبط المجتبى

قال يونُس بن بُكَير، عن محمّد بن إسحاق: حدّثني مُساور مولى بني سَعْد بن بكر، قال: رأيت أبا هريرة قائماً على مسجد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم مات الحسن بن عليّ يبكي وينادي بأعلى صوته: يا أيّها الناس! مات اليوم حِبُّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فابكوا(١) .

وبسند عن عمر بن عليّ بن أبي طالب، قال: لـمّا قُبض الحسن بن عليّ وقف على قبره أخوه محمّد بن عليّ، فقال: يرحمك الله أبا محمّد فإنْ عزّت حياتك، لقد هدّتْ وفاتك، ولنعمَ الروح روح تضمّنه بدنك، ولنعم البَدَن بدن تضمّنه كفنُك، وكيف لا يكون هكذا وأنت سليل الهدى، وحليفُ أهل التُّقى، وخامسُ أصحاب الكساء، غذّتك أكُفُّ الحقّ، ورُبّيتَ في حجر الإسلام، ورضعت ثدْيَ الإيمان، وطِبتَ حيّاً وميّتاً، وإن كانت أنفسُنا غير طيّبة بفراقك فلا نشكّ في الخيرة لك، يرحمك الله(٢) .

قال ثعلبة بن أبي مالك: شهدنا حسن بن عليّ يوم مات ودفنّاه بالبقيع، فلقد رأيت البقيع ولو طُرِحت إبرةٌ ما وقعت إلّا على إنسان(٣) .

ورثى سليمان بن قتة الحسنعليه‌السلام فقال:

يا كَذَّب الله من نعى حسناً

ليس لتكذيب قوله ثَـمَنُ

____________________

(١) مروج الذهب ٣: ٦.

(٢) المصدر السابق: ٦ - ٧.

(٣) تهذيب الكمال ٦: ٢٥٦.

٥٤٩

أجول في الدار ولا أرى في الدّ

ار أُناس جوارهُمْ عُبُنُ(١)

كنت خليلي وكنت خالصتي

لكلِّ حيٍّ من أهله سَكَنُ

بَدَلْتُهُم منك ليت أنَّهُمُ

أمسو وبيني وبينهم عدنُ(٢)

وقال النجاشي الحارثي الشاعر:

يا جَعْدُ بكّيه ولا تسأمي

بكاء حقٍّ ليس بالباطل

على ابن بنت الطاهر المصطفى

وابن عمّ المصطفى الفاضل

كان إذا شَبَّتْ له نارُه

يوقدها بالشَرْفِ القابل

كيما يراها يائِسٌ مرْمِلٌ

أو ذو اغترابٍ ليس بالآهل

لن تغلقي باباً على مثله

في الناس من حافٍ ولا ناعِلِ

نِعْمَ فتى الهيجاء يوم الوغى

والسيّد القائلِ والفاعلِ(٣)

واختُلف في سنة شهادتهعليه‌السلام ، ففي قول: سنة خمسين، وقيل: سنة احدى وخمسين، وقيل غير ذلك.

فسلامٌ عليه يوم ولد ويوم استُشهد ويوم يُبعث شاهداً على القوم الشانئين والحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على محمّد سيّد المرسلين وآله الطيّبين الطاهرين وصحبه المنتجبين.

____________________

(١) العُبُن: الـمــِلاح.

(٢) أنساب الأشراف ٦: ٣٠٣.

(٣) نفس المصدر السابق: ٣٠٣ - ٣٠٤.

٥٥٠

شهداء مَرْج عَذْراء

ابنُ هند، شرٌّ كلُّه! لم ينعقد من خير ولا رُبّي في خير. فهو ابنُ هند، وعاش في ظلّ أبي سفيان صَخْر بن حَرْب. وهو يسمع مُلاسَنةَ صَخْر وهند، إذ يفخر بابنِه يزيد! على ابنها معاوية، فتردّه هند بأن سيرى ابنها قد سادَ ابنَه.

وهو يعلم أنّ هنداً تَعاقَبَ عليها رجلان قبل صَخْر:

المدائني عن مَسْلَمة بن مُحارب قال: كانت هند بنت عُتْبة قبل أبي سفيان عند حَفْص بن الـمُغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، ثمّ خلف عليها الفاكه بن الـمُغيرة(١) فقتله بنو كِنانة في الجاهليّة بالغُمَيْصاء(٢) .

وهو يعلم أنّه يُعزى إلى أربعة: مسافر بن أبي عمرو، وإلى عُمارة بن الوليد، وإلى العبّاس بن عبد المطّلب، وإلى الصُّباح مغنٍّ أسود كان لعُمارة. قالوا: كان أبو سفيان دميماً قصيراً، فدعت هندٌ الصُّباحَ إلى نفسها. وقالوا: إنّ عُتبة بن أبي سفيان من الصُّباح أيضاً، وإنّها كرهت أن تضعه في منزلها، فخرجت إلى أجياد فوضعته هناك. وفي ذلك

____________________

(١) أنساب الأشراف ٥: ١٢. وحَفْص، والفاكه؛ عمّا حَنْتَمة بنت هاشم بن المغيرة أُمّ عمر بن الخطّاب، وعمّا خالد بن الوليد بن المغيرة الذي هو ابن عمّ حنتمة. انظر جمهرة النسب: ٨٤ - ٨٦، والمحبّر: ٤٣٧.

(٢) الغُمَيْصاء: موضع في بادية العرب قرب مكّة. معجم البلدان.

٥٥١

قال حسّان:

لِـمَن الصبيُّ بجانب البَطـ

حاء مُلقىً غيرَ ذي سُهدِ(١)

نَجَلت به بيضاءُ آنِسةٌ

من عبدِ شمسٍ صَلْتَةُ الَخدِّ(٢) (٣)

وقد ذكرنا في غير هذا الموضع تفصيلاً أوسع، من ذلك ما جرى بين ابن هند وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد؛ وبين ابن هند وابنه يزيد عقب حوار بين يزيد وبين إسحاق بن طلحة...، ولأجل ذلك قال ابن هند ليزيد:... زعم الناس أنّ أبا العبّاس أبي.

ومرّ بنا أنّ (حَمامة) وهي جدّة أبي سفيان، وكانت بغيّاً من ذوات الرايات.

ومع أنّه ابنُ هِنْد، فصار يُعرف ويُدعى إلى أبي سفيان، وما يَضيرُ أبا سفيان - أحد زنادقة قريش، ذكرناهم - أن يُدعى إليه ابنُ امرأته! وإن سبقه في الزواج منها حَفْص، والفاكه ابنا الـمُغيرة المخزوميّان؟! وهل هو أعفّ من هِنْد، وهو المتقلّب بين مواخير

____________________

(١) في ديوان حسّان: (في التُّرب مُلقىً غيرَ ذي مَهْدِ).

(٢) نجلت به: ولَدته. صَلْتَهُ الخَدّ: خدّها بارز ناعم.

(٣) ربيع الأبرار، للزمخشري ٣: ٥٥١. وفي ديوان حسّان زيادة:

تسعى إلى الصُّبّاح مُعوِلَةً

يا هندُ إنّكَ صُلْبةُ الحَرْدِ

غَلَبَتْ على شَبَه الغُلام وقد

بانَ السّوادُ لِحالِكِ جَعْدِ

الحالك: الشعر الأسود. الجعد: المجعَّد، وهي صفة شعر العبيد السود.

وقال لها أيضاً:

لـمَن سواقِطُ صبيانٍ مُنبَّذةٍ

باتَتْ تَفَحَّصُ في بطحاءِ أجيادِ

باتَت تَـمَخَّضُ ما كان قَوابِلُها

إلاّ الوحوشُ وإلاّ جِنّة الوادي

فيهم صبيٌّ لَهُ أُمٌّ لها نسَبٌ

في ذُروةٍ من ذُرى الأحساب أيّادِ

قد غادَروه لِحُرّ الوَجْهِ مُنعفِراً

وخالُها وأبوها سيّدُ النادي

ديوان حسّان بن ثابت: ٩٦ - ٩٧. (تمخّض: تطلق حال الولادة. القوابل: جمع قابلة وهي المرأة التي تشرف على الولادة).

٥٥٢

الخَمْر وبيوتات الزواني، حتّى كانت تلك الليلة المشؤومة التي حطّ رحاله مع رجالٍ من قريش عند الخمّار (أبي مريم السَّلُوليّ) وكان قد عُرف عنه أنّه يجمع بين الرجال والنساء زنىً! فلمّا أخذت الخمرة من الرجال مأخذها، طلب أبو سفيان من أبي مريم أن يأتيه بامرأة، فأخبره أنّه لا يعرف الآن إلّا امرأةً سوداء مُنْتِنة! تأخذ الأجرة على ذلك، فقال له: آتني بها على أيّ حال! فجاء بها وهي (سـُمَيّة، أُم زياد) فواقعها أبو سفيان، ثمّ واقعها الرجال الذين معه؛ وحملت سـُمَيّة من ليلتها تلك حتّى وضعت زياداً...، وسمعه أبو سفيان يخطب يوماً ما فقال: أتعلمون مَن الذي وضع هذا في رَحِم أُمِّه؟! قالوا: مَن؟ قال: أنا الذي وضعته في رحم أُمِّه!

وليس هنا الكلام كيف عرف أبو سفيان أنّ ماءه غلب ماء الرجال الذين شاركوه في أمره القذر الـمُسْتَقْبَح، ولا إتيانه الفعل هذا وقد ارتضى لنفسه امراةً دخل بها رجلان قبلَه، وهي متّهمة برجالٍ أربع! وهي في عصمته يشهد لذلك نسبته معاوية إليها ونسبة يزيد ابنه إليه لأنّه من أُمٍّ أُخرى. ولا نريد بسط البحث من جديد في أمر حَرْب بن أُميّة؛ ونفي هاشم لحرب، ثمّ استعباد عبد الـمُطّلب له عشرَ سنين؛ وصفات أميّة الجسمانيّة وأنّه من الروم اشتراه عبدُ شَمْس بن عبد مَناف، الـمُستَضْعَف الذي كان كَلًّا على هاشم يُنفق عليه. وكان من أمر أميّة أن أعتقه عبد شمس وتبنّاه؛ وأعتق أميّة عبدَه ذَكْوان واتّخذه ولداً! وسمّاه أبا عمرو ونزل له عن امرأته وزوّجه إيّاها! فولدت له أبا مُعَيْط واسمه أبان، فولد عُقْبة بن أبي مُعَيْط، قتله أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام يومَ بَدْر في جملة المشركين الذين قتلهمعليه‌السلام يومئذ.

وقلنا فيما سبق: إنّ معاوية حينما يتنهّد مفاخراً أو متوعّداً لا ينسب نفسه إلى أبي سفيان، إنّما يقول: وأنا ابنُ هند.

٥٥٣

فحيثما تقلّب ابن هند فكلُّه عورات وللناس ألسنُ.

وهو يعلم أنّ هنداً، وهي نسبُه وفخرُه، أمرت وحشيّاً بقتلِ عليٍّعليه‌السلام الذي فجعها يوم بدر، بأخيها الوليد بن عُتبة بن ربيعة بن عبد شمس، وشارك عمّه حمزةعليه‌السلام ، في قتل أبيها عُتبة بن ربيعة، وشاركه كذلك في قتل شيبة بن ربيعة؛ وقتل حنظلة بن أبي سفيان وآخرين من بني عبد شمس؛ فلمّا أظهر عجزه عن قتل عليّعليه‌السلام ؛ وافقت على قتل حمزةعليه‌السلام ، ووعدته بمالٍ، وأن تُعطيه صدرَها! وليس وحشيّ عندها أقلّ شأناً من أبي سفيان أو الرجال الآخرين في صفحة حياتها. وقتل وحشيّ حمزةعليه‌السلام ، غدراً يوم أحد؛ وكانت هند وفيّةً بما وعدت، وقد كتبنا تفصيله.

وهو في صحبته لزوج أمّه، أبي سفيان تعلّم السرقة، والكذب، والزنا... وذكرنا خبر سرقتهما لجمل امرأة ولم يردّاه حتّى فضحهما رسول الله، فأتيا به. وذكرنا بعض أخباره في الخمر، والزنا.

ولـمّا رأى في ابن سميّة (زياد) ضالّته، راسله وأغراه بأن يخرجه من نسبه الضائع المتردّد بين: ابن عبيد، وابن أبيه، وابن سُميّة؛ وهو الغالب عليه، ليدخله في نسبه ويتّخذه أخاً! ولكن كيف؟ وهذا ابن سُميّة، وهو ابن هند؟! والسنّة المطهّرة قضت بأنّ الولد للفراش - سُميّة - وللعاهر - أبو سفيان - الحجَر؛ ولم يجد ابن هند حَرجاً يُذكر في مجتمع نأتي على وصفِه، فيطرح سنّة رسول الله ودعوة القرآن بدعوة الأبناء إلى آبائهم؛ ويعمل بسنّة أبي سفيان.

دعوة زياد

قالوا: لـمّا قدم زياد على معاوية صعد المنبر، وأمر زياداً فصعد معه، فقال: أيّها

٥٥٤

الناس إنّي قد عرفتُ شَبَهنا أهلَ البيت في زياد(١) ، فمَن كانت عنده شهادة فليُقمْها، فقام الناس - أهل الشأم - فشهدوا أنّه ابن أبي سفيان، أقرّ به قبل موته ثمّ مات.

وقام أبو مريم السَّلولي، وكان خمّاراً في الجاهليّة، فقال: أشهد أنّ أبا سفيان قدم علينا الطائف، فأتاني فاشتريت له لحماً وأتيته بخمر وطعام، فلمّا أكل قال: يا أبا مريم أصبْ لي بَغيّاً، فخرجت فأتيتُه بسُمَيّة وقلتُ لها: إنّ أبا سفيان مَن قد عرفتِ حاله، وقد أمرني أن أُصيب له عِرساً فقالت: يجيء عُبيد زوجي من غَنمِه فإذا تعشّى ووضع رأسه أتيته، فلم تلبث أن جاءت فدخلت معه، فلم تزلْ معه حتّى أصبحت، فقلت له: كيف رأيتها؟ قال: خير صاحبة لولا ذَفَر إِبْطَيْها ونتن رُفْغَيْها(٢) ، فقال زياد من فوق المنبر: مَهْ يا أبا مريم، لا تشتم أمّهات فتُشتم أمّك. ثمّ جلس أبو مريم(٣) .

وقام رجل فقال: أشهد أنَّ عمر بن الخطّاب أخذ بيد زياد فأخرجه يومَ أخرجه إلى الناس، فقال رجل ممّن كان حاضراً: للهِ أبوه من رجلٍ لو كان له عُنْصرٌ. فقال أبو سفيان وهو إلى جانبي: أنا والله وضعته في رحم أُمّه سُميّة وما له أبٌ غيري(٤) .

وقال هشام بن الكلبي: قال معاوية لأبي البَيْضاء النَهْدي، وزياد حاضر: ما عندك في أمر زياد؟ قال: شهدتُ أبا سفيان واقَعها في الجاهليّة، ورجع وذَكَرُهُ يقطر، وهو

____________________

(١) الشَبَه صحيح في: السِفاح، فزياد ابن أربع وأنت مثله. وإن اقتصرنا على العبد الروميّ عُبيد فلابدّ أن يكون في زياد منه شَبَه في الحُمرة ولهذا ولأنّ سُميّة خراسانيّة فقد اتّخذ له جيشاً من أبناء ملوك فارس ألبسهم الأحمر وسمّاهم الحمراء يصول بهم، وكذلك ابن مرجانة وهي خراسانيّة فعل. وأمّا أنت يا ابن هند، فإن تجاوزنا ونسبناك لصَخْر بن حَرْب بن أميّة، فأميّة عبدٌ روميّ تبنّاه عبد شمس، فغلب عليك البياض لا السُّمرة.

(٢) الرفغ: الإبط وما حول فرج المرأة. القاموس.

(٣) أنساب الأشراف ٥: ٢٠٢.

(٤) نفس المصدر السابق.

٥٥٥

يقول: لعنها الله فما أَنْتَنَها! فقال زياد: أدِّ شهادتك ولا تُفْحِشْ، فإنّما دُعيتَ شاهداً ولم تُدْعَ شاتماً(١) .

قالوا: فلمّا تكلّم معاوية على المنبر، تكلّم زياد فقال: أيّها الناس إنّ أمير... والشهود قد قالوا ما سمعتم، ولستُ أدري ما حقُّ هذا من باطله! وهو وهُمْ أعلم، وإنّما عُبَيْد أبٌ مبرور ووالٍ مشكور، ثمّ نزل(٢) .

وقد كان معاوية بعث إلى سعيد بن عُبَيْد أخي صفيّة بنت عُبيْد فأرضاه حتّى أقرّ ورضي بما صنع معاوية، وأبي يونس ابنُه أن يرضى، وطلب الدخول على معاوية فلم يصل إليه، فلمّا كان يوم الجمعة ومعاويةُ يخطُبُ على المنبر(٣) ، أقبل يونس بن سعيد حتّى قام بين يديه فقال: يا معاوية قضى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّ الولد للفراش وللعاهر الحجَر، وإنّك قضيت بالولدِ للعاهرِ وجعلتَ للفراشِ الحجَر، فاتّق الله فو الله لئن كان زياد ابن أبي سفيان إنّه لَعَبْدي ومولايَ أعتقته عمّتي؛ قال معاوية: والله لتكفَنَّ يا يونس أو لأطيرنّ نُعرَتَك(٤) . فقال يونس بن سعيد: أليس المرجعُ بي وبك بَعْدُ إلى الله؟

وقال ابن الكلبي، قال يونس بن سعيد العلاجيّ: رُدّ عليَّ ولاءَ عمّتي من زياد، فقال: أتركتَ شُرْبَ ما في الدنان؟ قال: نعم، وترك أبي الزّنا في الجاهليّة(٥) .

إنّ ابن هند حقّ فيه ما قيل: كلبة عوت فاستعوت الكلاب! وحين قدمَ عليه جاريةُ

____________________

(١) أنساب الأشراف ٥: ٢٠٢ - ٢٠٣.

(٢) نفس المصدر السابق: ٢٠٣.

(٣) هذه واحدة من بِدع ابن هند الكثيرة، فهو أوّل من خطب الجمعة والعيدين من جلوس وذلك لـما عظُمَ بطنُه!

(٤) أي خيشومك.

(٥) نفس المصدر السابق: ٢٠٣.

٥٥٦

ابن قدامة السَّعديّ، له صحبة، وشهد مع أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام مشاهده وعقد له يوم صِفّين لواءً وأمّره على سعد ورباب البصرة(١) ؛ وقد بعثه عليّعليه‌السلام إلى البصرة وبها عبد الله بن عامر الحضرميّ بعثه معاوية يستنفر الناس على قتال عليّعليه‌السلام ، فتحصنّ ابن الحضرميّ بدار تُعرف بدار سنبل، فأضرم جاريةُ النار عليه فاحترقت بمَن فيها(٢) .

فلمّا قدم على ابن هند فيما بعد، قال له - وهو يعرفه! -: مَن أنت؟ قال: جاريةُ بن قُدامة. قال: وما عسَيتَ أن تكون، هل أنت إلّا نَحْلة؟! قال: لا تفعل، فقد شبّهتني بها حامية اللَّسعة حُلوة البُساق. والله ما معاوية إلّا كلبةٌ تعاوي الكلاب، وما أميّة إلّا تصغير أَمَة(٣) .

وعوى، فأُلقم حجَر! فقد عرّض بيونس بن سعيد العلاجي بشُرب الخمر وقد تركه يونس بعد التحريم وأقام عليه ابن هند؛ ورماه بسهم ثان: (وترك أبي الزنا في الجاهليّة)، أي أنّ أباه لم يُقارف القبيح وهو الزنا في الجاهليّة على عكس أبي سفيان الزنّاء! وفيه إشارة إلى ادّعاء أبي سفيان أنّه زنا بسميّة فزرع في رحمها بذْرةَ الشرّ والشقاء زياداً، وشهد لصحّة ذلك على رؤوس أهل الشأم، الخمّار أبو مريم السَلوليّ الذي كان يجمع بين الزُّناة والزانيات تصديقاً لابن هند الزنّاء! الذي فضحته الجارية الخُراسانيّة إذ خدعته لـِما رأت منه أنّه أعرض عنها ومال إلى جاريةٍ أُخرى فلمّا قضى وَطَرَه منها عاد إلى الفارسيّة فسألها عن اسم الأسد بالفارسيّة؟ فقالت: كَفْتار، فخرج على قومه وهو يقول: أنا كَفْتار! فضحكوا منه، ولـمّا استعلم الحال أخبر أنّ كفتار يعني الضَبُع الأعرج؛ فقال: قاتلها الله! سرعانَ ما أخذت بثأرها.

____________________

(١) وقعة صفّين: ٣٩٥ - ٣٩٦.

(٢) الطبقات الكبرى ٧: ٣٩، مختصر تاريخ دمشق ٥: ٣٦٤.

(٣) مختصر تاريخ دمشق ٥: ٣٦٥.

٥٥٧

فما ظنُّك بمجتمع أميرُهم ابنُ امرأة، وليس لوسائلِ إعلامه إخفاء هذه الحقيقة، فهو يعلن في كلّ موقف: أنا ابنُ هند؛ ويُصرّح أنّه ابنُ أربع رجال، ويخبر ناقصه بذلك ويذكر له أنّ الناس ينسبونه إلى أبي العبّاس وإلى غيره؛ وقد فشا شعر حسّان بن ثابت في قصّته إذ طرحته هند على قارعة الطريق؛ وهو وعتبة ليسا لأبي سفيان!

ونحن في عصرنا هذا نعلم أنّ أبا سفيان انتفى منه ولم ينتفِ من ابنه يزيد بن أبي سفيان؛ ولو انتسب إليه ما زاده إلّا قُبحاً وخَبالاً! فهو صَخْر؛ والسَهْل أفضلُ من الصخر؛ وهو ابن حَرْب، والسِلمُ خيرٌ من الحَرْب؛ وهو ابن أُمَيّة تصغير أَمَة أُنثى صغُرت فكانت أميّة وفي أحسن الأحوال: عبدٌ روميّ اشتراه عبدُ شَمس الذي كان كلًّا على أخيه سيّد زمانه هاشم بن عبد مَناف، يُنفق عليه.

وما تعلّم من صُحبته لزوجِ أُمّه (أبي سفيان) إلّا ما ذكرنا: الكذب، والسرقة والزندقة التي أفصحَ عنها بقوله للمغيرة بن شُعبة: (... وإنّ أخا بني هاشم يُصاح به كلّ يومٍ خمس مرّات: أشهدُ أنّ محمّداً رسولُ الله! فأيُّ عملٍ يبقى بعدَ هذا، لا أُمَّ لك؟! إلّا دَفْناً دَفْناً). وهم يسمعون أقوال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيه، وفي أبي سفيان وابنه يزيد، ولعنه لهم (الراكب والقائد والسائق)، وكان أبو سفيان راكباً جملاً يسوقه ابنُه يزيد، ويقوده ابنُ هند. والروايات في لعن ابن هند وأنّه في قعر جهنّم عليه ألوانُ العذاب، ذكرنا شيئاً منها. ودعوةُ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لقتل ابن هند إذ شوهد على منبر المسلمين، فعصمه من القتل تنصيب عمر بن الخطّاب له على الشام وغيرها، وما كان يُبديه من إعجابه به وكان يُسمّيه (كسرى العرب) وكثيراً ما يوصيه بأُمّه (هِنْد). ولذلك لـمّا شوهد على المنبر وقام أحدُهم وقد سلّ سيفَه، أقعده بعضُهم وقال له: ما تريد أن تصنع؟ قال: سمعتُ رسول الله يقول: (إذا رأيتم معاوية على المنبر فاقتلوه). قيل له:

٥٥٨

وعمر موجود، لا يمكن ذلك حتّى نستأذنه، فأرسلوا إليه فوجدوه قد مات. وقد ذكرنا هذا الخبر فيما سبق، ولكن نقول: هل تُعطَّل السُّنّة بانتظار جواب عمر؟! ألم يُعْلِي عمرُ معاويةَ شأنَ معاوية فيولّيه الشأم بعد يزيد بن أبي سفيان وهو يعلم من أمر رؤيا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ رأى بني أميّة ينزون على منبره نزوَ القردة؛ فكان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في همّ حتّى نزلت سورة القَدْر وفيها (ليلةُ القدر خيرٌ من ألف شَهْر) أي أنّ ليلة القدر بما نزل فيها من القرآن، خيرُ من ألف شهر يحكمها بنو أميّة وبنو الحَكَم. فسُرّي عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و يا لَهُ من مجتمعٍ يسمع بابنِ سُميّة، ابن عُبَيد، ابن أبيه، ابن ستّ ذكور! وأخيراً استقرّ أمره فهو ابن سُميّة لمعلوميّة المرأة التي وضعت به! فيما مضى آخرون على مجهوليّة أبيه، فهو ابن أبيه وتعاقبت القرون وهو لا يُعرَف إلّا ابن أبيه، وابن سُـمَيّة.

مجتمع يرى أبناء الأمّهات يرقون منابر المسلمين ويطرحون القرآن الكريم خلف ظهورهم ويتجاوزوا سنّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أبناء الزنا، فيتّخذ بعضهم بعضاً أخاً، ويقدّم لذلك بيّنةً، كانت بيّنة السَلولي الخمّار، وله مهنة أخرى أقبح؛ أولى بالقبول من شهادة ابن هند، ذلك أنّه لـمّا أقام ابن سميّة إلى جنبه على المنبر؛ لم يرد على قوله: (إنّي قد عرفتُ شَبَهنا أهلَ البيت في زياد) فقام أهل الشأم فشهدوا أنّه ابن أبي سفيان أقرّ به قبل موته! ولا ندري متى كان الشَبَه بيّنة على آصرة الدم؟!

وإذا كان الشَبَه بين الناس مجزياً في إثبات آصرة القرابة؛ لصارت المجتمعات أُمّةً واحدةً، ولكان ابن هند غنيّاً بذلك عن شهادة السلولي الذي أخزى الابنين معاً: ابن هند في أبي سفيان، وابن سميّة في أمّه الذي استقبح ما قاله فيها من ذَفَر إِبْطَيْها ونَتْن رُفْغَيْها؛ ولم يستقبح خيانتها لزوجها على الصورة التي ذكرها السَلولي. ولم يُنكر زياد

٥٥٩

على أبي البَيْضاء النَهْدي شهادته وإنّما أنكر عليه وصفه لحالِ أبي سفيان بعد وطئه لسُمَيّة.

ولم يأْبَه ابن هند لذلك، فهو يعلم أنّه ليس لأبي سفيان وإنّما هو لهند، مع معرفته بقذارة أبي سفيان وسُميّة.

كيف صارت سُمَيّة إلى عُبَيْد

قالوا: كان من خبر زياد أنّ سميّة أُمّه كانت لرجل من بني يَشْكُر ينزل بناحية كَسْكَر، فأصاب اليَشْكُريَّ وجعٌ شديدٌ أعيا مَن حوله من الأطبّاء، فبلغه مكانُ الحارث ابن كَلَدَة بن عَمرو بن عِلاج بن أبي سَلِمة بن عبد العُزّى بن غِيَرَة بن عَوْف بن ثقيف الثقفيّ بالطائف، فأتاه فعالجه حتّى برئ، فوهب له سُميّة فوقع الحارث عليها فولدت على فراشه نافع بن الحارث، ثمّ ولدت له نُفَيْعاً وهو أبو بكرة، فأنكره الحارث ونسبه إلى غلامٍ له يُقال له مَسْروح، وكان أشبه الناس بمسروح، فكان أبو بكرة يقول: أنا نُفَيْع بن مَسْروح! وقيل للحارث: إنّ جاريتك فاجرة لا تدفع كفَّ لامسٍ؛ فزوّجها الحارثُ من عبدٍ لامرأته صفيّة بنت عُبَيْد بن أسيد بن عِلاج الثقفيّ، روميّ يقال له عُبَيْد، كان ساقه في مَهْرها، فولدت له زياداً على فراشه، وتزوّج عُتْبة بن غَزَوان أَزْدَة بنت الحارث بن كَلَدة، فلمّا ولاّه عمر بن الخطّاب البصرة قدمها ومعه نافع بن الحارث ابن كَلَدَة، ونُفَيْع أبو بكرة، وزياد، وهو يومئذ يُنسب إلى عُبَيْد...(١) .

أنقى الأخبار وأكثرها إنصافاً لسُميّة وولدها! فهي كانت لرجلٍ يشكريّ؛ إلّا أنّه لم يقل أنّه أصابها أم لا؟! ولعلّه نال منها ولسببٍ لم تحمل منه! ثمّ وهبها للحارث بن

____________________

(١) أنساب الأشراف ٥: ١٩٧ - ١٩٨.

٥٦٠