شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية الجزء ٣

شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية0%

شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية مؤلف:
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 697

شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية

مؤلف: حبيب طاهر الشمري
تصنيف:

الصفحات: 697
المشاهدات: 163658
تحميل: 2866

توضيحات:

الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 697 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 163658 / تحميل: 2866
الحجم الحجم الحجم
شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية

شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية الجزء 3

مؤلف:
العربية

يختلفون إليه ويقولون: إنّك شيخنا وأحقّ الناس بإنكار هذا الأمر. وكان إذا جاء إلى المسجد مشوا معه، فأرسل إليه عمرو بن حريث، وهو يومئذ خليفة زياد على الكوفة وزياد بالبصرة: أبا عبد الرحمن ما هذه الجماعة وقد أعطيت الأمير من نفسك ما قد علمت؟ فقال للرسول: تنكرون ما أنتم فيه، إليك وراءك أوسع لك.

فكتب عمرو بن حريث بذلك إلى زياد، وكتب إليه: إن كانت لك حاجة بالكوفة فالعجل. فأغذّ زياد السير حتّى قدم الكوفة فأرسل جماعة من أشراف أهل الكوفة إلى حجر بن عديّ لِيُعْذِرَ إليه وينهاه، فأتوه فلم يجبهم إلى شيء ولم يكلّم أحداً. فنهض القوم عنه وأتوا زياداً فأخبروه ببعض وخزنوا بعضاً، وحسّنوا أمره، وسألوا زياداً الرفق به فقال: لست إذاً لأبي سفيان. فأرسل إليه الشَّرَطَ والبخاريّة فقاتلهم بمن معه ثمّ انفضّوا عنه وأتي به زياد فقال له: ويلك ما لك؟ فقال: إنّي على بيعتي لمعاوية لا أقيلها ولا أستقيلها. فجمع زياد سبعين من وجوه أهل الكوفة فقال: اكتبوا شهادتكم على حجر وأصحابه، ففعلوا ثمّ وفّدهم على معاوية وبعث معهم حجر وأصحابه.

فقرأ معاوية الكتاب وجاء الشهود فشهدوا، فقال معاوية: أخرجوهم إلى عذرى فاقتلوهم هنالك. فحُملوا إليها، فقال حجر: ما اسمُ هذه القرية؟ قالوا: عذراء. قال: الحمد لله، أما والله إنّي أوّل مسلم نبّح كلابها في سبيل الله، ثمّ أتي بي إليها مصفوداً. ودفع كلّ رجل منهم إلى رجل من أهل الشأم ليقتله، ودفع حجر إلى رجل من حمير فقدّمه ليقتله فقال: يا هؤلاء دعوني أصلّي ركعتين. فتوضّأ وصلّى ركعتين فطوّل فيهما فقيل له: طوّلتَ، أجزِعتَ؟ فانصرف فقال: ما توضّأت قطُّ إلّا صلّيتُ، وما صلّيتُ صلاة قطُّ أخفّ من هذه، ولئن جزعتُ لقد رأيتُ سيفاً مشهوراً وكفناً منشوراً وقبراً محفوراً.

٦٤١

فقيل لحُجْر: مُدّ عنقك، فقال: إنّ ذاك لَدمٌ ما كنتُ لأعين عليه. فقُدّم فضربت عنقه.

وكان معاوية قد بعث رجلاً من بني سلامان بن سعد يقال له هُدْبة بن فَيّاض فقتلهم، وكان أعور، فنظر إليه رجل منهم من خَثْعَم فقال: إن صدقَتِ الطيرُ قُتل نصفنا ونجا نصفنا. فلمّا قُتل سبعة أردف معاوية برسول بعافيتهم، فقُتل سبعة ونجا ستّة، أو قُتل ستّة ونجا سبعة. وكانوا ثلاثة عشر رجلاً. وقد كانت هند بنت زيد بن مخرّبة الأنصاريّة وكانت شيعيّة، قالت حين سُيّر بحُجر إلى معاوية:

تَرَفَّعْ أيّها القمرُ الـمُنيرُ

تَرفّعْ هل ترى حُجْراً يسيرُ

يَسيرُ إلى معاويةَ بنِ حَرْبٍ

ليَقْتُلَهُ كما زَعَم َالخَبيرُ

تجبّرت الجَبابِرُ بَعدَ حُجْرٍ

وطابَ لها الخَوَرْنَقُ والسَّديرُ

وأصْبَحَتِ البلادُ له مُحُولاً

كأنْ لم يُحْيِها يوماً مَطِيرُ

ألا يا حُجْرُ حُجْر بَني عَدِيّ

تَلَقّتْكَ السَّلامةُ والسرورُ

أخافُ عليكَ ما أردى عَدِيّاً

وشَيْخاً في دمشقَ لهُ زئيرُ

فإنْ تَهْلِكْ فكلّ عَميدِ قَومٍ

إلى هُلْكٍ من الدنيا يَصيرُ

قال: لـمّا أتي بحُجْر فأمر بقتله قال: ادفنوني في ثيابي فإنّي أُبعثُ مخاصماً. قال: وكان ثقةً معروفاً ولم يرو عن غير عليّ شيئاً(١) .

في رواية ابن سعد، بدأ مع حجر رضي الله عنه، من أمرٍ كان يجمعه معه وهو حبُّ أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام ؛ والآن فقد تغيّر بقبوله دعوة ابن هند، فصار الحبُّ بغضاً يُعاقب

____________________

(١) طبقات ابن سعد ٦: ٢١٧ - ٢٢٠.

٦٤٢

عليه وأنّ على حجر وشيعة عليّعليه‌السلام أن يغيّروا حبّهم له ويأخذوا بسُنّة ابن هند. فإنْ لم يُغيّر كما غيّر ابن سميّة؛ يقتله! وحذّره أن يُطلق لسانه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واعتراض أُمراء السوء. وحذّره ممّن سمّاهم سفلة سفهاء يعني بذلك شيعة عليّعليه‌السلام ومحبّيه! وإنّما السافلُ مَن سفلَ عن حبّ عليّ، فسفَّه بذلك عقله وكان من شيعة إبليس وحزبه ذلك أنّ عليّا وشيعته خَيْرُ البريّة.

بسند عن حِبّان، عن الكلبيّ، عن أبي صالح، عن ابن عباس:( إِنّ الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيّةِ ) (١) قال: في عليّ وشيعته(٢) .

____________________

(١) البيّنة: ٧.

(٢) تفسير الحبريّ: ٣٢٨، الفصول المهمّة: ١٢٣، ولفظه عن ابن عبّاس قال: لـمّا نزلت هذه الآية، قال لعليّ: (هو أنت وشيعتك تأتي يوم القيامة أنت وهم راضين مرضيّين ويأتي أعداؤك غضباناً مقمحين). وهذه بعض شواهده: روح المعاني، للآلوسي ٣٠: ٢٠٧، مفتاح النجاة: ٤٢، كشف اليقين: ٣٦٦، الصواعق المحرقة: ١٦١، المصنّف، لابن أبي شَيبة ٧: ٥٠٤ ح ٥٧ من فضائل عليّ، أنساب الأشراف ٢: ٣٥٧، المعجم الكبير، للطبراني ١: ٣١٩ ح ٩٤٨، مناقب عليّ بن أبي طالب، لابن مردويه: ٣٤٧ ح ٥٨١، مناقب سيّدنا عليّ، للعينيّ: ٣٢، تفسير الطبريّ ٣٠: ١٧١ بسنده عن محمّد بن عليّ.

ـ أمير المؤمنينعليه‌السلام ، بسند عن يزيد بن شراحيل - كاتب عليّعليه‌السلام - قال: سمعتُ عليًّاعليه‌السلام يقول: (حدّثني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنا مسندُه إلى صدري فقال: أي عليّ! ألم تسمع قول الله تعالى:( إِنّ الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيّةِ ) : أنت وشيعتك، وموعدي وموعدكم الحوض إذا جَثَتْ الأمم للحساب تُدْعَون غُرّاً مُحَجَّلين). شواهد التنزيل ٢: ٣٥٦، المناقب، للخوارزميّ: ٢٦٦، كفاية الطالب: ٢٤٦، الدرّ المنثور ٦: ٣٧٩، فضائل الخمسة ١: ٢٧٨، فتح القدير ٥: ٤٦٤.

ـ مجاهد: وذكر الآية، قال: هم عليٌّ وأهل بيته ومحبّوهم. تذكرة الخواصّ: ٢٧.

ـ أبو سعيد الخدريّ، عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: (عليٌّ خيرُ البريّة). تاريخ بغداد، مختصر تاريخ دمشق ١٨: ١٤، المناقب، للخوارزمي: ١١١، لسان الميزان ١: ١٧٥، فرائد السمطين ٢: ١٥٥، الدرّ المنثور ٦: ٣٧٩، ذخائر العقبى: ٩٦.

ـ جابر بن عبد الله الأنصاريّ. رواه عنه جمع هذه بعض طرقه: عن جابر بن عبد الله مرسلاً، قال:

٦٤٣

وبالجمع بين أحاديث وروايات حبّ عليّ إيمان وبغضه نفاق وأنّ عليًّا بذلك: قسيم النار والجنّة - مضى الكلام فيه -، وبين الأحاديث والروايات في أنّ عليًّا وشيعته خيرُ البريّة، وهم الفائزون يوم القيامة؛ فهل يُعقل أن يعطي عليّعليه‌السلام براءةً إلى ابن هند، وابن النابغة، وابن سميّة، وابن الـمُسْتفرِمة بزبيب العجم(١) ، وابن مرجانة، وابن شعبة، وابن مَيْسون، وابن جُندَب، وابن تَيمِيَه وغيرهم من عُتاة الطواغيت

____________________

كنّا عند النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأقبل عليّ بن أبي طالب فقال النبيّ: قد أتاكم أخي. ثمّ التفت إلى الكعبة فضربها بيده، ثمّ قال: والّذي نفسي بيده، إنّ هذا وشيعته لهُمُ الفائزون يومَ القيامة. ثمّ قال: إنّه أوّلكم إيماناً معي، وأوفاكم بعهد الله، وأقومكم بأمر الله، وأعدلكم في الرعيّة، وأقسمكم بالسّويّة، وأعظمكم عند الله مزيّة). قال:( إِنّ الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيّةِ ) . قال: فكان أصحاب محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا أقبل عليّ قالوا: جاء خيرُ البريّة. مختصر تاريخ دمشق ١٨: ١٤.

وهذا الحديث بهذا اللفظ ذكروه بسند عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله، وفيه (هم الفائزون). تفسير الطبريّ ٣٠: ١٤٦، حلية الأولياء ١: ٦٦، المناقب، للخوارزميّ: ١١١ - ١١٢، الصواعق المحرقة: ٩٦، الدرّ المنثور ٦: ٣٧٩، كفاية الطالب: ٢٤٤ - ٢٤٥. وعن زرّ بن حُبيش، عن عبد الله عن عليّ قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم: (مَن لم يقُلْ عليٌّ خيرُ الناس، فقد كفر) ذكره الخطيب في تاريخه ٣: ١٩٢.

وعن عطيّة العوفيّ قال: قلت لجابر: كيف كان منزلة عليّ فيكم؟ قال: كان خير البشر. مختصر تاريخ دمشق ١٨: ١٤.

وعن جابر: قال: عليٌّ خير البشر لا يشكّ فيه إلّا منافق. نفس المصدر: ١٥.

وعن جابر وقد سُئل عن عليّ فقال: ذاك خير البريّة، لا يُبغضه إلّا كافر. نفس المصدر وتفسير الطبريّ ٣٠: ١٧١، كفاية الطالب: ٢٤٦.

وعن عطيّة العوفيّ قال: دخلنا على جابر بن عبد الله وقد سقط حاجباه على عينيه من الكِبَر، فقلنا له: أخبرنا عن عليّ. قال: فرفع حاجبيه ثمّ قال: ذاك من خيرُ البشر. المصنّف، لابن أبي شيبة ٧: ٥٠٤ / ٥٧.

والروايات في هذ الباب كثيرة اكتفينا بما ذكرناه.

(١) من كتاب كتبه عبد الملك بن مروان إلى الحجّاج يوبّخه ويعني بكلامه أنّ أمّه تعمل من الزبيب ما يضيّق فرجها! وقد ذكرناه في غير هذا الموضع.

٦٤٤

والمجرمين، ممّن خاض في دماء خير البريّة فيدخل الفريقان الجنّة؟!

ومن هو السفيه السافل: الخارجيّ الناصبيّ ممّن اعتدى على حقّ عليّ وأهل البيتعليهم‌السلام ، وحاربهم وقتلهم وقتل شيعتهم ونصب العداوة لهم؛ أم هو خير البريّة؟!

إنّ ابن سميّة قد بلغت به الخسّة أن يُشهّر بكينونته وأنّه من بغيّ من ذوات الرايات وقد فَجَر بها أبو سفيان في رجال عدّة ولكنّ الشَبَه يدلّ على غلبة ماء أبي سفيان، فلذلك هو أخو معاوية الذي أثبتنا أنّه لا ينتمي إلى أبي سفيان، ومع كلّ ذلك قبل المجتمع الشأميّ شهادة الخمّار السلولي فصار عندهم ابن سميّة وابن أبيه: ابن أبي سفيان، فهو أخو أميرهم معاوية.

فكان ذلك منعطفاً في حياة ابن سميّة إذ صار حبّه الشديد لعليّ، بُغضاً شديداً كما صرّح به لحجر بن عديّ وأشدّ من ابن هند في تتبّع الشيعة وقتلهم والتمثيل بهم فكان من ضحاياه حُجر بن عَديّ.

وتستوقفنا في مسير البحث: أنّ حُجراً قد خالف السلطان في منكره، وأنّ السلطان خالف الله تعالى في معروفه وأوامره! وأنّ حجراً لم يخرج بتلك المخالفة عن طاعة السلطان إلّا فيما خالف الله تعالى، ولم ينكث بيعته لمعاوية، وذلك قوله لابن سميّة: إنّي على بيعتي لمعاوية لا أقيلها ولا أستقيلها؛ فغيّر ابن سميّة كلام حجر وكتب شهادة زور إلى ابن هند كتب فيه أنّه أعلن براءته منه ونكث بيعته وكثّر في الكلام، مع علمه أنّ ابن هند هو المحرّض على الشيعة؛ إلّا أنّ حجراً لم يكن مجهول الحال، فأراد بكتابه ذاك أن يوغر صدر ابن هند عليه أكثر وإن كان ثمّة أمل في العفو عنه أو يكتفي بحبسه، فكتب شهادة زور وكثّر عدد الشهود، وبالنظر إلى الكاتب! وأسلوب الكتابة وأسماء الشهود، تعرف الحقّ وأهله والباطل وأهله.

٦٤٥

وذكر الطبري بسنده عن محمّد بن سيرين قال: خطب زياد يوماً في الجمعة فأطال الخطبة وأخّر الصلاة فقال له حُجْر بن عديّ: الصلاة، فمضى في خطبته فقال له: الصلاة، فمضى في خطبته، فلمّا خشي حُجر فوتَ الصلاة ضرب بيده إلى كفّ من الحصا وثار إلى الصلاة وثار الناس معه، فلمّا رأي ذلك زياد نزل فصلّى بالناس فلمّا فرغ كتب في أمره وكثّر عليه فكتب معاوية إليه أن شُدَّة في الحديد ثمّ احمله إليّ. فلمّا أن جاء كتاب معاوية، أراد قوم حجر أن يمنعوه فقال: لا، ولكن سمعاً وطاعة! فشُدَّ في الحديد ثمّ حُمِل إلى معاوية، فلمّا دخل عليه قال: السلام عليك يا أمير... فقال له معاوية: أمير...! أما والله لا أقيلُك ولا أستقيلك، أخرجوه فاضربوا عنقه، فأُخرج من عنده فقال حجر للذين يَلُون أمرَه دعوني حتّى أصلّي ركعتين فقالوا: صلّه، فصلّى ركعتين خفّف فيهما ثمّ قال: لولا أن تظنّوا بي غير الذي أنا عليه لأحببتُ أن تكونا أطول ممّا كانتا، ولئن لم يكن فيما مضى من الصلاة خير، فما في هاتين خير. ثمّ قال لمن حضره من أهله: لا تُطلقوا عنّي حديداً ولا تغسلوا عنّي دماً؛ فإنّي أُلاقي معاوية غداً على الجادّة، ثمّ قُدّم فضُربت عنقه(١) .

قال هشام: كان محمّد بن سيرين إذا سئل عن الشهيد، يُغسّل؟ حدَّثهم حديث حُجر. قال ابن سيرين: فبلغنا أنّه - معاوية – لـمـّا حضرته الوفاة جعل يُغرغر بالصوت ويقول: يومي منك يا حُجر يوم طويل(٢) .

في هذه الرواية أمور:

إنّ ابن سميّة قد خالف السنّة فأطال الخطبة وأخّر الصلاة عن وقتها فتصدّى له

____________________

(١) تاريخ الطبري ٤: ١٩٠ - ١٩١.

(٢) نفس المصدر السابق: ١٩١.

٦٤٦

حجر وذكّره بالصلاة، إلّا أنّ ابن سميّة لم يلتفت إلى ذلك ومضى في خُطبته، وذكّره حجر بالصلاة ثانيةً ولم يلتفت ابن سميّة كذلك لذلك وسار في خطبته فعند هذا ثار حجر الخير والناس معه إلى الصلاة، فلمّا خاف زياد أن يفلت زمام الأمور من يده؛ نزل فصلّى بالناس... وكتب إلى معاوية في أمر حجر وكثّر عليه ما لم يكن منه، ووجدها ابن هند مناسبةً للإيقاع بوجه الشيعة في الكوفة وأكثرهم حماساً في النهي عن المنكر، وصاحب المواقف المشهورة في حروب أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام من ذلك وقعة صفّين.

ولقد وجدناه يمنع قومه من حرب القوم إذ جاء كتاب ابن هند يأمر بشدّه بالحديد وحمله إليه وقال: سمعاً وطاعة! فهو لم ينكث بيعة وإنّما أنكر مخالفة سنّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ وسلّم على ابن هند، فاستخفّ به وأمر بقتله!

وحُجر يُخفّف صلاته، إذ ربّى نفسه على لقاء الله تعالى، فهو دائماً على وضوء وما توضّأ إلّا صلّى؛ فهو لا يريد أن يترك ما ربّى نفسه عليه في أشقّ المواقف وأرهبها، إذ يرى قبراً محفوراً وكفناً منشوراً وسيفاً مشهوراً! فأراد أن تسبق صلاته شهادته إلى الله تعالى فهو يخفّف صلاته في مثل هذا الموقف لئلاّ يظنّوا غير الذي هو عليه من الطُمأنينة بقضاء الله والجنّة التي هو صائر إليها، ولذلك أنّ ابن سيرين إذا سُئل عن الشهيد، يُغسّل؟ حدّثهم حديث حُجر ذلك أنّ حُجراً طلب إلّا يفكّوا قيوده ولا يُغسِّلوا عنه دماً فإنّه مخاصمٌ قتَلَتَه، فهو شهيد، فهل يعفو الله تعالى عن قتلته بدءاً بعمرو بن حريث ومروراً بابن سميّة وجنده البخاريّة (الحمراء) ثمّ ابن هند وانتهاءً بالمباشر للقتل. وما غرغرة ابن هند عند هلاكه وقوله: يومي منك طويل يا حُجر؛ إلّا أنّه كان يرى حُجراً آخذاً بحُجزته يقول له بِمَ قتلتني؟!

٦٤٧

وأخبار حجر تطول، فقد شهد الجَمَل مع أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام وكان على رجّالة الجناح. ولـمّا أمّرعليه‌السلام الأسباع يوم صفّين من أهل الكوفة جعل حُجر بن عديّ على كندة وحضرموت وقضاعة ومَهرة(١) .

ومن شعره يوم صفّين:

يا ربَّنا سلّم لنا عليًّا

سلّم لنا المهذَّبَ النقيّا

المؤمن المسترشدَ المرضيّا

واجعلهُ هادي أُمّةٍ مهديّا

لا أخطلَ الرأيِ ولا غَبيّا

واحفظهُ ربّي حفظَك النبيّا

فإنّه كان له وليّا

ثمّ ارتضاهُ بعدَه وَصِيّا(٢)

وله موقف ينمّ عن الطاعة المطلقة لإمامة عليّ أمير المؤمنينعليه‌السلام :

بسند عن عبد الله بن شريك قال: خرج حجر بن عديّ، وعمرو بن الحَمِق - يوم صفّين - يظهران البراءة واللعن لأهل الشأم، فأرسل إليهما عليّ: أن كُفّا عمّا يبلغني عنكما، فأتياه فقالا: يا أميرالمؤمنين، ألسنا محقّين؟ قال: بلى، قالا: أوليسوا مبطلين؟ قال: بلى. قالا: فلم منعتنا من شتمهم؟ قال: (كرهتُ لكم أن تكونوا لعّانين شتّامين، تشتمون وتتبرؤون. ولكن لو وصفتم مساويَ أعمالهم، فقلتم من سيرتهم كذا وكذا، ومن عملهم كذا وكذا، كان أصوب في القول، وأبلغ في العذر. ولو قلتم مكان براءتكم منهم ولعنكم إيّاهم: أللّهم احقن دماءنا ودماءهم، واصلح ذات بيننا وبينهم، واهدهم من ضلالتهم، حتّى يعرف الحقَّ منهم من جهلَه، ويرعويَ عن الغيّ والعدوان مَن لهج به، كان هذا أحبَّ إليَّ وخيراً لكم). فقالا: يا أمير المؤمنين نقبل

____________________

(١) وقعة صفّين، لنصر بن مزاحم: ١١٧.

(٢) نفس المصدر السابق: ٣٨١.

٦٤٨

عظتك، ونتأدّب بأدبك.

وقال عمرو بن الحَمِق: إنّي والله يا أمير المؤمنين ما أحببتُك ولا بايعتُك على قرابةٍ بيني وبينك، ولا إرادة مالٍ تُؤتينيه، ولا التماس سلطانٍ يُرفع ذكري به؛ ولكن أحببتُك لخصالٍ خمسٍ فيك: أنّك ابن عمّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأوّل مَن آمن به، وزوج سيّدة نساء الأُمّة فاطمة بنت محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأبو الذرّية التي بقيت فينا من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأعظم رجلٍ من المهاجرين سهماً في الجهاد. فلو أنّي كُلِّفت نقْلَ الجبال الرواسي، ونزحَ البحور الطوامي حتّى يأتيَ عليَّ يومي في أمرٍ أقوِّي به وليّك وأُوهن به عدوَّك، ما رأيتُ أنّي قد أدَّيت به كلَّ الذي يحقُّ عليَّ من حقّك.

فقال أمير المؤمنين عليّ: أللّهم نوِّر قلبه بالتُّقى، واهدِه إلى صراط مستقيم. ليت أنّ في جندي مائةً مثلَك. فقال حُجر: إذاً والله يا أميرالمؤمنين، صحَّ جندُك، وقلَّ فيهم من يَغُشّك.

ثمّ قام حجر فقال: يا أميرالمؤمنين، نحن بنو الحرب وأهلُها، الذين نُلقحها ونُنْتِجُها، قد ضارستنا وضارسناها(١) ، ولنا أعوانٌ ذوو صلاح، وعشيرةٌ ذات عدد، ورأي مجرّب وبأس محمود، وأزمّتنا منقادة لك بالسمع والطاعة، فإن شرّقتَ شرّقنا، وإن غرّبتَ غرّبنا، وما أمرتنا به من أمرٍ فعلناه.

فقال عليّ: (أكلُّ قومك يرى مثلَ رأيك؟) قال: (ما رأيتُ منهم إلّا حسناً، وهذه يدي عنهم بالسمع والطاعة، وبحسن الإجابة). فقال له عليٌّ خيراً(٢) .

اشتداد ابن سميّ’ في أمر حُجْر

ولو ذكرنا ما يعترض طريقنا في أمر حُجر وشهادته لصارت كتاباً مستقلاًّ واسعاً،

____________________

(١) ضارست الأمور: جرّبتها وعرفتها. اللسان ٨: ٤٢٤.

(٢) وقعة صفّين: ١٠٣ - ١٠٤.

٦٤٩

إلاّ أنّا نروي نزراً من هذه الروايات التي وجدنا أنّها بجُملتها تجمع على حُسن سيرة هذا الشهيد، وأنّه شيخ (خير البريّة) في الكوفة من شيعة أهل البيت الطاهر؛ فكان محبّاً للمعروف منكر للمُنكر مقتدياً بأميرالمؤمنين عليّعليه‌السلام ، وقد مرّ بنا ما فعله أمير المؤمنين به وبعمرو بن الحمق لـمّا شتما أهل الشأم وأظهرا البراءة منهم، وهم في حال حرب معهم، إلّا أنّهعليه‌السلام لم يرضَ ذلك منهما وأرشدهما إلى الصحيح من القول وهو وصف أعمال الخصم؛ فقبِلا قولَه وأظهر السمع والطاعة؛ فكيف يخون حجر الأمانة والميثاق فيكون مثل ابن هند إذ خانَ العهد الذي كُتب بين أمير المؤمنين وبين ابن هند على إثر مجريات وقعة صفّين وراح يقتل مَن ظفر به من شيعة أمير المؤمنين ويقتل الحاجّ ويقطع السبيل ووصلت غاراته إلى الحرمين الشريفين وأهان أهلهما وأرجف بهم - على ما مرّ ذكره -. وقد صرّح حجر بوفائه بعهده ولم يظهر براءة بعد ميثاق! وهو أحد الشهود ممّن كتبت أسماؤهم في معاهدة صفّين؟! إلّا إنّ ابن سميّة جدَّ في أمره وأمر أصحابه وكتب إلى ابن هند أنّهم فارقوا الجماعة وشتموا ابن هند وأظهروا البراءة! وكثّر في الكلام ليحمله على قتلهم.

قال أبو مخنف: لـمّا حال أصحابُ حجر بينه وبين رسل زياد، أمر الهيثم بن شدّاد أن يأتيه به، فلمّا صار إليه قال أصحابه: لا ولا نُعمَةَ عَينٍ، لا نُجيبه، فشدّ الهيثم ومن معه عليهم بعُمُد السُوق، فضرب رجل من حَمْراء الدَيْلم(١) يقال له بكر بن عُبيد رأس عمرو بن الحمق الخزاعيّ فحُمل إلى أهله، وشدّ عبد الله بن خليفة الطائي، وضرب رجلاً من جُذام كان في الشُّرَط، وضُربت يد عائذ بن حَمَلة وكَسَّر نابه، وحمى حُجراً

____________________

(١) الحَمراء: من أبناء العجم جاء بهم ابن سميّة فكان يصول بهم، وفرضَ لهم ابن هند وكان منهم بالكوفة زهاء عشرين ألف رجل. الأخبار الطوال: ٢٨٨.

٦٥٠

أصحابه حتّى خرج، فأركبه أبو العَمَرَّطة عُمَير بن يزيد الكندي على بغلته، وشدّ يزيد ابن طريف الـمُسلي على أبي العَمَرَّطة فضربه، وجذب أبو العَمَرَّطة سيفه فضربه على رأسه فخرّ لوجهه ثمّ برئ بعدُ. واجتمع عدد من كندة فقاتلوا ساعة(١) .

قال الكلبي: لجأ حجر إلى سليمان بن يزيد بن شراحيل الكندي، ودعا زياد محمّد ابن الأشعث بن قيس فقال له: يا مؤنّث! لتأتينّي بحُجر أو لا أدع لك نخلةً إلّا قطعتها ولا داراً إلاّ هدمتها ثمّ لا تسلم منّي حتّى أقطّعك إرباً إرباً، فأمر به إلى الحبس، فقيل له: خلّه حتّى يأتي بصاحبه، ففعل، وبعث حجر إلى محمّد غلاماً له، فقال له: يقول لك مولاي: قد بلغني ما استقبلك به هذا الجبّار العنيد، وأنا خارج إليك، فاجمع نفراً من قومك حتّى يؤمنني حتّى يبعث بي إلى معاوية فيرى رأيَه فيَّ، فأتى جرير وعبد الله بن الحارث النخعي أخو الأشتر زياداً، فطلبوا إليه أن يومّن حُجرا ولا يعجل حتّى يبعث به إلى معاوية، ففعل وأرسلوا إلى حجر، فأتى زياداً وهو جريح، فلمّأ رآه زياد قال: أحرب في أيّام الحرب وحرب في أيّام السلم؟! على نفسها جنت براقِش، ما فارقت طاعةً ولا جماعة ولا مِلْتُ إلى خلاف ومعصية وإنّي لعلى بَيعتي، فقال: تشجّ وتأسو؟! وأمر به إلى الحبس وقال: لولا أنّي آمنته ما برح حتّى يلفظ عَصْبَه(٢) .

كلام حُجْر يُغني عن البيان! ولكن لو ادّعى لغير أبيه ولصق نسبه بنسب غيره وجلس بين يدي أُخت صاحب الدعوة مكشوفة الشعر بدعوى أنّها أُخته، وقطع ثمانين رأساً في ليلة واحدة لأنّهم خالفوا أمره فخرجوا في العَتْمة... وغير ذلك كثير، لكان أفضل له من أن ينكر منكراً ويأمر بمعروف! وجدّ زياد في أمر أصحاب حجر وطلبهم أشدّ الطلب، فأخذ من قدر عليه منهم، فأتي برِبْعِيّ بن حِراش العَبْسي بأمان

____________________

(١) أنساب الأشراف ٥: ٢٥٧ - ٢٥٨.

(٢) أنساب الأشراف ٥: ١٥٩.

٦٥١

فقال: والله لأجعلنّ لك شُغلاً بنفسك عن تلقيح الفِتَن، ودعاه إلى الوقيعة في عليّ فأبى فحبسه، ثمّ كلّم فيه فأخرجه، وأتي بكريم بن عفيف الخَثْعمي، فقال: وَيْحك ما أحسن اسمك وأقبح فعلك وأمر به إلى الحبس.

وجاء رجل من بني شيبان إلى زياد فقال له: إنّ امرءاً منّا له صَيْفيّ بن فشيل(١) من رؤساء أصحاب حجر وهو أشدّ الناس عليك، فبعث إليه فأُتي به فقال له: يا عدوّ الله، ما تقول في أبي تراب؟ قال: ومَن أبو تراب؟ قال: ما أعرَفَك به، أما تعرف عليّ بن أبي طالب؟ قال: الذي كنتَ عاملَه؟ ذاك أبو الحسن والحسين، فقال له صاحبُ شُرَطه: يقول لك الأمير: أبو تُراب وتقول: لا؟! قال: أَكْذِبُ إن كذبَ الأمير وأشهد بالباطل كما شهد؟! فقال زياد: ما قولك في عليّ؟ قال: أحسن قولٍ أقولُه في أحد من عباد الله، أقول مثلَ قولك فيه قبل الضلال، قال: اضربوا عاتقه بالعصا حتّى يلصق بالأرض، فضُرب حتّى لصق بالأرض، ثمّ قال: أَقْلِعوا عنه، إيه ما قولُك في عليّ؟ قال: والله لو شرّحتني بالمواسي والـمُدي ما قُلتُ إلّا ما سمعت منّي! قال: لَتلْعَنّنه أو لأضربنّ عنقك؛ قال: إذاً والله تضربها قبلَ ذلك، فإن أَبَيتَ إلّا أن تضربها؛ رضيتُ بالله وشقيتَ أنت، قال: ادفعوا في رقبته ثمّ قال أَوْقروه حديداً وألقوه في السجن(٢) .

قُتل صيفيّ بن فسيل شهيداً بمرج عذراء، مع حجر بن عديّ وصحبه الكرام.

وعدّه البرقيّ، وابن داود من خواصّ أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام وقال البرقيّ: كان ممّن خدم عليًّاعليه‌السلام .

____________________

(١) في تاريخ اليعقوبي ٢: ٢٣١، ورجال البرقيّ: ٥، وتاريخ الطبري ٤: ١٩٨، ورجال ابن داود: ١٨٩: صيفي بن فَسِيل - بالسين من غير نقاط -.

(٢) أنساب الأشراف ٥: ٢٦٠، تاريخ الطبريّ ٤: ١٩٨، مختصر تاريخ دمشق ٤: ٢٣٨، معجم البلدان ٤: ٩١.

٦٥٢

وبلغ زياداً أنّ عبد الله بن خليفة الطائي بالكوفة، وكان قد قاتل مع حجر رضي الله تعالى عنه، فحبس عديّ بن حاتم ليأتي به، فلم يَبق أحد من نِزار واليمن بالكوفة إلّا ارتاع واغتمّ لحبسه وبعث إليه عبد الله: إن أحببت أن أخرج فعلتُ، فبعث إليه: لو أنّك تحت قدَمي ما رفعتُها عنك. ودعا به زياد فقال: أُخلّي سبيلك على أن تنفي ابن خليفة من الكوفة فينزل بالجبلَيْن، فقال: نعم، فلحق عبد الله بالجبلَيْن، وقال له عديّ: إذا سكن غضبه كلّمته فيك(١) .

عدّة السُجناء

قالوا: اجتمع في سجن ابن سميّة من الشيعة أربعة عشر رجلاً وهم: حجر بن عديّ الأدبر، الأرقم بن عبد الله الكنديّ، شريك بن شدّاد الحَضْرميّ، صيفيّ بن فَسيل الشيبانيّ، قَبيصة بن ضُبَيْعة بن حَرْملة العَبْسيّ، كريم بن عَفيف الخَثْعميّ، عاصم بن عَوْف البَجَليّ، وَرْقاء بن سُميّ البَجَليّ، كِدام بن حيّان العَنزي، وأخوه عبدالرحمن بن حيّان من بني هُمَيْم، مُحْرِز بن شِهاب الـمِنْقَريّ، عبد الله بن حَوِيّة الأعرجيّ، عُتبة بن الأخنس من بني سعد بن بكر، سعيد بن نمران الناعطي من هَمْدان(٢) .

ولقد كانت همّة ابن سميّة متوجّهة إلى الإيقاع بحجر وأصحابه ولذلك لم يكتفِ بالشهود الأربعة الذين كتبوا أسماءَهم فصيّرهم سبعين، نجد أغلبهم ممّن قاتلَ سيّد شباب أهل الجنّة وبعضهم ممّن باشر قتْل السبط الزكي الحسينعليه‌السلام .

ولم يرتضِ إنشاء الشهادة! مع علمه أنّ ابن هند جادٌّ في تتبّع شيعة عليّعليه‌السلام ؛ فغيّر

____________________

(١) أنساب الأشراف ٥: ٢٦٠ - ٢٦١، تاريخ الطبريّ ٤: ١٩٨ - ١٩٩ وفيه زيادة.

(٢) أنساب الأشراف ٥: ٢٦٢.

٦٥٣

من ذلك. مضافاً إلى ذلك فإنّه ذكر أسماء أشخاص لم يكن لهم حظور عند كتابة الشهادة!

دعا زياد رؤوس الأرباع فقال: اشهدوا على حُجر بما رأيتم منه، وكان رؤوس الأرباع يومئذ: عمرو بن حُريث على رُبع أهل المدينة، وخالد بن عرفطة على ربع تميم وهَمدان، وقيس بن الوليد بن عبد شمس بن المغيرة المخزوميّ على ربع ربيعة وكندة، وأبو بُردة بن أبي موسى الأشعريّ على مذحج وأسد. فشهد هؤلاء الأربعة أنّ حُجراً جمع إليه الجموع وأظهر شتْم الخليفة ودعا إلى حربه وزعم أنّ هذا الأمر لا يصلح إلّا في آل أبي طالب، ووثب بالمصر وأخرج عامل أمير...، وأظهر عُذْرَ أبي تراب والترحّم عليه والبراءة من عدوّه وأهل حربه؛ وأنّ هؤلاء النفر الذين معه هم رؤوس أصحابه وعلى مثل رأيه وأمره(١) .

فنظر ابن سميّة في شهادة الشهود فقال: ما أظنّ هذه الشهادة قاطعة وإنّي لأحبّ أن تكون الشهود أكثر من أربعة(٢) .

ألا تعجب من أمر ابن سميّة، فهو كما ذكرنا يعلم شدّة ابن هند على الشيعة وأنّه لا يحتاج إلى ذريعة للبطش بهم؛ مع ذا فإنّ الشهادة كافية لأن تضرم حقد ابن هند؛ فماذا بعد شتمه والدعوة إلى حربه وإعلان البراءة منه....

فكتب أبو بُردة بن أبي موسى الأشعريّ: هذا ما شهد عليه الشهود أبو بُردة بن أبي موسى الأشعريّ للهِ ربّ العالمين؛ شهد أنّ حُجر بن عديّ خلع الطاعة وفارق الجماعة ولعن الخليفة ودعا إلى الحرب والفتنة، وجمع إليه جموعاً يدعوهم إلى نكث

____________________

(١) تاريخ الطبري ٤: ١٩٩.

(٢) نفس المصدر السابق.

٦٥٤

البيعة وخلع أمير...، فكفر بالله كفْرَةً صلعاءَ، وأتى معصية شنعاء.

فقال ابن سميّة: اشهدوا على مثل شهادته؛ فشهدوا رؤساء الأرباع الآخرون وقد ذكرناهم، وشمر بن ذي الجوشن - كان من أشدّ الناس على حرب وقتل الحسينعليه‌السلام ، وأيضاً شهد من قتلة الحسينعليه‌السلام : عَزْرة بن قيس الأحمسي، وحجّار بن أَبْجَر العِجْلي، ومحمّد بن الأشعث الكنديّ، وعمرو بن الحجّاج الزبيدي، وعمر بن سعد بن أبي وقّاص - كان قائد الجيش الذي قاتل الحسينعليه‌السلام -، وشبث بن ربعي وهو أوّل من حرّر الحروريّة الخارجية، ويزيد بن رُوَيم الشيباني، وزُحَر بن قيس الجُحفيّ، والعُريان ابن الهيثم النخعيّ.

وغير هؤلاء أيضاً: إسحاق وموسى وإسماعيل ولد طلحة بن عبيد الله الذي قاتل أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام ، يومَ الجمل.

والمنذر بن الزبير بن العوّام، والزبير شريك طلحة وعائشة ومروان في قتال عليّعليه‌السلام يوم الجمل، وكان المنذر بن الزبير في وفد أهل المدينة فلمّا رجعوا أجازه ابن ميسون مائة ألف دينار فلم يرجع معهم إلى المدينة وإنّما صار إلى ابن مَرجانة.

وعُمارة بن عُقبة بن أبي مُعَيْط، وخالد بن عُرْفُطه...(١) .

وممّن كُتبت شهادته ولم يكن حاضراً: السري بن وقاص الحارثي كتب شهادته وهو غائب في عمله(٢) .

وأيضاً: شُريح بن الحارث الكنديّ القاضي وهو غائب، فلمّا بلغه ذلك كتب إلى ابن هند: إنّي نُبّئت أنّ زياداً كتب إليك كتاباً في منزله وستره عن العامّة أكّد فيه شهادات

____________________

(١) تاريخ الطبري ٤: ٢٠٠ - ٢٠١، أنساب الأشراف ٥: ٢٦٣ - ٢٦٤.

(٢) تاريخ الطبري ٤: ٢٠٠.

٦٥٥

قوم على حُجر أخي كندة وسمّاني فيهم؛ ألا وإنّ شهادتي على حُجر أنّه رجل مسلم عفيف يُقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويصوم شهر رمضان ويُديم الحجّ والعُمرة ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، حرام الدم والمال، وإنّ له لغناءً في الإسلام، وقد رفعتُها إليك فتقلّد معها ما أنت مختار لنفسك، والسلام(١) .

فقال معاوية حين قرأ كتاب شُريح: أمّا هذا فقد أخرج نفسه من الشهادة(٢) .

لو كان ابن هند مسلماً لسأل نفسه: أنا أعرف حجراً حقّ المعرفة، وإنّه على ما وصف شُريح؛ فإنّه حرامُ الدم والمال لمجموع الخصال التي ذكرها شُريح. ثمّ إنّ ابن سميّة قد أقحمَ اسم شُريح في الشهود؛ لماذا؟! هل هذا إلّا تدبير من ابن سميّة لقتل حُجر؟ ولماذا هذا العدد الكبير من الشهود؛ أليس سعياً حثيثاً منه لإمضاء وتحقيق نيّته؟!

هرب المختار

أمّا المختار بن أبي عبيد الثقفي رضي الله عنه، الذي ظلمته الدعاية الزبيريّة والأُمويّة إذ رمته بالكذب وغيره فقد هرب هو، وعروة بن المغيرة بن شُعبة من أن يشهدا(٣) .

فإنّ المختار، يهرب من الكوفة لئلاّ يشهد شهادة زُور على حُجر وأصحابه، فيها سفكُ دمائهم، وسيرته الجهاديّة التي قلّ نظيرها! فهو سجين ويتوعّد ابن مرجانة ويحلف بالله أن ينتقم منه ومن قَتَلةِ الحسينعليه‌السلام ! ويُحقّق ذلك. وهو يفارق ابن أسماء

____________________

(١) أنساب الأشراف ٥: ٢٦٤، وذكره الطبري مختصراً.

(٢) نفس المصادر السابقة.

(٣) نفس المصادر السابقة.

٦٥٦

عبد الله لـما رأى منه من تقليبه المواقف، فلمّا تمكّن من الكوفة وأخرج عامل ابن أسماء منها وأخذ بثأر الإمام الحسينعليه‌السلام ، نشرت إذاعة الشجرة الملعونة، والزبيريّة أكاذيبها بشأنه تمهيداً لإضعاف ركنه ومن ثَـمَّ مهاجمته، فتوقّف جيش الشأم الـمُعدّ للقضاء على ابن أسماء وتوجّه مصعب بن الزبير فأجهز على المختار رضي الله عنه. ويكفي بحقّه شهادات أهل البيتعليهم‌السلام .

ابن بُزَيعة: وكان فيمَن شهد على حُجر: شَدّاد بن المنذر أخو حُضين بن المنذر لأبيه، وكانت أُمّه نَبَطيّة، واسمها بزعة وكانت تُصغّر فيقال بُزَيْعة، ولم يكن يُنسب إلّا إليها، فلمّا مرّ اسمُه بزياد فرأى: وشهد شَدّاد بن بُزَيْعة قال: أمَا لهذا أبٌ يُنْسب إليه؟ فقالوا: هذا أخو حُضَين بن المنذر الرقاشي فقال: اطرحوا اسمه! فقال شدّاد: وَيْلي على ابن الزانية وهل يُعرف إلّا بسميّة الزانية!(١)

هكذا فعلت دعوة ابن هند لابن سميّة! فجعلته يصول ويقطع الرؤوس والأيدي والأرجل من خلاف! وينكر على مَن يُعرف بأمّه مع معرفة أبيه! ولا ينكر على نفسه وهو بالأمس: ابن سميّة وابن أبيه وابن عُبيد؛ واليوم إذ أشركه ابن هند في الإثم بقبول الدعوة ونسبته إلى أبي سفيان الرذيل، نسى أمسه الذي لم ينسه الناس فهو لا يزال عندهم: ابن سميّة ابن أبيه، وعند البعض ابن عُبيد، وكما ذكرنا: فإنّ هذا هو اسمه في كتب النسب والتاريخ، وإذا ذكره أحدُهم ضمن آل أبي سفيان قال: ولد أبي سفيان:...، وزياد بن أبيه، أو زياد بن سميّة والي العراق!(٢)

وحمل زياد حُجراً وأصحابه إلى معاوية في السلاسل على جِمال اكتراها لهم صعاباً،

____________________

(١) أنساب الأشراف ٥: ٢٦٤.

(٢) انظر جمهرة النسب، لابن الكلبيّ (ت ٢٠٤ هـ): ٤٩ وغيره من كتب النسب والرجال والتاريخ.

٦٥٧

ووجّه معهم شَبث بن رِبْعي الرياحي، ووائل بن حُجر الحضرمي، ومَصْقَلة بن هُبَيرة الشيباني، وكثير بن شهاب الحارثي، وكتب إليه: قد بعثت إليك بحُجر ووجوه أصحابه، ومُضي بهم إلى الشأم فلم يُدخلوا على معاوية، وأمر أن يُحبسوا بمَرْج عَذراء، فحُبسوا هناك؛ وبينها وبين دمشق اثنا عشر ميلاً. وكتب معاوية إلى زياد: إنّي متوقّف في أمرهم. وتوقّف معاوية في أمرهم، فمرّةً يرى قتلهم ومرّةً يرى الصفح عنهم، فكتب إليه زياد: قد عجبتُ من اشتباه الأمر عليك في حجر وأصحابه، وقد حضرتُ أمرهم، وشهد خيار أهل المصر بما شهدوا به عليهم، فإن كانت لك في المصر حاجة فلا تُردّن حُجراً وأصحابه. فلمّا قرأ معاوية الكتاب في جواب ما كتب به إلى زياد، قال: ما ترون يا أهل الشأم؟ فقال عبدالرحمن بن عبد الله بن عثمان الثقفيّ، وهو ابن أمّ الحكم أخت معاوية: جِذاذَها جِذاذَها(١) فقال معاوية: لا يُغني أمراً، وخرج أهل الشأم لا يدرون ما قال معاوية وعبدالرحمن فأتوا النعمان بن بشير فقالوا له مقالة ابن أمّ الحَكَم، فقال النعمان: قُتل القوم. فكُلّم معاوية في ورقاء بن سُمَيّ وعاصم بن عوف، وكتب فيهما جرير بن عبد الله البَجَلي، فشفّعه معاوية ووهبهما له. وكلّمه أبو الأعور السُلَمي في عُتبة بن الأخْنس فوهبه له، وكلّمه حمزة بن مالك الهَمْداني في سعيد بن نِمْران فوهبه له، وكلّمه حبيب بن مَسلمة الفِهْري في ابن حَوِيّة فخلّى سبيله. وكُلِّم في الأرقم بن عبد الله الكندي فخلّى سبيله. وكلّمه مالك بن هُبَيرة السَكوني في حُجر فلم يُجْبه، وقال: هذا رأس القوم وهو أَنغَل المصر وأفسده، ولئن وهبته لك اليوم لتحتاجنّ أن تقاتله غداً، فقال: والله ما أنصفتني، قاتلتُ معك ابن عمّك حتّى ظفرتَ، ثمّ سألتك ابن عمّي فسطَرت عليَّ من القوم ما لا أنتفع به، ثمّ انصرف فجلس في بيته(٢) .

____________________

(١) جذذ: قطع، أي اقتل اقتل. النهاية، لابن الأثير.

(٢) أنساب الأشراف ٥: ٢٦٥ - ٢٦٦، الطبري ٤: ٢٠٣ - ٢٠٤.

٦٥٨

لا والله ما صدقت يا ابن هند، وما كنت قبل اليوم صادقاً! وكفى بكتاب شُريح الذي كذب عليه ابن سميّة إذ كتب شهادته على حُجر، وشُريح غائب، وقد كذّب ابن سميّة في كلّ أمرٍ افتراه على حجر، ونعَتَ حُجراً بمكارم الأخلاق. وقبل شُريح حديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد أنبأ بمقتل رجالٍ في مَرْج عَذراء يغضب لهم الله وأهل السماء. فيومُك طويل يا ابن هند من حُجرٍ وأصحابه الكرام.

وممّا يؤيّد أنّ ابن هند لم يكن مصدّقاً لكتاب ابن سميّة بشأن حجر وأصحابه، توقّفه في أمرهم وحبْسهم بمرج عذراء لا يدري: يقتلهم أو يعفو عنهم، وقد أعلم ابن سميّة بتوقّفهِ وهو الذي أمر بقتل الشيعة تحت كلّ حَجَرٍ ومَدرٍ وبأيّ ذريعة؛ كيف وقد كتب إليه أخوه في الشقاء وبتحرير ابن المخذّل عن عليّعليه‌السلام ، يوم الجمل وصاحب الخاتم المخلوع يومَ صفّين؛ وبشهادة سبعين رجلاً من خوارج وعثمانيّة الكوفة؟! وأيضاً ما ذكره البلاذريّ، قال: وبعث معاوية إلى من بقي منهم - أي مَن بقي بعد تخلية أولئك بشفاعة أصحابه - بأكفانٍ وحَنوط مع رجل من أهل الشأم ليُرعبهم بذلك، وأمره أن يدعوهم إلى البراءة من عليّ وإظهار لعنه، ويَعِد مَن فعل ذلك أن يتركه، فإنْ لم يفعلْ قُتل، فإنّ دماءهم حلال بشهادة أهل مصرهم عليهم فقالوا: أللّهم إنّا لا نفعل ذلك، ثمّ أمر بقبورهم فحُفرت وأُدنيت أكفانهم؛ فقاموا الليل يصلّون، فلمّا أصبحوا عرض عليهم مثل الذي عرض فأبوه(١) .

ابن هند، مصدّق لإسلام هذه الكوكبة بإرساله الأكفان والحَنوط وإن كان البلاذريّ فسّر ذلك ليُرعبهم فيُعلنوا البراءة من عليّ ويعلنوه فإن فعلوا خلّى سبيلهم، وإلاّ حلّتْ دماؤهم بمفترض ابن هند وهو أمرٌ مقبول في شرع ابن هند؛ إلّا أنّهم لم

____________________

(١) أنساب الأشراف ٥: ٢٦٦. وانظر: الطبري ٤: ٢٠٥.

٦٥٩

يفعلوا فقتلهم ثمّ كفّنوهم وصلّوا عليهم ودفنوهم نحو القبلة! فانتفت بذلك شهادة الزور التي دبّرها ابن سميّة في كفرهم وخروجهم على الشرع، وسقطت شهادة سبعين رجلاً؛ إذ لا يُفعل مثل ذلك إلّا بمسلم.

قالوا: لـمّا رأى حُجر الأكفان قال: تُكفّنوننا كأنّا مسلمون، وتقتلوننا كأنّا كافرون(١) .

قالوا: بعث معاوية رجلاً وقال له: امضِ حتّى تجلس إلى الحسين وتنعي حُجراً، وانظر ما يقول؛ فقال له الرجل: إنّ معاوية قتل حُجراً وأصحابه، قال: ثمّ صنع ماذا؟ قال: كفّنهم ودفنهم، فقال: خصموه وربّ الكعبة، ثمّ ترحّم على حجر(٢) .

وكان الحسن إذا ذكر معاوية قال: وَيْلُ معاوية من حجر وأصحاب حجر، يا وَيْلَهُ(٣) .

المدائني عن مسلمة وغيره أنّ معاوية لـمّا احتُضر جعلوا يقلّبونه فيقول: أيّ جسدٍ يقلّبون إن نجا من ابن عديّ(٤) .

المدائني قال: كتب معاوية إلى زياد: أنّه قد تلجلج في صدري شيء من أمر حُجر، فابعث إليَّ رجلاً من أهل المصر له فضل ودين وعلم، فأشخص إليه عبدالرحمن بن أبي ليلى وأوصاه أن لا يقبّح له رأيه في أمر حجر، وتوعّده بالقتل إن فعل، قال ابن أبي ليلى: فلمّا دخلتُ عليه رحّب بي وقال: اخلع ثياب سفرك والبس ثياب حضرك، ففعلت وأتيته، فقال: أما والله لوددت أنّي لم أكن قتلت حُجراً، ووددتُ أنّي كنت

____________________

(١) أنساب الأشراف ٥: ٢٦٦.

(٢) نفس المصدر السابق: ٢٧٢.

(٣) نفس المصدر السابق: ٢٧٣.

(٤) نفس المصدر السابق: ٢٧٥.

٦٦٠