شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية الجزء ٣

شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية0%

شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية مؤلف:
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 697

شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية

مؤلف: حبيب طاهر الشمري
تصنيف:

الصفحات: 697
المشاهدات: 160187
تحميل: 2679

توضيحات:

الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 697 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 160187 / تحميل: 2679
الحجم الحجم الحجم
شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية

شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية الجزء 3

مؤلف:
العربية

حبسته وأصحابه أو فرّقتهم في كُورِ الشأم فكفتنيهم الطواعين، أو مَنَنْتُ بهم على عشائرهم. فقلت: وودتُ والله أنّك فعلتَ واحدةً من هذه الخِلال، فرجعت وما شيء أبغض إليّ من لقاء زياد، وأجمعتُ على الإستخفاء، فلمّا قدمت الكوفة صلّيت في بعض المساجد، فلمّا انفتل الإمام إذا رجل يذكر موتَ زياد، فما سررتُ بشيء سُروري بموته(١) .

ولقد كان في قتل حجر صبراً - مَن يُقتل مأسوراً خارج ساحة الحرب - امتحاناً عسيراً ابتُلي به مَن قعد عن نُصرته ومقاومة الظالم.

عن الحسن - البصريّ - وكان مع الربيع بن زياد بناحية خراسان، قال: قال الربيع لـمّا بلغه قتل حجر وأصحابه: ألا إنّ الفتنة قد كانت تكون ولم يكن قتلُ الصبر، وقد قُتل حُجر وأصحابه صبراً، فهل من ثائر، هل من مُعين، هل من منكر؟! قال ذلك مراراً، فلم يُجبه أحد، فقال: أما إذا أَبَيْتُم فسَتُبْتَلون بالقتلِ صبراً على الظلم(٢) .

وفعلاً حصل ذلك، إذ تمادى ابن سميّة في غيّه فيقتل على الظنّة والريبة ويقطع أيدي وأرجل الناس من خِلاف! وتابعه على سيرته ابن مرجانة، وكان فيمَن قتل: سيّد شباب أهل الجنّة الحسين بن عليّعليهما‌السلام ، وكان عليه شديداً، توعّد عمر بن سعد بن أبي وقّاص (كان سعد بن أبي وقّاص من القاعدين عن بيعة أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام) ، وكان قد جعله على قيادة أهل الشأم وعدّتهم تجاوزت اثنى عشر ألفَ مقاتل مضافاً إلى عثمانيّة’ الكوفة وخوارجها وعدّتهم أربعة آلاف؛ لقتال الحسينعليه‌السلام، وجاء الحجّاج الثقفيّ الـمُبير الكذّاب الذي ذكره النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأمّا مبير: فقد سأل عن محاسن - كذا! -

____________________

(١) أنساب الأشراف ٥: ٢٧٥.

(٢) نفس المصدر السابق: ٢٧٥ - ٢٧٦.

٦٦١

سيرة ابن سميّة ومساوئها؟ فأخذ بمساوئها وترك محاسنها وكان من قتلاه سيّد التابعين والقُرّاء سعيد بن جُبير رضي الله عنه، فكان يقطع الأعضاء ويسمل العيون وقطع الألسن ويَدفنُ الأحياء.

وروي أنّ الحسن بن الربيع قال: رَبِّ إنّ حُجراً قُتل صبراً، فإن كنت مُغَيّراً ذلك وإلاّ فاقبضني إليك، فمات من ليلته(١) .

البلاذريّ: حدّثني عبّاس بن هشام عن أبيه قال: كان حُجْر فتحَ حين غزا المسلمون الشأم مَرج عَذراء، فلمّا أرادوا قتله وهو بها قال: لئن قُتلتُ بها إنّي لأوّلُ مَن نَبَحَتْهُ كَلابُها ومشى في أكنافها وكبّر في واديها(٢) .

عن ابن عوانة عن أبيه قال: دعا معاوية هُدْبة بن الفيّاض الأعور فأعطاه سيفاً، وسرّح معه عدّة رجال وأمره أن يعرضهم على البراءة من عليّ، فإن فعلوا وإلاّ قتلهم، وبعث معه بأكفان وأمر بأن يُقبروا، فعرض عليهم ما أمر به معاوية، فلم يجيبوا، فقُتلوا وذُبحَ حُجر ذبحاً، وبلغ أمّه فشهقت وماتت. وقال عليّ بن الغدير:

لو كان حُجْرٌ من بَجيلَةَ لم يُنَلْ

هناك ولم يُقرَع بأبيض صارِمِ

يَزيدهُمُ أَنْجى أسارهُ بعدما

جَرَى قَتْلُهُم ذبْحاً كذبح البهائمِ

يعني: يزيد بن أسد بن كُرْز البَجَلي جدّ خالد بن عبد الله بن يزيد القسري، لأنّه تكلّم في مَن كان من بَجيلة فوُهبوا له، وهم ثلاثة(٣) .

____________________

(١) أنساب الأشراف ٥: ٢٧٦.

(٢) نفس المصدر السابق: ٢٧١.

(٣) نفس المصدر السابق: ٢٦٨.

٦٦٢

أسماءُ مَن اجتمع في سجن زياد

قالوا: فاجتمع في سجن زياد من الشيعة أربعة عشر رجلا وهم:

حجر بن عديّ، صيفيّ بن فَسيل الشيبانيّ، قَبيصة بن ضُبَيْعة بن حَرْملة العَبْسي، كِدام بن حيّان العَنزي، واخوه عبد الرحمن بن حيّان، كريم بن عَفيف الخَثْعمي، كعب ابن الأسْلع بن عَمرو الـمُراديّ، مُحْرِز بن شِهاب بن مُحرِز بن سُمَيّ التميمي، الأرقم ابن عبد الله الكندي، شريك بن شَدّاد الحَضْرميّ، عاصم بن عَوْف البَجَلي، وَقاء بن سُميّ البَجَلي، وعُتبة بن الأخنس من بني سعد بن بكر، وسعيد بن نمران الناعطي من هَمْدان(١) .

قصّة حُجْر مع ابن الأشعث

بيت الأشعث هو بيت العنكبوت، فالأشعث بن قيس الكنديّ جاهليّ إسلاميّ، ثمّ ارتدّ عن الإسلام فأُسِر، وله في ذلك قصّة طريفة: فإنّ خالد بن الوليد رأى من إسلام مالك بن نُوَيْرَة وحسن صلاتهم وقد أذّنوا مثل أذان جماعة خالد ونفى بشدّة إن كان قد ارتدّ هو أو أصحابه، إلّا أنّ خالد أصرّ على ردّته، فلمّا قدّم لقطع رأسه قال: يا خالد! بهذه قتلتني وأشار إلى زوجته وكان فيها جمال؛ فقطع رأسه ورؤوس مَن معه وجعل رؤوسهم أثفيةً، أي وقوداً! طبخوا عليها ثمّ أكلوا، ودخل خالد بزوجة الشهيد مالك من ليلته تلك! فلمّا كلّم عمر أبابكر بشأن خالد وجريمته تلك وأنّ عليه أن يعزله وألحَّ في ذلك قال أبوبكر: لا أغمدُ سيفاً سلّة الله على أعدائه فصار خالدُ يُعرف بسيف الله!

____________________

(١) أنساب الأشراف ٥: ٢٦٢.

٦٦٣

وخالد إذ يصنع ذلك بمسلمين لم يثبت عليهم شيءٌ، فإنّه أرسل الأشعث ورجاله مقيّدين إلى أبي بكر، وقد ثبت عليهم أنّهم ارتدّوا فلم يقتلهم، وقال الأشعث لأبي بكر وهو مقيّد اعفو عنّي، قال: عفوتُ عنك! فقال وهو ما زال مقيّداً: وزوّجني أختَك أمّ فَروة، قال: زوّجتك! ثمّ فكّ القيود عنهم وزوّجه أمّ فروة. ويوم صفّين كان مع أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام ولـمّا وقع الخلاف بعد خديعة رفع المصحف كان الأشعث في صفّ الخوارج.

ولابنه هذا محمّد بن الأشعث أدوارٌ قذرة! منها غَدره بحجر بن عديّ، ثمّ غدره بالإمام الحسينعليه‌السلام حيث كاتبه فلمّا جاء الحسينعليه‌السلام غدر به فكان في صفوف من قاتله. وقبل الحسينعليه‌السلام غدر بمسلم بن عقيل وأعان ابنَ مرجانة في الوصول إلى مكان مسلم.

وجَعدة بنت الأشعث زوجة الإمام السبط الزكي الحسن بن عليّعليه‌السلام، فأرسل إليها ابن هند مكتوباً إن هي سمَّت الإمام الحسن أن يعطيها مبلغاً من المال ويزوّجها من يزيد. فلمّا فعلت ما أراد، وفى لها بالمال ولم يزوّجها يزيد لئلاً تصنع به ما صنعته بالإمام الحسنعليه‌السلام، فخسرت الدنيا والآخرة.

وله دور في الغدر بحجر بن عديّ رضي الله عنه شبيه بدوره في الغدر بمسلم بن عقيل. فإنّ ابن سميّة لـمّا اقتحم الكوفة، تغيّب حُجر، فجعل يطلبه فلا يقدر عليه، فبينا زياد جالسٌ يوماً وأصحاب الكراسي حوله فيهم محمّد بن الأشعث بن قيس إذ أتى ابنَ الأشعث ابنه فناجاه وأخبره أنّ حجراً قد لجأ إلى منزله، فقال له زياد: ما قال ابنُك؟ قال: لا شيء، قال: والله لتُخْبرني ما قال لك حتّى أعلم أنّك صدقتني، أو لا تبرح مجلسك حتّى أقتلك، فأخبره، فقال لرجلٍ من أشراف أهل الكوفة: قُمْ فاتني به،

٦٦٤

قال: أعفني لا أصلحك الله من ذلك وابعث غيري، فقال: لعنة الله عليك مخبث خبيث، والله لتأتيني به أو لأقتلنّك، فخرج الرجل حتّى دخل عليه وأخبره الخبر، وقال له: إبعث إلى جرير بن عبد الله ليكلّمه فيك، فإنّي أخاف أن يعجل عليك، فدخل جرير على زياد فكلّمه فيه، فقال: هو آمن أن أقتله، ولكنّي أخرجه إلى معاوية فجاء به على ذلك، فأخرجه من الكوفة ورهطاً معه، وكتب إلى معاوية أن أَغْنِ عنّي حجراً إن كان لك بما قِبَلي حاجةٌ، فبعث معاوية إليه فلقاه بالعَذراء فقُتل هو وأصحابه(١) .

أيُّ أمانٍ هذا؛ وإن لم يقتله فقد بعث به إلى ابن هند وأردفه بكتابٍ وكأنّ العراق رهينٌ بوجود حُجر رضي الله عنه، فإن لم يُباشر ابن سميّة قتْلَ حجر، فقد حرّض ابن هند أشدَّ التحريض على قَتلِ حجر؛ وابن هند لم يُباشر بنفسه قتلَ حجر وإنّما أمر مَن ينفّذ ذلك حاله حال الآخرين الذين قتلهم؛ والحال نفسه في شهادة الإمام الحسينعليه‌السلام، فهو الذي أمر بقتله وأعطى الأمر إلى ابن مَرْجانة وترك هذا قيادة الجيوش إلى عمر بن سعد؛ فكلّهم قتلة: الآمر والقائد والمباشر لقتله وكلّ من أركض فرسه في ميدان الحرب.

ابن سميّة

لقد جدَّ ابنُ هندٍ وسعى غاية المقصود لاستلحاق ابن سميّة وضمّ نسبه إلى نسبه من خلال دعوته إلى رَبيبه أبي سفيان إلّا أنّ فَلَتات لسان ابن هند سواء في النُطق بحقّ أعدى أعدائه والإقرار بفَضْلِه، أو نقض ما أبرم!

المدائني قال: لـمـّا بلغ عائشة أخذُ حجر وحمْل زياد إيّاه وجّهتْ إلى معاوية عبدَ

____________________

(١) أنساب الأشراف ٥: ٢٧٩.

٦٦٥

الرحمن بن هشام في أمره، فقدم عليه وقد قتله وأصحابه، فقال له: أين كان حلمك؟! فقال: غاب عنّي مثلك من حلماء قومي، وحملني ابنُ سميّة فاحتملت!(١)

متى كان حليماً مَن تأخّر أمره حتّى إذا ضاقت به السُبُل أظهر الإسلام جُنّةً وخرج منه كما صنع رَبيبُه أبوسفيان؛ ومتى كان حليماً مَن حكم عليه رسولُ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بجهنّم، ولعنه في سبعة مواطن ولعن رَبيبَه القائل: تلقّفوها يا بني أميّة تلقُّف الكرة فإنّ الأمر على غير ما يصفون؛ فما من جنّةٍ ولا نار!

وهو الذي شملته دعوةُ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ فكان يأكل ولا يشبع ويقعد بطنَه على فخذيه لعظمِها! وهو القائل لأهل العراق: ما قاتلتكم لتصلّوا وتحِجّوا وتصوموا وتزكّوا...، أنّي أعلم أنّكم تفعلون ذلك، ولكن قاتلتكم لأتأمّرَ عليكم.

وهو القائل ما قال في رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبشهادة المغيرة بن أبي شعبة وغيره من أقرب رجاله إليه.

أحليمٌ مَن يمدُّ عنقه لجاريةٍ فارسيّة وهي تلوي السَوْط على رأسه، وتخدعه فارسيّة أخرى فيخرج على القوم مفتخراً فيقول: أنا الكَفْتار - أي الضَّبُع الأعرج - وهو يظنّ أنّها صدقته القول إذ سألها عن اسم السَّبُع بالفارسيّة، فقالت: كَفْتار، فلمّا قال ذلك، ضحِك منه القوم وسخروا.

ومتى كان حليماً مَن ألحق ابن سميّة بأبي سفيان، من زنيةٍ مشترك أمرها! فصيّره أخاه بذلك يجوز له أن يخلو بأُختِه مكشوفة الرأس! وهو نفسه بـهِنْدٍ ألصق وأصدق ولم يثبت أنّه لأبي سفيان!

وما وجدناه في كتاب له ابن سميّة، ولا الأخير إلى ابن هند، أو في خطاب لأحدهما

____________________

(١) أنساب الأشراف ٥: ٢٧٣.

٦٦٦

يذكر الثاني بمفهوم الأَخَويّة! ولقد وجدنا ابن هند يذكر هنا أي في جوابه لمبعوث عائشة، فيقول: ابنُ سُميّة فردّهُ إلى اسمه الّذي كان به يُعرف!

ووجدنا ابن هند وخير تجارته إلى الهند هي الاصنام المصنوعة من النّحاس، ولكنّ الراوي لم يذكر إن كان ابن هند قد جعل لتلك الأصنام من أسماء مثل هُبَل وغير ذلك؟!

وهل يكون حليماً مَن قاتل وحارب الله ورسولَه من خلال حربه لعليٍّعليه‌السلام؛ وسبّهما ولعنهما إذ سبّ عليًّا ولعنه وأعلن البراءة منه؟!

قال الهيثم: قال عوانة: قال حُجر: والله لقد فتحت هذا الموضع وإنّي لأرجو أن أكون شهيداً فيه؛ وهو كان فتح مرج عذراء(١) .

وكان هُدْبَة الذي أمره ابن هند بقتلهم أعور فلمّا رآه كريم بن عفيف الخَثْعَمي قال: يُقتل نصفُكم وينجو نصفُكم، فقال ابن نِمْران: أللّهم اجعلني ممّن ينجو وأنت عنّي راضٍ، وقال عبدالرحمن بن حيّان العَنزي: أللّهم اجعلني ممّن يُكْرَم بهوانِهم وأنت عنّي راضٍ، فعزلوا الثمانية، وعرضوا على الباقين البراءة من عليّعليه‌السلام فقال كريم بن عفيف وعبدالرحمن بن حيّان: انطلقوا بنا إلى معاوية فنحن نقول بقوله، فعزلوهما وأبى الآخرون.

وأخذ كلّ رجل رجلاً فقتله، وصلّى حُجر ركعتين ثمّ قتله الأعور بن فيّاض، ويقال ذبحه ذبحاً. وجيءَ بكريم الخثعمي وعبدالرحمن بن حيّان إلى معاوية، فأمّا الخثعمي فقال له: ما تقول في عليّ؟ قال: مثل مقالتك أنا أبرأُ من دين عليّ الذي يدينُ به فحبسه ليستبرئ أمرَه، فكلّمه فيه شَمِر بن عبد الله الخَثْعميّ فخلّى سبيله على أن لا

____________________

(١) أنساب الأشراف ٥: ٢٦٨.

٦٦٧

يدخل الكوفة، فأتى الموصل فأقام بها ومات قبل معاوية بشهرٍ. وأمّا ابن حيّان فقال له: ما تقول في عليّ؟ قال: من الذاكرين كثيراً والآمرين بالحقّ سرّاً وجهراً، فلا تسألني عن غير هذا فهو خيرٌ لك، فبعث به إلى زياد وكتب إليه أن اقتُلْه شرَّ قتْلةٍ فبعث به إلى قُسّ الناطف فدُفن حيّاً(١) .

إنّ الخثعميّ لم يحقّق لابن هند أُمنيته التي هي محور أمره وشوقه وهو البراءة من أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام لأنّ البراءة منه براءة من رسول الله و من الله تعالى الذي جعله وليّاً للمؤمنين. ولكنّه وجد لنفسه مخرجاً وفي الوقت نفسه إدانةً لابن هند! فهو علّق جوابه وقوله على مقالة ابن هند في دين عليّ عليه السلام! فهو يبرأ من مثل هذا الدين؛ وهذا يعني أنّه لم يبرأ من دين عليّ الذي هو دين النبيّ صلى الله عليه وآله وقد فهم ابن هند هذا المعنى ولذلك حبسه شهراً، وشفع فيه فأخلى سبيله بشرط أن لا يدخل الكوفة، فتخلّص.

وأمّا عبد الرحمن بن حيّان فقد كان صلباً في موقفه جريئاً على ابن عند وأسمعه الموجع من القول، فحوّله إلى ابن سميّة لمعرفته بجرأته على الله تعالى، وأوصاه بما هو غنيّ عنه فدفنه هذا حيّاً.

وفي تاريخ الطبريّ: مثل ما في أنساب الأشراف. قال: وقال لهم رسول معاوية: إنّا قد أُمرنا أن نعرض عليكم البراءة من عليّ واللعن له، فإن فعلتم تركناكم وإن أبيتم قتلناكم وإنّ أمير... يزعم أنّ دماءكم قد حلّت له بشهادة أهل مصركم عليكم، غير أنّه قد عفى عن ذلك فابرؤوا من هذا الرجل نُخلِ سبيلكم! قالوا: أللّهمّ إنّا لسْنا فاعِلي ذلك؛ فأمر بقبورهم فحُفرت وأُدنيت أكفانهم وقاموا اليلَ كلَّه يُصلّون فلمّا أصبحوا قال أصحابُ معاوية: يا هؤلاء! لقد رأيناكم البارحة قد أطلتم الصلاة وأحسنتم

٦٦٨

الدعاء فأخبرونا ما قولكم في عثمان؟ قالوا: هو أوّل من جار في الحكم وعمل بغير الحقّ، فقال أصحاب معاوية: أمير... أعلم بكم، ثمّ قاموا إليهم فقالوا: تبرؤون من هذا الرجل؟ قالوا بل نتولاّه ونتبرّأ ممّن تبرّأ منه؛ فأخذ كلّ رجل منهم رجلاً ليقتله...(١) .

بين الإمام الحسنعليه‌السلام، وابن سميّة

إنّ زياداً وهذا أحسن ما كان يُسمّى به، وإلاّ فالشائع ابن أبيه وابن سميّة، وابن عُبيد؛ وابنُ هند وبعد دعوته فصيّره إلى ربيبه أبي سفيان فهو في مواطن الوعد والوعيد يردّه إلى عبيد وإلى سميّة، وحتّى الناقص ابن ميسون إذا غضب عليه فعل ذلك. وليس في أن يُسمّى الرجل باسمِه مجرّداً عيب، إنّما العيب أن يُنسب إلى غير أبيه أو يُدعى إلى غيره مواليه.

عن ابن عون عن أبيه قال: لـمّا ادّعى معاوية زياداً وولّاه، طلب زياد رجلاً كان دخل في صلح الحسنعليه‌السلام فكتب الحسن فيه إلى زياد ولم ينسبه إلى أب، فكتب إليه زياد: أمّا بعد فقد أتاني كتابك في فاسق يؤوي مثله الفسّاق من شيعتك وشيعة أبيك! وأيم الله لأطلبنّه ولو بين جلدك ولحمك فإنّ أحبّ إليّ آكُلُه لَلَحْمٌ أنت منه.

فلمّا قرأ الحسن الكتاب قال: كفر زياد، وبعث بالكتاب إلى معاوية فلمّا قرأه غضب فكتب إليه: أما بعد يا زياد فإنّ لك رأيين، رأي أبي سفيان ورأي سميّة، فأمّا رأيك من أبي سفيان فحزْمٌ وحلم، وأمّا رأيك من سميّة فما يشبهها! فلا تعرض لصاحب الحسن فإنّي لم أجعل لك عليه سبيلاً، وليس الحسن ممّا يرمي به الرجوان(٢) وقد عجبت من

____________________

(١) تاريخ الطبري ٤: ٢٠٥.

(٢) أي يُستهزأ به. القاموس.

٦٦٩

تركك نَسَبَه إلى أبيه أفإلى أمّه وَكَلْتَهُ وهي فاطمة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فالآن اخترتَ له والسلام(١) .

الإمام المجتبى سيّد شباب أهل الجنّة سمّى زياداً ولم ينسبه إلى أب لِلْشُبْهةِ في ذلك؛ فصبَّ عليه ابنُ هند شآبيب غضبِه، فليختر أيّها أقلّ إيلاماً؟!

شهداء يوم مَرْج عَذْراء

حجر بن عديّ الكنديّ، وشريك بن شدّاد الحضرميّ، وصَيفي بن فَسيل الشيباني، وعبد الرحمن بن حسّان العَنزي، وقبيصةُ بن ضُبَيْعَة العَبْسيّ، وكدام بن حيّان العَنْزيّ، ومُحْرِز بن شهاب الـمِنقريّ(٢) .

فهؤلاء سبعة شهداء سُعداء وقد استُشهدوا بتمسّكهم بولاية أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام ، فلهم الجنّة والرضوان ولـمَن قتلهم عذابُ جهنّم والخلود في عذاب السعير. قال عبيدة الكندي وهو يعيّر محمّد بن الأشعث بخذلانه حُجراً:

أسلمتَ عمَّك لم تُقاتل دونه

فَرَقاً ولولا أنت كان مَنِيعا

وقتلتَ وافدَ آل بيتِ محمّدٍ

وسَلَبتَ أسيافاً له ودُرُوعا(٣)

ولـمـّا عزل زياد أنس بن أبي إياس عن ولاية خراسان وولّى مكانه خلَيد بن عبد الله الحنفي، قال أنس:

____________________

(١) أنساب الأشراف ٣: ٢٩٤ - ٢٩٥.

(٢) أنساب الأشراف ٥: ٢٧١، تاريخ الطبريّ ٤: ٢٠٧، جمهرة النسب: ٢٣٢ - ٤٥٠، طبقات ابن سعد ٦: ٢١٧، تاريخ اليعقوبي ٢: ٢٣١، رجال البرقيّ: ٥، رجال ابن داود: ١٨٩. وفي الاشتقاق: ٤١٢ (كعب بن الأَسْلَع الـمُراديّ، قُتل مع حُجر بن عَديّ).

(٣) تاريخ الطبري ٤: ٢١٢.

٦٧٠

ألا مَن مبلغٌ عنّي زياداً

مُغَلغَلةً يَخُبُّ بها البَريدُ

أتَعزِلني وتطعمها خُليداً

لقد لاقتْ حنيفةُ ما تريدُ

عليكم باليمامةِ فاحرُثوها

فأوّلكم وآخرُكم عبيدُ(١)

قالوا: وكان رجل من بني مخزوم أعمى يُكنّى أبا العُريان، فمرّ به زياد في موكبه، فقال: مَن هذا؟ قالوا: زياد بن أبي سفيان! قال: ما ولَدَ أبو سفيان إلّا فلاناً وفلاناً، فمَن هذا فو الله لرُبَّ أمرٍ قد نقضه الله، وبيتٍ قد هدمه الله، وعبدٍ قد ردّه الله إلى مواليه، فبلغ معاوية قوله، فأرسل إلى زياد: ثكِلَتْك أمّك اقطع لسان بني مخزوم، فبعث إليه بألف دينار وقال لرسوله: أقرئْه السّلام وقل له: يقول لك ابن أخيك أنفق هذه حتّى يأتيك مثلها، ومرَّ به زياد من الغد فسلّم فقال قائل: مَن هذا؟ فقال أبو العُريان: هذا زياد بن أبي سفيان، وجعل يبكي ويقول: والله إنّي لأعرف منه حَزْم أبي سفيان ونُبْله وأشبّه جِرْمه بجرمه، وبلغ معاوية خبره فكتب إليه:

ما لَبَّثَتْك الدنانيرُ التي رُشِيَتْ

أنْ لَوَّنَتْك أبا العُرْيان ألوانا

للهِ دَرُّ زيادٍ لو يُعَجِّلُها

كانت له دونَ ما يَخْشاهُ قُربانا

فكتب إلى معاوية:

أحْدِثْ لَنا صِلَةً تَحْيا النفوس بها

قد كِدْتَ يابْنَ أبي سفيان تَنْسانا

مَن يُسْدِ خيراً يَجِدْهُ حينَ يَطْلُبُهُ

أَوْ يُسْدِ شرّاً يَجِدْهُ حيثما كانا(٢)

قال الـهَيْثم: كان لزياد صديق من بني شيبان يقال له عُمَير، فقال له زياد يوماً: كيف

____________________

(١) تاريخ الطبري ٤: ٢١٣، أنساب الأشراف ٥: ٢٣٠.

(٢) أنساب الأشراف ٥: ٢٢٩.

٦٧١

ترى عملي؟ قال: أراك أصلحتَ الناس بفساد نفسك! فقال له زياد: ما فَسُدَ مَن صلحتْ عليه العامّة(١) .

يقطع يداً على درهم!

تعرّض رجل من أصحابه لرجلٍ في سفينة فأخذ منه درهماً وقال: أُمرتُ أن أَجبي من كلّ سفينة درهماً، فأخذ الرجل فقطع يده(٢) .

وحَمَل الربيع مرزبانَ مَرْو إلى زياد، فأمر الناسَ فصُفّوا من الـمِربَد إلى دار الإمارة وعليهم السلاح، فقال: كيف رأيت عُدّتنا مع قُرْب عهدنا بالسلطان؟ فقال: ما أحسنَ ما رأيتُ؛ قد ملك السلاحَ قبلكم أقوامٌ فلم أرَهُ أغنى عنهم شيئاً حين انقطعت آثارُهم وانقضت مدّتهم(٣) .

اقتداء ابن سميّة بسيرة عمر

عن الشعبي قال: أتى عامر بن مسعود زياداً بأبي علاقة التميمي فقال: أصلح الله الأمير، إنّه هجاني فقال:

وكيف أُرَجّي بعد يومي نَماءَها

وقد سارض فيها خُصْيَةُ الكلب عامرُ

فقال أبو عِلاقة: لم أقل هكذا، ولكنّي قلت:

وإنّي لأرْجو بعدَ يومي نَماءَها

وقد سار فيها يأخُذُ الحقَّ عامرُ

فقال زياد: قاتل الله الشعراءَ يقلّبون ألسنتهم كما يريدون، والله أن تكون سُنّةص يُقْتدى بها لقطعتُ لسانَه، فقام قيس بن قهْد الأنصاري فقال: أُحدّثك بما سمعتُ من

____________________

(١) أنساب الأشراف ٥: ٢٣١.

(٢) نفس المصدر السابق.

(٣) نفس المصدر السابق: ٢٣٠.

٦٧٢

عمر بن الخطّاب، شهدتُه وأتاه الزبْرِقان بن بَدْر بالحُطيئة العَبْسي فقال له: هجاني، فقال: وما قال لك؟ قال:

دَع المكارِمَ لا تَرْحل لبُغْيتها

واقعد فإِنّك أنت الطاعِمُ الكاسي

فقال عمر: ما أسمع هجاءً ولكنّها معاتبةٌ جميلة! فقال الزبرقان: أوَما تُبلغ مُروءتي إلّا أن آكل وألبس؟! فقال عمر: عليَّ بحسّان بن ثابت، فسأله عمر عن البيت فقال: لم يَهْجُه ولكنّه خَرِئَ عليه، فأمر به عمر فحُبس ببئر وأُلقيت عليه خَصَفة، فقال الحُطَيئة:

ماذا تقولُ لأفراخٍ بِذي مَرخٍ

حُمْر الحَواصِل لا ماءٌ ولا شَجرُ

أَلْقَيْتَ كاسِبَهم في قَعْرِ مُظْلِمةٍ

فاغفرْ عليك سلامُ الله يا عمرُ

فأخرجه عمر وقال: إيّاك وهجاء الناس! قال: إذاً يموت عِيالي جوعاً، هذا كسبي ومعاشي! قال: فإيّاك والقَذْعَ وأن تقول في شعرك فلانٌ خيرٌ من فلان. وفلانٌ أكرمُ من فلان، فقال الحطيئة: أنت والله أَهْجى منّي؟! فقال عمر: والله لولا أن تكون سُنَّةً لقطعتُ لسانك، ولكن خُذْه إليك يا زِبْرِقان؟! فألقى الزبرقان في عنقه عمامته وجعل يقوده...؛ فأمر زياد عامر بن مسعود أن يفعل بأبي عِلاقة مثل ذلك، فألقى في عنقه نِسْعة واجترّه بها...(١) .

عن ابن شُبْرُمة قال: قال ابن سميّة (والتسمية له): من عرّض عرّضنا له بالسَوْط، ومَن صرّح صرّحنا له بالحدّ، يعني التعريض بالشتيمة(٢) .

المدائني قال: حُصب زياد على منبر الكوفة فأمر بالأبواب فمُنعت، وجلس وعرض الناس عليه، فمَن حلف تركه ومن أبى قطع يده، فقطع يومئذ ثمانين يداً(٣) .

____________________

(١) أنساب الأشراف ٥: ٢٤٠ - ٢٤١.

(٢) نفس المصدر السابق: ٢٤٤.

(٣) نفس المصدر السابق: ٢٨٤.

٦٧٣

لا دليل شرعيّ على جواز قطع الأيدي سيّما هذا العدد لمجرّد حصب والي؛ فكيف إذا كان الوالي ابن سميّة.

المدائني عن عبد الله بن المبارك عن داود بن عبدالرحمن أنّ زياداً كتب إلى معاوية: إنّي أشكو إليك ما ألقى من سفهاء قريش، فكتب إليه: كتبت تشكو ما تلقى من سفهاء قريش؛ فاصبر فإنّ حلماءها صبروا عليك حتّى وضعوك بهذا الموضع!(١)

المدائني قال: كان الجَموح بن عمرو الفَهمي شهد صفّين مع عليّ فآمَنَهُ معاويةُ وكتب إلى زياد: إنّي قد عرفتُ زَلّته وغفرتها له لحِلفه أبا سفيان، فدعاه زياد إلى ولاية بيت المال فأبى، فقال له زياد: أتتأبّى عليَّ وقد سفكتَ الدماء مع عليّ بن أبي طالب؟! فقال: يا زياد، أتقول هذا فو الله إن كنتَ لمنتفياً من الأب الذي صرتض إليه منسوباً إلى الأب الذي انتفيتَ منه وأنت تسفك الدماء معه وتجبي الخراج له، وأنت يومئذ خيرٌ منك اليوم، فضربه زيادُ مائة سوط وحلقَ رأسه ولِحْيته، فكتب إليه معاوية كتاباً غليظاً يقول فيه: لهممتُ أن أوجّه إليك من يقتصّ له منك، فأوفد الجموح إليه فأظهر كرامته، وأنشده الجموح:

مُعاويَ إنّ الله فوقَ سمائِهِ

وإنّك ذو ذَنْبٍ ولا يُؤْمَنُ الذنبُ

سَطا بِبَني عادٍ فلم يَبْقَ مِنهمُ

بقايا ولا عَيْنٌ لعادٍ ولا شِرْبُ

وإنّ زياداً موعَبٌ في أَديمكُمْ

وشائِمُكُمْ والشُؤْمُ أَعظَمُهُ الخَطْبُ

وتارِكُكُمْ في لعنةٍ بعدَ لعنةٍ

وداءُ الصِحاح أَنْ تُقارِفَها الجُرْبُ

فوالله ما ينهى زياداً وغَيَّهُ

سوى أن تقولَ لا زيادٌ ولا حربُ

____________________

(١) نفس المصدر السابق: ٢٨٤.

٦٧٤

فقال معاوية: قلْ ما شئتَ فإنّك حليفُ أبي! ودعا له بـِخِلْعةٍ قد لبسها فكساه إيّاها وقال: امشِ مشيتك في قريش، وأعطاه مِخْصرَة فقال: اختصر بها(١) .

ابن هند ومنبر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

تكلّمنا في غير هذا الموضع عن منبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ وعِلّة صنعه وتكريم المسلمين له لـما كانوا يسمعونه من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالشأن الخاصّ لمنبره وأنّه على تُرْعةٍ من الجنّة؛ وسيرة الطُّغاة واستخفافهم بالمنبر الشريف إذ كانوا يجلسون على المنبر يأكلون التمر ويطرحون النوى ويهينوا الأنصار.

وفي سنة خمسين أمر معاوية بحمل منبر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من المدينة إلى الشأم، فلمّا حُمل كسفت الشمس ورؤيت الكواكب بالنهار، فجزع من ذلك وأعظَمه، وردّه إلى موضعه، وزاد فيه ستّ مراقي(٢) .

هلاك ابن سميّة

عن سفيان عن يونس عن الحسن قال: بلغ الحسن بن عليّ أنّ زياداً يتبع شيعة عليّ فيقتلهم، فقال: أللّهم تفرّد بموته فإنّ في القتل كفّارة(٣) .

في سنة ثلاث وخمسين هلك زياد بن أبيه بالكوفة وقد كان كتب إلى معاوية أنّه قد ضبط العراق بيمينه، وشماله فارغة فجمع له الحجاز مع العراقين، واتصلت ولايته بأهل المدينة، فاجتمع الصغير والكبير بمسجد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وضجّوا إلى الله ولاذُوا بقبر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثلاثة أيّام لعلمهم بما هو عليه من الظلم والعسف؛ فخرجت في كفّه

____________________

(١) أنساب الأشراف ٥: ٢٨٣ - ٢٨٤.

(٢) مروج الذهب ٢: ٢٥ - ٢٦.

(٣) أنساب الأشراف ٥: ٢٨٦.

٦٧٥

بَثْرة ثمّ حكّها فسرت واسودّت فصارت آكلة سوداء، فهلك بذلك ودُفن بالثوية من أرض الكوفة(١) .

وكان في وصيّة زياد أن يُدفن عند أبي موسى الأشعريّ(٢) .

البلاذري: حدّثني عبّاس بن هشام عن أبيه عن أبي مخنف عن القاسم بن النضر العَبْسيّ عن أبيه عن عمّه قال: أرسل إلينا زياد لنعلن عليًّا ونَبْرأ منه، فإنّا لـمُجتمعون إذ أَغْفَيْتُ إغفاءةً فرأيت رجلاً أسود راعَني فقلتُ له: مَن أنت؟ فقال: أنا النقّاد ذو الرَقَبَة، ارسلت إلى هذا الشاتم صاحب الرَحَبَة، فأتانا رسول زياد فقال: انصرفوا فإنّ الأمير عليل، فعرَضتْ له الأَكِلَة(٣) فمات بعد ثلاثة أيّام، فقلت:

ما كانَ مُنْتهِياً عَمّا أراد بنا

حتّى أُتيحَ لَهُ النَقّاد ذو الرَقَبَة

فجلَّل الرأسَ منه ضَرْبةً عَجِلاً

لَـمّا تَنَاوَلَ بَغْياً صاحبَ الرَحَبَة(٤)

المدائني، قال: قدِم الهيثم بن الأسود بولاية زياد الحجاز، فقيل له قدم الهيثم بعَهْدِك على الحجاز، فقال: لَشَرْبة ماءٍ باردٍ أجد طَعْمَها أحبُّ إليَّ ممّا قدِم به الأسود، ولم يلبث أن مات(٥) .

أيّ عذابٍ يعاني منه الطاغية ابن سميّة وهو على قَيْد الحياة ينتظر ولايته على الحجاز التي باتت شربة ماء بارد يجد بردها لعلّها تسكّن قليلاً من حرارة ما يجد؛ فهي أحبّ إليه من ولاية الحجاز؛ ولَعذاب ربّك يوم الآخرة أشدّ نكالاً. فلا دنيا بقيت له ولا آخرة أدرك.

____________________

(١) مروج الذهب ٢: ٢٦.

(٢) أنساب الأشراف ٥: ٢٨٩.

(٣) الأَكِلَة: ديدان البطن.

(٤) أنساب الأشراف ٥: ٢٨٤ - ٢٨٥.

(٥) نفس المصدر السابق: ٢٨٦.

٦٧٦

ويُقال: إنّه طُعن في إصبعه فكان من شدّة الألم أن همَّ بقطع إصبعه فالإصابةُ في إصبعه والألمُ في قلبه ولم يلبث أن مات وهو زاهدٌ بولاية الحجاز!

قالوا: وكان زياد لا يقطع أمراً دون شُرَيح، فقال له: يا أبا أميّة ما ترى في قطع إصبعي؟ قال: سَلْ أهل الطبّ، فبعث إلى دينار مولى بكر بن وائل، فقال له: أين تجد الألم؟ قال: في قلبي، قال: عِشْ سويّاً ومُت سويّاً ولا تمثّلْ بنفسك؛ قالوا: وخرج شريح من عند زياد، فسألوه: كيف تركت زياداً؟ قال: تركتُه يأمر وينهى، عَنَى شريح أنّه يأمر بالوصيّة والكفن وينهى عن النوح والبكاء(١) .

وعن عَوانة، قال: لـمـّا شاور زياد شُرْيحاً في قطع إصبعه قال له: إن كان الأجَل قد حضرك لقيتَ الله وقد قطعتَ يدكَ فراراً من لقائه، وإن كان الأجلْ متأخّراً عِشتَ أَجْذَمَ فعُيّر بذلك ولدك، فلم يلبثْ أن مات(٢) .

لا أظنّ الطبيبَ قد نصح لزياد! فقطع يد مصابة ليس مثل قطع ثمانين يداً معافاةً وخمسمائة رأس في ساعة واحدة؛ والإثم! هو حبُّ عليّعليه‌السلام والتمسّك بولايته ورفض البراءة منه. وليس يدُ ابن سميّة بأشرف من الرؤوس التي سبّب قطعها لنفس السبب الماضي؛ وهل العذاب إنّما هو عذاب الأرواح والنفوس؛ فلعلّ الطبيب أراد له أن يذيقَه ألمَ يده مدّةً أطول.

وفي رواية للطبريّ وفيها: وخرج شريح فسألوه فأخبرهم بما أشار به فلامُوه وقالوا: هلاّ أشرت عليه بقطعها؟ قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (الـمُسْتَشار مُؤتَمن)(٣) .

____________________

(١) أنساب الأشراف ٥: ٢٨٦.

(٢) نفس المصدر السابق.

(٣) تاريخ الطبري ٤: ٢١٥.

٦٧٧

وفي رواية وبعد استشارته لشريح، قال: أنام والطاعون في لحافٍ! فعزم أن يفعل فلمّا نظر إلى النار والمكاوي جزع وترك ذلك(١) .

عمرو بن الحَمِق

عمرو(٢) بن الحمق(٣) بن الكاهِن(٤) بن حبيب بن عمرو بن القَيْن بن رَزاح بن عمرو ابن سعد بن كعب بن عمرو بن(٥) خُزاعة، الخزاعيّ.

من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٦) .

هاجر إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بعد الحُديبيّة، وقيل: بل أسلم عامَ حجّة الوداع(٧) ، والأوّل أصحّ. صحب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وحفظ عنه أحاديث، وسكن الكوفة(٨) .

روى عنه جُبَير بن نفير، ورفاعة بن شَدّاد القتبانيّ، وغيرُهما.

____________________

(١) نفس المصدر السابق.

(٢) النسب: ٢٩٠، طبقات ابن سعد ٦: ٢٥، طبقات خليفة: ١٠٧ و ١٣٦، تاريخ خليفة: ١٩٤ و ٢١٢، المعارف: ٢٩١ و ٥٥٤، جَمْهرة أنساب العرب: ٢٣٨، الإشتقاق: ٤٧٤، المحبَّر: ٢٩٢ و ٤٩٠، مسند أحمد ٥: ٢٢٣ و ٤٣٦، التاريخ الكبير ٦: ٣١٣ / ٢٤٩٩، المعرفة والتاريخ ١: ٣٣٠ و ٢: ٤٨٣ و ٣: ١٩٣، الجَرحْ والتعديل ٦: ٢٢٥ / ١٢٤٨، تاريخ الثقات، للعِجليّ: ٣٦٣ / ١٢٥٥، الثُقات، لابن حَبّان ٣: ٢٧٥، رجال ابن داود: ٢٥٨ / ١٠٩٦، رجال البرقي: ٤، بلاغات النساء، لابن طيفور: ٨٧ - ٨٩، تهذيب الكمال ٢١: ٥٩٦ / ٤٣٥٣، أُسد الغابة ٤: ١٠٠، الإصابة ٢: ٥٢٤، تهذيب الأشراف ٥: ٢٥٧ و ٢٨١، وقعَة صِفّين: ٦٥ و ١٠٣ ومواضيع أخرى، الإستيعاب ٢: ٥٢٤، مختصر تاريخ دمشق ١٩: ٢٠١ / ١٢٥، العِقْد الفريد ٣: ٣٣٣.

(٣) في جمهرة أنساب العرب (الجموح).

(٤) في الاشتقاق (الحَمِق الكاهن). وفي تهذيب الكمال (كاهِل).

(٥) في جمهرة أنساب العرب (عمرو بن لُحَيّ).

(٦) المصادر جميعاً.

(٧) تهذيب الكمال ٢١: ٥٩٧.

(٨) أُسد الغابة ٤: ٢١٧.

٦٧٨

عن عمرو بن الحمق، قال: إنّه سقى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال: (أللّهم متّعه بشبابِه). فمرّت عليه ثمانون سنة لا ترى في لحيته شعرة بيضاء(١) .

وعنه قال: سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: (ما من رجلٍ أمَّنَ رجلاً على دمه فقتله فأنا بريءٌ من القاتل وإن كان المقتول كافراً)(٢) .

وعنه عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (إذا أراد الله بعبدٍ خيراً عَسَلَهُ)(٣) .

وعن الأجلح بن عبد الله الكنديّ قال: وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال له: (يا عمرو أتحبُّ أن أُريكَ آيةَ الجنّة؟) قال: نعم يا رسول الله؛ فمرّ على عليّ فقال: (هذا وقومُه آيةُ الجنّة). فلمّا قُتل عثمان وبايع الناسُ عليًّا لزمه فكان معه حتّى أُصيبَ؛ ثمّ كتب معاوية في طلبه وبعث مَن يأتيه به(٤) .

شهادة النبيّ له بالصلاح

عن معمر، قال: بلغني أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان جالساً في أصحابه يوماً، فقال: (أللّهم أنجِ أصحابَ السفينة) ثمّ مكث ساعةً فقال: (قد استمرّت) فلمّا دنوا من المدينة، قال: (قد جاؤوا يقودهم رجلٌ صالح).

قال: والذين كانوا في السفينة الأشعريُّون، والذي قادَهم عمرو بن الحمق الخُزاعيّ؛ فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم: (من أين جئتم؟) قالوا: من زَبيدْ(٥) . قال النبيّ: (باركَ

____________________

(١) أسد الغابة ٤: ٢١٧، مختصر تاريخ دمشق ١٩: ٢٠٢، ولفظه: لم ير الشعرة البيضاء.

(٢) مختصر تاريخ دمشق ١٩: ٢٠١، وثقات العجليّ: ٣٦٣ مع اختلاف.

(٣) مختصر تاريخ دمشق. وفي مسند أحمد ٤: ٢٠٠: قيل: وما عسله؟ قال: يفتح الله عزّ وجلّ له عملاً صالحاً قبل موته، ثمّ يقبضه عليه.

(٤) مختصر تاريخ دمشق ١٩: ٢٠٢.

(٥) زبيد: مدينة مشهورة باليمن. (معجم البلدان ٣: ١٣١).

٦٧٩

الله في زَبيد). قالوا: وفي زَمْع(١) . قال: (بارك الله في زبيد). قالوا: وفي زَمْع يا رسول الله. قال في الثالثة: (وفي زَمْع)(٢) .

ذكره ابن سعد في زعماء الثوّار من أهل مصر ممّن نَقِم سياسة عثمان، قال: وكان رؤساؤهم أربعة: عبدالرحمن بن عُدَيس البَلَويّ، وسودان بن حُمران المراديّ، وابن البَيّاع، وعمرو بن الحَمِق الخُزاعيّ، لقد كان الاسمُ غلب حتّى يُقال: جيشُ عمرو بن الحَمِق(٣) .

شهادة الحسين له بالصلاح

ذكره ابنُ داود في رجاله: (عمرو بن الحَمِق صاحب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم، شهد له الحسين بالصلاح والعبادة)(٤) .

وقد مضت شهادة جدّه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عمرو بالرجل الصالح.

تشيّعُه

كان عمرو بن الحمق من شيعة أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام ، وحواريه. (وفي كتب أحاديث أصحابنا أحاديث كثيرة من كلماته وحِكَمه ومواعظه البليغة الدالّة على كمال علمه، وربّانيّته، وأنّه ممّن أُوتي الحكمة رضي الله تعالى عنه. وناهيك بما روي أنّه من حواري أمير المؤمنينعليه‌السلام) (٥) .

____________________

(١) زَمْع: من منازل حِمْيَر باليمن. (معجم ما استعجم ١: ٧٠٢).

(٢) مختصر تاريخ دمشق ١٩: ٢٠١ - ٢٠٢.

(٣) الطبقات الكبرى ٣: ٦٥. (وقد تكلّمنا بما فيه الكفاية من دواعي وأسباب الثورة على عثمان، وذلك في الجزء الثاني من شهداء الإسلام، فليلاحظ).

(٤) رجال ابن داود: ٢٥٨ / ١٠٩٦.

(٥) تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام، لحسن الصدر: ٤٠٦.

٦٨٠