شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية الجزء ٣

شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية0%

شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية مؤلف:
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 697

شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية

مؤلف: حبيب طاهر الشمري
تصنيف:

الصفحات: 697
المشاهدات: 162898
تحميل: 2840

توضيحات:

الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 697 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 162898 / تحميل: 2840
الحجم الحجم الحجم
شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية

شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية الجزء 3

مؤلف:
العربية

يومَ حُنَيْن: يا محمّد! قد رأيتُ ما صنعتَ هذا اليوم، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (أجل، فكيف رأيت؟) قال: لم أرك عدلتَ؛ فغضب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثمّ قال: (ويحك! إذا لم يكن العدل عندي فعند من يكون!...) وقد ذكرنا من أخباره في غير هذا المورد، وأنّه لـمـّا تولّى بعث رسول الله خلفه أبابكر ليقتله! فذهب أبوبكر ثمّ عاد وقال: وجدته يصلّي، فقال لعمر: مثل ذلك، فعاد وقال: وجدته يصلّي! فما أشبه هذا الإمتحان بيوم خيبر وحديث الراية، إذ امتحن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الرجلين فأعطى الأوّل الراية فمضى قليلاً ثمّ عاد يُجبّن أصحابه ويُجبّنه أصحابه؛ ثم أعطى الثاني الراية فعاد مثل صاحبه، فحينها قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (سأعطي الراية غدا رجلا يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله كرّار غير فرّار يفتح الله على يديه)، فلمّا كان الغد دعا عليًّاعليه‌السلام الذي شاء الله تعالى أن يرمد عينيه، فيكشف صفحة الآمر، والمنفّذ للتحريق؛ فكان الرجل الذي يحبّه الله ورسوله، وهو يحبّهما، ونتيجة هذا الحبّ أنّه كثير الكرّ، لا يفرّ أبداً. فمسح بريقه عينيه وأعطاه الراية فراح يهرول بها هرولةً! حتّى ركزها في أطم من آطام اليهود وقتل عظيمهم (مرحب) وقلع باب حصنهم فما زال بيده يذبّ به عن نفسه حتّى كان الفتح على يديه. وقد تكلّمنا عن حديث الراية مفصّلاً مع مصادره في موضع آخر، إلّا أنّ هذه الثلاثيّة التي أراد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لنا أن نتأمّل بها ونأخذ منها العبر؛ فكما في حديث الراية فغيره كثير مما يثير المشاعر ويفرض أكثر من سؤال لمعرفة مَن؟ ولماذا نحبّ ونوالي!!.

وفي حديث ذي الخويصرة التميميّ النجديّ: بعد أن رجع عمر وقال: وجدته يصلّي؛ لم يبق إلّا ذو الفقار وحامله أبو الحسنين عليّعليه‌السلام ، فبعثه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثمّ عاد وقال: (يا رسول الله، لم أجده). فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أما إنّه سيخرج من ضئضئ هذا قوم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرّمية...).

٦١

وقد تكلّمنا بتفصيل عن الخوارج الذين حذّر منهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصفاتهم وأنّ عليًّا سيتولّى قتالهم، وحثّ على قتالهم، وذكرنا فيه أمراً اقتضت الضرورة إعادة ذكره وهو ما رواه أبو سعيد الخدريّ: أنّ ذا الخويصرة التميميّ، وهو حرقوص بن زهير، أصل الخوارج؛ ثمّ ذكر خبره مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وعمر الذي شهد موقف حرقوص من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو ثاني اثنين بعثهما النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لقتل حرقوص، فما قتلاه وزعما أنّه كان يصلّي؛ فإنّ حرقوص هذا ارتفع شأنه زمن عمر بن الخطّاب إذ أمدّ عمرُ المسلمين بحُرقوص في قتال الهُرْمُزان.

إنّ حكم رسول الله في قتل حُرقوص، ماض لا يُغيّره أحد، حاله حال حكمه في لعن أُناس من بني أُميّة وبني مروان وحثّه على قتل معاوية إذا رُؤي على منبره...، فخالف في كلّ ذلك وخرج على أقوال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ فأَمدّ المسلمين بحرقوص المخدّج - أي ناقص اليد - وسلّط بني أميّة على الشام، ولـمّا نعى إلى أبي سفيان ابنه يزيد وقد مات واليا لعمر على الشام فجعل محلّه ابن هند معاوية فقال له أبو سفيان، ومن جعلت مكانه؟ قال عمر: معاوية؛ فقال أبو سفيان: وصِلَتُك رحِم، وفي قول: وصلتَ الرحم!

ولمّا جاء ابن هند أوّل مرّة إلى مكّة ذهب أوّلاً إلى عمر بن الخطّاب فسأله عمر: بمن بدأت؟ قال: بك بدأت، قال عمر: إبدأ بأبويك، وابدأ بهند أوّلاً!

وقد ذكرنا في التحقيق في نسب معاوية أنّه يُعزى إلى أربعة، وأنّها حينما جاءت تبايع مع النساء، وكان من شرط النبي عليهنّ فيما شرط: أن لا يزينين، فانبرت هند وقالت: وهل تزني الحرّة، فالتفت النبيّ إلى عمر وتبسّم.

ومثلما كان معجباً بابن هند ويسمّيه (كسْرى العرب)، فهو معجب بمواهب ذي

٦٢

الخُوَيْصِرة مع عاهته البدنيّة، وأمّا أمر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقتله، فقد ذهب مع كثير من أوامره وسننه إذ صار (عظاماً وَرْمَة!).

وبقي حُرْقوص ذو الخُوَيْصِرة التميميّ النجديّ إلى أيّام أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام ، وكان مع الخوارج يوم النهروان، فقتل في الأربعة آلاف منهم والذين لم يسلم منهم إلّا دون العشرة كما أخبر أميرالمؤمنين، فرّ أحدهم أو اثنان إلى (حرّان) فتناسلا هناك وكثر نسلهما، وحرّان موطن ومنشأ ابن تيميّة.

الخارجيّ الثالث: قالوا: والخارجيّ الثالث ابن تيميه، لخروجه على عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ، فتنقّصه وأنكر فضائله وفضائل أهل البيتعليهم‌السلام .

الخارجيّ الرابع: قالوا: والخارجيّ الرابع هو الأعرابيّ النجديّ محمد بن عبد الوهّاب التميميّ، وأتباعه الذين صاروا مذهباً جديدا وإن شئت قلت ديناً جديداً! فلهم عقيدتهم في ذات الله تعالى تباين عقيدة المسلمين، ولهم رأيهم في النار والبرزخ، والوسيلة وزيارة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وغير ذلك مما تفرّدوا به وكفّروا غيرهم من المسلمين واستحلّوا دماءهم على هذه المبتنيات التي يسمّونها الشرك الخفي فهو بنظرهم أعظم خطراً من الكفر الصريح ومع مرور الزمن، وببسط قوى الاستحمار يد أعراب نجد، صاروا من الفتوى الضالّة ومضايقة ضيوف الرحمن إلى تنظيمات إرهابيّة تفجرّ المساجد والمراقد المقدّسة وتستهدف الأسواق وكلّ مكان مزدحم لقتل أكثر عدد من النساء والأطفال والشيوخ؛ وفتاوى مشايخ الضلال الوهابيّين النجديّين تنطلق من مكّة المكرّمة تُعلن أنّ قتْلِ الشيعة أَولى من قتْلِ المحتلّين الأمريكان! وأنّ مَن قُتل أو قَتل نفسه في عمليّة انتحاريّة يستهدف بها الشيعة فإنّه يفتح عينيه ليجد نفسه إلى جوار النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتناول الطعام معه...!

٦٣

إنّ عقيدة ابن عبد الوهّاب هي نفسها عقيدة سَلَفه ابن تيميه، بل هو تبعٌ له في عقيدته وآرائه الفاسدة والتي كادت أن تبيد وتختفي مع هلاك صاحبها ابن تيميه؛ فأحياها بعد عدّة قرون هذا الأعرابي المنبعث من أرض الزلازل والفتن (نجد)، ومن عهده وحتى الآن فأتباعه عاكفون على ابن تيميه الذي خالف كلّ المذاهب الاسلاميّة، فهو (الإمام المطلق) و (شيخ الإسلام)، وهكذا يُسمّونه؛ لأنّ له آراءه الخاصّة وله مذهبه المستقلّ وإنّه لا يأخذ بفتاوى أئمّة المذاهب الأخرى. وعلى هذا فأتباع ابن عبد الوهّاب خارج المذاهب الإسلاميّة؛ فهم وهّابيّون تَيمِيون، عقيدةً ورأياً وفقهاً. فهم بهذا اللحاظ خوارج، وهم بجرائمهم مارقون من الدين كما يمرق السهم من الرميّة، وهم نواصب بُغاة؛ وجب عليهم من الأحكام ما وجب على أسلافهم، والله لا يهدي القوم الظالمين.

وإذا كان ذو الخويصرة التميمي النجدي قد خرج على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقول قال، فإنّ من يطالع التاريخ والسيرة وتراجم الرجال يجد الهَوْلَ؛ فذو الخويصرة سكت التاريخ عن سيرته غير ما ذكرناه إلّا أنَّ رجالاً ونساءً لهم ذكرٌ في التاريخ فسيحٌ قد كان منهم أمورٌ في حياة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، خرجوا بها على الله ورسوله ونزل في طائفة منهم قرآن؛ وبعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أركسوا في الفتنة فخرجوا على الله ورسوله وعترة الرسول وخالفوا القرآن والسّنّة وآذوا الله ورسوله في وليّ الأمر ووصيّ النبيّ وغصبوا إرث النبيّ وكذّبوا الصدّيقة الطاهرة فاطمة وردّوا شهادة وليّ الله، وفعلوا فعلتهم النكراء في تحريق باب بيت آل الرسول، وتسليط بني أميّة وابن هند خاصّة والافتتان به، وتسليط بني مُعيط على رقاب المسلمين ودرأ الحدّ عن الأعور الزنّاء المغيرة بن شعبة وجلد الشهود الثلاثة الذين أصرّ عمر على أنّهم رأوه يدخله فيها ويخرجه مثل

٦٤

دخول المرود بالمكحلة، فشهدواعلى ذلك فقال له: ذهب ثلثا دينك! فماذا بقي؟! فلمّا جاء ابن سُميّة زياد أوحى إليه عمر وفهمها زياد! ومع ذلك فقد شهد أنّه رآه جالسا منها بين فخذيها، فماذا يصنع؟ يعالجه من مرض وهي محرّم عليه؟! وجاء في شهادته أنّه رأى خصيتيه سوداوين يدردرين متبطننّها، أي بطنه على بطنها، ونفسٌ يعلو ونفسٌ ينزل! فهل كانا يتعبّدا؟! ومع ذلك أغلظ له عمر وقال: أرأيته يُدخله فيها كما يدخل المرود في المكحلة، فنكص زياد عن الشهادة أمام إصرار ابن حنتمة! وقد تذكّر قول عمر أوّل وروده عليه إذ قال: أرى وجه رجل لا يخزي الله على يديه صحابيّا من صحابة رسول الله، فكبّر عمر على هذا الفتح وأراد أن يجلد أبا بكرة أخا زياد، وقد جلده أوّلا! فقال أمير المؤمنين عليعليه‌السلام : (إن جلدته رجمت صاحبك بأحجاره) فكفّ عمر.

ولعمر مع المغيرة في هذه المرأة خبر ذكره أبو الفرج الأصفهاني، قال: (كانت أمّ جميل بنت عمر، التي رُمي بها المغيرة بالكوفة، تختلف إلى المغيرة في حوائجها فيقضيها لها. ووافقت عمر بالموسم والمغيرة هناك، فقال له عمر: أتعرف هذه؟ قال: نعم، هذه أمّ كلثوم بنت عليّ! فقال له عمر: أتتجاهل عليَّ؟! والله ما أظن أبا بكرة كذب عليك وما رأيتكم إلّا خفتُ أن أُرمَى بحجارةٍ من السماء!)(١) .

حقّ لعمر أن يدفع عن المغيرة الزنّاء الذي أحصن في الإسلام ثمانين إمرأة، غير مَن أُتّهم بالزنا بهنّ!

ومثلما كان ابن هند موضع إعجاب عمر على ما بيّنا وأنّه كان يسمّيه (كسرى العرب)؛ فإنّ المغيرة الذي صار فيما بعد أحد أفراد الهيئة الاستشاريّة لابن هند، وهو الذي أشار عليه بتعيين يزيد بعده، وكان يقول إثرَ ذلك: لقد وضعتُ رجل معاوية في

____________________

(١) الأغاني ١٦: ٩٩.

٦٥

غَرْز غَيٍّ إلى يوم القيامة! إنّ ابن المتمنّية المغيرة كان موضع إجلال وتقدير عند أبي بكر، ومحلّه لديه أرقى من الأنصار الذين ذكرهم القرآن بخير، وضمّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إليهم وجعل ذمّته ذمّتهم (الدم الدم، والهدم الهدم) وأوصى بهم خيرا وأن يحُسن إلى محسنهم ويُعفى عن مسيئهم.

عن المغيرة قال: كنت جالسا عند أبي بكر إذ عُرِض عليه فرسٌ له، فقال رجل من الأنصار: احْمِلْني عليها. فقال أبو بكر: لأن أحمل غلاما قد ركب الخيل على غُرْلَتِهِ - يعني الأقْلَف - أحبُّ إلىّ من أن أحملك عليها! فقال له الأنصاريّ: أنا خير منك ومن أبيك. قال المغيرة: فغضبت لـما قال لأبي بكر! فقمت إليه، فأخذتُ برأسه فركبتُه على أنفه - أي ضربت أنفه بركبتي -، فكأنّما كان عَزْلاء مَزَادةٍ - أي نزف دماً -، فتواعَدَني الأنصار أن يستقيدوا منّي، فيبلغ ذلك أبا بكر، فقام فقال: إنّه بلغني عن رجال زعموا أني ّ مُقيدُهم من المغيرة، ووالله لأنْ أُخرجَهم من دارهم أقرب إليهم من أن أُقِيدَهم من وَزَعة الله الذين يَزَعُون عنه!(١)

إنّ الأنصاريّ لم يتكلّم بسوء؛ جهده أن طلب من أبي بكر أن يحمله على الفرس، فإمّا تطيب نفسه لطلبه وإمّا يمتنع لسبب فيجيبه بأدب! لا أن يهينه فيثيره ويردّ عليه. وما مثل المغيرة الذي تزكم سيرته الأُنوف من مثل غَدْرِه ببني مالك، ومن قصّته قال المغيرة: كنّا قوما من العرب المتمسّكين بديننا ونحن سدنة اللّات، فأُراني لو رأيتُ قومي قد أسلموا ما تبعتهم - فلَكَ شيطان يغويك! - فأجمع نفر من بني مالك على الوفود على المقَوْقِس، وأجمعت الخروج معهم، وليس معهم أحدٌ من الأحلاف

____________________

(١) مختصر تاريخ دمشق ٢٥: ١٦٢ - ١٦٣. والوزعة الذين يمنعون من الشرّ! فنعمت التزكية للمغيرة الزنّاء الغدّار، وصبرا للأنصار على الأثرة!

٦٦

غيري، فأنزلنا في الكنيسة، وأجرى علينا ضيافة، ثمّ دعا بنا فنظر إلى رأس بني مالك فأدناه وأجلسه معه وسأله: أكلّ القوم من بني مالك؟ فقال: نعم، إلّا رجل واحد من الأحلاف، فعرّفه إيّاي، فكنت أهون القوم عليه، ووضعوا هداياهم بين يديه فسرّ بها، وأمر لهم بجوائز، وفضّل بعضهم على بعض، وقصّر بي فأعطاني شيئا قليلا لا ذكر له، ,اقبل بنو مالك يشترون الهدايا لأهلهم وهم مسرورون، ولم يعرض عليَّ رجلٌ منهم مواساةً؟

وخرجوا وحملوا معهم الخمر، فكانوا يشربون وأشرب معهم وتأبى نفسي تدَعُني ينصرفون إلى الطائف بما أصابوا، وماحباهم الملك ويخبرون قومي بتقصيره وازدرائه إيّاي، فأجمعت على قتلهم! فلمّا كنّا ببَيْسان(١) تمارضت وعصبت رأسي فوضعوا شرابهم ودعوني فقلت: رأسي يُصَدَّع، ولكن أجلس فأسقيكم... وجلست أسقيهم فجعلت أَصْرف لهم - أي خمراً صرفاً لا يخلطه بماء! - وأترعَ الكأسَ، فيشربون ولا يدرون، فأهْمَدَتُهمُ الكأس حتّى ناموا ما يعقلون، فقتلتهم جميعاً وهم ثلاثة عشر إنساناً، وأخذتُ جميع ما كان معهم...، ثمّ أسلمت وكنت أكون مع أبي بكر(٢) .

فما مثل المغيرة أن يُنتصر له ويُؤخذ منه الحقّ لأنصار الله ورسوله وفوق ذلك يتوعّد أبوبكر أهل المدينة التي آوت ونصرت ولم تجبن ولم تبخل، بأن يخرجهم من ديارهم من أجل المغيرة الذي كان مع أبي بكر. وسيرة المغيرة في جاهليّتة وبعد إظهاره الإسلام متأخّراً، وهو القائل - مرّ بنا -: كنّا قوما من العرب متمسّكين بديننا ونحن سدنة اللّات، فأراني لو رأيت قومي أسلموا ما تبعتهم؛ فلمّا أظهر الإسلام ارتفع! فازداد قُبحاً، فكيف صار عند أبي بكر أفضل من الأنصار وأنّه ممّن يُدفع به الشرّ! وأيّ شرّ

____________________

(١) بَيْسان: موضع في جهة خيبر من المدينة. معجم البلدان ١: ٥٢٧.

(٢) مختصر تاريخ دمشق ٢٥: ١٥٧ - ١٥٨.

٦٧

يعني أبوبكر؟ إلّا أن يكون من بطانته ويردّ عنه الأنصاريّ ويُنزف أنفه.

إنّ الذي كان من أبي بكر في حقّ الأنصار، امتدادٌ لموقفه منهم يوم السقيفة وما فعله صاحبه عمر بسيّد الأنصار سعد بن عُبادة ولم يطب خاطره حتّى أخرجه من مدينة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ ولم يهدأ له بال حتّى أرسل جنيّاً إليه فقتله بأرض الشأم.

ولم يكن الذي صنعوه مع الثقل الثاني من تركة النبيّ بعد القرآن، أهل بيت العصمة، الذين حربهم حرب لله ولرسوله، ولن يدخل الجنّة إلّا مؤمن وحبّ عليّ إيمان وبغضه نفاق، فكيف بحرق البيت عليه وعلى سيّدة نساء العالمين وسيّدي شباب أهل الجنّة؟!

إنّ كلّ ما ذكرناه وفي كلّ وقفة تأمّل نجد ثمّة خروج على الله تعالى ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعلى وليّ الله عليّعليه‌السلام ، ولم يُسَمَّ أولئك بالخوارج! ابتداء من هَتْكِ حُرمة بيت آل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهتك حرمة الأنصار، وغصبهم الحقوق، والخروج على رسول الله بتسليط من أمر بقتله مثل (حرقوص) ورفع شأنه وجعله مددا للمسلمين إلى أن قتل مع نظاره (الخوارج المارقة) يوم النهروان؛ فإن قيل: إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما أمر الأنصار بالصبر على ما سيجدونه من أثرة! فكذلك أوصى ابن عمّه ووصيّه عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام بالصبر على ما سيجده من القوم من تجاوز حدود الله تعالى وغصبه حقّه وحمله على البيعة ولذا فإنّ هذا يختلف عن شأن (حرقوص) الذي لا وصيّة فيه!

وجوابه: إنّ حرقوص لا شأن له إنّما هو من أعراب نجد، من تميم، قال قولاً لا يليق برسول الله، فاستحقّ القتل وحفلت كتب السير والتاريخ بذكره؛ وأمّا أن يخرج من يدعون بمسمّيات سامية! وهم يخالفون نصّ القرآن فيخرجون عليه، ويسمعون النبيّ يصرّح بحبّه وحبّ الله له، وأنّ على النار عقبة لا يجوزها أحد إلّا بولاء عليّ؛

٦٨

ويبايعونه يوم غدير خمّ ثمّ يخرجون عليه، ولم يُسمّهم ورعٌ يخاف المعاد لا يعبد الرجال على أسمائها، فيسمّهم في الخوارج ثمّ يلتمس لهم الأعذار مثل حال المارقين! إذ كانوا اثنا عشر ألفاً، فلمّا ناظرهم أمير المؤمنينعليه‌السلام ، تاب منهم ثمانية آلاف وبقي على حربه أربعة آلاف، فالناس متفاوتون في الفهم والتقوى والاجتهاد!

وهل كان عمر وأبوبكر إذ تماريا في حضرة رسول الله وارتفعت أصواتهما ونزل الوحي منكِراً عليهما ذلك! إلّا مجتهدين تأوّلا فأخطئا؟ وإن كثرت أخطاؤهما، فهما بشر، يُخطئان ويصيبان. وكثيرة حالات خروجهما وقد ذكرناها ومنها ما كان من إيذاء النبيّ ليلة وفاته لـمّا أراد أن يكتب وصيّته ومنعوه من ذلك! وليس قول ذي الخويصرة بأوجع ولا أكثر خروجاً على رسول الله وحرمان الأُمّة ممّا أراد لها نبيّها من خير، من قول عمر في رسول الله: دعوه، إنّ الرجل لَيَهْجُر! فطردهم رسول الله من رحمة الله؛ فأيّ الخروجين أعظم؟! ولا يسمّون فعل أبي بكر بواسطة خالد المخزوميّ! بالقبائل التي امتنعت عن بيعته إذ لم ترها شرعيّة؛ فأقامت على الإسلام وامتنعت من إعطائه الزكاة فأمر خالد بن الوليد بقتالهم أشدّ القتال ثمّ لم يترك أحداً قدر عليه إلّا أحرقه بالنار إحراقاً! وأن يسبي الذراري والنساء!! ويأخذ الأموال.

أن يخرج به غضبه من أجل أيّام معدودات! فيكون الذي ذكرناه منه بشأن الأنصار، وأمره لعمر بأن يأخذ عليًّاعليه‌السلام بأعنف العنف فكان تحريق باب البيت. وكان يرى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حروبه مع أعدائه من الأحزاب، وليس مع المسلمين مثل حرب أبي بكر، فهلّا اقتدى بسيرة رسول الله في حروبه؛ وليس على النساء والذراري جناح ولا له إليهم سبيل، فكيف سوّغ لخالد ذلك؟ هل خرج عن حكم الله، أم تأوّل، أو أوّل الحكم، وهو صحابيّ من العشرة.

٦٩

ومع ذلك تبقى مسألة التشفّي من القاعدين عن بيعته والأمر بعقابهم أشدّ العقاب، من ذلك التحريق بالنار التي بدأت ببيت أهل بيت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ! ونِعْمَت الخَلَف للنبيّ الواجب الطاعة في حفظ الثقل الثاني في وصيّته: (إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي) - قالها ثلاث مرّات -. فكان من الوفاء ولا نقول الخروج! غصبهم حقوقهم، وتأخيرهم عن مراتبهم التي رتّبها الله تعالى لهم، والنزو عليهم بقبس النار والحطب؛ ممّا مهّد للموتورين الأدعياء والمستلحقين و... أن يجرؤوا فيعدوا على هذا البيت الطاهر وشيعتهم تقتيلاً وتمثيلاً وسبياً وتشريداً....

وللطحاويّ أحمد بن محمّد الأزديّ المصريّ الحنفيّ (ت ٣١ هـ) تعليق على الحديث (حديث الثقلين) قال: (فمن أخرج عترة رسول الله صلّى الله عليه وعليهم من المكان الذي جعلهم الله به على لسان نبيّه ممّا قد وجدنا في هذه الآثار، فجعلهم كسواهم ممّن ليس من أهل بيته وعترته، كان به ملعوناً إذ كان قد خالف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما فعل من ذلك)(١) .

فكيف إذا صار الأمر إلى مساواتهم بسواهم بالتعنيف والتحريق؟! قلنا: مسألة التشفّي من القاعدين عن بيعة أبي بكر بأشدّ العقاب ومنه التحريق بالنار؛ فهل هذا مما يرتضيه الله ورسوله، أم هو خروج على الله ورسوله وسنن العرب في جاهليّتهم؟!

مبدأ عليّعليه‌السلام

وما أَبْيَن المبدأين! ففي يوم البعير، اجتمع خوارج الناكثين بعد أن أعطوه بيعتهم طواعيةً، وقد أخذ على طلحة بن عبيد الله التيميّ ابن عمّ أبي بكر التيميّ، وعلى الزبير

____________________

(١) مشكل الآثار، للطحاويّ ٤: ٢٥٤ / ٣٧٩٧.

٧٠

ابن العوّام الأيمان المغلّظة بأن لا ينكثا بيعتهما! بعدما راى منهما ما رأى من الحماس في حصار عثمان ومن النساء كانت عائشة قد خرجت على أمر الله ورسوله في أن تقرّ في بيتها، فخرجت تدور في السكك بين النساء والرجال تحرّض على قتل عثمان بن عفّان وترفع صوتها: (اقتلوا نعثلاً فقد كفر) تشبّه عثمان برجل يهوديّ اسمه نعثل، والعلّة أنّ عثمان أخّر حقّها بعض الوقت، وأمّا طلحة والزبير فقد خرجا عليه وكانا أشدّ المحاصرين له لأنّه خيّب آمالهما فلم يعيّنهما عمّالاً له فلمّا قتل جاءا إلى أمير المؤمنين يطلبان منه أن يعرض نفسه للخلافة وأنّهما أوّل من يبايعه، فامتنع وطلب أن يكون أحدهما صاحب الأمر فيبايعه، فأبيا وأظهرا إصرارهما على بيعته فقال: (هذا أمر لا يكون إلّا علانيّة)، فوافقاه، وحضر المسجد وخطب الناس فكان أوّل من مسح على يده طلحة، ثمّ الزبير، ثمّ تدافع الناس لبيعته. وفي البصرة أخذ جارية بن قُدامة السعديّ البيعة لأمير المؤمنينعليه‌السلام . وفي الكوفة بايع هاشم بن عُتبة المرقال أمير المؤمنين وقال: هذه يميني وشمالي لعليّ(١) .

وفي المدائن، بايع حذيفة بن اليمان لامير المؤمنين واضعاً يده اليمنى على اليسرى وحثّ الناس على بيعته ونصرته وقال: لا أبايع بعده لأحد من قريش، ما بعده إلّا أشعر أو أبتر! وقال: من أراد أمير المؤمنين حقّاً فليأت عليًّا(٢) .

ثمّة ملاحظة: كان على الكوفة أبو موسى الأشعريّ من قبل عثمان، فلمّا صار الأمر إلى أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وبايع هاشم المرقال على نحو ما علمت وكان يعلم ما نفس الأشعريّ، فكان ممّا قال بعد إعلانه بيعته:

____________________

(١) أنساب الأشراف ٣: ١٤.

(٢) نفس المصدر السابق: ١٧.

٧١

أبايعُ غير مُكتَتِم عليًّا

ولا أخشى أميري الأشعريّا(١)

ثمّ بايع أبو موسى! فقال عمّار حين بلغته بيعته: والله، لينكثنّ عهده ولينقضنّ عقده وليفرنّ جهده وليسلمنّ جنده! فلمّا كان من طلحة والزبير ما كان قعد يُثبّط أهل الكوفة عن أمير المؤمنين وكان يقول: الإمرة ما أُمّر فيها، والملك ما غُلب عليه. وكان يقول: هذه فتنة، حتّى وجّه عليّ عمّار بن ياسر، مع الحسن بن عليّ إلى الكوفة، وعزل أبا موسى(٢) .

(عمّار مع الحقّ والحقّ معه)، هكذا قال فيه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ومن كان هذا شأنه لا يغيب عنه معدن الرجال، فأبو موسى منحرف عن عليّعليه‌السلام ، خارج عليه، وكذلك ابنه أبو بُرْدة بن أبي موسى الأشعريّ الذي كتب شهادة الزور التي أرادها ابن سميّة زياد، على حُجر بن عَديّ رضوان الله عليه، فكتبها أبو بردة وزاد على ما أراد ابن سميّة وكثّر، وأمضاها في جملة خوارج يزيدون على ثلاثين أكثرهم ممّن شرك في قتل سبط رسول الله وريحانته سيّد شباب أهل الجنّة الحسين بن عليّعليهما‌السلام ، وأرسلوها إلى ابن هند ممّا أوغر قلب ابن آكلة الأكباد حقّاً! مع مقدّمات ذلك، فحجر من خاصّة عليّ أمير المؤمنينعليه‌السلام وقاتل معه يوم صفّين وله صولات مع ابن هند فيما بعد، فعمد إلى قتله في مجموعة من صحبه الكرام.

وتوكيد عمّاررضي‌الله‌عنه على خروج أبي موسى على أمير المؤمنين بنكث بيعته ونقض عقده وإسلام جنده؛ فقد سبقه إلى ذلك هاشم المرقال كبش العراق الذي أذاق أهل الشأم السمّ القاتل يوم صفّين، فهو يبايع عليًّا رغم أنف الصحابيّ الأشعريّ! وإن كان أمير الكوفة؛ وصدّق قول عمّار ما ذكرناه من قعود الأشعريّ عن بيعته وخروجه على

____________________

(١) أنساب الأشراف ٣: ١٤.

(٢) نفس المصدر السابق.

٧٢

عليّعليه‌السلام لـمّا سمع بحركة خوارج البعير، فكان منه الذي كان.

وفي الشام كان ابن هند والياً لعثمان ومن قبله لعمر، فأظهر الخلاف لأمير المؤمنين، ومنع واليه من دخول الشأم؛ فكانت فيما بعد وقعة صفّين بين أمير المؤمنينعليه‌السلام ومعه أهل الكوفة، وبين ابن هند ومعه أهل الخوارج من أهل الشأم الباغين.

وفي مكّة كانت عائشة التي خرجت على عثمان فلمّا جدّ الجدّ خرجت إلى مكّة مغاضبةً لعثمان، وكان بمكّة جمعٌ من بني أميّة فرّوا إليها بعد مقتل عثمان، كان منهم عبد الله بن عامر، وسعيد بن العاص، ومروان بن الحكم، وعبد الرحمن بن عتّاب بن أسيد بن أبي العاص؛ ومعهم المغيرة بن شعبة الثقفيّ؛ وكان يَعلى بن مُنية عامل عثمان على اليمن، فلمّا رأى وفود اليمن تترى على المدينة لمبايعة أمير المؤمنينعليه‌السلام خرج منها إلى مكّة ومعه أربعمائة بعير بحُملانها! وأموال وفيرة لينضمّ إلى الخوارج فصاروا جميعأً جبهة واحدة ضدّ الإمام أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام . واستأذن طلحة والزبير أمير المؤمنين في العمرة! فقال لهما: (لعلّكما تريدان البصرة)، فأقسما أنّهما لا يقصدان غير مكّة(١) .

وخرج معهما عبد الله بن عامر بن كريز، ابن خال عثمان، فجعل يقول لهما: أبشرا، فقد نلتما حاجتكما! والله لأمدّنّكما بمائة ألف سيف.

ما وجدت في فرق الخوارج مطلقاً جمعاً مثل هؤلاء! صحيح أنّك تجد غزالة من شجعان الخوارج، وهي التي وضعت سنان رمحها في كتف الحجّاج إذ ولّى هارباً بين يديها! وتجد من مشاهير الخوارج كحيلة، وقطام، إلّا أنّهم غالباً متجانسين في المبدأ والمنحدر القبليّ؛ وجُلّهم من تميم وغطفان، وفيهم من أسد، من أرض نجد أرض الزلازل والفِتَن وقَرْن الشيطان ويتاماه الوهّابيّين.

____________________

(١) مروج الذهب ٢: ٣٥٧.

٧٣

أمّا هؤلاء فأقطابهم طلحة والزبير أشدّ الناس في حصار عثمان، فإذا أشرف عليهم من سطح داره وسلّم لم يردّوا وإذا كلّمهم انتهروه! ولم ينجده إلّا القرآن الناطق أعني عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام إذ إذ أرسل ولديه الحسن والحسينعليه‌السلام وخادمه قنبر ليحرسوا دار عثمان ويدفعوا عنه وجرح الحسنان وشجّ قنبر ولـمّا أصاب عثمان الظمأ، أدخل أمير المؤمنينعليه‌السلام الروايا والقرب إليه، وفرّق عنه جموع الجماهير الناقمة عليه سياسته والذين وفدوا من الأقطار؛ فأفسد عليه مروان بن الحكم ما أصلحه إذ كتب على لسان عثمان إلى ولاة تلك الأقطار أن يوقعوا أشدّ العقاب بهذه الوفود إذا رجعت إلى بلدانها، وختم الكتاب بختم عثمان وأعطاه إلى غلام فوقع الغلام بأيديهم، فقرّروه فاعترف أنّ مروان هو الذي أعطاه الكتاب، فرجعوا إلى المدينة وأعطوا الكتاب إلى أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام ، فأخذه ودخل على عثمان وجرى بينهما كلام وخرجعليه‌السلام مغضباً... وانتهى الأمر بقتل عثمان.

مروان أمويّ كان مع عثمان في الدار وكان يقلّب عليه المواقف منها مسألة الكتاب ومجموعة من ركب الخوارج على أمير المؤمنينعليه‌السلام أمويّون وواحد ثقفيّ عزيز على قلب عمر على ما وصفنا، والقادة: تيميّ ابن عمّ أبي بكر، وآخر من آل العوّام الذين قيل إنّهم ليسوا من بني أسد بن عبد العزّى، إنّما هم من أرض مصر، من القبط، فقد ذكر أنّ خويلد بن أسد أتى أرض مصر ثمّ انصرف منها بالعوّام فتبنّاه وعاش الزبير يتيماً في كنف نوفل - ذكرنا تفاصيل ذلك وشعر حسّان يهجو آل العوام ويذكر أنّهم من القبط - وقد تعجّل بالسؤال: ما الذي جمع هذه الأطياف المتباينة من الخوارج، ففيهم قتلة عثمان وفيهم ابن خال عثمان وجمع من بني أميّة ومروان وابن العاص والمغيرة الثقفيّ؟! أم تقول: إنّ الشيطان استحوذ عليهم، فغضّ الموتور عن الواتر نظرة إلى

٧٤

حين بدليل أنّ ابن الزرقاء مروان لـمّا رأى الخوارج ينهزمون، رمى ابن الحضرميّة طلحة بسهم وقال: لا أطلب بثاري بعد اليوم. فأصاب السهم ركبة طلحة فكان الدم يسيل، فإذا أمسكوا ركبته انتفخت فقال: دعوه فإنّما هو سهم أرسله الله، أللّهم خذ لعثمان منّي اليوم حتّى ترضى)(١) .

وكان عبد الملك بن مروان يقول: لولا انّ أمير... أخبرني أنّه هو الذي قتل طلحة ما تركت من ولد طلحة أحداً إلّا قتلته بعثمان بن عفّان!(٢)

مزيد بيان: ذكرنا أنّ طلحة ابن عمّ أبي بكر؛ وزوج ابنته أمّ كلثوم بنت أبي بكر، وقد خلف عليها مصعب بن الزبير بن العوّام. والزبير هو صهر أبي بكر، زوجته أسماء بنت أبي بكر، ولدها عبد الله. ولعبد الله قصّة مفادها أنّه ابن متعة، ولذلك حينما تنقّص ابن عبّاس فقال فيما قال إنّه يفتي بالمتعة، أجابه ابن عبّاس: إذا نزلت من المنبر فسل أمّك أسماء عن بردي عوسجة، فلمّا سأل أمّه أقرّت له أنّه ابن متعة، وسيأتي بيانه مفصّلاً في موضع آخر وكان عبد الله ناصبيّاً شديداً حضر الجمل، وكان شديد اللهجة مع الزبير!

عائشة: بعد الذي كان من خروجها على عثمان توجّهت إلى مكّة فبلغها أنّ الناس بايعوا طلحة فقالت: إيه ذا الإصبع لله أنت، وجدوك لها محشاً، وأقبلت جذلةً مسرورة حتّى إذا انتهت إلى (سرف) (٣) استقبلها عبيد بن مسلمة الليثي، فسألته عن الخبر، قال: قتل الناس عثمان، قالت: ثمّ صنعوا ماذا؟ قال: خيراً، أخذها أهل المدينة بالاجتماع

____________________

(١) أنساب الأشراف ٣: ٤٣، طبقات ابن سعد ٢: ٢٢٢، الأخبار الطوال: ١٤٨، المصنّف، لابن أبي شيبة ٧: ٥٣٦. وفي مروج الذهب ٢: ٣٦٥ (جرحه عبد الملك في جبهته ورماه مروان في أكحله).

(٢) طبقات ابن سعد ٣: ٣٢٣.

(٣) سرف: موضع على ستّة أميال من مكّة. معجم البلدان ٣: ٢١٢.

٧٥

فجازت بهم الأمور إلى خير مجاز، اجتمعوا على ابن عمّ نبيّهم عليّ فبايعوه. فقالت: أو فعلوها؟! وددت أنّ هذه أطبقت على هذه، إن تمّت الأمور لصاحبك الذي ذكرت! ردّوني ردّوني إلى مكّة، وهي تقول: قتل عثمان مظلوماً! والله لأطلبنّ بدمه! فقال لها عبيد بن مسلمة: فلم، فو الله إنّ أوّل من أمال حرفه لأنتِ، ولقد كنت تقولين: أقتلوا نعثلاً فقد كفر!! قالت: إنّهم استتابوه ثمّ قتلوه، وقد قلت وقالوا وقولي الأخير خير من قولي الأوّل، فقال لها عبيد:

مِنكِ البَداءُ ومِنك الغِيَر

ومِنك الرِّياحُ ومِنك المطَرْ

وأنت أمرتِ بقتلِ الإمام

وقُلتِ لنا: إنّه قد كَفَرْ!

فهَبنا أطعناكِ في قتلِه

فقاتلُه عندنا مَن أَمرْ

فانصرفت إلى مكّة فنزلت على باب المسجد، فقصدت للحجر فسترت، واجتمع إليها الناس فقالت: إنّ عثمان قُتل مظلوماً، ووالله لأطلبنّ بدمه!(١)

واجتمع الخوارج من ناكثي البيعة طلحة والزبير، ومعهم مروان وعقدوا مع عائشة صفقة خاسرة هي الخروج على أمير المؤمنينعليه‌السلام بتهمة قتل عثمان التي أوّل من يوقف إلى الحساب عليها رؤوس الخوارج هؤلاء، وليس معاوية عنها ببعيد إذ استنجده عثمان فما أجابه وخذله، وخرج بعد ذلك يطلب بدمه، ولا أظنّ أنّ له حقّاً في ذلك، فشرعاً أتباع البعير هم المسؤولون عن دم عثمان يشاطرهم في ذلك ثوّار الأقاليم الناقمون على عثمان سياسته، مع تحميل مروان جانباً كبيراً من تلك المسؤوليّة بتقليبه المواقف على عثمان ممّا زاد في نقمة الثوّار على عثمان. مضافاً إلى ما ذكرناه من خذل ابن

____________________

(١) أنساب الأشراف ٣: ١٨، تاريخ الطبريّ ٣: ٤٧٦ - ٤٧٧، الفتوح ٢: ٢٤٩، تذكرة الخواصّ: ٦٦، الكامل في التاريخ ٣: ١٠٢.

٧٦

هند له ومعه الأبدال! من أهل الشأم. ولعلّ خذله لعثمان الأمويّ ينضاف إلى ما ذكرناه من تحقيق في نسبه وأنّه ليس لأبي سفيان، إنّما هو لأربعة رجال، وفي قول: للصُّبّاح مغنٍّ أسود.

ونشط الخوارج لحرب أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وكان أشدّهم عائشة بنت أبي بكر التي كانت بالأمس تجول بين الرجال رافعة صوتها: اقتلوا نعثلاً فقد كفر! واليوم تطلب بدمه عمّن نصره وجرح ولده في الدفاع عنه، ولولاه لـما دفن عثمان! وقد أمره رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقتال ثلاث فرق: الناكثين وهم خوارج البعير، والقاسطين وهم خوارج البغاة من أهل الشأم مع ابن هند وخوارج المارقين يوم النهروان؛ فهلّا سمعت عائشة الحديث كما سمعته أمّ سلمة وروته في جمع من الصحابة فوقع كما حدّث بهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فكان من أعلام النبوّة، وهي كثيرة، أم أنّ لها شيطاناً يعتريها فتنسى مثلما نسيت تحذير النبيّ لها من خروجها وحذّرها أن تنبحها كلاب الحَوْأَب، فنبحتها فتذكّرت فقالت ردّوني فأقام لها الحواري! وابنه وطلحة المبشّر شهوداً أنّها ليست كلاب الحوأب، فتذكرت عليًّاعليه‌السلام فمضت في القيادة.

عن أبي سعيد الخدريّ، قال: أمرنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين. فقلنا يا رسول الله، أمرتنا بقتال هؤلاء، فمع من؟ فقال: (مع عليّ معه يُقتل عمّار)(١) .

____________________

(١) أسد الغابة ٤: ١١٤، المناقب، للخوارزميّ: ١٩٠؛ ثمّ ذكره نفس المصدر حديث رقم ٢٢٦، والحاكم في المستدرك على الصحيحين ٣: ١٣٩ من حديث أبي أيّوب الأنصاريّ. وفي المناقب، للخوارزمي: ١٧٧ حديث ٢١٤. قالت أمّ سَلَمَة لأبي ثابت مولى أبي ذرّ: أين طار قلبك حين طارت القلوب مطايرها؟ قال: مع عليّ بن أبي طالب، قالت: وفّقت، والذي نفس امّ سلمة بيده لسمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: (عليّ مع القرآن والقرآن مع عليّ، لمن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض). ولقد بعثت ابني، وابن أخي عبد الله، وأمرتهما أن يقاتلا مع عليّ من قاتله، ولولا أنّ رسول الله أمرنا أن نقرّ في حجالنا أو في بيوتنا، لخرجت حتّى أقف في صفّ عليّ. انظر فرائد

٧٧

نهدت عائشة تحرّض على أميرالمؤمنين، وأقبلت على أمّ سلمة زوجة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وراحت تتزلّف لها لتقنع بالخروج معها، فقالت لها أمّ سلمة: يا بنت أبي بكر! بدم عثمان تطلبين! والله لقد كنت من أشدّ الناس عليه وما كنت تسمّيه إلّا نعثلاً، فما لك ولدم عثمان...، أعلى عليّ وابن عمّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تخرجين وقد بايعه المهاجرون والأنصار؟! ثمّ جعلت أمّ سلمة تذكّر عائشة فضائل عليّ، وابن أختها أسماء: عبد الله على الباب يسمع ذلك، فصاح بأمّ سلمة: يا بنت أبي أميّة!! إنّنا قد عرفنا عداوتك لآل الزبير! فقالت أمّ سلمة: والله لتوردنّها ثمّ لا تصدرنّها! أتطمع أن يرضى المهاجرون والأنصار بالزبير وصاحبه طلحة وعليّ بن أبي طالب حيّ وهو وليّ كلّ مؤمن ومؤمنة؟! فقال عبد الله: ما سمعنا هذا من رسول الله ساعة قطّ! فقالت أمّ سلمة إن لم تكن سمعته فقد سمعته خالتك عائشة وها هي فاسألها؛ فقد سمعته يقول: (عليٌّ خليفتي عليكم في حياتي ومماتي، فمن عصاه فقد عصاني). أتشهدين يا عائشة بهذا؟ فقالت عائشة: أللّهم نعم! فقالت أمّ سلمة: فاتّقي الله يا عائشة في نفسك واحذري ما حذّرك الله ورسوله ولا تكوني صاحبة الحوأب، ولا يغرنّك الزبير وطلحة فإنّهما لا يغنيان عنك من الله شيئاً.

____________________

السمطين ١: ١٧٧، الخصائص الكبرى ٢: ٢٣٥، مناقب أميرالمؤمنين، للكوفيّ: ٢ ح ٨٠٨ و ٨٢٩ و ١٠٤٨ و ١٠٧٢؛ كلّها عن عليّعليه‌السلام ، وحديث ١٠٨ عن عمّار؛ ومختصر تاريخ دمشق ١٨: ٥٤، عن عليّعليه‌السلام . ونفس المصدر عن أمّ سلمة عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - والحديث طويل -، وصفحة ٥٥ منه عن أبي سعيد الخدريّ قال: أمرنا رسول الله بقتال الناكثين...، نفس لفظ الحديث السابق. وأيضاً عن أبي أيّوب الأنصاريّ. والمعجم الكبير للطبرانيّ ١٠: ٩١ / ١٠٠٥٣ عن عمّار، المعجم الأوسط ٩: ١٩٨ عن عليّعليه‌السلام ؛ أعاده الكوفيّ عن عليّعليه‌السلام ٢: ٤٢١ / ١٠٤٨ و ١٠٤٩ وفيه قال: الناكثون أهل الجمل، والمارقون أهل الخوارج، والقاسطون أهل الشأم.

أقول: إن لم تستطع عائشة أن تفعل خيراً لعليّعليه‌السلام ، فهلّا أطاعت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكفّت شرّها عن عليّ، وقعدت في حجلتها أو بيتها ولم تكن مع الخوارج تتقدّم الرجال؟!

٧٨

وخرجت عائشة من عند أُمّ سلمة وهي حَنِقةٌ عليها؛ ثمّ إنّها بعثت إلى حَفْصة بنت عمر بن الخطّاب، لتخرج معها إلى البصرة، فأجابتها حفصة إلى ذلك، إلّا أنّ عبد الله بن عمر حال بينها وبين الخروج(١) .

( فَإِنّهَا لاَ تَعْمَى‏ الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَي الْقُلُوبُ الّتِي فِي الصّدُور ) (٢) .

وإلاّ، ما هذا الحقد الموروث والناصبيّة الشديدة والحسد لبيت النبوّة وكبير البيت سيّد الوصيّين عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ! فإنّ عائشة التي حرّقت الأرض على عثمان، ما أن سمعت أنّ وليّ الأمر بصريح القرآن وأحاديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد آلت إليه خلافة المسلمين بالإجماع حتّى شهقت وتمنّت أن تنطبق السماء على الأرض! وصار نَعْثل عثمان المقتول ظلماً! وأنّها المكلّفة بالقيادة وحشد الخوارج لأخذ ثأر نَعْثل أعني عثمان الإمام! من عليّ بن أبي طالب.

ولم تجد غير أمّ سلمة هذه المرأة المؤمنة الصالحة العاقلة، حتّى تبدأ بها فتدعوها إلى النار بالخروج على من حبّه إيمان وبغضه نفاق، وحربُه حربٌ لله ورسوله؛ فبدأت بها أمّ سلمة تذكّرها بأنّها أشدّ الناس على عثمان وما كانت تسمّيه إلّا نَعْثلاً، ثمّ عطفت على خروجها على رجل بايعه المهاجرون والأنصار؛ وكأنّها تريد أن تقول أنّها بيعة إجماع ولم تكن فلتة وقى الله شرّها! وراحت تذكّر عائشة بفضائل أمير المؤمنين وتردّ على الناصبيّ عبد الله الذي لم يكن مؤدّباً في خطابه لأُمّ المؤمنين أمّ سَلَمة إذ قال لها: يا بنت أبي أميّة! ولقد كانت أُمّ سلمة من الذكاء والحكمة بمكان إذ أشهدت عائشة على نفسها أنّها سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: (عليٌّ خليفتي عليكم في حياتي ومماتي، فمن

____________________

(١) الفتوح ٢: ٢٨٢ - ٢٨٣، تاريخ الطبريّ ٣: ٤٧٠.

(٢) الحجّ: ٤٦.

٧٩

عصاه فقد عصاني)، أي أنّ لعليّ أن يُنفذ أحكامي التي حكمتها فيكم وأنا موجود معكم أو حال مماتي، وعائشة تعرف هذا المعنى الذي ذهبت إليه أمّ سلمة، وذلك أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طلّق عائشة وحفصة وجاءه أبوبكر وعمر وراجعاه فيهما فقبلهما وجعل أمرهما إلى عليّعليه‌السلام ، ولذلك حين انتهت وقعة البعير ولجأت عائشة ومروان في جمع إلى دار، أرسل إليها أمير المؤمنين أن تخرج وتذهب إلى المدينة فعصت، فجاءها وهدّدها بإمضاء ما خوّله رسول الله، ولولت واستجابت وحينما سئلت أجابت عن سرّ ذلك - نوضّحه في موضعه -.

ثمّ حذّرتها ممّا حذّرها منه الله ورسوله، فلا تكون صاحبة الحوأب، وعائشة سمعت ذلك من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولكن أبت إلّا خروجاً على الله ورسوله ووليّه.

إجتماع الخوارج: ثمّ إنّ القوم اجتمعوا في دار عائشة، وأداروا أمرهم فاستقرّ على المسير إلى البصرة، وانطلقوا إلى حفصة بنت عمر فقالت: رأيي تبع لعائشة إلّا أنّ عبد الله بن عمر منعني. وجهّزهم يَعلى بن مُنْية، ومنية أمّه بها يُعرف(١) ، بالمال والجمال، فارتحلوا. وكتبت أمّ سلمة رضي الله عنها إلى أمير المؤمنينعليه‌السلام تعلمه الخبر، وكتبت إليه بذلك أم الفضل بنت الحارث. سار البعير وعلى ظهره عائشة بنت أبي بكر وخلفه الرجال حتى إذا بلغت مياه بني عامر اعترضتها الكلاب ونبحتها فقالت: ما اسم هذا الموضع؟ فقال لها السائق لجملها: الحوأب(٢) ، فاسترجعت وذكرت ما قيل لها في ذلك فقالت: رُدّوني إلى حرم رسول الله، لا حاجة لي في المسير، فقال الزبير: بالله! ما هذا ماء

____________________

(١) جمهرة أنساب العرب: ٢٣٢. وفي جمهرة النسب: ٢١٢: يعلى بن أميّة بن أبي عبيدة، ابن منية، وهي أمّه، حليف بني نوفل بن عبد مناف. وكان عاملاً لعثمان على اليمن. فهم بين دعيّ ولصيق ومتردّد في النسب وأبناء أمّهات وأحلاف.

(٢) الحوأب: موضع بئر في طريق البصرة. معجم البلدان ٢: ٣١٤.

٨٠