دلائل الصدق لنهج الحق الجزء ٣

دلائل الصدق لنهج الحق0%

دلائل الصدق لنهج الحق مؤلف:
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف: مفاهيم عقائدية
ISBN: 964-319-356-x
الصفحات: 420

دلائل الصدق لنهج الحق

مؤلف: الشيخ محمد حسن المظفر
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف:

ISBN: 964-319-356-x
الصفحات: 420
المشاهدات: 164854
تحميل: 2472


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 420 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 164854 / تحميل: 2472
الحجم الحجم الحجم
دلائل الصدق لنهج الحق

دلائل الصدق لنهج الحق الجزء 3

مؤلف:
ISBN: 964-319-356-x
العربية

خلق الفعل عقيب الاختيار ، فأجاب بما سمعته.

وكيف يدّعيه المصنّف وكلّ أحد يعلم أنّ ما جعلوه مخلصا هو وجود الاختيار لا وجوب خلق الله الفعل عقيبه؟!

وبهذا تعرف مقدار تدبّر هذا الخصم! * * *

٣٢١

قال المصنّف ـ رفع الله درجته ـ (١) :

وأمّا الثاني : فلأنّ كون الفعل طاعة أو معصية ، إمّا أن يكون نفس الفعل في الخارج ، أو أمرا زائدا عليه.

فإن كان الأوّل ، كان أيضا من الله تعالى ، فلا يصدر عن العبد شيء ، فيبطل العذر.

وإن كان الثاني ، كان العبد مستقلّا بفعل هذا الزائد.

وإذا جاز إسناد هذا الفعل ، فليجز إسناد أصل الفعل!

وأيّ ضرورة للتمحّل بمثل هذه المحاذير الفاسدة التي لا تنهض بالاعتذار؟!

وأيّ فارق بين الفعلين؟! ولم كان أحدهما صادرا عن الله تعالى والآخر صادرا عن العبد؟!

وأيضا دليلهم آت في هذا الوصف ، فإن كان حقّا عندهم امتنع إسناد هذا الوصف إلى العبد ، وإن كان باطلا امتنع الاحتجاج به.

وأيضا كون الفعل طاعة ، هو كون الفعل موافقا لأمر الشريعة ، وكونه موافقا لأمر الشريعة إنّما هو شيء يرجع إلى ذات الفعل ، إن طابق الأمر كان طاعة ، وإلّا فلا.

وحينئذ لا يكون الفعل مستندا إلى العبد ، لا في ذاته ، ولا في شيء من صفاته ، فينتفي هذا العذر أيضا كما انتفى عذرهم الأوّل.

__________________

(١) نهج الحقّ : ١٢٧.

٣٢٢

وأيضا الطاعة حسنة والمعصية قبيحة ، ولهذا ذمّ الله تعالى إبليس وفرعون على مخالفتهما أمر الله.

وكلّ فعل يفعله الله تعالى فهو حسن عندهم ، إذ لا معنى للحسن عندهم سوى صدوره من الله.

فلو كان أصل الفعل صادرا من الله امتنع وصفه بالقبح وكان موصوفا بالحسن.

فالمعصية التي تصدر من العبد إذا كانت صادرة من الله امتنع وصفها بالقبح ، فلا تكون معصية ، فلا يستحقّ فاعلها الذمّ والعقاب ، فلا يحسن من الله تعالى ذمّ إبليس وأبي لهب وغيرهما ، حيث لم يصدر عنهم قبيح ولا معصية ، فلا تتحقّق معصية من العبد ألبتّة!

وأيضا المعصية قد نهى الله تعالى عنها إجماعا ، والقرآن مملوء من المناهي والتوعّد عليها.

وكلّ ما نهى الله عنه فهو قبيح ، إذ لا معنى للقبيح عندهم إلّا ما نهى الله عنه ، مع إنّها قد صدرت عن إبليس وفرعون وغيرهما من البشر.

وكلّ ما صدر من العبد فهو مستند إلى الله تعالى ، والفاعل له هو الله لا غير عندهم ، فيكون حسنا وقد فرضناه قبيحا ، وهذا خلف.

وأمّا الثالث : فهو باطل بالضرورة ، إذ إثبات ما لا يعقل غير معقول ، وكفاهم من الاعتذار الفاسد اعتذارهم بما لا يعلمون.

وهل يجوز للعاقل المنصف من نفسه المصير إلى هذه الجهالات ، والدخول في هذه الظلمات ، والإعراض عن الحقّ الواضح ، والدليل اللائح ، والمصير إلى ما لا يفهمه القائل ولا السامع؟!

٣٢٣

ولا يدري هل يدفع عنهم ما التزموا به أو لا؟! فإنّ هذا الدفع وصف من صفاته ، والوصف إنّما يعلم بعد علم الذات ، فإذا لم يفهموه كيف يجوز لهم الاعتذار به؟!

فلينظر العاقل في نفسه قبل دخوله في رمسه ، ولا يبقى للقول مجال ، ولا يمكن الاعتذار بهذا المحال!

* * *

٣٢٤

وقال الفضل (١) :

القول الثاني الذي ذكره في معنى الكسب هو مذهب القاضي أبي بكر الباقلّاني من الأشاعرة

ومذهبه : إنّ الأفعال الاختيارية من العبد واقعة بمجموع القدرتين ، على أنّ تتعلّق قدرة الله تعالى بأصل الفعل ، وقدرة العبد بصفته ، أعني بكونه طاعة أو معصية إلى غير ذلك من الأوصاف التي لا يوصف بها أفعاله تعالى ، كما في لطم اليتيم تأديبا أو إيذاء ، فإنّ ذات اللطم واقعة بقدرة الله تعالى وتأثيره ، وكونه طاعة على الأوّل ومعصية على الثاني بقدرة العبد وتأثيره(٢) .

هذا مذهب القاضي ، وهو غير مقبول عند عامّة الأصحاب ؛ لشمول الأدلّة المبطلة لمدخلية اختيار العبد في التأثير في أصل الفعل تأثيره في الصفة بلا فرق.

وهذا الإبطال مشهور في كتب الأشاعرة(٣) فليس من خواصّه.

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ٢ / ١٣٩.

(٢) التقريب والإرشاد ١ / ٢٣٢ ـ ٢٣٣ ، تمهيد الأوائل : ٣٤٧ ، المواقف : ٣١٢ ، شرح المواقف ٨ / ١٤٧.

(٣) المعروف أنّ أوّل من أثبت من الأشاعرة تأثيرا غير مستقلّ لقدرة العبد في الفعل هو أبو المعالي الجويني في كتابه « النظامية » كما في العلم الشامخ : ٣٣١ ، وحكاه عنه كذلك الشهرستاني في الملل والنحل ١ / ٨٥ ، وردّه الشهرستاني في نهاية الإقدام في علم الكلام : ٧٨ ـ ٧٩ قائلا باستحالة هذا التأثير.

هذا ، ولم يعرف للأشاعرة قول بتأثير قدرة العبد إلّا عند متأخّريهم ، كالشعراني في اليواقيت والجواهر ١ / ١٣٩ ـ ١٤١ ، والزرقاني في مناهل العرفان ٢ / ٢٩ ـ ٣٢.

٣٢٥

وأمّا باقي ما أورده على معنى الكسب حسب ما هو مذهب القاضي فغير وارد عليه ، ونحن نبطله حرفا بحرف ، فنقول :

أمّا قوله : « كون الفعل طاعة هو كون الفعل موافقا لأمر الشريعة ، وكونه موافقا لأمر الشريعة إنّما هو شيء يرجع إلى ذات الفعل » إلى آخر الدليل.

فجوابه : إنّا لا نسلّم أنّ كونه موافقا لأمر الشريعة شيء يرجع إلى ذات الفعل ، فإنّ المراد من رجوعه إلى ذات الفعل إن كان المراد أنّه ليس صفة الفعل ، بل هو ذات الفعل ، فبطلانه ظاهر.

وإن كان المراد أنّه راجع إلى الذات ، بمعنى أنّه وصف للذات فمسلّم ، لكن لا نسلّم عدم جواز إسناده إلى العبد باعتبار الصفة ، وهذا أوّل الكلام.

ثمّ إنّ ما ذكر أنّ : « الطاعة حسنة والمعصية قبيحة وكلّ فعل يفعله الله تعالى فهو حسن عندهم ، إذ لا معنى للحسن عندهم سوى صدوره من الله ، فلو كان أصل الفعل صادرا من الله امتنع وصفه بالقبح وكان موصوفا بالحسن » إلى آخره.

فجوابه : إنّ الطاعة حسنة والمعصية قبيحة عند الأشاعرة ، ولكنّ مدرك هذا الحسن والقبح هو الشرع لا العقل ، فكلّ فعل يفعله الله تعالى فهو حسن بالنسبه إليه ، وربّما يكون قبيحا بالنسبة إلى المحلّ كالعاصي.

قوله : « فلو كان أصل الفعل صادرا من الله تعالى امتنع وصفه بالقبح ».

قلنا : المعصية صادرة من العبد مخلوقة لله تعالى ، وكلّ ما كان صادرا

٣٢٦

من الله تعالى كالخلق ، امتنع وصفه بالقبح.

والمعصية صادرة من العبد ويجوز وصفها بالقبح ، فلا يلزم شيء ممّا ذكره بتفاصيله.

وأمّا قوله : « وأمّا الثالث : فهو باطل بالضرورة ، إذ إثبات ما لا يعقل غير معقول ».

فنقول : هذا القول إن صدر من الأشاعرة ، يكون مراد القائل : إنّ هناك شيء ينسب إليه أوصاف فعل العبد ، ولا بدّ من إثبات شيء لئلّا يلزم بطلان التكليف والثواب والعقاب ، ولكنّه غير معلوم الحقيقة ، وعلى هذا الوجه لا خلل في الكلام.

* * *

٣٢٧

وأقول :

لا يخفى أنّ نسبة القول الثاني إلى القاضي الباقلّاني منافية لقوله سابقا : « هذه الأقوال ما رأيناها في كتب الأصحاب »!!(١) .

والظاهر : إنّ المصنّف مختصّ بإبطال مذهب القاضي بالوجوه المذكورة ؛ لأنّ ما تخيّل الخصم مشاركة المصنّف للأشاعرة فيه هو قوله :

« وأيضا : دليلهم آت في هذا الوصف » ، وهو ـ كما ترى ـ توطئة للإيراد لا نفسه ؛ لأنّ المنظور إليه في الإيراد هو قوله بعده : « فإن كان ـ أي دليلهم ـ حقّا امتنع إسناد هذا الوصف إلى العبد ، وإن كان باطلا امتنع الاحتجاج به ».

وبهذا تعلم أنّ الخصم لم يجب عن هذا الوجه ، كما أنّه لم يتعرّض للجواب عمّا قبله الذي هو أوّل الوجوه.

واعلم أنّ المصنّف أبطل قول القاضي بخمسة وجوه :

الأوّلان منها راجعان إلى إبطال تفرقة القاضي بين الفعل وصفته.

وثالثها : إلى إبطال قوله بإسناد الوصف إلى العبد.

وأخيراها : إلى إبطال قوله بأنّ أصل الفعل من الله تعالى.

وقد عرفت أنّ الخصم أغفل جواب الأوّل ، ولم يفهم الثاني ، كما أنّه أغفل جواب الأخير ، وهو ما ذكره المصنّف بقوله : « وأيضا المعصية قد نهى الله تعالى عنها » إلى آخره.

وحاصله : إنّ المعصية ـ يعني أصل الفعل ـ كالزنا منهيّ عنه ، وكلّ

__________________

(١) تقدّم في الصفحة ٣١٤ من هذا الجزء.

٣٢٨

ما نهى الله تعالى عنه قبيح ، فإذا زعم القاضي وقومه أنّ الزنا مثلا فعل الله تعالى كان حسنا ، وهذا خلف.

وأمّا الثالث ، وهو الذي ذكره بقوله : « وأيضا : كون الفعل طاعة هو كون الفعل موافقا لأمر الشريعة »

فقد أجاب عنه الخصم بقوله : « فجوابه : إنّا لا نسلّم » إلى آخره.

وردّد فيه بمراده بالرجوع بين أمرين لم يردهما قطعا ، فإنّ مراده بالرجوع في قوله : « وكونه موافقا لأمر الشريعة يرجع إلى ذات الفعل » هو استناد الموافقة إلى ذات الفعل ، لا أنّها ذاته أو وصفه كما تخيّله الخصم.

وحاصل مقصود المصنّف ـ كما هو صريح كلامه ـ : إنّ معنى كون الفعل طاعة هو كونه موافقا للأمر ، وكونه موافقا له مستند إلى ذات الفعل ، لا إلى العبد ، فكيف يقول القاضي باستناد الطاعة إلى العبد؟! ومنه يعلم ما في قول الخصم : « لا نسلّم عدم جواز إسناده إلى العبد باعتبار الصفة ».

وأمّا ما أجاب به عن الرابع بقوله : « ثمّ إنّ ما ذكر أنّ الطاعة حسنة » إلى آخره

فخطأ ظاهر ؛ لأنّ حاصل مراد المصنّف بهذا الوجه أنّه لو كان أصل الفعل صادرا عن الله تعالى ـ كما يزعمه القاضي وقومه ـ لكان حسنا وامتنع قبحه ، فلا يكون معصية ؛ لأنّها قبيحة فلا تتحقّق من العبد معصية ألبتّة ، ولا يحسن ذمّه وعقابه!

والحال : إنّا علمنا أنّ الله سبحانه ذمّ إبليس وأبا لهب وغيرهما ، وهذا وارد على القاضي وقومه ، سواء كان الحسن والقبح عقليّين أم شرعيّين ، لامتناع كون فعل الله تعالى قبيحا بقبح عقلي أو شرعي.

٣٢٩

ولا نعقل ما ذكره الخصم وأصحابه أنّ الفعل الواحد الشخصي يكون حسنا بالنسبة إلى فاعله المؤثّر فيه ، قبيحا بالنسبة إلى محلّه الذي لا أثر فيه أصلا.

كما إنّه لا معنى لجعل المعصية صادرة من العبد مخلوقة لله تعالى ، فإنّه أشبه باللغو ، إذ كيف يمكن إثبات صدورها ممّن لم يوجدها ونفي صدورها عن خالقها وموجدها؟! وهل معنى للخلق إلّا الصدور والإيجاد؟!

هذا ، ويمكن أن يريد المصنّف بهذا الوجه الإشكال على دعوى القاضي صدور وصف المعصية من العبد ، لا الإشكال على دعواه صدور أصل الفعل من الله تعالى كما بيّنّا.

فيكون معنى كلامه : إنّ أصل الفعل إذا كان صادرا عن الله سبحانه كما زعمه القاضي ، بطل قوله بصدور وصف المعصية عن العبد ؛ لأنّ فعل الله تعالى لا يوصف بالقبيح ، فلا يوصف بالمعصية ، ويلزمه انتفاء المعصية عن العبد ، كما يلزمه أن لا يحسن من الله سبحانه ذمّ إبليس وسائر العصاة ، والحال أنّ الله تعالى قد ذمّهم.

وأمّا قوله : « يكون مراد القائل : إنّ هناك شيء ينسب إليه » إلى آخره

ففيه : إنّه إذا لم يطّلع على كلمات القائل ومحلّه من العلم ، فكيف حكم بأنّ هذا مراده؟!

على أنّ الشيء المجهول الذي أثبته إن كان للعبد تأثير فيه ، بطل مذهبهم ، وإلّا بطل التكليف والبعثة والعقاب!

٣٣٠

القدرة متقدّمة [ على الفعل ]

قال المصنّف ـ أعلى الله منزلته ـ(١) :

المطلب الثالث عشر

في أنّ القدرة متقدّمة

ذهبت الإمامية والمعتزلة كافّة إلى أنّ القدرة التي للعبد متقدّمة على الفعل(٢) .

وقالت الأشاعرة هنا قولا غريبا عجيبا ، وهو : إنّ القدرة لا توجد قبل الفعل ، بل مع الفعل ، غير متقدّمة عليه لا بزمان ولا بآن(٣) .

فلزمهم من ذلك محالات ، منها : تكليف ما لا يطاق ؛ لأنّ الكافر مكلّف بالإيمان إجماعا منّا ومنهم.

فإن كان قادرا عليه حال كفره ، ناقضوا مذهبهم من أنّ القدرة مع الفعل غير متقدّمة عليه.

__________________

(١) نهج الحقّ : ١٢٩.

(٢) الذخيرة في علم الكلام : ٨٨ ، شرح جمل العلم والعمل : ٩٧ ، الاقتصاد في ما يتعلّق بالاعتقاد : ١٠٤ ، تجريد الاعتقاد : ١٧٥ ، شرح الأصول الخمسة : ٣٩٠ ـ ٣٩١.

(٣) اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع : ٩٢ ، تمهيد الأوائل : ٣٢٥ ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ١٥٢ ، شرح المقاصد ٢ / ٣٥٣ ، شرح المواقف ٦ / ٨٨.

٣٣١

وإن لم يكن قادرا عليه ، لزمهم تكليف ما لا يطاق.

وقد نصّ الله تعالى على امتناعه فقال :( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها ) (١) .

والعقل دلّ عليه ، وقد تقدّم(٢) .

وإن قالوا : إنّه غير مكلّف حال كفره ، لزم خرق الإجماع ؛ لأنّ الله تعالى أمره بالإيمان ، بل عندهم أنّه أمرهم في الأزل ونهاهم ، فكيف لا يكون مكلّفا؟!

* * *

__________________

(١) سورة البقرة ٢ : ٢٨٦.

(٢) راجع الصفحة ٩٧ ـ ٩٨ من هذا الجزء.

٣٣٢

وقال الفضل (١) :

مذهب الأشاعرة : إنّ القدرة حادثة مع الفعل ، وإنّها توجد حال حدوث الفعل وتتعلّق به في هذه الحالة ، ولا توجد القدرة الحادثة قبله فضلا عن تعلّقها به ، إذ قبل الفعل لا يمكن الفعل ، بل امتنع وجوده فيه

وإن لم يمتنع وجوده قبله ، بل أمكن ، فلنفرض وجوده فيه فالحالة التي فرضناها أنّها حالة سابقة على الفعل ليست كذلك ، بل هي حال الفعل ، هذا خلف محال

لأنّ كون المتقدّم على الفعل مقارنا يستلزم اجتماع النقيضين ، أعني كونه متقدّما وغير متقدّم ، فقد لزم من وجود الفعل قبله محال ، فلا يكون ممكنا ، إذ الممكن لا يستلزم المستحيل بالذات.

وإذا لم يكن الفعل ممكنا قبله لم يكن مقدورا قبله ، فلا تكون القدرة عليه موجودة حينئذ ، ولا شكّ أنّ وجود القدرة بعد الفعل ممّا لا يتصوّر

فتعيّن أن تكون موجودة معه ، وهو المطلوب(٢) .

هذا دليل الأشاعرة على هذا المدّعى.

وأمّا ما ذكر من لزوم المحالات أنّ الكافر مكلّف بالإيمان بالإجماع ، فإن كان قادرا على الإيمان حال الكفر لزم أن تكون القدرة متقدّمة على الفعل ، وهو خلاف مذهبهم

وإن لم يكن قادرا لزم تكليف ما لا يطاق.

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ٢ / ١٤٣.

(٢) انظر : شرح المواقف ٦ / ٨٨ ـ ٩٠.

٣٣٣

فجوابه : إنّا نختار أنّه غير قادر على الإيمان حال الكفر ، ولا يلزم وقوع تكليف ما لا يطاق ؛ لأنّ شرط صحّة التكليف عندنا أن يكون الشيء المكلّف به متعلّقا للقدرة ، أو يكون ضدّه متعلّقا للقدرة ، وهذا الشرط حاصل في الإيمان ، فإنّه وإن لم يكن مقدورا له قبل حدوثه ، لكنّ تركه بالتلبّس بضدّه ـ الذي هو الكفر ـ مقدور له حال كونه كافرا(١) .

* * *

__________________

(١) انظر : شرح المواقف ٦ / ٩٨.

٣٣٤

وأقول :

ما ذكره من دليل الأشاعرة هو عين ما في « المواقف » وشرحها بألفاظه(١) ، وقد أشكلا فيه بما أغفله الخصم إضاعة للحقّ.

وحاصله : إنّه إن كان المراد بوجود الفعل قبل وجوده هو وجوده بشرط كونه قبل الوجود ، فهو مسلّم المحاليّة ، ولا كلام فيه.

وإن كان المراد به وجوده في زمان عدم الفعل بدلا عن العدم ، فهو ليس بمحال.

وأمّا ما أجاب به عن لزوم التكليف بما لا يطاق ، فهو مبنيّ على ما ذهبوا إليه من تعلّق القدرة بطرف دون آخر(٢) ، وهو باطل.

ولو سلّم فقدرة الكافر إنّما تعلّقت بترك الإيمان ، والمطلوب تعلّقها بالإيمان ، ليكون ممّا يسع المكلّف الذي نفت الآية التكليف بغيره.

وبالضرورة : إنّ مجرّد تعلّق القدرة بالكفر وبترك الإيمان لا يجعل الإيمان ممّا يسع المكلّف ومصداقا له.

وأجيب عن أصل الإشكال بأنّ الكافر مكلّف في الحال بالإيمان في ثاني الحال.

وفيه : مع أنّه مناف لما يزعمونه ـ كما ستعرف ـ من أنّ التكليف مع

__________________

(١) المواقف : ١٥١ ، شرح المواقف ٦ / ٨٨.

(٢) انظر : اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع : ٩٨ ، تمهيد الأوائل : ٣٣٢ ـ ٣٣٣ ، المواقف : ٣٣١ ، شرح المواقف ٨ / ٢٠٠.

٣٣٥

الفعل : أنّ المفروض تكليف الكافر بالإيمان في حال كفره ، لا في ثاني الحال ؛ ولو سلّم ، فإن كان ثاني الحال حال كفر أيضا ، بقي الإشكال ، وإن كان حال إيمان ، فالإيمان واجب حينئذ لا مقدور ؛ لأنّ الشيء إذا وجد وجب.

ومنه يعلم وجه تشنيع المعتزلة على الأشاعرة بلزوم عدم العصيان ؛ لأنّ المكلّف به ليس بمقدور قبل وجوده وواجب حينه(١) .

وقد صحّح القوشجي تشنيعهم بتقرير أنّه قبل الإتيان غير مقدور ، وحينه يحصل الامتثال ، وحينئذ فهو أيضا وارد بالنسبة إلى التكليف بالإيمان(٢) .

* * *

__________________

(١) انظر : المغني ـ للقاضي عبد الجبّار ـ ٨ / ٢٥٠ ، شرح المواقف ٦ / ٩٦ ـ ٩٧.

(٢) شرح التجريد : ٣٦٢.

٣٣٦

قال المصنّف ـ شرّف الله قدره ـ(١) :

ومنها : الاستغناء عن القدرة ؛ لأنّ الحاجة إلى القدرة إنّما هي لإخراج الفعل من العدم إلى الوجود ، وهذا إنّما يتحقّق حال العدم ؛ لأنّ حال الوجود هي حال الاستغناء عن القدرة ؛ لأنّ الفعل حال الوجود يكون واجبا فلا حاجة به إلى القدرة.

على أنّ مذهبهم أنّ القدرة غير مؤثّرة ألبتّة ؛ لأنّ المؤثّر في الموجودات كلّها هو الله تعالى(٢) .

فبحثهم عن القدرة حينئذ يكون من باب الفضول ؛ لأنّه خلاف مذهبهم.

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ١٢٩.

(٢) انظر : المطالب العالية من العلم الإلهي ٩ / ٧٥ ، المواقف : ١٥٠ ، شرح العقائد النسفية : ١٤٦.

٣٣٧

وقال الفضل(١) :

الحاجة إلى القدرة اتّصاف العبد بصفة تخرجه عن الاضطرار ، حتّى يصحّ كونه محلّا للثواب والعقاب ، إذ لو لم تكن هذه القدرة حادثة مع الفعل ، لا يتحقّق له صورة الاختيار ، والله حكيم يخلق الأشياء لمصالح لا تحصى.

ولا يلزم من عدم كون القدرة مؤثّرة في الفعل الاستغناء عنها من جميع الوجوه ، ولا يلزم أن يكون البحث عنها فضولا.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ٢ / ١٤٥.

٣٣٨

وأقول :

إذا لم تكن القدرة مؤثّرة ، فكيف يعلم وجودها؟! وكيف يخرج عن الاضطرار؟! ومن أين تكون مصحّحة للثواب والعقاب؟! على أنّ الثواب عندهم تفضّل محض ، والعقاب تصرّف في الملك بلا حاجة إلى القدرة(١) .

وأمّا ما زعمه من أنّه لو لم تكن القدرة حادثة لا تتحقّق له صورة الاختيار ، فخطأ ؛ إذ لا يتوقّف إيجاد صورة الاختيار على وجود القدرة إذا لم يكن لهما أثر أصلا كما زعموا ، على أنّه لا فائدة في صورة الاختيار بلا تأثير ، كما لا نتصوّر حكمة في خلق القدرة غير التأثير.

ولو سلّم فالبحث عنها ـ بلحاظ جهة التأثير ـ فضول.

* * *

__________________

(١) انظر : الفصل في الملل والأهواء والنحل ٢ / ١٢٣ و ١٣٤ و ١٤٠ ، المواقف : ٣٧٨ ، شرح المقاصد ٥ / ١٢٥ ـ ١٢٦.

٣٣٩

قال المصنّف ـ طاب ثراه ـ(١) :

ومنها : إلزام حدوث قدرة الله تعالى أو قدم العالم ؛ لأنّ القدرة مقارنة للفعل ، وحينئذ يلزم أحد الأمرين ، وكلاهما محال

لأنّ قدرة الله تعالى يستحيل أن تكون حادثة ، والعالم يمتنع أن يكون قديما.

ولأنّ القدم مناف للقدرة ؛ لأنّ القدرة إنّما تتوجّه إلى إيجاد المعدوم ، فإذا كان الفعل قديما امتنع استناده إلى القادر.

ومن أعجب الأشياء بحث هؤلاء القوم عن القدرة للعبد والكلام في أحكامها ، مع أنّ القدرة غير مؤثّرة في الفعل ألبتّة ، وإنّه لا مؤثّر غير الله تعالى ، فأيّ فرق بين القدرة واللون وغيرهما بالنسبة إلى الفعل ، إذا كانت غير مؤثّرة ولا مصحّحة للتأثير؟!

وقال أبو عليّ ابن سينا رادّا عليهم : « لعلّ القائم لا يقدر على القعود »(٢) .

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ١٣٠.

(٢) الإلهيّات من كتاب الشفاء : ١٨٢.

٣٤٠