دلائل الصدق لنهج الحق الجزء ٤

دلائل الصدق لنهج الحق0%

دلائل الصدق لنهج الحق مؤلف:
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف: مفاهيم عقائدية
ISBN: 964-319-357-8
الصفحات: 442

دلائل الصدق لنهج الحق

مؤلف: الشيخ محمد حسن المظفر
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف:

ISBN: 964-319-357-8
الصفحات: 442
المشاهدات: 82315
تحميل: 2783


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 442 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 82315 / تحميل: 2783
الحجم الحجم الحجم
دلائل الصدق لنهج الحق

دلائل الصدق لنهج الحق الجزء 4

مؤلف:
ISBN: 964-319-357-8
العربية

وحفظ أرواحهم ، وترك حقوق الله ، ثمّ يشنّعون على أهل السنّة أنّهم يجوّزون السهو على الأنبياء!

وأمّا الصغائر والكبائر ، كلّ منهما إمّا أن يصدر عمدا ، وإمّا أن يصدر سهوا

أمّا الكبائر ، فمنعه الجمهور من المحقّقين ، والأكثر على أنّه ممتنع سمعا.

قال القاضي والمحقّقون من الأشاعرة : إنّ العصمة في ما وراء التبليغ غير واجبة عقلا ، إذ لا دلالة للمعجزة عليه ، فامتناع الكبائر منهم عمدا مستفاد من السمع وإجماع الأمّة قبل ظهور المخالفين في ذلك.

وأمّا صدورها سهوا ، أو على سبيل الخطأ في التأويل ، فالمختار عدم جوازه.

وأمّا الصغائر عمدا ، فجوّزه الجمهور.

وأمّا سهوا ، فهو جائز اتّفاقا بين أصحابنا وأكثر المعتزلة ، إلّا الصغائر الخسيسة كسرقة حبّة أو لقمة ، ممّا ينسب فاعله إلى الدناءة والخسّة والرذالة.

وقالت الشيعة : لا يجوز عليهم صغيرة ولا كبيرة ، لا عمدا ولا سهوا ، ولا خطأ في التأويل ، وهم مبرّأون عنها قبل الوحي ، فكيف بعد الوحي؟!(١) .

ودليل الأشاعرة على وجوب عصمة الأنبياء من الكبائر سهوا وعمدا من وجوه ، ونحن نذكر بعض الأدلّة ، لا للاحتجاج بها على الخصم ؛ لأنّه

__________________

(١) انظر : شرح المواقف ٨ / ٢٦٤ ـ ٢٦٥.

٢١

موافق في هذه المسألة ، بل لرفع افترائه على الأشاعرة في تجويز الكبائر على الأنبياء :

الأوّل : لو صدر عنهم ذنب لحرم اتّباعهم في ما صدر عنهم ، ضرورة أنّه يحرم ارتكاب الذنب ، واتّباعهم واجب ؛ للإجماع ، ولقوله تعالى :( إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ ) (١) .

وهذا الدليل يوجب وجوب عصمتهم عن الصغائر والكبائر ، ذكره الأشاعرة ، وفيه موافقة للشيعة.

فعلم أنّ الأشاعرة يوافقون في وجوب عصمة الأنبياء من الصغائر والكبائر ، لكن في الصغائر تجويز عقلي ؛ لدليل آخر ، كما سيأتي في تحقيق العصمة.

الثاني : لو أذنبوا لردّت شهادتهم ، إذ لا شهادة للفاسق بالإجماع ، واللازم باطل بالإجماع ؛ لأنّ من لا تقبل شهادته في القليل الزائل من متاع الدنيا كيف تسمع شهادته في الدين القيّم إلى يوم القيامة؟!

وهذا الدليل يدلّ على وجوب عصمتهم عن الكبائر والإصرار على الصغائر ؛ لأنّها توجب الردّ ، لا نفس صدور الصغيرة.

الثالث : إن صدر عنهم ذنب وجب زجرهم وتعنيفهم ، لعموم وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإيذاؤهم حرام إجماعا(٢) .

وأيضا : لو أذنبوا لدخلوا تحت قوله تعالى :( وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ ) (٣)

__________________

(١) سورة آل عمران ٣ : ٣١.

(٢) انظر : شرح المقاصد ٥ / ٤٩ ـ ٥١ ، شرح المواقف ٨ / ٢٦٥.

(٣) سورة الجنّ ٧٢ : ٢٣.

٢٢

وتحت قوله تعالى :( أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ) (١)

وتحت قوله تعالى لوما ومذمّة :( لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ ) (٢)

وقوله تعالى :( أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ ) (٣) .

فيلزم كونهم موعدين بعذاب جهنّم وملعونين ومذمومين ، وكلّ ذلك باطل إجماعا.

وهذا الدليل ـ أيضا ـ يدلّ على عصمتهم من كلّ الذنوب ، وغيرها من الدلائل التي ذكرها الإمام الرازي(٤) .

والغرض : إنّ كلّ ما ذكره هذا الرجل ممّا يترتّب على ذنوب الأنبياء ، من لزوم إبطال حجّة الله ، فمذهب الأشاعرة بريء عنه ، وهم ذكروا هذه الدلائل.

وأمّا تجويز الصغائر التي لا تدلّ على الخسّة ؛ فلأنّ الصغيرة النادرة عمدا معفوّة عن مجتنب الكبائر(٥) ، والنبيّ بشر ، ولا يبعد من البشر وقوع هذا.

ثمّ اعلم أنّ تحقيق هذا المبحث يرجع إلى تحقيق معنى العصمة ،

__________________

(١) سورة هود ١١ : ١٨.

(٢) سورة الصفّ ٦١ : ٢.

(٣) سورة البقرة ٢ : ٤٤.

(٤) الأربعين في أصول الدين ٢ / ١١٧ ـ ١٢٢.

نقول : إلّا أنّ الفخر الرازي جوّز فيه على الأنبياء ارتكاب الكبائر والصغائر سهوا في زمان النبوّة! فقد قال : « والذي نقوله : إنّ الأنبياء عليهم السلام معصومون في زمان النبوّة عن الكبائر والصغائر بالعمد ، أمّا على سبيل السهو فجائز »!

(٥) شرح المواقف ٨ / ٢٦٧.

٢٣

وهو عند الأشاعرة على ما يقتضيه أصلهم من استناد الأشياء كلّها إلى الفاعل المختار ابتداء أن لا يخلق الله فيهم ذنبا(١) .

فعلى هذا يكون الأنبياء معصومين من الكفر والكبائر والصغائر الدالّة على الخسّة والرذالة ، وأمّا غيرها من الصغائر فإنّهم يقولون : لا يجب عصمتهم عنها ؛ لأنّها معفوّ عنها ـ بنصّ الكتاب ـ من تارك الكبيرة أنّ :( الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى ) (٢) .

دلّت الآية على أنّ مجتنب الكبيرة والفاحشة معفوّ عنه ما صدر من الصغائر عنه ، وفي الآية إشارة إلى أنّ الإنسان لمّا خلق من الأرض ونشأ منها فلا يخلو عن الكدورات الترابية التي تقتضي الذنب والغفلة ، فكانت بعض الذنوب تصدر عنهم بحسب مقتضى الطبع ، ولمّا لم يكن خلاف ملكة العصمة فلا مؤاخذة به.

وأمّا العصمة عند الحكماء ، فهي ملكة تمنع عن الفجور ، وتحصل هذه ابتداء بالعلم بمثالب المعاصي ومناقب الطاعات ، وتتأكّد في الأنبياء بتتابع الوحي إليهم بالأوامر الداعية إلى ما ينبغي ، والنواهي الزاجرة عمّا لا ينبغي ، ولا اعتراض على ما يصدر عنهم من الصغائر سهوا أو عمدا عند من يجوّز تعمّدها ، ومن ترك الأولى والأفضل فإنّها لا تمنع العصمة التي هي الملكة ، فإنّ الصفات النفسانية تكون في ابتداء حصولها أحوالا ثمّ

__________________

(١) راجع : حاشية الدواني على العقائد العضدية : ٢٠٣ ، حاشية السيالكوتي : ٢٠٣ ، شرح مطالع الأنظار : ٢١١ ، شرح المواقف ٨ / ٢٨٠ و ٢٨١.

(٢) سورة النجم ٥٣ : ٣٢.

٢٤

تصير ملكات بالتدريج(١) .

ثمّ إنّ الأنبياء مكلّفون بترك الذنوب ، مثابون به ، ولو كان الذنب ممتنعا عنهم لما كان الأمر كذلك ، إذ لا تكليف بترك الممتنع ولا ثواب عليه.

وأيضا : فقوله :( إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَ ) (٢) ، يدلّ على مماثلتهم لسائر الناس في ما يرجع إلى البشرية ، والامتياز بالوحي لا غير ، فلا يمتنع صدور الذنب عنهم كما في سائر البشر(٣) .

هذا حقيقة مذهب الأشاعرة ، ومن تأمّل فيه علم أنّه الحقّ الصريح المطابق للعقل والنقل ، وكلّ ما ذكره هذا الرجل على سبيل التشنيع فلا يأتي عليهم ، كما علمته مجملا ، وستعلمه مفصّلا عند أقواله.

وما ذكره من قصّة سورة النجم وقراءة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ما لم يكن من القرآن ، فهذا أمر لم يذكر في الصحاح ، بل هو مذكور في بعض التفاسير

وذكروا : أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا اشتدّ عليه إعراض قومه عن دينه ، تمنّى أن يأتيه من الله ما يقرّبه إليهم ويستميل قلوبهم ، فأنزل الله عليه سورة النجم ، ولمّا اشتغل بقراءتها قرأ بعد قوله تعالى :( أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى * وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى ) (٤) « تلك الغرانيق العلى ، منها الشفاعة ترتجى » ، فلمّا سمعه قريش فرحوا به وقالوا : قد ذكر آلهتنا بأحسن الذكر ؛ فأتاه جبرئيل بعد ما أمسى وقال له : تلوت ما لم أتله عليك! فحزن النبيّ

__________________

(١) راجع : حاشية الدواني على العقائد العضدية : ٢٠٣ ، حاشية السيالكوتي : ٢٠٣ ، شرح مطالع الأنظار : ٢١١ ، شرح المواقف ٨ / ٢٨٠ و ٢٨١.

(٢) سورة الكهف ١٨ : ١١٠.

(٣) شرح المواقف ٨ / ٢٨١.

(٤) سورة النجم ٥٣ : ١٩ و ٢٠.

٢٥

لذلك حزنا شديدا ، وخاف من الله خوفا عظيما ، فنزل لتسليته :( وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ ) الآية(١) (٢) .

هذا ما ذكره بعض المفسّرين ، واستدلّ به من جوّز الكبائر على الأنبياء.

والأشاعرة أجابوا عن هذا بأنّه ـ على تقدير حمل التمنّي على القراءة ـ هو من إلقاء الشيطان ، يعني أنّ الشيطان قرأ هذه الآية المنقولة ، وخلط صوته بصوت النبيّ حتّى ظنّ أنّه قرأها.

قالت الأشاعرة : وإن لم يكن من إلقاء الشيطان ، بل كان النبيّ قارئا لها ، كان ذلك كفرا صادرا عنه ، وليس بجائز إجماعا.

وأيضا : ربّما كان ما ذكر من العبارة قرآنا ، ويكون الإشارة بتلك الغرانيق إلى الملائكة ، فنسخ تلاوته للإيهام(٣) .

ومن قرأ سورة النجم وتأمّل في تتابع آياتها علم أنّ هذه الكلمات لا يلتئم وقوعها بعد ذكر الأصنام ولا في أثنائها ، ولا يمكن ( للبليغ أن )(٤) يتفوّه به في مدح الأصنام عند ذكر مذمّتها.

نعم ، يلتئم ذكرها عند ذكر الملائكة ، وهو قوله تعالى :( وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى ) (٥) .

__________________

(١) سورة الحجّ ٢٢ : ٥٢.

(٢) انظر : هامش رقم ٢ الصفحة ١٨ ، شرح المواقف ٨ / ٢٧٦ ـ ٢٧٧.

(٣) تفسير الفخر الرازي ٢٣ / ٥٠ ـ ٥٥ ، شرح المواقف ٨ / ٢٧٧.

(٤) كان في الأصل : « أنّ البليغ » ، وما أثبتناه من إحقاق الحقّ.

(٥) سورة النجم ٥٣ : ٢٦.

٢٦

فها هنا يناسب أن يقرأ : « تلك الغرانيق العلى * وإنّ شفاعتهنّ لترتجى » ، فعلم أنّه لو صحّ هذا لكان في وصف الملائكة ، ثمّ نسخ للإيهام أو لغيره ، والله أعلم.

هذه أجوبة الأشاعرة ، فعلم أنّ ما اعترض عليهم هذا الرجل فهو من باب مفترياته.

وأمّا المغاربة(١) فهم يمنعون صحّة هذا عن أصله.

وذكر الشيخ الإمام القاضي أبو الفضل موسى بن عياض اليحصبي المغربي في كتاب « الشفا بتعريف حقوق المصطفى » أنّ هذا من مفتريات الملاحدة ، ولا أصل له ، وبالغ في هذا كلّ المبالغة(٢) .

* * *

__________________

(١) يعني بهم علماء الأندلس والمغرب العربي.

(٢) الشفا بتعريف حقوق المصطفى ٢ / ١٢٥.

٢٧

وأقول :

إعلم أنّ ما ذكره في نقل الإجماع والأقوال إنّما هو من كلام « المواقف » وشرحها(١) ، وقد ذكره بلفظه ، سوى إنّه حذف بعض ما يضرّه كما سننبّه عليه إن شاء الله تعالى.

فبحثنا حقيقة مع صاحب « المواقف » وشارحها ، فنقول : يرد عليهما أمور :

[ الأمر ] الأوّل : إنّ ما زعماه من إجماع أهل الملل على عصمة الأنبياء عن تعمد الكذّب في ما دلّ المعجز القاطع على صدقهم فيه ، كدعوى الرسالة إلى آخره ، خطأ ظاهر ؛ لجهات :

[ الجهة ] الأولى : إنّ الإجماع المذكور ممنوع لما حكاه ابن حزم عن بعض الكرّامية : إنّهم يجوّزون على الأنبياء الكذب في التبليغ(٢) كما ستعرفه في كلامه الآتي إن شاء الله تعالى.

الجهة الثانية : إنّ ما ذكراه من الكذب في دعوى الرسالة ، إن أرادا به الكذب في دعواها حين الرسالة ، فهو غير معقول ؛ لأنّه بعد فرض الرسالة لا يتصوّر الكذب فيها حتّى يعصم عنه.

وإن أرادا به الكذب في دعوى الرسالة قبل الرسالة ، فغير صحيح ؛ لأنّ المعجزة اللاحقة لا تدلّ على عصمتهم عنه حينئذ ، إذ لا يلزم من وقوع الكذب ـ في ذلك منهم قبل الرسالة ـ إبطال دلالة المعجزة على ثبوت

__________________

(١) انظر : المواقف : ٣٥٨ ، شرح المواقف ٨ / ٢٦٣.

(٢) الفصل في الملل والأهواء والنحل ٢ / ٢٨٤.

٢٨

الرسالة في وقتها ، اللهمّ إلّا أن يريدا العصمة حين الرسالة عن الكذب في دعوى عدمها ، فله وجه لكنّه خلاف ظاهر كلامهما.

الجهة الثالثة : إنّ دعوى أنّ المعجزة تدلّ عقلا على عصمتهم عن الكذب في ما يبلّغونه عن الله تعالى ممنوعة على مذهبهم ، إذ يجوز عقلا بناء على قولهم : « لا يجب على الله شيء ، ولا يقبح منه شيء »(١) ، أن يرسل رسولا بالافتراء عليه ، مضافا إلى أنّه يمكن عقلا أن يظهر الله المعجزة على يد الكاذب في دعوى الرسالة ، فلا محالية عقلا في إبطال دلالة المعجزة على الرسالة.

ودعوى القطع العادي(٢) بعدم ظهورها على يد الكاذب ، وبعدم إرسال رسول بالافتراء على الله تعالى ، غير نافعة ؛ لأنّ الكلام في تجويز العقل!

على أنّك عرفت أنّ هذه العادة غيب لا يمكن العلم بها ، إذ لعلّ كلّ من أظهر المعجزة كاذب في دعوى الرسالة ، أو أنّه مرسل بالافتراء ، فما لم نقل بأنّ ذلك قبيح على الله تعالى لم يمكن القطع بنبوّة صاحب المعجزة وبعدم كونه مرسلا بالافتراء.

واعلم أنّه قد وقع الخلاف بين الأشاعرة في جواز الكذب سهوا على الأنبياء في دعوى الرسالة والتبليغ.

فجوّزه القاضي أبو بكر ، الذي هو من أعاظم الأشاعرة(٣) ، كما

__________________

(١) اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع : ١١٦ ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ٢٩٥ ، المواقف : ٣٢٨ ، شرح المقاصد ٤ / ٢٩٤ ، شرح المواقف ٨ / ١٩٥.

(٢) أي قولهم : « جرت عادة الله ».

(٣) انظر : التقريب والإرشاد ١ / ٤٣٨.

٢٩

صرّح بنسبته إليه في « المواقف »(١) ، لكنّ الخصم أسقط ذكره سترا على قومه!!

الأمر الثاني : إنّ ما زعماه من إجماع الأمّة على عصمة الأنبياء عن الكفر قبل النبوّة وبعدها خطأ ، لما ذكراه بأنفسهما من أنّ الأزارقة(٢) أجازوا على الأنبياء الذنب ، وكلّ ذنب عندهم كفر(٣) .

وقال الشارح : ويحكى عنهم أنّهم قالوا بجواز بعثة نبيّ علم الله أنّه يكفر بعد نبوّته(٤) !

ولو فرض أنّ مرادهما بالكفر الذي ادّعيا الإجماع على العصمة عنه هو الشرك ونحوه ، لا ما يعمّ كلّ ذنب على قول من يجعله كفرا ، فكثير من أهل السنّة قالوا بعدم عصمة الأنبياء عن هذا الكفر الخاصّ

منهم : الغزّالي ، في بحث أفعال الرسول من كتابه الموسوم بـ

__________________

(١) المواقف : ٣٥٨ ، وانظر : شرح المواقف ٨ / ٢٦٣ ، حاشية الدواني على العقائد العضدية : ٢٠٣.

(٢) الأزارقة : ويقال لهم : الأزارقة النافعية ، وهم جماعة من الخوارج ، من أصحاب أبي راشد نافع بن الأزرق الحروري ، من رؤوس الخوارج ، الّذين خرجوا مع نافع من البصرة إلى الأهواز ، فغلبوا عليها وعلى كورها وما ورائها من بلدان فارس وكرمان في أواخر دولة يزيد بن معاوية ، أيّام عبد الله بن الزبير ، وقتلوا عمّاله بهذه النواحي وكان نافع أوّل من أحدث الخلاف بين الخوارج ؛ وذلك أنّه أظهر البراءة من القعدة عن اللحوق بعسكره وإن كان موافقا له على دينه ، وأكفر من لم يهاجر إليه! وكان يعترض الناس حتّى النساء والأطفال بما يحيّر العقول ، واشتدّت شوكته إلى أن كان قتله في جمادى الآخرة سنة خمس وستّين من الهجرة.

انظر : الملل والنحل ١ / ١١١ ، الأنساب ـ للسمعاني ـ ١ / ١٢٢ ( الأزرقي ) ، لسان الميزان ٦ / ١٤٤ رقم ٥٠٦.

(٣) الملل والنحل ١ / ١١٥ البدعة السابعة ، المواقف : ٣٥٨.

(٤) شرح المواقف ٨ / ٢٦٤.

٣٠

« المنخول في الأصول »(١) ، على ما نقله عنه السيّد السعيد(٢) .

قال الغزّالي : « والمختار ما ذكره القاضي ، وهو : إنّه لا يجب عقلا عصمتهم ، إذ لا يستبان استحالة وقوعه بضرورة العقل ولا بنظره ، وليس هو مناقضا لمدلول المعجزة ، فإنّ مدلولها صدق اللهجة في ما يخبر عن الله تعالى [ فلا جرم لا يجوز وقوع الكذب في ما يخبر به عن الربّ تعالى ](٣) لا عمدا ولا سهوا ، ومعنى التنفير باطل ، فإنّا نجوّز أن ينبّئ الله تعالى كافرا ويؤيّده بالمعجزة »(٤) .

ومنهم : ابن تيميّة ، كما ستعرفه إن شاء الله تعالى في الآية الثامنة من الآيات التي استدلّ بها المصنّف على إمامة أمير المؤمنينعليه‌السلام (٥) .

ومنهم : قوم من الحشوية(٦) ، والكرّامية(٧) ، وابن فورك(٨) ،

__________________

(١) المنخول من تعليقات الأصول : ٢٢٤.

(٢) انظر : إحقاق الحقّ ٢ / ٢١٠.

(٣) أضافة من المصدر.

(٤) المنخول من تعليقات الأصول : ٢٢٤ ، وانظر مؤدّاه في التقريب والإرشاد ١ / ٤٣٨ ـ ٤٣٩.

(٥) وانظر : منهاج السنّة ٧ / ١٣٥.

(٦) سمّيت الحشوية حشوية لأنّهم يحشون الأحاديث التي لا أصل لها في الأحاديث المروية عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وجميع الحشوية يقولون بالجبر والتجسيم والتشبيه وقدم ما بين الدفّتين من القرآن ، وأنكرت ردّ المتشابه إلى المحكم ، وقالوا : إنّ كلّ حديث يأتي به الثقة من العلماء فهو حجّة أيّا كانت الواسطة.

انظر : المنية والأمل في شرح الملل والنحل : ١١٤ ، موسوعة مصطلحات علم الكلام الإسلامي ١ / ٤٩٠ ، معجم الألفاظ التاريخية : ٦٢.

(٧) مرّت ترجمتهم في ج ٢ / ١٨٣ ه‍ ٢.

(٨) ابن فورك ـ بضمّ الفاء وفتح الراء ـ ، هو : محمّد بن الحسن بن فورك الأصبهاني ، أبو بكر الأنصاري الأشعري الشافعي ، أقام بالعراق مدّة يدرّس ، ثمّ توجّه إلى الريّ ،

٣١

والباقلّاني ، وبرغوث(١) ، والسدّي(٢)

قال ابن حزم في أوّل الجزء الرابع من الملل والنحل : « اختلف الناس هل تعصي الأنبياء أم لا؟

فذهب طائفة إلى أنّ رسل الله يعصون الله في جميع الكبائر والصغائر [ عمدا ] ، حاشا الكذب في التبليغ فقط ، وهذا قول الكرّامية من المرجئة ،

__________________

فسمعت به المبتدعة فراسله أهل نيسابور والتمسوا منه التوجّه إليهم ، ففعل وورد نيسابور ، ثمّ دعي إلى مدينة غزنة في الهند وجرت له مناظرات ، فلمّا رجع إلى نيسابور سمّ في الطريق ، فمات سنة ٤٠٦ ه‍.

ونقل عن ابن حزم أنّ السلطان محمود بن سبكتكين قتله لقوله : « إنّ نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله ليس هو رسول الله اليوم ، لكنّه كان رسول الله »! ومن تصانيفه : تفسير القرآن ، دقائق الإسراء ، طبقات المتكلّمين.

انظر : طبقات الشافعية ـ للأسنوي ـ ٢ / ١٢٦ رقم ٨٧٩ ، وفيات الأعيان ٤ / ٢٧٢ رقم ٦١٠ ، شذرات الذهب ٣ / ١٨١ ، هديّة العارفين ٦ / ٦٠ ، تبيين كذب المفتري : ٢٣٠.

(١) هو : أبو عبد الله محمّد بن عيسى الجهمي الكاتب ، الملقّب ب‍ : برغوث ، وهو رأس الفرقة التي تنسب إليه ، وكان على مذهب الحسين بن محمّد النجّار ، صاحب نظرية الكسب ـ التي تبنّاها أبو الحسن الأشعري وأتباعه ـ في أكثر ما ذهب إليه ، وخالفه في تسمية المكتسب فاعلا فامتنع منه ، وخالفه أيضا في المتوالدات فزعم أنّها فعل لله تعالى بإيجاب الطبع لا بالاختيار ، وهو ممّن كان يناظر أحمد بن حنبل أيّام ما يسمّى بمحنة القول بخلق القرآن ، له عدّة كتب ، منها : الاستطاعة ، المقالات ، المضاهاة ، وغيرها ؛ توفّي سنة ٢٤٠ أو ٢٤١ ه‍.

انظر : الفرق بين الفرق : ١٩٧ ، الفصل في الملل والأهواء والنحل ٢ / ٥٤ و ٨٦ ، الملل والنحل ـ للشهرستاني ـ ١ / ٧٥ و ٧٧ ، سير أعلام النبلاء ١٠ / ٥٥٤ رقم ١٨٩.

(٢) السدّي ـ بضمّ السين وتشديد الدال المهملتين ـ ، هو : إسماعيل بن عبد الرحمن ابن أبي ذؤيب السدّي الأعور ، مولى زينب بنت قيس بن مخرمة ، حجازي الأصل ، سكن الكوفة ، ومات فيها سنة ١٢٧ ه‍ ، من تصانيفه : تفسير القرآن.

انظر : مشاهير علماء الأمصار : ١٧٨ رقم ٨٤٦ ، هديّة العارفين ٥ / ٢٠٦.

٣٢

وقول ابن(١) الطيّب الباقلّاني من الأشعرية ومن اتّبعه ، وهو قول اليهود والنصارى.

وسمعت من يحكي عن بعض الكرّامية أنّهم يجوّزون على الرسل الكذب في التبليغ أيضا.

وأمّا هذا الباقلّاني ، فإنّا رأينا في كتاب صاحبه أبي جعفر السّمناني قاضي الموصل(٢) ، أنّه كان يقول : إنّ كلّ ذنب ، دقّ أو جلّ ، فإنّه جائز على الرسل ، حاشا الكذب في التبليغ فقط!

قال : وجائز عليهم أن يكفروا!

قال : وإذا نهى النبيّ عن شيء ثمّ فعله ، فليس دليلا على أنّ ذلك النهي قد نسخ ؛ لأنّه قد يفعله عاصيا لله تعالى! قال : وليس لأصحابه أن ينكروا عليه!

وجوّز أن يكون في أمّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله من هو أفضل من محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله مذ بعث إلى أن مات »(٣) .

__________________

(١) كان في الأصل : « أبي » ، وهو تصحيف ، والصحيح ما أثبتناه من المصدر.

(٢) هو : أبو جعفر محمّد بن أحمد بن محمّد بن أحمد السمناني الحنفي الأشعري ، قاضي الموصل ، ولد سنة ٣٦١ ه‍ ، لازم الباقلّاني حتّى برع في علم الكلام ، وصار من أكبر أصحابه ، ومقدّم الأشعرية في وقته ، وذكر عنه تجويز الردّة على الرسول بعد أداء الرسالة! له عدّة مصنّفات ، منها : البيان عن أصول الإيمان ، الكشف عن تمويهات أهل الطغيان في العقائد ؛ توفّي بالموصل سنة ٤٤٤ ه‍.

انظر : تاريخ بغداد ١ / ٣٥٥ رقم ٢٨٤ ، الأنساب ـ للسمعاني ـ ٣ / ٣٠٦ ( السّمناني ) ، سير أعلام النبلاء ١٧ / ٦٥١ رقم ٤٤١ ، هديّة العارفين ٦ / ٦٩ ، معجم المؤلّفين ٣ / ٩٧ رقم ١١٩٦٢.

(٣) الفصل في الملل والأهواء والنحل ٢ / ٢٨٤.

٣٣

وقال ابن أبي الحديد(١) : « وقال قوم من الخوارج : يجوز أن يبعث الله تعالى من كان كافرا قبل الرسالة ، وهو قول ابن فورك من الأشاعرة ، لكنّه زعم أنّ هذا الجائز لم يقع.

وقال قوم من الحشوية : قد كان محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله كافرا قبل البعثة ، واحتجّوا بقوله تعالى :( وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى ) (٢) .

وقال برغوث المتكلّم ـ وهو أحد النجّارية(٣) ـ : لم يكن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله مؤمنا بالله تعالى قبل أن يبعثه ؛ لأنّه تعالى قال له :( ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَ ) (٤) .

وروي عن السدّي في قوله تعالى :( وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ ) (٥) ، قال وزره : الشرك ، فإنّه كان على دين قومه أربعين سنة.

وقال بعض الكرّامية في قوله تعالى حكاية عن إبراهيم :( قالَ

__________________

(١) شرح النهج ج ٢ ص ١٦٢. منهقدس‌سره .

(٢) سورة الضحى ٩٣ : ٧.

(٣) النجّاريّة : جماعة بالريّ ينتسبون إلى الحسين بن محمّد بن عبد الله البغدادي الرازي ، المعروف بالنجّار ، من متكلّمي المجبّرة ، ومن أهل المناظرة.

كان حائكا في طراز العبّاس بن محمّد الهاشمي ، من جلّة المجبّرة ومتكلّميهم ، وقد قيل : إنّه كان يعمل الموازين من أهل قم ، وقيل : إنّ سبب وفاته أنّه حدثت مناظرة بينه وبين إبراهيم النظّام حول « خلق الله » فرفسه إبراهيم وقال له : قم أخزى الله من ينسبك إلى شيء من العلم والفهم ، وانصرف محموما ، وكان ذلك سبب علّته التي مات فيها ، وتوفّي في حدود سنة ٢٢٠ ه‍ ، له تصانيف.

انظر : الفهرست ـ للنديم ـ : ٣١٣ ، الملل والنحل ـ للشهرستاني ـ ١ / ٧٥ ، الأنساب ـ للسمعاني ـ ٥ / ٤٦٠ ، هديّة العارفين ٥ / ٣٠٣.

(٤) سورة الشورى ٤٢ : ٥٢.

(٥) سورة الشرح ٩٤ : ٢ و ٣.

٣٤

أَسْلَمْتُ ) (١) ، أنّه أسلم يومئذ ولم يكن قبل ذلك مسلما.

ومثل ذلك قال اليمان بن رباب(٢) متكلّم الخوارج »(٣) .

والظاهر أنّ كلّ من قال بعدم عصمتهم عن الكبائر عقلا فقط ، أو عقلا وسمعا ، قائل بعدم عصمتهم عن الكفر ، فإنّه من الكبائر وأظهرها ، ويشهد لهذا أمران :

الأوّل : تعبير القائل بعدم عصمتهم عن الكبائر عقلا بأنّ العصمة في ما وراء التبليغ غير واجبة عقلا ، كما نقله نفس صاحب « المواقف » وشارحها ، في كلامهما المذكور عن القاضي ومحقّقي الأشاعرة(٤) .

الثاني : استدلال من قال بعدم عصمتهم عن الكبائر بما يوجب كفر الأنبياء ، كرواية الغرانيق

وقصّة يونس حيث ظنّ أن لن يقدر عليه الله ، والشكّ في قدرة الله كفر(٥)

وقول إبراهيم :( هذا رَبِّي ) (٦) لمّا رأى الشمس والقمر بازغين

وقوله :( رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى ) (٧) حيث شكّ في قدرة

__________________

(١) سورة البقرة ٢ : ١٣١.

(٢) قيل فيه : ضعيف ، يرى رأي الخوارج.

انظر : الضعفاء والمتروكين ـ للدارقطني ـ : ١٨٣ رقم ٦١١ ، الضعفاء والمتروكين ـ لابن الجوزي ـ ٣ / ٢١٨ رقم ٣٨٣٧ ، ميزان الاعتدال ٧ / ٢٨٩ رقم ٩٨٥٥ ، لسان الميزان ٦ / ٣١٦ رقم ١١٣٤ ، وفي المصادر الثلاثة الأوّل : « رئاب » بدل « رباب ».

(٣) شرح نهج البلاغة ٧ / ٩ و ١٠.

(٤) المواقف : ٣٥٨ ـ ٣٥٩ ، شرح المواقف ٨ / ٢٦٤.

(٥) شرح المواقف ٨ / ٢٧٦.

(٦) سورة الأنعام ٦ : ٧٨.

(٧) سورة البقرة ٢ : ٢٦٠.

٣٥

الله تعالى(١) .

بل يلزم جميع الجمهور القول بعدم عصمة الأنبياء عن الكفر ؛ لما رووه في صحاحهم أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « لو كان نبيّ بعدي لكان عمر »(٢) ، فإنّ مقتضى هذا الخبر صلوح عمر للنبوّة وقد كان كافرا في أكثر عمره!

وفي رواية أخرى لهم : « لو لم أبعث فيكم لبعث فيكم عمر »(٣) .

ومن الغريب أنّ صاحب « المواقف » وشارحها ، مع قولهما بعصمة الأنبياء عن الكفر قبل النبوّة وبعدها أجابا عن الاستدلال بقول إبراهيم :( هذا رَبِّي ) (٤) ، بقولهما : « إنّه صدر عنه قبل تمام النظر في معرفة الله تعالى ، وكم بينه وبين النبوّة ، فلا إشكال إذ يختار أنّه لم يعتقده فيكون كذبا صادرا قبل البعثة »(٥) !!

فإنّ هذا الكلام يقتضي أنّه كان شاكّا في ربّه ؛ لأنّه قال :( هذا رَبِّي ) قبل تمام النظر ، ومن المعلوم أنّ الشكّ في الله كفر.

وليت شعري مع هذا كيف يقولان بعصمة الأنبياء عن الكفر قبل

__________________

(١) شرح المواقف ٨ / ٢٧١.

(٢) انظر مثلا : سنن الترمذي ٥ / ٥٧٨ ح ٣٦٨٦ ، مسند أحمد ٤ / ١٥٤ ، فضائل الصحابة ـ لأحمد بن حنبل ـ ١ / ٤٢٤ ح ٤٩٨ وص ٤٣٦ ح ٥١٩ وص ٥٣٣ ح ٦٩٤ ، مسند الروياني ١ / ٩٥ ح ٢١٤ ، المعجم الكبير ١٧ / ١٨٠ ح ٤٧٥ وص ٢٩٨ ح ٨٢٢ وص ٣١٠ ح ٨٥٧ ، الكامل في الضعفاء ٣ / ١٥٥ و ٢١٦ ، المستدرك على الصحيحين ٣ / ٩٢ ح ٤٤٩٥.

(٣) الكامل في الضعفاء ٣ / ١٥٥ و ٢١٦ ، إحياء علوم الدين ٣ / ٣١٣ ، فردوس الأخبار ٢ / ٢٠٢ ح ٥١٦٧ ، تاريخ دمشق ٤٤ / ١١٤.

(٤) سورة الأنعام ٦ : ٧٨.

(٥) المواقف : ٣٦٢ ، شرح المواقف ٨ / ٢٧٠.

٣٦

النبوّة؟!

وكيف يدّعيان الإجماع على هذه العصمة حتّى غرّا الخصم بدعوى الإجماع عليها ، إذ جاء بكلامهما بعينه؟!

وهذا كلّه ممّا يدلّ على أنّ كلامهم لم يصدر عن يقين في النقل ، ولا اعتقاد للحقّ ؛ ولذا ناقضا نفسيهما في عصمة الأنبياء عن الكبائر بعد النبوّة ، فإنّهما قالا بها أوّلا ، ثمّ بعد ذلك في مقام نفي أهليّة أبي بكر للخلافة ؛ لأنّه منع فاطمة إرثها وقد ادّعته ، وهي معصومة

لقول النبيّ : «فاطمة بضعة منّي »(١) ، قالا : « وأيضا عصمة النبيّ قد تقدّم ما فيها »(٢) .

الأمر الثالث : إنّ ما نسباه إلى الشيعة من جواز إظهار الكفر تقية(٣) ، كذب صريح ، فإنّا لم نسمع ذاهبا منهم إلى ذلك ، وهذه كتبهم بين أيدينا فليروه أصحابهم عن أحدها ، ولعلّهما أخذاه من قول الشيعة بجواز التقية لأتباع الأنبياء ، فقاسوا عليه جوازها في إظهار الكفر من الأنبياء ؛ وهو باطل.

__________________

(١) صحيح البخاري ٥ / ٩٢ ح ٢٠٩ وص ١٠٥ ح ٢٥٥ وج ٧ / ٦٥ ح ١٥٩ ، صحيح مسلم ٧ / ١٤١ ، سنن أبي داود ٢ / ٢٣٣ ح ٢٠٧١ ، سنن الترمذي ٥ / ٦٥٥ ـ ٦٥٦ ح ٣٨٦٧ و ٣٨٦٩ ، السنن الكبرى ـ للنسائي ـ ٥ / ١٤٧ ـ ١٤٨ ح ٨٥١٩ و ٨٥٢٠ ، مصنّف ابن أبي شيبة ٧ / ٥٢٦ ب‍ ٣٣ ح ١ ، مسند أحمد ٤ / ٥ و ٣٢٣ و ٣٢٨ ، فضائل الصحابة ـ لأحمد بن حنبل ـ ٢ / ٩٤٦ ح ١٣٢٧ وص ٩٥٠ ح ١٣٣٣ ، المعجم الكبير ٢٢ / ٤٠٤ ح ١٠١٠ ـ ١٠١٢ ، المستدرك على الصحيحين ٣ / ١٧٢ ـ ١٧٣ ح ٤٧٤٧ و ٤٧٥١ ، حلية الأولياء ٢ / ٤٠ ، السنن الكبرى ـ للبيهقي ـ ٧ / ٦٤ وج ١٠ / ٢٠١ ، مصابيح السنّة ٤ / ١٨٥ ح ٤٧٩٩.

(٢) المواقف : ٤٠٢ ، شرح المواقف ٨ / ٣٥٦.

(٣) المواقف : ٣٥٩ ، شرح المواقف ٨ / ٢٦٤.

٣٧

نعم ، هو مذهب بعض أهل السنّة كما هو صريح ابن حزم(١) عند كلامه على الآيات المنافية لعصمة إبراهيمعليه‌السلام ، قال : « وأبيح الكذب في إظهار الكفر في التقية »(٢) .

ولا ريب أنّ من يروي خبر الغرانيق حقيق بهذا الاعتقاد ؛ لأنّ إظهار الكفر للتقية أهون من إظهاره لهوى قومه.

وكذا من يروي سائر الروايات المكفّرة ويحمل الآيات على الكفر أحقّ بهذا الاعتقاد.

واعلم أنّ ما ذكراه بالنسبة إلى صدور الكبائر عن الأنبياء عمدا ـ حيث قالا : « فمنعه الجمهور من المحقّقين »(٣) ـ إنّما هو مخصوص بحال النبوّة ؛ ولذا قالا بعد ذلك : « هذا كلّه بعد الوحي والاتّصاف بالنبوّة ، وأمّا قبله فقال الجمهور : لا يمتنع أن يصدر عنهم كبيرة »(٤) ، فاللازم على الخصم التقييد!

كما إنّهما بالنسبة إلى صدورها سهوا قالا : « وأمّا صدورها عنهم سهوا أو على سبيل الخطأ في التأويل فجوّزه الأكثرون »(٥)

وقال الشارح : « والمختار خلافه »(٦)

فترك الخصم نسبة التجويز إلى الأكثر ليخفي كذبه بقوله : « ودليل الأشاعرة على وجوب عصمة الأنبياء من الكبائر سهوا وعمدا » ، وليروّج

__________________

(١) الملل والنحل ٤ / ٦. منهقدس‌سره .

(٢) الفصل في الملل والأهواء والنحل ٢ / ٢٩٠.

(٣) المواقف : ٣٥٩ ، شرح المواقف ٨ / ٢٦٤.

(٤) المواقف : ٣٥٩ ، شرح المواقف ٨ / ٢٦٥.

(٥) المواقف : ٣٥٩ ، شرح المواقف ٨ / ٢٦٥.

(٦) شرح المواقف ٨ / ٢٦٥.

٣٨

كذبه بدعوى الموافقة لنا في قوله : « لا للاحتجاج على الخصم ؛ لأنّه موافق ».

ثمّ اعلم أنّ قولهما : « فمنعه الجمهور من المحقّقين » وقول الشارح :

« قبل ظهور المخالفين »(١) دليل على وجود القائل منهم بعدم عصمة الأنبياء عن الكبائر عمدا حال النبوّة.

كما صرّح الشارح بنسبة الخلاف إلى الحشوية

وصرّح ابن حزم في كلامه السابق بنسبته إلى الكرّامية والباقلّاني وأتباعه(٢)

واختاره الغزّالي في كلامه المتقدّم تبعا للقاضي(٣)

فعلم أنّ كثيرا من أهل السنّة قائلون بعدم عصمة الأنبياء حال النبوّة عن الكبائر عمدا ، فضلا عن السهو وعمّا قبل النبوّة ، فلا معنى لنسبة الخصم الأدلّة التي ذكرها إلى الأشاعرة على الإطلاق مع دعوى أنّهم استدلّوا بها على وجوب عصمة الأنبياء عن الكبائر سهوا وعمدا ، ولا سيّما وقد ذكرها في « المواقف » وشرحها إلى تمام تسعة أدلّة ، نسبها الشارح إلى الرازي(٤) .

ثمّ أوردا عليها بقولهما : « وأنت تعلم أنّ دلالتها في محلّ النزاع ، وهي عصمة الأنبياء عن الكبيرة سهوا ، وعن الصغيرة عمدا ، ليست

__________________

(١) شرح المواقف ٨ / ٢٦٤.

(٢) الفصل في الملل والأهواء والنحل ٢ / ٢٨٤.

(٣) تقدّم في الصفحة ٣٠ ـ ٣١ عن المنخول من تعليقات الأصول : ٢٢٤.

(٤) المواقف : ٣٥٩ ، شرح المواقف ٨ / ٢٦٥ ـ ٢٦٧ ، وانظر : الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ٢ / ١١٧ ـ ١٢٢.

٣٩

بالقويّة »(١) .

فظهر أنّه لا وفاق بيننا وبين الأشاعرة في عصمة الأنبياء ؛ لأنّا نقول بعصمتهم عن الذنوب مطلقا ، صغيرة وكبيرة ، عمدا وسهوا ، قبل النبوّة وبعدها ؛ وجمهورهم لا يثبتون لهم عصمة عن الذنوب مطلقا قبل النبوّة ، وعن الصغائر مطلقا والكبائر سهوا بعد النبوّة ، وبعضهم لا يثبت لهم عصمة عن الكبائر عمدا بعد النبوّة!

بل عرفت أنّ بعضهم أجاز عليهم الكفر حتّى بعد النبوّة(٢) ، فكيف يكون بيننا وبينهم وفاق ، لا سيّما والقائل منهم بعصمة الأنبياء في الجملة إنّما يقول بها سمعا لا عقلا ، كما عرفته في الكلام الذي أخذه الخصم من « المواقف » وشرحها(٣) .

وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق هذه الأدلّة وغيرها عند ذكر المصنّف لها.

وقد أقرّ الخصم باقتضاء ما عدا الدليل الثاني لعصمتهم عن كلّ الذنوب حتّى الصغائر ، لكنّه أراد مطابقة مذهبه فزعم وجود دليل آخر على عدم عصمتهم عن الصغائر ، وهو كما يستفاد من كلامه أمور :

الأوّل : العفو عن الصغائر عند اجتناب الكبائر.

الثاني : إنّ الأنبياء بشر ، والبشر بمقتضى طباعهم عدم خلوّهم من الذنوب.

الثالث : إنّ الصغائر لا تخالف ملكة العصمة ، فلا مؤاخذة فيها.

__________________

(١) المواقف : ٣٦١ ، شرح المواقف ٨ / ٢٦٧.

(٢) انظر الصفحتين ٣٠ و ٣٣ من هذا الجزء.

(٣) راجع : الصفحة ٣٥ ، وانظر : المواقف : ٣٥٨ ـ ٣٥٩ ، شرح المواقف ٨ / ٢٦٤.

٤٠