دلائل الصدق لنهج الحق الجزء ٤

دلائل الصدق لنهج الحق0%

دلائل الصدق لنهج الحق مؤلف:
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف: مفاهيم عقائدية
ISBN: 964-319-357-8
الصفحات: 442

دلائل الصدق لنهج الحق

مؤلف: الشيخ محمد حسن المظفر
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف:

ISBN: 964-319-357-8
الصفحات: 442
المشاهدات: 80312
تحميل: 2605


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 442 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 80312 / تحميل: 2605
الحجم الحجم الحجم
دلائل الصدق لنهج الحق

دلائل الصدق لنهج الحق الجزء 4

مؤلف:
ISBN: 964-319-357-8
العربية

ويردّ على الأوّلين : إنّه لا شيء منهما يستوجب تخصيص تلك الأدلّة الموجبة لعصمتهم عن جميع الذنوب

أمّا الأوّل : فلأنّ العفو عن الصغيرة لا يخرجها عن كونها ذنبا يحرّم الاتّباع فيه ويجب النهي عنه ، ولا يمنع العفو عنها أيضا من دخول النبيّ لو فعلها تحت اللوم والمذمّة بنحو قوله تعالى :( لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ ) (١) !

وأمّا الثاني : فالأمر فيه أظهر ؛ لأنّ البشرية لا تستوجب الوقوع في الذنب حتّى يلزم تخصيص أدلّة العصمة(٢) ، وإلّا لما تمّت عصمتهم عن الكبائر أيضا!

وقوله : « وفي الآية إشارة إلى أنّ الإنسان لمّا خلق من الأرض » إلى آخره

إن أراد به أنّ خلق الإنسان من الأرض علّة تامّة لصدور الذنب عنهم(٣) ، فهو باطل ، إذ لم يقل أحد بوجوب عدم العصمة حتّى عن الصغائر(٤) ، على أنّه يلزم عدم الفرق بين الصغيرة والكبيرة!

وإن أراد به أنّه مقتض ، ففيه : إنّه لو سلّمت الإشارة في الآية إليه لم يصلح لتخصيص الأدلّة الموجبة لعصمتهم عن الذنوب مطلقا ، وإلّا انتفت عصمتهم حتّى عن الكبائر.

وأمّا الثالث : ففساده أظهر من الأوّلين ، ضرورة أنّ دعوى عدم

__________________

(١) سورة الصفّ ٦١ : ٢.

(٢) بناء على القول بأنّ الصغائر لا تخالف ملكة العصمة.

(٣) لما في تراب الأرض من كدورات وما شابه.

(٤) لأنّهم قائلون بجواز ارتكاب الصغيرة ، والعلّة التامّة تستلزم وجوب عدم العصمة ، ولم يقل به أحد.

٤١

مخالفة الصغيرة لملكة العصمة إن كانت ناشئة من جهة صغر المعصية ، فهي خالية عن دليل ، فلا بدّ من الأخذ بعموم الأدلّة المانعة من صدور كلّ ذنب عنهم حتّى الصغائر!

وإن كانت ناشئة من وقوعها نادرا ، فالكبيرة مساوية لها لو ندرت ، فلا تلزم عصمتهم عن الكبيرة النادرة أيضا ولا خصوصية للصغيرة!

هذا ، وقد خلط الخصم هنا بأمور :

منها : قوله : « والغرض أنّ كلّ ما ذكره هذا الرجل ممّا يترتّب على ذنوب الأنبياء من إبطال حجّة الله تعالى » إلى آخره.

فإنّ المصنّف لم يرتّب إبطال حجّة الله سبحانه على ذنوب الأنبياء ، بل على رواية الغرانيق المستلزمة للشرك والدعوة إلى عبادة الأصنام ، اللهمّ إلّا أن يريد الخصم بذنوب الأنبياء ما يعمّ ذلك.

ومنها : إنّه في ذيل كلامه في معنى العصمة عندهم قال : « ولمّا لم يكن خلاف ملكة العصمة فلا مؤاخذة به »

فإنّ هذا لا ربط له بتفسير هم للعصمة بأن لا يخلق الله فيهم ذنبا ؛ لأنّ هذا التفسير مقابل للقول بالملكة.

ومنها : قوله : « فإنّ الصفات النفسانية تكون في ابتداء حصولها أحوالا »

فإنّه ظاهر في إرادة أنّ صدور الصغائر عن الأنبياء إنّما هو حين كون الصفة حالا لا ملكة ، وهو خارج عن محلّ كلامه في صدور الذنب عنهم حين الملكة ، على أنّ فرض كون صفات الأنبياء في أوّل حصولها أحوالا لا يجامع القول بثبوت ملكة العصمة من أوّل النبوّة ، ولكنّ المؤاخذ بهذا الخلط هو صاحب « المواقف » وشارحها ؛ لأنّ الخصم أخذ منهما قوله :

٤٢

« وأمّا العصمة عند الحكماء ـ إلى قوله : ـ فإنّ الصفات النفسانية »(١) .

كما إنّه أخذ منهما قوله : « إنّ الأنبياء مكلّفون بترك الذنوب ـ إلى قوله : ـ فلا يمتنع صدور الذنب عنهم كما في سائر البشر »(٢) .

وقد ذكرا هذا الكلام ردّا على من زعم أنّ العصمة خاصّية في نفس الشخص أو في بدنه ، يمتنع بسببها صدور الذنب عنهم ، لكنّ الخصم سرق هذا الكلام ووضعه في غير محلّه ؛ لأنّا لا ندّعي امتناع صدور الذنب عن الأنبياء ، بل ندّعي أنّهم لا يذنبون أصلا مع وجود القدرة لهم على الذنب.

وأمّا ما ذكره من أنّ قصّة سورة النجم لم تذكر في الصحاح ، فلا يبعد صدقه فيه ، لكنّهم صحّحوا طريقين أو ثلاثة لها(٣) ، واستفاضت طرقهم لها ، وذكرها عامّة مفسّريهم ومؤرّخيهم ، واعتبرها الكثير من علمائهم(٤)

قال السيوطي في « لباب النقول » عند قوله تعالى :( وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍ ) الآية من سورة الحجّ(٥) :

« أخرج ابن أبي حاتم ، وابن جرير ، وابن المنذر ، من طريق بسند صحيح ، عن سعيد بن جبير ، قال : قرأ النبيّ بمكّة النجم ، فلمّا بلغ( أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى * وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى ) (٦) ألقى الشيطان على

__________________

(١) المواقف : ٣٦٦ ، شرح المواقف ٨ / ٢٨١.

(٢) المواقف : ٣٦٦ ، شرح المواقف ٨ / ٢٨١.

(٣) رواه البزّار والطبراني ، ورجالهما رجال الصحيح ، قاله الهيثمي في مجمع الزوائد ٧ / ١١٥ ، وأخرجه ابن مردويه والضياء في « المختارة » بسند رجاله ثقات ، كما في الدرّ المنثور ٦ / ٦٥ وصحّح ثلاث طرق أخرى من ص ٦٥ ـ ٦٨.

(٤) راجع في ذلك الصفحة ١٨ ه‍ ٢ من هذا الجزء.

(٥) سورة الحجّ ٢٢ : ٥٢.

(٦) سورة النجم ٥٣ : ١٩ و ٢٠.

٤٣

لسانه : « تلك الغرانيق العلى * وإنّ شفاعتهنّ لترتجى » ، فقال المشركون : ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم ، فسجد وسجدوا ، فنزلت :( وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍ ) الآية.

وأخرجه البزّار وابن مردويه من وجه آخر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عبّاس في ما أحسبه.

وقال البزّار : لا يروى متّصلا إلّا بهذا الإسناد.

وتفرّد بوصله أميّة بن خالد(١) ، وهو ثقة مشهور.

وأخرجه البخاري عن ابن عبّاس بسند فيه الواقدي(٢)

وابن مردويه من طريق الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عبّاس

وأورده ابن إسحاق في « السيرة » عن محمّد بن كعب وموسى بن عقبة ، عن ابن شهاب(٣)

وابن جرير ، عن محمّد بن كعب ، ومحمّد بن قيس ، وابن أبي حاتم ، عن السدّي.

كلّهم بمعنى واحد ، وكلّها [ إمّا ] ضعيفة أو منقطعة ، سوى طريق سعيد بن جبير الأولى.

قال الحافظ ابن حجر(٤) : لكن كثرة الطرق تدلّ على أنّ للقصّة

__________________

(١) كان في الأصل : « خلاد » ، وهو تصحيف ، والصواب ما أثبتناه من المصدر ، وهو : أميّة بن خالد بن الأسود بن هدبة الأزدي الثّوباني القيسي البصري ؛ انظر : الضعفاء الكبير ـ للعقيلي ـ ١ / ١٢٨ رقم ١٥٨ ، الثقات ٨ / ١٢٣ ، ميزان الاعتدال ١ / ٤٤٢ رقم ١٠٣١ ، تهذيب التهذيب ١ / ٣٨٣ رقم ٥٩٤.

(٢) لم نجده في « صحيح البخاري » المطبوع الموجود بين أيدينا!

(٣) لم نجده في « السيرة » لابن إسحاق ، المطبوع الموجود بين أيدينا!

(٤) انظر : فتح الباري ٨ / ٥٦١ تفسير سورة الحجّ.

٤٤

أصلا ، مع أنّ لها طريقين صحيحين مرسلين أخرجهما ابن جرير :

أحدهما : من طريق الزهري ، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام

والآخر : من طريق داود بن [ أبي ](١) هند ، عن أبي العالية

ولا عبرة بقول ابن العربي وعياض : إنّ هذه الروايات باطلة لا أصل لها »(٢) .

ونقل السيّد السعيد نحوه(٣) عن شهاب الدين أحمد بن محمّد القسطلاني ، في كتابه الموسوم ب‍ « المواهب اللدنّيّة » ، وقال في آخر كلامه :

« إنّ الطرق إذا كثرت وتباينت مخارجها دلّ ذلك على أنّ لها أصلا ، وقد ذكرنا أنّ ثلاثة أسانيد منها على شرط الصحيح مراسيل ، يحتجّ بمثلها من يحتجّ بالمرسل ، وكذا من لا يحتجّ به ؛ لاعتضاد بعضها ببعض »(٤) .

وأمّا ما نسبه إلى الأشاعرة من الجواب بأنّه من إلقاء الشيطان ، أو أنّه قرآن منسوخ ، والإشارة بتلك الغرانيق إلى الملائكة ، فمن أوّله إلى قوله :

__________________

(١) أضفناه من تهذيب الكمال ٦ / ٥٣ رقم ١٧٧٣ ، سير أعلام النبلاء ٦ / ٣٧٦ رقم ١٥٨ ، تهذيب التهذيب ٣ / ٢٥ رقم ١٨٧٩ ، فتح الباري ٨ / ٥٦١.

(٢) لباب النقول في أسباب النزول : ١٥٠ نقلا عن ابن أبي حاتم ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والبزّار ، وابن مردويه ، والبخاري ، وابن إسحاق.

وانظر : الدرّ المنثور ٦ / ٦٦ ـ ٦٩ نقلا عن عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن مردويه ، والبيهقي في « الدلائل » ، والطبري ، وسعيد بن منصور ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم.

وراجع ما تقدّم في الصفحة ١٨ ه‍ ٢ من هذا الجزء.

(٣) إحقاق الحقّ ٢ / ٢١٤ ـ ٢٢٣.

(٤) شرح الزرقاني على المواهب اللدنّيّة ٢ / ٢٦.

٤٥

« ومن قرأ سورة النجم » من لفظ « المواقف » وشرحها(١) .

ويرد على الأوّل : إنّه لا يجامع قول جبرئيل : « تلوت ما لم أتله عليك » ، ولا حزن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وخوفه العظيم ، إلّا أن يكون الشيطان قد خلط صوته بصوت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله على وجه لم يشعر به هو ولا جبرئيل ولا من أرسله إلى النبيّ بهذا اللوم.

فتأمّل ، فإنّ شأن القوم عجيب!

على أنّه لو أمكن إلقاء الشيطان وخلط صوته بصوت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله لفسدت الشرائع ، وما صحّ لهم أيضا أن يحتجّوا بما رووه عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله في فضل أوليائهم ؛ لجواز كونه من إلقاء الشيطان.

ويرد على الثاني : إنّه ـ أيضا ـ لا يجامع قول جبرئيل : « تلوت ما لم أتله عليك » ، ولا حزن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ لأنّه بحسب الفرض لم يتل إلّا قرآنا تلاه جبرئيل عليه.

وأمّا قول الخصم : « ومن قرأ سورة النجم وتأمّل في تتابع آياتها ، علم أنّ هذه الكلمات »

فمتّجه ؛ ولكنّه دليل على كذب الواقعة ، وأنّ رواتها الكذبة أناس لا يعقلون.

وأمّا قوله : « نعم ، يلتئم ذكرها عند ذكر الملائكة ، وهو قوله تعالى :( وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ ) (٢) » إلى آخره

فخطأ ؛ لأنّ قوله تعالى :( وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ ) إنّما هو بمعنى الكثير ، فيكون مذكّرا ؛ ولذا قال :( لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ ) (٣) ، فلا يلائم البلاغة أن

__________________

(١) المواقف : ٣٦٤ ، شرح المواقف ٨ / ٢٧٧.

(٢) سورة النجم ٥٣ : ٢٦.

(٣) سورة النجم ٥٣ : ٢٦.

٤٦

يشير إليه بما يشار به إلى المؤنّث ، وهو لفظ « تلك » ، لا سيّما بعد أن أعاد عليه ضمير المذكّر ، فقد فرّ عمّا لا يلائم البلاغة إلى ما لا يلائمها!!

ولو سلّم حسن هذه الإشارة للتعبير عن ذلك الكثير بالغرانيق ـ وهو مؤنّث ـ فلا معنى لحكمه بالنسخ للإيهام ، إذ لو وقع بعد قوله تعالى :( وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ ) لم يحتمل رجوعه إلى مدح الأصنام ؛ للفصل الكثير ، ولعدم المناسبة التي ذكرها ، فمن أين يحصل الإيهام الموجب للنسخ؟!

على أنّ المرويّ عندهم هو أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وحاشاه ـ قرأ تلك العبارة بعد قوله :( أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى * وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى ) ومدار الكلام على ذلك ، فكيف يسوغ فرض وقوعها بعد قوله :( وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ ) الآية؟!

ومن الظريف قوله : « فعلم أنّ ما اعترض عليهم هذا الرجل فهو من باب مفترياته »!!

إذ كيف يكون مفتريا عليهم وهم قد رووا هذه الرواية المشؤومة ، واعتبرها الغالب منهم ، واستدلّ بها من قال منهم بعدم عصمة الأنبياء عن الكبائر؟!

ثمّ إنّ المصنّفرحمه‌الله لم يزد على أنّ نقل عنهم سهو النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله في القرآن بما يوجب الكفر ، وظاهر الرواية التي ذكرها الخصم تعمّد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله لذلك ؛ لأنّه قرأه بعد ما تمنّى إنزال ما يقرّبه إلى قومه الذي هو من نوع مدح الأصنام ألبتّة ، فيكون متمنّيا للكفر وفاعلا له ، وهذا أسوأ حالا ، فقبّح الله ما جنوه على سيّد النبيّين.

٤٧

وأمّا ما نسبه إلى القاضي عياض في كتاب « الشفا » فافتراء عليه(١) ؛ لأنّه إنّما قال : « صدق القاضي بكر بن العلاء المالكي(٢) حيث قال : لقد بلي الناس ببعض أهل الأهواء والتفسير ، وتعلّق بذلك الملحدون »(٣) .

ولو سلّم أنّ ذلك من مفتريات الملاحدة لا أهل السنّة ، فكفاهم نقصا أن يتّبعوا في أخبارهم الملاحدة ويعتبرها علماؤهم.

هذا ، ومن العجب أنّهم يروون ذلك عن النبيّ الذي طهّره الله من الرجس ، ويروون في فضل عمر أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال له : « والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكا فجّا إلّا سلك فجّا غير فجّك »(٤)

__________________

(١) راجع الصفحة ٢٧ من هذا الجزء.

(٢) هو : أبو الفضل بكر بن محمّد بن العلاء بن محمّد القشيري ، من أهل البصرة أوّلا ، وانتقل بعدها إلى مصر ، فغدا من كبار فقهاء المالكيّين فيها ، تقلّد أعمالا للقضاء في بعض نواحي العراق قبل انتقاله إلى مصر لأمر قد اضطرّه ، وكان راوية للحديث ، حدّث عنه كثير من المصريّين والأندلسيّين والقرويّين ، توفّي في مصر سنة ٣٤٤ ه‍ وقد جاوز عمره الثمانين ، ودفن بالمقطّم منها ؛ له مصنّفات عديدة ، منها : كتاب أصول الفقه ، كتاب في مسائل الخلاف ، كتاب الردّ على المزني ، كتاب الردّ على الشافعي ، كتاب الردّ على القدرية ، كتاب الردّ على من غلط في التفسير ، تنزيه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.

انظر : ترتيب المدارك ٢ / ٢٩٠ ، سير أعلام النبلاء ١٥ / ٥٣٧ رقم ٣١٦ ، العبر ٢ / ٦٧ ، شذرات الذهب ٢ / ٣٦٦.

(٣) الشفا بتعريف حقوق المصطفى ٢ / ١٢٥ ، وانظر : شرح الشفا ـ للقاري ـ ٢ / ٢٢٦ ، نسيم الرياض ٤ / ٩٦ وفيه : « أبو بكر » بدلا من « بكر » ، وهو تصحيف ، راجع الهامش السابق.

(٤) صحيح البخاري ٤ / ٢٥٥ ـ ٢٥٦ ح ١٠٢ وج ٥ / ٧٦ ح ١٨٠ ، صحيح مسلم ٧ / ١١٥ ، مسند أحمد ١ / ١٧١ و ١٨٢ ، فضائل الصحابة ١ / ٣٠٠ ح ٣٠١ وص ٣١٤ ح ٣٢٦ ، مصنّف ابن أبي شيبة ٧ / ٤٨٢ باب ١٦ ح ٣٢ ، الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ ٨ / ١٤٧ ، السنّة ـ لابن أبي عاصم ـ : ٥٦٨ ـ ٥٦٩ ح ١٢٥٣ و ١٢٥٤ و ١٢٦٠ ، مسند أبي يعلى ٢ / ١٣٢ ـ ١٣٣ ح ٨١٠.

٤٨

وقال : « إنّ الشيطان يفرّ من حسّ عمر »(١)

وقال : « إنّ الشيطان يفرق من عمر »(٢)

وقال كما في « الصواعق » : « إنّ الشيطان لم يلق عمر منذ أسلم إلّا خرّ لوجهه »(٣)

.. إلى غير ذلك.

فليت شعري هلّا كان عندهم بعض هذه المنزلة لسيّد النبيّين وخيرة الله من خلقه أجمعين؟!

* * *

__________________

(١) تاريخ دمشق ٤٤ / ٨١ ، كنز العمّال ١١ / ٥٨١ ح ٣٢٧٦٥.

(٢) مسند أحمد ٥ / ٣٥٣ ، تاريخ دمشق ٤٤ / ٨٢ ، كنز العمّال ١١ / ٥٧٤ ح ٣٣٧٢٠.

(٣) الصواعق المحرقة : ١٤٨ ، وانظر : المعجم الكبير ٢٤ / ٣٠٥ ح ٧٧٤ ، المعجم الأوسط ٤ / ٣٦٨ ح ٣٩٤٣ ، فردوس الأخبار ٢ / ١٧ ح ٣٥٠٩ ، تاريخ دمشق ٤٤ / ٨٦.

٤٩

قال المصنّف ـ أعلى الله مقامه ـ(١) :

ورووا عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه صلّى الظهر ركعتين ، ( فقال أصحابه : أقصرت الصلاة ، أم نسيت يا رسول الله؟! فقال : كيف ذلك؟! فقالوا : إنّك صلّيت ركعتين ؛ فاستشهد على ذلك رجلين ، فلمّا شهدا بذلك قام فأتمّ الصلاة )(٢) (٣) .

ورووا في الصحيحين أنّه صلّى بالناس صلاة العصر ركعتين ودخل حجرته ، ثمّ خرج لبعض حوائجه فذكّره بعض أصحابه فأتمّها(٤) .

وأيّ نسبة أنقص من هذا وأبلغ في الدناءة؟! فإنّها تدلّ على إعراض النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله عن عبادة ربّه ، وإهمالها والاشتغال عنها بغيرها ، والتكلّم في الصلاة ، وعدم تدارك السهو من نفسه لو كان ، نعوذ بالله من هذه الآراء الفاسدة.

__________________

(١) نهج الحقّ : ١٤٦.

(٢) في المصدر بدل ما بين القوسين هكذا : فقال له ذو اليد : أقصرت الصلاة ، أم نسيت يا رسول الله؟! فقال : أصدق ذو اليد؟ فقال الناس : نعم ؛ فقام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فصلّى اثنتين أخريين ثمّ سلّم.

(٣) انظر : صحيح البخاري ١ / ٢٠٦ ح ١٣٩ وص ٢٨٨ ح ١٠٤ وج ٢ / ١٥٠ ـ ١٥١ ح ٢٥٠ ـ ٢٥٣ وج ٨ / ٢٩ ح ٧٩ ، صحيح مسلم ٢ / ٨٦ و ٨٧ ، سنن أبي داود ١ / ٢٦٣ ح ١٠٠٨ وص ٢٦٥ ح ١٠١٤ و ١٠١٥ ، سنن الترمذي ٢ / ٢٤٧ ح ٣٩٩ ، سنن النسائي ٣ / ٢٣ ـ ٢٤ ، سنن ابن ماجة ١ / ٣٨٣ ح ١٢١٣ و ١٢١٤ ، الموطّأ : ٨٠ ـ ٨١ ح ٦٥ و ٦٦ ، مسند أحمد ٢ / ٢٣٤ ـ ٢٣٥ و ٤٢٣.

(٤) صحيح البخاري ١ / ٢٨٨ ح ١٠٣ ، صحيح مسلم ٢ / ٨٧ ، وانظر : سنن النسائي ٣ / ٢٤ ، سنن الدارمي ١ / ٢٥١ ح ١٥٠٠ ، الموطّأ : ٨٠ ح ٦٤ ، مسند أحمد ٢ / ٤٥٩ ـ ٤٦٠ ، زوائد عبد الله في المسند : ١٨١ ح ٣٠ وص ١٨٤ ح ٣١.

٥٠

وقال الفضل(١) :

ما رووا من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في الصلاة(٢) حتّى قال له ذو اليدين :

أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله؟! فلمّا علم وقوع السهو منه تدارك(٣) .

وأيّ نقص ودناءة في السهو وقد قال تعالى في القرآن :( وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ ) (٤) ؟! وهذا تصريح بجواز السهو والنسيان ، والحكمة فيه أن يصير هذا تشريعا للسهو في الصلاة.

وإنّ الكلام القليل الذي يتعلّق بأمر الصلاة لا يضرّ ، وكذا الحركة المتعلّقة بالصلاة ، فيمكن أنّ الله تعالى أوقع عليه هذا السهو وأنساه الصلاة لتشريع هذه الأمور التي ذكرناها ، ولا يقدح السهو الذي ذكرنا فوائده في العصمة.

وأيّ دناءة ونقص في هذا؟! فإنّ الله تعالى أنساه لوقوع التشريع وقد قال تعالى :( ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها ) (٥) ، فإنّ الإنساء في أحد المعنيين هو إيقاع النسيان عليه.

وقد قال تعالى في حقّ يوسف وهو من الأنبياء المرسلين :( فَأَنْساهُ

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ٢ / ٢٢٦.

(٢) كذا وردت العبارة في الأصل و « إحقاق الحقّ » ونسخه المخطوطة.

(٣) انظر الهامش رقم ٣ من الصفحة السابقة.

(٤) سورة الأنعام ٦ : ٦٨.

(٥) سورة البقرة ٢ : ١٠٦.

٥١

الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ ) (١) .

وكما إنّه يجب أن يقدّر الله حقّ قدره لقوله :( وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ ) (٢) ، كذلك يجب أن يقدّر الأنبياء حقّ قدرهم ، ويعلم ما يجوز عليهم وما لا يجوز ، وقد قال تعالى :( إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ) (٣) .

وقد عاب الله الكفّار بالمبالغة في تنزيه الأنبياء عن أوصاف البشر بقوله :( وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ ) (٤)

وقال تعالى :( سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً ) (٥) .

* * *

__________________

(١) سورة يوسف ١٢ : ٤٢.

(٢) سورة الأنعام ٦ : ٩١.

(٣) سورة فصّلت ٤١ : ٦.

(٤) سورة الفرقان ٢٥ : ٧.

(٥) سورة الإسراء ١٧ : ٩٣.

٥٢

وأقول :

لا ريب في عصمة الأنبياء عن السهو في العبادة لأمور :

*الأوّل : قوله تعالى :( فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ ) (١) ، فإنّه سبحانه جعل السهو صفة نقص ودخيلا في استحقاق الويل ، بلا فرق بين ما يوجب ترك أصل الصلاة أو أجزائها ؛ لأنّهما معا ناشئان من السهو عنها ، فكيف يكون النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله من الساهين؟! بل لو سها كان أولى الناس بالويل ، اللهمّ إلّا أن تخصّ الآية بالسهو عن أصل الصلاة ، ولكنّهم رووا أيضا سهوه عن أصلها كما ستعرف!

*الثاني : إنّه لو سها دخل باللوم في قوله تعالى :( لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ ) (٢) ، وقوله تعالى :( أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ ) (٣) فإنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله هو القائل : « ركعتان مقتصدتان خير من قيام ليلة والقلب ساه »(٤)

وهو القائل : «من توضّأ فأسبغ الوضوء ، ثمّ قام يصلّي صلاة يعلم ما يقول فيها حتّى يفرغ من صلاته ، كان كهيئة يوم ولدته أمّه »(٥)

__________________

(١) سورة الماعون ١٠٧ : ٤ و ٥.

(٢) سورة الصفّ ٦١ : ٢.

(٣) سورة البقرة ٢ : ٤٤.

(٤) الزهد ـ لابن المبارك ـ : ١١٨ ح ٢٨٨ وص ٣٢٩ ح ١١٤٧ ، العظمة ـ لأبي الشيخ الأصبهاني ـ : ٣٣ ح ٤٥ ، إحياء علوم الدين ١ / ٢٠١ ، تفسير ابن كثير ١ / ٤١٤.

(٥) المصنّف ـ لعبد الرزّاق ـ ١ / ٤٦ ح ١٤٢ ، المعجم الكبير ١٧ / ٣٣٩ ح ٩٣٧ نحوه ، المستدرك على الصحيحين ٢ / ٤٣٣ ح ٣٥٠٨ وصحّحه وأقرّه الذهبي.

٥٣

والقائل : «لا صلاة لمن لا يتخشّع في صلاته »(١)

والقائل : «إذا صلّيت فصلّ صلاة مودّع »(٢) (٣)

وهو القائل : «إيّاكم وأن يتلعّب بكم الشيطان »(٤) لمّا قال له رجل : يا رسول الله! إنّي صلّيت فلم أدر أشفعت أم أوترت؟

.. إلى نحو ذلك ممّا روي عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

فكيف والحال هذه أن يصلّي جماعة ساهيا حتّى ينقص من أربع ركعات ركعتين؟!

*الثالث : إنّه استفاض أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله تنام عيناه ولا ينام قلبه ، حتّى عقد له البخاري بابا في كتاب « بدء الخلق » وروى فيه ثلاثة أحاديث ، وفي أحدها : «وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم »(٥) .

فكيف من لا ينام قلبه حال النوم ينام قلبه حال اليقظة عن عبادة ربّه التي روحها الإقبال على الله تعالى؟!

__________________

(١) كنز العمّال ٧ / ٥٢٦ ح ٢٠٠٨٨ عن الديلمي.

(٢) سنن ابن ماجة ٢ / ١٣٩٦ ح ٤١٧١ ، مسند أحمد ٥ / ٤١٢ ، المعجم الكبير ٤ / ١٥٥ ح ٣٩٨٧ ، حلية الأولياء ١ / ٣٦٢ ، إحياء علوم الدين ١ / ٢٠٠ ، كنز العمّال ٧ / ٥٢٨ ح ٢٠٠٩٥.

(٣) راجع عن هذه الأحاديث : كنز العمّال ٤ / ٢٣٠ و ١١٢ وما بعدها. منهقدس‌سره .

(٤) مسند أحمد ١ / ٦٣. منهقدس‌سره .

وانظر : مجمع الزوائد ٢ / ١٥٠ ، كنز العمّال ٨ / ١٣٤ ح ٢٢٢٥٩ ، وفي المصادر الثلاثة هذه : « إيّاي » بدل « إيّاكم »!!

(٥) صحيح البخاري ٥ / ٣٣ ـ ٣٤ ح ٧٧ كتاب المناقب / باب كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله تنام عينه ولا ينام قلبه ، وانظر : سنن أبي داود ١ / ٥١ ح ٢٠٢ ، مسند أحمد ١ / ٢٧٤ ، المعجم الكبير ١٢ / ٣٦ ح ١٢٤٢٩ ، المصنّف ـ لعبد الرزّاق ـ ٢ / ٤٠٥ ح ٣٨٦٣ و ٣٨٦٤ ، صحيح ابن خزيمة ١ / ٢٩ ـ ٣٠ ح ٤٨ و ٤٩ ، الإحسان بترتيب صحيح ابن حبّان ٨ / ١٠١ ح ٦٣٥١ و ٦٣٥٢ ، حلية الأولياء ٤ / ٣٠٥.

٥٤

*الرابع : إنّ وقوع السهو من الأنبياء في العبادة مناف لحكمة البعثة ، فإنّ الحكمة فيها إرشاد الخلق وتقريبهم إلى ما هو الأحبّ إلى الله تعالى والأصلح لهم.

ومن المعلوم أنّ الإقبال على عبادة الله تعالى أحبّ الأمور إلى الله تعالى وأصلحها للعبد ، وأنّ السهو مناف للإقبال ، فإذا لم يقبل النبيّ على عبادة ربّه وصدر منه السهو كانت الأمّة أولى بذلك وأحقّ بالمسامحة في العبادة!

وهذا من أكبر المنافيات لمنصب الدعوة إلى الله تعالى والقرب منه.

وأمّا ما احتمله الخصم من الإسهاء ، فخلاف ظاهر أخبارهم التي ذكرها المصنّفرحمه‌الله وغيرها ، بل خلاف صريح بعضها

فقد ذكر في « كنز العمّال »(١) حديثين من أخبار المقام ، قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله فيهما : « إنّما أنا بشر أنسى كما تنسون » ، أحدهما : عن البيهقي وسنن النسائي وأبي داود وابن ماجة(٢)

والآخر : عن سنن ابن ماجة ومسند أحمد(٣) .

وذكر في « الكنز »(٤) أيضا حديثا آخر عن سنن أبي داود ، قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله فيه : « إن نسّاني [ الشيطان ] شيئا من صلاتي فليسبّح القوم

__________________

(١) ج ٤ ص ١٠١ [ ٧ / ٤٧٠ ح ١٩٨٢٤ ]. منهقدس‌سره .

(٢) انظر : السنن الكبرى ـ للبيهقي ـ ٢ / ٣٣٥ ، سنن النسائي ٣ / ٢٨ و ٢٩ و ٣٣ ، سنن أبي داود ١ / ٢٦٧ ح ١٠٢٠ و ١٠٢٢ ، سنن ابن ماجة ١ / ٣٨٠ ح ١٢٠٣.

(٣) كنز العمّال ٧ / ٤٧٢ ح ١٩٨٣٣ ، وانظر : سنن ابن ماجة ١ / ٣٨٢ ح ١٢١١ ، مسند أحمد ١ / ٣٧٩.

(٤) ج ٤ ص ١٠١ [ ٧ / ٤٧٢ ح ١٩٨٣٧ ]. منهقدس‌سره .

٥٥

ولتصفّق النساء »(١)

.. إلى غير ذلك ممّا رووه

فكيف مع هذا يحتمل الخصم الإسهاء؟!

على أنّ الإسهاء بما ظاهره السهو محال ؛ لأنّه يجعل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله عرضة للدخول تحت قوله تعالى :( فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ ) الآية(٢) ، وللّوم والمذمّة بأنّه يقول ما لا يفعل ، ويأمر الناس بالبرّ وينسى نفسه ، وعرضة لتكذيبه بدعوى أنّه تنام عيناه ولا ينام قلبه ، كما أنّه مناف لحكمة البعثة وللطف الله بعباده ، حيث أسهى نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأبعد الناس عن قربه بسبب إسهاء مقتداهم.

وتلك مفاسد لا تتلافى بحكمة التشريع الذي يمكن فيه البيان اللفظي ، بل لمّا استفاض البيان اللفظي من النبيّ لم يبق موضوع لحكمة التشريع.

ثمّ إنّا نسأل من يزعم الإسهاء عن الأمر الذي يشرّع بالإسهاء ، هل هو جواز السهو أو هو ما يترتّب على السهو من سجود السهو ونحوه؟!

فإن كان هو الثاني كان وقوع الإسهاء لغوا ؛ لأنّ بيان سجدتي السهو والركعات المنسية لا يتوقّف على الإسهاء.

وإن كان هو الأوّل كان الأمر أشنع ؛ لأنّ الإسهاء غير اختياري للعبد فلا حكم له ، فكيف يشرّع به جواز السهو الذي هو اختياري له لإمكان تحفّظه عنه؟!

ولو سلّم أنّه غير اختياري أيضا فهو لا حكم له أيضا ، ولا معنى

__________________

(١) وانظر : سنن أبي داود ٢ / ٢٥٩ ـ ٢٦٠ ح ٢١٧٤.

(٢) سورة الماعون ١٠٧ : ٤.

٥٦

لتشريع ما لا حكم له بما لا حكم له!

على أنّ الإسهاء فعل الله تعالى ، والسهو فعل المكلّف ، فكيف يشرّع حكم أحدهما بوقوع الآخر؟!

وأيضا : يكفي في تشريع السهو وقوعه مرّة أو مرّتين ، فما بالهم أسندوه إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله مرارا كثيرة حتّى عقد البخاري أبوابا عديدة متّصلة ذكر فيها سهو النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله (١) ؟!

فمرّة نسبوا إليه أنّه سها عن الجلوس(٢)

ومرّة صلّى الظهر خمسا(٣)

وأخرى صلّى إحدى الظهرين اثنتين(٤)

وتارة صلّى المغرب اثنتين(٥)

.. إلى غير ذلك ممّا نقّصوا به عظيم مقامه!!

__________________

(١) صحيح البخاري ٢ / ١٤٩ ـ ١٥٢ ح ٢٤٧ ـ ٢٥٤.

(٢) صحيح البخاري ٢ / ١٤٩ ـ ١٥٠ ح ٢٤٧ و ٢٤٨ ، صحيح مسلم ٢ / ٨٣ ، سنن أبي داود ١ / ٢٧٠ ح ١٠٣٤ و ١٠٣٥ ، سنن الترمذي ٢ / ٢٣٥ ح ٣٩١ ، سنن ابن ماجة ١ / ٣٨١ ح ١٢٠٦ و ١٢٠٧ ، سنن النسائي ٣ / ٣٤.

(٣) صحيح البخاري ٢ / ١٥٠ ح ٢٤٩ ، صحيح مسلم ٢ / ٨٥ ، سنن أبي داود ١ / ٢٦٦ ح ١٠١٩ و ١٠٢٢ ، سنن الترمذي ٢ / ٢٣٨ ح ٣٩٢ ، سنن ابن ماجة ١ / ٣٨٠ ح ١٢٠٥ ، سنن النسائي ٣ / ٣١ ـ ٣٢ ، مسند الشاشي ١ / ٣٣٣ ـ ٣٣٤ ح ٣٠٨ و ٣٠٩.

(٤) صحيح البخاري ٢ / ١٥٠ ح ٢٥٠ و ٢٥١ ، صحيح مسلم ٢ / ٨٦ ، سنن أبي داود ١ / ٢٦٣ ح ١٠٠٨ ، سنن الترمذي ٢ / ٢٤٧ ح ٣٩٩ ، سنن ابن ماجة ١ / ٣٨٣ ح ١٢١٣ ، السنن الكبرى ـ للنسائي ـ ١ / ٣٦٥ ح ١١٥٠.

(٥) صحيح البخاري ٢ / ١٥٠ ذ ح ٢٥٠ ، المستدرك على الصحيحين ١ / ٤٦٩ ح ١٢٠٦.

٥٧

وكيف يشكّ عاقل في أنّه نقص ، لا سيّما وقد قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله في بعض ما رواه البخاري : «لم أنس ولم أقصّر »(١)

وفي رواية مسلم : «كذلك لم يكن »(٢)

فكان منهصلى‌الله‌عليه‌وآله على فرض الوقوع سهوا في سهو ، وكذبا في غلط ، فتضاعف النقص ، وهو لا يناسب منصب النبوّة والدعوة!

وسيأتي الكلام إن شاء الله تعالى في ما زعمه الخصم من تشريع الكلام والحركة المتعلّقة بالصلاة.

وأمّا ما استدلّ به ممّا يدلّ على وقوع السهو من الأنبياء ، فلا ربط له بما نحن فيه من السهو في العبادة ، على أنّ قوله تعالى :( وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) (٣) يمكن أن يكون من قبيل : مهما نسيت شيئا فلا تقعد مع زيد ناسيا ، فحذف من جزاء الآية لفظ ناسيا ، والمعنى ـ والله أعلم ـ : مهما نسيت شيئا فلا تنس عدم القعود معهم بعد ما ذكرت لك حرمته وبيّنتها لك.

ومثل هذا يقال لبيان أهمّية الجزاء بلا نظر إلى وقوع الطرفين أو جوازه ، فلا تكون الآية دليلا على وقوع النسيان من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى في غير الصلاة.

وأمّا قوله تعالى :( فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ ) (٤) فيعلم المراد منه بعد سماع الآية

__________________

(١) صحيح البخاري ٢ / ١٥١ ح ٢٥٣.

(٢) صحيح مسلم ٢ / ٨٧ وفيه : « كلّ ذلك » بدلا من « كذلك ».

(٣) سورة الأنعام ٦ : ٦٨.

(٤) سورة يوسف ١٢ : ٤٢.

٥٨

قال تعالى :( وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ ) .

ولا شكّ أنّه بمقتضى ظاهر الآية يراد بضمير فَأَنْساهُ : مظنون النجاة لا يوسفعليه‌السلام ، وبالربّ في المقامين : الصاحب الخاصّ ، فلا ربط لها بالمدّعى.

وأمّا قوله تعالى :( ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها ) (١) فليس المقصود به إنساء النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، كيف؟! وقد قال تعالى :( سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى ) (٢) .

هذا إذا أريد بالآية آية القرآن.

وأمّا إذا أريد بها سائر المعجزات ودلائل النبوّة ، فالمراد ـ والله أعلم ـ : إنّا إذا أعرضنا عن إحدى دلائل النبوّة أو أنسيناها جئنا بخير منها وأعظم دليلا على النبوّة ، وهذا بالضرورة إنّما يتعلّق بأمم الأنبياء.

وأمّا ما زعمه من مساواة الأنبياء للناس بالبشرية مستدلّا عليه بالكتاب العزيز

ففيه : إنّ المساواة بالبشرية لا تقتضي المساواة في كلّ شيء ، وإلّا لجاز أن تقع منهم كلّ المعاصي ، حتّى الكفر ، والخصم لا يقول به ، وليس زائدا على قدرهم منع الرذائل والنقائص عنهم ، كالسهو في العبادة وصدور المعاصي عنهم.

هذا ، وممّا يشهد بكذب نسبة السهو إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله في العبادة أنّ

__________________

(١) سورة البقرة ٢ : ١٠٦.

(٢) سورة الأعلى ٨٧ : ٦.

٥٩

أبا هريرة الراوي لواقعة ذي اليدين ، قد أسلم عام خيبر(١) ، وأنّ ذا اليدين وهو ذو الشمالين عمير بن عبد عمرو قتل يوم بدر قبل إسلام أبي هريرة بسنين.

قال في « الاستيعاب » بترجمة ذي الشمالين : « اسمه عمير بن عبد عمرو بن نضلة بن عمرو بن غبشان بن سليم

وقال ابن إسحاق : هو خزاعي ، يكنّى أبا محمّد ، حليف لبني زهرة ، كان أبوه عبد عمرو(٢) بن نضلة قدم فحالف عبد الحارث بن زهرة ، وزوّجه ابنته نعمى ، فولدت له عميرا ذا الشمالين ، كان يعمل بيديه جميعا ، شهد بدرا ، وقتل يوم بدر شهيدا ، قتله أسامة الجهمي(٣) »(٤) .

وإنّما قلنا : إنّ ذا اليدين هو ذو الشمالين لما روي عن إمامنا الصادقعليه‌السلام أنّه هو(٥)

ولأخبار القوم أنفسهم

ففي مسند أحمد(٦) ، بسند رجاله من رجال الصحيحين ، قال : « حدّثنا عبد الرزّاق ، حدّثنا معمر ، عن الزهري ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وأبي بكر بن سليمان بن أبي خيثمة ، عن أبي هريرة ، قال :

__________________

(١) انظر : سير أعلام النبلاء ٢ / ٥٨٦ رقم ١٢٦ ، تهذيب التهذيب ١٠ / ٢٩٦ رقم ٨٧٠٨ ، الإصابة في تمييز الصحابة ٧ / ٤٣٤ رقم ١٠٦٧٤.

(٢) كان في الأصل : « عبد بن عمرو » ، وكلمة « بن » هنا من سبق القلم ، والتصويب ممّا أثبته الشيخ المظفّرقدس‌سره آنفا ومن المصدر.

(٣) في المصدر : الجشمي.

(٤) الاستيعاب ٢ / ٤٦٩ رقم ٧١٦.

(٥) تهذيب الأحكام ٢ / ٣٤٥ ح ١٤٣٣.

(٦) ج ٢ ص ٢٧١. منهقدس‌سره .

٦٠