دلائل الصدق لنهج الحق الجزء ٧

دلائل الصدق لنهج الحق0%

دلائل الصدق لنهج الحق مؤلف:
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف: مفاهيم عقائدية
ISBN: 964-319-360-8
الصفحات: 601

دلائل الصدق لنهج الحق

مؤلف: الشيخ محمد حسن المظفر
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف:

ISBN: 964-319-360-8
الصفحات: 601
المشاهدات: 82106
تحميل: 2186


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 601 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 82106 / تحميل: 2186
الحجم الحجم الحجم
دلائل الصدق لنهج الحق

دلائل الصدق لنهج الحق الجزء 7

مؤلف:
ISBN: 964-319-360-8
العربية

عبد الله بن عامر بن ربيعة.

ونقله ـ أيضاً(١) ـ ، عن البيهقي ، عن عليّ (عليه السلام).

فإذا كان الأمر كذلك ، فلِمَ أسقط حقّها من فدك وتصرّف فيها بمجرّد سكوتها عن طلب يمينها ما لم تُسقط حقّها في اليمين كسائر الحقوق؟!

ولو فُرض أنّ أبا بكر لا يرى الحكم بشاهد ويمين ، فقد كان اللازم عليه أن لا يمسك فدك إلاّ بيمينه ، أو تعفو عنه ؛ لأنّه الخصم المنكر.

ودعوى أنّها صدقة لا خصم بها ، ظاهرة البطلان ؛ لأنّ مستحقَّ هذه الصدقة ومدعيها خصمٌ فيها ، وأبو بكر من مستحقّيها ، وصاحبُ الولاية عليها بزعمه ، ومتظاهر في الخصومة بها.

ولو تنزّلنا عن ذلك كلّه ، فقد زعم أبو بكر أنّ له الأمر على فدك وغيرها من متروكات النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ، حيث روى أنّ أمرها إلى من ولي الأمر(٢) ، حتّى زعموا أنّه أعطى أميرَ المؤمنين (عليه السلام) عمامةَ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وسيفَه وبغلتَه(٣) ، وأنّ عمر أعطاه والعبّاسَ سهمَ بني النضير أو صدقتَه بالمدينة(٤) .

فقد كان من شرع الإحسان أن يترك فدك لبضعة نبيّه (صلى الله عليه وآله وسلم) التي لم

__________________

وانظر : سنن الدارقطني ٤ / ١١٦ ح ٤٤٥٠ ، السنن الكبرى ـ للبيهقي ـ ١٠ / ١٧٣ كتاب الشهادات ، باب القضاء باليمين مع الشاهد.

(١) ص ٦ من الجزء الرابع [٧ / ٢٣ ح ١٧٧٨٦]. منه (قدس سره).

وانظر : السنن الكبرى ـ للبيهقي ـ ١٠ / ١٧٣ كتاب الشهادات.

(٢) انظر : صحيح البخاري ٤ / ١٧٨ ذ ح ٢ ، صحيح مسلم ٥ / ١٥٥ ـ ١٥٦ ، مسند أحمد ١ / ٦ ـ ٧ ، السنن الكبرى ـ للبيهقي ـ ٦ / ٣٠١ و ٣٠٢.

(٣) تقدم تخريجه في الصفحة ٧٣ هـ ١ ، وراجع الصفحة ٨٧ هـ ١ ، من هذا الجزء.

(٤) راجع الصفحة ٧٧ ، من هذا الجزء.

١٢١

يخلف بينهم غيرها ؛ تطييباً لخاطرها ، وحفظاً لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيها.

أتراه يعتقد أنّ أبا سفيان ومعاذاً ـ وقد أعطاهما ما أعطاهما(١) ـ أَوْلى بالرعاية من سيّدة النساء وبضعة المصطفى؟!

أو أنّه يحلُّ له إعطاؤهما من مال الفيء دون الزهراء من مال أبيها؟!

أو أنّه يعتقد صدق جابر وغيره ممّن ادّعوا عِدَة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأعطاهم(٢) ، ولا يعتقد صدق الطاهرة البتول فمنعها؟!

أو أنّه عدوٌّ مكنه الدهر من عدوّه فاجتهد بأذاه ، ووجد سبيلا إلى إضعاف أمر سيّده ومولاه؟!

والمنصِف يعرف حقيقة الحال ، ويبني على ما اللهُ تعالى سائله يوم تنتشر الأعمال.

فقد ظهر ممّا بيّنّا أنّ أبا بكر لم يعامل سيّدة النساء بشرع الإسلام ، ولا شرع الإحسان والوفاء!

كما ظهر بطلان ما فعله شريح مع أمير المؤمنين (عليه السلام)(٣) ؛ فإنّ الواجب عليه أن لا يطلب من أمير المؤمنين البيّنة ، بل عليه ، وعلى المسلمين أن يفعلوا فِعل خزيمة ؛ لعلمهم بأنّ علاّم الغيوب شهد بطهارته وعصمته.

ولكن لا عجب من شريح ؛ لأنّه ليس أهلا للقضاء ، كما قاله أمير المؤمنين (عليه السلام) وقد أراد عزله ، فقال كثير من أهل الكوفة : قاض نصبه

__________________

(١) راجع الصفحتين ٩٠ ـ ٩١ ، من هذا الجزء.

(٢) راجع الصفحتين ٨٩ ـ ٩٠ ، من هذا الجزء.

(٣) راجع الصفحة ٨٠ ، من هذا الجزء.

١٢٢

عمر لا يُعزل(١) ؛ وإنّما حضر أمير المؤمنين (عليه السلام) عنده لرفع التهمة عن نفسه.

وما نقله الخصم من أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) قال : «ألا تعلم أنّ هذه الدعوى لحقّ بيت المال وها هنا تُسمع شهادة الفرع؟!»

فكذبٌ ظاهر ؛ لدلالته على أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) لا يقول بسماع شهادة الفرع لحقّ الأصل ، وهو خلاف مذهبه ؛ ولذا رضي بشهادة الحسنين لأُمهما (عليها السلام).

نعم ، لا يرى أمير المؤمنين (عليه السلام) سماع شهادة الفرع على الأصل ، كما دلّت الأخبار عنه وعن أبنائه الطاهرين(٢) .

وأمّا قوله : «فلو تمّ حجة حكم ، وإلاّ توقف»

ففيه : إنّا لم نرَ أبا بكر توقف ، بل قبض فدك وتصرّف بها ساكن الجأش(٣) ، مطمئنّ النفس ، كأنّه ورث مال أبيه.

ولعلّ الخصم يزعم أنّ الحجّة تمّت ظاهراً لأبي بكر فلا يبقى مجال لتوقّفه ، وهو خطأ ؛ إذ لا أقلّ من الحاجة إلى يمين أبي بكر ، أو امتناع الزهراء عن اليمين ، لو لم تتمّ لها الحجة إلاّ به.

وأما ما أجاب به عن شهادة الحسنين

__________________

(١) انظر : تنقيح المقال ٢ / ٨٣ ترجمة شريح ، كشف القناع : ٨٤.

(٢) راجع : تهذيب الأحكام ٦ / ٢٥٦ ح ٦٧٢ ، من لا يحضره الفقيه ٣ / ٤٢ ح ١٤١ ، وسائل الشيعة ٢٧ / ٤٠٢ ـ ٤٠٥ ب ٤٤ ـ ٤٦ ح ٣٤٠٦٢ ـ ٣٤٠٧٢.

(٣) الجأْشُ : النفس ، وقيل : القلب ، وقيل : رِباطه وشِدتُه عند الشيء تسمعه لا تدري ما هو ، وجأش القلب : رُوَاعه ، وجأش النفس : رُواعُ القلب ، فإذا اضطرب عند الفزع يقال : واهي الجأش ، فإذا ثبت يقال : رابِط الجأش.

انظر : لسان العرب ٢ / ١٥٧ ـ ١٥٧ مادّة «جأش».

١٢٣

فغير صحيح ؛ إذ لا يمكن أن يخفى ذلك على باب مدينة عِلم النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)(١) ومَن عنده علم الكتاب(٢) ويدور معه الحقّ حيث دار(٣) ، ويظهر لهذا الخصم وأشباهه!

فلا ريب بجواز شهادة الفرع للأصل ؛ لرضا أمير المؤمنين (عليه السلام) بها ، مع طلب سيّدة النساء (عليها السلام) لها.

كما أنّ صغرهما غير مانع ؛ لأنّ الله تعالى عرّف الأُمّة كمالهما وفضلهما على جميع الأُمّة ، حيث أمر سيّد أنبيائه بأن يجعلهما عوناً له في المباهلة ، وأمرهما بالتأمين على دعائه.

ولولا مضيّ شهادتهما مع صغرهما لَما رضي أمير المؤمنين بها.

وليت شعري ، أين منهم هذه المناقشات والتقشّفات(٤) عن عائشة لمّا رأت أنّ الحجرة لها ، حتّى استأذنها عمر في دفنه ـ كما رووا(٥) ـ ،

__________________

(١) تقدّم مبحث الحديث مفصّلا في : ج ٦ / ١٧١ ـ ١٨١ ، من هذا الكتاب ؛ فراجع!

(٢) تقدّم مبحث الآية الكريمة مفصّلا في : ج ٥ / ١١٥ ـ ١١٩ ، من هذا الكتاب ؛ فراجع!

(٣) تقدّم مبحث الحديث مفصّلا في : ج ٦ / ٢٢٧ ـ ٢٣٤ ، من هذا الكتاب ؛ فراجع!

(٤) كذا في الأصل ؛ ولعلّه تصحيف : «التعسّفات».

والتقشّفات ـ في اللغة ـ : جمع التقشّف ، وهو إظهار القَشَفِ ؛ بمعنى رثاثة الهيئة وسوء الحال وقذَر الجلد وضيق العيش ، ورجل قَشِفٌ إذا لوّحته الشمس أو الفقر فتغيّر ؛ انظر : لسان العرب ١١ / ١٧٥ مادّة «قشف».

فيكون مراد المصنّف (قدس سره) بها هنا : رثاثة الأدلّة وسقوطها ، وسوء استخدام الكلام ، وشدّة التمحّل والتعسّف في المناقشات.

(٥) صحيح البخاري ٥ / ٨٦ ضمن ح ١٩٦ ، مصنّف ابن أبي شيبة ٣ / ٢٣٠ ب ١٥١ ح ٥ وج ٨ / ٥٧٦ ضمن ح ٤ ، الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ ٣ / ٢٧٦ و ٢٧٧ ، الإحسان بترتيب صحيح ابن حبّان ٩ / ٣٤ ضمن ح ٦٨٧٨ ، تاريخ دمشق ٤٤ / ٤١٦ ، شرح نهج البلاغة ١٢ / ١٨٨.

١٢٤

وكذا بقيّة أزواج النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في حُجرهنّ وأثاثهنّ؟! فإنّا لم نسمع أنّهم سألوهنّ البيّنة على الملكيّة فأقمنها!!

وسيأتي لهذا تتمة في أواخر هذه المباحث.

وأما ما زعمه من أنّ غضب الزهراء على أبي بكر كان من العوارض البشرية

فحاصل مقصوده منه : أنّه غضب باطل خارج عن الغضب المقصود بقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) : «إنّ الله يغضب لغضبك ، ويرضى لرضاك ».

وفيه : إنّه عليه يكون المراد بالحديث : إنّ الله يغضب لغضب فاطمة إذا كان غضباً بحقّ ، ومن باب العداوة الدينيّة ، فلا يدلّ على فضلها ؛ إذ كلّ مؤمن كذلك.

وهو مما لا يقوله ذو معرفة ، فلا بُد أن يكون المراد أنّها لا تغضب إلاّ بحقّ ، كما يقتضيه إطلاق غضبها في الحديث ، وسيأتي له زيادة تحقيق إن شاء الله تعالى.

وهذا الحديث قد رواه الحاكم في «المستدرك» ، وصحّحه(١) .

وحكاه في «كنز العمّال»(٢) ، عن أبي يعلى ، والطبراني ، وأبي نُعيم ، وابن عساكر.

وحكاه ـ أيضاً ـ ، عن الديلمي بلفظ : «إنّ الله عزّ وجلّ يغضب لغضب فاطمة ، ويرضى لرضاها »(٣) .

__________________

(١) ص ١٥٤ من الجزء الثالث [٣ / ١٦٧ ح ٤٧٣٠]. منه (قدس سره).

(٢) ص ٣١٩ من الجزء السادس [١٢ / ١١١ ح ٣٤٢٣٨]. منه (قدس سره).

وانظر : المعجم الكبير ١ / ١٠٨ ح ١٨٢ وج ٢٢ / ٤٠١ ح ١٠٠١ ، فضائل الخلفاء الأربعة ـ لأبي نُعيم ـ : ١٢٤ ـ ١٢٥ ح ١٤٠ ، تاريخ دمشق ٣ / ١٥٦.

(٣) كنز العمّال ١٢ / ١١١ ح ٣٤٢٣٧.

١٢٥

تنبيهان

الأوّل :

قد يُتساءل في أنّ المتقدّم هو دعوى النِحلة أو دعوى الميراث؟

ولا إشكال عندهم على تقدير تقدّم دعوى النحلة ، وإنّما الإشكال في العكس ؛ لأنّها إذا ادّعت الميراث أوّلا ، فقد أقرّت لزوماً بأنّ المال ليس لها ، بل لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى حين وفاته ، فكيف تدعي ـ بعد هذا الإقرار ـ النِحلةَ والملكَ في حياته؟!

ويمكن الجواب عنه : بأنّها إنّما ادّعت استحقاق متروكات النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) مطلقاً بالإرث ، أو ما عدا فدك ، فلا ينافي دعواها بعد ذلك استحقاق خصوص فدك بالنِحلة.

ولو سُلّم أنّها سمّت فدك في دعوى الميراث فلا بأس به ؛ لأنّ الشخص لا يلزم بالإقرار اللزومي ما لم يكن محلّ القصد في الإقرار ، وإلاّ فالإشكال وارد أيضاً على تقدير تقدّم دعوى النِحلة ؛ لأنّ دعوى النِحلة تستلزم إقرارها بأنّ فدك ليست من مواريث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأملاكه ، فكيف تدّعي بعد ذلك الميراث لها؟!

وهذا ممّا لا يقوله أحد ، فلا بُد من القول بأنّ الإقرار اللزومي غير مُعتبَر.

وبالجملة : لم تقصد سيّدة النساء (عليها السلام) في الدعويين إلاّ أنّ المال لها بلا خصوصيّة للأسباب ؛ إذ لا غرض لها يتعلّق بذوات الأسباب ، وإنّما ذكرتها آلة للتوصّل إلى ملكها ، فلا يضرّ ذِكرها وإن استلزم كلّ سبب منها

١٢٦

عدم مسبب الآخر ، كما في سببين متضادَّين.

على أنّها لمّا كانت اليد لها على فدك بوجه الملك بعدما كانت لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، لزم أن يكون انتقالها إليها بنِحلة أو نحوها ، فتتضمّن يدها دعوى النِحلة أو غيرها ، فإذا ادّعت الميراث كانت دعواها له متأخّرة عن دعوى النِحلة ذاتاً.

وبالجملة : إنّ فدك كانت بيد الزهراء ، ولمّا تُوفّي النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قبضها أبو بكر بدعوى أنّها لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كما قبض بقيّة مواريثه ؛ فقالت : إذاً ما هو له يكون لي إرثاً ، أترثُ أباك ولا أرثُ أبي؟! فردّها بأنّ الأنبياء لا يُورَثون ، فالتجأت إلى بيان وجه يدها على فدك ؛ وهو النِحلة ، واستشهدت لها بالشهود ، وذلك أقرب إلى ظواهر الأخبار.

وكيف كان! فقد ظهر ممّا بيّنّا أنّ الزهراء في دعوى الإرث قد طالبت بجميع متروكات النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) التي قبضها أبو بكر ، بلا فرق بين فدك ، ومال بني النضير ، وسهمه من خمس خيبر ، وغيرها.

نعم ، في دعوى النِحلة إنّما طالبت بخصوص فدك ؛ لأنّها هي التي نحلها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وبها طال النزاع ، وكانت هي المظهِر لدعواها ؛ لتعلّق الدعويين بها ؛ وظهور اغتصابه لها ؛ لسبق يدها عليها.

الثاني :

إنّ لسيّدة النساء دعوىً ثالثةً تتعلّق بحقّها من خمس خيبر الذي ملكته في حياة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وهو سهمها من الخمس الذي قسمه الله سبحانه بقوله :( واعلموا أنّ ما غنمتم من شيء فأنّ لله خُمُسَه

١٢٧

وللرسول ولذي القربى) (١) الآية.

وهو الذي عيّنه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) له ولذويه ، وميّزه عن سهام المحاربين ، وهو حصن الكتيبة ـ كما سبق في رواية الطبري(٢) ـ ، فملكوه بأشخاصهم.

فللزهراء في خمس خيبر حقان : حق من حيث إنّها شريكةُ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وحقٌّ من جهة ميراثها لحقه.

وقد استولى أبو بكر على خُمس خيبر كلّه ، فمنعها الحقَّين.

ونحن إن صحّحنا له روايته أنّ الأنبياء لا تورَث ، وسوّغنا له الاستيلاء على حقّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فما المسوّغ له الاستيلاء على حقّ غيره ، وقد ملكوه في حياة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وعيّنه لهم ، وليس للحاكم أن يتولاّه كالصدقات إذا قبضها الفقراء؟!

ولكنّ أبا بكر روى في ذلك روايةً أُخرى جعلها حُجّةً لاستيلائه عليه ، فقد نقل في «الكنز»(٣) ، عن أحمد ، وابن جرير ، والبيهقي ، وغيرهم ، عن أبي الطفيل ، قال : «جاءت فاطمة إلى أبي بكر فقالت : أنت ورثت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أم أهله؟!

قال : بل أهله.

__________________

(١) سورة الأنفال ٨ : ٤١.

(٢) تقدّمت في الصفحة ٨٢ ـ ٨٣ ، من هذا الجزء.

(٣) ص ١٣٠ ج ٣ [٥ / ٦٠٥ ح ١٤٠٧١]. منه (قدس سره).

وانظر : مسند أحمد ١ / ٤ ، السنن الكبرى ـ للبيهقي ـ ٦ / ٣٠٣ كتاب قسم الفيء والغنيمة ، سنن أبي داود ٣ / ١٤٤ ح ٢٩٧٣ قطعة منه ، مسند أبي يعلى ١ / ٤٠ ح ٣٧ وج ١٢ / ١١٩ ح ٦٧٥٢ ، تاريخ المدينة ـ لابن شبّة ـ ١ / ١٩٨.

١٢٨

قالت : فما بال الخُمس؟!

فقال : إنّي سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول : إذا أطعم الله نبيّاً طُعمةً ، ثمّ قبضه ، كانت للذي بعده ؛ فلما وُلّيتُ رأيتُ أن أردّه على المسلمين ...» الحديث.

ونقل أيضاً(١) ، عن ابن سعد ، عن أُمّ هاني ، أنّ فاطمة قالت : يا أبا بكر! من يرثك إذا مِتّ؟

قال : ولدي [وأهلي].

قالت : فما شأنك ورثتَ رسول الله دوننا؟!

قال : يا ابنة رسول الله! ما ورثتُه ذهباً ولا فضّة ، ولا شاة ولا بعيراً ، ولا داراً ولا عقاراً ، ولا غلاماً ، ولا مالا.

قالت : فسهمُ الله الذي جعله لنا ، وصافيَتُنا التي بيدك؟!

فقال : إنّي سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول : إنّما هي طُعمة أطعمنيها الله ، فإذا مِتّ كانت بين المسلمين.

ونحو الحديثين في «شرح النهج»(٢) ، عن كتاب «السقيفة» للجوهري.

وهما ظاهران في أنّ الخُمس المعيّن في زمن النبيّ ـ كخُمس خيبر ـ قد زعم أبو بكر أنّه بعد النبيّ للمسلمين ، أو أنّه له وردّه على المسلمين ، وهو خطأٌ ؛ فإنّ هذا الخمس ليس طُعمةً لرسول الله خاصّةً حتّى يشمله

__________________

(١) ص ١٢٥ ج ٣ [٥ / ٥٨٥ ح ١٤٠٤٠]. منه (قدس سره).

وانظر : الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ ٢ / ٢٤٠ ، تاريخ المدينة ـ لابن شبّة ـ ١ / ١٩٧ ـ ١٩٨.

(٢) ص ٨١ ج ٤ [١٦ / ٢١٨ ـ ٢١٩]. منه (قدس سره).

١٢٩

ما رواه هنا.

هذا ، وللزهراء (عليها السلام) دعوىً رابعةٌ تتعلّق بخمس الغنائم الحادثة بعد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فإنّ أبا بكر كما قبض الخمس الذي كان لأهل البيت في حياة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) كخمس خيبر ، منعهم خمس الغنائم الحادثة بعده ، فنازعته الزهراء في ذلك أيضاً ، والأخبار به كثيرة(١) ، وذكر ابن أبي الحديد(٢) عدة أخبار في ذلك.

وقد اشتُهر النزاع بين الشيعة والسنة في أمر هذا الخمس ومستحقّه ، وللقوم فيه أقوال ليس هذا محلّ ذِكرها.

كما اشتُهر أنّ أبا بكر ومَن لحقه منعوا بني هاشم خُمسَهم ، وأنّهم عملوا بخلاف ما عمله رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، حتّى روى أحمد في «مسنده»(٣) أنّ نجدةَ الحروريَّ سأل ابن عبّاس عن سهم ذي القربى ؛ فقال : هو لنا ؛ لقربى رسول الله ، قسمه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لهم ، وكان عمر عرض علينا منه شيئاً دون حقّنا فرددناه عليه الحديث.

وروى أحمد(٤) ، أنّ النبيّ لم يُقسم لعبد شمس ، ولا لبني نوفل من الخمس شيئاً ، كما كان يقسم لبني هاشم وبني المطلب ، وأنّ أبا بكر لم يكن يُعطي قربى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كما كان رسول الله يعطيهم ، وكان عمر يعطيهم وعثمان من بعده منه.

__________________

(١) انظر مثلا : الكشّاف ٢ / ١٥٩ في تفسير آية الخمس.

(٢) ص ٨٦ من المجلّد الرابع [١٦ / ٢٣٠]. منه (قدس سره).

(٣) ص ٣٢٠ من الجزء الأوّل. منه (قدس سره).

وانظر : سنن أبي داود ٣ / ١٤٦ ح ٢٩٨٢.

(٤) ص ٨٣ ج ٤. منه (قدس سره).

١٣٠

والأخبار في هذا الباب كثيرة(١)

وقد طال بنا المقام ، فلنمسك عنان القلم خوف الملال.

__________________

(١) انظر مثلا : صحيح البخاري ٤ / ١٩٩ ح ٤٧ وج ٥ / ١٣ ح ١٢ وص ٢٨٤ ح ٢٤٨ ، سنن أبي داود ٣ / ١٤٥ ـ ١٤٦ ح ٢٩٧٨ ـ ٢٩٨٠ ، سنن النسائي ٧ / ١٣٠ ـ ١٣١ ، سنن ابن ماجة ٢ / ٩٦١ ح ٢٨٨١ ، مسند أحمد ٤ / ٨١ و ٨٥ ، مسند البزّار ٨ / ٣٣٠ ح ٣٤٠٣ ، مسند أبي يعلى ١٣ / ٣٩٦ ح ٧٣٩٩ ، المعجم الكبير ٢ / ١٤٠ ـ ١٤١ ح ١٥٩١ ـ ١٥٩٣.

١٣١

طلب إحراق بيت عليّ

قال المصنّف ـ أعلى الله مقامه ـ(١) :

ومنها : إنّه طلب هو وعمر إحراق بيت أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وفيه أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وفاطمة ، وابناهما ، وجماعة من بني هاشم ؛ لأجل ترك مبايعة أبي بكر(٢) .

ذكر الطبري في «تاريخه» ، قال : أتى عمر بن الخطّاب منزل عليّ فقال : «والله لأَُحرقنّ عليكم أو لَتخرُجنّ للبيعة!»(٣) .

وذكر الواقدي ، أنّ عمر جاء إلى عليّ في عصابة فيهم أُسيد ابن الحُضَيْر(٤) ، وسلمة بن أسلم ، فقال : «اخرجوا أو لنحرقنّها

__________________

(١) نهج الحقّ : ٢٧١.

(٢) انظر : الإمامة والسياسة ١ / ٣٠ ، أنساب الأشراف ٢ / ٢٦٨ ، تاريخ الطبري ٢ / ٢٣٣ حوادث سنة ١١ هـ ، العقد الفريد ٣ / ٢٧٣ ، الملل والنحل ـ للشهرستاني ـ ١ / ٥١ ، شرح نهج البلاغة ٢ / ٤٥ و ٥٦ و ٥٧ وج ٦ / ٤٨ و ٤٩ ، المختصر في أخبار البشر ١ / ١٥٦.

(٣) تاريخ الطبري ٢ / ٢٣٣.

(٤) كان في الأصل : «أُسيد أبو الحصين» ، وفي «الطرائف» : أُسيد بن الحصين» ، وكلاهما تصحيف ؛ وما أثبتناه من «نهج الحقّ» هو الصواب

وهو : أُسيد بن حُضير بن سمّاك الأنصاري الأوسي ، شهد العقبة ، وكانت إليه نقابة بني عبد الأشهل ، واختُلف في شهوده بدراً ، وشهد أُحداً ، وكان شريفاً في قومه في الجاهلية وفي الإسلام ، وكان أحد القلّة الّذين يكتبون بالعربية في الجاهلية.

١٣٢

عليكم!»(١) .

ونقل ابن حِنزابة(٢) في «غُرره» : قال زيد بن أسلم : كنت ممّن حمل الحطب مع عمر إلى باب فاطمة حين امتنع عليٌّ وأصحابه عن البيعة أن يبايعوا ، فقال عمر لفاطمة : «أَخرِجي مَن في البيت وإلاّ أحرقته ومَن فيه!

قال : وفي البيت عليٌّ (عليه السلام) ، وفاطمة ، والحسن ، والحسين ،

__________________

وكان يكنّى بعدّة كنىً ، منها : أبو يحيى ، أبو حضَير ، أبو عتيك ، أبو عتيق ، أبو عمرو ، وغيرها ، قال ابن عبد البرّ : «وقيل : أبو الحصين ـ بالصاد والنون ـ ، وأخشى أن يكون تصحيفاً».

انظر : الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ ٣ / ٤٥٣ رقم ٣٢٦ ، معرفة الصحابة ـ لأبي نُعيم ـ ١ / ٢٥٨ رقم ١١٦ ، الاستيعاب ١ / ٩٢ رقم ٥٤ ، أُسد الغابة ١ / ١١١ رقم ١٧٠ ، شرح نهج البلاغة ٦ / ١١ ، تهذيب الكمال ٢ / ٢٦٠ رقم ٥١٠ ، تهذيب التهذيب ١ / ٣٥٨ رقم ٥٥٨ ، الإصابة ١ / ٨٣ رقم ١٨٥.

(١) انظر : الطرائف : ٢٣٨ ح ٣٤٣ نقلا عن الواقدي ، وفيه : «سلامة» بدل «أسلم» ، شرح نهج البلاغة ٦ / ١١ نقلا عن الجوهري في كتاب «السقيفة».

(٢) كان في الأصل والمصدر : «خيزرانة» ، وفي «الطرائف» : «جبرانة» ، وكلّها تصحيف ، صوابه : «حنزابة» كما أثبتناه في المتن

وهو : أبو الفضل جعفر بن الفضل بن جعفر بن محمّد بن موسى بن الحسن بن الفرات ، المعروف بابن حنزَابة البغدادي ، وحنزَابة جارية هي والدة الفضل الوزير والده.

نزل مصر ، وتقلّد الوزارة لأميرها كافور الإخشيدي ، وأملى الحديث فيها ، وكان من حفّاظه ، وصنّف مسنداً في الحديث.

وُلد ببغداد سنة ٣٠٨ ، وتوفّي بمصر سنة ٣٩١ هـ ، وحُمل تابوته من مصر إلى الحرمين ، ودُفن بالمدينة في الدار التي اشتراها لذلك.

انظر : تاريخ بغداد ٧ / ٢٣٤ رقم ٣٧٢٣ ، تاريخ دمشق ٧٢ / ١٤١ رقم ٩٨٠٩ ، وفيات الأعيان ١ / ٣٤٦ رقم ١٣٣ ، سير أعلام النبلاء ١٦ / ٤٨٤ رقم ٣٥٧ ، إيضاح المكنون ٢ / ٤٨١.

١٣٣

وجماعة من أصحاب النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فقالت فاطمة : تحرق على وُلدي؟!

فقال : إي والله! أو ليخرُجنّ وليبايِعنّ!»(١) .

وقال ابن عبد ربّه ـ وهو من أعيان السنة ـ : فأمّا عليٌّ والعبّاس فقعدوا في بيت فاطمة ؛ وقال له أبو بكر : إنْ أبَيا فقاتلهما.

فأقبل بقبس من نار على أن يُضرم عليهما الدار ، فلقيته فاطمة ، فقالت : يا بن الخطّاب! أجئت لتحرق دارنا؟!

قال : نعم(٢) !

ونحوه روى مصنّف كتاب «المحاسن وأنفاس الجواهر»(٣) .

فلينظر العاقل من نفسه : هل يجوز له تقليد مثل هؤلاء إن كان هذا نقلهم صحيحاً ، وأنّهم قصدوا بيت النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لإحراق أولاده على شيء لا يجوز فيه الانتقام ، ولا تحلُّ بسببه هذه العقوبة مع مشاهدتهم تعظيم النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لهم؟!

وكان ذات يوم يخطب فعثر الحسن ـ وهو طفل صغير ـ فنزل من منبره وقطع الخطبة وحمله على كتفه وأصعده المنبر ، ثمّ أكمل الخطبة(٤) .

__________________

(١) الطرائف ـ لابن طاووس ـ : ٢٣٩ ح ٣٤٤ ، إفحام الأعداء والخصوم : ٩٠ نقلا عن كتاب «الغرر» لابن حنزابة.

(٢) العقد الفريد ٣ / ٢٧٣ سقيفة بني ساعدة / العسجدة الثانية ، وانظر : الطرائف ـ لابن طاووس ـ : ٢٣٩ ح ٣٤٥.

(٣) انظر : الطرائف ـ لابن طاووس ـ : ٢٣٩ ذ ح ٣٤٥ وفيه : «أنفاس المحامل ونفائس الجواهر» ، ولم نعثر على الكتاب ـ بأيّ من هذين الاسمين ـ في مظانّه من الفهارس المختصّة ، كما لم نهتدِ إلى اسم مؤلّفه ؛ فلاحظ!

(٤) انظر : سنن أبي داود ١ / ٢٨٨ ح ١١٠٩ ، سنن الترمذي ٥ / ٦١٦ ـ ٦١٧ ح ٣٧٧٤ ، سنن ابن ماجة ٢ / ١١٩٠ ح ٣٦٠٠ ، السنن الكبرى ـ للنسائي ـ ١ / ٥٣٥ ح

١٣٤

وبال الحسين يوما في حجره وهو صغير فزعقوا به ، فقال : لا تُزْرِموا(١) على وَلدي بولَه»(٢) .

مع أنّ جماعةً لم يبايعوا ، فهلاّ أمر بقتلهم(٣) ؟!

__________________

١٧٣١ ، مسند أحمد ٥ / ٣٥٤ ، مصنّف ابن أبي شيبة ٧ / ٥١٣ ح ١٥ ، صحيح ابن خزيمة ٣ / ١٥١ ـ ١٥٢ ح ١٨٠١ و ١٨٠٢ ، المستدرك على الصحيحين ١ / ٤٢٤ ح ١٠٥٩ وقال : «هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرّجه» وج ٤ / ٢١٠ ح ٧٣٩٦ وقال : «هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرّجاه» ، مقتل الحسين ـ للخوارزمي ـ : ١ / ١٤٤ ح ٢٠ ، تاريخ دمشق ١٣ / ٢١٤ و ٢١٥ وج ١٤ / ١٦١ و ١٦٢ ، السنن الكبرى ـ للبيهقي ـ ٣ / ٢١٨ وج ٦ / ١٦٥ ، أُسد الغابة ١ / ٤٨٩ ـ ٤٩٠.

(١) زَرِمَ الدمعُ والبولُ والكلام : إذا انقطع ؛ ومعناه هنا : لا تقطعوا عليه بوله.

انظر مادّة «زرم» في : غريب الحديث ـ للهروي ـ ١ / ١٠٤ ، الصحاح ٥ / ١٩٤١ ، النهاية في غريب الحديث والأثر ٢ / ٣٠١ ، الفائق في غريب الحديث ٢ / ١٠٧ ، القاموس المحيط ٤ / ١٢٦ ، لسان العرب ٦ / ٣٩ ، تاج العروس ١٦ / ٣١٥.

(٢) انظر : مصنّف ابن أبي شيبة ١ / ١٤٥ ح ٥ ، المعجم الأوسط ـ للطبراني ـ ٦ / ٢٧٩ ح ٦١٩٧ ، مقتل الحسين ـ للخوارزمي ـ : ١ / ٢١٠ ح ٣ ، مجمع الزوائد ١ / ٢٨٥ ، المستدرك على الصحيحين ٣ / ١٩٧ ـ ١٩٨ ح ٤٨٢٩.

(٣) صرّحت مصادر القوم بأسماء بعض من تخلّف عن بيعة أبي بكر سوى الإمام عليّ (عليه السلام) ، منهم : العبّاس بن عبد المطّلب ، أبو سفيان بن حرب ، الزبير بن العوّام ، طلحة بن عبيد الله التيمي ، سعد بن عبادة ، أُبَيّ بن كعب ، عتبة بن أبي لهب ، حذيفة بن اليمان ، عمّار بن ياسر ، المقداد بن عمرو الكندي ، أبو ذرّ الغفاري ، جابر بن عبد الله الأنصاري ، خالد بن سعيد بن العاص ، البراء بن عازب ، بريدة الأسلمي ، سلمان الفارسي ، سهل بن حنيف ، أبو الهيثم بن التيّهان ، خزيمة ابن ثابت ذو الشهادتين ، فروة بن عمرو.

انظر : الأخبار الموفّقيّات : ٤٧١ ، الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ ٤ / ٧٣ ، أنساب الأشراف ٢ / ٢٦٤ و ٢٦٧ و ٢٧٠ ـ ٢٧٢ و ٢٧٤ وج ٦ / ٤٥ ، تاريخ الطبري ٢ / ٢٣٣ ـ ٢٣٥ و ٢٣٧ ، العقد الفريد ٣ / ٢٧٣ ، الكامل في التاريخ ٢ / ١٨٩

١٣٥

وبأيّ اعتبار وجب الانقياد إلى هذه البيعة ، والنصُّ غيرُ دالّ عليها ولا العقلُ؟!

فهذا بعض ما نقله السنة من الطعن على أبي بكر ، والذنب فيه على الرواة من السنة.

__________________

و ١٩٤ ، شرح نهج البلاغة ١ / ٢٢١ و ٦ / ١١ و ٤٠ و ٤٣ و ٤٨ ، الرياض النضرة ١ / ٢٣١ و ٢٣٣ و ٢٣٥ و ٢٤١ ، المختصر في أخبار البشر ١ / ١٥٦ ، البداية والنهاية ٥ / ١٨٦ و ١٨٧ ، السيرة الحلبية ٣ / ٤٧٩ و ٤٨٤.

١٣٦

وقال الفضل(١) :

من أسمج ما افتراه الروافض هذا الخبر ، وهو إحراقُ عمرَ بيت فاطمة.

وما ذكر أنّ الطبري ذكره في «التاريخ» ، فالطبري من الروافض ، مشهور بالتشيّع ، مع أنّ علماء بغداد هجروه ؛ لغلوّه في الرفض والتعصّب ، وهجروا كتبه ورواياته وأخباره.

وكلّ من نقل هذا الخبر فلا يشكّ أنّه رافضيّ متعصّب يريد إبداء القدح والطعن على الأصحاب ؛ لأنّ العاقل المؤمن الخبير بأخبار السلف ظاهر عليه أنّ هذا الخبر كذبٌ صُراحٌ وافتراءٌ بيّن ، لا يكون أقبح منه ولا أبعد من أطوار السلف ؛ وذلك لوجوه سبعة :

الأوّل : إنّ بيت فاطمة كان متّصلا ببيوت أزواج النبيّ ، ومتّصلا بالمسجد ، وقبر النبيّ.

وهل كان عمر يُحرق بيوت النبيّ والمسجد والقبر المكرّم؟!

نعوذ بالله من هذا الاعتقاد الفاسد ؛ لأنّ بيوتهم كانت متّصلة ، معمولةً من الطين والسعف اليابس ، فإذا أخذ الحريق في بيت ، كان يحترق جميع البيوت والمسجد والقبر المكرّم.

أكان عمر يُقدِم على إحراق جميع هذا ، ولا يخاف لومة لائم

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن «إحقاق الحقّ» ـ : ٥١١ الطبعة الحجرية.

١٣٧

ولا اعتراض معترض؟!

من تأمل هذا عَلِمَ أنّه من المفتريات الصريحة.

الثاني : إنّ عيون بني هاشم ، وأشراف بني عبد مناف ، وصناديد قريش ، كانوا مع عليّ ، وهم كانوا في البيت وعندهم السيوف اليمانيّة ، وإذا بلغ أمرهم إلى أن يُحرَقوا في البيت ، أتراهم طرحوا الغيرة وتركوا الحميّة رأساً ، ولم يخرجوا بالسيوف المسَلّة فيقتلوا من قصد إحراقهم بالنار؟!

الثالث : دفعُ الصائلِ على النفس واجب ، وتركُ الدفعِ إثمٌ ، وأيُّ صولة على النفس أشدُّ من صولة الإحراق؟!

فكان يجب على عليّ أن يدفعه ، وإلاّ قدح في عصمته.

الرابع : لو صحّ هذا ، دلّ على عجز عليّ ـ حاشاه عن ذلك ـ ؛ فإنّ غاية عجز الرجل أن يُحرَقَ هو وأهلُ بيتِه وامرأتُه في داره ، وهو لا يقدر على الدفع ، ومثل هذا العجز يقدح في صحّة الإمامة.

الخامس : إنّ أُمراء الأنصار وأكابر الصحابة كانوا مسلمين منقادين محبّين لرسول الله

أتراهم سكتوا ولم يكلّموا أبا بكر في هذا ، وإنّ إحراق أهل بيت النبيّ لا يجوز ولا يحسن؟!

السادس : لو كان هذا أمراً واقعاً ، لكان أقبح وأشنع من قتل عثمان وقتل الحسين ، ولكان ينبغي أن يكون منقولا في جميع الأخبار ؛ لتوفّر العزائم والرغبات على نقل أمثال هذا.

وما رأينا أحداً روى هذا ، إلاّ أنّ الروافض ينسبونه إلى الطبري ،

١٣٨

ونحن ما رأينا هذا في تاريخه(١) ، وإنْ كان في تاريخه فلا اعتداد به ؛ لأنّه من الواقعات العظيمة المشهورة ، وفي أمثال هذا لا يُكتفى برواية واحد لم يوافقه أحد ، وأهل الحديث يحكمون بأنّ هذا منكَر شاذّ ؛ لأنّ الوقائع العظيمة يتوفّر الدواعي إلى نقلها وحكايتها.

فإذا نقل مثل هذه الواقعة أحدٌ من الناس ، أو جماعة من المجهولين المتعصّبين ، فهي غير مقبولة عند أهل الحديث.

السابع : إنّه ينافي هذا رواية الصحاح ؛ فإنّ أرباب الصحاح ذكروا في بيعة عليّ لأبي بكر ، أنّ بني هاشم لم يبايعوا أبا بكر إلاّ بعد وفاة فاطمة ، ولم يتعرّض أبو بكر لهم وتركهم على حالهم ، وكانوا يتردّدون عند أبي بكر ويدخلون في المشاورات والمصالح والمهمّات وتدبير الجيوش ، فلمّا توفّيت فاطمة بعث أمير المؤمنين على أبي بكر وقال : ائتني وحدك! فجاءه أبو بكر في بيته ، فجلسا وتحدّثا ، ثمّ قال عليّ لأبي بكر : إنّك استأثرت هذا الأمر دوننا ، ما كنّا نمنعك عن هذا الأمر ، ولا نحن نراك غير أهل لهذا ، ولكن كان ينبغي أن تؤخّره إلى حضورنا.

فقال أبو بكر : يا أبا الحسن! كان الأنصار يدّعون هذا الأمر لأنفسهم ، وكانوا يريدون أن ينصبوا أميراً منهم ، وكان يُخاف منهم الفتنة ، فتسارعت إلى إطفاء الفتنة وأخذت بيعة الأنصار ، وإن كان لك في هذا الأمر رغبةٌ فأنا أخطب الناس وأُقيل بيعتهم ، وأُبايعك والناس.

فقال أمير المؤمنين : الموعد بيني وبينك بعد صلاة الظهر.

فلمّا صلّوا الظهر رقى أبو بكر المنبر وقال : «أقيلوني فلستُ بخيركم

__________________

(١) راجع ما تقدّم في الصفحة ١٣٢ هـ ٣ ، من هذا الجزء.

١٣٩

وعليٌّ فيكم».

فقام عليٌّ وخطب ، وقال : إنّ بيني وبين أبي بكر شيء(١) ؛ فإنّه استأثر هذا الأمر دوننا ، ولم يتوقّف بحضورنا ، وهو أَوْلى للخلافة.

ثمّ قال : ابسط يدك لأُبايعك!

فبايعه في محضر الناس ، وبايع بنو هاشم ، وتمّ الأمر.

هذا رواية الصحاح في بيعة عليّ لأبي بكر ، وهذا كان أطوار الصحابة ، وهم لم يكونوا للملك طالبين ، ولا في الحكومة راغبين ، وكان أميرهم كفقيرهم ، فإنّ أبا بكر لم ينصب نفسه إماماً ليأكل أموال الناس ، ويتنعّم باللذائذ.

فإنّ أصحاب الصحاح ـ من الروايات ـ اتّفقوا على أنّه لمّا وليَ الخلافة أصبح يمشي في السوق وعلى رقبته أثواب يبيعها ، فجاءه أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقالوا : يا خليفة رسول الله! أتدع الناس فوضى وتعمل في السوق؟!

فقال : إنّ لي عيالا ، ولو لم أعمل في السوق لضاعوا ، وإنّي مُصلّ بكم ، وأُقيم بأمر الخلافة ، وأعمل في السوق لقوت عيالي.

فجلس أمير المؤمنين عليٌّ وأكابر الصحابة ؛ كعمر بن الخطّاب وعبّاس وعثمان في المسجد ، قالوا : عيّنوا شيئاً لأبي بكر من بيت مال المسلمين ليبذله في عياله ويترك عمل السوق ؛ لئلاّ يضيع أمر المسلمين.

فعيّنوا له كلّ سنة ألفي درهم ، فأخذ في السنتين من أيّام خلافته أربعة آلاف درهم من بيت المال ، فلمّا قرب وفاته قال لعائشة : بيعوا جميع

__________________

(١) كذا في الأصل ، والصحيح لغةً : شيئاً.

١٤٠