موسوعة الأسئلة العقائديّة الجزء ٥

موسوعة الأسئلة العقائديّة11%

موسوعة الأسئلة العقائديّة مؤلف:
تصنيف: مكتبة العقائد
ISBN: 978-600-5213-05-8
الصفحات: 667

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥
  • البداية
  • السابق
  • 667 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 296967 / تحميل: 6703
الحجم الحجم الحجم
موسوعة الأسئلة العقائديّة

موسوعة الأسئلة العقائديّة الجزء ٥

مؤلف:
ISBN: ٩٧٨-٦٠٠-٥٢١٣-٠٥-٨
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

ج : إنّ المعاني التي ذكرتها يطلق عليها أُمّ الكتاب على بعض الأقوال ، فالنذكر المعاني مع الأقوال :

١ ـ الإمام المبين ، ورد في تفسير الصافي ما نصّه : « في المجمع أنّ بني سلمة كانوا في ناحية من المدينة ، فشكوا إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بُعد منازلهم من المسجد والصلاة معه ، فنزلت الآية( وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ ) (١) ، قيل : يعني اللوح المحفوظ ، والقمّي يعني في كتاب مبين »(٢) .

فعلى هذا القول الذي نقله الفيض الكاشاني ، أنّ الإمام المبين هو اللوح المحفوظ ، وقد ذكر في معنى اللوح المحفوظ أنّه أُمّ الكتاب ، إذاً فالإمام المبين هو أُمّ الكتاب.

وورد في تفسير الميزان ما نصّه : « والمراد بكتابة ما قدّموا وآثارهم ، ثبتها في صحائف أعمالهم وضبطها فيها ، بواسطة كتبة الأعمال من الملائكة ، وهذه الكتابة غير كتابة الأعمال وإحصائها في الإمام المبين ، الذي هو اللوح المحفوظ »(٣) .

فيرى السيّد الطباطبائي : أنّ الإمام المبين هو اللوح المحفوظ ، والنتيجة كسابقه أي : أنّ الإمام المبين هو أُمّ الكتاب.

٢ ـ الكتاب المكنون ، قال العلاّمة الطباطبائي ما نصّه : « ثمّ إنّه تعالى قال :( إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ * لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ ) (٤) ، ولا شبهة في ظهور الآيات في أنّ المطّهرين من عباد الله هم يمسّون القرآن الكريم الذي في الكتاب المكنون ، والمحفوظ من التغيّر ، ومن التغيّر تصرف الأذهان بالورود عليه والصدور منه ، وليس هذا المس إلاّ نيل الفهم والعلم ، ومن المعلوم أيضاً أنّ الكتاب المكنون هذا هو أُمّ الكتاب المدلول عليه بقوله :( يَمْحُو اللهُ

__________________

١ ـ يس : ١٢.

٢ ـ تفسير الصافي ٤ / ٢٤٦.

٣ ـ الميزان في تفسير القرآن ١٧ / ٦٦.

٤ ـ الواقعة : ٧٧ ـ ٧٩.

٤١

مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) (١) ، وهو المذكور في قوله :( وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ) (٢) »(٣) .

فيرى السيّد الطباطبائي أنّ الكتاب المكنون هو أُمّ الكتاب.

٣ ـ اللوح المحفوظ ، ورد في تفسير مجمع البيان في تفسير هذه الآية ما نصّه : «( وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ ) من القرآن( تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ ) أي : لمعرفتهم بأنّ المتلوّ عليهم كلام الله ، وأنّه حقّ( يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا ) أي : صدّقنا بأنّه كلامك أنزلته على نبيّك( فَاكْتُبْنَا ) أي : فاجعلنا بمنزلة من قد كتب ودوّن.

وقيل : فاكتبنا في أُمّ الكتاب ، وهو اللوح المحفوظ( مَعَ الشَّاهِدِينَ ) أي : مع محمّد وأُمّته الذين يشهدون بالحقّ ، عن ابن عباس(٤) »(٥) .

فعلى هذا القول الذي نقله الشيخ الطبرسي ، أنّ أُمّ الكتاب هو اللوح المحفوظ.

٤ ـ الكتاب المبين ، ورد في تفسير نور الثقلين ما نصّه : « عن يعقوب بن جعفر ابن إبراهيم قال : كنت عند أبي الحسن موسى بن جعفرعليهما‌السلام ، إذ أتاه رجل نصراني فقال : إنّي أسألك أصلحك الله ، فقال : « سل » ، فقال : أخبرني عن كتاب الله الذي أُنزل على محمّد ، ونطق به ، ثمّ وصفه بما وصفه ، فقال :( حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ ) (٦) ، ما تفسيرها في الباطن؟

__________________

١ ـ الرعد : ٣٩.

٢ ـ الزخرف : ٤.

٣ ـ الميزان في تفسير القرآن ٣ / ٥٤.

٤ ـ المائدة : ٨٣.

٥ ـ مجمع البيان ٣ / ٤٠٢.

٦ ـ الزخرف : ١ ـ ٣.

٤٢

فقال : « أمّا حم فهو محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو في كتاب هود الذي أُنزل عليه ، وهو منقوص الحروف ، وأمّا الكتاب المبين فهو أمير المؤمنين عليعليه‌السلام ، وأمّا الليلة ففاطمةعليها‌السلام »(١) .

فالكتاب المبين هو أمير المؤمنين عليعليه‌السلام ، وعلي هو أُمّ الكتاب ، إذاً يمكن أن يقال : أنّ الكتاب المبين هو أُمّ الكتاب.

قال العلاّمة الطباطبائي : « ولا مانع من أن يرزق الله عبداً وحده ، وأخلص العبودية له العلم بما في الكتاب المبين ، وهوعليه‌السلام سيّد الموحّدين بعد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله »(٢) .

٥ ـ محكمات القرآن أو الآيات المحكمات ، أطلق عليها المولى عزّ وجلّ أنّها أُمّ الكتاب في قوله :( هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ) (٣) .

٦ ـ الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام والأئمّة من ولده ، ذكر ابن عباس عن أمير المؤمنينعليه‌السلام أنّه قال : « أنا والله الإمام المبين ، أُبيّن الحقّ من الباطل ، وورثته من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله »(٤) .

فعليعليه‌السلام إمام مبين ، والإمام المبين هو أُمّ الكتاب ، إذاً يمكن أن يقال : أنّ علياًعليه‌السلام هو أُمّ الكتاب.

وفي أُصول الكافي : « عن عبد الرحمن بن كثير ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام في قوله تعالى :( هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ ) قال : أمير المؤمنين والأئمّةعليهم‌السلام ،( وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ) قال : فلان وفلان ،( فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ ) أصحابهم وأهل ولايتهم ،( فَيَتَّبِعُونَ مَا

__________________

١ ـ تفسير نور الثقلين ٤ / ٦٢٣.

٢ ـ الميزان في تفسير القرآن ١٧ / ٧٠.

٣ ـ آل عمران : ٧.

٤ ـ تفسير القمّي ٢ / ٢١٢.

٤٣

تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) أمير المؤمنين والأئمّةعليهم‌السلام »(١) .

( أبو مهدي ـ السعودية ـ )

بحث في القراءات :

س : من فوائد إثبات عدم تحريف القرآن هي القدرة على استنباط الأحكام والمفاهيم من القرآن الكريم ، مع اليقين بأنّها صادرة عن الله تعالى ، وبالتالي نستطيع الاعتماد على القرآن الكريم في جميع أُمورنا الدينية.

لكنّ مع وجود قراءات مختلفة للقرآن الكريم ـ سبع قراءات ـ فذلك قد ينفي الفائدة المذكورة أعلاه ، أو يقلّل من شأنها ، بسبب عدم يقيننا بالنصّ الوارد في القرآن الكريم.

كمثال واضح : قال تعالى :( فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا ) (٢) ، وبحسب إحدى القراءات ، كما سمعت في إحدى المحاضرات( وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتْكاً ) وهو نوع من الفاكهة ، فالمعنى يتراوح بين المتّكَأ والفاكهة.

فتغيّر القراءات بغير المعاني ، وبالتالي قد تتغيّر المفاهيم والأحكام تبعاً لذلك ، فكيف نوفّق بين القراءات وبين حفظ القرآن الكريم؟ وبالخصوص في المثال الذي ذكرت ، شاكرين لكم جهودكم ، ونسألكم الدعاء.

ج : إنّ ثبوت القرآن واتصاف كلام بكونه كذلك ـ أي قراناً ـ ينحصر طريقه بالتواتر ، كما أطبق عليه المسلمون بجميع نحلهم المختلفة ومذاهبهم المتفرّقة.

والمعروف عن الشيعة الإمامية : أنّ القراءات غير متواترة ، بل هي بين ما هو اجتهاد من القارئ ، وبين ما هو منقول بخبر الواحد ، واختار هذا القول جماعة

__________________

١ ـ الكافي ١ / ٤١٤.

٢ ـ يوسف : ٣١.

٤٤

من المحققّين من العامّة ، ولا يبعد دعوى كونه هو المشهور بينهم ، وهناك أدلّة كثيرة يُستدل بها على عدم تواتر القراءات.

ومن ضمن الأخبار الوارد في ذلك ، خبر الفضيل بن يسار قال : قلت لأبي عبد اللهعليه‌السلام : إنّ الناس يقولون : إنّ القرآن على سبعة أحرف ، فقال : «كذبوا أعداء الله ، ولكنّه نزل على حرف واحد من عند واحد »(١) ، ويؤيّده خبر زرارة عن أبي جعفرعليه‌السلام قال : «إنّ القرآن واحد نزل من عند واحد ، ولكن الاختلاف يجيء من قبل الرواة »(٢) .

وبعد معرفة عدم تواتر القراءات ، لا يبقى مجال للاستدلال بتلك القراءات ، إلاّ أن يقال : إنّها أخبار آحاد ، وتشملها الأدلّة القطعية الدالّة على حجّية خبر الواحد ، ولكنّ هذا غير ظاهر ، لعدم ثبوت كونها رواية ، بل يحتمل أن تكون اجتهادات من القرّاء واستنباطات منهم ، وقد صرّح بعض الأعلام بذلك.

وعلى فرض كونها رواية ، إلاّ أنّه لم يحرز كونها مستوفية لشرائط الحجّية ، ومع جمعها للشرائط يبقى أنّه مع العلم الإجمالي بعدم صدور بعضها عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله يقع بينها التعارض ، ولابدّ من إعمال قواعد التعارض من الترجيح أو التخيير ، فلا يبقى مجال لدعوى الحجّية ، وجواز الاستدلال بكُلّ واحدة منها ، كما هو الظاهر.

وقد صرّح السيّد الخوئي بعدم الحجّية بقوله : « ولكنّ الحقّ عدم حجّية هذه القراءات ، فلا يستدلّ بها على الحكم الشرعي ، والدليل على ذلك أنّ كُلّ واحد من هؤلاء القرّاء يحتمل فيه الغلط والاشتباه ، ولم يرد دليل من العقل ، ولا من الشرع على وجوب إتباع قارئ منهم بالخصوص ، وقد استقلّ العقل ، وحكم الشرع بالمنع عن إتباع غير العلم »(٣) .

__________________

١ ـ الكافي ٢ / ٦٣٠.

٢ ـ نفس المصدر السابق.

٣ ـ البيان في تفسير القرآن : ١٦٤.

٤٥

أمّا ما يتعلّق بجواز القراءة بتلك القراءات ، فقد ورد عنهمعليهم‌السلام إمضاء القراءات المعروفة في زمانهمعليهم‌السلام ، بقولهم : «اقرأ كما يقرأ الناس »(١) .

وبعد كُلّ هذا ، وما عرفت من عدم الاعتماد على تلك القراءات في استنباط الحكم الشرعي ، ينحلّ ما أشكل عليك في الآية القرآنية التي استشهدت بها ، إضافة إلى أنّ صاحب مجمع البيان نقل عن الطبري قوله : « وروي في الشواذ قراءة مجاهد متكاً خفيفة ساكنة التاء »(٢) .

( ـ ـ )

معنى نزوله على سبعة أحرف :

س : السادة الأعزاء ، أودّ الاستفسار عن موضوع نزول القرآن على سبعة أحرف ، كما يقول أبناء المذاهب الأُخرى ، فهل هذا الشيء يقول به الشيعة؟ وكيف ذلك ، أرجو الإفادة عنه ، مشكورين ومقدّرين.

ج : حديث نزول القرآن على سبعة أحرف ، جاء في مصادر أهل السنّة ، وقد أُدّعي تواتره عندهم ، وكيف ما كان فلا أثر لهذا الحديث في مجامعنا الحديثية ، إلاّ ما جاء في الخصال للشيخ الصدوق ، وتفسير العيّاشي بصورة روايتين غير نقيتي السند(٣) ، ومنهما قد انتقل الحديث إلى بعض المصادر الأُخرى ـ كالبحار وبعض التفاسير : كمجمع البيان ، والصافي وغيرهما ـ وعليه فيلاحظ في المقام :

أوّلاً : إنّ الحديث عنها غير ثابت سنداً بشكل قطعي ، فلا يكون حجّة علينا.

__________________

١ ـ الكافي ٢ / ٦٣٣.

٢ ـ مجمع البيان ٥ / ٣٩٢.

٣ ـ أُنظر : الخصال : ٣٥٨ ، تفسير العيّاشي ١ / ١٢.

٤٦

ثانياً : إنّ هذا الحديث على فرض وروده ، يتعارض مع روايات أُخرى ، تصرّح بكذب مضمونه ، منها : «إنّ القرآن واحد نزل من عند واحد ، ولكن الاختلاف يجيء من قبل الرواة »(١) .

ومنها : قلت لأبي عبد اللهعليه‌السلام : إنّ الناس يقولون : إنّ القرآن على سبعة أحرف ، فقال : «كذبوا أعداء الله ، ولكنّه نزل على حرف واحد من عند واحد »(٢) .

ثالثاً : الطريقة الصحيحة هنا لحلّ التعارض هي : أن نلتزم بحكومة هذه الروايات على ذلك الحديث ، أي أنّ هذه الروايات تأخذ في منظارها ذلك الحديث وتردّه وتكذّبه ، ولكن ذلك الحديث لم ينظر إلى هذه الروايات تأييداً أو ردّاً ، فبناءً على القاعدة المقرّرة في علم الأُصول ، تقدّم هذه الروايات دلالة على ذلك الحديث.

ثمّ هناك طريقة أُخرى لحلّ التعارض وهي : تساقط الروايات والحديث من حيث الدلالة ، والرجوع إلى ثبوت شكل واحد في النزول ، كما هو ظاهر القرآن الكريم الفعلي.

وأيضاً لدينا طريق آخر لرفع التعارض في المقام وهو : ترجيح جانب الروايات لاحتمال صدور الحديث ـ في مصادر الشيعة ـ تقية موافقاً للعامّة.

رابعاً : أختلف علماء العامّة في معنى سبعة أحرف على خمسة وثلاثين قولاً ، أو أربعين(٣) ؛ وهذا إن دلّ على شي? ، فإنّما يدلّ على عدم الوثوق بأيّ معنى من تلك المعاني ، فتبقى الدلالة مجملة وغير واضحة ، فلا حجّية للحديث من حيث الدلالة ، حتّى لو فرضنا صحّة صدوره سنداً.

خامساً : إنّ مضمون هذا الحديث يأباه العقل ، إذ كيف يتصوّر نزول قرآن واحد على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بسبعة صور؟ وهل هذا كان ينسجم مع الاحتفاظ على هذا

__________________

١ ـ الكافي ٢ / ٦٣٠.

٢ ـ نفس المصدر السابق.

٣ ـ أُنظر : البرهان في علوم القرآن ١ / ٢١٢.

٤٧

الكتاب المقدّس لدى المسلمين؟ أليس فرض هذا الحديث كان يفتح الباب على تعويم النصّ القرآني وبالتالي تحريفه؟ ومن أجل هذه المحاذير ترى أنّ هذا الحديث يجب أن يردّ علمه إلى الله تعالى ، ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأهل البيتعليهم‌السلام .

( ـ ـ )

حصل جمعه في زمن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله :

س : ما هي الانتقادات الموجّهة لعملية جمع القرآن الكريم من طرف عثمان؟

ج : إنّ إسناد جمع القرآن الكريم إلى الخلفاء أمر موهوم مخالف للكتاب والسنّة والإجماع والعقل ، بل إنّ جمعه وتأليفه قد حصل في زمن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، إذ أنّ القرآن كان معروفاً بسوره وآياته حتّى عند المشركين وأهل الكتاب ، لما ثبت من تحدّي الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله على الإتيان به أو بسورة منه ، ومعناه إنّ سور القرآن كانت في متناول أيدي الناس ، وأيضاً وردت مجموعة كثيرة من الروايات بهذا المضمون حتّى عند أهل السنّة ، تصرّح بجمعه وتأليفه في زمن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله (١) .

ومن جانب آخر لا يعقل أن يكون القرآن ـ مع اهتمام النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله والمسلمين به ـ عرضة للضياع في عهد الرسالة ، بل كان مورد تعظيمهم وتبجيلهم وحفظهم له ، مضافاً إلى إجماع المسلمين قاطبة : بأنّ القرآن لا طريق لإثباته إلاّ التواتر ، والحال أنّ الروايات المزعومة في جمع الخلفاء تعتمد في إثباته على شهادة شاهدين ، بل وشهادة رجل واحد في بعض الأحيان ، خصوصاً أنّ هذه الروايات مختلفة فيما بينها في مسألة الجمع ، فلم يعلم أنّ عملية الجمع كانت في زمن أبي بكر أو عمر أو عثمان؟ ومن كانوا العاملين عليها؟

__________________

١ ـ أُنظر : صحيح البخاري ٤ / ٢٢٩ و ٦ / ١٠٣ ، صحيح مسلم ٧ / ١٤٩ ، الجامع الكبير ٥ / ٣٣١ ، مسند أحمد ٣ / ٢٣٣ و ٢٧٧ ، السنن الكبرى للبيهقي ٦ / ٢١١ ، مسند أبي داود : ٢٧٠ ، السنن الكبرى للنسائي ٥ / ٩ ، مسند أبي يعلى ٥ / ٢٥٨ و ٤٦٧ و ٦ / ٢٢ ، صحيح ابن حبّان ١٦ / ٧٢.

٤٨

فبالجملة : لا دليل على جمع القرآن أو تدوينه في زمن الخلفاء الثلاثة ، نعم قد ثبت أنّ عثمان جمع الناس على قراءة واحدة ، وحذف القرائات الأُخر ، وهذا ممّا لا كلام فيه ، ولكن الأمر الذي يؤخذ عليه هو إحراقه لمجموعة كبيرة من المصاحف ، وأمره بإحراقها في مختلف الأمصار في سبيل توحيد القراءة ، وهو كما ترى لا وجه لعمله هذا ، وقد اعترض جماعة من المسلمين في ذلك عليه ، حتّى أنّهم سمّوه بحرّاق المصاحف(١) .

( العلام غزوي ـ المغرب ـ ٤٠ سنة ـ أولى ماجستير )

منهج التفسير عند السيّد الطباطبائي :

س : أودّ من سيادتكم تسليط الضوء على منهج التفسير عند السيّد الطباطبائي.

ج : إنّ منهج السيّد الطباطبائي ـ كما يوضّحه في كتابه الميزان ـ هو تفسير القرآن بالقرآن ، واستيضاح معنى الآية من نظيرتها بالتدبّر المندوب إليه في نفس القرآن ، وتشخيص المصاديق والتعرّف عليها بالخواص التي تعطيها الآيات ، ويستشهد بقوله تعالى :( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ ) (٢) ، وحاشا أن يكون القرآن تبياناً لكُلّ شيء ولا يكون تبياناً لنفسه ، وقوله تعالى :( هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ) (٣) ، وقوله تعالى :( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا ) (٤) .

وكيف يكون القرآن هدى وبيّنة وفرقاناً ونوراً مُبيناً للناس في جميع ما يحتاجون ، ولا يكفيهم في احتياجهم إليه وهو أشدّ الاحتياج ، وقوله تعالى :

__________________

١ ـ أُنظر : الجامع لأحكام القرآن ١ / ٥٤ ، تاريخ المدينة ٣ / ٩٩٥.

٢ ـ النحل : ٨٢.

٣ ـ البقرة : ١٨٥.

٤ ـ النساء : ١٧٤.

٤٩

( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ) (١) ، وأيّ جهاد أعظم من بذل الجهد في فهم كتابه؟ وأيّ سبيل أهدى إليه من القرآن؟

ثمّ لا يخفى تأثير الجنبة الفلسفية للسيّد الطباطبائي على تفسيره ، وذلك العمق العقلي الدقيق ، والتشقيق للمطالب.

ولاحظ أنّ السيّد يبحث الموضوع المشار إليه في الآية ، مورد البحث كاملاً ، ويأتي بالآيات الأُخرى المتفرّقة الدالّة على الموضوع ، ويصبّها في صميم البحث ، مع مراعاة عدم الغفلة عن الروايات الخاصّة به ، وهي نفس الطريقة والمحاولة التي حاولها صدر المتألّهين الشيرازي في مزاوجة وموافق العقل مع النقل.

( الموالي ـ السعودية ـ ٢٢ سنة ـ طالب حوزة )

الآراء المطروحة في نزوله :

س : كيف نجمع بين نزول القرآن في شهر رمضان ـ كما في سورة القدر( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) ـ وبين لقاء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بجبرائيل للمرّة الأُولى في غار حراء ، وقراءة خمس آيات من سورة العلق؟

أتمنّى التوضيح ، ولكم جزيل الشكر.

ج : هنالك آراء كثيرة حول هذا الموضوع ، ولكن الرأي المشهور هو :

إنّ للقرآن نزولين ، الأوّل : دفعي ويسمّى أيضاً إجمالي ، والثاني : تدريجي أو تنجيمي ، وهو الذي استمر خلال فترة البعثة النبوية قرابة ( ٢٣ ) سنة ، وعلى هذا الرأي فلا إشكال في أنّ أوّل ما نزل من القرآن كانت الآيات الخمس الأوّل من سورة العلق إلى آخر ما نزل كسورة تامّة وهي النصر.

أمّا في النزول الإجمالي أو الدفعي وهو المتحقّق في ليلة القدر ، فكان النازل لا هذا القرآن بسوره وآياته ، وأسباب نزوله المختلفة والمتفرّقة ، لأنّها تابعة

__________________

١ ـ العنكبوت : ٦٩.

٥٠

لحوادث شخصية وزمانية ومكانية لا تصدق عليها إلاّ بحصولها ـ أي حصول مواردها ـ وحسب التعابير اللفظية من ماضي ومضارع أو الحال ، التي جميعها تستدعي النزول المتفرّق ، بل النازل هو حقيقة القرآن بعلومه ومعارفه الإلهية ، ليتنوّر قلب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بالمعارف القرآنية.

وهذا الرأي ذهب إليه العلاّمة الطباطبائي في الميزان ، والسيّد محمّد باقر الصدر في المدرسة القرآنية ، والسيّد محمّد باقر الحكيم في علوم القرآن ، والشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير الأمثل ، والشيخ هاشم البحراني في البرهان ، والشيخ جواد مغنية في الكاشف.

وإليك الآراء الأُخرى غير المشهورة :

١ ـ المراد بنزوله في ليلة القدر افتتاح نزوله التدريجي ، حيث إنّ أوّل سورة ـ وهي الحمد ـ نزلت في ليلة القدر ، وهو خلاف ظاهر الآيات والأخبار.

٢ ـ إنّه نزل جملة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا في ليلة القدر ، ثمّ نزل نجوماً إلى الأرض.

٣ ـ معظم القرآن نزل في شهر رمضان ، فصحّ نسبة الجميع إليه.

٤ ـ كان ينزل في كُلّ ليلة قدر من كُلّ عام ما يحتاج إليه الناس في تلك السنّة من القرآن.

٥ ـ شهر رمضان الذي نزل في فضله القرآن ، أي فرضَ صيامه.

٦ ـ إنّ بدء نزول القرآن في ليلة القدر ، ولكنّه يختلف عن القول الأوّل ، بأنّ القرآن الذي نزل في ليلة القدر هو هذا القرآن بسوره واسمه قرآن ، والسور المتقدّمة على ليلة القدر ، مثل سورة العلق ـ أوائل ـ وغيرها لم تجمع بما يسمّى قرآن.

هذا ملخّص الآراء المطروحة ، والتي تردّ من قبل أصحاب هذا الفن.

٥١

( علي ـ البحرين ـ ٢٥ سنة ـ طالب )

المخاطب في قوله( فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً ) الزوجان لا آدم وحوّاء :

س : قال تعالى : ( فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا ) (١) ، المعروف أنّ النبيّ آدم وحوّاء معصومان عن الخطأ ، فعن مجاهد : كان لا يعيش لآدم عليه‌السلام ولد ، فقال الشيطان : إذا ولد لكما ولد فسمّياه عبد الحارث ـ وكان الشيطان يسمّى بالحارث ـ فأطاعاه في الاسم ، فذلك قوله تعالى : ( فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا ) ما تعليقكم على هذا التفسير؟ نرجو الجواب الكافي.

ج : هذه الرواية واضحة الكذب والبطلان ، فإنّ الله سبحانه وهب العقل للإنسان ليفكّر به ، وليميّز الحقّ عن الباطل من خلاله ، فلماذا نعطّل عقولنا إلى هذا الحدِّ؟!

إنّ مضمون القصّة المذكورة نرفض نسبته إلى الإنسان العادي ، فكيف بآدمعليه‌السلام ؟! وكيف نحتمل في حقّه أن يتابع الشيطان إلى هذا الحدِّ ، ويجعل لله شريكاً؟!

إنّه أمر مرفوض ، فآدمعليه‌السلام حتّى إذا لم نقل بعصمته ، ولكن لا نحتمل أن يكون مستواه بالغاً إلى هذا الحدِّ الذي هو دون مستوى الإنسان العادي.

فلماذا هذا مع خليفة الله في الأرض؟! ولماذا هذا مع مَنْ علّمهُ الله سبحانه الأسماء؟! ولماذا هذا مع أنبياء الله تعالى؟! إنّنا نأسف أن تدخل أساطير الإسرائيليات ، وتشقّ طريقها إلى كتبنا بهذا الشكل ، ويأخذ بتناقلها هذا عن ذاك.

إنّ المقصود من الآية الكريمة واضح ، فهي تشير إلى نوع الإنسان ـ وليس إلى آدم وحوّاء ـ وتقول : إنّ أمر الإنسان غريب ، فعندما يتحقّق الحمل يطلب الزوجان من الله سبحانه أن يكون ذلك الحمل ولداً صالحاً ، ويكونان بذلك من

__________________

١ ـ الأعراف : ١٩٠.

٥٢

الشاكرين له ، ولكن حينما يرزقهما ذلك يأخذ كلامهما بالتغيّر ، فيقولان : إنّ ولدنا كان من عطاء الشيطان ، أو أنّه كان كاملاً ، لأنّ غذاءه وظروفه الصحّية كانت جيّدة ، أو ما شاكل ذلك.

( علي ـ الكويت ـ ٣٠ سنة ـ دبلوم )

معنى( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ) :

س : أُريد تفسير الآية الكريمة : ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ) (١) ؟

ج : إنّ الدعوة إلى النار ، هي الدعوة إلى ما يستوجب النار ، من الكفر والمعاصي ، لكونها هي التي تتصوّر لهم يوم القيامة ناراً يعذّبون فيها ، أو المراد بالنار ما يستوجبها مجازاً من باب إطلاق المسبّب وإرادة سببه.

ومعنى جعلهم أئمّة يدعون إلى النار ، تصيرهم سابقين في الضلال يقتدى بهم اللاحقون ، ولا ضير فيه لكونه بعنوان المجازاة على سبقهم في الكفر والجمود ، وليس من الإضلال الابتدائي في شيء.

وفي الكافي عن الإمام الصادقعليه‌السلام :( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ) : «يقدّمون أمرهم قبل أمر الله ، وحكمهم قبل حكم الله ، ويأخذون بأهوائهم خلاف ما في كتاب الله عزّ وجلّ »(٢) .

__________________

١ ـ القصص : ٤١.

٢ ـ الكافي ١ / ٢١٦.

٥٣

( فادي نجدي ـ لبنان ـ ٢٧ سنة )

ترتيب آيتي البلاغ والإكمال :

س : بالنسبة إلى موضوع ترتيب الآيات في القرآن أرى يستحقّ النظر : إنّ الترتيب الزمني يستوجب أنّ آية البلاغ تأتي بعد آية الإكمال ، بالرغم أنّهما في القرآن موجودتان في سورة واحدة بالترتيب المعكوس.

وقد ألزمتم أنفسكم بأنّ الترتيب للسور والآيات كان منذ عهد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فكيف تردّون على هذه الشبهة التي تجعل من دلالة الآيات منافية لما ندّعيه من نزولها في شأن ولاية علي عليه‌السلام ؟

ج : لا يخفى أنّ القرآن الكريم رتّبت آياته من قبل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بأمر الوحي عن الله تعالى ، ولا علاقة لذلك بترتيب السابق واللاحق في النزول ، وهذا ما يسمّى بالنظم ، أي : نظم آيات السورة بحسب أغراض ومصالح معيّنة ، تظهر أسبابها عندنا ، وقد تخفى أسباب بعضها كذلك.

واعلم إنّ آية( بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ) (١) إذا أخذنا ترتيب الآيات ـ وهو ما نسمّيه بسياق الآيات ـ بنظر الاعتبار ، فإنّ سياق الآيات لا تساعد على قولنا أنّها نزلت في الإمام عليعليه‌السلام ، بل إنّ الآيات التي قبلها والتي بعدها تتحدّث عن أهل الكتاب ، فالآية التي قبلها هي قوله تعالى :( وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ ) (٢) ، والآية التي بعدها هي قوله تعالى :( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ ) (٣) ، مع أنّ اليهود والنصارى في ذلك العهد النبوي لم يكن لهم شأنٌ وخطر ، فهم ليس بأهل قوّةٍ ولا شوكةٍ ، ولا سطوة حتّى يخشى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله منهم إنّ هو بلّغ الإسلام.

__________________

١ ـ المائدة : ٦٧.

٢ ـ المائدة : ٦٦.

٣ ـ المائدة : ٦٨.

٥٤

فإنّ الإسلام عند نزول الآية قد أعزّه الله تعالى بقوّته وتمكّنت سطوته ، فلا معنى لخوف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله من النصارى في تبليغ الإسلام ، وإذا كان الأمر كذلك ، فإنّ الآية تشير إلى تبليغ أعظم ، وأمر أخطر لم يألفه المسلمون ، وسيرتاب منه المنافقون ، ويتزعّزع لعظم خطره أهل الجاه والدنيا ، وهذا الأمر هو تبليغ ولاية عليعليه‌السلام الذي لا يطيقه المنافقون ، والذين في قلوبهم مرض ، فإنّهم سيحاولون إلى التصدّي لجهودهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لذا أخبره تعالى إنّ الله سيعصمك من خطر هؤلاء ومن مؤامراتهم.

مع أنّ الروايات من قبل الفريقين تؤكّد أنّ آية( بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ) قد نزلت في تبليغ ولاية علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، ممّا يعني أنّ ترتيب الآيات وسياقها لا علاقة له بمعنى الآية وسبب نزولها ، لذا فلا عليك أن ترى تقدّم آية( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ) (١) ، على آية( بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ) ؟ فإنّ روايات السنّة والشيعة كُلّها متّفقة على نزولهما في تبليغ ولاية عليعليه‌السلام .

( ـ ـ )

المقصود بالفؤاد :

س : قال تعالى : ( إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ) (٢) ، ما المقصود بالفؤاد؟ وما معنى مسؤولية الفؤاد؟ نرجو منكم الإجابة الوافية ، ولكم جزيل الشكر والتحية الطيّبة.

ج : قال العلاّمة الطباطبائيقدس‌سره ما نصّه : « قوله تعالى :( وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ) والآية تنهى عن اتباع ما لا علم به ، وهي لإطلاقها تشمل الاتباع اعتقاداً وعملاً ،

__________________

١ ـ المائدة : ٣.

٢ ـ الإسراء : ٣٦.

٥٥

وتتحصّل في مثل قولنا : لا تعتقد ما لا علم لك به ، ولا تقل ما لا علم لك به ، ولا تفعل ما لا علم لك به ، لأنّ في ذلك كُلّه اتباعاً

وقوله :( إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ) تعليل للنهي السابق في قوله :( وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) .

والظاهر المتبادر إلى الذهن ، أنّ الضميرين في (كَانَ عَنْهُ ) راجعان إلى( كُلُّ ) ، فيكون( عَنْهُ ) نائب فاعل لقوله :( مَسْؤُولاً ) مقدّماً عليه ، كما ذكره الزمخشري في الكشّاف ، أو مغنياً عن نائب الفاعل ، وقوله :( أُولئِكَ ) إشارة إلى السمع والبصر والفؤاد

والمعنى : لا تتبع ما ليس لك به علم ، لأنّ الله سبحانه سيسأل عن السمع والبصر والفؤاد ، وهي الوسائل التي يستعملها الإنسان لتحصيل العلم ، والمحصّل من التعليل بحسب انطباقه على المورد ، أنّ السمع والبصر والفؤاد إنّما هي نعم آتاها الله الإنسان ، ليشخّص بها الحقّ ، ويحصّل بها على الواقع ، فيعتقد به ويبني عليه عمله ، وسيسأل عن كُلّ منها ، هل أدرك ما استعمل فيه إدراكاً علمياً؟

وهل اتبع الإنسان ما حصلته تلك الوسيلة من العلم؟ فيسأل السمع هل كان ما سمعه معلوماً مقطوعاً به؟ وعن البصر هل كان ما رآه ظاهراً بيّنا؟ وعن الفؤاد هل كان ما فكّره ، وقضى به يقينياً لاشكّ فيه؟ وهي لا محالة تجيب بالحقّ ، وتشهد على ما هو الواقع ، فمن الواجب على الإنسان أن يتحرّز عن اتباع ما ليس له به علم ، فإنّ الأعضاء ووسائل العلم التي معه ستسأل ، فتشهد عليه فيما اتبعه ممّا حصلته ، ولم يكن له به علم ، ولا يقبل حينئذ له عذر.

وما له إلى نحو من قولنا : لا تقف ما ليس لك به علم ، فإنّه محفوظ عليك في سمعك وبصرك وفؤادك ، والله سائلها عن عملك لا محالة ، فتكون الآية في معنى قوله تعالى :( حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ـ إلى أن قال ـ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ

٥٦

سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنْ الْخَاسِرِينَ) (١) ، وغيرها من آيات شهادة الأعضاء.

غير أنّ الآية تزيد عليها بعد الفؤاد من الشهداء على الإنسان ، وهو الذي به يشعر الإنسان ما يشعر ، ويدرك ما يدرك ، وهو من أعجب ما يستفاد من آيات الحشر ، أن يوقف الله النفس الإنسانية ، فيسألها عمّا أدركت ، فتشهد على الإنسان نفسه.

وقد تبيّن : أنّ الآية تنهى عن الإقدام على أمر مع الجهل به ، سواء كان اعتقاداً مع الجهل ، أو عملاً مع الجهل بجوازه ووجه الصواب فيه ، أو ترتيب أثر لأمر مع الجهل به ، وذيلها يعلّل ذلك بسؤاله تعالى السمع والبصر والفؤاد ، ولا ضير في كون العلّة أعم ممّا عللتها ، فإنّ الأعضاء مسؤولة حتّى عما إذا أقدم الإنسان مع العلم بعدم جواز الإقدام ، قال تعالى :( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) الآية(٢) .

قال في المجمع في معنى قوله :( وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) : معناه لا تقل : سمعت ولم تسمع ، ولا رأيت ولم تر ، ولا علمت ولم تعلم ، عن ابن عباس وقتادة ، وقيل : معناه لا تقل في قفا غيرك كلاماً ، أي إذا مرّ بك فلا تغتبه عن الحسن ، وقيل : هو شهادة الزور ، عن محمّد بن الحنفية.

والأصل أنّه عام في كُلّ قول أو فعل أو عزم يكون على غير علم ، فكأنّه سبحانه قال : لا تقل إلاّ ما تعلم أنّه يجوز أن يقال ، ولا تفعل إلاّ ما تعلم أنّه يجوز أن يفعل ، ولا تعتقد إلاّ ما تعلم أنّه ممّا يجوز أن يعتقد انتهى »(٣) .

__________________

١ ـ فصّلت : ٢٠ ـ ٢٣.

٢ ـ يس : ٦٥.

٣ ـ الميزان في تفسير القرآن ١٣ / ٩٢.

٥٧

وقال الشيخ الطبرسيقدس‌سره ما نصّه : «( إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ) معناه : إنّ السمع يسأل عمّا سمع ، والبصر عمّا رأى ، والقلب عمّا عزم عليه.

ذكر سبحانه السمع والبصر والفؤاد ، والمراد أنّ أصحابها هم المسؤولون ، ولذلك قال :( كُلُّ أُولئِكَ ) وقيل : المعنى كُلّ أُولئك الجوارح يسأل عمّا فعل بها.

قال الوالبي عن ابن عباس : يسأل الله العباد فيما استعملوها »(١) .

( عبد الماجد ـ فرنسا ـ ٣٤ سنة ـ ليسانس )

ثواب سورة الواقعة :

س : هل صحيح أنّ من قرأ سورة الواقعة كُلّ ليلة يحفظه الله من الفقر؟

ج : مصدر هذا الخبر رواية وردت عن أهل العامّة ، نقلها الكثير منهم عن عبد الله بن مسعود في محاورة مع عثمان بن عفّان ، يقول عبد الله بن مسعود في آخرها : فإنّي سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : « من قرأ سورة الواقعة كُلّ ليلة لم يصبه فاقة أبداً »(٢) .

وقد نقلها من علمائنا الشيخ الطبرسي في تفسيره(٣) ، ويبدو أنّه نقله عنهم ، وإن لم يصرّح بذلك.

ومن يعمل بها من أصحابنا فهو استناداً على قاعدة التسامح في أدلّة السنن ، والتي تعني أنّ المستحبّات التي ترد في الشريعة المستندة إلى روايات تدلّ على ذلك ، لا ينظر إلى سند تلك الروايات ومدى صحّته وعدمه ، لأنّ الرواية أكثر

__________________

١ ـ مجمع البيان ٦ / ٢٥١.

٢ ـ معالم التنزيل ٤ / ٢٩٢ ، الجامع لأحكام القرآن ١٧ / ١٩٤ ، تفسير القرآن العظيم ٤ / ٣٠٢.

٣ ـ أُنظر : مجمع البيان ٩ / ٣٥٤.

٥٨

ما تدلّ على الاستحباب ، وليس هناك محذور في الفعل أو الترك ، بل يعمل بالرواية رجاء صحّة صدورها ، فإنّ المرء يثاب على ذلك العمل.

وقد ورد خبر آخر في سورة الواقعة ، نقله الشيخ الصدوق عن الإمام الصادقعليه‌السلام قوله : «من قرأ في كُلّ ليلة جمعة الواقعة أحبّه الله ، وأحبّه إلى الناس أجمعين ، ولم ير في الدنيا بؤساً أبداً ولا فقراً ولا فاقة ، ولا آفة من آفات الدنيا ، وكان من رفقاء أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وهذه السورة لأمير المؤمنين عليه‌السلام خاصّة لم يشركه فيها أحد »(١) ، وبضمّ هذا الخبر إلى ذاك يقوى احتمال صحّة الأثر المترتّب على قراءة تلك السورة ، ويقوى أكثر بضمّهما إلى الخبر الوارد عن الإمام الصادقعليه‌السلام حيث قال : « من سمع شيئاً من الثواب على شيء فصنعه ، كان له ، وإن لم يكن على ما بلغه »(٢) .

( نسمة ـ الإمارات ـ ٢٠ سنة ـ طالبة جامعة )

معنى الحجّة البالغة :

س : وفّقكم الله تعالى لكُلّ خير ، عندي استفسار حول الآية الكريمة ، ( فَللهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ ) (٣) ، كيف نربط بين هذه الآية وبين من لم يصل لهم الإسلام ، بمعنى أنّ الحجّة بالغة علينا نحن المسلمين ، ممّن ولد في بيئة مسلمة ، ولكن كيف تكون الحجّة بالغة على ممّن ولد في بيئة كافرة ، لا يعرف عن الإسلام شيئاً؟ وشكراً.

ج : إنّ فهمك للآية القرآنية بما ذكرت غير صحيح ، بل إنّ مراد الآية الردّ على المشركين ، الذين أرادوا أن يثبتوا شركهم بحجّتهم التي ما هي إلاّ إتباع

__________________

١ ـ ثواب الأعمال وعقابها : ١١٧.

٢ ـ الكافي ٢ / ٨٧.

٣ ـ الأنعام : ١٤٩.

٥٩

الظنّ ، فجاءت هذه الآية تفريعاً على تلك الآية السابقة ، وفاء التفريع الموجودة في أوّل الآية تدلّ على ذلك.

وقال العلاّمة الطباطبائي حول الآية ما نصّه : « والمعنى : أنّ نتيجة الحجّة قد التبست عليكم بجهلكم وإتباعكم الظنّ ، وتخرّصكم في المعارف الإلهية ، فحجّتكم تدلّ على أنّ لا حجّة لكم في دعوته إيّاكم إلى رفض الشرك ، وترك الافتراء عليه ، وأنّ الحجّة إنّما هي لله عليكم ، فإنّه لو شاء لهداكم أجمعين ، وأجبركم على الإيمان وترك الشرك والتحريم »(١) .

وقال الشيخ الطوسي حول الآية ما نصّه : « ومعنى البالغة : التي تبلغ قطع عذر المحجوج ، وتزيل كُلّ لبس وشبهة عمّن نظر فيها ، واستدلّ أيضاً بها »(٢) ، لأنّ معناها أنّها تبلغ إلى جميع أفراد البشر كما فهمت.

وعلى هذا فليس هناك أيّ تعارض بين الآية القرآنية وبين عدم وصول الدين الحقّ إلى مجموعة من الأفراد ، بل أنّ القرآن يوضّح أنّ مجموعة من الناس سوف لا يصل إليهم الحقّ ، ويسمّيهم بالمستضعفين ، وهم معذورون في عدم وصول الدين الحقّ إليهم ، يقول تعالى :( إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً ) (٣) .

قال صاحب الميزان : « يتبيّن بالآية أنّ الجهل بمعارف الدين إذا كان عن قصور وضعف ليس فيه صنع للإنسان الجاهل كان عذراً عند الله سبحانه »(٤) .

__________________

١ ـ الميزان في تفسير القرآن ٧ / ٣٦٦.

٢ ـ التبيان ٤ / ٣١١.

٣ ـ النساء : ٩٨.

٤ ـ الميزان في تفسير القرآن ٥ / ٥١.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

والذي يدل على تمدحه شيئان:

أحدهما: إجماع الأمة فإنه لا خلاف بينهم في أنه تعالى تمدح بهذه الآية، فقولنا تمدح بنفي الإدراك عن نفسه لاستحالته عليه، وقال المخالف تمدح لأنه قادر على منع الأبصار من رؤيته. فالإجماع حاصل على أن فيها مدحة.

والثاني: أن جميع الأوصاف التي وصف بها نفسه قبل هذه الآية وبعدها مدحة، فلا يجوز أن يتخلل ذلك ما ليس بمدحة. والذي يدل على أن الإدراك يفيد الرؤية أن أهل اللغة لا يفرقون بين قولهم: أدركت ببصري شخصاً، وآنست، وأحسست ببصري. وأنه يراد بذلك أجمع الرؤية. فلو جاز الخلاف في الإدراك لجاز الخلاف فيما عداه من الأقسام.

فأما الإدراك في اللغة، فقد يكون بمعنى اللحوق كقولهم: أدرك قتادة الحسن. ويكون بمعنى النضج، كقولهم أدركت الثمرة، وأدركت القدر، وإدرك الغلام إذا بلغ حال الرجال.

وأيضاً فإن الإدراك إذا أضيف إلى واحد من الحواس أفاد ما تلك الحاسة آلة فيه. ألا ترى أنهم يقولون: أدركته بأذني يريدون سمعته، وأدركته بأنفي يريدون شممته، وأدركته بفمي يريدون ذقته. وكذلك إذا قالوا: أدركته ببصري يريدون رأيته. وأما قولهم أدركت حرارة الميل ببصري فغير معروف ولا مسموع، ومع هذا ليس بمطلق بل هو مقيد، لأن قولهم حرارة الميل تقييد لأن الحرارة تدرك بكل محل فيه حياة، ولو قال أدركت الميل ببصري لما استفيد به إلا الرؤية.

وقولهم إن الإدراك هو الإحاطة باطل، لأنه لو كان كذلك لقالوا: أدرك الجراب بالدقيق وأدرك الحب بالماء وأدرك السور بالمدينة لإحاطة جميع ذلك بما فيه، والأمر بخلاف ذلك. وقوله: حتى إذا أدركه الغرق، فليس المراد به الإحاطة بل المعنى حتى إذا لحقه الغرق، كما يقولون أدركت فلاناً إذا لحقته، ومثله: فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون، أي لملحوقون.

٣٠١

والذي يدل على أن المدح إذا كان متعلقاً بنفي فإثباته لا يكون إلا نقصاً، قوله:لا تأخذه سنة ولا نوم ، وقوله:ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله ، لما كان مدحاً متعلقاً بنفي فلو ثبت في حال لكان نقصاً.

فإن قيل: كيف يتمدح بنفي الرؤية ومع هذا يشاركه فيها ما ليس بممدوح من المعدومات والضمائر.

قلنا: إنما كان ذلك مدحاً بشرط كونه مدركاً للأبصار، وبذلك تميز من جميع الموجودات، لأنه ليس في الموجودات ما يدرك ولا يدرك.

فإن قيل: ولم إذا كان يدرك ولا يدرك يجب أن يكون ممدوحاً.

قلنا: قد ثبت أن الآية مدحة بما دللنا عليه، ولابد فيها من وجه مدحة فلا يخلو من أحد وجهين: إما أن يكون وجه المدحة أنه يستحيل رؤيته مع كونه رائياً، أو ما قالوه من أنه يقدر على منع الأبصار من رؤيته بأن لا يفعل فيها الإدراك، وما قالوه باطل لقيام الدلالة على أن الإدراك ليس بمعنى الإحاطة، فإذا بطل ذلك لم يبق إلا ما قلناه، وإلا خرجت الآية من كونها مدحة. وقد قيل: إن وجه المدحة في ذلك أن من حق المرئي أن يكون مقابلاً أو في حكم المقابل، وذلك يدل على مدحته، وهذا دليل من أصل المسألة لا يمكن أن يكون جواباً في الآية.

فإن قيل: إنه تعالى نفى أن تكون الأبصار تدركه فمن أين أن المبصرين لا يدركونه؟

قلنا: الأبصار لا تدرك شيئاً البتة فلا اختصاص لها به دون غيره، وأيضاً فإن العادة أن يضاف الإدراك إلى الأبصار ويراد به ذووا الأبصار، كما يقولون: بطشت يدي وسمعت أذني وتكلم لساني، ويراد به أجمع ذووا الجارحة.

فإن قيل: إنه تعالى نفى أن جميع المبصرين لا يدركونه، فمن أين أن البعض لا يدركونه وهم المؤمنون؟

قلنا: إذا كان تمدحه في استحالة الرؤية عليه لما قدمناه، فلا اختصاص لذلك براء دون رائي، ولك أن تستدل بأن تقول: هو تعالى نفى الإدراك عن نفسه نفياً عاماً كما

٣٠٢

أنه أثبت لنفسه ذلك عاماً، فلو جاز أن يخص ذلك بوقت دون وقت لجاز مثله في كونه مدركاً. وإذا ثبت نفي إدراكه على كل حال، فكل من قال بذلك قال الرؤية مستحيلة عليه. ومن أجاز الرؤية لم ينفها نفياً عاماً فالقول بنفيها عموماً، مع جواز الرؤية عليه قول خارج عن الإجماع.

فإن عورضت هذه الآية بقوله: وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة، فإنا نبين أنه لا تعارض بينهما وأنه ليس في هذه الآية مايدل على جواز الرؤية إذا انتهينا إليها إنشاء الله.

- تفسير التبيان ج ١ ص ٢٢٨

وقال قوم: إن النظر إذا كان معه إلى لا يحتمل إلا الرؤية. وحملوا قوله: إلى ربها ناظرة على ذلك وقالوا لا يحتمل التأمل. وذلك غلط لأنهم يقولون: إنما أنظر إلى الله ثم إليك بمعنى أتوقع فضل الله ثم فضلك. وقال الطريح بن إسماعيل:

وإذا نظرت إليك من ملك

والبحر دونك جرتني نعماء

وقال جميل بن معمر:

إني إليك لما وعدت لناظر

نظر الفقير إلى الغني الموسر

وقال آخر:

وجوه يوم بدر ناظرات

إلى الرحمان تأتي بالفلاح

وأتوا ب- (إلى) على معنى نظر الإنتظار.

والصحيح أن النظر لا يفيد الرؤية وإنما حقيقته تحديق الجارحة الصحيحة نحو المرئي طلباً لرؤيته، ولو أفاد الرؤية لما جعل غاية لنفسه، ألا تراهم يقولون: ما زلت أنظر إليه (حتى رأيته) ولا يقولون ما زلت أراه حتى رأيته، ولأنهم يثبتون النظر وينفون الرؤية فيقولون: نظرت إليه فلم أره، ولا يقولون رأيته فلم أره.

- تفسير التبيان ج ١٠ ص ١٩٧

ثم قسم تعالى أهل الآخرة فقال(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) أي مشرقة مضيئة، فالنضرة الصورة الحسنة التي تملأ القلب سروراً عند الرؤية، نضر وجهه

٣٠٣

ينضر نضرة ونضارة فهو ناضر. والنضرة مثل البهجة والطلاقة، وضده العبوس والبسور، فوجوه المؤمنين المستحقين للثواب بهذه الصفة بما جعل الله عليها من النور علامة للخلق، والملائكة على أنهم مؤمنون مستحقون الثواب.

وقوله:إلى ربها ناظرة ، معناه منتظرة نعمة ربها وثوابه أن يصل إليهم.

وقيل (ناضرة) أي مشرفة (إلى) ثواب ربها (ناظرة) وليس في ذلك تنغيص، لأن الإنتظار إنما يكون فيه تنغيص إذا كان لا يوثق بوصوله إلى المنتظر أو هو محتاج إليه في الحال، والمؤمنون بخلاف ذلك، لأنهم في الحال مستغنون منعمون، وهم أيضاً واثقون أنهم يصلون إلى الثواب المنتظر.

والنظر هو تقليب الحدقة الصحية نحو المرئي طلباً للرؤية، ويكون النظر بمعنى الإنتظار، كما قال تعالى:(وإنّي مرسلة إليهم بهدية فناظرة) أي منتظرة، وقال الشاعر:

وجوه يوم بدر ناظرات

إلى الرحمن تأتي بالفلاح

أي منتظرة للرحمة التي تنزل عليهم.

وقد يقول القائل: إنما عيني ممدودة إلى الله وإلى فلان، وأنظر إليه أي أنتظر خيره ونفعه وأؤمل ذلك من جهته، وقوله: ولا ينظر إليهم يوم القيامة، معناه لا ينيلهم رحمته.

ويكون النظر بمعنى المقابلة، ومنه المناظرة في الجدل، ومنه نظر الرحمة أي قابله بالرحمة، ويقال: دور بني فلان تتناظر أي تتقابل، وهو وينظر إلى فلان أي يؤمله وينتظر خيره، وليس النظر بمعنى الرؤية أصلاً، بدلالة أنهم يقولون: نظرت إلى الهلال فلم أره، فلو كان بمعنى الرؤية لكان متناقضاً، ولأنهم يجعلون الرؤية غاية للنظر يقولون: ما زلت أنظر إليه حتى رأيته، ولا يجعل الشيء غاية لنفسه لا يقال: بما زلت أراه حتى رأيته، ويعلم الناظر ناظراً ضرورة، ولا يعلم كونه رائياً بل يسأل بعد ذلك هل رأيت أم لا.

٣٠٤

ودخول (إلى) في الآية لا يدل على أن المراد بالنظر الرؤية، ولا تعليقه بالوجوه يدل على ذلك، لأنا أنشدنا البيت وفيه تعليق النظر بالوجه وتعديه بحرف (إلى) والمراد به الإنتظار، وقال جميل بن معمر:

وإذا نظرت إليك من ملك

والبحر دونك جدتني نعما

والمراد به الإنتظار والتأميل.

وأيضاً، فإنه في مقابلة قوله في صفة أهل النار: تظن أن يفعل بها فاقرة، فالمؤمنون يؤمنون بتجديد الكرامة وينتظرون الثواب، والكفار يظنون الفاقرة، وكله راجع إلى فعل القلب.

ولو سلمنا أن النظر يعد الرؤية لجاز أن يكون المراد أنها رؤية ثواب ربها، لأن الثواب الذي هو أنواع اللذات من المأكول والمشروب والمنكوح تصح رؤيته.

ويجوز أيضاً أن يكون إلى واحد إلاء وفي واحدها لغات (ألا) مثل قفا و (ألي) مثل معي و (ألي) مثل حدي و (أل) مثل حسا، فإذا أضيف إلى غيره سقط التنوين، ولا يكون (إلى) حرفاً في الآية. وكل ذلك يبطل قول من أجاز الرؤية على الله تعالى.

وليس لأحد أن يقول: إن الوجه الأخير يخالف الإجماع، أعني إجماع المفسرين، وذلك لأنا لا نسلم لهم ذلك، بل قد قال مجاهد وأبو صالح والحسن وسعيد بن جبير والضحاك: إن المراد نظر الثواب. وروي مثله عن عليعليه‌السلام .

وقد فرق أهل اللغة بين نظر الغضبان ونظر الراضي، يقولون: نظر غضبان، ونظر راض، ونظر عداوة ونظر مودة، قال الشاعر:

تخبرني العينان ما الصدر كاتم

ولا حن بالبعضاء والنظر الشزر

والرؤية ليست كذلك فإنهم لا يضيفونها، فدل على أن النظر غير الرؤية، والمرئي هو المدرك، والرؤية هي الإدراك بالبصر، والرائي هو المدرك، ولا تصح الرؤية وهي الإدراك إلا على الأجسام أو الجوهر أو الألوان. ومن شرط المرئي أن يكون هو أو محله مقابلاً أو في حكم المقابل، وذلك يستحيل عليه تعالى، فكيف تجيز الرؤية عليه تعالى!

٣٠٥

أمير المؤمنينعليه‌السلام يدفع الشبهات

- كتاب التوحيد للصدوق ص ٢٥٤ - ٢٦٩

حدثنا أحمد بن الحسن القطان قال: حدثنا أحمد بن يحيى، عن بكر بن عبد الله بن حبيب قال: حدثني أحمد بن يعقوب بن مطر قال: حدثنا محمد بن الحسن ابن عبد العزيز الأحدب الجند بنيسابور قال: وجدت في كتاب أبي بخطه: حدثنا طلحة بن يزيد، عن عبيد الله بن عبيد عن أبي معمر السعداني أن رجلاً أتى أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام فقال: يا أمير المؤمنين إني قد شككت في كتاب الله المنزل، قال لهعليه‌السلام : ثكلتك أمك وكيف شككت في كتاب الله المنزل؟

قال: لأني وجدت الكتاب يكذب بعضه بعضاً فكيف لا أشك فيه.

فقال علي بن أبي طالبعليه‌السلام : إن كتاب الله ليصدق بعضه بعضاً ولا يكذب بعضه بعضاً، ولكنك لم ترزق عقلاً تنتفع به، فهات ما شككت فيه من كتاب الله عز وجل.

قال له الرجل: إني وجدت الله يقول: فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا، وقال أيضاً: نسوا الله فنسيهم، وقال: وما كان ربك نسياً، فمرة يخبر أنه ينسى، ومرة يخبر أنه لا ينسى، فأنى ذلك يا أمير المؤمنين!

قال: هات ما شككت فيه أيضاً.

قال: وأجد الله يقول: يوم يقوم الروح والملائكة صفاً لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صواباً، وقال واستنطقوا فقالوا والله ربنا ما كنا مشركين، وقال: يوم القيمة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضاً، وقال: إن ذلك لحق تخاصم أهل النار، وقال:لا تختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد ، وقال:نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون ، فمرة يخبر أنهم يتكلمون ومرة يخبر أنهم لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صواباً، ومرة يخبر أن الخلق لا ينطقون ويقول عن مقالتهم: والله ربنا ما كنّا مشركين: ومرة يخبر أنهم يختصمون، فأنى ذلك يا أمير المؤمنين، وكيف لا أشك فيما تسمع.....

٣٠٦

قال: هات ويحك ما شككت فيه.

قال: وأجد الله عز وجل يقول:وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة ، ويقول:لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير ، ويقول:ولقد رآه نزلة أخرى * عند سدرة المنتهى ، ويقول: يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولاً * يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علماً ، ومن أدركته الأبصار فقد أحاط به العلم، فأنى ذلك يا أمير المؤمنين وكيف لا أشك فيما تسمع؟....

فقالعليه‌السلام : وأما قوله عز وجل:وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة ، وقوله:لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار ، وقوله:ولقد رآه نزلة أخرى * عند سدرة المنتهى ، وقوله:: يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولاً * يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علماً ، فأما قوله: وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظره، فإن ذلك في موضع ينتهي فيه أولياء الله عز وجل بعدما يفرغ من الحساب إلى نهر يسمى الحيوان فيغتسلون فيه ويشربون منه فتنضر وجوههم إشراقاً فيذهب عنهم كل قذى ووعث، ثم يؤمرون بدخول الجنة، فمن هذا المقام ينظرون إلى ربهم كيف يثيبهم، ومنه يدخلون الجنة، فذلك قوله عز وجل من تسليم الملائكة عليهم: سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين، فعند ذلك أيقنوا بدخول الجنة والنظر إلى ما وعدهم ربهم فذلك قوله: إلى ربها ناظرة، وإنما (عنى) بالنظر إليه النظر إلى ثوابه يعني لا تحيط به الأوهام. وهو يدرك الأبصار، يعني يحيط بها وهو اللطيف الخبير، وذلك مدح امتدح به ربنا نفسه تبارك وتعالى وتقدس علواً كبيرا، وقد سأل موسىعليه‌السلام وجرى على لسانه من حمد الله عز وجل: رب أرني أنظر إليك، فكانت مسألته تلك أمراً عظيماً، فقال الله تبارك وتعالى: لن تراني.. فانظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني، فأبدى الله سبحان بعض آياته وتجلى ربنا للجبل فتقطع الجبل فصار رميماً وخر موسى صعقاً، يعني ميتاً، ثم أحياه الله وبعثه وتاب عليه، فقال: سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين، يعني أول مؤمن آمن بك منهم أنه لن يراك.

٣٠٧

وأما قوله: ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى، يعني محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله كان عند سدرة المنتهى حيث لا يتجاوزها خلق من خلق الله، وقوله في آخر الآية: ما زاغ البصر وما طغى لقد رأى من آيات ربه الكبرى، رأى جبرئيلعليه‌السلام في صورته مرتين هذه المرة ومرة أخرى، وذلك أن خلق جبرئيل عظيم فهو من الروحانيين الذين لا يدرك خلقهم وصفتهم إلا الله رب العالمين. ورواه الطبرسي في الإحتجاج ج ١ ص ٣٥٨ - ٣٦٢ ورواه المجلسي في بحار الأنوار ج ٤ ص ٣٢

- شرح الأسماء الحسنى ج ١ ص ١٨٥

(يا من يَرى ولا يُرى)

طال التشاجر بين الأشاعرة والمعتزلة في مسألة الرؤية فذهب الأشاعرة إلى أن الله تعالى يرى في الآخرة وينكشف انكشاف البدر المرئي ولكن بلا مقابلة وجهة ومكان، خلافاً للمعتزلة حيث نفوها، وللمشبهة والكرامية فإنهم وإن جوزوا رؤيته تعالى ولكن في الجهة والمكان وعلى سبيل المقابلة، لاعتقادهم جسميته تعالى عما يقول الظالمون علواً كبيرا.

وحرر بعض متأخري الأشاعرة حل النزاع بأنه لا نزاع للنافين في جواز الإنكشاف التام العلمي، ولا للمثبتين في امتناع ارتسام صورة المرئي في العين، أو اتصال الشعاع الخارج من العين بالمرئي.

وإنما محل النزاع أنا إذا عرفنا الشمس مثلاً بحد أو رسم كان نوعاً من المعرفة، ثم إذا أبصرناها وغمضنا العين كان نوعاً آخر من المعرفة فوق الأول، ثم إذا فتحنا العين حصل نوع آخر من الإدراك فوق الأولين، نسميها الرؤية ولا يتعلق في الدنيا إلا بما هو في جهة ومكان، فمثل هذه الحالة الإدراكية هل يصح أن تقع بدون المقابلة والجهة، وأن تتعلق بذات الله تعالى منزها عن الجهة والمكان أم لا.

واحتج الأشاعرة بحجة عقلية كلامية لا نطيل الكلام بذكرها، وأدلة نقلية منها قوله تعالى حكاية عن موسىعليه‌السلام : رب أرني أنظر إليك....

٣٠٨

ومنها، قوله تعالى:لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير .

ومنها، هذا الإسم الشريف الذي هو نظير هذه الآية.

وبالجملة كل الآيات والسنن التنزيهية تدل عليه نصاً وظاهراً ومنطوقاً ومفهوماً، والحق أن مراد محققي الأشاعرة من الرؤية هو الشهود بنوره لنوره والإنكشاف البالغ حد العيان، أيدته الأذواق وصدقه قاطع البرهان، بدليل قولهم بلا مقابلة وجهة ومكان، وكذا قولهم في تحرير محل النزاع، فمثل تلك الحالة الإدراكية أعدل شاهد على ذلك، إذ ليس مرادهم ما هو ظاهره حتى يقال حصول مثل تلك الحالة وعدم حصول مقابله ولا جهة، ومع هذا تكون رؤية لا تعقلاً، بل مرادهم أنه كما أن تلك الحالة ممتازة عن التعقل والتخيل والإحساس بالحس المشترك ومشاهدة وشهود للبصر، كذلك سيحصل لنا حالة عيانية ممتازة عنها وعلم حضوري بالنسبة إليه تعالى، هو شهود لا على المشاعر الجامع لجميعها بنحو أعلى، خذ الغايات ودع المباديَ أي المبادي الطبيعية المحدودة، كما ذكرنا في كونه سميعاً بصيراً أن المشاهدة التي يترتب على قوانا يترتب على ذاته النورية بنحو أنور فإنه سميع بصير بذاته لا بالسمع والبصر، فهذا مرادهم، وإلا فكما لا يليق بالعلماء التكلم في مسموعيته أو مشموميته مثلاً إذ ليس من سنخ المسموعات أو المشمومات، كذلك لا يليق بهم التكلم في مبصريته إذ ليس من سنخ المبصرات لأن المبصر بالذات هو الضوء واللون عند التحقيق، وإن كانت الجواهر الفردة عند المتكلم مبصرة بالذات.

فإذا عرفت هذا، فاعلم أن أرباب القشور منهم حرفوا الكلم عن مواضعه فلم يتفوهوا بما هو مخ القول، وعموا وصموا عما هو لب الحق، إذ كان المراد هو الشهود، والمعتزلة أيضاً لا ينكرونه، وإنما أنكروا الرؤية الظاهرية التي بالجارحة كما مر في محل النزاع أنه لا نزاع للنافين في جواز الإنكشاف التام العلمي بأن يكون المراد بالعلمي العلم الحضوري، ولكن لا على سبيل الإكتناه، كما قيل إن العارفين المتألهين يشاهدونه ولكن لا بالكنه بل على سبيل الفناء الذي هو قرة عين العرفاء والعلماء، بأن يرى كل فعل وصفة ووجود مستهلكة في فعله وصفته ووجوده تعالى.

٣٠٩

ولا يجوز للمؤمن إنكار ذلك الشهود لأن إنكاره إنكار الكتب السماوية والسنن النبوية والآثار الولوية، بل هو غاية إرسال المرسلين وإرشاد الأئمة الهادين وسير السايرين وسلوك السالكين، ولولاه لم يكن سماء ولا أرض ولا بسيط ولا مركب، كما قال تعالى: ما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون، أي ليعرفون، وفي الحديث القدسي: فخلقت الخلق لأعرف، فالكتاب المجيد الذي هو تنزيل من حكيم حميد مشحون منه قال تعالى:من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت .يا أيتها النفس المطمئنه ارجعي إلى ربك .شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم . والشهادة بالوحدانية فرع الشهادة بالوجود وشهوده، وهكذا كل آية مشتملة على ما دل على الشهود حتى لفظ الإيمان باعتبار بعض درجاته العالية....

قال سيد الأولياءعليه‌السلام : لم أعبد رباً لم أره. ما رأيت شيئاً إلا ورأيت الله فيه أو قبله أو معه.

وقال ابنه سيد الشهداءعليه‌السلام : عميت عين لا تراك.

وقال أيضاً: تعرفت بكل شيء فما جهلك شيء. تعرفت إليّ في كل شيء فرأيتك ظاهراً في كل شيء، فأنت الظاهر لكل شيء.

وليكف هذا اليسير من الكثير لأن كل أشراك مقالاتهم وحبايل تحريراتهم لاصطياد هذا الصيد العديم المثال، فتمام سهام قصودهم واقعة على هذا الغرض الرفيع المنال، وحيث حملنا الرؤية على الشهود فلا تخصيص له بالآخرة، فإن أبناء اليقين لموتهم الإرادي قبل موتهم الطبيعي وفنائهم عن ذواتهم قامت قيامتهم ورأوا ما رأوا، ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى:

روى الشيخ الصدوقرحمه‌الله عن أبي بصير قال قلت لأبي عبد اللهعليه‌السلام : أخبرني عن الله تعالى هل يراه المؤمنون يوم القيمة قال: نعم وقد رأوه قبل يوم القيامة، فقلت متى؟ قال: حين قال ألست بربكم قالوا بلى. ثم سكت ساعة ثم قال: وإن المؤمنين يرونه في الدنيا قبل يوم القيامة. ألست تراه في وقتك هذا قال أبو بصير فقلت: جعلت

٣١٠

فداك فأحدث بهذا عنك؟ فقال: لا فإنك إذا حدثت به فأنكره منكر جاهل بمعنى ما تقول ثم قدر أن هذا تشبيه كفر، وليست الرؤية بالقلب كالرؤية بالعين تعالى عما يصفه المشبهون والملحدون.

وقال سيد الموقنين ومولى المكاشفين: لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً....

وقولهعليه‌السلام ما ازددت يقيناً، لعل المراد منه نفي الزيادة الكمية لا الكيفية، ومن ثم قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : إن العيش عيش الآخرة. ونعم ما قال العارف عبد الرحمن الجاميقدس‌سره السامي:

تا بود باقى بقاياى وجود

كى شودصاف از كدر جام شهود

تا بود پيوند جان وتن بجاى

كى شود مقصود كل برقع گشاى

تا بود قالب غبار چشم جان

كى توان ديدنرخ جانان عيان

ثم إن الشهود الحاصل لأهل الله في الدنيا ليس لهم بما هم بأبدانهم فرشيون دنيويون، بل بما هم بقلوبهم عرشيون أخرويون، فيصدق أن الرؤية والشهود مطلقاً مخصوصة بالآخرة.

ويمكن أيضاً التوفيق بين المذهبين بأن الرؤية وإن كانت بمعنى الشهود لا يمكن في الدنيا والآخرة بالنسبة إلى كنه ذاته، احتجب عن العقول كما احتجب عن الأبصار، ويمكن بالنسبة إلى وجهه:أينما تولوا فثم وجه الله .

بل هاهنا نظر آخر فيه حصر النظر على وجهه الكريم كما قال المعصومعليه‌السلام بنقل القاضي سعيد القمي: لا أرى إلا وجهك ولا أسمع إلا صوتك، يا من يخلق ولا يخلق، يا من يهدي ولا يهدى، يا من يحيي ولا يحيى، يا من يسأل ولا يسأل. هذا الإسم الشريف مأخوذ من الآية الشريفة وهي: لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.

وقد تمسك الأشاعرة بها في كثير من المواضع، منها أنهم قالوا بنفي اللمية الغائية والداعي وجواز الترجيح من غير مرجح، فإذا سئل عنهم ما المخصص لأحداث العالم في وقت مخصوص دون ساير الأوقات مع تشابهها، وما المرجح للإمساك في

٣١١

أوقات غير متناهية، كما هو مذهبهم من التعطيل والإفاضة في وقت؟ مع كونه تعالى علة تامة غير محتاج إلى شرط أو آلة أو معاون أو حالة منتظرة، وبالجملة ما به يتم فاعليته؟ قالوا: لا يسئل عما يفعل، والتزموا القدرة الخرافية.

ومنها، أنهم حيث قالوا بالتحسين والتقبيح الشرعيين دون العقليين قالوا بنفي العلاقة اللزومية بين الأعمال الحسنة ودخول الجنة وبين الأعمال القبيحة ودخول النار، بحيث جوزوا أن يدخل الله السعيد في النار خالداً والشقي في الجنة أبداً، فإذا قيل عليهم إن هذا ظلم صريح، قالوا: لا يسأل عما يفعل.... إلخ.

واحتج المعتزلة أيضاً بحجج عقلية ونقلية كثيرة، نذكر بعضها ونترك أكثرها، لأن من أنس بالقواعد العقلية وحافظ على تنزيه الله من سمات المحدثات وصفات الأجسام قدر على إقامة حجج كثيرة وإبطال ما هو ظاهر الأشاعرة من الرؤية.

فمنها، أنه فيما عندنا من المبصرات يجب الرؤية عند تحقق شروط ثمانية ككون الحاسة سليمة وكون الشيء جايز الرؤية وكون الشيء مقابلاً أو في حكم المقابل وعدم كون المرئي في غاية القرب وغاية البعد وغاية اللطافة وغاية الصغر وأن لا يكون بين الرائي والمرئي حجاب، إذ لو لم تجب الرؤية عند حصول الشرائط جاز أن يكون بحضرتنا جبال وأشخاص لا نراها، والستة الأخيرة لا يمكن اعتبارها في رؤيته تعالى لتنزهه عن الجهة والحيز، بقي سلامة الحاسة وجواز الرؤية، وسلامة الحاسة حاصلة فلو جاز الرؤية وجب أن تراه في الدنيا والجنة دائماً، والأول منتف بالضرورة والثاني بالإجماع والنصوص القاطعة الدالة على اشتغالهم بغير ذلك من اللذات.

تفسيرهم الموافق لمذهبنا

روى السيوطي في الدر المنثور ج ٣ ص ٣٧ عدداً من الروايات التي توافق مذهبنا ومذهب عائشة، قال:

- وأخرج عبد ابن حميد وأبوالشيخ عن قتادة: لا تدركه الأبصار، قال هو أجلُّ من ذلك وأعظم من أن تدركه الأبصار.

٣١٢

- وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله:لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار ، يقول لا يراه شيء وهو يرى الخلائق.

- تفسير الطبري ج ٩ ص ٣٨

معاوية عن علي (بن طلحة) عن ابن عباس قوله تعالى:سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين ، يقول أنا أول من يؤمن أنه لا يراك شيء من خلقك. انتهى.

وقد تقدم استدلال عائشة بالآية على عدم إمكان الرؤية، قال الرازي في المطالب العالية ج ١ جزء ١ ص ٨٧: إن عائشةرضي‌الله‌عنها قالت: من حدثكم أن محمداً رأى ربه فقد أعظم الفرية، ثم قرأت:لا تدركه الأبصار .

محاولاتهم تأويل الآية وإبطال معناها

- رد النووي على عائشة في شرح مسلم - هامش الساري ج ٢ ص ٩٣ فقال : فأما إحتجاج عائشة بقول الله تعالى لا تدركه الأبصار. فجوابه ظاهر فإن الإدراك هو الإحاطة والله تعالى لايحاط به! وإذا ورد النص بنفي الإحاطة فلما يلزم منه نفي الرؤية بغير إحاطة. انتهى. ولكن المنفي هنا هو إدراك البصر، وهو أعم من الرؤية الجزئية والإحاطة!

- وقال الجويني في لمع الأدلة ص ١٠١ - ١٠٥

مذهب أهل الحق أن الباري تعالى مرئي، ويجوز أن يراه الراؤون بالأبصار....

والدليل على جواز الرؤية عقلاً: أن الرب سبحانه وتعالى موجود، وكل موجود مرئي. وبيان ذلك: أنا نرى الجواهر والألوان، فإن رئي الجوهر لكونه جوهراً لزم ألا يرى الجوهر، وإن رئيا لوجودهما لزم أن يرى كل موجود، والباري سبحانه وتعالى: موجود فصح أن يرى.

فإن قالوا: إنما يرى ما يرى لحدوثه والرب تعالى أزلي قديم الذات فلا يرى، فالجواب من وجهين: أحدهما أن نقول كلامكم هذا نقض عليكم لجواز رؤية الطعوم والروائح والعلوم ونحوها فإنها حوادث، وعندكم يستحيل أن ترى.

٣١٣

ثم الجواب الحقيقي أن نقول: الحدوث ينبيء عن موجود مسبوق بعدم والعدم السابق لا يصحح الرؤية، فانحصر التصحيح في الوجود، فدل على أن كل موجود صح أن يرى.

ويستدل على جواز الرؤية وأنها ستكون في الجنان وعداً من الله صدقاً وقولاً منه حقاً بقوله تعالى: وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة. والنظر إذا عدي بإلى اقتضى رؤية البصر. وإن عارضونا بقوله تعالى: لا تدركه الأبصار. قلنا: فمن أصحابنا من قال الرب تعالى يرى ولا يدرك فإن الإدراك ينبيء عن الإحاطة ودرك الغاية، والرب مقدس عن الغاية والنهاية. فإن عارضونا بقوله تعالى في جواب موسىعليه‌السلام : لن تراني، فزعموا أن لن تقتضي النفي على التأييد.....

قلنا: هذه الآية من أوضح الأدلة على جواز الرؤية! فإنها لو كانت مستحيلة لكان معتقد جوازها ضالاً أو كافراً، وكيف يعتقد ما لا يجوز على الله تعالى من اصطفاه الله تعالى لرسالته واجتباه لنبوته وخصصه بتكريمه وشرفه بتكليمه وجعله أفضل أهل زمانه وأيده ببرهانه، ويجوز على الأنبياء الريب في أمر يتعلق بعلم الغيب، أما ما يتعلق بوصف الباري عز وعلا فلا يجوز الريب عليهم، فيجب حمل الآية على أن ما اعتقد موسىعليه‌السلام جوازه جائز، لكن ظن أن ما اعتقد جوازه ناجزاً فيرجع النفي في الجواب إلى السؤال. وما سأل موسىعليه‌السلام ربه رؤية في الدنيا لينصرف النفي إليها، والجواب نزل على قضية الخطاب. انتهى. وقد تقدم أن موسىعليه‌السلام لم يطلب رؤية ذات اللّه تعالى، بل طلب أن يريه شيئاً من آياته كأنه ينظر إليه.

- وروى السيوطي في الدر المنثور ج ٣ ص ٣٧

وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن إسماعيل بن علية، في قوله: لا تدركه الأبصار، قال: هذا في الدنيا!

وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن عكرمة عن ابن عباس قال: إن النبى صلى الله عليه وسلم رأى ربه، فقال له رجل عند ذلك أليس قال الله:لا تدركه

٣١٤

الأبصار ! فقال له عكرمة: ألست ترى السماء؟ قال: بلى، قال فكلها ترى! (يقصد بما أن الله تعالى كبير فإنا نرى جزءً منه فقط!)

وأخرج الترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه واللالكائي في السنة عن ابن عباس قال: رأى محمد ربه، قال عكرمة فقلت له: أليس الله يقول لا تدركه الأبصار! وهو يدرك الأبصار قال: لا أم لك، ذاك نوره الذي هو نوره إذا تجلى بنوره لا يدركه شيء، وفي لفظ: إنما ذلك إذا تجلى بكيفيته لم يقم له بصر. انتهى. وهو يقصد أن ذات اللّه تعالى ترى ولكن نوره لاتدركه الأبصار!!

ثم أكد السيوطي رأي عكرمة فنقل في ج ٣ ص ٣٧ قول ابن جريح في تفسير الآية أن الأبصار لا تدرك الله تعالى كله لكبر حجمه! قال:

وأخرج ابن المنذر عن ابن جريح في قوله: لا تدركه الأبصار، قال: قالت امرأة استشفع لي يا رسول الله على ربك. قال: هل تدرين على من تستشفعين، إنه ملأ كرسيه السموات والأرض ثم جلس عليه فما يفضل منه من كل أربع أصابع، ثم قال: إن له أطيطاً كأطيط الرحل الجديد فذلك قوله: لا تدركه الأبصار، ينقطع به بصره قبل أن يبلغ أرجاء السماء. زعموا أن أول من يعلم بقيام الساعة الجن تذهب فإذا أرجاؤها قد سقطت لا تجد منفذاً تذهب في المشرق والمغرب واليمن والشام. انتهى.

وأعجب منه روايتهم التي تفسر الأبصار التي لا تدركه بأنها أبصار العقول، ومع ذلك تدركه أبصار العيون!! قال: وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ واللالكائي من طريق عبد الرحمن بن مهدي قال سمعت أبا الحصين يحيى بن الحصين قارئ أهل مكة يقول: لا تدركه الأبصار قال أبصار العقول. انتهى.

وقد تقدم في أول الباب عن (إمام الأئمة) ابن خزيمة حملته الشديدة على عائشة وتفسيره للآية بأن جميع الأبصار لا تدركه ولكن البصر الواحد يدركه! قال في كتاب التوحيد ص ٢٢٦

لأن قوله: لا تدركه الأبصار، قد يحتمل معنيين على مذهب من يثبت رؤية النبي

٣١٥

صلى الله عليه وسلم خالقه عز وجل، قد يحتمل بأن يكون معنى قوله:لا تدركه الأبصار ، على ما قال ترجمان القرآن لمولاه عكرمة ذاك نوره الذي هو نوره إذا تجلى بنوره لا يدركه شيء. والمعنى الثاني أي لا تدركه الأبصار أبصار الناس لأن الأعم والأظهر من لغة العرب أن الأبصار إنما تقع على أبصار جماعة، لا أحسب غريباً يجيء من طريق اللغة أن يقال لبصر امريء واحد أبصار وإنما يقال لبصر امريء واحد بصر، لا ولا سمعنا غريباً يقال لعين امريء واحد بصران فكيف أبصار، ولو قلنا: إن الأبصار ترى ربنا في الدنيا لكنا قد قلنا الباطل والبهتان، فأما من قال إن النبي صلى الله عليه وسلم قد رأى ربه دون سائر الخلق فلم يقل إن الأبصار قد رأت ربها في الدنيا فكيف يكون - يا ذوي الحجا - من ينفي أن النبي صلى الله عليه وسلم محمداً قد رأى ربه دون سائر الخلق مثبتاً أن الأبصار قد رأت ربها، فتفهموا يا ذوي الحجا هذه النكتة تعلموا أن ابن عباسرضي‌الله‌عنهما وأباذر وأنس بن مالك ومن وافقهم لم يعظموا الفرية على الله، لا ولا خالفوا حرفاً من كتاب الله في هذه المسألة! انتهى.

وقد علق على ذلك محقق كتابه وهو الشيخ محمد الهراس من علماء الأزهر، فقال:

عجباً لإمام الأئمة كيف خانه علمه فتوهم أن المنفي هو إدراك الأبصار له إذا اجتمعت فإذا انفرد واحد منها أمكن أن يراه! فهل إذا قال قائل لا آكل الرمان، يكون معنى هذا أنه لا يأكل الحبات منه ولكن يأكل الحبة! يرحم الله ابن خزيمة فلقد كبا ولكل جواد كبوة.

- وقد كان الطبري من أعقلهم في تفسير الآية حيث اعترف بأنه لا مجال للهروب منها ولابد من الإعتراف بأنها تنفي إمكان الرؤية مطلقاً، وأن الأخبار المروية في رؤيته تعالى تنافيها، ولكن لابد لنا من قبول الأخبار وطرح الآية!

قال في تفسيره ج ٧ ص ٢٠٠ - ٢٠٣:

قالوا فإن قال لنا قائل: وما أنكرتم أن يكون معنى قوله:لا تدركه الأبصار ، لا تراه الأبصار؟ قلنا له: أنكرنا ذلك لأن الله جل ثناؤه أخبر في كتابه أن وجوهاً في القيامة

٣١٦

إليه ناظرة، وأن رسول الله (ص) أخبر أمته أنهم سيرون ربهم يوم القيامة كما يرى القمر ليلة البدر....

وقال آخرون.. لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار، إلا أنه جائز أن يكون معنى الآية لا تدركه أبصار الظالمين في الدنيا والآخرة، وتدركه أبصار المؤمنين وأولياء الله. قالوا وجائز أن يكون معناها لا تدركه الأبصار بالنهاية والإحاطة وأما الرؤية فبلى. وقال آخرون: الآية على العموم ولن يدرك الله بصر أحد في الدنيا والآخرة، ولكن الله يحدث لأوليائه يوم القيامة حاسة سادسة سوى حواسهم الخمس فيرونه بها.... والصواب من القول في ذلك: عذرنا ما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله (ص) أنه قال إنكم سترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر. انتهى.

ولم يبين الطبري ولا غيره كيف صار هذا هو الصواب، وهل كلما عارض صريح القرآن خبر أخذنا به وخصصنا به القرآن وقلنا: عذرنا الأخبار المناقضة للقرآن!

- قال القسطلاني في إرشاد الساري ج ١٠ ص ٣٦٤

قوله تعالى في سورة الأنعام:لا تدركه الأبصار ، وأجاب المثبتون بأن معنى الآية لا تحيط به الأبصار أو لا تدركه الأبصار، وإنما يدركه المبصرون! أو لا تدركه في الدنيا لضعف تركيبها في الدنيا، فإذا كان في الآخرة خلق الله تعالى فيهم قوة يقدرون بها على الرؤية. انتهى.

ولكنهم بهذه المواصفات الجديدة للعين ونظام الرؤية، خرجوا عن موضوع البحث، بل هربوا منه، وفي نفس الوقت ردوا أحاديثهم في الرؤية التي ظاهرها رؤيته تعالى في الدنيا والآخرة بالعين المتعارفة المجردة، في أحسن صورة، وكما يرى القمر ليلة البدر على حد زعمهم!

- وقال الشوكاني في فتح القدير ج ٢ ص ١٨٥

في قوله:لا تدركه الأبصار .... التقدير لا تدركه كل الأبصار بل بعضها، وهي أبصار المؤمنين!....

٣١٧

- وقال التلمساني في نفح الطيب ج ٧ ص ٢٩٦

سئل النصيبي عن الرؤية بمجلس عضد الدولة فأنكرها محتجاً بأن كل شيء يرى بالعين فهو في مقابلتها، فقال له القاضي ابن الطيب: لا يرى بالعين، قال له الملك: فبماذا يرى؟ قال: بالإدراك الذي يحدثه الله في العين.. وهذا الأجهر عينه قائمة ولا يرى بها شيئاً! انتهى.

- وقال في نفح الطيب ج ٨ ص ٣٤

حكاية أبي بكر بن الطيب مع رؤساء بعض المعتزلة، وذلك أنه اجتمع معه في مجلس الخليفة، فناظره في مسألة رؤية الباري فقال رئيسهم: ما الدليل أيها القاضي على جواز رؤية الله تعالى؟ قال: قوله تعالى:لا تدركه الأبصار ! فنظر بعض المعتزلة إلى بعض وقالوا: جنَّ القاضي، وذلك أن هذه الآية هي معظم ما احتجوا على مذهبهم، وهو ساكت، ثم قال لهم: أتقولون إن من لسان العرب قولك: الحائط لا يبصر قالوا: لا.. قال: فلا يصح إذن نفي الصفة عما من شأنه صحة إثباتها له؟ قالوا نعم، قال: فكذلك قوله تعالى(لا تدركه الأبصار) لولا جواز إدراك الأبصار له لم يصح نفيه عنه. انتهى. ولابدّ أنهم أجابوه إن الذي يصحح النفي هو توهم جواز الرؤية لا جوازها وإمكانها!

وهكذا يحرِّم إخواننا التأويل، ولكنهم إذا وصلوا إلى آيات نفي الرؤية وأحاديثها هجموا عليها بمعاول التأويل والمغالطات بلا رحمة ولا ضابطة، حتى يجعلوا من النفي إثباتاً، وقد يجعلون من الكفر إيماناً!

* *

تفسير آية: ما كذب الفؤاد ما رأى

قال الله تعالى:وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالأُفُقِ

٣١٨

الأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى . النجم ١ - ١٨

قال أهل البيت: رأى ربه بفؤاده ورأى آياته بعينيه

تقدم في الفصول السابقة عدد من الأحاديث عن النبي وآلهصلى‌الله‌عليه‌وآله في تفسير هذه الآية، ونضيف إليها هنا مايلي:

- روى الصدوق في كتاب التوحيد ص ١٠٨:

أبيرحمه‌الله قال: حدثنا محمد بن يحيى العطار، عن أحمد بن محمد بن عيسى، قال: حدثنا ابن أبي نصر، عن أبي الحسن الرضاعليه‌السلام قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : لما أسري بي إلى السماء بلغ بي جبرئيل مكاناً لم يطأه جبرئيل قط، فكشف لي فأراني الله عز وجل من نور عظمته ما أحب.

- و في ص ١١٦:

حدثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليدرضي‌الله‌عنه قال: حدثنا إبراهيم بن هاشم، عن ابن أبي عمير، عن مرازم، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: سمعته يقول: رأى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ربه عز وجل يعني بقلبه، وتصديق ذلك: ما حدثنا به محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليدرحمه‌الله قال: حدثنا محمد بن الحسن الصفار، عن محمد بن الحسين بن أبي الخطاب، عن محمد بن الفضيل قال: سألت أبا الحسنعليه‌السلام هل رأى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ربه عز وجل؟ فقال: نعم بقلبه رآه، أما سمعت الله عز وجل يقول: ما كذب الفؤاد ما رأى، أي لم يره بالبصر، لكن رآه بالفؤاد.

- وقد عقد الصدوق في التوحيد باباً بعنوان (ما جاء في الرؤية) ص ١٠٧ ، نورد بعض روايته قال:

٣١٩

حدثنا محمد بن موسى بن المتوكل، قال: حدثنا علي بن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله، عن آبائهعليهم‌السلام قال: مر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله على رجل وهو رافع بصره إلى السماء يدعو، فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : غض بصرك فإنك لن تراه.

وقال: ومر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله على رجل رافع يديه إلى السماء وهو يدعو، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : أقصر من يديك فإنك لن تناله.

حدثنا علي بن أحمد بن محمد بن عمران الدقاقرحمه‌الله ، قال: حدثنا محمد بن أبي عبد الله الكوفي، عن علي بن أبي القاسم، عن يعقوب بن إسحاق قال: كتبت إلى أبي محمدعليه‌السلام أسأله كيف يعبد العبد ربه وهو لا يراه؟ فوقععليه‌السلام يا أبا يوسف جل سيدي ومولاي والمنعم عليّ وعلى آبائي أن يرى.

قال: وسألته هل رأى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ربه؟ فوقععليه‌السلام إن الله تبارك وتعالى أرى رسوله بقلبه من نور عظمته ما أحب.

حدثنا الحسين بن أحمد بن إدريسرحمه‌الله ، عن أبيه، عن محمد بن عبدالجبار، عن صفوان بن يحيى، عن عاصم بن حميد، قال: ذاكرت أبا عبد اللهعليه‌السلام فيما يروون من الرؤية، فقال: الشمس جزء من سبعين جزءاً من نور الكرسي، والكرسي جزء من سبعين جزءاً من نور العرش، والعرش جزء من سبعين جزءاً من نور الحجاب، والحجاب جزء من سبعين جزءاً من نور الستر، فإن كانوا صادقين فليملؤوا أعينهم من الشمس ليس دونها سحاب.

- وفي علل الشرائع ج ١ ص ١٣١

حدثنا محمد بن أحمد بن السناني وعلي بن أحمد بن محمد الدقاق والحسين بن إبراهيم بن أحمد بن هشام المؤدب وعلي بن عبد الله الوراقرضي‌الله‌عنهم ، قالوا حدثنا محمد بن أبي عبد الله الكوفي الأسدي، عن موسى بن عمران النخعي، عن عمه الحسين بن يزيد النوفلي، عن علي بن سالم، عن أبيه، عن ثابت بن دينار، قال سألت زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالبعليه‌السلام عن الله جل

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667