الغدير في الكتاب والسنة والأدب الجزء ١٠

الغدير في الكتاب والسنة والأدب0%

الغدير في الكتاب والسنة والأدب مؤلف:
الناشر: دارالكتب الإسلامية
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 389

الغدير في الكتاب والسنة والأدب

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة الشيخ الأميني
الناشر: دارالكتب الإسلامية
تصنيف: الصفحات: 389
المشاهدات: 58790
تحميل: 2167


توضيحات:

الجزء 1 المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11
المقدمة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 389 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 58790 / تحميل: 2167
الحجم الحجم الحجم
الغدير في الكتاب والسنة والأدب

الغدير في الكتاب والسنة والأدب الجزء 10

مؤلف:
الناشر: دارالكتب الإسلامية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

ألا ابلغ معاوية بن صخر

مغلغلة من الرَّجل اليمانِ

وذكر الأبيات كما ذكرناها سواء. وروى عمر بن شبة وغيره: أنّ ابن مفرغ لمـَّا وصل إلى معاوية أو إلى ابنه يزيد بعد أن شفعت فيه اليمانية وغضبت لما صنع به عباد وأخوه عبيد الله، وبعد أن لقي من عباد بن زياد وأخيه عبيد الله ما لقي ممّا يطول ذكره وقد نقله أهل الأخبار ورواة الأشعار بكر وقال: يا أمير المؤمنين! ركب منّي ما لم يركب من مسلم قطّ على غير حدث في الإسلام ولا خلع يد من طاعة. فقال له معاوية: ألست القائل:

ألا أبلغ معاوية بن حرب

مغلغة من الرّجل اليمانِ

أتغضب أن يقال: أبوك عفّ؟

وترضى أن يقال: أبوك زانِ؟!

فقال ابن المفرغ: لا والذي عظم حقّك ورفع قدرك، يا أمير المؤمنين! ما قلتها قطُّ ولقد بلغني أنَّ عبد الرّحمن بن الحكم قالها ونسب إليَّ. فقال أفلست القائل:

شهدت بأنّ امّك لم تباشر

أبا سفيان واضعة القناعِ

ولكن كان أمراً فيه لبسٌ

على وجه شديد وارتياعِ؟(١)

أوَ لست القائل:

إنَّ زياداً ونافعاً وأبا بكـ

ـ رة عندي من أعجب العجبِ

هم رجالٌ ثلاثةٌ خلقوا

في رحم اُنثى وكلّهم لأبِ(٢)

ذا قرشيٌّ كما يقول وذا

مولى وهذا بزعمه عربي

في أشعار قلتها في زياد وبنيه تهجوهم، أغرب فلا عفا الله عنك، قد عفوت عن جرمك، ولو صحبت زياداً لم يكن شيىءٌ ممّا كان، اذهب فاسكن أيّ أرض أحببت. فاختار الموصل.

قال أبو عمر: ليزيد بن مفرغ في هجو زياد وبنيه من أجل ما لقي من عبّاد بن زياد بخراسان أشعار كثيرة، وقصّته مع عبّاد بن زياد وأخيه عبيد الله بن زياد مشهورةٌ ومن قوله يهجوهم:

____________________

١ - هذه القصيدة كما قال أبو الفرج: طويلة. ذكر منها في الاغاني ١٧: ٦٦ تسعة عشر بيتاً.

٢ - ويروى: انثى مخالف النسب.

٢٢١

أعبّاد ما للّوم عنك محولُ

ولا لك امٌّ في قريش ولا أبُ

وقل لعبيد الله: ما لك والدٌ

بحقّ ولا يدري امرؤ كيف تنسبُ(١)

قال عبيد الله بن زياد: ما هُجيت بشيىء أشدّ عليَّ من قول ابن مفرغ:

فكّر ففي ذاك إن فكّرت معتبرُ

هل نلت مكرمة إلّا بتأمير؟!

عاشت سميّة ما عاشت وما علمت

إنَّ ابنها من قريش في الجماهيرِ

وقال غيره:

زياد لست أدري من أبوه

ولكنّ الحمار أبو زيادِ

ورُوينا: انّ معاوية بن أبي سفيان قال حين أنشده مروان شعر أخيه عبد الرّحمن: والله لا أرضى عنه حتّى يأتي زياداً فيترضّاه ويعتذر إليه. وأتاه عبد الرّحمن يستأذن عليه معتذراً فلم يأذن له، فأقبلت قريش على عبد الرَّحمن بن الحكم فلم يدعوه حتّى أتى زياد فلمّا دخل فسلّم عليه فتشاوس(٢) له زياد بعينه وكان يكسر عينه فقال له زياد: أنت القائل ما قلت؟ فقال عبد الرَّحمن: وما الذي قلت؟ فقال: قلت ما لا يُقال. فقال: عبد الرَّحمن: أصلح الله الأمير انّه لا ذنب لمن اعتب، وإنّما الصفح عمّن أذنب، فاسمع منّي ما أقول قال: هات فأنشأ يقول:

إليك أبا المغيرة تبت ممّا

جرى بالشام من جور اللسانِ

وأغضبت الخليفة فيك حتّى

دعاه فرط غيظٍ أن لحاني

وقلت لمن لحاني في اعتذاري

إليك الحقّ شأنك غير شأنِ

عرفت الحقّ بعد خطأ رأيي

وما ألبسته غير البيانِ

زياد من أبي سفيان غصنٌ

تهادى ناضرٌ بين الجنانِ

أراك أخاً وعمّاً وابن عمّ

فما أدري بعينٍ ما تراني

وأنت زيادةٌ في آل حرب

أحبّ إليَّ من وسطي بناني

ألا أبلغ معاوية بن حرب

فقد ظفرت بما تأتي اليدانِ

فقال له زياد: أراك أحمق مترفاً شاعراً صنع اللسان، يسوغ لك ريقك ساخطاً و

____________________

١ - ذكر أبو الفرج فى الامانى ١٧: ٥٩ من بائية ابن المفرغ هذه اثنى عشر بيتاً.

٢ - من شاس: نظر بمؤخر عينه تكبراً أو تغيظا.

٢٢٢

مسخوطاً، ولكنّا قد سمعنا شعرك وقبلنا عذرك، فهات حاجتك. قال: كتاب إلى أمير المؤمنين بالرضى عنِّي. قال: نعم. فكتب كتاباً أخذه ومضى حتى دخل على معاوية، ففضّ الكتاب ورضَي عنه وردّه إلى حاله وقال: قبّح الله زياداً ألم ينتبه له إذ قال:

وأنت زيادة في آل حرب

.......................

قال أبو عبيدة: كان زياد يزعم انَّ امّه سميّة بنت الأعور من بني عبد شمس ابن زيد مناة بن تميم فقال ابن مفرّغ يردّ ذلك عليه:

فاُقسم ما زياد من قريش

ولا كانت سميّة من تميم

ولكن نسل عبد من بغيّ

عريق الأصل في النسب اللئيم(١)

وأخرج الطبري في تاريخه ٦: ١٢٣ بإسناده عن أبي إسحاق: إنَّ زياداً لمـّا قدم الكوفة قال: قد جئتكم في أمر ما طلبته إلّا لكم. قالوا: اُدعنا إلى ما شئت. قال: تلحقون نسبي بمعاوية. قالوا: أمّا بشهادة الزور فلا، فأتى البصرة فشهد له رجلٌ.

قال ابن عساكر وابن الأثير: كان أبو سفيان صار إلى الطائف فنزل على خمّار يقال له أبو مريم السلولي وكانت لأبي مريم بعد صحبة فقال أبو سفيان لأبي مريم بعد أن شرب عنده: قد اشتدّت به العزوبة، فالتمس لي بغيّاً. فقال: هل لك في جارية الحارث ابن كلدة سُميّة امرأة عُبيد؟ فقال: هاتها على طول ثديها وريح إبطيها. فجاء بها إليه فوقع بها، فولدت زياداً فادّعاه معاوية.

وروى ابن عساكر عن ابن سيرين عن أبي بكرة قال: قال: زياد لأبي بكرة: ألم ترَ انَّ أمير المؤمنين أرادني على كذا وكذا، وولدت على فراش عُبيد واشبهته، وقد علمت أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: من ادّعى لغير أبيه فليتبوّأ مقعده من النار. ثمّ جاء العام المقبل وقد ادّعاه.

وقال محمّد بن اسحاق: كنّا جلوساً عند أبي سفيان فخرج زياد فقال: ويل امّه لو كان له صلب قوم ينتمي إليهم(٢)

ولمـّا بويع معاوية قدم زياد على معاوية فصالحه على ألفي ألف، ثمّ أقبل فلقيه

____________________

١ - الاغانى ١٧: ٥١ - ٦٧، الاستيعاب ١: ١٩٥ - ١٩٨، تاريخ ابن عساكر ٥: ٤٠٦ - ٤٢٣، مروج الذهب ٢: ٥٦، ٥٧. تاريخ ابن كثير ٨: ٩٥، ٩٦، الاتحاف ص ٢٢.

٢ - العقد الفريد ٣: ٢، تاريخ ابن عساكر ٥: ٤٠٩، كامل ابن الاثير ٣: ١٩١.

٢٢٣

مصقلة بن هبيرة الشيباني وضمن له عشرين ألف درهم ليقول لمعاوية: إنّ زياداً قد أكل فارس برًّا وبحراً، وصالحك على ألفي ألف درهم، والله ما أرى الذي يقال إلّا حقّاً.

فإذا قال لك: وما يقال؟ فقل: يُقال: انّه ابن أبي سفيان. ففعل مصقلة ذلك، ورأى معاوية أن يستميل زياداً واستصفى مودّته باستلحاقه، فاتّفقا على ذلك واحضر الناس و حضر من يشهد لزياد، وكان فيمن حضر أبو مريم السلولي فقال له معاوية: بِمَ تشهد يا أبا مريم؟ فقال: أنا أشهد أنَّ أبا سفيان حضر عندي وطلب منِّي بغيّاً فقلت له: ليس عندي إلّا سُميّة. فقال: ائتني بها على قذرها ووضرها. فأتيته بها فخلا معها ثمّ خرجت من عنده وانَّ اسكتيها ليقطران منيّاً. فقال له زياد: مهلاً أبا مريم إنّما بعثت شاهداً ولم تبعث شاتماً. فاستلحقه معاوية(١)

وفي العقد الفريد ٣: ٣: يقال: إنَّ أبا سفيان خرج يوماً وهو ثملٌ إلى تلك الرّايات فقال لصاحبة الراية: هل عندك من بغيّ؟ فقالت ما عندي إلّا سُمَّية قال: هاتها على نتن إبطيها. فوقع بها فولدت له زياداً على فراش عُبيد.

فوجد زياد نفسه بعد حسبه الواطئ ونسبه الوضيع، بعد أن كان لا يُعزى إلى أب معلوم عمراً طويلاً يقرب من خمسين عاماً(٢) فيقال له: زياد بن أبيه. أخا ملك الوقت وابن من يُزعم انّه من شرفاء بيئته، وقد تسنّى له الحصول على مكانة رابية فأعرق نُزعاً في جلب مرضاة معاوية المحابي له بتلك المرتبة الّتي بمثلها حابت هند ابنها المردَّد بين خمسة رجال أو ستّة من بغايا الجاهليّة، لكن آكلة الأكباد ألحقت معاوية بأبي سفيان لدلالة السحنة والشبَه، فطفق زياد يلغ في دماء الشيعة ولمعاوية من ورائه تصديةٌ ومكاء، وإنَّ غلواء الرَّجل المحابي أعمته عن استقباح نسبة الزنا لأبيه يوم استحسن أن يكون له أخ مثل زياد شديد في بأسه، يأتمر أوامره، وينتهي إلى ما يودّه من بوائق وموبقات، و لم يكترث لحكم الشريعة بحرمة مثل ذلك الإلحاق واستعظامها إيّاه، ولا يصيخُ إلى قول النبيِّ الصادقصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال يونس بن أبي عبيد الثقفي لمعاوية: يا معاوية! قضى

____________________

١ - تاريخ اليعقوبي ٢: ١٩٤، مروج الذهب ٢: ٥٦، تاريخ ابن عساكر ٥: ٤٠٩، كامل ابن الاثير ٣: ١٩٢، شرح ابن أبي الحديد ٤: ٧٠، الاتحاف للشبراوى ص ٢٢.

٢ - قيل: ولد عام الفتح سنة ثمان. وقيل: عام الهجرة. وقيل: قبل الهجرة. وقيل: يوم بدر.

_١٤_

٢٢٤

رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ الولد للفراش وللعاهر الحجَر. فعكست ذلك وخالفت سنّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: أعد. فأعاد يونس مقاله هذا، فقال معاوية: يا يونس! والله لتنتهينَّ أو لأطيرنّ بك طيراً بطيأ وقوعها(١) .

انظر إلى ايمان الرجل بنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإخباته إلى حديثه بعد استعادته، وعنايته بقبوله ورعايته حرمته، والحكَم في هذه الشنيعة كلّ ذي مسكة من علماء الاُمَّة وذوي حنكتها ومؤلّفيها وكتّابها.

قال سعيد بن المسيب: أوَّل(٢) قضيّة ردَّت من قضاء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علانية قضاء فلان، يعني: معاوية في زياد.

وقال ابن يحيي: أوَّل حكم ردّ من أحكام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحكم في زياد.

وقال ابن بعجة: أوَّل داء دخل على العرب قتل الحسن « سبط النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » و ادّعاء زياد(٣) .

وقال الحسن: اربع خصال كنّ في معاوية لو لم يكن فيه منهنَّ إلّا واحدة لكانت موبقة: انتزاؤه على هذه الاُمّة بالسفهاء حتّى ابتزّها أمرها بغير مشورة منهم، وفيهم بقايا الصحابة وذوو الفضيلة. واستخلافه ابنه بعده سكّيراً خمّيراً يلبس الحرير ويضرب بالطنابير. وادّعائه زياداً وقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الولد للفراش وللعاهر الحجَر. وقتله حُجراً، ويلاً له من حُجر وأصحاب حُجر قالها. مرّتين(٤) .

وقال الإمام السبط الحسن الزكيّعليه‌السلام لزياد في حضور من معاوية، وعمرو بن العاص، ومروان بن الحكم: وما أنت يا زياد! وقريشاً؟ لا أعرف لك فيها أديماً صحيحاً ولا فرعاً نابتاً، ولا قديماً ثابتاً، ولا منبتاً كريماً، بل كانت امّك بغيّاً تداولها رجال

____________________

١ - الاتحاف للشبراوى ص ٢٢.

٢ - ليست بأول قارورة كسرت فى الاسلام وانّما ردّ من يوم السقيفة وهلمّ جرا إلى يوم الاستلحاق من قضايا رسول الله ما يربو على العدّ.

٣ - تاريخ ابن عساكر ٥: ٤١٢، تاريخ الخلفاء، للسيوطى ص ١٣١، أوائل السيوطى ص ٥١.

٤ - تاريخ ابن عساكر ٢: ٣٨١، تاريخ الطبرى ٦: ١٥٧، الكامل لابن الاثير ٤: ٢٠٩، تاريخ ابن كثير ٨: ١٣٠، محاضرات الراغب ٢: ٢١٤، النجوم الزاهرة ١ ص ١٤١.

٢٢٥

قريش، وفجّار العرب، فلمّا ولدت لم تعرف لك العرب والداً فادّعاك هذا - يعني معاوية - بعد ممات أبيه، ما لك افتخار، تكفيك سُميّة ويكفينا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبي عليُّ بن أبي طالب سيّد المؤمنين الذي لم يرد على عقبيه، وعمِّي حمزة سيّد الشهداء، وجعفر الطيّار، وأنا وأخي سيّدا شباب أهل الجنّة(١) .

وفد زياد على معاوية فأتاه بهدايا وأموال عظام وسفط مملؤ جوهراً لم ير مثله فسرّ معاوية بذلك سروراً شديدا، فلمّا رأى زياد ذلك صعد المنبر فقال: أنا والله يا أمير المؤمنين! أقمت لك معر العراق، وجبيت لك مالها، وألفظت إليك بحرها، فقام يزيد ابن معاوية فقال: إن تفعل ذلك يا زياد! فنحن نقلناك من ولاء ثقيف إلى قريش، ومن القلم إلى المنابر، ومن زياد بن عُبيد إلى حرب بن اُميّة. فقال معاوية: اجلس فداك أبي وامّي(٢) .

وقال السكتواري في محاضرة الأوائل ص ١٣٦ اوّل قضيّة ردَّت من قضايا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علانية دعوة معاوية زياداً، وكان أبو سفيان تبرَّأ منه وادَّعى انَّه ليس مِن أولاده وقضى بقطع نسبه، فلمّا تأمّر معاوية قرّبه واستأمر ففعل ما فعل زياد بن أبيه يعني ابن زنيّة من الطغيان والاساءة في حقّ أهل بيت النبوّة. وقال في ص ١٦٤: كان عمر رضي الله عنه إذا نظر إلى معاوية يقول: هذا ابن أبي سفيان كسرى العرب(٣) لأنّه كان أوّل من ردّ قضية من قضايا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين هجر، وزياد بن أبيه أوّل من أساء إساءةً تفرَّد بشينها بين الاُمم في حقً أهل البيت رضي الله عنهم.

وقال في ص ٢٤٦: كان قد تبرّأ من زياد أبو سفيان ومنع حقّه من ميراث الاسلام بحضرة الصّحابة رضي الله عنهم، فلا زال طريداً حتّى دعاه معاوية وقرّبه وأمَّره وردّ القضيّة، وهي أول قضيّة من قضايا الإسلام ردّت، ولذا صارت بليّة شنيعة، ومحنة فاحشة بين الاُمَّة، وأبغض الوسائل تعدِّيه على أفضل الملّة وأحبّ العترة اهـ.

____________________

١ - المحاسن والمساوى للبيهقى ١: ٥٨.

٢ - المجتنى لابن دريد ص ٣٧.

٣ - قول عمر هذا فى معاوية ذكره جمعٌ، راجع الاستيعاب ١: ٢٥٣، أسد الغابة ٤: ٣٨٦، الاصابة ٣: ٤٣٤.

٢٢٦

ولا أحسب أنَّ أحداً من رجالات الدين يشذّ عمَّا قاله الجاحظ في رسالته النابتة في بني اميّة ص ٢٩٣: فعندها استوى معاوية على الملك واستبدَّ على بقيّة الشورى وعلى جماعة المسلمين من الأنصار والمهاجرين في العام الذي سمّوه « عام الجماعة » وما كان عام جماعة بل كان عام فرقة وقهر وجبريّة وغلبة، والعام الذي تحوّلت فيه الإمامة ملكاً كسرويّاً، والخلافة منصباً قيصريّاً، ولم يعدّ ذلك أجمع الضلال والفسق، ثمَّ ما زالت معاصيه من جنس ما حكينا، وعلى منازل ما رتّبنا، حتى ردَّ قضيّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ردًّا مكشوفاً، وجحد حكمه جحداً ظاهراً في ولد الفراش وما يجب للعاهر، مع اجماع الاُمّة على أنّ سميّة لم تكن لأبي سفيان فراشاً، وانّه إنّما كان بها عاهراً فخرج بذلك من حكم الفجّار إلى حكم الكفّار.اهـ.

ولو تحرَّينا موبقات معاوية المكفّرة له وجدنا هذه في أصاغرها، فجلّ أعماله - إن لم يكن كلّه - على الضدّ من الكتاب والسنّة الثابتة، فهي غير محصورة في مخالفته لقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الولد للفراش وللعاهر الحجَر.

_ ١٤ _

بيعة يزيد

أحد موبقات معاوية الاربع(١)

إنَّ من موبقات معاوية وبوائقه - وهو بكلّه بوائق - أخذه البيعة لابنه « يزيد » على كُرهٍ من أهل الحلّ والعقد، ومراغمة لبقايا المهاجرين والأنصار، و إنكار من أعيان الصحابة الباقين، تحت بوارق الإرهاب، ومعها طلاة المطامع لأهل الشرَه والشهوات.

كان في خَلد معاوية يوم استقرّت له الملوكيّة وتمَّ له الملك العضوض أن يتّخذ ابنه وليّ عهده ويأخذ له البيعة، ويؤسّس حكومة أمويَّة مستقرّة في أبناء بيته، فلم يزل يروض الناس لبيعة سبع سنين يُعطي الأقارب ويُداني الأباعد(٢) وكان يبتلعه

____________________

١ - راجع كلمة الحسن البصرى المذكورة قبيل هذا صفحة ٢٢٥.

٢ - العقد الفريد ٢: ٣٠٢.

٢٢٧

طوراً، ويجترُّ به حيناً بعد حين، يمُهِّد بذلك السبيل، ويسهِّل حزونته، ولمـَّا مات زياد سنة ٥٣ وكان يكره تلك البيعة أظهر معاوية عهداً مفتعلاً - على زياد - فقرأه على الناس فيه عقد الولاية ليزيد بعده، وأراد بذلك أن يسهِّل بيعة يزيد كما قاله المدائني(١) وقال أبو عمر في الاستيعاب ١: ١٤٢: كان معاوية قد أشار بالبيعة ليزيد في حياة الحسن وعرض بها ولكنّه لم يكشفها ولا عزم عليها إلّا بعد موت الحسن.

قال ابن كثير في تاريخه ٨: ٧٩: وفي سنة ستّ خمسين دعا معاوية النّاس إلى البيعة ليزيد ولده أن يكون وليَّ عهده من بعده، وكان قد عزم قبل ذلك على هذا في حياة المغيرة(٢) بن شعبة، فروى ابن جرير من طريق الشعبي: أنّ المغيرة كان قد قدم على معاوية وأعفاه من إمرة الكوفة فأعفاه لكبره وضعفه، وعزم على توليتها سعيد بن العاص، فلمّا بلغ ذلك المغيرة كأنّه ندم، فجاء إلى يزيد بن معاوية فأشار عليه بأن يسأل من أبيه أن يكون وليَّ العهد فسأل ذلك من أبيه فقال: مَن أمرك بهذا؟ قال: المغيرة. فأعجب ذلك معاوية من المغيرة، وردّه إلى عمل الكوفة، وأمره أن يسعى في ذلك، فعند ذلك سعى المغيرة في توطيد ذلك، وكتب معاوية إلى زياد يستشيره في ذلك فكره زياد ذلك لما يعلم من لعب يزيد وإقباله على اللعب والصيد، فبعث إليه من يثني رأيه عن ذلك وهو عُبيد بن كعب النميري - وكان صاحباً أكيداً لزياد - فسار إلى دمشق فاجتمع بيزيد أوَّلا فكلّمه عن زياد وأشار عليه بأن لا يطلب ذلك، فإنّ تركه خيرٌ له من السعي فيه، فانزجر يزيد عمّا يريد من ذلك، واجتمع بأبيه واتّفقا على ترك ذلك في هذا الوقت، فلمّا مات زياد شرع معاوية في نظم ذلك والدعاء إليه، وعقد البيعة لولده يزيد، وكتب إلى الآفاق بذلك.

صورة أخرى

في بدء بدئها

كان ابتداء بيعة يزيد وأوَله من المغيرة بن شعبة فإنَّ معاوية أراد أن يعزله عن الكوفة

____________________

١ - العقد الفريد ٢: ٣٠٢، تاريخ الطبرى ٦: ١٧٠.

٢ - توفى المغيرة سنة خمسين وقدم على معاوية فى سنة خمس وأربعين واستعفاه من الامرة وهى سنة بدوّ فكر بيعة يزيد فى خلد معاوية بايعاز من المغيرة.

٢٢٨

ويستعمل عوضه سعيد بن العاص فبلغه ذلك فقال: الرأي أن أشخص إلى معاوية فاستعفيه ليظهر للناس كراهتي للولاية، فسار إلى معاوية وقال لأصحابه حين وصل إليه: إن لم أكسبكم الآن ولاية وإمارة لا أفعل ذلك أبداً، ومضى حتّى دخل على يزيد وقال له: إنّه قد ذهب أعيان أصحاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكبراء قريش وذوو أسنانهم وإنّما بقي أبناؤهم وأنت من أفضلهم وأحسنهم رأياً وأعلمهم بالسنّة والسياسة، ولا أدري ما يمنع أمير المؤمنين أن يعقد لك البيعة؟ قال: أوَ ترى ذلك يتمّ؟ قال: نعم. فدخل يزيد على أبيه وأخبره بما قال المغيرة فأحضر المغيرة وقال له: ما يقول يزيد؟ فقال: يا أمير المؤمنين! قد رأيت ما كان من سفك الدماء والإختلاف بعد عثمان(١) وفي يزيد منك خلفٌ فاعقد له، فإن حدث بك حادثٌ كان كهفاً للناس وخلفاً منك ولا تسفك دماء ولا تكون فتنة. قال: ومَن لي بهذا؟ قال: أكفيك أهل الكوفة، ويكفيك زياد أهل البصرة، وليس بعد هذين المصرين أحدٌ يخالفك. قال: فارجع إلى عملك وتحدَّث مع مَن تثق إليه في ذلك، وترى ونرى. فودَّعه ورجع إلى أصحابه فقالوا: مَه. قال: لقد وضعت رِجل معاوية في غرز بعيد الغاية على اُمّة محمّد، وفتقت عليهم فتقاً لا يرتق أبدا. وتمثّل:

بمثلي شاهدي نجوى وغالى

بي الأعداء والخصم الغضابا

وسار المغيرة حتى قدم الكوفة وذاكر من يثق إليه ومن يعلم انّه شيعة لبني اميّة أمر يزيد فأجابوا إلى بيعته فأوفد منهم عشرة ويقال: أكثر من عشرة. وأعطاهم ثلاثين ألف درهم، وجعل عليهم ابنه موسى بن المغيرة وقدموا على معاوية فزيَّنوا له بيعة يزيد ودعوه إلى عقدها. فقال معاوية: لا تعجلوا باظهار هذا وكونوا على رأيكم، ثمَّ قال لموسى: بكم اشترى أبوك من هؤلاء دينهم؟ قال: بثلاثين ألفاً. قال: لقد هان عليهم دينهم، وقيل: أرسل أربعين رجلاً وجعل عليهم ابنه عروة، فلمّا دخلوا على معاوية قاموا خطباء فقالوا: إنَّما أشخصهم إليه النظر لاُمّة محمَّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقالوا: يا أمير المؤمنين! كبرت سنّك وخفنا انتشار الحبل فانصب لنا علماً، وحدّ لنا حدّاً ننتهي إليه.

____________________

١ - ألا مسائل المغيرة عن أن هذا الشقاق والخلاف وسفك الدماء المحرّمة في عدم الاستخلاف هل كان يعلمها رسول الله صلى ‌الله‌ عليه ‌و آله‌ ؟ فلماذا ترك امّته سدى ولم يستخلف كما زعمه هو والسياسيون من رجال الانتخاب الدستورى؟.

٢٢٩

فقال: أشيروا عليَّ. فقالوا: نشير بيزيد بن أمير المؤمنين. فقال: أوَقد رضيتموه؟ قالوا: نعم. قال: وذلك رأيكم؟ قالوا: نعم، ورأي مَن وراءنا. فقال معاوية لعروة سرّاً عنهم: بكم اشترى أبوك من هؤلاء دينهم؟ قال: بأربعمأة دينار. قال: لقد وجد دينهم عندهم رخيصاً، وقال لهم: ما ننظر ما قدمتهم له ويقضي الله ما أراد، والأناة خيرٌ من العجلة فرجعوا، وقوي عزم معاوية على البيعة ليزيد فأرسل إلى زياد يستشيره فأحضر زياد عبيد بن كعب النميري وقال له: إنّ لكلّ مستشير ثقة، ولكلّ سرّ مستودع، وإنَّ الناس قد أبدع بهم خصلتان: إذاعة السرّ، وإخراج النصيحة إلى غير أهلها، وليس موضوع السرّ إلّا أحد رجلين: رجلُ آخرة يرجو ثوابها، ورجل دنيا له شرف في نفسه، وعقل يصون حسبه، و قد خبرتهما منك، وقد دعوتك لأمر اتهمت عليه بطون الصحف: إنَّ أمير المؤمنين كتب يستشيرني في كذا وكذا، وانّه يتخوّف نفرة الناس، ويرجو طاعتهم، وعلاقة أمر الإسلام وضمانه عظيم، ويزيد صاحب رسلة وتهاون مع ما قد أولع به من الصيد، فألق أمير المؤمنين وأدِّ إليه فعلات يزيد وقل له: رويدك بالأمر فأحرى لك أن يتمَّ لك، لا تعجل فإنَّ دركاً في تأخير خيرٌ من فوت في عجلة. فقال له عُبيد: أفلا غير هذا؟ قال. وما هو؟ قال: لا تفسد على معاوية رأيه، ولا تبغض إليه ابنه، واُلقي أنا يزيد فأخبره انَّ أمير المؤمنين كتب إليك، يستشيرك في البيعة له، وانّك تتخوَّف خلاف الناس عليه لهنات ينقمونها عليه، و إنَّك ترى له ترك ما ينقم عليه لتستحكم له الحجَّة على الناس، ويتمّ ما تريد فتكون قد نصحت أمير المؤمنين وسلمت ممّا تخاف من أمر الاُمَّة. فقال زياد: لقد رميت الأمر بحجره، أشخص على بركة الله، فإن أصبت فما لا ينكر، وإن يكن خطأ فغير مستغشّ، وتقول بما ترى، ويقتضي الله بغيب ما يعلم، فقدم على يزيد فذكر ذلك له فكفَّ عن كثير ممّا كان يصنع، وكتب زياد معه إلى معاوية يشير بالتوءدة وأن لا يعجل، فقبل منه، فلمّا مات زياد عزم معاوية على البيعة لابنه يزيد فأرسل إلى عبد الله بن عمر مائة ألف درهم فقبلها فلمّا ذكر البيعة ليزيد قال ابن عمر: هذا أراد، إنَّ ديني إذن لرخيصٌ وامتنع(١) .

____________________

١ - تاريخ الطبري ٦: ١٦٩، ١٧٠، كامل ابن الأثير ٣: ٢١٤، ٢١٥.

٢٣٠

بيعة يزيد فى الشام

وقتل الحسن السبط دونها

لمـّا اجتمعت عند معاوية وفود الأمصار بدمشق باحضار منه وكان فيهم الأحنف بن قيس دعا معاوية الضحاك بن قيس الفهري فقال له: إذا جلستُ على المنبر وفرغتُ من بعض موعظتي وكلامي فاستأذني للقيام فإذا أذنت لك فاحمد الله تعالى واذكر « يزيد » وقل فيه الذي يحقُّ له عليك من حسن الثناء عليه، ثمّ ادعني إلى توليته من بعدي فإنِّي قد رأيت وأجمعت على توليته، فأسأل الله في ذلك وفي غيره الخيرة وحسن القضاء، ثمَّ دعا عبد الرَّحمن بن عثمان الثقفي، وعبد الله بن مسعدة الفزاري، وثور بن معن السّلمي، وعبد الله بن عصام الأشعري، فأمرهم أن يقوموا إذا فرغ الضحاك وأن يصدّقوا قوله ويدعوه إلى يزيد.

ثمَّ خطب معاوية فتكلّم القوم بعده على ما يروقه من الدعوة إلى يزيد فقال معاوية: أين الأحنف؟ فأجابه، قال: ألا تتكلّم؟ فقام الأحنف فحمد الله وأثنى عليه ثمَّ قال: أصلح الله أمير المؤمنين، انَّ الناس قد أمسوا في منكر زمان قد سلف، ومعروف زمان مؤتنف، و يزيد ابن أمير المؤمنين نعم الخلف، وقد حلبت الدهر أشطره يا أمير المؤمنين! فاعرف من تسند إليه الأمر من يدك، ثمّ اعص أمر من يأمرك، لا يغررك مَن يشير عليك ولا ينظر لك وأنت انظر للجماعة واعلم باستقامة الطاعة، إنَّ أهل الحجاز وأهل العراق لا يرضون بهذا ولا يبايعون ليزيد ما كان الحسن حيّاً.

فغضب الضحّاك فقام الثانية فحمد الله وأثنى عليه ثمَّ قال: أصلح الله امير المؤمنين انَّ أهل النفاق من أهل العراق، مروءتهم في أنفسهم الشقاق، وألفتهم في دينهم الفراق، يرون الحقَّ على أهوائهم كأنَّما ينظرون بأقفائهم، اختالوا جهلاً وبطراً، لا يرقبون من الله راقبة، ولا يخافون وبال عاقبة، اتَّخذوا إبليس لهم ربّا، واتَّخذهم إبليس حزبا، فمن يقاربوه لا يسرّوه، ومَن يفارقوه لا يضرّوه، فادفع رأيهم يا أمير المؤمنين! في نحورهم، وكلامهم في صدورهم، ما للحسن وذوي الحسن في سلطان الله الذي استخلف به معاوية في أرضه؟ هيهات ولا تورث الخلافة عن كلالة، ولا يحجب غير الذكر العصبة، فوطِّنوا أنفسكم يا أهل العراق! على المناصحة لإمامكم وكاتب نبيّكم وصهره، يسلم لكم العاجل، ويربحوا من الآجل.

٢٣١

ثمَّ قام الأحنف بن قيس فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال: يا أمير المؤمنين! إنّا قد فررنا(١) عنك قريشاً فوجدناك أكرمها زنداً، وأشدَّها عقداً، وأوفاها عهداً، قد علمت انّك لم تفتح العراق عنوة، ولم تظهر عليها قعصا، ولكنّك أعطيت الحسن بن عليّ من عهود الله ما قد علمت ليكون له الأمر من بعدك، فإن تف فأنت أهل الوفاء، وإن تعذر تعلم والله انَّ وراء الحسن خيولاً جياداً، وأذرعاً شداداً، وسيوفاً حداداً، إن تدنُ له شِبراً من غدر، تجد وراءه باعاً من نصر، وإنَّك تعلم أنَّ أهل العراق ما أحبّوك منذُ أبغضوك، ولا أبغضوا عليّاً وحسناً منذُ أحبّوهما، وما نزل عليهم في ذلك خَبَرٌ من - السّماء، وإنَّ السيوف التي شهروها عليك مع عليّ يوم صفّين لعلى عواتقهم، والقلوب التي أبغضوك بها لَبين جوانحهم، وأيم الله إنّ الحسن لأحبّ إلى أهل العراق من عليّ.

ثمَّ قام عبد الرَّحمن بن عثمان الثقفي فأثنى على يزيد وحثَّ معاوية إلى بيعته فقام معاوية فقال:

أيُّها الناس: إنَّ لإبليس من الناس إخواناً وخُلاّناً، بهم يَستعدّ وإيّاهم يستعين، وعلى ألسنتهم ينطق، إن رجوا طمعاً أوجفوا، وإن استُغني عنهم أرجفوا، ثمّ يُلقحون الفتن بالفجور، ويشققون لها حطب النفاق، عيّابون مرتابون، أن لَووَا عروة أمر حنفوا، وإن دُعوا إلى غيّ أسرفوا، وليسوا اولئك بمنتهين، ولا بمقلعين، ولا متَّعظين حتّى تصيبهم صواعق خزي وبيل، وتحلُّ بهم قوارع أمر جليل، تجتثّ اصولهم كاجتثاث اصول الفقع(٢) فأولى لاولئك ثمَّ أولى، فإنّا قد قدَّمنا وأنذرنا إن أغنى التقدّم شيئاً أو نفع النُذُر.(٣)

فدعا معاوية الضحّاك فولّاه الكوفة، ودعا عبد الرَّحمن فولّاه الجزيرة.

ثمَّ قام الأحنف بن قيس فقال: يا أمير المؤمنين! أنت أعلمنا بيزيدُ في ليله ونهاره وسرّه وعلانيته، ومدخله ومخرجه، فإن كنت تعلمه لِلَّه رضاً ولهذه الاُمّة فلا تشاور الناس فيه، وإن كنت تعلم منه غير ذلك، فلا تزوِّده الدنيا وأنت صائرٌ إلى الآخرة،

____________________

١ - فر عن الامر: بحث عنه.

٢ - الفقع بالفتح والكسر: البيضاء الرخوة من الكمأة.

٣ - النذر: الانذار. قال تعالى: فكيف كان عذابى ونذر.

٢٣٢

فإنّه ليس لك من الآخرة إلّا ما طاب، واعلم أنَّه لا حجَّة لك عند الله إن قدّمت يزيد على الحسن والحسين، وأنت تعلم مَن هما، وإلى ما هما، وإنّما علينا أن نقول: سمعنا وأطعنا، غفرانك ربَّنا وإليك المصير(١) .

قال الأميني: لمـّا حسَّ معاوية بدء إعرابه عمّا رامه من البيعة ليزيد انّ الفئة الصالحة من الاُمَّة قطّ لا تخبت إلى تلك البيعة الوبيلة ما دامت للحسن السبط الزكيِّ سلام الله عليه باقيةٌ من الحياة، على انَّه أعطى الإمام مواثيق مؤكّدة ليكون له الأمر من بعده، وليس له أن يعهد إلى أيّ أحد، فرأى توطيد السبل لجروه في قتل ذلك الإمام الطاهر، وجعل ما عهد له تحت قدميه، قال أبو الفرج: أراد معاوية البيعة لابنه يزيد فلم يكن شيىٌء أثقل عليه من أمر الحسن بن علي وسعد بن أبي وقاص فدسَّ إليهما سمّاً فماتا منه(٢) .

وسيوافيك تفصيل القول في أنّ معاوية هو الذي قتل الحسن السبط سلام الله عليه.

عبد الرحمن بن خالد(٣)

في بيعة « يزيد »

خطب معاوية أهل الشام وقال لهم: يا أهل الشام انّه كبرت سنّي وقرب أجلي وقد أردت أن أعقد لرجل يكون نظاماً لكم، وإنّما أنا رجلٌ منكم فرؤا رأيكم.

فاصفقوا واجتمعوا وقالوا: رضينا عبد الرّحمن بن خالد بن الوليد، فشقّ ذلك على معاوية وأسرّها في نفسه، ثمّ انّ عبد الرَّحمن مرض فأمر معاوية طبيباً عنده يهوديّاً يقال له: إبن أثال. وكان عنده مكيناً، أن يأتيه فيسقيه سقية يقتله بها، فأتاه فسقاه فانخرق بطنه فمات، ثمَّ دخل أخوه المهاجر بن خالد دمشق مستخفياً هو وغلام له فرصدا ذلك اليهوديّ فخرج ليلاّ من عند معاوية فهجم عليه ومعه قومٌ هربوا عنه فقتله المهاجر. وفي الأغاني: انَّه قتله خالد بن المهاجر فاُخذ واُتي به معاوية فقال له: لا جزاك الله من زائر

____________________

١ - الامامة والسياسة ١، ١٣٨ - ١٤٢.

٢ - مقاتل الطالبين ص ٢٩.

٣ - أدرك النبى صلى‌ الله‌ عليه ‌وآله‌ قال أبو عمر فى الاستيعاب: كان من فرسان قريش وشجعانهم كان له فضل وهدى حسن وكرم إلّا انّه كان منحرفا عن على عليه‌السلام وقال ابن حجر فى الاصابة: كان عظيم القدر عند أهل الشام.

٢٣٣

خيراً قتلت طبيبي. قال: قتلت المأمور وبقي الآمر(١) .

قال أبو عمر بعد ذكر القصّة: وقصّته هذه مشهورةٌ عند أهل السير والعلم بالآثار والأخبار اختصرناها، ذكرها عمر بن شبه في أخبار المدينة وذكرها غيره.

قال الأميني: وقعت هذه القصّة سنة ٤٦ وهي السنة الثانية من هاجسة بيعة يزيد....

سعيد بن عثمان

سنة خمس وخمسين

سأل سعيد بن عثمان معاوية أن يستعمله على خراسان فقال: إنَّ بها عبيد الله بن زياد(٢) فقال: أما لقد اصطنعك أبي ورفاك حتّى بلغت باصطناعه المدى الذي لا يُجارى إليه ولا يُسامى، فما شكرت بلاءه ولا جازيته بآلائه، وقدّمت عليّ هذا - يعني يزيد بن معاوية - وبايعت له ووالله لأنا خيرٌ منه أباً واُمّاً ونفساً. فقال معاوية: أمّا بلاء أبيك فقد يحقّ عليَّ الجزاء به، وقد كان من شكري لذلك انّي طلبت بدمه حتى تكشّفت الاُمور: ولست بلائم لنفسي في التشمير، وأمّا فضل أبيك على أبيه فأبوك والله خيرٌ منِّي وأقرب برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأمّا فضل اُمّك على اُمّه فما ينكر امرأة من قريش خيرٌ من امرأة من كلب، وأمّا فضلك عليه فوالله ما اُحبّ أنّ الغوطة دَحَست ليزيد رجالاً مثلك فقال له يزيد: يا أمير المؤمنين! إبن عمّك وأنت أحقُّ مَن نظر في أمره وقد عتب عليك لي فأعتبه(٣) .

وفي لفظ ابن قتيبة: فلمّا قدم معاوية الشام أتاه سعيد بن عثمان بن عفان، وكان شيطان قريش ولسانها قال: يا أمير المؤمنين! على مَ تبايع ليزيد وتتركني؟ فوالله لتعلم أنّ أبي خير من أبيه، واُمّي خيرٌ من اُمّه، وأنا خيرٌ منه، وإنَّك إنّما نلت ما أنت فيه بأبي. فضحك معاوية وقال: يا ابن أخي أمّا قولك: إنّ أباك خيرٌ من أبيه. فيوم من

____________________

١ - الاستيعاب ترجمة عبد الرحمن:، الاغانى ١٥: ١٣: تاريخ الطبرى ٦: ١٢٨ واللفظ لابي عمر.

٢ - سار الى خراسان فى اخريات سنة ٥٣ وأقام بها سنتين كما رواه الطبري فى تاريخه ٦: ١٦٦، ١٦٧.

٣ - تاريخ الطبرى ٦: ١٧١، تاريخ ابن كثير ٨: ٧٩، ٨٠.

٢٣٤

عثمان خيرٌ من معاوية. وأمّا قولك: إنَّ اُمّك خيرٌ من اُمِّه ففضل قرشيّة على كلبيّة فضلٌ بيّن. وأمّا أن أكون نلت ما أنا فيه بأبيك فإنّما هو الملك يؤتيه الله من يشاء، قتل أبوك رحمه الله فتواكلته بنو العاصي وقامت فيه بنو حرب، فنحن أعظم بذلك منّةً عليك، و أمّا تكون خيراً من يزيد فوالله ما اُحبّ انّ داري مملوءة رجالاً مثلك بيزيد، ولكن دعني من هذا القول وسلني اُعطك. فقال سعيد بن عثمان بن عفان: يا أمير المؤمنين! لا يعدم يزيد مزكّيا ما دمت له، وما كنت لأرضى ببعض حقّي دون بعض، فإذا أبيت فاعطني ممّا أعطاك الله. فقال معاوية: لك خراسان؟ قال سعيد: وما خراسان؟ قال: إنّها لك طعمة وصلة رحم. فخرج راضياً وهو يقول:

ذكرت أمير المؤمنين وفضله

فقلت: جزاه الله خيراً بما وصلْ

وقد سبقت منّي إليه بوادرٌ

من القول فيه آية العقل والزللْ

فعاد أمير المؤمنين بفضله

وقد كان فيه قبل عودته ميلْ

وقال: خراسان لك اليوم طعمة

فجوزي أمير المؤمنين بما فعلْ

فلو كان عثمان الغداة مكانه

لما نالني من ملكه فوق ما بذلْ

فلمّا انتهى قوله إلى معاوية أمر يزيد أن يزوّده وأمر إليه بخلعة وشيّعه فرسخاً(١) .

قال ابن عساكر في تاريخه ٦: ١٥٥: كان أهل المدينة يحبّون سعيداً ويكرهون يزيد، فقدم على معاوية فقال له: يا ابن أخي ما شيىءٌ يقوله أهل المدينة؟ قال: ما يقولون؟ قال: قولهم:

والله لا ينالها يزيدُ

حتّى يعضّ هامه الحديدُ

إنّ الأمير بعده سعيدُ

قال: ما تنكر من ذلك يا معاوية؟! والله إنَّ أبي لخيرٌ من أبي يزيد، ولاُمّي خيرٌ من اُمّه، ولأنا خيرٌ منه، ولقد استعملناك فما عزلناك بعدُ، ووصلناك فما قطعناك، ثمَّ صار في يديك ما قد ترى فحلاتنا عنه أجمع. فقال له: أمّا قولك. الحديث.

____________________

١ - الامامة والسياسة ١: ١٥٧.

٢٣٥

وقال: حكى الحسن بن رشيق قصّة سعيد مع معاوية بأطول ممّا مرّ - ثمَّ ذكر حكاية ابن رشيق - وفيها: فوّلاه معاوية خراسان وأجازه بمائة ألف درهم.

كتب معاوية فى بيعة يزيد

كتب معاوية إلى مروان بن الحكم: إنيِّ قد كبرت سنّي، ودقَّ عظمي، وخشيت الإختلاف على الاُمّة بعدي، وقد رأيت أن أتخيّر لهم من يقوم بعدي، وكرهت أن أقطع أمراً دون مشورة من عندك، فأعرض ذلك عليهم وأعلمني بالذي يردّون عليك.

فقام مروان في الناس فأخبرهم به فقال الناس: أصاب ووفّق، وقد أجبنا أن يتخيّر لنا فلا يألو. فكتب مروان إلى معاوية بذلك فأعاد إليه الجواب يذكر « يزيد » فقام مروان فيهم وقال: إنَّ أمير المؤمنين قد اختار لكم فلم يأل وقد استخلف ابنه يزيد بعده فقام عبد الرّحمن بن أبي بكر فقال: كذبت والله يا مروان! وكذب معاوية، ما الخيار أردتما لامّة محمّد ولكنكم تريدون أن تجعلوها هرقليّة كلّما مات هرقل قام هرقل. فقال مروان: هذا الذي أنزل الله فيه:( وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَا ) . الآية، فسمعت عائشة مقالته من وراء الحجاب وقالت: يا مروان! يا مروان! فأنصت الناس وأقبل مروان بوجهه فقالت: أنت القائل لعبد الرّحمن انّه نزل فيه القرآن كذبت والله ما هو به و لكنّه فلان بن فلان، ولكنّك أنت فضضٌ من لعنة نبيّ الله(١)

وقام الحسين بن علي فأنكر ذلك، وفعل مثله ابن عمر، وابن الزبير، فكتب مروان بذلك إلى معاوية، وكان معاوية قد كتب إلى عمّاله بتقريظ يزيد ووصفه وأن يوفدوا إليه الوفود من الأمصار فكان فيمن أتاه محمّد بن عمرو بن حزم من المدينة، و الاحنف بن قيس في وفد أهل البصرة، فقال محمّد بن عمرو لمعاوية: إنَّ كلّ راع مسؤل عن رعيَّته فانظر من تولي أمر امّة محمّد فأخذ معاوية بهر(٢) حتى جعل يتنفّس في يوم شاتٍ ثمّ وصله وصرّفه. وأمر الأحنف أن يدخل على يزيد فدخل عليه فلمّا خرج من عنده قال له: كيف رأيت ابن أخيك؟ قال: رأيت شباباً ونشاطاً وجلداً ومزاحاً، ثمّ إنّ

____________________

١ - راجع ما أسلفناه فى الجزء الثامن ص ٢٥٢، ٢٥٣ ط ١.

٢ - البهر: انقطاع النفس من الاعياء.

٢٣٦

معاوية قال للضحّاك بن قيس الفهري: لمـّا اجتمع الوفود عنده انّي متكلمٌ فإذا سكتُّ فكن أنت الذي تدعو إلى بيعة يزيد وتحثّني عليها. فلمّا جلس معاوية للناس تكلّم فعظّم أمر الإسلام وحرمة الخلافة وحقّها وما أمر الله به من طاعة ولاة الأمر ثمّ ذكر يزيد وفضله وعلمه بالسياسة وعرض ببيعته فعارضه الضحاك، فحمد الله وأثنى عليه ثمَّ قال: يا أمير المؤمنين! انّه لا بدّ للناس من والٍ بعدك وقد بلونا الجماعة والاُلفة فوجدناهما أحقن للدماء، وأصلح للدهماء، وآمن للسبل، وخيرًا في العاقبة، والأيّام عوج رواجع والله كلّ يوم هو في شأن، ويزيد ابن أمير المؤمنين في حسن هديه وقصد سيرته على ما علمت، وهو من أفضلنا علماً وحلماً وأبعدنا رأياً، فولّه عهدك، واجعله لنا علماً بعدك، ومفزعاً نلجأ إليه، ونسكن في ظلّه، وتكلّم عمرو بن سعيد الأشدق بنحو من ذلك، ثمّ قام يزيد بن المقنع العذري فقال: هذا أمير المؤمنين وأشار إلى معاوية، فإن هلك فهذا وأشار إلى يزيد، ومَن أبى فهذا وأشار إلى سيفه، فقال معاوية: اجلس فأنت سيّد الخطباء. وتكلّم من حضر من الوفود

فقال معاوية للأحنف: ما تقول يا أبا بحر؟ فقال: نخافكم إن صدقنا، ونخاف الله إن كذبنا، وأنت أمير المؤمنين أعلم بيزيد في ليله ونهاره وسرِّه وعلانيته ومدخله و مخرجه، فإن كنت تعلمه لِلَّه تعالى وللامّة رضا فلا تشاور فيه، وإن كنت تعلم فيه غير ذلك فلا تزوّده الدنيا وأنت صائرٌ إلى الآخرة، وإنّما علينا أن نقول: سمعنا وأطعنا. وقام رجلٌ من أهل الشام فقال: ما ندري ما تقول هذه المعديَّة العراقيّة، وإنّما عندنا سمعٌ وطاعةٌ وضربٌ وازدلاف. فتفرّق الناس يحكون قول الأحنف، وكان معاوية يعطي المقارب، ويُداري المباعد ويلطف به، حتّى استوثق له أكثر الناس وبايعه(١) .

صورة اخرى

قالوا: ثمَّ لم يلبث معاوية بعد وفاة الحسن رحمه الله إلّا يسيراً أن بايع ليزيد بالشام، وكتب بيعته إلى الآفاق، وكان عامله على المدينة مروان بن الحكم فكتب إليه يذكر الذي قضى الله به على لسانه من بيعة يزيد، ويأمره بجمع من قبله من قريش وغيرهم من أهل المدينة يبايعوا ليزيد.

____________________

١ - العقد الفريد ٢: ٣٠٢ - ٣٠٤، الكامل لابن الاثير ٣: ٢١٤ - ٢١٦.

٢٣٧

فلمّا قرأ مروان كتاب معاوية أبى من ذلك وأبته قريشٌ فكتب لمعاوية: انَّ قومك قد أبوا إجابتك إلى بيعتك ابنك فأرني رأيك. فلمّا بلغ معاوية كتاب مروان عرف ذلك من قبله فكتب إليه يأمره أن يعتزل عمله، ويخبره أنّه قد ولّى المدينة سعيد بن العاص، فلمّا بلغ مروان كتاب معاوية أقبل مغاضباً في أهل بيته وناس كثير من قومه حتّى نزل بأخواله بني كنانة فشكا إليهم وأخبرهم بالذي كان من رأيه في أمر معاوية وفي عزله و استخلافه يزيد ابنه عن غير مشاورة مبادرة له، فقالوا: نحن نبلك في يدك، وسيفك في قرابك، فمن رميته بنا أصبناه، ومن ضربته قطعناه، الرأي رأيك، ونحن طوع يمينك. ثمَّ أقبل مروان في وفد منهم كثير ممّن كان معه من قومه وأهل بيته حتى نزل دمشق فخرج حتى أتى سدَّة معاوية وقد أذن للناس، فلمّا نظر الحاجب إلى كثرة مَن معه من قومه وأهل بيته منعه من الدخول، فوثبوا إليه فضربوا وجهه حتَّى خلى عن الباب، ثمَّ دخل مروان ودخلوا معه حتى إذا كان معاوية بحيث تناله يده، قال بعد التسليم عليه بالخلافة: إنّ الله عظيمٌ خطره، لا يقدر قادرٌ قدره، خلق من خلقه عباداً جعلهم لدعائم دينه أوتاداً، هم رقباؤه على البلاد، وخلفاؤه على العباد، أسفر بهم الظلم وألّف بهم الدين، وشدَّد بهم اليقين، ومنح بهم الظفر، ووضع بهم من استكبر، فكان من قبلك من خلفائنا يعرفون ذلك في سالف زماننا، وكنّا نكون لهم على الطاعة اخواناً، وعلى من خالف عنّا أعواناً، يُشدّ بنا العضد، ويُقام منّا الأوَد، ونُستشار في القضيّة، ونستأمر في أمر الرعيّة، وقد أصبحنا اليوم في امور مستخيرة، ذات وجوه مستديرة، تفتح بأزمَّة الضَّلال، وتجلس بأسوأ الرجال، يؤكل جزورها ونمق أحلابها، فما لنا لا نستأمر في رضاعها ونحن فطامها وأولاد فطامها؟ وأيم الله لولا عهودٌ مؤكّدة ومواثيق معقّدة لأقمت أوَد وليّها، فأقم الأمر يا بن أبي سفيان واهدأ من تأميرك الصبيان، واعلم أنَّ لك في قومك نظراً وإنَّ لهم على مناوأتك وزرا.

فغضب معاوية من كلامه غضباً شديداً ثمّ كظم غيظه بحلمه وأخذ بيد مروان ثمّ قال: إنّ الله قد جعل لكلِّ شيىء أصلاً، وجعل لكلِّ خير أهلاً، ثمّ جعلك في الكرم منِّي محتدا والعزيز مني والداً، اخترت من قروم قادة، ثمّ استللت سيّد سادة، فأنت

٢٣٨

ابن ينابيع الكرام(١) ، فمرحباً بك وأهلاً من ابن عمّ، ذكرت خلفاء مفقودين شهداء صدّيقين، كانوا كما نعتَّ، وكنت لهم كما ذكرت، وقد أصبحنا في امور مستخيرة ذات وجوه مستديرة، وبك والله يا بن العمّ نرجو استقامة أوَدها، وذلولة صعوبتها، وسفور ظلمتها، حتّى يتطأطأ جسيمها، ويركب بك عظيمها، فأنت نظير أمير المؤمنين بعده وفي كلِّ شيىء عضده، وإليك بعد عهده، فقد ولّيتك قومك، وأعظمنا في الخراج سهمك، وأنا مجيزٌ وفدك، ومحسنٌ رفدك، وعلى أمير المؤمنين غناك، والنزول عند رضاك.

فكان أوّل ما رزق ألف دينار في كلِّ هلال، وفرض له في أهل بيته مائة مائة.

كتاب معاوية الى سعيد

إنّ معاوية كتب إلى سعيد بن العاص وهو على المدينة يأمره أن يدعو أهل المدينة إلى البيعة ويكتب إليه بمن سارع ممّن لم يسارع، فلمَّا أتى سعيد بن العاص الكتاب دعا الناس إلى البيعة ليزيد وأظهر الغلظة، وأخذهم بالعزم والشدَّة، وسطا بكلِّ مَن أبطأ عن ذلك، فأبطأ الناس عنها إلّا اليسير لا سيّما بني هاشم فإنّه لم يجبه منهم أحدٌ، وكان ابن الزبير من أشدِّ الناس انكاراً لذلك، وردّاً له، فكتب سعيد بن العاص إلى معاوية:

أمّا بعد: فإنّك أمرتني أن أدعو الناس لبيعة يزيد ابن أمير المؤمنين وأن أكتب إليك بمن سارع ممّن أبطأ، وإنِّي اخبرك انّ الناس عن ذلك بطاء لا سيّما أهل البيت من بني هاشم، فإنّه لم يجبني منهم أحدٌ، وبلغني عنهم ما أكره، وأمّا الذي جاهر بعداوته وإبائه لهذا الأمر فعبد الله بن الزبير، ولست أقوى عليهم إلَّا بالخيل والرجال، أو تقدم بنفسك فترى رأيك في ذلك، والسّلام،

فكتب معاوية إلى عبد الله بن العباس، وإلى عبد الله بن الزبير، وإلى عبد الله بن جعفر، والحسين بن عليّ رضي الله عنهم كتباً وأمر سعيد بن العاص أن يوصلها إليهم ويبعث بجواباتها وكتب إلى سعيد بن العاص:

____________________

١ - قايس بين هذه الاطرائات الفارغة المكذوبة وبين قوله صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ لذلك الطريد بن الطريد الوزغ بن الوزغ، اللعين بن اللعين. ونحن لو اعطينا لمعاوية حق المقام لقلنا: مكره أخوك لا بطل.

٢٣٩

أمّا بعد: فقد أتاني كتابك وفهمت ما ذكرت فيه من إبطاء الناس عن البيعة ولا سيّما بني هاشم وما ذكر ابن الزبير، وقد كتبت إلى رؤسائهم كتباً فسلّمها إليهم وتنجز جواباتها وابعث بها حتّى أرى في ذلك رأيي، ولتشدّ عزيمتك، ولتصلب شكيمتك، و تحسن نيّتك، وعليك بالرِّفق، وإيّاك والخرق، فإنَّ الرّفق رشدٌ، والخرق نكدٌ، وانظر حسيناً خاصّة فلا يناله منك مكروهٌ، فإنَّ له قرابة وحقّاً عظيماً لا ينكره مسلمٌ ولا مسلمة، وهو ليث عرين، ولست آمنك أن تشاوره أن لا تقوى عليه. فأمّا من يرد مع السباع إذا وردت، ويكنس إذا كنست فذلك عبد الله بن الزبير، فاحذره أشدّ الحذر، ولا قوَّة إلّا بالله، وأنا قادمٌ عليك إن شاء الله. والسَّلام(١) .

قال الأميني: يقولون بأفواهم ما ليس في قلوبهم. نعم: والحقُّ انَّ للحسين و لأبيه وأخيه قرابة وحقّاً عظيماً لا ينكره مسلمٌ ولا مسلمةٌ إلّا معاوية وأذنابه الذين قلّبوا عليهم ظهر المجنّ بعد هذا الاعتراف الذي جحدوا به واستيقنته أنفسهم، بعد أن حليت الأيّام لهم درّتها، فضيّعوا تلك القرابة، وأنكروا ذلك الحقَّ العظيم، وقطعوا رحماً ماسّة إن كان بين الطلقاء وسادات الامّة رحمٌ.

هيهات لا قرَّبت قربى ولا رحم

يوماً إذا أقصت الأخلاق والشيمُ

كانت مودَّة سلمان له رحماً

ولم يكن بين نوح وابنه رحمُ(٢)

كتاب معاوية الى الحسينعليه‌السلام :

أمّا بعد: فقد انتهت إليّ منك امورٌ لم أكن أظنّك بها رغبة عنها، وانّ أحقّ الناس بالوفاء لمن أعطي بيعته من كان مثلك في خطرك وشرفك ومنزلتك التي أنزلك الله بها، فلا تنازع إلى قطيعتك، واتّق الله، ولا تردنَّ هذه الاُمّة في فتنة، وانظر لنفسك ودينك وامّة محمّد، ولا يستخفنّك الذين لا يوقنون.

فكتب إليه الحسين رضي الله عنه:

أمّا بعد: فقد جاءني كتابك تذكر فيه انّه انتهت إليك عنّي امورٌ لم تكن

____________________

١ - الامامة والسياسة لابن قتيبة ١: ١٤٤ - ١٤٦.

٢ - من قصيدة للامير أبى فراس الشهيرة.

_١٥_

٢٤٠