الغدير في الكتاب والسنة والأدب الجزء ١٠

الغدير في الكتاب والسنة والأدب0%

الغدير في الكتاب والسنة والأدب مؤلف:
الناشر: دارالكتب الإسلامية
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 389

الغدير في الكتاب والسنة والأدب

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة الشيخ الأميني
الناشر: دارالكتب الإسلامية
تصنيف: الصفحات: 389
المشاهدات: 57959
تحميل: 2049


توضيحات:

الجزء 1 المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11
المقدمة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 389 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 57959 / تحميل: 2049
الحجم الحجم الحجم
الغدير في الكتاب والسنة والأدب

الغدير في الكتاب والسنة والأدب الجزء 10

مؤلف:
الناشر: دارالكتب الإسلامية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وكتبعليه‌السلام إلى معاوية: إنَّ طلحة والزبير بايعاني، ثمَّ نقضا بيعتهما، وكان نقضهما كردّتهما، فجاهدتهما بعد ما أعذرت إليهما، حتّى جاء الحقُّ وظهر أمر الله وهم كارهون، فادخل فيما دخل فيه المسلمون(١) .

فهلَّا كانت بحسْب معاوية تلكم الحجج؟! وقد طنَّ في اُذن الدنيا قول أمير المؤمنينعليه‌السلام : ما هو إلّا الكفر، أو قتال القوم. فهلّا عرف الرّجل وبال أمر أصحاب الجمل، ومغبّة تلك النخوة والغرور، والتركاض وراء الأهواء والشهوات، بعد قتل آلاف مؤلَّفة من الصالح والطالح، من أهل الحقِّ والباطل؟ فإشهاره السيف لإزهاق النفوس بريئة كانت أو متَّهمة من رجال أو نساء أو أغلمة، وقتل اُمم وزرافات تُعدُّ بالآلاف بانسان واحد قتله المجتهدون العدول من امّة محمّد بعد إقامة الحجّة عليه، إنَّما هو ممّا حظرته الشريعة، ولم يُعرف له مساغٌ من الدّين، وكان ابن هند في الأمر كما كتب إليه الإمامعليه‌السلام : لستَ تقول فيه بأمر بيّن يُعرف له أثر، ولا عليك منه شاهد، ولستَ متعلّقاً بآية من كتاب الله، ولا عهد من رسول الله(٢) .

وتاسعاً: إلى أنَّ ما حكم به خليفة الوقت يجب اتِّباعه ولا يجوز نقضه فقد كتب عليٌّعليه‌السلام إلى معاوية في كتاب له: وأمّا ما ذكرت من أمر قتلة عثمان فإنّي نظرت في هذا الأمر، وضربت أنفه وعينه فلم أره يسعني دفعهم إليك ولا إلى غيرك، ولعمري لئن لم تنزع عن غيّك وشقاقك لتعرفنّهم عمّا قليل يطلبونك، لا يكلّفونك أن تطلبهم في برّ ولا بحر(٣) .

فهلاّ كان ذلك نصّاً من الإمامعليه‌السلام على انّه لا مساغ له لأن يدفع قتلة عثمان لأيِّ انسان ثائر، وانّ طلب ذلك منه غيّ وشقاق، فهل كان معاوية يحسب أنَّ أمير المؤمنينعليه‌السلام يتنازل عن رأيه إذا ما ارتضاه هو؟ أو يعدل عن الحقّ ويتَّبع هواه؟ حاشا ثمّ حاشا، أوَ لم يكن من واجب معاوية البخوع لحكم الإمام المطهّر بنصِّ القرآن والإخبات

____________________

١ - كتاب صفين لنصر بن مزاحم ص ٣٤ ط مصر، العقد الفريد ٢: ٢٨٤، الامامة والسياسة ١: ٨١، شرح ابن ابى الحديد ١: ٢٤٨، ج ٣: ٣٠٠.

٢ - كتاب صفين لابن مزاحم ص ١٢٢، شرح ابن أبي الحديد ٣: ٤١٢.

٣ - كتاب صفين ص ٩٦، ١٠٢، العقد الفريد ٢: ٢٨٦، شرح ابن أبى الحديد ٣: ٤٠٩.

٣٠١

إلى رأيه الذي لا يفارق القرآن؟ كيف لا؟ وقد صحَّ عن القوم عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم روايات تمسّكوا بها في اتّباع نظراء معاوية ويزيد من أئمّة الضَّلال واُمراء الجور والعدوان مثل ما عُزي إليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يكون بعدي أئمّة لا يهتدون بهداي، ولا يستنّون بسنّتي، وسيقوم فيهم رجالٌ قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس. قال حذيفة: قلت: كيف أصنع يا رسول الله! إن أدركت ذلك؟ قال: تسمع وتطيع للأمير، وإن ضُرب ظهرك، واُخذ مالك، فاسمع وأطع(١) .

وسأل سلمة بن يزيد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: يا نبيّ الله! أرأيت إن قامت علينا اُمراء يسألونا حقّهم، ويمنعونا حقَّنا، فما تأمرنا؟ فأعرض عنه، ثمّ سأله فأعرض عنه ثمّ سأله فجذبه الأشعث بن قيس فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اسمعوا وأطيعوا فإنَّما عليهم ما حمّلوا وعليكم ما حُمِّلتم(٢) . هذا رأي القوم في اُمراء الشرّ والفساد فما ظنّك بالامام العادل المستجمع لشرايط الخلافة الذي ملأت الدنيا النصوص في وجوب اقتصاص أثره، و الموافقة لآرائه وكلّ ما يرتأيه من حقٍّ واضح؟!.

وعاشراً: إلى أنَّ قاتل عثمان المباشر لقتله اختلف فيه كما مرّ تفصيله في الجزء التاسع ويأتي أيضاً بين جبلة بن الأيهم المصري. وكبيرة السكوني. وكنانة بن بشر التجيبي. وسودان بن حمران. ورومان اليماني. ويسار بن غلياض. وعند ابن عساكر يقال له: حمال(٣) فقتل منهم مَن قُتل في الوقت، ولم يكن أحدٌ من الباقين في جيش الإمامعليه‌السلام ولا ممّن آواهم هو، فلم يكن لأحد عند غيرهم ثار، وأمّا الذين آواهم الإمامعليه‌السلام فهم المسبّبون لقتله من المهاجرين والأنصار، أو المؤلِّبون عليه من الصِّحابة العدول، ولم يشذّ عنهم إلّا اُناس يعدّون بالأنامل.

وبعد هذه كلّها هلّا كانت لتبرأة مولانا أمير المؤمنينعليه‌السلام نفسه من دم عثمان وقد كتبها إلى طلحة والزبير ومعاوية، ولتبرأة الأعيان من الصحابة إيّاه منذ مقتل عثمان إلى أن استحرّ القتال في واقعة صفّين، وقد كتبوها إلى طلحة والزبير ومعاوية

____________________

١ - صحيح مسلم ٦: ٢٠، سنن البيهقى ٨: ١٥٧.

٢ - صحيح مسلم ٦: ١٩، سنن البيهقى ٨: ١٥٨.

٣ - الصواعق ص ٦٦.

٣٠٢

ومن لفَّ لفّهم، قيمة توازن عند معاوية شهادات الزّور التي لفَّقها هو من اُناس لا خلاق لهم، وثبّتتها حيله ودسائسه، وأجراها ترغيبه وترهيبه؟ وقد علم هو أنَّ أمير المؤمنين مَن هو، وصلحاء الصحابة الذين وافقوه على التبرأة والتبرير مَن هم، ومَن اولئك الطغمة الثائرين لخلافه، والمجلبين عليه، جير: كان يعلم كلّ ذلك لكنّه الملك و السلطان وهما يبرّران لصاحب النهمة والشرَه كلّ بائقة وموبقة.

_ ١٩ _

دفاع ابن حجر عن معاوية

باعذار مفتعلة

أنت إذا قضيت الوطر عن معاوية ومعاذيره التافهة في هذه المعمعة، فهلمَّ معي إلى ناصره الأخير - ابن حجر - الذي فاتته النصرة بالضرب والطعن، فطفق يسوِّد صحيفة من صحائفه الشوهاء بأعذار مفتعلة في صواعقه، يتصوَّل بها كمن يُدلي بحجج قاطعة، وإبن حجر وإن لم يكن أوّل مَن نحت تلكم الأعذار، وقد سبقه إليها اُناسٌ آخرون من أبناء حزم وتيميّة وكثير، غير أنّ ما جاء به إبن حجر يجمع شتات ما تترّس به القوم دفاعاً عن ابن هند، وزاد هو في طنبوره نغمات، قال في الصواعق ص ١٢٩: ومن اعتقاد أهل السنَّة والجماعة: أنّ ما جرى بين معاوية وعليّ رضي الله عنهما من الحروب فلم يكن لمنازعة معاوية لعليّ في الخلافة، للاجماع على حقيّتها لعليّ كما مرّ(١) فلم تهج الفتنة بسببها وإنّما هاجت بسبب أن معاوية ومن معه طلبوا من عليّ تسليم قتلة عثمان إليهم لكون معاوية ابن عمّه، فامتنع عليٌّ ظنّاً منه أنّ تسليمهم إليهم على الفور مع كثرة عشائرهم واختلاطهم بعسكر عليّ يؤدّي إلى اضطراب وتزلزل في أمر الخلافة التي بها انتظام كلمة أهل الإسلام سيّما وهي في ابتدائها لم يستحكم الأمر فيها، فرأى عليٌّ رضي الله عنه أنّ تأخير تسليمهم أصوب إلى أن يرسخ قدمه في الخلافة، ويتحقّق التمكّن من الاُمور فيها على وجهها، ويتمّ له انتظام شملها واتِّفاق كلمة المسلمين، ثمّ بعد ذلك يلتقطهم واحداً فواحداً ويسلّمهم إليهم، ويدلّ لذلك انّ بعض قتلته عزم على الخروج على عليّ ومقاتلته لمـّا نادى يوم الجمل بأن يخرج عنه قتلة عثمان، وايضاً فالذين تمالؤا على قتل عثمان

____________________

١ - ذكره في الصواعق ص ٧١.

٣٠٣

كانوا جميعاً كثيرة كما علم ممّا قدَمته في قصّة محاصرتهم له إلى أن قتله بعضهم، جمع من أهل مصر قيل: سبعمائة، وقيل: ألف، وقيل خمسمائة، وجمع من الكوفة، وجمع من البصرة وغيرهم قدموا كلّهم المدينة وجرى منهم ما جرى، بل ورد انّهم هم وعشائرهم نحو من عشرة آلاف فهذا هو للحامل لعليّ رضي الله عنه عن الكفّ عن تسليمهم لتعذّره كما عرفت.

ويُحتمل انّ عليّاً رضي الله عنه رأى انّ قتلة عثمان بغاة حملهم على قتله تأويلٌ فاسدٌ استحلّوا به دمه رضي الله عنه لإنكارهم عليه اموراً كجعله مروان ابن عمّه كاتباً له وردّه إلى المدينة بعد أن طرده النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منها، وتقديمه أقاربه في ولاية الأعمال، وقضيَّة محمّد بن أبي بكر، ظنّوا انّها مبيحةٌ لِما فعلوه جهلاً منهم وخطأ والباغي إدا انقاد إلى الإمام العدل لا يؤاخذ بما أتلفه في حال الحرب عن تأويل دماً كان أو مالاً كما هو المرجّح من قول الشافعي رضي الله عنه، وبه قال جماعة آخرون من العلماء، وهذا الإحتمال وإن أمكن لكن ما قبله أولى بالإعتماد منه.إلخ

قال الأميني: هب أنّ عثمان قُتل مظلوماً بيد الجور والتعدّي.

وأنّه لم يك يقترف قطّ ما يهدر دمه.

وأنّ قتله لم يقع بعد إقامة الحجّة عليه والأخذ بكتاب الله في أمره.

وأنّه لم يُقتل في معمعة بين آلاف مكردسة من المدنيّين والمصريّين والكوفيِّين والبصريِّين.

ولم تكن البلاد تمخَّضعت عليه، وما نقم عليه عباد الله الصالحون.

وأنّ قاتله لم يُجهل من يوم أودى به، وكان مشهوداً يُشار إليه، ولم يكن قتيل عمّيّة(١) لا يُدرى من قتله حتى تكون ديته من بيت مال المسلمين.

ولم يُقتل الذين باشروا قتله وكان قد بقي منهم باقية يقتصُّ منها.

وأنّ المهاجرين والأنصار ما اجتمعوا على قتله، ولم تكن لاولئك المجتهدين العدول يدٌ في تلك الواقعة، ولم يشارك في دمه عيون الصّحابة.

وأنّ أهل المدينة ليسوا كاتبين إلى من بالآفاق من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انّكم

____________________

١ - بكسر العين والميم المشدّدة مع تشديد الياء.

_١٩_

٣٠٤

إنَّما خرجتم أن تجاهدوا في سبيل الله عزَّ وجلَّ تطلبون دين محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنَّ دين محمّد قد أفسده من خلفكم وترك، فهلمّوا فأقيموا دين محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وأنّ المهاجرين لم يكتبوا إلى مَن بمصر من الصَحابة والتابعين: أن تعالوا إلينا و تداركوا خلافة رسول الله قبل أن يسلبها أهلها، فانّ كتاب الله قد بُدِّل، وسنّة رسول الله قد غُيّرت، وأحكام الخليفتين قد بُدّلت. إلى آخر ما مرّ ج ٩.

وأنّ طلحة والزبير وامّ المؤمنين عائشة وعمرو بن العاص لم يكونوا أشدّ الناس عليه، ولم يكن لهم تركاضٌ وراء تلك الثورة.

وما قرع سمع الدنيا نداء عثمان: ويلي على ابن الحضرميَّة - يعني طلحة - أعطيته كذا وكذا بُهاراً ذهباً وهو يروم دمي، يحرِّض على نفسي.

وأنَّ طلحة لم يقل: إن قُتل - عثمان - فلا ملكٌ مقرَّبٌ ولا نبيٌّ مرسلٌ، وانَّه لم يمنع الناس عن ايصال الماء إليه.

وأنَّ مروان لم يقتل طلحة دون دم عثمان، ولم يُؤثر عنه قوله يومئذ: لا أطلب بثأري بعد اليوم.

وأنَّ الزبير ما باح بقوله: اقتلوه فإنّه غيَّر دينكم، وإن عثمان لجيفة على - الصِّراط غدا.

وأنَّ عائشة ما رفعت عقيرتها بقولها: اقتلوا نعثلاً قتله الله فقد كفر. وإنّها لم تقل لمروان: وددت والله إنّك وصاحبك هذا الذي يعنيك أمره في رِجل كلِّ واحد منكما رَحاً وإنّكما في البحر. ولم تقل لابن عبّاس: إيّاك أن تردّ الناس عن هذا الطاغية.

وأنَّ عمرو بن العاص لم يقل: أنا أبو عبد الله قتلته وأنا بوادي السباع، إن كنت لاُحرِّض عليه حتّى انّي لأحرض عليه الراعي في غنمه في رأس الجبل.

وأنَّ سعد بن أبي وقاص لم يبح بقوله: أمسكنا نحن ولو شئنا دفعناه عنه.

وأنَّ عثمان لم يبق جثمانه مُلقىً ثلاثا في مزبلة لا يُهمُّ أمره أحداً من المهاجرين والأنصار وغيرهم من الصّحابة العدول.

وأنَّ طلحة لم يك يمنع عن تجهيزه ودفنه في مقابر المسلمين، وانّه لم يُقبر في حشِّ كوكب جبّانه اليهود بعد ذلِّ الاستخفاف.

٣٠٥

وأنّ ما أسلفناه في الجزء التاسع من حديث امّة كبيرة من الصحابة وفيهم العمد والدعائم كلّ ذلك لم يصحّ.

وأنّ إمام الوقت ليس له العفو عن قصاص كما عفى عثمان عن عُبيد الله بن عمر حين قتل هرمزان وجُفينة بنت أبي لؤلؤة بلا أيِّ جريرة.

وأنّ معاوية لم يك يتثبّط عن نصرته، ولم يتربّص عليه دائرة السوء، ولم يشهد عليه عيون الصّحابة بأنّ الدم المهراق عنده، وانّه أولى رجل بأن يُقتصّ منه ويؤخذ بدم عثمان.

وأنّ عثمان لم يكن له خلفٌ يتولّى دمه غير معاوية.

وأنّ عليّاًعليه‌السلام هو الذي قتل عثمان، أو آوى قاتليه.

وأنّ معاوية لم يك غائباً عن ذلك الموقف، وكان ينظر إليه من كثب، فعلم بمن قتله، وبمن انحاز عن قتله.

وأنّ ما ادّعاه معاوية لم يكن إفكاً وبهتاً وزوراً من القول متّخذاً عن شهادة مزوّرة واختلاق.

وأنّ هذه الخصومة لها شأنٌ خاصٌّ لا ترفع كبقيّة الخصومات إلى إمام الوقت.

وأنّ قتال معاوية إنّما كان لطلب قتلة عثمان فحسب لا لطلب الخلافة، وانّه لم يك يروم الخلافة في قتاله بعد ما كان يعلم نفسه انّه طليقٌ وابن طليق، ليس ببدريّ و لا له سابقة، وانّه لا يستجمع شرايط الخلافة، وانّه لم تؤهِّله لها الخيرة والإجماع والإنتخاب.

هب أنّ الوقايع هكذا وقعت - يا بن حجر -؟! واغضض عن كلّ ما هنالك من حقائق ثابتة على الضدِّ ممّا سُطر(١) فهلاّ كانت مناوئة معاوية مع خليفة وقته الإمام المنصوص والمجمع عليه خروجاً عليه؟! وهلّا كان الحزب السفياني بذلك بُغاتاً أهانوا سلطان الله، و استذلّوا الإمارة الحقّة، وخلعوا ربقة الاسلام من أعناقهم؟! فاستوجبوا إهانة الله، يجب قتالهم ودرأهم عن حوزة الايمان، وكانوا مصاديق للأحاديث المذكورة في أوّل هذا البحث ص ٢٧٢، ٢٧٣.

____________________

١ - راجع الجزء التاسع حتى تقف على حقيقة الامر.

٣٠٦

إنّ معاوية لم يكن خليفة ولا انعقدت له بيعة، وإنَّما كان والياً عمّن تقدّم من - الذين تصرّمت أيّام خلافتهم، فلزمته بيعة أمير المؤمنين وهو بالشام كما كتب اليه بذلك الإمامعليه‌السلام ، وكان تصدِّيه للشؤون العامّة والياً على أهل ناحيته محتاجاً إلى أمر جديد أو تقرير لولايته الاولى من خليفة الوقت، وكلُّ ذلك لم يكن، إن لم نقل: إنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام عزله عمّا تولّاه، وانّه سلام الله عليه أوفد عليه مَن يبلّغه عنه لزوم الطاعة واللحوق بالجماعة، كما انّهعليه‌السلام كتب إليه بذلك.

(( حديث الوفود ))

وفد علىعليه‌السلام الاول

أوفد الإمامعليه‌السلام في أوّل ذي الحجّة سنة ٣٦ بشير بن عمرو بن محصن الأنصاري، وسعيد بن قيس الهمداني، وشبث بن ربعي التميمي على معاوية وقال: ائتوا هذا الرجل فادعوه إلى الله، وإلى الطاعة والجماعة. فأتوه ودخلوا عليه فتكلّم بشير بن عمرو فحمد الله وأثنى عليه وقال: يا معاوية: إنَّ الدنيا عنك زائلةٌ، وإنّك راجعٌ إلى الآخرة، وإنّ الله عزّ وجلّ محاسبك بعملك، وجازيك بما قدّمت يداك، وإنّي انشدك الله عزّ وجلّ أن تفرِّق جماعة هذه الامّة، وأن تسفك دماءها بينها.

فقطع عليه الكلام وقال: هلّا أوصيت بذلك صاحبك؟ فقال بشير: إنّ صاحبي ليس مثلك، إنّ صاحبي أحقُّ البريّة كلّها بهذا الأمر في الفضل، والدين، والسابقة في الإسلام والقرابة من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . قال: فيقول ماذا؟ قال: يأمرك بتقوى الله عزّ وجلّ، و إجابة ابن عمِّك إلى ما يدعوك إليه من الحقِّ، فإنّه أسلم لك في دنياك، وخيرٌ لك في عاقبة أمرك.

قال معاوية: ونُطل دم عثمان رضي الله عنه؟ لا والله لا أفعل ذلك أبدا. فتكلّم شبث بن ربعي فحمد الله وأثنى عليه وقال:

يا معاوية! إنِّي قد فهمت ما رددت على إبن محصن، إنّه والله ما يخفى علينا ما تغزو وما تطلب، إنّك لم تجد شيئاً تستغوي به الناس، وتستميل به أهواءهم، وتستخلص به طاعتهم، إلّا قولك: ( قُتل إمامكم مظلوماً فنحن نطلب بدمه ) فاستجاب له سفهاءٌ طغامٌ،

٣٠٧

وقد علمنا أنّك قد أبطأت عنه بالنصر، وأحببت له القتل، لهذه المنزلة التي أصبحت تطلب ورُبّ متمنّي أمر وطالبه، ألله عزّ وجلّ يحول دونه بقدرته، وربّما اوتي المتمنّي اُمنيّته وفوق اُمنيّته، ووالله مالك في واحدة منهما خير، لئن أخطأت ما ترجو، إنّك لشرّ العرب حالاً في ذلك، ولئن أصبت ما تمنّى لا تصيبه حتّى تستحقّ من ربّك صليّ النار، فاتّق الله يا معاوية! ودع ما أنت عليه، ولا تنازع الأمر أهله.

فتكلّم معاوية وكان من كلامه: فقد كذبت ولُوِّ مت أيّها الأعرابيُّ الجلف الجافي في كلِّ ما ذكرت ووصفت، انصرفوا من عندي، فإنّه ليس بيني وبينكم إلّا السيف، وغضب وخرج القوم وأتوا عليّاً وأخبروه بالذي كان من قوله(١) .

وفد علىعليه‌السلام الثانى

ولمـّا دخلت سنة ٣٧ توادعا على ترك الحرب في المحرّم إلى انقضائه طمعاً في الصّلح واختلف فيما بينهما الرّسل في ذلك من دون جدوى، فبعث عليعليه‌السلام عديّ بن حاتم، ويزيد بن قيس، وشبث بن ربعي، وزياد بن حنظلة إلى معاوية، فلمّا دخلوا عليه تكلّم عديّ بن حاتم فحمد الله ثمَّ قال:

أمّا بعد: فإنّا أتيناك ندعوك إلى أمر يجمع الله عزَّ وجلَّ به كلمتنا واُمّتنا، و يحقن به الدماء، ويؤمن به السبل، ويُصلح به ذات البين، إنَّ ابن عمّك سيّد المسلمين أفضلها سابقة، وأحسنها في الإسلام أثراً، وقد استجمع له الناس، وقد أرشدهم الله عزَّ وجلَّ بالذي رأوا، فلم يبق أحدٌ غيرك وغير مَن معك، فانتهِ يا معاوية! لا يصبك الله وأصحابك بيوم مثل يوم الجمل.

فقال معاوية:

كأنَّك إنَّما جئت متهدِّداً، لم تأت مصلحاً، هيهات يا عديُّ، كلّا والله، إنِّي لابن حرب ما يقعقع لي بالشَّنان(٢) أما والله إنّك لمن المجلبين على ابن عفان رضي الله عنه، وإنّك لمن قتلته، وإنِّي لأرجو أن تكون ممّن يقتل الله عزَّ وجلَّ به، هيهات يا عديُّ بن

____________________

١ - تاريخ الطبرى ٥: ٢٤٢، الكامل لابن الاثير ٣: ١٢٢، تاريخ ابن كثير ٧: ٢٥٦.

٢ - القعقعة: تحريك الشيىء اليابس الصلب مع صوت. والشنان جمع شَنّ بالفتح: القربة البالية. واذا قعقع بالشنان للابل نفرت، وهو مثل يضرب لمن لا يروعه ما لا حقيقة له.

٣٠٨

حاتم! قد حلبتُ بالساعد الأشدّ.

فقال له شبث بن ربعي وزياد بن حنظلة: أتيناك فيما يصلحنا وإيّاك، فأقبلتَ تضرب الأمثال، دع ما لا ينتفع به من القول والفعل، وأجبنا فيما يعمّنا وإيّاك نفعه.

وتكلّم يزيد بن قيس فقال:

إنّا لم نأتك إلّا لنبلّغك ما بُعثنا به إليك، ولنؤدِّي عنك ما سمعنا منك، ونحن - على ذلك - لن ندعَ أن ننصح لك، وأن نذكر ما ظننّا أنَّ لنا عليك به حجّة، وانَّك راجعٌ به إلى الاُلفة والجماعة، إنَّ صاحبنا مَن قد عرفت وعرف المسلمون فضله، ولا أظنّه يخفى عليك، إنَّ أهل الدِّين والفضل لم يعدلوا بعليّ، ولن يميِّلوا بينك وبينه فاتّق الله يا معاوية! ولا تخالف عليّاً، فإنّا والله ما رأينا رجلاً قطّ أعمل بالتقوى، ولا أزهد في الدنيا. ولا أجمع لخصال الخير كلّها منه.

فتكلّم معاوية وقال:

أمّا بعد: فإنّكم دعوتم إلى الطاعة والجماعة، فامّا الجماعة التي دعوتم إليها فمعنا هي، وأمّا الطاعة لصاحبكم فانّا لا نراها، إنَّ صاحبكم قتل خليفتنا، وفرَّق جماعتنا وآوى ثأرنا وقتلتنا، وصاحبكم يزعم انَّه لم يقتله، فنحن لا نردُّ ذلك عليه، أرأيتم قتلة صاحبنا؟ ألستم تعلمون أنَّهم أصحاب صاحبكم؟ فليدفعهم إلينا فلنقتلهم به ثمَّ نحن نجيبكم إلى الطاعة والجماعة.

فقال له شبث: أيسرُّك يا معاوية! أنّك اُمكنت من عمّار تقتله؟ فقال معاوية: وما يمنعني من ذلك؟ والله لو اُمكنت من ابن سُميَّة ما قتلته بعثمان رضي الله عنه، و لكن كنت قاتله بناتل مولى عثمان. فقال شبث:

وإله الأرض وإله السَّماء ما عدلت معتدلاً، لا والذي لا إله إلّا هو، لا تصل إلى عمّار حتّى تندر الهام عن كواهل الأقوام، وتضيق الأرض الفضاء عليك برحبها.

فقال له معاوية: إنَّه لو قد كان ذلك كانت الأرض عليك أضيق، وتفرَّق القوم عن معاوية فلمّا انصرفوا بعث معاوية إلى زياد بن حنظلة التميمي فخلا به. فحمد الله وأثنى عليه وقال: أمّا بعد يا أخا ربيعة، فإنَّ عليّاً قطع أرحامنا، وآوى قتلة صاحبنا، وإنّي أسألك النصر باُسرتك وعشيرتك، ثمَّ لك عهد الله جلّ و عزَّ وميثاقه أن اُوليّك إذا

٣٠٩

ظهرت ايّ المصرين أحببت. قال زياد: فلمّا قضى معاوية كلامه حمدت الله عزَّ وجلَّ وأثنيت عليه ثمَّ قلت:

أمّا بعد: فإنِّي على بيّنة من ربّي، وبما أنعم عليّ، فلن أكون ظهيراً للمجرمين. ثمَّ قمت(١)

وروى ابن ديزيل من طريق عمرو بن سعد باسناده أنَّ قرَّاء أهل العراق، وقرَّاء أهل الشام عسكروا ناحية وكانوا قريباً من ثلاثين ألفاً، وأنَّ جماعة من قرّاء العراق منهم عبيدة السلماني، وعلقمة بن قيس، وعامر بن عبد قيس، وعبد الله بن عتبة بن مسعود وغيرهم جاؤوا معاوية فقالوا له: ما تطلب؟ قال: أطلب بدم عثمان. قالوا: فمن تطلب به؟ قال: عليّاً. قالوا: أهو قتله؟ قال: نعم وآوى قتلته. فانصرفوا إلى عليّ فذكروا له ما قال فقال: كذب! لم أقتله وأنتم تعلمون أنّي لم أقتله، فرجعوا إلى معاوية فقال: إن لم يكن قتله بيده فقد أمر رجالاً، فرجعوا إلى عليّ فقال: والله لا قتلت ولا أمرت ولا ماليت. فرجعوا فقال معاوية: فإن كان صادقاً فليقدنا من قتلة عثمان، فانَّهم في عسكره وجنده. فرجعوا، فقال عليٌّ: تأوَّل القوم عليه القرآن في فتنة ووقعت الفرقة لأجلها، وقتلوه في سلطانه وليس لي عليهم سبيل. فرجعوا إلى معاوية فأخبروه فقال: إن كان الأمر على ما يقول فما له أنفذ الأمر دوننا من غير مشورة منّا ولا ممّن ها هنا؟ فرجعوا إلى عليّ فقال عليُّ: إنَّما الناس مع المهاجرين والأنصار، فهم شهود الناس على ولايتهم وأمر دينهم، ورضوا وبايعوني، ولست أستحلُّ ان أدع مثل معاوية يحكم على الاُمَّة ويشقّ عصاها، فرجعوا إلى معاوية فقال: ما بال مَن ها هنا من المهاجرين والأنصار لم يدخلوا في هذا الأمر؟ فرجعوا، فقال عليٌّ: إنَّما هذا للبدريّين دون غيرهم، وليس على وجه الأرض بدريٌّ إلّا وهو معي، وقد بايعني وقد رضي، فلا يغرنَّكم من دينكم وأنفسكم(٢)

ها هنا تجد الباغي متجهّماً تجاه تلك الدعوة الحقّة كأنَّه هو بمفرده، أو هو و طغام الشام والأجلاف الذين حوله بيدهم عقدة أمر الاُمّة، تنحلُّ وتُعقد بمشيئتهم

____________________

١ - تاريخ الطبرى ٦: ٣، الكامل لابن الاثير ٣: ١٢٤، تاريخ ابن كثير ٧: ٢٥٨.

٢ - تاريخ ابن كثير ٧: ٢٥٨.

٣١٠

والمهاجرون والأنصار والبدريّون من الصحابة قطّ لا قيمة لهم ولا لبيعتهم وجماعتهم عنده في سوق الإعتبار، يقول: إنّ الجماعة معه، وإنَّ الطاعة لا يراها هو، على حين أنَّهما حصلتا له صلوات الله عليه رضي به ابن هند أو أبى، وانَّ الجماعة التي كانت لعليّعليه‌السلام وبيعتهم إيّاه كانت من سروات المجد وأهل الحلِّ والعقد من المهاجرين والأنصار ووجوه الأمصار والبلاد، ولم يتحقّق اجماعٌ في الإسلام مثله، وأمّا التي كانت لمعاوية في حسبانه فمن رعرعة الشام، وروّاد الفتن، وسماسرة الأهواء، ولم يكن معه كما قال سيّدنا قيس بن سعد بن عبادة: إلّا طليقاً أعرابيّاً، أو يمانيّاً مستدرجاً، وكان معه مائة ألف ما فيهم من يفرِّق بين الناقة والجمل كما مرَّ حديثه في ص ١٩٥، فأيّ عبرة بموقف هؤلاء؟ وأيّ قيمة لبيعتهم بعد شذوذهم عن الحقِّ ونبذهم إيّاه وراء ظهورهم؟.

مَن يكن ابن آكلة الأكباد وزبانيته حتى يكون لهم رأيٌ في الخلافة؟ ويطلبوا من أمير المؤمنين اعتزال الأمر، وردّه شورى بين المسلمين بعد أنَّ العمد والدعائم من المسلمين رضوا بتلكم البيعة وعقدوها للإمام الحقِّ على زهد منهعليه‌السلام فيها، لكنّهم تكاثروا عليه كعرف الفرس حتى لقد وُطئ الحسنان، وشقّ عطفاه، فكان تدخُّل الطليق ابن الطليق في أمر الاُمّة الذي أصفق عليه رجال الرأي والنظر تبرّعاً منه من غير طلب ولا جدارة، بل كان خروجاً على الإمام الذي كانت معه جماعة المسلمين، وانعقدت عليه طاعتهم، فتبّاً لمن شقَّ عصاهم، وفتَّ في عضدهم.

وابن هند إن لم يكن ينازع للخلافة كما حسبه ابن حجر فما كانت تلك المحاباة وتغرير وجوه الناس ورجالات الثورات بولايات البلاد؟ فترى يجعل مصر طعمة لعمرو ابن العاص، وله خطواته الواسعة وراء قتل عثمان، ويعهد على زياد التميمي أن يوليّه أيّ المصرين أحبّ إذا ظهر، غير انَّ التميمي كان على بيّنة من ربّه فيما أنعم الله عليه لم يك ظهيراً للمجرمين، وكذلك قيس بن سعد الأنصاري كتب إليه معاوية يعده بسلطان العراقين إذا ظهر ما بقي، ولم أحبّ قيس سلطان الحجاز ما دام له سلطان(١) وقيس شيخ الأنصار، وهم المتسربلون بالحديد يوم الجمل قائلين: نحن قتلة عثمان.

ولنا حقّ النظر في قوله لشبث بن ربعي: وما يمنعني من ذلك والله لو اُمكنت من

____________________

١ - تاريخ الطبرى ٥: ٢٢٨.

٣١١

ابن سُميّة ما قتلته بعثمان.. إلخ. مَن الذي أخبر معاوية عن عمّار وعن قتله عثمان ومولاه ناتل؟ وكان معاوية يومئذ بالشام، ولينظر في البيّنة التي حكم بها على عمّار ولعلّها قامت بشهادة مزوَّرة زوَّرها نفس معاوية جرياً على عادته في أمثال هذه المواقف.

وإن صدق في دعواه وكان الأمر كما قرَّره هو فلا قود عندئذ إذ عمّار من المجتهدين العدول لا يقتل إنساناً إلّا مَن هدر الإسلام دمه، يُتّبع أثره، ولا يُنقض حكمه، كيف لا؟ وقد ورد الثناء عليه في خمس آيات فصَّلناها في ج ٩ ص ٢١ - ٢٤، وجاء عن النبيّ الأعظم قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنَّ عمارا مُلئ إيماناً من قرنه إلى قدمه، وخلط الايمان بلحمه ودمه.

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : عمّار خلط الله الايمان ما بين قرنه إلى قدمه، وخلط الايمان بلحمه ودمه، يزول مع الحقِّ حيث زال، وليس ينبغي للنار أن تأكل منه شيئاً.

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : مُلئ إيماناً إلى مشاشه. وفي لفظ: حُشي ما بين اخمص قدميه إلى شحمة اُذنيه إيماناً.

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنَّ عماراً مع الحقِّ والحقُّ معه، يدور عمّار مع الحقِّ أينما دار، وقاتل عمّار في النار.

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا اختلف الناس كان ابن سُميّة مع الحقِّ.

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : دم عمّار ولحمه حرامٌ على النار أن تطعمه.

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما لهم ولعمّار؟ يدعوهم إلى الجنّة ويدعونه إلى النار، إنَّ عمّاراً جلدة ما بين عينيّ وأنفي، فإذا بلغ ذلك من الرَّجل فلم يُستبق فاجتنبوه.

نعم: صدق معاوية في قوله: ما يمنعني من ذلك؟ وأيّ وازع للانسان عن قتل عمّار إذا ما صدَّق النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أقواله هذه وقوله: ما لقريش وعمّار يدعوهم إلى الجنّة، ويدعونه إلى النار، قاتله وسالبه في النار.

وقوله: من عادى عمّاراً عاداه الله، ومن أبغض عمّاراً أبغضه الله، ومن يسفه عمّاراً يسفهه الله، ومن يسبُّ عماراً يسبّه الله، ومن يحقِّر عماراً حقّره الله، ومن يلعن عمّاراً لعنه الله، ومن ينتقص عمّاراً ينتقصه الله(١)

____________________

١ - راجع تفصيل هذه الاحاديث فى الجزء التاسع ص ٢٤ - ٢٨.

٣١٢

وفد معاوية الى الامامعليه‌السلام

وبعث معاوية إلى عليّ حبيب بن مسلمة الفهري، وشرحبيل بن السمط، ومعن بن يزيد بن الأخنس فدخلوا عليه وتكلّم حبيب فحمد الله وأثنى عليه ثمَّ قال:

أمّا بعد: فإنَّ عثمان بن عفان رضي الله عنه كان خليفة مهديّاً، يعمل بكتاب الله عزَّوجلَّ، ويُنيب إلى أمر الله تعالى، فاستثقلتم حياته، واستبطأتم وفاته، فعدوتم عليه فقتلتموه رضي الله عنه، فادفع إلينا قتلة عثمان - إن زعمت أنّك لم تقتله - نقتلهم به، ثمَّ اعتزل أمر الناس، فيكون أمرهم شورى بينهم، يُولِّي الناس أمرهم من أجمع عليه رأيهم.

فقال له عليُّ بن أبي طالب: وما أنت لا اُمَّ لك والعزل، وهذا الأمر؟ اسكت فإنَّك لست هناك ولا بأهل له. فقال وقال له: والله لترينِّي بحيث تكره. فقال عليُّ. و ما أنت ولو أجلبت بخيلك ورجلك؟ لا أبقى الله عليك إن أبقيتَ عليَّ، أحُقرةً وسوءاً؟ اذهب فصوِّب وصعِّد ما بدا لك.

وقال شرحبيل: إنّي إن كلّمتك فلعمري ما كلامي إلّا مثل كلام صاحبي قبلُ، فهل عندك جوابٌ غير الذي أجبته به؟ فقال عليُّ: نعم، لك ولصاحبك جوابٌ غير الذي أجبته به. فحمد الله وأثنى عليه ثمَّ قال:

أمّا بعد: فإنّ الله جلَّ ثناؤه بعث محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالحقّ، فأنقذ به من الضَّلالة، و انتاش به من الهلكة، وجمع من الفرقة، ثمَّ قبضه الله إليه، وقد أدّى ما عليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ استخلف الناس أبا بكر رضي الله عنه، واستخلف أبو بكر عمر رضي الله عنه، فأحسنا السيرة، وعدلا في الاُمَّة، وقد وجدنا عليهما أن توليّاً علينا، ونحن آل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فغفرنا ذلك لهما، وولي عثمان رضي الله عنه فعمل بأشياء عابها الناس عليه، فساروا إليه فقتلوه، ثمَّ أتاني الناس وأنا معتزلٌ أمورهم، فقالوا لي: بايع. فأبيت عليهم، فقالوا لي: بايع، فإنَّ الاُمَّة لا ترضى إلّا بك، وإنّا نخاف إن لم تفعل أن يفترق الناس، فبايعتهم، فلم يرعني إلّا شقاق رجلين قد بايعاني، وخلاف معاوية الذي لم يجعل الله عزَّوجلَّ له سابقةً في الدين، ولا سلف صدقٍ في الاسلام، طليق ابن طليق، حزبٌ من هذه الأحزاب، لم يزل

٣١٣

لله عزَّوجلَّ ولرسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وللمسلمين عدوّاً، هو وأبوه، حتّى دخلا في الاسلام كارهين فلا غرو إلّا خلافكم معه، وانقيادكم له، وتدعون آل نبيّكمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذين لا ينبغي لكم شقاقهم ولا خلافهم، ولا أن تعدلوا بهم من الناس أحداً، ألا أنِّي أدعوكم إلى كتاب الله عزَّوجلَّ، وسنَّة نبيِّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإماتة الباطل، وإحياء معالم الدين، أقول قولي هذا، و استغفر الله لي ولكم ولكلّ مؤمن ومؤمنة ومسلم ومسلمة.

فقالا: إشهد أنَّ عثمان رضي الله عنه قُتل مظلوماً. فقال لهما: لا أقول: إنّه قُتل مظلوماً، ولا أنّه قُتل ظالماً. قالا: فمن لم يزعم انَّ عثمان قُتل مظلوماً فنحن منه برآء. ثمَّ قاما فانصرفا، فقال عليُّ: إنّك لا تُسمع الموتى ولا تُسمع الصمّ الدعاء إذا ولّوا مدبرين، وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم، إن تسمع إلّا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون(١) .

أنباءٌ في طيّات الكتب

تُعرب عن مرمى معاوية

هلمَّ معي ننظر في شطر من كتب ابن حرب المعربة عن مرماه الذي كان تركاضه وراءه، هل فيها ايعازٌ أو تلويح أو تصريح بغايته المتوخّاة في نزاعه الإمام الطاهرعليه‌السلام ، وانّه كان يروم الخلافة ويحوم حولها وينازع الأمر أهله؟ رغم إنكار ابن حجر إيّاه إنكاراً باتّاً نصرةً له.

إنَّ النعمان بن بشير لَمّا قدم على معاوية بكتاب زوجة عثمان تذكر فيه دخول القوم عليه، وما صنع محمّد بن أبي بكر عن نتف لحيته، في كتاب رققت فيه وأبلغت حتّى إذا سمعه السامع بكى حتى يتصدّع قلبه. وبقميص عثمان مخضبا بالدم ممزّقاً، وعقدت شعر لحيته في زر القميص، قال: فصعد المنبر معاوية بالشام وجمع الناس، ونشر عليهم القميص، وذكر ما صنعوا بعثمان فبكى الناس وشهقوا حتى كادت نفوسهم أن تزهق، ثمَّ دعاهم إلى الطلب بدمه، فقام إليه أهل الشام فقالوا: هو ابن عمّك وأنت وليّه، ونحن الطالبون معك بدمه، فبايعوه أميراً عليهم، وكتب، وبعث الرسل إلى كور الشام، وكتب

____________________

١ - تاريخ الطبرى ٦: ٤، الكامل لابن الاثير ٣: ١٢٥، تاريخ ابن كثير ٧: ٢٥٨.

٣١٤

إلى شُرحبيل بن السمط الكندي وهو بحمص يأمره أن يبايع له بحمص كما بايع أهل الشام، فلمّا قرأ شُرحبيل كتاب معاوية دعا اُناساً من أشرف أهل حمص فقال لهم: ليس من قتل عثمان بأعظم جرماً ممّن يبايع لمعاوية أميراً، وهذه سقطة، ولكنّا نبايع له بالخلافة، ولا نطلب بدم عثمان مع غير خليفة، فبايع لمعاوية بالخلافة هو وأهل حمص ثمَّ كتب إلى معاوية: أمّا بعد: فإنّك أخطأت خطأ عظيماً حين كتبت إليَّ أن أبايع لك بالإمرة، وانَّك تريد أن تطلب بدم الخليفة المظلوم وأنت غير خليفة، وقد بايعت ومَن قبلي لك بالخلافة.

فلمّا قرأ معاوية كتابه سرّه ذلك ودعا الناس وصعد المنبر وأخبرهم بما قال شُرحبيل ودعاهم إلى بيعته بالخلافة، فأجابوه ولم يختلف منهم أحدٌ، فلمّا بايع القوم له بالخلافة واستقام له الأمر كتب إلى عليّ(١) .

وفي حديث عثمان بن عبيد الله الجرجاني قال:

بويع معاوية على الخلافة، فبايعه الناس على كتاب الله وسنّة نبيَّه، فأقبل مالك ابن هبيرة الكندي - وهو يومئذ رجلٌ من أهل الشام - فقام خطيباً وكان غائباً من البيعة فقال: يا أمير المؤمنين! اخدجتَ هذا الملك، وأفسدت الناس، وجعلت للسفهاء مجالاً، وقد علمت العرب أنّا حيُّ فِعال، ولسنا بحيِّ مقال، وإنّا نأتي بعظيم فعالنا على قليل مقالنا، فابسط يدك اُبايعك على ما أحببنا وكرهنا.

فقال الزبرقان بن عبد الله السكوني:

معاوي أخدجتَ الخلافة بالتي

شرطت فقد بوّا لك الملك مالكُ

ببيعة فصلٍ ليس فيها غميزةٌ

ألا كلُّ ملك ضمّه الشَّرط هالكُ

وكان كبيت العنكبوت مذبذباً

فأصبح محجوباً عليه الأرائكُ

وأصبح لا يرجوه راجٍ لعلّة

ولا تنتحي فيه الرِّجال الصعالكُ

وما خير ملك يا معاوية! مُخدج

تجرِّع فيه الغيظ والوجه حالكُ

إذا شاء ردَّته السكونُ وحميرٌ

وهمدان والحيّ الخفاف السكاسكُ(٢)

جرت بين الإمامعليه‌السلام وبين معاوية مكاتبات نحن نأخذ من تلكم الكتب ما يخصّ

____________________

١ - الامامة والسياسة ١: ٦٩، ٧٠.

٢ - كتاب صفين لابن مزاحم ص ٩٠.

٣١٥

بالموضوع، كتبعليه‌السلام إليه في أوَّل ما بويع له بالخلافة:

أمّا بعد: فقد علمتَ إعذاري فيكم، وإعراضي عنكم، حتى كان ما لا بدَّ منه، ولا دفع له، والحديث طويل، والكلام كثير، وقد أدبر ما أدبر، وأقبل ما أقبل، فبايع مَن قِبلك، وأقبل إليَّ في وفدٍ من أصحابك، والسَّلام.

وفي لفظ:

أمّا بعد: فإنَّ الناس قتلوا عثمان عن غير مشورة منّي، وبايعوني عن مشورة منهم واجتماع، فإذا أتاك كتابي فبايع لي، وأوفد إليَّ أشراف أهل الشامِ قبلك.

وفي لفظ ابن قتيبة: أمّا بعد: فقد وليّتك ما قِبلك من الأمر والمال، فبايع مَن قِبلك، ثمَّ أقدم إليَّ في ألف رجل من أهل الشام.

فكتب معاوية: أمّا بعد: فإنَّه:

ليس بيني وبين قيس عتابٌ

غير طعن الكُلى وضرب الرِّقاب

ومن كتاب لهعليه‌السلام إلى معاوية: وقد بلغك ما كان من قتل عثمان رحمه الله، وبيعة الناس عامّة إيّاي، ومصارع الناكثين لي، فادخل فيما دخل الناس فيه، وإلّا فأنا الذي عرفت، وحولي مَن تعلمه. والسَّلام.

وممّا كتبعليه‌السلام إليه مع جرير البجلي: فانَّ بيعتي بالمدينة لزمتك وأنت بالشّام لأنّ َ ه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه، فلم يكن للشاهد أن يختار ولا للغائب أن يردَّ، وإنّما الشورى للمهاجرين والأنصار، فإذا اجتمعوا على رجل وسّموه إماماً، كان ذلك لِلّه رضاً، وإن خرج عن أمرهم خارجٌ بطعن أو بدعة ردّوه إلى ما خرج عنه، فإن أبى قاتلوه على اتّباعه غير سبيل المؤمنين، وولّاه الله ما تولّى، وأصلاه جهنَّم وساءت مصيرا.

فادخل فيما دخل فيه المسلمون، فإنَّ أحبَّ الاُمور إليَّ قبولك العافية، إلَّا أن تتعرَّض للبلاء، فإن تعرَّضت له قاتلتك، واستعنت بالله عليك، وقد أكثرت في قتلة عثمان، فإن أنت رجعت عن رأيك وخلافك، ودخلت فيما دخل فيه المسلمون، ثمَّ حاكمت القوم إليَّ، حملتك وإيّاهم على كتاب الله، وأمّا تلك التي تريدها فهي خُدعة الصبيّ عن اللّبن.

٣١٦

وأعلم أنّك من الطلقاء الذين لا تحلُّ لهم الخلافة، ولا تُعقد معهم الإمامة، ولا يدخلون في الشورى، وقد بعثت إليك وإلى مَن قبلك جرير بن عبد الله البجلي، وهو من أهل الإيمان والهجرة، فبايعه، ولا قوَّة إلّا بالله.

قَدِم جرير على معاوية بكتاب عليّ، فلمّا أبطأ عليه معاوية برأيه استحثّه بالبيعة، فقال له معاوية: يا جرير! إنّ البيعة ليست بخُلسة، وإنّه أمرٌ له ما بعده، فأبلعني ريقي، ودعا أهل ثقته فاستشارهم، فقال له أخوه عُتبة: إستعن على هذا الأمر بعمرو بن العاص، فإنّه مَن قد عرفت، فكتب معاوية إلى عمرو، وهو بفلسطين:

أمّا بعد: فقد كان من أمر عليّ وطلحة والزبير ما قد بلغك، وقد سقط إلينا مروان بن الحكم في نفر من أهل البصرة، وقدم علينا جرير بن عبد الله في بيعة عليّ، وقد حبستُ نفسي عليك، فاقدم على بركة الله، اُذاكرك اُموراً لا تعدم صلاح مغبَّتها إن شاء الله.

فقال معاوية لجرير: إنّي قد رأيت رأياً، قال جرير: هات. قال: اكتب إلى عليّ أن يجعل لي الشام ومصر جباية، فإن حضرته الوفاة لم يجعل لأحد من بعده في عنقي بيعةً، واُسلّم إليه هذا الأمر، وأكتب إليه بالخلافة. قال جرير: اكتب ما شئت. فكتب إلى عليّ يسأله ذلك، فلمّا أتى عليّاً كتاب معاوية عرف انّها خدعة منه، وكتب إلى جرير بن عبد الله:

أمّا بعد: فإنَّ معاوية إنّما أراد بما طلب ألّا يكون لي في عنقه بيعةٌ، وأن يختار من أمره ما أحبّ، وأراد أن يرثِّيك ويبطِّئك حتّى يذوق أهل الشام، وقد كان المغيرة بن شعبة أشار عليَّ وأنا بالمدينة أن أستعمله على الشام، فأبيت ذلك عليه(١) ولم يكن الله ليراني أن أتَّخذ المضلّين عضدا، فإن بايعك الرَّجل وإلّا فأقبل، والسَّلام(٢) .

ولمـّا فشا كتاب معاوية في العرب كتب إليه أخو عثمان لأمِّه الوليد بن عقبة:

معاويَ إنَّ الشام شامك فاعتصمْ

بشامك، لا تُدخِل عليك الأفاعيا

وحامِ عليها بالصَّوارم والقنا

ولا تكُ موهون الذراعين وانيا

وإنَّ عليّاً ناظرٌ ما تُجيبه

فأهدِ له حرباً تُشيب النَّواصيا

____________________

١ - راجع ما أسلفناه فى الجزء السادس ١٤٢ ط ٢.

٢ - كتاب صفين ٣٨، ٥٨، ٥٩، الامامة والسياسة ١: ٨٢، وفى ط ٧٢، شرح ابن ابى الحديد ١: ١٣٦، ٢٤٩ - ٢٥١.

٣١٧

وإلّا فسلمٌ إنَّ في السِّلم راحةً

لمن لا يريد الحرب فاختر معاويا

وإنَّ كتاباً يا بن حرب كتبته

على طمع يُزجي إليك الدَّواهيا

سألتَ عليّاً فيه ما لن تناله

وإن نلته لم تبق إلّا لياليا

وسوف ترى منه التي ليس بعدها

بقاءٌ فلا تكثر عليك الأمانيا

أمثل عليٍّ تعتريه بخدعةٍ

وقد كان ما جرَّيتَ من قبلُ كافيا؟

وكتب إلى معاوية أيضاً:

معاويَ إنَّ الملك قد جُبَّ غاربه

وأنت بما في كفِّك اليوم صاحبه

أتاك كتابٌ من عليٍّ بخطَّةٍ

هي الفصل فاختر سلمه أو تحاربه

فلا ترجُ عند الواترين مودَّة

ولا تأمن اليوم الذي أنت راهبه

وحاربه إن حاربتَ حرَّ بن حرَّة

وإلّا فسلمٌ لا تدبُّ عقاربه

فإنَّ عليّاً غير ساحب ذيله

على خدعةٍ ما سوَّغ الماء شاربه

فلا تدعنَّ الملك والأمر مقبلٌ

وتطلب ما أعَيت عليه مذاهبه

فإن كنتَ تنوي أن تجيب كتابه

فقبِّح مُمليه وقبّح كاتبه

وإن كنتَ تنوي أن تردَّ كتابه

وأنت بأمرٍ لا محالة راكبه

فألق إلى الحيِّ اليمانين كلمة

عدوُّ وما لاهم عليه أقاربه

أفانين: منهم قاتلٌ ومحرِّضٌ

بلا ترة كانت وآخر سالبه

وكنتُ أميراً قبلُ بالشام فيكمُ

فحسبي وإيّاكم من الحقِّ واجبه

تجيبوا [ومن أرسىُ ثبيراً مكانه]

تَدافعَ بحرٍ لا تُردُّ غواربه

فأقلل وأكثر، ما لها اليوم صاحبٌ

سواك فصرِّح لستَ ممَّن تواربه(١)

فأقام جرير عند معاوية ثلاثة أشهر. وقيل: أربعة. وهو يماطله بالبيعة، فكتب عليُّ إلى جرير:

سلامٌ عليك، أمّا بعد: فإذا أتاك كتابي هذا فاحمل معاوية على الفصل، وخذه بالأمر الجزم، وخيّره بين حربٍ مجلية، أو سلمٍ مخزية، فإن اختار الحرب فأنبذ إليهم على سواء إنَّ الله لا يحبُّ الخائنين، وإن اختار السِّلم فخذ بيعته وأقبل إليَّ، والسَّلام.

____________________

١ - المواربة: المخارعة والمداهاة.

٣١٨

فكتب معاوية إلى عليّ جواباً عن كتابه مع جرير:

أمّا بعد: فلعمري لو بايعك القوم الذين بايعوك وأنت بريءٌ من دم عثمان لكنت كأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم أجمعين، ولكنَّك أغريت بدم عثمان المهاجرين. وخذَّلت عنه الأنصار، فأطاعك الجاهل، وقوي بك الضعيف، وقد أبي أهل الشّام إلّا قتالك، حتّى تدفع إليهم قتلة عثمان، فإن فعلت كانت شورى بين المسلمين، وإنّما كان الحجازيّون هم الحُكاّم على الناس والحقُّ فيهم، فلمّا فارقوه كان الحكّام على الناس أهل الشام، ولعمري ما حجّتك عليَّ كحجّتك على طلحة والزبير، لأنّهما بايعاك ولم اُبايعك، وما حجّتك على أهل الشام كحجّتك على أهل البصرة، لأنَّ أهل البصرة أطاعوك، ولم يطعك أهل الشام.

فكتب إليه الإمامعليه‌السلام :

زعمتَ أنّك إنّما أفسد عليك بيعتي خُفري(١) بعثمان ولعمري ما كنت إلّا رجلاً من المهاجرين، أوردت كما أوردوا، وأصدرت كما أصدروا، وما كان ليجمعهم على ضلال، ولا ليضربهم بالعمى، وما أمرتُ فلزمتني خطيئة الأمر، ولا قتلتُ فأخاف على نفسي قصاص القاتل.

وأمّا قولك: إنَّ أهل الشام هُم حكّام أهل الحجاز، فهات رجلاً من قريش الشَّام يُقبل في الشورى، أو تحلُّ له الخلافة، فإنْ سمّيت كذَّبَكَ المهاجرون و الأنصار، ونحن نأتيك به من قريش الحجاز. فارجع إلى البيعة التي لزمتك، وحاكم القوم إليَّ.

وأمّا تمييزك بين أهل الشام والبصرة، وبينك وبين طلحة والزبير، فلعمري فما الأمر هناك إلّا واحد، لأنّها بيعةٌ عامّة، لا يتأتّى فيها النظر، ولا يُستأنف فيها الخيار.

ومن كتاب كتبه معاوية إلى عليّعليه‌السلام في أواخر حرب صفين:

فإن كنت - أبا حسن -! إنّما تحارب على الإمرة والخلافة فلعمري لو صحّت خلافتك لكنت قريباً من أن تُعذر في حرب المسلمين، ولكنّها ما صحّت لك، أنّى بصحّتها وأهل الشام لم يدخلوا فيها ولم يرتضوها؟ وخف الله وسطواته، واتّق بأسه

____________________

١ - الخفر: نقض العهد. الغدر.

٣١٩

ونكاله، واغمد سيفك عن الناس، فقد والله أكلتهم الحرب، فلم يبق منهم إلّا كالثمد(١) في قرارة الغدير. والله المستعان.

فكتب عليٌّعليه‌السلام إليه كتاباً منه:

وأمّا تحذيرك إيّاي أن يحبط عملي وسابقتي في الإسلام، فلعمري لو كنتُ الباغي عليك لكان لك أن تحذِّرني ذلك، ولكنِّي وجدت الله تعالى يقول: فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله. فنظرنا إلى الفئتين، أمّا الفئة الباغية فوجدناها الفئة التي أنت فيها، لأنَّ بيعتي لزمتك وأنت بالشام، كما لزمتك بيعة عثمان بالمدينة، وأنت أمير لعُمر على الشّام، وكما لزمت يزيدَ أخاك بيعة عمر وهو أميرٌ لأبي بكر على الشّام.

وأمّا شقُّ عصا هذه الاُمَّة، فأنا أحقّ أن أنهاك عنه، فأمّا تخويفك لي من قتل أهل البغي فإنَّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمرني بقتالهم وقتلهم وقال لأصحابه: إنّ فيكم مَن يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلتُ على تنزيله. وأشار إليَّ، وأنا أولى مَن اتّبع أمره، وأمّا قولك: انَّ بيعتي لم تصحّ، لأنَّ أهل الشام لم يدخلوا فيها، فكيف؟ وإنّما هي بيعةٌ واحدةٌ تلزم الحاضر والغائب، لا يُثنّى فيها النظر، ولا يُستأنف فيها الخيار، ألخارج منها طاعنٌ، والمـُروّي(٢) فيها مُداهن، فاربع على ظلعك، وانزع سربال غيِّك، واترك ما لا جدوى له عليك، فليس لك عندي إلّا السيف، حتي تفيء إلى أمر الله صاغراً، وتدخل في البيعة راغماً، والسّلام.

ومن كتاب لمعاوية إلى عليّعليه‌السلام :

فدع اللجاج والعَبث جانباً، وادفع إلينا قتلة عثمان، وأعد الأمر شورى بين المسلمين، ليتّفقوا على مَن هو لِلَّه رضا، فلا بيعة لك في أعناقنا، ولا طاعة لك علينا، ولا عُتبى لك عندنا، وليس لك ولأصحابك إلّا السيف.

فأجابه الإمامعليه‌السلام بكتاب منه قوله:

وزعمت أنَّ أفضل النّاس في الإسلام فلانٌ وفلانٌ، فذكرت أمراً إن تمّ اعتزلك

____________________

١ - الثمد: الماء القليل يتجمع فى الشتاء وينضب فى الصيف.

٢ - روّى فى الامر: نظر وفكر، أى الذي يفكر ويروّى فيها ويبطىء عن الطاعة مداهن اى: منافق.

_٢٠_

٣٢٠