الغدير في الكتاب والسنة والأدب الجزء ١٠

الغدير في الكتاب والسنة والأدب0%

الغدير في الكتاب والسنة والأدب مؤلف:
الناشر: دارالكتب الإسلامية
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 389

الغدير في الكتاب والسنة والأدب

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة الشيخ الأميني
الناشر: دارالكتب الإسلامية
تصنيف: الصفحات: 389
المشاهدات: 57948
تحميل: 2049


توضيحات:

الجزء 1 المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11
المقدمة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 389 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 57948 / تحميل: 2049
الحجم الحجم الحجم
الغدير في الكتاب والسنة والأدب

الغدير في الكتاب والسنة والأدب الجزء 10

مؤلف:
الناشر: دارالكتب الإسلامية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الوليد في فجائع بني حنيفة ومالك بن نويرة شيخها الصالح وزعيمها المبرور، وفضائحه من قتل الأبرياء والدخول على حليلة الموئود غيلةً وخدعة(١)

ويُعذَّر به إبن ملجم(٢) المرادي أشقى الآخرين بنصِّ الرّسول الأمينصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ما انتهكه من حرمة الاسلام، وقتل خليفة الحقِّ وإمام الهدى في محراب طاعة الله الذي اكتنفته الفضائل والفواضل من شتّى نواحيه، واحتفَّت به النفسيّات الكريمة جمعاء، وقد قال فيه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما قاله من كثير طيّب عداه الحصر، وكبى عنه الإستقصاء، و هو قبل هذه كلّها نفس النبيِّ الطاهرة في الذكر الحكيم.

قال محمّد بن جرير الطبري في التهذيب: أهل السير لا تدافع عنهم انّ عليّاً أمر بقتل قاتله قصاصاً ونهى أن يمثل به، ولا خلاف بين أحد من الامَّة انَّ ابن ملجم قتل عليّاً متأوِّلاً مجتهداً مقدِّراً على انّه على صواب وفي ذلك يقول عمروا بن حطّان:

يا ضربةً من تقيّ ما أراد بها

إلّا ليبلغ من ذي العرش رضوانا

انّي اُفكّر فيه ثمّ أحسبه

أوفى البريّة عند الله ميزانا

سنن البيهقي ٨: ٥٨، ٥٩.

ويبرَّر به عمل أبي الغادية(٣) الفزاري قاتل عمّار الممدوح على لسان الله ولسان رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومن الصحيح الثابت قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له: تقتلك الفئة الباغية. وقد مرّ في ج ٩ ص ٢١ ويبرّأ به ساحة عمرو بن العاصي(٤) عن وصمة مكيدة التحكيم وقد خان فيها اُمَّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكسر شوكتها وقد قال مولانا أمير المؤمنين صلوات الله عليه فيه وفي صاحبه - الشيخ المخرف:

ألا إنَّ هذين الرجلين اللذين اخترتموهما حكمين قد نبذا حكم القرآن وراء ظهورهما، وأحييا ما أمات القرآن، واتَّبع كلّ واحد منهما هواه، بغير هدى من الله، فحكما بغير حجّة بيّنة، ولا سنّة ماضية، واختلفا في حكمهما، وكلاهما لم يرشد، فبرئ الله

____________________

١ - راجع الجزء السابع ص ١٥٦ - ١٦٨ ط ١.

٢ - راجع الجزء الاول ص ٣٢٣ ط ٢.

٣ - راجع الجزء الخامس ص ٣٢٨ ط ٢.

٤ - راجع تاريخ ابن كثير ٧: ٢٨٣.

٣٤١

منهما ورسوله وصالح المؤمنين.

ويُحبَّذ به ما ارتكبه يزيد الطاغية(١) من البوائق والطامّات من استئصال شأفة النبوّة وقتل ذراريها، وسبي عقائلها، التى لم تُبق للباحث عن صحيفة حياته السوداء إلّا أن يلعنه ويتبرّأ منه.

ويقدَّس به أذيال المتقاعدين(٢) عن بيعة الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام على حين اجتماع شروط البيعة الواجبة له، فماتوا ميتة جاهليَّة ولم يعرفوا إمام زمانهم.

وينزَّه به السابقون الذين أوعزنا إلى سقطاتهم في الدين والشريعة في الجزء ٦، ٧، ٨، ٩ بأعذار عنهم لا تقلّ في الشناعة عن جرائرهم. إلى أمثال هذه ممّا لا يُحصى.

نعم: هناك موارد جمَّة ينبو عنها الإجتهاد، فلا يُصاخُ إلى مفعوله، لوقوف الميول والشهوات سدّاً دون ذلك، فلا يُدرء به التهمة عن المؤلِّبين على عثمان وهم عدول الصحابة ووجوه المهاجرين والأنصار، وأعيان المجتهدين، الذين أخذوا الكتاب والسنَّة من نفس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهم عند ابن حزم المبرِّر لفتكة أشقى مراد باجتهاده المشوم: فسّاق ملعونون محاربون سافكون دماً حراماً عمداً(٣) وعند ابن تيميَّة: قومٌ خوارج مفسدون في الأرض، لم يقتله إلّا طائفةٌ قليلةٌ باغيةٌ ظالمةٌ، وأمّا السّاعون في قتله فكلّهم مخطئون بل ظالمون باغون معتدون(٤) وعند ابن كثير: أجلافٌ أخلاطٌ من الناس، لا شكّ انّهم من جملة المفسدين في الأرض، بغاةٌ خارجون على الإمام، جهلةٌ متعنّتون خونةٌ ظلمةٌ مفترون(٥) وعند ابن حجر: بغاةٌ كاذبون ملعونون معترضون لا فهم لهم بل ولا عقل(٦) .

ولو كان للاجتهاد منتوجٌ مقرّر فلِمَ لم يُتَّبع في إرجاء أمير المؤمنينعليه‌السلام أمر المتَّهمين بقتل عثمان إلى ما يراه من المصلحة فينتصب للقضاء فيه على ما يقتضيه الكتاب والسنّة

____________________

١ - راجع تاريخ ابن كثير ٨: ٢٢٣، ج ١٣: ١٠ فيه قول أبى الخير القزوينى: انه امام مجتهد.

٢ - راجع مستدرك الحاكم ج ٣: ١١٥ - ١١٨.

٣ - الفصل لابن حزم ٤: ١٦١.

٤ - منهاج السنة ٣: ١٨٩، ٢٠٦.

٥ - تاريخ ابن كثير ٧: ١٧٦، ١٨٦، ١٨٧.

٦ - الصواعق المحرقة ص ٦٧، ٦٨، ١٢٩.

٣٤٢

فشنَّت عليه الغارات يوم الجمل وفي واقعة صفّين وكان من ذيولها وقعة الحروريِّين، فلم يُتَّبع اجتهاد خليفة الوقت الذي هو باب مدينة علم النبيّ، وأقضى الامَّة بنصّ من الصّادق المصدَّق، لكنّما اتّبع اجتهاد عثمان في العفو عن عبيد الله بن عمر في قتله لهرمزان و بنت أبي لؤلؤة وإهدار ذلك الدم المحرّم من غير أيّ حجّة قاطعة أو برهنة صحيحة، فلو كان للخليفة مثل ذلك العفو فلِمَ لم يجرِ حكمه في الآوين إلى مولانا أمير المؤمنين من - المتجمهرين على عثمان؟ ولم يكن يومئذ من المقطوع به ما سوف يقضي به الإمام من حكمه الباتّ، أيُعطي دية المقتول من بيت المال لأنَّه أودي به بين جمهرة المسلمين لا يُعرف قاتله كما فعله في أربد الفزاري(١) أو أنَّه يراهم من المجتهدين « وكانوا كذلك » الّذين تأوَّلوا أصابوا أو أخطأوا، أو أنَّه كان يرى من صالح الخلافة واستقرار عروشها أن يرجىء أمرهم إلى ما وراء ما انتابه من المثلات، وما هنالك من إرجاف وتعكير يُقلقان السَّلام والوئام، حتّى يتمكّن من الحصول على تدعيم عرش إمرته الحقَّة المشروعة، فعلى أيّ من هذه الأقضية الصحيحة كان ينوء الإمامعليه‌السلام به فلا حرج عليه ولا تثريب، لكن سيف البغي الذي شهروه في وجهه أبى للقوم إلّا أن يتَّبع الحقّ أهوائهم، وماذا نقموا عليه صلوات الله عليه من تلكم المحتملات! حتّى يسوغ لهم إلقاح الحرب الزبون التي من جرّائها تطايرت الرؤس، وتساقطت الايدي، واُرهقت نفوسٌ بريئة، واُريقت دماءٌ محترمة، فبأيّ اجتهاد بادروا إلى الفرقة، وتحمّلوا أوزارها، ولم تتجلّ لهم حقيقة الأمر ولباب الحقِّ، لكنّهم ابتغوا الفتنة، وقلّبوا له الامور، ألا في الفتنة سقطوا.

ومن أعجب ما يُترائى من مفعول الإجتهاد في القرون الخالية: انّه يبيح سبَّ عليّ أمير المؤمنينعليه‌السلام وسبَّ كلِّ صحابيّ احتذى مثاله، ويجوِّز لأيِّ أحد كيف شاء وأراد لعنهم، والوقيعة فيهم، والنيل منهم، في خطب الصَّلوات، والجمعات، والجماعات، و على صهوات المنابر، والقنوت بها، والإعلان بذلك في الأندية والمجتمعات، والخلأ والملأ، ولا يلحق لفاعلها ذمٌّ ولا تبعةٌ، بل له أجرٌ واحد لاجتهاده خطأ، وإن كان هو من حثالة الناس، وسفلة الأعراب، وبقايا الأحزاب، البعداء عن العلوم والمعارف.

وأمّا عليٌّ وشيعته فلا حقَّ لهم في بيان ظلامتهم عند مناوئيهم، والوقيعة في خصمائهم،

____________________

١ - راجع كتاب صفين ص ١٠٦، شرح ابن ابى الحديد ١: ٢٧٩.

٣٤٣

ومبلغ إسفافهم إلى هوَّة الضلالة على حدِّ قوله تعالى:( لَّا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَن ظُلِمَ ) (١) وليس لأحدهم في الإجتهاد في ذلك كلِّه نصيبٌ، ولو كان ضليعاً في العلوم كلّها، فإن أحدٌ منهم نال من إنسان من اولئك الظالمين فمن الحقِّ ضربه وتأديبه، أو تعذيبه وإقصاءه، أو التنكيل به وقتله، ولا يأبه باجتهاده المؤدِّي إلى ذلك صواباً أو خطأ، وعلى هذا عمل القوم منذ أوّل يوم اُسس أساس الظلم والجور، وهلّم جرّأ حتى اليوم الحاضر راجع معاجم السيرة والتاريخ فانَّها نعم الحكم الفصل، وبين يديك كلمة ابن حجر في الصواعق ص ١٣٢ قال في لعن معاوية: وأمّا ما يستبيحه بعض المبتدعة من سبِّه ولعنه فله فيه اُسوةٌ، أي اسوةٌ بالشيخين وعثمان وأكثر الصحابة، فلا يُلتفت لذلك، ولا يُعوَّل عليه، فانَّه لم يصدر إلّا من قوم حمقى جهلاء أغبياء طغاة لا يبالي الله بهم في أيِّ وادٍ هلكوا، فلعنهم الله وخذ لهم، أقبح اللعنة والخذلان، وأقام على رؤسهم من سيوف اهل السنَّة، وفي حججهم المؤيَّدة بأوضح الدلائل والبرهان ما يقمعهم عن الخوض في تنقيص اولئك الأئمَّة الأعيان. انتهى.

أتعلم مَن لعن ابن حجر؟ وإلى مَن تتوجّه هذه القوارص؟ انظر إلى حديث لعن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معاوية، وأحاديث لعن عليّ أمير المؤمنين، وقنوته بذلك في صلواته، و لعن ابن عبّاس وعمّار ومحمّد بن أبي بكر، ودعاء امّ المؤمنين عائشة عليه في دبر الصلاة، و آخرين من الصحابة، إقرأوا حكم.

الاجتهاد ماذا هو؟

وممّا يجب أن يبحث عنه في المقام هو أن يفهم معنى الاجتهاد الذي توسَّعوا فيه حتّى سُفكت الدماء من أجله واُبيحت، وغصبت الفروج وانتهكت المحارم، وغُيّرت الأحكام من جرّائه، وكاد أن يكون توسّعهم فيه أن يردَّ الشريعة بدءاً إلى عقب، ويفصم عروة الدين، ويقطع حبله.

ثمَّ لننظر هل فيه من الاستعداد والمـُنَّة لتبديل السنن المتّبعة التي لا تبديل لها؟ وهل هو من مِنَح الله سبحانه على رعاء الناس ودهمائهم، فيتقحّمونه كيف شاء لهم الهوى؟

____________________

١ - سورة النساء: ١٤٨.

٣٤٤

أو أنَّ له اصولاً متّبعة لا يعدوها المجتهد من كتاب وسنّة، أو تأوّل صحيح إن ماشينا القوم في إمضاء الاجتهاد تجاه النصِّ، أو انّه اتّسعت الفَسحة فيه واُطلق الصراح حتّى نزى إليه كلُّ إرنب، وثعلب، وتحرّاه كلُّ بوّال على عقبيه أو أعرابيٌّ جلفٌ جاف؟ أنا لا أكاد أن اُسوِّغ للعلماء القول بتصحيح مثل هذا الاجتهاد. وإنّما المتسالم عليه بينهم ما يلي:

قال الآمدي في [الإحكام في اصول الأحكام] ٤: ٢١٨: أمّا الاجتهاد، فهو في اللغة عبارةٌ عن استفراغ الوسع في تحقيق أمر من الامور مستلزم للكلفة والمشقّة، ولهذا يُقال: إجتهد فلانٌ في حمل حجر البزّارة، ولا يُقال: إجتهد في حمل خردلة.

وأمّا في اصطلاح الاصوليّين فمخصوصٌ باستفراغ الوسع في طلب الظنِّ بشيىء من الأحكام الشرعيّة على وجهٍ يُحسّ من النفس العجز عن المزيد فيه.

وأمّا المجتهد فكلُّ من اتّصف بصفة الاجتهاد، وله شرطان: الشرط الأوَّل: أن يعلم وجود الربِّ تعالى: وما يجب له من الصفات، ويستحقّه من الكمالات، وانّه واجب الوجود لذاته، حيٌّ، عالمٌ، قادرٌ، مريدٌ، متكلّم، حتى يتصوّر منه التكليف؟ وأن يكون مصدِّقاً بالرسول، وما جاء به من الشرع المنقول بما ظهر على يده من المعجزات، والآيات الباهرات، ليكون فيما يسنده اليه من الأحكام محقّقاً، ولا يشترط أن يكون عارفاً بدقائق علم الكلام، متبحّراً فيه كالمشاهير من المتكلِّمين، بل أن يكون مستند علمه في ذلك بالدليل المفصّل، بحيث يكون قادراً على تقريره وتحريره ودفع الشبَه عنه، كالجاري من عادة الفحول من أهل الاصول، بل أن يكون عالماً بأدلّة هذه الامور من جهة الجملة، لا من جهة التفصيل.

الشرط الثاني: أن يكون عالماً عارفاً بمدارك الأحكام الشرعيّة وأقسامها، وطرق إثباتها، ووجوه دلالاتها على مدلولاتها، واختلاف مراتبها، والشروط المعتبرة فيها، على ما بيّناه، وأن يعرف جهات ترجيحها عند تعارضها، وكيفيّة استثمار الأحكام منها قادراً على تحريرها وتقريرها، والإنفصال عن الإعتراضات الواردة عليها، وإنّما يتمُّ ذلك بأن يكون عارفاً بالرُّواة وطرق الجرح والتعديل، والصحيح والسقيم، كأحمد بن حنبل ويحيى بن معين، وأن يكون عارفاً بأسباب النزول، والناسخ والمنسوخ في النّصوص الأحكاميّة، عالماً باللغة والنحو، ولا يشترط أن يكون في اللّغة كالأصمعي، وفي النحو

٣٤٥

كسيبويهوالخليل ، بل أن يكون قد حصل من ذلك على ما يُعرف به أوضاع العرب والجاري من عاداتهم في المخاطبات، بحيث يميز بين دلالات الألفاظ من المطابقة، والتضمين، والإلتزام، والمفرد والمركب، والكليّ منها والجزئيّ، والحقيقة والمجاز، والتواطئ والإشتراك، والترادف والتباين، والنصّ والظاهر، والعامّ والخاصّ، والمطلق والمقيَّد، والمنطوق والمفهوم، والإقتضاء والإشارة، والتنبيه والايماء، ونحو ذلك ممّا فصَّلناه. ويتوقّف عليه استثمار الحكم من دليله.

وذلك كلّه أيضاً إنّما يُشترط في حقّ المجتهد المطلق المتصدّي للحكم والفتوى في جميع مسائل الفقه، وأمّا الإجتهاد في حكم بعض المسائل، فيكفي فيه أن يكون عارفاً بما يتعلّق بتلك المسألة، وما لا بدَّ منه فيها، ولا يضرُّه في ذلك جهله بما لا تعلّق له بها، ممّا يتعلّق بباقي المسائل الفقهيّة، كما انّ المجتهد المطلق قد يكون مجتهداً في المسائل المتكثّرة، بالغاً رتبة الإجتهاد فيها، وإن كان جاهلاً ببعض المسائل الخارجة عنها، فإنّه ليس من شرط المفتي أن يكون عالماً بجميع أحكام المسائل ومداركها، فإنّ ذلك ممّا لا يدخل تحت وسع البشر، ولهذا نُقل عن مالك انّه سُئل عن أربعين مسألة، فقال في ستّ وثلاثين منها، لا أدري.

وأمّا ما فيه الإجتهاد: فما كان من الأحكام الشرعيّة دليله ظنّياً. فقولنا « من الأحكام الشرعيّة » تمييز له عمّا كان من القضايا العقليّة واللّغويّة وغيرها. وقولنا « دليله ظنيّاً » تمييز له عمّا كان دليله منها قطعيّاً، كالعبادات الخمس ونحوها، فإنّها ليست محلًّا للاجتهاد فيها، لأنّ المخطىء فيها يُعدُّ آثماً، والمسائل الاجتهاديّة ما لا يُعدُّ المخطىء فيها باجتهاده آثماً. اهـ.

وقال الشاطبي في الموافقات ٤: ٨٩ ما ملخّصه: الاجتهاد على ضربين: الأوّل: الاجتهاد المتعلّق بتحقيق المناط، وهو الذي لا خلاف بين الاُمّة في قبوله، ومعناه أن يثبت الحكم بمدركه الشرعيِّ لكن يبقى النظر في تعيين محلّه.

فلا بدَّ من هذه الإجتهاد في كلِّ زمان، إذ لا يمكن حصول التكليف إلّا به، فلو فرض التكليف مع إمكان ارتفاع هذا الاجتهاد لكان تكليفاً بالمحال، وهو غَير ممكن شرعاً، كما انّه غير ممكن عقلاً.

٣٤٦

وأمّا الضرب الثاني: وهو الاجتهاد الذي يمكن أن ينقطع فثلاثة أنواع: أحدها المسمّى بتنقيح المناط، وذلك أن يكون الوصف المعتبر في الحكم مذكوراً مع غيره في النصِّ فينقَّح بالاجتهاد حتى يميّز ما هو معتبرٌ ممّا هو ملغى.

الثّاني المسمّى بتخريج المناط، وهو راجعٌ إلى أنَّ النصَّ الدالّ على الحكم لم يتعرّض للمناط، فكأنّه اُخرج بالبحث، وهو الإجتهاد القياسي.

الثالث: وهو نوعٌ من تحقيق المناط المتقدّم الذكر لأنّه ضربان: أحدهما ما يرجع إلى الأنواع لا إلى الأشخاص، كتعيّن نوع المثل في جزاء الصيد، ونوع الرقبة في العتق في الكفّارات وما أشبه ذلك. والضرب الثاني: ما يرجع إلى تحقيق مناط فيما تحقّق مناط حكمه، فكأنَّ المناط على قسمين: تحقيق عامّ، وهو ما ذكر. وتحقيق خاصّ من ذلك العامّ.

إنّما تحصل درجة الإجتهاد لمن اتُّصف بوصفين: أحدهما فهم مقاصد الشَّريعة على كمالها. والثاني: التمكّن من الاستنباط بناء على فهمه فيها.

أمّا الأوّل فقد مرَّ في كتاب المقاصد أنّ الشريعة مبنيَّةٌ على اعتبار المصالح، وأنَّ المصالح إنّما اعتبرت من حيث وضعها الشّارع كذلك، لا من حيث إدراك المكلّف إذ المصالح تختلف عند ذلك بالنسب والإضافات، واستقرَّ بالإستقراء التامّ انّ المصالح على ثلاث مراتب، فإذا بلغ الانسان مبلغاً فهم عن الشارع فيه قصده في كلِّ مسألة من مسائل الشريعة، وفي كلِّ باب من أبوابها، فقد حصل له وصفٌ هو السبب في تنزّله منزلة الخليفة للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في التعليم والفتيا والحكم بما أراه الله.

وأمّا الثاني: فهو كالخادم للأوّل، فانّ التمكّن من ذلك إنّما هو بواسطة معارف محتاج إليها في فهم الشريعة أوّلاً، ومن هنا كان خادماً للأوَّل، وفي استنباط الأحكام ثانياً، لكن لا تظهر ثمرة الفهم إلّا في الاستنباط. فلذلك جعل شرطاً ثانياً، وإنَّما كان الأوّل هو السبب في بلوغ هذه المرتبة لأنّه المقصود والثاني وسيلة.

هذا هو الإجتهاد عند الاُصوليِّين وأمّا الفقهاء فهو عندهم مرتبةٌ راقيةٌ من الفقه يقتدر بها الفقيه على ردَّ الفرع إلى الأصل، واستنباطه منه، والتمكّن من دفع ما يعترض المقام من نقدٍ وردّ، وإبرامٍ ونقض، وشُبهٍ وأوهام.

٣٤٧

قال الآمدي في الإحكام ١: ٧: ألفقه في عرف المتشرّعين مخصوصٌ بالعلم الحاصل بجملة من الأحكام الشرعيّة الفروعيَّة بالنظر والاستدلال.

وقال ابن نجيم في البحر الرائق ١: ٣: الفقه اصطلاحاً على ما ذكره النسفي في شرح المنار تبعاً للاصوليِّين: العلم بالأحكام الشرعيَّة العمليَّة المكتسبة من أدلَّتها التفصيليَّة بالإستدلال.

وفي الحاوي القدسي: اعلم أنَّ معنى الفقه في اللغة الوقوف والإطلاع، وفي الشريعة الوقوف الخاصّ وهو الوقوف على معاني النصوص واشاراتها، ودلالاتها، ومضمراتها، و مقتضياتها، والفقيه اسمٌ للواقف عليها.

وقال: الفقه قوَّة تصحيح المنقول، وترجيح المعقول، فالحاصل: انَّ الفقه في الاصول علم الأحكام من دلائلها، فليس الفقيه إلّا المجتهد عندهم.

وأمّا إستمداده فمن الاصول الأربعة: الكتاب، والسنّة، والاجماع، والقياس المستنبط من هذه الثلاثة، وأمّا شريعة مَن قبلنا فتابعة للكتاب، وأمّا أقوال الصحابة فتابعةٌ للسنَّة، وامّا تعامل الناس فتابعٌ للاجماع، وأمّا التحرّي واستصحاب الحال فتابعان للقياس، وأمّا غايته فالفوز بسعادة الدارين.

وقال ابن عابدين في حاشية البحر ١: ٣: في تحرير الدلالات السمعيَّة لعليِّ بن محمد بن أحمد بن مسعود نقلاً عن التنقيح: الفقه لغة هو الفهم والعلم، وفي الإصطلاح هو العلم بالأحكام الشرعيَّة العمليَّة بالاستدلال.

وقال ابن قاسم الغزّي في الشرح ١: ١٨: الفقه هو لغةً الفهم، واصطلاحاً العلم بالأحكام الشرعيَّة العمليَّة المكتسب من أدلَّتها التفصيليّة.

وقال ابن رشد في مقدّمة المدوَّنة الكبرى ص ٨: فصلٌ في الطريق إلى معرفة أحكام الشرائع، وأحكام شرائع الدين تدرك من أربعة أوجه: أحدها كتاب الله عزّ وجلَّ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيلٌ من حكيم حميد. والثاني: سنّة نبيّهعليه‌السلام الذي قرن الله طاعته بطاعته، وأمرنا باتّباع سنّته فقال عزَّ وجلَّ: وأطيعوا الله والرّسول. وقال: من يطع الرّسول فقد أطاع الله. وقال: وما آتاكم الرَّسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا. وقال: واذكرن ما يُتلى في بيوتكنَّ. من آيات الله والحكمة. والحكمة

٣٤٨

السنّة. وقال: لقد كان لكم في رسول الله اُسوةٌ حسنةٌ. والثالث: الاجماع الذي دلَّ تعالى على صحّته بقوله: ومن يشاقق الرَّسول من بعد ما تبيّن له الهدى ويتّبع غير سبيل المؤمنين فولّه ما تولّى ونصله جهنَّم وساءت مصيراً. لأنّه عزَّ وجلَّ توعّد باتِّباع غير سبيل المؤمنين، فكان ذلك أمراً واجباً باتِّباع سبيلهم، وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا تجتمع اُمّتي على ضلالة. والرّابع الاستنباط وهو القياس على هذه الاُصول والثلاثة التي هي الكتاب والسنَّة والاجماع، لأنَّ الله تعالى جعل المستنبط من ذلك علماً، وأوجب الحكم به فرضاً، فقال عزَّ وجلَّ: ولو ردّوه إلى الرَّسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم وقال عزَّ وجلَّ: إنّا أنزلنا إليك الكتاب بالحقِّ لتحكم بين الناس بما أراك الله. أي بما أراك فيه من الاستنباط والقياس، لأنَّ الذي أراه فيه من الاستنباط والقياس هو ممّا أنزل الله عليه وأمره بالحكم به حيث يقول: وأن احكم بينهم بما أنزل الله.

نظرة فى اجتهاد معاوية

هاهنا حقَّ علينا أن نميط الستر عن اجتهاد معاوية، ونناقش القائلين به في أعماله، أفهل كانت على شيىء من النواميس الأربعة: الكتاب. السنّة. الاجماع. القياس؟ أو هَل علم معاوية علم الكتاب؟ وعند مَن درسه؟ ومتى زاوله؟ وقد كان عهده به منذ عامين(١) قبل وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهل كان يميِّز بين محكماته ومتشابهاته؟ أو يفرِّق بين مجمله ومبيّنه؟ أو يمكنه الحكم في عمومه وخصوصه؟ أو أحاط خبراً بمطلقه ومقيّده؟ أو عرف شيئاً من ناسخه ومنسوخه، إلى غير هذه من أضراب الآي الكريمة، ومزايا المصحف الشريف الداخل علمها في استنباط الأحكام منه؟!.

إنَّ ظروف معاوية على عهد استسلامه لا يسع شيئاً من ذلك، على حين انّها تستدعي فراغاً كثيراً لا يتصرَّم بالسنين الطوال فكيف بهذه الاُويقات اليسيرة التي تُلهيه في أكثرها الهواجس والأفكار المتضاربة من نواميس دينه القديم « الوثنيّة » وقد أتى عليها ما انتحله من الدين الجديد « الاسلام » فأذهب عنه هاتيك، ولم يجىء بعدُ هذا على وجهه بحيث يرتكز في مخيّلته، ويتبوَّأ في دماغه.

____________________

١ - هو وأبوه وأخوه من مسلمة سنة الفتح كما فى الاستيعاب، وكان ذلك فى اخريات السنة الثامن الهجرة، ووفاة النبي صلى‌ الله ‌عليه ‌و آله‌ في اوليات سنة ١١.

٣٤٩

وكان قد سبقه جماعة إلى الاسلام وكتابه، وهم بين حِكمَ النبيِّ ومحكماته وإفاضاته وتعاليمه، وهم لا يُبارحون مُنتديات النبوَّة وهتافها بالتنزيل والتأويل الصحيح الثابت، قضوا على ذلك أعواماً متعاقبة ومُدداً كثيرة فلم يتسنَّ لهم الحصول على أكثر تلكم المبادي وانكفؤا عنها صفر الأكفّ، خاوين الوطاب، انظر إلى ذلك الذي حفظ سورة البقرة في اثنى عشرة سنة، حتّى إذا تمكّن من الحفظ بعد ذلك الأجل المذكور نحر جزوراً شكراً على ما اُتيح له من تلك النعمة بعد جهود جبّارة، والله يعلم ما عاناه طيلة تلكم المدَّة من عناء ومشقَّة، وهذا الرجل ثان الاُمّة عند القوم في العلم والفضيلة، وكان من علمه بالكتاب انّه لم يعِ تنصيصه على موت النبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلمّا سمع قوله تعالى:( إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ ) . ألقى السيف من يده، وسكنت فورته، وأيقن بوفاتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كمن لم يقرأ الآية الكريمة إلى حينه، وإن تقس موارد علمه بالكتاب ونصوصه قضيتَ منها العجب، وأعيتك الفكرة في مبلغ فهمه، وماذا الذي كان يُلهيه عن الخُبرة باصول الاسلام وكتابه؟ ولئن راجعت فيما يؤل إلى هذا الموقف (الجزء السادس) من هذا الكتاب رأيت العجب العجاب.

وليس من البعيد عنه أوّل رجل في الإسلام عند القوم الذي بلغ من القصور والجهل بالمبادي والخواتيم والأشكال والنتايج حدّاً لا يقصر عنه غمار الناس والعاديِّين منهم الذين أشرقت عليهم أنوار النبوَّة منذ بذوغها، ولعلّك تجد في الجزء السابع من هذا الكتاب ما يلمسك باليد يسيراً من هذه الحقايق.

وأنت إذن في غنىً عن استحفاء أخبار كثير من اولئك الأوَّلين الذين لا تعزب عنك أنبائهم في الفقه والحديث والكتاب والسنّة، فكيف بمثل معاوية الملتحق بالمسلمين في اُخريات أيّامهم؟ وكانت تربيته في بيت حافل بالوثنيّة، متهالك في الظلم والعدوان، متفانٍ في عادات الجاهليّة، ترفُّ عليه رايات العهارة وأعلام البغاء، وإذا قرع سمع أحدهم دعاءٌ إلى وحي أو هتافٌ بتنزيل جعل إصبعه في اُذنه، وراعته من ذلك خاطرةٌ جديدة لم يكن يتهجّس بها منذ آباءه الأوَّلين.

نعم: المعروفون بعلم الكتاب على عهد الصّحابة اناسٌ معلومون، وكانوا مراجع الامّة في مشكلات القرآن ومغازيه وتنزيله وتأويله كعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن - العبّاس، واُبيّ بن كعب، وزيد بن ثابت.

٣٥٠

وأمّا مولانا أمير المؤمنينعليه‌السلام فهو عِدل القرآن والعالم بأسراره وغوامضه، كما أنَّ عنده العلم الصحيح بكلِّ مشكلة، والحكم الباتّ عند كلّ قضيّة، والجواب الناجع عند كلِّ عويصة، وقد صحَّ عند الامّة جمعاء قوله الصادق المصدَّق صلوات الله عليه: سلوني قبل أن لا تسألوني، لا تسألوني عن آية في كتاب الله ولا سنّة عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا أنبأتكم بذلك. راجع الجزء السادس ص ١٩٣ ط ٢.

السنّة.

وماذا تحسب أن يكون نصيب معاوية من علم الحديث الذي هو سنَّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قوله وفعله وتقريره؟ لقد عرَّفنا موقفه منها قوله هو فيما أخرجه أحمد في مسنده ٤: ٩٩ من طريق عبد الله بن عامر قال: سمعت معاوية يحدِّث وهو يقول: إيّاكم وأحاديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا حديثاً كان على عهد عمر. لماذا هذا التحذير عن الأحاديث بعد أيّام عمر؟ ألأنّ الإفتعال والوضع كثرا بعده؟ أم لأنَّ الصحابة العدول الموثوق بهم على عهد عمر وما قبله منذ تصرّم العهد النبوي سُلبت عنهم الثقة بعد خلافة عمر؟ فكأنّهم ارتدّوا - العياذ بالله - بعده كذّابين وضّاعين، ولازمه الطعن في أكثر الأحاديث وعدم الاعتداد بمدارك الأحكام، لأنَّ شيئاً كثيراً منها انتشر بعد ذلك الأجل، وما كانت الدواعي والحاجة تستدعيان روايتها قبل ذلك، على أنَّ الجهل بتاريخ إخراجها، هل هو في أيّام عمر أو بعدها؟ يوجب سقوطها عن الإعتبار لعدم الثقة برواتها وروايتها؟ ولم تكن الرواة تُسجّل تاريخ ما يروونه حتّى يُعلم أنَّ أيّاً منها محُاطٌ بسياج الثقة، وأيّاً منها منبوذٌ وراء سورها.

وما خصوصيّة عهد عمر في قبول الرِّواية ورفضها؟ ألأنّ الحقايق تمحَّضت فيه؟ ومن ذا الذي محّضها، ام لأنّ التمحيص أفرد فيه الصحيح من السقيم؟ ومن ذا الذي فعل ذلك؟ أم أنَّ يد الأمانة قبضت على السنّة عندئذ، وعضّتها بالنواجذ حرصاً عليها، فلم يبق إلّا لبابها المحض؟ فمتى وقعت تلكم البدع والتافهات؟ ومتى بدِّلت السنن؟ ومتى غيّرت الأحكام؟ راجع الجزء السّادس وهلّم جرّاً.

ولعلَّ قول معاوية هذا في سنّة الرَّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كافٍ في قلّة اعتداده بها، أو أنّه كان ينظر إليها نظر مستخفّ بها، وكان يستهين بقائلها مرَّة، ويضرط لها إذا سمعها مرَّة

٣٥١

اُخرى، وينال من رواتها بقوارص طوراً، وينهى راويها عن الرواية بلسان بذيّ بكلّ شدَّة وحدَّة، إلى أشياء من مظاهر الهزء والسخريّة(١) فما ظنّك بمن هذا شأنه مع - السنّة الشريفة؟ فهل تُذعن له انّه يعبأ بها ويحتجُّ بها في موارد الحاجة، ويأخذها مدركاً عند عمله؟ أو ينبذها وراء ظهره؟ كما فعل ذلك في موارده ومصادره كلّها.

وإنَّ حداثة عهد معاوية بالاسلام وأخذه بالرِّوايات بعد كلِّ ما قدَّمناه، وما كان يُلهيه عن الإصاغة إليها طيلة أيّامه من كتابة وامارة وملوكيّة، وانَّ حياته في دور الإسلام كلّها كانت مستوعبة بظروب السياسة وإدارة شئون الملك والنزاع والمخاصمة دونه، فمتى كان يتفرَّغ لأخذ الرِّوايات وتعلّم السنن؟ ثمَّ من ذا الذي أخذ عنه السنّة؟ والصحابة جلّهم في منتأىً عن مبائته « الشام » ولم يكن معه إلّا طليقاً أعرابيّاً، أو يمانيّاً مستدرجاً، وهو يسيىء ظنّه بجملة الصحابة المدنيِّين حملة الأحكام ونقلة الأحاديث النبويّة ويقول بملأ فمه: إنّما كان الحجازيّون هم الحكاّم على الناس والحقُّ فيهم، فلمّا فارقوه كان الحكاّم على الناس أهل الشام(٢) وعلى أثر ظنّه السيِّئ وقوله الآثم كان يمنع هو وأمراءه عن الحديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما يظهر ممّا أخرجه الحاكم في المستدرك ٤: ٤٨٦ من قول عبد الله بن عمرو بن العاص لمـّا قاله نوف: أنت احقُّ بالحديث منّي أنت صاحب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنَّ هؤلاء قد منعونا عن الحديث يعني الاُمراء. وجاء في حديث: انَّ معاوية أرسل إلى عبد الله بن عمر فقال: لئن بلغني إنّك تحدِّث لأضربنَّ عنقك(٣) .

وعلى ذلك الظنّ أهدر دماء بقيّة السلف الصالح، وبعث بسر بن أرطاة إلى المدينة الطيِّبة فشنَّ الغارة على أهلها، فقتل نفوساً بريئة، وأراق دماء زكيَّة، واقتصَّ أثره من بعده جروه يزيد في واقعة الحرَّة، ومن يشابه أبه فما ظلم.

نظرة فى أحاديث معاوية

إنَّ لنا حقّ النظر في شتّى مناحي رواياته، لقد أخرج عنه أحمد في مسنده في الجزء الرابع ص ٩١ - ١٠٢ مائة وستّة أحاديث وفيها من المكرَّر.

____________________

١ - راجع تفصيل كل هذه فيما اسلفناه فى هذا الجزء ص ٢٨١ - ٢٨٤.

٢ - راجع صفحة ٣١٩ من هذا الجزء.

٣ - كتاب صفين لابن مزاحم ص ٢٤٨.

_٢٢_

٣٥٢

١ - حديث إذا أراد الله بعبده خيراً يفقّهه في الدِّين. كرَّره ست عشر مرَّة في ص ٩٢، ٩٢، ٩٣، ٩٣، ٩٣، ٩٣، ٩٣، ٩٥، ٩٦، ٩٦، ٩٧، ٩٨، ٩٨، ٩٩، ١٠١، ١٠١.

٢ - حديث تقصير شعر النبيّ بمشقص مكرَّرٌ عشر مرَّات في ص ٩٢، ٩٥، ٩٦، ٩٧، ٩٧، ٩٧، ٩٧، ٩٨، ١٠٢، ١٠٢.

٣ - حديث حكاية رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الأذان كرَّره سبع مرّات في ص ٩١، ٩٢، ٩٣، ٩٨، ٩٨، ١٠٠، ١٠٠.

٤ - حديث عقوبة شرب الخمر مكرَّرٌ خمس مرَّات في ص ٩٣، ٩٥، ٩٦، ٩٧ ١٠١.

٥ - حديث وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبي بكر وعمر جاء في ص ٩٦، ٩٧، ٩٧، ١٠٠.

٦ - حديث كبَّة الشعر يوجد في ص ٩١، ٩٤، ٩٥، ١٠١.

٧ - حديث مناشدته عن أحاديث جاء في ص ٩٢، ٩٥، ٩٦، ٩٩.

٨ - حديث صوم عاشوراء في ص ٩٥، ٩٦، ٩٧.

٩ - حديث حبّ الأنصار يوجد في ص ٩٦، ١٠٠، ١٠٠.

١٠ - حديث من أحبّ أن يمثَّل له قياماً في ص ٩١، ٩٣، ١٠٠.

١١ - حديث النهي عن لبس الذهب والحرير يوجد في ص ٩٦، ١٠٠، ١٠١.

١٢ - حديث منقبة المؤذّنين في ص ٩٥، ٩٨.

١٣ - حديث إنّما أنا خازن ص ٩٩، ١٠٠.

١٤ - حديث العمرى جائزة ص ٩٧، ٩٩.

١٥ - حديث سجدة السَّهو لكلّ منسيّ ص ١٠٠، ١٠٠.

١٦ - حديث التبعيّة في الرُّكوع والسجود ص ٩٢، ٩٨.

١٧ - حديث النهي عن ركوب الخزِّ والنمار ص ٩٣، ٩٣.

فالباقي من أحاديثه من غير تكرير سبعة وأربعون حديثاً، وهل تسدّ هي فراغ الإستنباط في أحكام الدين لأيِّ مجتهد؟ مع أنَّ فيها ما ليس من الأحكام مثل رواية انَّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبا بكر وعمر توفّي كلُّ منهم وهو ابن ثلاث وستين، وقوله: رأيت

٣٥٣

النبيَّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يمصُّ لسان الحسن. إلى أمثال ذلك.

ولقد آن لنا أن ننظر نظرةً اُخرى في غير واحد من متون أحاديثه فمنها:

١ - انَّ معاوية دخل على عائشة فقالت له: أما خفت أن أقعد لك رجلاً يقتلك؟ فقال: ما كنت لتفعليه وأنا في بيت أمان، وقد سمعت النبيَّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول. يعني: الايمان قيد الفتك. كيف أنا في الذي بيني وبينك وفي حوائجك؟ قالت: صالح قال: فدعينا وإيّاهم حتّى نلقى ربَّنا عزَّ وجلَّ. مسند أحمد ٤: ٩٢.

قال الأميني: إنّه ينمُّ عن انَّ امَّ المؤمنين كانت تستبيح دم الرَّجل بما ارتكبه من - الجرائم والمآثم، وسفك دماء زكيّة، ونفوس مُزهقة بريئة، حتّى انّها كانت ترى من المعقول السائغ أن تُقعد له رجلاً فيقتله، فأقنعها بأنَّه في بيت أمان، وداخل في ذمَّتها، وأنَّ ما بينه وبينها صالح، وأرجئ الموافاة للجزاء إلى يوم التلاقي بينه وبين الناس.

ويُستشفّ من هذه انّه لم يكن عند معاوية درأ لِما كانت امّ المؤمنين تنقمه عليه، وإلّا لكان للرجل أن يتشبَّث به في تبرير أعماله وتبرأة نفسه دون التافهات.

وإن تعجب فعجبٌ إقتناع امّ المؤمنين من معاوية بأنَّ بينه وبينها صالح، وإن لم يكن صالحاً بينه وبين الله، ولا صالحاً بينه وبينها لأنَّه قاتلُ أخيها « محمّد بن أبي بكر » وكان على عنق معاوية ذلك الدم الطاهر، وإن غضّت الطرف عنه اُختها لأنَّ بينه وبينها صالح، كما انّها غضت الطرف عن دم حُجر وأصحابه وهو من موبقات إبن آكلة الأكباد وطالما نقمت عليه ذلك وكانت توبّخه، لكن برّره ذلك الصالح بينهما بلا عقل ولا قود، وأمّا دم عثمان فما غضَّت عنه امّ المؤمنين مهما لم يكن بينهما وبين عليّعليه‌السلام صالح، وهل يحتجّ معاوية يوم القيامة في موقف العدل الإلهيِّ متى خاصمه محمّد وحُجر وأصحابه و آلاف من الصلحاء الأبرار ممّن سفك دمائهم بأنَّ بينه وبين عائشة صالح؟ وهل يفيده هذا الحجاج؟ أنا لا أدري.

أما كان لعائشة أن تفحم الرَّجل بأنّ الايمان لو كان قيد الفتك « وهو قيد الفتك » فلماذا لم يقيّده؟ وقد فتك بآلاف من وجوه المؤمنين، وأعيان الاُمّة المسلمة، ولم يأمن من فتكه أهل حرم أمن الله « مكّة » ولا مجاورو بيت أمانه « المدينة » ولعلَّ امّ المؤمنين كانت تنظر إلى إيمان الرّجل من وراء ستر رقيق ولم تجده ايماناً مستقرّاً - إن لم نقل

٣٥٤

انّها وجدته مستودعا - يقيّد صاحبه، ويسلم المسلمون بذلك من يده ولسانه، وقد صحَّ عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم(١) .

٢ - عن عباد بن عبد الله بن الزبير قال: لمـّا قدم علينا معاوية حاجّاً، قدمنا معه مكّة فصلّى بنا الظهر ركعتين، ثمَّ انصرف إلى دار الندوة، وكان عثمان حين أتمَّ الصَّلاة إذا قدم مكّة صلّى بها الظهر والعصر والعشاء الآخرة أربعاً أربعا، فإذا خرج إلى منى وعرفات قصَّر الصَّلاة، فإذا فرغ من الحجِّ وأقام بمنى أتمَّ الصَّلاة حتى يخرج من مكّة، فلمّا صلّى بنا الظهر ركعتين نهض إليه مروان بن الحكم وعمرو بن عثمان فقالا له: ما عاب أحدٌ ابن عمِّك بأقبح ما عبته به، فقال لهما: وما ذاك؟ قال: فقالا له: ألم تعلم أنّه أتمَّ الصلاة بمكّة؟ فقال لهما: ويحكما وهل كان غير ما صنعت؟ قد صلّيتهما مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومع أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، قالا: فإنَّ إبن عمّك قد كان أتمّها، وإنّ خلافك إيّاه له عيب، قال: فخرج معاوية إلى العصر فصلّاها بنا أربعاً. مسند أحمد ٤: ٩٤.

قال الأميني: أنا لا أدري انَّ الشائنة ها هنا تعود إلى فقه معاوية؟ أم إلى دينه؟ حيث يتعمَّد الإتمام حيثما قصَّر فيه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واتّخذته الامَّة سنَّة متَّبعة وفيهم أبو بكر وعمر، وقد صحَّ عن عبد الله مرفوعاً: الصّلاة في السفر ركعتان من خالف السنّة فقد كفر. لكن الرَّجل خالف الجميع، وجابه حكم الرَّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نزولاً منه إلى رغبة مروان الطريد بن الطريد، وعمرو بن عثمان؟ صوناً لسمعة ابن عمّه عثمان مبتدع هذه الاُحدوثة فإن كان هذا فقه الرجل في الحديث؟ فمرحاً بالفقاهة، أو أنَّ ذلك مبلغه من الدين؟ فبعداً له في موقف الديانة.

راجع الجزء الثامن ص ١٠٠ - ١٢٢، ٢٦٩ ط ١.

٣ - عن الهنائي قال: كنت في ملأ من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند معاوية، فقال معاوية: انشدكم الله أتعلمون أنَّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى عن لبس الحرير؟ قالوا: أللهمَّ نعم.

إلى أن قال:

____________________

١ - أخرجهما البخارى ومسلم وأحمد والترمذى والنسائى وابن حبان والطبرانى وابن داود. راجع فيض القدير ١: ٢٧٠.

٣٥٥

قال: انشدكم الله تعالى أتعلمون أنَّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى عن الجمع بين حجّ و عمرة؟ قالوا: أمّا هذا فلا؟ قال: أما انَّها معهنَّ.

وفي لفظ:

قال: وتعلمون أنّه نهى عن المتعة - يعني متعة الحجِّ - قالوا: ألّلهم لا.

راجع المسند ٤ ص ٩٢، ٩٥، ٩٩.

قال الأميني: هذا معطوفٌ على ما قبله، فإنَّ حرص الرَّجل على إحياء البدع تجاه السنَّة النبويّة الثابتة، أوقفه هاهنا موقف المكابر المعاند، فقد أسلفنا في الجزء السادس ص ١٨٤ - ١٩١، ٢٠٠ - ٢٠٦: إنَّ متعة الحجِّ نزل بها القرآن الكريم ولم ينسخ حتى قضى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نحبه، وكان عليها العمل أيّام أبي بكر وصدراً من أيّام عمر حتى منع عنها. وعليه فاقتصاص معاوية أثر ذلك المحرِّم « بالكسر » يجلب الطعن إمّا في فقهه هو وجهله بالسنَّة، أو في دينه، والجمع أولى، والثَّاني أقرب إليه.

٤ - من طريق حمران يحدَّث عن معاوية قال: إنّكم لتصلّون صلاة لقد صحبنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فما رأيناه يصلّيها، ولقد نهى عنهما، يعني الركعتين بعد العصر. ج ٤: ٩٩، ١٠٠.

قال الأميني: عرفت - في الجزء السادس ص ١٧٠ - ١٧٣ - انَّ الصَّلاة بعد العصر كانت مطّردة على العهد النبويِّ يُصلّيها هوصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يكن يدعهما سرّاّ ولا علانية، وما تركهما حتّى لقي الله تعالى، وصلّاهما أصحابه إلى أن منع عنها عمر، واحتجّت الصحابة عليه بأنّها سنَّة ثابتة، ولا تبديل لسنَّة الله، غير أنَّ الرجل لم يصخ إلى قولهم، وطفق يمضي وراء اُحدوثته، وجاء معاوية وقد زاد في الطنبور نغمة، وعزى إلى رسول الله النّهي عنهما، وهل هذا مقتضى جهله بالسنّة؟ أو مبلغه من الفقه والدين؟ فاسمع القول، واقض بالحقِّ لك أو عليك.

٥ - من عدَّة طرق عن معاوية مرفوعاً: من شرب الخمر فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه، فان عاد فاجلدوه، فإن عاد الرابعة فاقتلوه.

أخرجه في ج ٤: ٩٣، ٩٥، ٩٦، ٩٧، ١٠١.

٣٥٦

قال الأميني: إنِّي واقف هاهنا موقف التحيُّر، ولا أدري هل كان معاوية عاملاً بمفاد هذا الحديث يوماً من أيّامه اُبّان خلافته وإمارته وقبلهما؟ أو كان يناقضه كمناقضته بكثير من الأحكام؟ ولإن كان خاضعاً لما فيه من الحكم الباتِّ لَما حُملت إليه روايا الخمر قطاراً، وَلما حملها إليه حماره الذي كان يصاحبه، ولا ادَّخرها في حجرته، ولا اتّخذ متجراً لبيعها، ولا شربها هو، ولا يعربد بشعره فيما وهو سكران، ولا قدَّمها إلى وفوده، ولا استخلف جروه السكّير بمرئى منه ومسمع، ولا أضاع حدَّ الله على مَن يشربها وينتشي بها، وحديث معاوية هذا مع جودة سنده واخراج مثل أحمد والترمذي وأبي داود إيّاه لم يأخذ به وبمفاده أحدٌ من أئمّة الفقه وضربوا عنه صفحاً لتفرّد معاوية بروايته وهو لا يؤتمن على حديثه. هذا موقفه مع السنّة التي اتّخذها هو عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على قلّتها، فما ظنّك بالكثير الذي لم يبلغه منها.

٦ - عن أبي إدريس قال: سمعت معاوية وكان قليل الحديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يقول: كلُّ ذنب عسى الله أن يغفره إلّا الرَّجل يموت كافراً أو الرَّجل يقتل مؤمناً متعمّداً. المسند ٤: ٩٩.

وقد جاء كما يأتي في الجزء الحادي عشر من كتاب له كتبه إلى عليّ أمير المؤمنينعليه‌السلام : وإنِّي سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: لو تمالأ أهل صنعاء وعدن على قتل رجل و احد من المسلمين لأكبّهم الله على مناخرهم في النار.

قال الأميني: هل هذان الحديثان اللّذان رواهما معاوية حجّة له أو عليه؟ والحقيقة جليّةٌ لا يخفيها ستار، فإنّك جدُّ عليم بالذي باء بإثم تلكم الدماء المهراقة منذ يوم صفّين، وبعده ريثما تُتاح له الفرص مع مهبِّ الريح، وتحت كلّ حجر ومدر، وعلى الروابي والثنيّات، وعدد الرَّمل والحصى، عند كلّ هاتيك دمٌ مسفوكٌ، ونفسٌ مزهقة، وأوصالٌ مفصولةٌ، وحرماتٌ مهتوكةٌ وهل شيىءٌ من تلكم البوائق يُباح بآية من الكتاب؟ أو يبرَّر بسنّة صحيحة؟ أو يحبذ بشيىء من معاقد إجماع المسلمين؟ وهل هناك قياسٌ ينتهي إلى شيىء من هذه المبادئ الاجتهاديّة؟ وهل معاوية يُحسن شيئاً منها أو يُتقنها؟: وأين وأنّى له الرأي والاجتهاد؟ أو هو مجرمٌ جاهلٌ، وباغ

٣٥٧

ظلومٌ، وثان الخليفتين اللذين بويعا في عهد، فيجب قتال هذا، وقتل ذاك، بالنصوص النبويّة، فلا يرقب فيه إلٌّ ولا ذمّة، فلا ذمّة لمهدور الدَّم، ولا حرمة لمن يجب إعدامه في الشريعة، أين هو والخلافة؟ حتّى يستبيح الدِّماء الزاكية دون شهواته ومطامعه، وهل تدري أيَّ دماء سفكها؟ وأيَّ حرمات إنتهكها؟ نعم: إقترف بها إراقة دماء المهاجرين والأنصار من الصحابة العدول والتابعين لهم بإحسان، وباء بإثم دماء البدريِّين ومئات من أهل بيعة الشجرة الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه، وفيهم مثل عمّار الذي قتلته الفئة الباغية - فئة معاوية -، وخزيمة بن ثابت ذي الشهادتين، وثابت بن عبيد الأنصاري، وأبي الهيثم مالك بن التيهان، وأبي عمرة بشر الأنصاري، وأبي فضالة الأنصاري كلُّ هؤلاء من البدريِّين، وفيهم حُجر بن عدي راهب أصحاب محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وثَمّ البطل المجاهد مالك بن الحارث الأشتر النخعي، والعابد الصّالح محمّد بن أبي بكر.

وقبل هذه كلّها استبشاره بدم الإمام المقدَّس الخليفة عليه وعلى الاُمّة جمعاء مولانا أمير المؤمنين، وسروره بذلك، وعدُّه ذلك من لطيف صنع الله.

وما ظنّك بمجرم يكون عنده دم الإمام السبط الزكيّ أبي محمّد الحسنعليه‌السلام بدسِّ السمِّ إليه؟! وقد استبشر لمـّا باء بإثمه، وناء بجرمه، فسيؤاخذ بما رواه عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذه كلّها.

٧ - من طريق أبي صالح عن معاوية مرفوعاً: من مات بغير إمام مات ميتة جاهليَّة. المسند للامام أحمد ٤: ٩٦.

قال الأميني: هاهنا نسائل أنصار معاوية وأودَّاءه عن أنَّ أيَّ موتة مات هو بها، وعن أيِّ إمام مات وعلى عنقه بيعته؟ ومَن الذي اخترم الرَّجل وقد طوَّقته ولايته؟ وهل كان هناك إمامٌ يجب طاعته وبيعته بالنصِّ والاجماع غير مولانا أمير المؤمنينعليه‌السلام يوم بارزه وكاشفه؟ وألقح دون مناوئته الحرب الزبون، ونازعه في أمر الخلافة، وخلع ربقة الإسلام من عنقه، أو يوم استبشر بقتل الإمامعليه‌السلام وهي الطامّة الكبرى؟ و المصاب بها خاتم الأنبياءصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . أو يوم افتجعت به الصدِّيقة الكبرى فاطمة بشظيّة قلبها الإمام السبط المجتبى بسمّ من معاوية مدسوس إليه؟ فهل بايعه يومئذ وهو خليفة

٣٥٨

الوقت بالجدارة والنصِّ وإجماع لا يستهان به من بقايا رجال الحلِّ والعقد؟ أو انّه ناوئه في الأمر وغدر به وكاده؟ لمـّا ظهر من أجناده الخوَر والفشل، وقلّبوا على إمام الحقِّ ظهر المجنّ، وحدت بهم المطامع والميول إلى أن يسلّموه لمعاوية إن قامت الحرب على أشدِّها، فالتجأ الإمام إلى الصُّلح صوناً لدماء شيعته، وإبقاءً على حياة ذوية.

فهل كان معاوية طيلة هذه المدد في ذُكر من روايته هذه؟ وهل علم أنّه طوى تلكم السنين وليس في عنقه بيعةٌ لإمام؟ وانّه لا يحلّ لمسلم أن يبيت ليلتين ليس في عنقه لإمام بيعة؟(١) وانّه إن مات والحالة هذه مات ميتة جاهليَّة؟ أو انّه كان يرى من فقهه استثناءه من هذه الكليّة التي لم يستثن منا الرَّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحداً؟ أو انَّ جهله بالأحكام وبنفسه كان يُطمعه في أن يكون هو الخليفة المبايع له، والمطاع بأمر الله ورسوله؟ وهيهات له ذلك، وهو طليق ابن طليق، ولم يؤهِّله لها علمٌ ولا حنكة، ولا نصُّ ولا اجماع، إلّا شَرهٌ مُنهِّم، وطمعٌ زائغ، وحلومٌ مُطاشة، أو أنَّ الرَّجل كان لم يكترث لأن يموت ميتة جاهليّة على ولاية سواع وهبل؟

لفت نظر:

إنَّ حديث معاوية: من مات بغير إمام مات ميتة جاهليّة. أخرجه الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد ٥: ٢١٨، وأبو داود الطيالسي في مسنده ص ٢٥٩ من طريق عبد الله ابن عمر وزاد: ومن نزع يداً من طاعة جاء يوم القيامة لا حجّة له.

وهذا الحديث معتضدٌ بألفاظ اُخرى من طرق شتّى منها:

قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهليّة.

أخرجه مسلم في صحيحه ٦: ٢٢، والبيهقي في سننه ٨: ١٥٦، وابن كثير في تفسيره ١: ٥١٧، والحافظ الهيثمي في المجمع ٥: ٢١٨، واستدلّ بهذا اللفظ شاه وليّ الله في إزالة الخفاء ١ ص ٣ على وجوب نصب الخليفة على المسلمين إلى يوم القيامة وجوباً كفائيّاً.

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : مَن مات وليس عليه طاعة مات ميتة جاهليّة.

أخرجه أحمد في مسنده ٣: ٤٤٦، والهيثمي في المجمع ٥: ٢٢٣.

____________________

١ - المحلى لابن حزم ٩: ٣٥٩.

٣٥٩

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهليّة.

ذكره التفتازاني في شرح المقاصد ٢: ٢٧٥ وجعله لِدة قوله تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ) في المفاد. وبهذا اللفظ ذكره التفتازاني ايضاً في شرح عقائد النسفي المطبوع سنة ١٣٠٢ غير انّ يد الطبع الأمينة على ودايع العلم والدين حرَّفت من الكتاب في طبع سنة ١٣١٣ سبع صحائف يوجد فيها هذا الحديث. وحكاه الشيخ علي القاري صاحب المرقاة في خاتمة الجواهر المضيّة ٢: ٥٠٩، وقال في ص ٤٥٧: وقولهعليه‌السلام في صحيح مسلم من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهليّة. معناه: من لم يعرف من يجب عليه الإقتداء والإهتداء به في أوانه.

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات مات ميتة جاهليّة.

أخرجه مسلم في صحيحه ٦: ٢١، والبيهقي في سننه ٨: ١٥٦، وذكر في تيسير الوصول ٣: ٣٩ نقلاً عن الصحيحين للشيخين من طريق أبي هريرة.

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من فارق الجماعة شبراً فمات فميتة جاهليّة.

أخرجه مسلم في صحيحه ٦: ٢١.

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من مات ولا إمام له مات ميتة جاهليَّة.

ذكره أبو جعفر الاسكافي في خلاصة نقض كتاب العثمانيّة للجاحظ ص ٢٩، و ذكره الهيثمي في المجمع ٥: ٢٢٤، ٢٢٥ بلفظ: من مات وليس عليه إمام فميتته ميتة جاهليّة.

وبلفظ: من مات وليس عليه إمام مات ميتة جاهليّة.

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من مات وليس لامام جماعة عليه طاعة مات ميتة جاهليّة.

أخرجه الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد ٥: ٢١٩.

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من أتاه من أميره ما يكرهه فليصبر، فانَّ من خالف المسلمين قيد شبر ثمَّ مات مات ميتة الجاهليّة. شرح السير الكبير ١: ١١٣.

هذه حقيقةٌ راهنة أثبتتها الصحاح والمسانيد فلا ندحة عن البخوع لمفادها، ولا يتمّ اسلام مسلم إلّا بالنزول لمؤدّاها، ولم يختلف في ذلك إثنان، ولا انّ أحداً خالجه في ذلك شكّ، وهذا التعبير ينمُّ عن سوء عاقبة من يموت بلا إمام وانّه في منتئىً عن أيِّ

٣٦٠