الغدير في الكتاب والسنة والأدب الجزء ١٠

الغدير في الكتاب والسنة والأدب0%

الغدير في الكتاب والسنة والأدب مؤلف:
الناشر: دارالكتب الإسلامية
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 389

الغدير في الكتاب والسنة والأدب

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة الشيخ الأميني
الناشر: دارالكتب الإسلامية
تصنيف: الصفحات: 389
المشاهدات: 57844
تحميل: 2043


توضيحات:

الجزء 1 المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11
المقدمة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 389 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 57844 / تحميل: 2043
الحجم الحجم الحجم
الغدير في الكتاب والسنة والأدب

الغدير في الكتاب والسنة والأدب الجزء 10

مؤلف:
الناشر: دارالكتب الإسلامية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

إنّما هو لمن صدَّق هذا الإسم بعمله للسنّة والمخالفون ملوك وإنَّما تسمّوا بالخلفاء.ا ه.

ولابن حجر حول الحديث كلمة أسلفناها في ص ٢٤ من هذا الجزء.

قال الأميني: ألا تعجب من ابن خليفة شبَّ ونمى وترعرع وشاخ في عاصمة الدين، في محيط وحي الله، في دار النبوَّة والرسالة، في مدرسة الإسلام الكبرى، بين ناشئة الصحابة وفي حجور مشيختهم، بين اُمَّة عالمة استقى العالم من نمير علمهم، واهتدى الخلائق بنور هداهم، وبقي هذا الإنسان في ظلمة الجهل إلى اُخريات أيّام معاوية، وعاش خمسين سنة بإجارة محرّمة، وشدّ بها عظمه ومخّه، ونبت بها لحمه وجلده، حتّى حداه إلى السنّة رافع بن خديج الذي لم يكن من مشيخة الصحابة وقد استصغره رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم بدر؟ وكانت السنّة في المحاقلة والمخابرة تُروى في لسان الصحابة، وفي بعض الفاظه شدّةٌ ووعيد مثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حديث جابر: من لم يذر المخابرة فليؤذن بحرب من الله ورسوله (١) وجاءت هذه السنّة في الصحاح والمسانيد باسانيد تنتهي إلى جابر بن عبد الله، وسعد بن أبي وقاص، وأبي هريرة، وأبي سعيد الخدري، وزيد بن ثابت (٢) .

وليت ابن عمر بعد ما علم الحظر فيما أشبع به طيلة حياته نهمته - وطبع الحال انّه كان يعلّم بذلك ويرشد ويهدي أو يهلك ويغوي، وكان غيره يقتصّ أثره لأنّه ابن فقيه الصحابة وخليفتهم الذي أوعزنا إلى موارد من فقهه وعلمه في نوادر الأثر في الجزء السادس - كان يسأل عن فقهاء الاُمَّة أو عن خليفته معاوية عن حكم المال المأخوذ المأكول بالعقد الباطل.

أليس من الغلوِّ الفاحش أو الجناية الكبيرة على المجتمع الدينيّ أن يُعدّ هذا الإنسان من مراجع الاُمَّة وفقهائها وأعلامها ومستقى علمها وممَّن يحتجّ بقوله و فعله؟ وهل كان هو يعرف من الفقه موضع قدمه؟ أنا لا أدري.

( ومنها ) : ما أخرجه الدارقطني في سننه من طريق عروة عن عائشة أنَّه بلغها قول ابن عمر: في القُبلة الوضوء. فقالت: كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقبِّل وهو صائمٌ ثمَّ

____________________

١ - سنن البيهقى ٦: ١٢٨.

٢ - راجع سنن النسائى ٣: ٥٢، سنن البيهقى ٦: ١٢٨ - ١٣٣.

٤١

لا يتوضّأ. [الإجابة للزركشي ص ١١٨].

( ومنها ) : قوله في المتعة، والبكاء على الميِّت، وطواف الوداع على الحائض، والتطيّب عند الإحرام. وستوافيك أخبارها.

ويُعرب عن مبلغ الرجل من فقه الإسلام ما ذكره ابن حجر في فتح الباري ٨: ٢٠٩ من قوله: ثبت عن مروان انَّه قال لمـّا طلب الخلافة فذكر واله ابن عمر فقال: ليس ابن عمر بأفقه منّي ولكنَّه أسنّ منّي وكانت له صحبة.

فما شأن امرء يكون مروان أفقه منه؟

ولعلّ نظراً إلى هذه وما يأتي من نوادر الرجل أو بوادره في الفقه ترى ابراهيم النخعي لمـّا ذُكر له ابن عمر وتطيّبه عند الإحرام قال: ما تصنع بقوله؟(١) وقال الشعبي: كان ابن عمر جيِّد الحديث ولم يكن جيِّد الفقه كما رواه ابن سعد في الطبقات الكبرى ٨٩١ رقم التسلسل.

هذا رأي الشعبي وأمّا نحن فلا نفرّق بين فقه الرجل وحديثه وكلاهما شرع سواء غير جيّدان، بل حديثه أردى من فقهه، وردائة فقهه من ردائة حديثه، وكأنّ الشعبي لم يقف على شواهد سوء حفظه أو تحريفه الحديث فإليك نماذج منها:

١ - أخرج الطبراني من طريق موسى بن طلحة قال: بلغ عائشة انَّ ابن عمر يقول: انّ موت الفجأة سخطٌ على المؤمنين. فقالت: يغفر الله لابن عمر إنّما قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : موت الفجاءة تخفيفٌ على المؤمنين وسخطٌ على الكافرين. الإجابة للزركشي ص ١١٩.

٢ - أخرج البخاري من طريق ابن عمر قال: وقف النبيُّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على قليب بدر فقال: هل وجدتم ما وعدكم ربّكم حقّا؟ ثمَّ قال: إنَّهم الآن يسمعون ما أقول فذكر ذلك لعائشة فقالت: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّهم ليعلمون الآن ما كنت أقول لهم حقٌّ.

وفي لفظ أحمد في مسنده ٢: ٣١: وقف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على القليب يوم بدر فقال: يا فلان؟ يا فلان؟ هل وجدتم ما وعدكم ربُّكم حقّاً؟ أما والله انَّهم الآن ليسمعون كلامي. قال يحيى: فقالت عائشة: غفر الله لأبي عبد الرّحمن انّه وهم، انّما قال رسول

____________________

١ - صحيح البخارى ٣: ٥٨، تيسير الوصول ١: ٢٦٧.

٤٢

اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : والله انَّهم ليعلمون الآن انَّ الذي كنت أقول لهم حقّاً، وإنَّ الله تعالى يقول: إنَّك لا تُسمع الموتى وما أنت بمسمع مَن في القبور.

٣ - روى الحكيم الترمذي في نوادر الاصول من طريق ابن عمر قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اهتزّ العرش لموت سعد بن معاذ. قال أبو عبد الله: فتأوَّل ناسٌ في هذا الحديث وقالوا: العرش سريره الذي حمل عليه، واحتجّوا بحديث رووه عن ابن عمر انَّه تأوَّله، كذا حدَّثنا الجارود قال: حدَّثنا جرير عن عطاء بن السائب عن مجاهد عن ابن عمر قال: ذُكر يوماً عنده حديث سعد: انّ العرش يهتزُّ بحبِّ الله لقاء سعد قال ابن عمر: إنَّ العرش ليس يهتزُّ لموت أحد ولكنّه سريره الذي حمل عليه. قال: فهذا مبلغ ابن عمر رحمه الله من علم ما اُلقي اليه من ذلك، وفوق كلِّ ذي علم عليم. انتهى.

وأخرجه الحاكم في المستدرك ٣: ٦٠٦ ولفظه: قال ابن عمر: اهتزَّ لحبِّ لقاء الله العرش. يعني السرير قال: ورفع أبويه على العرش. تفسَّخت أعواده.

وأنت تعرف سخافة هذا التأويل ممّا أخرجه البخاري والحاكم في المستدرك من طريق جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: اهتزّ عرش(١) الرّحمن لموت سعد بن معاذ. فقال رجلٌ لجابر: فإنَّ البراء يقول: اهتزّ السرير. فقال إنّه كان بين هذين الحيّين الأوس والخزرج ضغائن سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: اهتزّ عرش الرّحمن لموت سعد بن معاذ(٢) . وأخرجه مسلم بلفظ: اهتزّ عرش الرَّحمن(٣) .

وفي فتح الباري ٧: ٩٨: قد جاء حديث اهتزاز العرش لسعد بن معاذ عن عشرة من الصحابة أو أكثر وثبت في الصحيحين فلا معنى لإنكاره.

٤ - في كتاب « الإنصاف » لشاه صاحب: روى ابن عمر عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من انَّ الميِّت يعذّب ببكاء أهله عليه فقضت عائشة عليه بانَّه لم يأخذ الحديث على وجهه، مرَّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على يهوديّة يبكي عليها أهلها فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنَّهم يبكون عليها، وانِّها تعذَّب في قبرها.

وظنَّ - ابن عمر - العذاب معلولاً بالبكاء، وظنَّ الحكم عامّاً على كلِّ ميّت.

____________________

١ - فصل ابن حجر القول فى معنى الحديث فى فتح البارى ٧: ٩٧، ٩٨.

٢ - صحيح البخارى فى المناقب ج ٦: ٣، مستدرك الحاكم ٣: ٢٠٧.

٣ - صحيح مسلم ٧: ١٥٠.

٤٣

وأخرج أحمد في المسند ٦: ٢٨١ عن عائشة انَّه بلغها انَّ ابن عمر يحدِّث عن أبيه انّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: الميت يعذّب ببكاء أهله عليه. فقالت: يرحم الله عمر و ابن عمر فوالله ما هما بكاذبين ولا مكذبين ولا متزيّدين انّما قال ذلك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في رجل من اليهود ومرَّ بأهله وهم يبكون عليه فقال: إنّهم ليبكون عليه وانّ الله عزّ وجل ليعذّبه في قبره. ولأحمد في مسنده لفظ آخر يأتي بعد بضع صحائف من هذا الجزء.

أسلفنا الحديث نقلاً عن عدّة صحاح ومسانيد في الجزء السادس ص ١٥١ ط ١ وفصّلنا هنالك القول حول المسئلة.

٥ - أخرج البخاري في كتاب الأذان من صحيحه ج ٢: ٦ عن عبد الله بن عمر انَّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: إنّ بلالاً يؤذّن بليل فكلوا واشربوا حتّى ينادي ابن امّ مكتوم.

هذا الحديث ممّا استدركت به عائشة على ابن عمر وكانت تقول: غلط ابن عمر وصحيحه إنّ ابن مكتوم ينادي بليل فكلوا واشربوا حتَّى يؤذِّن بلال، وبهذا جزم الوليد وكذا أخرجه ابن خزيمة وابن المنذر وابن حبّان من طرق عن شعبة، وكذلك أخرجه الطحاوي والطبراني من طريق منصور بن زاذان عن خبيب بن عبد الرَّحمن.

وفي لفظ البيهقي في سننه ١: ٣٨٢: قالت عائشة: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ ابن مكتوم رجلٌ أعمى فإذا أذَّن فكلوا واشربوا حتّى يؤذِّن بلال. قالت: وكان بلال يبصر الفجر، وكانت عائشة تقول غلط ابن عمر.

وقال ابن حجر: ادَّعى ابن عبد البرّ وجماعةٌ من الأئمّة بأنّه مقلوبٌ وانّ الصواب حديث الباب - يعني لفظ البخاري - وقد كنت أميل إلى ذلك إلى أن رأيت الحديث في صحيح ابن خزيمة من طريقين آخرين عن عائشة، وفي بعض ألفاظه ما يبعد وقوع الوهم فيه وهو قوله: إذا أذَّن عمرو فإنّه ضرير البصر فلا يغرنّكم، وإذا أذّن بلال فلا يطعمن أحدٌ. وأخرجه أحمد(١) وجاء عن عائشة أيضاً: انّها كانت تنكر حديث ابن عمر وتقول: إنّه غلط، أخرج ذلك البيهقي من طريق الدراوردي عن هشام عن أبيه عنها فذكر الحديث وزاد قالت عائشة: وكان بلال يبصر الفجر. قال: وكانت عائشة تقول:

____________________

١ - فى المسند ٦: ١٨٦.

٤٤

غلط ابن عمر. فتح الباري ٢: ٨١.

٦ - أخرج أحمد في مسنده ٢: ٢١ من طريق يحيى بن عبد الرَّحمن بن حاطب قال قال عبد الله بن عمر: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الشهر تسع وعشرون وصفق بيديه مرّتين ثمَّ صفق الثالثة وقبض إبهامه. فقالت عائشة: غفر الله لأبي عبد الرَّحمن انّه وهم، إنّما حجر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نساءه شهراً فنزل لتسع وعشرين فقالوا: يا رسول الله! إنّك نزلت لتسع وعشرين فقال: انّ الشهر يكون تسعاً وعشرين. وفي ص ٥٦: فقيل له فقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ): إنّ الشهر قد يكون تسعاً وعشرين. ورواه أبو منصور البغدادي ولفظه: اُخبرت عائشة رضي الله عنها بقول ابن عمر رضي الله عنه: إنّ الشهر تسع وعشرون فانكرت ذلك عليه وقالت: يغفر الله لأبي عبد الرَّحمن ما هكذا قال رسول الله ولكن قال: إنّ الشهر قد يكون تسعاً وعشرين ( الإجابة للزركشي ص ١٢٠ ).

كان ابن عمر يعمل بوهمه هذا ويرى كلَّ شهر تسعاً وعشرين يوماً وكان يقول: قال رسول الله: الشهر تسع وعشرون، وكان إذا كان ليلة تسع وعشرين وكان في السّماء سحابٌ أو قتر أصبح صائماً(١)

٧ - أخرج الشيخان من جهة نافع قال: قيل لابن عمر: إنَّ أبا هريرة يقول: سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: مَن تبع جنازة فله قيراط من الأجر. فقال ابن عمر: أكثر علينا أبو هريرة فبعث إلى عائشة فسألها فصدَّقت أبا هريرة فقال ابن عمر: لقد فرطنا في قراريط كثيرة.

وأخرج مسلم من طريق عامر بن سعد بن أبي وقاص إنَّه كان قاعداً عند عبد الله ابن عمر إذ طلع خباب صاحب المقصورة فقال: يا عبد الله بن عمر: ألا تسمع ما يقول أبو هريرة؟ إنّه سمع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: مَن خرج مع جنازة من بيتها وصلّى عليها ثمّ تبعها حتى دُفن كان له قيراطان من أجر، كلُّ قيراط مثل اُحد، ومَن صلّى عليها ثمّ رجع كان له من الأجر مثل اُحد، فأرسل ابن عمر خبّاباً إلى عائشة يسألها عن قول أبي هريرة ثمّ يرجع إليه فيخبره بما قالت، وأخذ ابن عمر قبضة من حصى المسجد يقلّبها في يده حتّى رجع إليه الرّسول فقال: قالت عائشة: صدق أبو هريرة. فضرب

____________________

١ - مسند أحمد ٢: ١٣.

٤٥

ابن عمر بالحصى الذي كان في يده الأرض وقال: لقد فرطنا في قراريط كثيرة(١) .

ولعلَّ الباحث لا يشكُّ إذا وقف على هذه الرِّوايات وأمثالها في أنَّ رواية ابن عمر لا تقلُّ عن فقاهته في الردائة، ومن هذا شأنه في الفقه والحديث لا يعبأ به وبرأيه ولا يوثق بحديثه.

رأى ابن عمر في القتال والصَّلاة

( ومنها ) : أخرج ابن سعد في الطبقات الكبرى ٤: ١١٠ ط ليدن عن ابن عمر انّه كان يقول: لا اُقاتل في الفتنة واُصلّي وراء مَن غلب. وقال ابن حجر في فتح الباري ١٣: ٣٩: كان رأي ابن عمر ترك القتال في الفتنة ولو ظهر انّ إحدى الطائفتين محقّة والاُخرى مبطلة.

وقال ابن كثير في تاريخه ٩: ٥: كان في مدّة الفتنة لا يأتي أميراً إلّا صلّى خلفه، وأدّى إليه زكاة ماله.

يُترائا هاهنا من وراء ستر رقيق تترُّس ابن عمر باُغلوطته هذه عن سُبّة تقاعده عن حرب الجمل وصفّين مع مولانا أمير المؤمنين، ذاهلاً عن انّ هذه جناية اُخرى لا يُغسل بها دنس ذلك الحوب الكبير، متى كانت تلكم الحروب فتنة حتّى يتظاهر ابن عمر تجاهها بزهادة جامدة لاقتناص الدهماء؟ والأمر كما قال حذيفة اليماني ذلك الصحابي العظيم: لا تضرّك الفتنة ما عرفت دينك، إنّما الفتنة إذا اشتبه عليك الحقُّ والباطل(٢) أوَ كان ابن عمر بمنتأى عن عرفان دينه؟ أو كان على حدّ قوله تعالى: يعرفون نعمة الله ثمَّ ينكرونها؟ وهل كان ابن عمر لم يعرف من القرآن قوله تعالى:( وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَىٰ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ) (٣) وقد أفحمه رجلٌ عراقيّ بهذه الآية وحيّره فلم يحر ابن عمر جواباً غير أنّه تخلّص منه بقوله: مالك ولذلك؟ إنصرف عنّي. وسيوافيك تمام الحديث.

هلّا كان ابن عمر بان له الرشد من الغيّ، ولم يك يشخّص الحقَّ من الباطل؟

____________________

١ - صحيح البخارى ٢: ٢٣٩، صحيح مسلم ٣: ٥٢، ٥٣.

٢ - فتح البارى ١٣: ٤٠.

٣ - سورة الحجرات. آية ٩.

٤٦

وهلّا كان يعرف الباغية من الفئتين؟ وهل كان يزعم بأنَّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخبر عن الفتن بعده وإنّها تغشى امّته كقطع الليل المظلم(١) وترك الامّة مغمورة في مدلهمّاتها، هالكة في غمراتها، ولم يعبّد لها طريق النجاة، وما رشّدها إلى مهيع الحقّ، ولم ينبس عمّا ينجيها ببنت شفة؟ حاشى نبيُّ الرَّحمة عن ذلك، وهوصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يُبق عذراً لأيّ أحد من عرفان الباغية من الطائفتين في تلكم الحروب، ولم يك يخفى حكمها على أيّ دينيّ قال مولانا أمير المؤمنين: لقد أهمّني هذا الأمر وأسهرني، وضربت أنفه وعينيه فلم أجد إلّا القتال أو الكفر بما أنزل الله على محمّد صلّى الله عليه، إنّ الله تبارك وتعالى لم يرض من أوليائه أن يُعصى في الأرض وهم سكوتٌ مذعنون، لا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر، فوجدت القتال أهون عليَّ من معالجة الأغلال في جهنم(٢) .

أكان في اُذن ابن عمر وقرٌ عن سماع ذلك الهتاف القدسيِّ بمثل قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعائشة: كأنّي بك تنبحك كلاب الحوأب تقاتلين عليّاً وأنتِ له ظالمة.

وقوله لزوجاته: كأنِّي بأحداكنَّ قد نبحها كلاب الحوأب، وإيِّاك أن تكوني أنت يا حميراء.

وقوله لها: انظري أن لا تكوني أنت.

وقوله للزبير: انّك تقاتل عليّاً وأنت ظالمٌ له.

وقوله: سيكون بعدي قومٌ يقاتلون عليّاً على الله جهادهم، فمن لم يستطع جهادهم بيده فبلسانه، فمن لم يستطع بلسانه فبقلبه، ليس وراء ذلك شيءٌ. [حقّاً جاهد ابن عمر في الخلاف على قول رسول الله هذا بلسانه وقلبه ما استطاع].

وقوله لعليّ: يا عليٌّ ستقاتل الفئة الباغية وأنت على الحقِّ، فمن لم ينصرك يومئذ فليس منِّي.

وقوله له: ستقاتل بعدي الناكثين والقاسطين والمارقين.

وقوله له: أنت فارس العرب وقاتل الناكثين والمارقين والقاسطين.

وقوله لاُمّ سلمة لمـّا رأى عليّاً: هذا والله قاتل القاسطين والناكثين والمارقين من بعدي.

____________________

١ - صحيح الترمذى ٩: ٤٩، مستدرك الحاكم ٤: ٤٣٨، ٤٤٠، كنز العمال ٦: ٣١، ٣٧.

٢ - كتاب صفين ص ٥٤٢.

٤٧

وعهده إلى عليّعليه‌السلام أن يقاتل بعده القاسطين والناكثين والمارقين(١) .

وقوله لأصحابه: إنَّ فيكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله قال أبو بكر: أنا هو يا رسول الله؟ قال: لا. قال عمر: أنا هو يا رسول الله؟ قال: لا، ولكن خاصف النعل. وكان أعطى عليّاً نعله يخصفها(٢) .

وقوله لعمّار بن ياسر: تقتلك الفئة الباغية. وقد قتلته فئة معاوية.

وقول أبي أيُّوب الأنصاري وأبي سعيد الخدري وعمَّار بن ياسر: أمرنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين. قلنا يا رسول الله؟ أمرت بقتال هؤلاء مع مَن؟ قال: مع عليّ بن أبي طالب.

إلى أحاديث أخرى ذكرناها في الجزء الثالث ص ١٦٥ - ١٧٠ هب انَّ ابن عمر لم يكن يسمع شيئاً من هذه الأحاديث الثابتة عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أوَما كان يسمع ايضاً أوما كان يصدَّق اولئك الجمّ الغفير من البدريّين أعاظم الصحابة الأوّلين الذين حاربوا الناكثين والقاسطين وملأ فمهم عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إليهم، وأمره إيّاهم بقتال اولئك الطوائف الخارجة على الإمام الحقِّ الطاهر؟ فأيّ مين أعظم ممّا جاء به ابن عمر في كتاب له إلى معاوية من قوله: أحدث (عليٌّ ) أمراً لم يكن إلينا فيه من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عهد: ففزعت إلى الوقوف. وقلت: إن كان هذا هدى ففضل تركته، وإن كان ضلالة، فشرّ منه نجوت(٣) .

وهل ابن عمر كان يخفى عليه هتاف الصادع الكريم: عليٌّ مع الحقّ والحقُّ مع عليّ، ولن يفترقا حتّى يردا عليَّ الحوض يوم القيامة؟.

أو قوله: عليٌّ مع الحقِّ والحقُّ معه وعلى لسانه، والحقُّ يدور حيثما دار عليّ.

أو قوله لعليٍّ: إنَّ الحقَّ معك والحقُّ على لسانك. وفي قلبك وبين عينيك، والايمان مخالطٌ لحمك ودمك كما خالط لحمي ودمي؟.

أو قوله مشيراً إلى عليّ: الحقُّ مع ذا، الحقُّ مع ذا، يزول معه حيثما زال؟ أو قوله: عليُّ مع القرآن والقرآن معه لا يفترقان حتَّى يردا عليَّ الحوض؟

____________________

١ - راجع الجزء الثالث.

٢ - راجع ج ٧: ١٣٢.

٣ - الامامة والسياسة ١: ٧٦، شرح ابن ابى الحديد ١: ٢٦٠.

_٣_

٤٨

أو قوله لعليّ لحمك لحمي، ودمك دمي، والحقُّ معك؟.

أو قوله ستكون بعدي فتنة فإذا كان ذلك فالزموا عليَّ بن أبي طالب فانَّه أوَّل من يصافحني يوم القيامة، وهو الصدِّيق الأكبر، وهو فاروق هذه الامَّة، يفرق بين الحقِّ والباطل، وهو يعسوب المؤمنين، والمال يعسوب المنافقين؟(١) .

أو قوله لعليّ وحليلته وشبليه: أنا حربٌ لمن حاربتم وسلمٌ لمن سالمتم؟.

أو قوله لهم: أنا حربٌ لمن حاربكم وسلمٌ لمن سالمكم؟.

أو قوله وهم في خيمة: معشر المسلمين أنا سلمٌ لمن سالم أهل الخيمة، حربٌ لمن حاربهم، وليٌّ لمن والاهم، لا يحبُّهم إلّا سعيد الجدّ، طيِّب المولد، ولا يبغضهم إلّا شقيُّ الجدّ، رديُّ الولادة؟.

أو قوله وهو آخذ بضبع عليّ: هذا أمير البررة، قاتل الفجرة، منصورٌ من نصره، مخذولٌ من خذله؟(٢)

أو قوله في حجَّة الوداع في ملأ من مائة ألف أو يزيدون: مَن كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه، أللّهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله واحبّ من أحبَّه، وأبغض من أبغضه، وأدر الحقَّ معه حيث دار؟(٣) .

إلى أخبار جمّة ملأت بين الخافقين، فهل ابن عمر كان بمنتأى عن هذه كلّها فحسب تلكم المواقف حرباً دنيويَّة أو فتنةً لا يعرف وجهها، قتالاً على الملك(٤) ؟ أو كان تُتلى عليه ثمَّ يُصرّ مستكبراً كأنَّ لم يسمعها كأنَّ في اُذنيه وقرا، وعلى كلّ تقدير لم يك رأيه إلّا اجتهاداً في مقابل النصِّ لا يصيخ إليه أيُّ دينيّ صميم.

ومن المأسوف عليه انّ الرجل ندم يوم لم ينفعه الندم عمّا فاته في تلكم الحروب من مناصرة عليّ أمير المؤمنين وكان يقول: ما أجدني آسى على شيىء من أمر الدنيا إلّا انّي لم اُقاتل الفئة الباغية. وفي لفظ: ما آسى على شيىء إلّا انِّي لم اُقاتل مع عليّ الفئة الباغية. وفي لفظ: ما أجدني آسى على شيىء فاتني من الدّنيا إلّا انِّي لم اُقاتل

____________________

١ - راجع الجزء الثالث ص ٢٢، ١٥٦ - ١٥٩ - ١٦٥، الاستيعاب ٢: ٦٥٧، الاصابة ٤: ١٧١.

٢ - راجع الجزء الاول ص ٣٠١ و ج ٨: ٩٠، أحكام القرآن للجصاص ١: ٥٦٠.

٣ - راجع ما مرّ فى الجزء الاول من حديث الغدير.

٤ - راجع مسند احمد ٢: ٧٠، ٩٤، سنن البيهقى ٨: ١٩٢.

٤٩

مع عليّ الفئة الباغية. وفي لفظ: قال حين حضرته الوفاة: ما أجد في نفسي من أمر الدنيا شيئاً إلّا انِّي لم اُقاتل الفئة الباغية مع عليِّ بن أبي طالب رضي الله عنه. وفي لفظ ابن أبي الجهم: ما آسى على شيىء إلّا تركي قتال الفئة الباغية مع عليّ رضي الله الله عنه(١) .

وأخرج البيهقي في سننه ٨: ١٧٢ من طريق حمزة بن عبد الله بن عمر قال: بينما هو جالسٌ مع عبد الله بن عمر إذ جاءه رجلٌ من أهل العراق فقال: يا أبا عبد الرّحمن! إنِّي و الله لقد حرصت أن اتّسمت بسمتك، واقتدي بك في أمر فرقة الناس، واعتزل الشرَّ ما استطعت وانّي أقرأ آية من كتاب الله محكمة قد أخذت بقلبي فأخبرني عنها أرأيت قول الله تعالى:( وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَىٰ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ) . أخبرني عن هذه الآية. فقال عبد الله: ومالك ولذلك؟ انصرف عنِّي، فانطلق حتّى توارى عنّا سواده أقبل علينا عبد الله بن عمر فقال: ما وجدت في نفسي من شيء من أمر هذه الاُمّة ما وجدت في نفسي انِّي لم اُقاتل هذه الفئة الباغية كما أمرني الله عزَّ وجل.

هذه حجّة الله الجارية على لسان ابن عمر ونفثات ندمه، وهل أثَّرت تلكم الحجج في قلبه؟ وصدّق الخُبر الخَبر يوماً ما من أيّامه؟ أنا لا أدري.

هلم معى الى صلاة ابن عمر

وأمّا صلاته مع من غلب وتأمّر فمن شواهد جهله بشأن العبادات وتهاونه بالدين الحنيف، ولعبه بشعائر الله شعائر الإسلام المقدّس، قد استحوذ عليه الشيطان فأنساه ذكر الله، اعتذر الرجل بهذه الخزاية عن تركه الصّلاة وراء خير البشر أحد الخيرتين. أحبّ الناس إلى الله ورسوله، عليّ أمير المؤمنين المعصوم بلسان الله العزيز، وعن إقامته إيّاها وراء الحجّاج الفاتك المستهتر، وقد جاء من طريق سفيان الثوري عن سلمة بن كهيل قال: اختلفت أنا وذر المرهبيّ(٢) في الحجّاج فقال: مؤمنٌ. وقلت: كافرٌ. قال الحاكم: وبيان

____________________

١ - الطبقات الكبرى ط ليدن ٤: ١٣٦، ١٣٧، الاستيعاب ١: ٣٦٩، ٣٧٠، اسد الغابة ٣: ٢٢٩، الرياض النضرة ٢: ٢٤٢.

٢ - كان من عبّاد أهل الكوفة، أحد رجال الصحاح الستة.

٥٠

صحَّته ما اطلق فيه مجاهد بن جبر رضي الله عنه فيما حدّثناه من طريق أبي سهل أحمد القطان عن الأعمش قال: والله لقد سمعت الحجّاج بن يوسف يقول: يا عجباً من عبد هذيل ( يعني عبد الله بن مسعود ) يزعم انّه يقرأ قرآناً من عند الله، والله ما هو إلّا رجزٌ من رجز الأعراب، والله لو أدركت عبد هذيل لضربت عنقه(١) وزاد ابن عساكر: ولأخلينّ منها المصحف ولو بضلع خنزير.

وذكر ابن عساكر في تاريخه: ٦٩ من خطبة له قوله: اتّقوا الله ما استطعتم فليس فيها مثوبة، واسمعوا واطيعوا لأمير المؤمنين عبد الملك فانّها المثوبة، والله لو أمرت الناس أن يخرجوا من باب من ابواب المسجد فخرجوا من باب آخر لحلّت لي دمائهم و أموالهم.

على أنَّ ابن عمر هو الذي جاء بقوله عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : في ثقيف كذّاب ومبير.

أو قوله: إنَّ في ثقيف كذّاباً ومبيراً(٢) وأطبق الناس سلفاً وخلفاً على أنَّ المبير هو الحجّاج قال الجاحظ: خطب الحجّاج بالكوفة فذكر الذين يزورون قبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمدينة فقال: تبّاً لهم إنّما يطوفون بأعواد ورمَّة بالية هلّا طافوا بقصر أمير المؤمنين عبد الملك؟ ألا يعلمون أنَّ خليفة المرأ خير من رسوله(٣) ؟

وقال الحافظ ابن عساكر في تاريخه ٤: ٨١: اختلف رجلان فقال احدهما: إنَّ الحجّاج كافر، وقال الآخر: انّه مؤمن ضالّ. فسألا الشعبي فقال لهما: انّه مؤمن بالجبت والطاغوت، كافر بالله العظيم.

وقال: وسُئل عنه واصل بن عبد الأعلى فقال: تسألوني عن الشيخ الكافر.

وقال: قال القاسم بن مخيمرة: كان الحجّاج ينتفض من الإسلام.

وقال: قال عاصم بن أبي النجود: ما بقيت لله تعالى حرمة إلّا وقد انتهكها الحجّاج.

وقال: قال طاووس: عجبت لإخواننا من أهل العراق يسمّون الحجّاج مؤمناً.

وقال الاجهوري: وقد اختار الإمام محمّد بن عرفة والمحققون من اتباعه كفر

____________________

١ - مستدرك الحاكم ٣: ٥٥٦، تاريخ ابن عساكر ٤: ٦٩.

٢ - صحيح الترمذى ٩: ٦٤، و ج ١٣: ٢٩٤، مسند أحمد ٢: ٩١، ٩٢، تاريخ ابن عساكر ٤: ٥٠.

٣ - النصايح لابن عقيل ص ٨١ ط ٢.

٥١

الحجّاج. الإتحاف ص ٢٢.

دع هذه كلّها وخذ ما أخرجه الترمذي وابن عساكر من طريق هشام بن حسّان انّه قال: اُحصي ما قتل الحجّاج صبراً فوجد مائة ألف وعشرون ألفاً(١) ووجد في سجنه ثمانون ألفاً محبوسون، منهم ثلاثون ألف امرأة(٢) وكانت هذه المِجزرة الكبرى والسجن العام بين يدي ابن عمر ينظر إليهما من كثب، أدرك أيّام الحجّاج كلّها ومات وهو حيٌّ يذبح ويفتك.

أمثل هذا الجائر الغادر الآثم يتأهَّل للايتمام به دون سيِّد العرب مثال القداسة والكرامة؟.

وهل ابن عمر نسي يوم بايع الحجّاج ما اعتذر به من امتناعه عن بيعة ابن الزبير لمـّا قيل له: ما يمنعك أن تبايع امير المؤمنين - ابن الزبير - فقد بايع له أهل العروض وعامّة أهل الشام؟ فقال: والله لا اُبايعكم وأنتم واضعوا سيوفكم على عواتقكم تصيب أيديكم من دماء المسلمين(٣) .

هلّا كان ابن عمر ونصب عينيه ما كانت تصيبه أيدي الحجّاج وزبانيته من دماء المسلمين، دماء امَّة كبيرة من عباد الله الصالحين، دماء نفوس زكيَّة من شيعة آل الله؟ فكيف إئتمَّ به وبايعه؟ وبايِّ كتاب أم بأيَّة سنَّة ساغ له حنث يمينه يوم بايع ابن الزبير ومدَّ يده إلى بيعته وهي ترجف من الضعف بعد ما بايعه رؤوس الخوارج أعداء الإسلام، المارقين من الدين: نافع بن الأزرق، وعطية بن الأسود، ونجدة بن عامر؟(٤) .

ليتني أدري وقومي أفي شريعة الإسلام حكمٌ للغلبة يركن إليه المسلم في الصَّلاة التي هي عماد الدين وأفضل أعمال اُمّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ أو أنَّ الأيتمام في الجمعة والجماعة يدور مدار تحقّق البيعة وإجماع الاُمّة، وعدم النزاع بين الإمام وبين مَن خالفه من الخوارج عليه؟ أو أنَّ هاتيك الأعذار - أعذار إبن عمر - أحلام نائم وأمانيّ كاذبة لا طائل تحتها؟ انظر إلى ضئولة عقل ابن عمر يحسب انَّ الامَّة تتلقّى خزعبلاته

____________________

١ - صحيح الترمذى ٩: ٦٤، تاريخ ابن عساكر ٤: ٨٠، تيسير الوصول ٤: ٣٦.

٢ - تاريخ ابن عساكر ٤: ٨٠، المستطرف ١: ٦٦.

٣ - سنن البيهقى ٨: ١٩٢.

٤ - سنن البيهقى ٨: ١٩٣.

٥٢

بالقبول، وتراه بها معذوراً في طامّاته، ذاهلاً عن أنَّ هذه المعاذير أكثر معرَّة من بوادره والإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره.

كان الرجل يصلّي مع الحجّاج بمكّة كما قاله ابن سعد(١) وقال ابن حزم في المحلّى ٤: ٢١٣: كان ابن عمر يصلّي خلف الحجّاج ونجدة(٢) وكان أحدهما خارجيّاً، والثاني أفسق البريَّة. وذكره أبو البركات في بدائع الصنائع ١: ١٥٦.

أليس أحقّ الناس بالإمامة أقرؤهم لكتاب الله وأعلمهم بالسنّة؟ أليس من السنّة الصحيحة الثابتة قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يؤمُّ القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القرائة سواءً فأعلمهم بالسنّة، فإن كانوا في السنّة سواءً فأقدمهم هجرةً، فإن كانوا في الهجرة سواءً فأقدمهم سلماً؟!(٣)

أم لم يكن منها قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن سرَّكم أن تُقبل صلاتكم فليؤمّكم خياركم، فإنَّهم وفدكم فيما بينكم وبين ربّكم؟!(٤) .

أوَ لم يكن يسرّ ابن عمر أن تُقبل صلاته؟ أم كان يروقه من صلاة الحجّاج انّه وخطباؤه كانوا يلعنون علياً وابن الزبير؟(٥) أم كان يعلم أنَّ الصلاة وغيرها من القربات لا تنجع لأيّ مسلم إلّا بالولاية لسيّد العترة سلام الله عليه(٦) وابن عمر على نفسه بصيرة، ويراه فاقداً إيّاها، بعيداً عنها، فايتمامه عندئذ بالإمام العادل أو الجائر المستهتر سواسية؟.

إن كان الرجل يجد الغلبة ملاك الايتمام فهلّا إئتمَّ بمولانا أمير المؤمنينعليه‌السلام وكان هو الغالب في وقعة الجمل ويوم النهروان؟ ولم يكن في صفّين مغلوباً وإنّما لعب ابن العاصي فيها بخديعته فالتبس الأمر على الأغرار، لكنّ أهل البصائر عرفوها فلم يتزحزحوا

____________________

١ - الطبقات الكبرى ٤: ١١٠.

٢ - نجدة بن عامر - عمير - اليمانى من رؤوس الخوارج زائغ عن الحق، خرج باليمامة عقب موت يزيد بن معاوية، وقدم مكة، وله مقالات معروفة، واتباع انقرضوا، قتل فى سنة سبعين. لسان الميزان ٦: ١٤٨.

٣ - صحيح مسلم ٢: ١٣٣، صحيح الترمذى ٦: ٣٤، سنن ابى داود ١: ٩٦.

٤ - نصب الراية ٢: ٢٦.

٥ - راجع المحلى لابن حزم ٥: ٦٤.

٦ - راجع الجزء الثانى ص ٣٠١.

٥٣

عن معتقدهم طرفة عين، وقبل هذه الحروب انعقدت البيعة بخليفة الحقِّ من غير معارض ولا مزاحم حتّى يتبيّن فيه الغالب من المغلوب، فكان إمام العدلعليه‌السلام هو المستولي على عرش الخلافة والمحتبي بصدر دستها، فلماذا تركهعليه‌السلام ابن عمر ولم يأتمّ به وقّد تمّ أمره، بتمام شروط البيعة وملاك الايتمام على رأيه هو؟!

ومَن نجدة الخارجي؟ ومتى غلب على جميع الحواضر الإسلاميّة؟ وما قيمته وقيمة الايتمام به ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعرِّف الخوارج بالمروق من الدين بقوله: يخرج قومٌ من اُمّتي يقرأون القرآن ليست قراءتكم إلى قراءتهم بشيء، ولا صلاتكم إلى صلاتهم بشيء، ولا صيامكم إلى صيامهم بشيء، يقرأون القرآن يحسبون انّه لهم، وهو عليهم، لا تجاوز صلاتهم تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميّة(١) .

وبقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : سيخرج قومٌ في آخر الزمان حُدثاء الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من خير قوله البريّة، يقرأون القرآن، لا يجاوز ايمانهم حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميّة، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإنَّ في قتلهم أجراً لمن قتلهم عند الله يوم القيامة(٢) .

وبقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : سيكون في امّتي اختلاف وفرقة، قوم يحسنون القيل ويسيئون الفعل، يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميّة، ثمَّ لا يرجعون حتى يرتدّ على فوقه، هم شرُّ الخلق، طوبى لمن قتلهم وقتلوه يدعون إلى كتاب الله وليسوا منه في شيء، من قاتلهم كان أولى بالله منهم. قالوا: يا رسول الله! ما سيماهم؟ قال: التحليق(٣) .

وبقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يخرج من قِبل المشرق قومٌ كان هديهم هكذا يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميّة، ثمّ لا يرجعون إليه ووضع يده على صدره، سيماهم التحليق لا يزالون يخرجون حتى يخرج آخرهم، فإذا

____________________

١ - صحيح الترمذى ٩: ٣٧، سنن البيهقى ٨: ١٧٠، وأخرجه مسلم وأبو داود كما فى تيسير الوصول ٤: ٣١.

٢ - أخرجه الخمسة إلا الترمذى كما فى تيسير الوصول ٤: ٣٢، والبيهقى فى السنن الكبرى ٨: ١٧٠.

٣ - سنن أبى داود ٢: ٢٨٤، مستدرك الحاكم ٢: ١٤٧، ١٤٨، سنن البيهقى ٨: ١٧١، وللشيخين عن أبى سعيد نحوه كما فى تيسير الوصول ٤: ٣٣.

٥٤

رأيتموهم فاقتلوهم. مستدرك الحاكم ٢: ١٤٧.

وبقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يوشك أن يأتي قوم مثل هذا يتلون كتاب الله وهم أعداؤه، يقرؤون كتاب الله محلقة رؤسهم، فإذا خرجوا فاضربوا رقابهم. المستدرك ٢: ١٤٥.

وبقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنَّ أقواماً من امّتي أشدَّة، ذلقة ألسنتهم بالقرآن، لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميّة، فإذا لقيتموهم فاقتلوهم فإنَّ المأجور من قتلهم. المستدرك ٢: ١٤٦.

وبقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الخوارج كلاب النار(١) من طريق صحَّحه السيوطي في الجامع الصغير.

فما قيمة صحابيّ لا ينتجع ممّا جاء عن النبيِّ الأقدسصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الكثير الصحيح في الناكثين والقاسطين والمارقين؟ ولم ير قطّ قيمة لتلكم النصوص، ويضرب عنها صفحا ولم يتبصّر بها في دينه، ويتترّس تجاه ذلك الحكم البات النبويّ عن التقاعس عن تلك المشاهد بأنّها فتنة. أحَسِبَ النّاس أنْ يُتركُوا أنْ يَقُولوا آمنَّا وهُمْ لا يُفتَنون؟.

لقد ذاق ابن عمر وبال أمره بتركه واجبه من البيعة لمولانا أمير المؤمنينعليه‌السلام والتبرُّك بيده الكريمة التي هي يد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو خليفته بلا منازع، وبتركه الايتمام به والدخول في حشده وهو نفس الرَّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والبقيَّة منه، بذلّ البيعة لمثل الحجّاج الفاجر فضرب الله عليه الذلّة والهوان هاهنا حتّى أنّ ذلك المتجبّر الكذّاب المبير لم ير فيه جدارة بأن يناوله يده فمدَّ إليه رجله فبايعها. وأخذه الله بصلاته خلفه وخلف نجدة المارق من الدِّين، وحسْبه بذينك هواناً في الدنيا ولعذاب الآخرة أشدُّ وأبقى، وكان من أخذه سبحانه إيّاه أن سلّط عليه الحجّاج فقتله وصلّى عليه(٢) ويا لها من صلاة مقبولة ودعاء مستجاب من ظالم غاشم؟

معذرة اخرى لابن عمر

ولابن عمر معذرةٌ اخرى، أخرج أبو نعيم في الحلية ١: ٢٩٢ من طريق نافع عن ابن عمر انّه أتاه رجلٌ فقال: يا أبا عبد الرَّحمن؟ أنت ابن عمر وصاحب رسول

____________________

١ - مسند أحمد ٤: ٣٥٥، سنن ابن ماجة ١: ٧٤.

٢ - الاستيعاب ١: ٣٦٩، اسد الغابة ٣: ٢٣٠.

٥٥

اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فما يمنعك من هذا الأمر؟ قال: يمنعني أن الله تعالى حرَّم عليَّ دم المسلم قال: فإنّ الله عزَّوجل يقول: قاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لِلَّه. قال: قد فعلنا وقد قاتلناهم حتّى كان الدين لِلَّه، فأنتم تريدون أن تُقاتلوا حتى يكون الدين لغير الله.

وأخرج في الحلية ١ ص ٢٩٤ من طريق القاسم بن عبد الرَّحمن: انَّهم قالوا لابن عمر في الفتنة الاولى: ألا تخرج فتقاتل؟ فقال: قد قاتلت والأنصاب بين الركن والباب حتّى نفاها الله عزّوجلّ من أرض العرب، فأنا أكره أن اُقاتل من يقول لا إله إلّا الله.

دع ابن عمر يحسب نفسه أفقه من كلّ الصحابة من المهاجرين الأوَّلين والأنصار الذين باشروا الحرب مع أمير المؤمنينعليه‌السلام في تلكم المعامع، ولكن هل كان يجد نفسه أفقه من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث أمر أصحابه بمناصرة مولانا أمير المؤمنينعليه‌السلام فيها، وأمره صلوات الله عليه بمباشرة هاتيك الحروب الدامية ونهى عن التثبّط عنها. وهل كانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعلم أنَّ المقاتلين من الفئتين من أهل لا إله إلّا الله فأمر بالمقاتلة مع عليّعليه‌السلام ؟ أو عزب عنه علم ذلك فأمر باراقة دماء المسلمين؟ غفرانك اللّهم.

وهل علمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّ نتيجة ذلك القتال أن يكون الدين لغير الله فحضَّ عليه؟ أو فاته ذلك لكن علمه ابن عمر فتجنَّبه؟ أعوذ بالله من شطط القول.

وما أشبه اعتذار ابن عمر اعتذار أبيه يوم أمره رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقتل ذي الثديّة رأس الخوارج فما قتله واعتذر بأنّه وجده متخشّعاً واضعاً جبهته لِلَّه. راجع الجزء السابع ص ٢١٦.

ثمّ إنّ كون الدين لغير الله هل كان من ناحية مولانا أمير المؤمنين علي وكان هو وأصحابه يريدونه؟ أو من ناحية مناوئيه ومن بغى عليه من الفئة الباغية؟ والأوّل لا يتّفق مع ما جاء في الكتاب الكريم والسنّة الشريفة في حقّ الإمام عليعليه‌السلام وفي مواليه وتابعيه ومناوئيه، وفي خصوص الحروب الثلاث، كما هو مبثوث في مجلّدات كتابنا هذا، وإن ذهل أو تذاهل عنها إبن عمر.

وإن كان يريد الثاني فلماذا بايع معاوية بعد أن تقاعد عن بيعة أمير المؤمنينعليه‌السلام ؟ هذه أسئلة ووجوه لا أدري هل يجد ابن عمر عنها جواباً في محكمة العدل الإلهي؟

٥٦

لا أحسب، ولعلّه يتخلّص عنها بضئولة العقل المسقط للتكليف.

وأعجب من هذه كلها ما جاء به أبو نعيم في الحلية ١: ٣٠٩ من قول ابن عمر: إنَّما كان مثلنا في هذه الفتنة كمثل قوم كانوا يسيرون على جادَّة يعرفونها فبينما هم كذلك إذ غشيتهم سحابةٌ وظلمة، فأخذ بعضهم يميناً وشمالاً فأخطأ الطريق، وأقمنا حيث أدركنا ذلك حتّى جلّى الله ذلك عنّا فأبصرنا طريقنا الأوَّل فعرفنا وأخذنا فيه، إنّها هؤلاء فتيان قريش يقتتلون على هذا السلطان وعلى هذه الدنيا، ما اُبالي أن لا يكون لي ما يقتل(١) بعضهم بعضاً بنعلي هاتين الجرداوين.

ليت شعري متى غشيت الاُمّة سحابةٌ وظلمةٌ فأقام الرَّجل حيث أدرك ذلك؟ أعلى العهد النبويِّ وهو أصفا أدوار الجوّ الدينيِّ؟ أم في دور الخلافة؟ وقد بايع الرجل شيخ تيم وأباه، وهما عنده خيرا خلق الله واحداً بعد واحد، فلا يرى فيه غشيان الظلمة أو قبول السحابة، واعطف على ذلك أيّام عثمان فقد بايعه ولم يتسلّل عنه حتّى يوم مقتله كما مرّ في ص ٢٣ من هذا الجزء، فلم تكن أيّام عثمان عنده أيّام ظلمة وسحابة وإن كان من ملقحي فتنتها بما ارتآه، فلم يبق إلّا عهد الخلافة العلويَّة وملك معاوية بن أبي سفيان. أمّا معاوية فقد بايعه الرَّجل طوعاً ورغبة وإن رآه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ملكاً عضوضاً ولعن صاحبه. وبايع يزيد بن معاوية بعد ما أخذ مائة ألف من معاوية، فلم يبق دور ظلمة عنده إلّا أيّام خلافة خير البشر سيّد الامَّة مولانا امير المؤمنين عليّعليه‌السلام ، وفيها أخذ بعضهم يميناً وشمالاً فأخطأ الطريق، وكانت الأدوار مجلاة قبل ذلك و بعده أيّام إمارة معاوية ويزيد وعبد الملك والحجّاج، فقد أبصر الرجل طريقه المهيع الأوّل عند ذلك فعرفه وأخذ فيه وبايعهم.

وهل هنا من يُسائل الرجل عن الذين أخطأوا الطريق ببيعتهم وانحيازهم؟ هل هم الذين بايعوا أمير المؤمنينعليه‌السلام ؟ وهم الصحابة العدول والبدريّون من المهاجرين والأنصار، والاُمّة الصالحة من التابعين من رجالات المدينة المشرَّفة وغيرها من الأمصار الإسلاميَّة. أو الذين أكبّوا على تلكم الأيدي العادية فبايعوها؟ من طغام الشام، سفلة الأعراب، وبقيّة الأحزاب، وأهل المطامع والشرَه. فيرى هل تحدوه القحّة والصلف إلى

____________________

١ - فى تعليق الحلية: المعنى ما يقتل بعضهم بعضا عليه والله أعلم.

٥٧

أن يقول بالأوَّل؟ ونصب عينه قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن تولّوا عليّاً تجدوه هادياً مهديّا يسلك بكم الطريق المستقيم.

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن تؤمّروا عليّاً ولا أراكم فاعلين تجدوه هادياً مهديّاً يسلك بكم الطريق المستقيم.

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن تستخلفوا عليّاً وما أراكم فاعلين تجدوه هادياً مهديّاً يحملكم على المحجّة البيضاء. إلى أحاديث اُخرى أوعزنا إليها في الجزء الأوّل ص ١٢.

أو أنَّ النصفة تُلقى على روعه فينطق وهو لا يشعر بما يقول فيقول بالثاني فينقض ما ارتكبه من بيعة القوم جميعاً؟.

ثمَّ إنَّ من غريب المعتقد ما ارتئاه من أنّ فتيان قريش كانوا يقتتلون على السلطان ويبغون بذلك حطام الدنيا وهو يعلم أنّ لهذا الحسبان شطرين، فشطرٌ لعليّ أمير المؤمنين وأصحابه، وهو الذي كانت الدنيا عنده كعفطة عنز كما لهج به صلوات الله عليه وصدّق الخُبر الخَبر، وكانت نهضته تلك بأمر من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعهد منه إليه وإلى أصحابه كما تقدّم في هذا الجزء والجزء الثالث.

وشطرٌ لطلحة والزبير ولمعاوية، أمّا الأوّلان فيعرب عن مرماهما قول مولانا أمير المؤمنينعليه‌السلام في خطبة له: كلّ واحد منهما يرجو الأمر له ويعطفه عليه دون صاحبه لا يمتّان إلى الله بحبل، ولا يمدّان إليه بسبب، كلّ واحد منهما حامل ضبّ لصاحبه، وعمّا قليل يكشف قناعه به، والله لئن أصابوا الذي يريدون لينزعنَّ هذا نفس هذا، و ليأتينّ هذا على هذا، قد قامت الفئة الباغية فأين المحتسبون؟.

ولّما خرج طلحة والزبير وعائشة إلى البصرة جاء مروان بن الحكم إلى طلحة و - الزبير وقال: على أيِّكما اُسلّم بالإمارة، واُنادي بالصَّلاة؟ فسكتا، فقال عبد الله بن الزبير: على أبي. وقال محمّد بن طلحة: على أبي. فأرسلت عائشة إلى مروان: أتريد أن ترمي الفتنة بيننا؟ أو قالت: بين أصحابنا، مروا ابن اختي فليصلِّ بالناس. يعني عبد الله بن الزبير. مرآة الجنان لليافعي ١: ٩٥.

وأمّا معاوية فهو الذي صدق فيه ظنّه بل تنجزَّ يقينه، وقد عرفه بذلك أصحاب محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتُعرّفه إيّاك بغايته الوحيدة ونفسيّته الذميمة كلماتهم، وابن عمر لا يصيخ

٥٨

إليها وقد أصمَّه وأعماه حبُّ العبشميِّين، فاتَّبع هواه وأضلّه، وإليك نمازج من تلكم الكلم:

١ - قال هاشم المرقال مخاطباً أمير المؤمنين عليّاًعليه‌السلام : سر بنا يا أمير المؤمنين إلى هؤلاء القوم القاسية قلوبهم الذين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم، وعملوا في عباد الله بغير رضا الله، فأحلّوا حرامه، وحرّموا حلاله، واستهوى بهم الشيطان، ووعدهم الأباطيل، ومنّاهم الأمانيُّ حتى أزاغهم عن الهوى، وقصد بهم قصد الرَّدى، وحبّب إليهم الدنيا، فهم يقاتلون على دنياهم رغبة فيها كرغبتنا في الآخرة؟ إلخ.

كتاب صفين ص ١٢٥، شرح ابن ابي الحديد ١: ٢٨٢، جمهرة الخطب ١: ١٥١.

٢ - ومن كلام لهاشم المرقال ايضاً: يا أمير المؤمنين! فانّا بالقوم جِدّ خبير، هم لك ولأشياعك أعداء، وهم لمن يطلب حرث الدنيا أولياء، وهم مقاتلوك ومجادلوك، لا يُبقون جهداً مشاحَّة على الدنيا، وضِنّا بما في أيديهم منها، ليس لهم إربةٌ غيرها إلّا ما يخدعون به الجهّال من طلب دم ابن عفّان، كذبوا ليسوا لدمه ينفرون، ولكن الدنيا يطلبون. كتاب ابن مزاحم ص ١٠٣، شرح ابن ابي الحديد ١: ٢٧٨.

٣ - من خطبة ليزيد بن قيس الأرحبي: إنّ المسلم من سلم دينه ورأيه، وإنّ هؤلاء القوم والله ما إن يقاتلوننا على إقامة دين رأونا ضيّعناه، ولا على إحياء حقّ رأونا أمتناه، ولا يقاتلوننا إلّا على هذه الدنيا ليكونوا فيها جبابرةً وملوكاً، ولو ظهروا عليكم - لا أراهم الله ظهوراً وسرورا - إذن لوليكم مثل سعيد(١) والوليد(٢) وعبد الله بن عامر(٣) السفيه يحدّث أحدهم في مجلسه بذيت وذيت، ويأخذ ماله الله ويقول: لا إثم عليّ فيه، كأنّما اُعطي تراثه من أبيه. كيف؟ إنّما هو مال الله أفاءه علينا بأسيافنا ورماحنا، قاتلوا عباد الله! القوم الظالمين الحاكمين بغير ما أنزل الله، ولا تأخذكم فيهم لومة لائم، إنَّهم إنْ يظهروا عليكم يفسدوا عليكم دينكم ودنياكم، وهم مَن قد عرفتم وجرَّبتم، والله ما - أرادوا باجتماعهم عليكم إلّا شرّاً، واستغفر الله العظيم لي ولكم.

____________________

١ - سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن امية والى معاوية على المدينة.

٢ - الوليد بن عقبة السكير اخو عثمان لامّه.

٣ - عبد الله بن عامر ولّاه معاوية على البصرة ثلاث سنين.

٥٩

كتاب صفّين ص ٢٧٩، تاريخ الطبري ٦: ١٠، شرح ابن ابي الحديد ١: ٤٨٥.

٤ - من مقال لعمّار بن ياسر بصفّين: إمضوا معي عباد الله إلى قوم يطلبون فيما يزعمون بدم الظالم لنفسه، الحاكم على عباد الله بغير ما في كتاب الله، إنّما قتله الصالحون المنكرون للعدوان، الآمرون بالإحسان. فقال هؤلاء الذين لا يبالون إذا سلمت لهم دنياهم ولو درس هذا الدين: لِمَ قتلتموه؟ فقلنا: لأحداثه. فقالوا: إنّه ما أحدث شيئاً وذلك لأنّه مكّنهم من الدنيا فهم يأكلونها ويرعونها ولا يبالون لو انهدّت عليهم الجبال، والله ما أظنّهم يطلبون دمه انّهم ليعلمون انّه لظالم، ولكنّ القوم ذاقوا الدنيا فاستحبّوها واستمروها، وعلموا لو انّ صاحب الحقِّ لزمهم لحال بينهم وبين ما يأكلون ويرعون فيه منها، ولم يكن للقوم سابقة في الإسلام يستحقّون بها الطاعة والولاية، فخدعوا أتباعهم بأن قالوا: قتل إمامنا مظلوماً. ليكونوا بذلك جبابرة وملوكاً، وتلك مكيدة قد بلغوا بها ما ترون، ولولا هي ما بايعهم من الناس رجلان.

كتاب صفّين ص ٣٦١، تاريخ الطبري ٦: ٢١، شرح ابن ابي الحديد ١: ٥٠٤، الكامل لابن الأثير ٣: ١٢٣، تاريخ ابن كثير ٧: ٢٦٦ واللفظ لابن مزاحم.

٥ - من خطبة لعبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي: يا أمير المؤمنين! إنّ القوم لو كانوا الله يريدون، ولِله يعملون، ما خالفونا، ولكن القوم إنّما يقاتلوننا فراراً من الاُسوة وحبّاً للأثرة، وضنّاً بسلطانهم، وكرهاً لفراق دنياهم التي في أيديهم، وعلى إحن في نفوسهم، وعداوةً يجدونها في صدورهم لوقائع أوقعتها يا أمير المؤمنين! بهم قديمة، قتلت فيها آباءهم وإخوانهم.

كتاب صفّين ص ١١٤، شرح ابن ابي الحديد ١: ٢٨١، جمهرة الخطب ١: ١٤٨.

٦ - من كلام لشبث بن ربعي مخاطباً معاوية: إنّه والله لا يخفى علينا ما تغزو ما تطلب.

إلى آخر ما يأتي في هذا الجزء.

٧ - قال وردان غلام عمرو بن العاص له: اعتركت الدنيا والآخرة على قلبك، فقلت: عليٌّ معه الآخرة في غير دنيا، وفي الآخرة عوض من الدنيا، ومعاوية معه الدنيا بغير آخرة، وليس في الدنيا عوض الآخرة. فقال عمرو:

يا قاتل الله ورداناً وفتنته

أبدى لعمرك ما في النفس وردانُ

٦٠