مناظرات وحوار ليالي بيشاور

مناظرات وحوار ليالي بيشاور0%

مناظرات وحوار ليالي بيشاور مؤلف:
المحقق: السيّد حسين الموسوي
الناشر: ذوي القربى
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 1199

مناظرات وحوار ليالي بيشاور

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيّد محمّد الموسوي الشيرازي
المحقق: السيّد حسين الموسوي
الناشر: ذوي القربى
تصنيف: الصفحات: 1199
المشاهدات: 220534
تحميل: 2540

توضيحات:

مناظرات وحوار ليالي بيشاور
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 1199 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 220534 / تحميل: 2540
الحجم الحجم الحجم
مناظرات وحوار ليالي بيشاور

مناظرات وحوار ليالي بيشاور

مؤلف:
الناشر: ذوي القربى
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

فصرّح ابن أبي الحديد وغيره من كبار علمائكم ممن شرح نهج البلاغة، أنّهعليه‌السلام عنى بهذه الأوصاف معاوية عليه اللعنة، فهو الذي لمـّا غلب على الشيعة وأصحاب الإمام عليّعليه‌السلام أمرهم بسبّه ولعنه والتبرِّي منه صلوات الله عليه وقتل من أبى منهم وامتنع مثل حجر بن عدي وأصحابه رضوان الله تعالى عليهم أجمعين.

ولقد دامت هذه السُنّة السيئة والبدعة الميشومة ثمانين سنة على المنابر والصلوات وفي خطب الجمعات.

إخبارهعليه‌السلام عن مقتل ذي الثدية

ومن إخبار الإمام عليعليه‌السلام بالمغيّبات، خبر ذي الثدية في معركة النهروان وكان رأس الخوارج(١) . ولقد أخبرعليه‌السلام أيضاً في حرب

____________________

١) قال ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة: ج ٢ / ٢٦٥، ط. دار إحياء الكتب العربية، تحت عنوان: أخبار الخوارج و في الصحاح المتفق عليها أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بينا هو يقسم قسماً جاء رجل من بني تميم يُدعى ذا الخويْصرة، فقال: اعدل يا محمد فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : قد عَدَلْتُ. فقال له ثانية: اعدل يا محمد فإنّك لم تعدل! فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : ويلك! و مَن يعدل إذا لم أعدل! ثمّ أخبرصلى‌الله‌عليه‌وآله عنه وقال: فسيخرج من ضِئضِئ هذا قوم يمرقُون من الدين كما يمرق السهم من الرميّة وبعدما وصفهم قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : آيتهم رجلٌ أسود مُخدَج اليد، إحدى يديه كأنّها ثديُ امرأة.

وقال ابن أبي الحديد في صفحة ٢٧٧ من نفس الجزء: و روى العوّام بن حَوْشب عن أبيه، عن جدِّه يزيد بن رُوَيْم قال: قال عليّعليه‌السلام : يقتل اليوم أربعة آلاف من الخوارج أحدهم ذو الثدية. =

١١٤١

النهروان وقال قبل أن تقع: لا يفلت منهم عشرة، ولا يهلك منكم عشرة. وكان كما أخبر ولقد روى هذا الخبر أكثر علمائكم وكبار أعلامكم وهو من عبارات نهج البلاغة. وقال ابن أبي الحديد في شرح النهج: ج ٥/ ص ٣، د. دار إحياء التراث العربي / قال في ذيل العبارة وفي شرحها: هذا الخبر من الأخبار التي تكاد تكون متواترة، اشتهاره و نقل الناس كافَّة له. و هو من معجزاته و أخباره المفصّلة عن الغيوب(١) .

____________________

= فلمّا طحن القوم و رام استخراج ذي الثدية فأتبعه، أمَرني أن أقطع له أربعة آلاف قَصبَة و ركب بغلة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله و قال: اطرح على كلّ قتيل منهم قصَبَة، فلم أزل كذلك و أنا بين يديه، و هو راكب خلفي و الناس يتبعونه حتّى بقيت في يدي واحدة فنظرت إليه و إذا وجهه أربَد، و إذا هو يقول: و الله ما كذبتُ و لا كُذِبت، فإذا خريرُ ماء عند موضع دالية، فقال: فتّش هذا ففتّشته، فإذا قتيل قد صار في الماء، و إذا رجله في يدي فجذبتها، و قلت: هذه رجل إنسان، فنزل عن البغلة مسرعاً، فجذب الرجل الإخرى و جررناه حتى صار على التراب فإذا هو المخدج «ذو الثدية». فكبّر عليٌعليه‌السلام بأعلى صوته ثمّ سجد فكبّر الناس كلهم.

«المترجم»

١) أقول وعَقَّب ابن أبي الحديد كلامه في شرح العبارة قائلاً: و الأخبار على قسمين: أحدهما الأخبار المجملة، و لا إعجاز فيها نحو أنْ يقول الرجل لأصحابه إنكم ستُنصَرون على هذه الفئة التي تلقوْنها غداً فإن نُصِر جعل ذلك حجّة له عند أصحابه و سمّاها معجزة و إنْ لم يُنصَر قال لهم تغيّرتْ نيّاتكم و شككتم في قولي فمنعكم الله نصرَه و نحو ذلك من القول و لأنّه قد جرت العادة أن الملوك و الرؤساء يعدون أصحابهم بالظّفر و النصر و يُمنّونهم الدُّوَل فلا يدلّ وقوع ما يقع من ذلك على إخبارٍ عن غيب يتضمّن إعجازاً.

و القسم الثاني: في الأخبار المفصّلة عن الغيوب، مثل هذا الخبر، فإنّه لا يحتمل التلبيس، لتقييده بالعَدَد المعيَّن في أصحابه و في الخوارج، و وقوع الأمر بعد الحرب =

١١٤٢

. . . . .

____________________

=

بموجبه من غير زيادة و لا نقصان، و ذلك أمرٌ إلهيُّ عرفه من جهة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله و عَرَفَه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من جهة الله سبحانه. و القوّة البشريَّة تقصُرِ عن إدراك مثل هذا، و لقد كان له من هذا الباب ما لم يكن لغيره

وقال ابن أبي الحديد في شرح النهج: ج ٧/ ٤٧، ط. دار احياء الكتب العربية: تحت عنوان فصل في ذكر أمور غيبيّة أخبر بها الإمام ثم تحققت قال: و اعلم أنهعليه‌السلام قد أقسم في هذا الفصل بالله الذي نفسه بيده أنّهم لا يسألونه عن أمرٍ يحدث بينهم و بين القيامة إلّا أخبرهم به و أنّه ما صحّ من طائفة من الناس يهتدي بها مائة و تضلّ بها مائة إلّا و هو مخبرٌ لهم إنْ سألوه بُرعاتِها و قائِدها و سائقها و مواضع نزول ركابها و خيولها و مَن يُقتَل منها قتلاً و مَن يموت منها مَوْتا و هذه الدعوى ليست منهعليه‌السلام إدّعاء الربوبيّة و لا إدّعاء النبوّة و لكنه كان يقول إنّ رسول الله ص أخبرَه بذلك و لقد امتحنّا إخباره فوجدناه موافقاً فاستَدْللنا بذلك على صدق الدعوى المذكورة كإخباره عن الضربة يضرب بها في رأسه فتخضب لحيتُه و إخبارُه عن قتل الحسين ابنهعليه‌السلام و ما قاله في كربلاء حيث مرّ بها و إخباره بمُلك معاوية الأمر من بعده و إخباره عن الحَجّاج و عن يوسف بن عمر و ما أخبر به من أمر الخوارج بالنهروان و ما قدمه إلى أصحابه من إخباره بقتل من يُقتل منهم و صَلْب مَن يُصلَب و إخباره بقتال الناكثين و القاسطين و المارقين و إخباره بعدة الجيش الوارد إليه من الكوفة لمـّا شخصعليه‌السلام إلى البصرة لحرب أهلها و إخباره عن عبد الله بن الزبير و قوله فيه «خبّ ضبّ يروم أمراً و لا يدركه ينصِبُ حبالة الدين لاصطياد الدنيا و هو بعد مصلوب قريش» و كإخباره عن هلاك البصرة بالغرق و هلاكها تارة أخرى بالزَّنج و هو الذي صحفه قوم فقالوا بالريح و كإخباره عن ظهور الرايات السّود من خراسان و تنصيصه على قوم من أهلها يُعرفون ببني رزيق بتقديم المهملة و هم آل مصعب الذين منهم طاهر بن الحسين و ولده و إسحاق بن إبراهيم =

١١٤٣

. . . . .

____________________

=

و كانوا هم و سَلَفهم دعاة الدولة العباسيّة و كإخباره عن الأئمة الذين ظهروا من ولده بطَبَرستان كالناصر و الداعي و غيرهما، و كإخباره عن مقتل النفس الزكيّة بالمدينة و قوله إنّه يقتل عند أحجار الزيت و كقوله عن أخيه إبراهيم المقتول بباب حمزة - الصحيح باب خمرى -: يُقتل بعد أنْ يَظهر و يُقهَر بعد أنْ يَقهر، كإخباره عن قتلى وَجّ - وأظن هم قتلى فخّ الذين استشهدوا في عهد الهادي العباسي، وهم من أبناء الحسن المجتبى سبط رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله و قوله فيهم هم خير أهل الأرض.

و كإخباره عن المملكة العَلَويّة بالغرب و تصريحه بذكر كتامة و هم الذين نصروا أبا عبد الله الداعي المعلّم و كقوله و هو يشير إلى أبي عبد الله المهدي و هو أوَّلهم ثمّ يظهر صاحب القَيْروان الغضّ البَضّ ذو النسب المحض المنتجَب من سلالة ذي البداء المسجّى بالرداء و كان عبيد الله المهدي أبيض مترفاً مشرباً بحمرة رخْص البدن تارّ الأطراف و ذو البداء إسماعيل بن جعفر بن محمد ع و هو المسجّى بالرداء لأنّ أباه أبا عبد الله جعفر الصادقعليه‌السلام سجّاه بردائه لمـّا مات و أدخل إليه وجوهَ الشيعة يشاهدونه ليعلموا موته و تزول عنهم الشبهة في أمره.

و كإخباره عن بني بويه و قوله فيهم و يخرج من دَيْلمان بنو الصيّاد إشارةً إليهم و كان أبوهم صيّاد السمك يصيد منه بيده ما يتقوّت هو و عياله بثمنه فأخرج الله تعالى من ولده لصلبه ملوكاً ثلاثة و نشر ذريّتهم حتى ضُربتْ الأمثال بملكهم. و كقوله ع فيهم ثمّ يستشري أمرُهم حتّى يملكوا الزَّوْراء و يخلعوا الخلفاء فقال له قائل فكم مدّتهم يا أمير المؤمنين؟ فقال مائة أو تزيد قليلاً.

فأمّا خلعهم للخلفاء فإنّ معز الدولة خلع المستكفي و رتّب عوضه المطيع و بهاء الدولة أبا نصر بن عضد الدولة خلع الطائع و رتّب عوضه القادر و كانت مدة ملكهم كما أخبر بهعليه‌السلام .

و كإخبارهعليه‌السلام لعبد الله بن العباس رحمه الله تعالى عن انتقال الأمر إلى أولاده فإنّ =

١١٤٤

أليس هذا إخباراً بالغيب والعلم بالمستقبل والأمور التي لم تقع بعد؟ ولو أنصفتم لعرفتم أنّ مقام الولاية الإلهية والخلافة الربّانيّة التي تجلّت في هذا العبد الصالح والوليَّ الفالح يميزه عن سائر الخلفاء، أين الثرى من الثريّا؟ وأين مدَّعي الخلافة ممن رفعه الله مقاماً عليّاً؟!

فإذا لم يكن الإمام عليّعليه‌السلام متصلاً بالعالَم الأعلى ومنبع العلم الربّاني والعلم اللَّدنّي، كيف أخبر عن المغيَّبات وأخبر عن الحوادث التي تقع في المستقبل البعيد أو القريب مثل إخباره عن مقتل ميثم التمّار - رحمه الله تعالى - وأخبر أنّ قاتله عبيد الله بن زياد وهو يصلبه على جذوع النخل، وأخبر عن مقتل جويرية ورشيد الهَجَري وعمرو ابن الحَمق الخزاعي على يد عمال معاوية وأعوانه، وأخبر عن كيفيّة قتلهم واستشهادهم، ولقد أخبر عن مقتل ولده الحسينعليه‌السلام واستشهاده مع أهل بيته وأنصاره في أرض كربلاء. وهذه الأخبار مذكورة في تاريخ الطبري، وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، وتاريخ الخلفاء للسيوطي، ومقتل الحسين أو مناقب الخوارزمي

____________________

=

علي بن عبد الله لمـّا وُلِد أخرجه أبوه عبد الله إلى عليّعليه‌السلام فأخذه و تَفَل في فيه و حَنّكه بتمرة قد لاكها و دفعه إليه و قال خذ إليك أبا الأملاك.

هكذا الرواية الصحيحة و هي التي ذكرها أبو العباس المبرّد في كتاب الكامل. [ وبعد نقل ابن أبي الحديد كل هذا الكلام قال ]: و كم له من الأخبار عن الغيوب الجارية هذا المجرى مما لو أردنا استقصاءه لكسرّنا له كراريس كثيرة و كتب السيِّر تشتمل عليها مشروحة. انتهى كلام ابن أبي الحديد.

«المترجم»

١١٤٥

وغيرهم فإنهم ذكروا هذه القضايا بالتفصيل.

إخبارهعليه‌السلام بأنّ ابن ملجم قاتله

لقد ذكر أكثر أعلامكم وكبار علمائكم منهم العلّامة ابن الأثير في كتابه أسد الغابة: ج ٤ / ٢٥، قال: لمـّا حضر عبدالرحمن بن ملجم المرادي عند أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أنشد قائلاً:

أنت المهيمنُ والمهذَّبُ ذو النَّدى

وابن الضراغم في الطراز الأوَّل

الله خَصَّك يا وصيَّ محمد

و حَباكً فضلاً في الكتاب المنزَلِ

إلى آخر أبياته. فعجب الحاضرون من طلاقة لسانه وفَرْط علاقته بالإمام عليّعليه‌السلام .

وذكر ابن حجر في الصواعق المحرقة ٨٠، ط. الميمنية بمصر قال: ورُوي أنّ عليّاً جاءه ابن ملجم يستحمله فحمله ثمّ قال رضي الله عنه:

أريدُ حياتَه و يريدُ قتلي

غديري من خليلي من مرادي

ثم قال: هذا والله قاتلي.

فقيل له: ألا تقتله؟ فقال: فمن يقتلني؟ «انتهى».

فلا يُقال: إذا كان يعلم أنّ ابن ملجم قاتله فلماذا تركه ولم يحبسه؟!

لأنّه سلام الله عليه كان مأموراً بالظاهر ومقيّداً بالشرع، فليس لحاكمٍ أنْ يعاقب أحداً إلّا إذا ارتكبَ جُرْماً، فلذا لمـّا قال الأصحاب لعليّعليه‌السلام : إذا كنتَ تعلم أنّه قاتلك فاقتله. فقالعليه‌السلام : لا يجوز

١١٤٦

القصاص قبل الجناية.

يقول الكاتب الإنجليزي - كارليل - في كتابه الأبطال: إنّ علي بن أبي طالب قُتل لعدله.

أي إذا كان ظالماً مثل كثير من الملوك والحكّام، وما كان مقيّداً بالدين والقانون لقتل ابن ملجم، كما يقتل الملوك كلَّ من أساءوا الظنّ فيه حتى إذا كان المظنون أخوهم وإبنهم أو أعزّ وأقرب الناس إليهم.

ولكنّ الامام عليّعليه‌السلام سلام الله عليه هو الوحيد في التاريخ الذي كان يعرف قاتله ويعرِفّه الناس، ولا يقضي عليه وتركه حرّاً وما حبسه ولا نفاه، ولمـّا ضَربه ابن ملجم بسيفه أوصى وقال صلوات الله وسلامه عليه: انظروا إذا أنا قُتِلتُ من ضربته، فاضربوه ضربةً بضربة، ولا تمثّلوا به ...!

ونستنتج من هذه الأخبار أنّ مَنْ ارتضاه الله تعالى ومنحه علم الغيب يلزم أنْ يكون معصوماً عادلاً، وألّا يقوم بالتعدّي والظلم استناداً على علمه، قبل حدوث الجناية وقبل أنْ يقع شيءٌ مما علمه، وبذلك يبطل التقدير الإلهي، وهذا محال. لذا جاء في رواية الصواعق المحرقة آنفاً: أنّ عليّاًعليه‌السلام لمـّا قال: هذا والله قاتلي - وأشار إلى ابن ملجم - فقيل لهعليه‌السلام : ألا تقتله؟ فقالعليه‌السلام فمَن يقتلني؟

فأسألكم أيها الحاضرون والمستمعون! أما تدّل هذه الأخبار والروايات في كتب كبار علمائكم، على علم الإمام عليّعليه‌السلام بالمغيّبات وأنّه كان يمتاز عن سائر الناس وسائر الصحابة، بهذه الميزة العظمى والفضيلة الكُبرى؟

١١٤٧

يجب تقديم الأعلم والأفضل

فإنّ العقلاء في كل زمان ومكان لا يسمحون بتقديم الجاهل على العالم ولا يجوز عندهم متابعة الأفضل للمفضول بل يجب انقياد الجاهل للعالم والمفضول للفاضل.

وإنّ أفضليّة الإمام عليّعليه‌السلام وأعلميّته أمرٌ ثابت لجميع الأمة من الصحابة والتابعين والمتقدمين والمتأخرين حتّى أنّ ابن أبي الحديد في مقدّمته على شرح نهج البلاغة قال: الحمد لله الذي قدم المفضول على الأفضل.

وهذا التعبير والبيان يثير التعجّب في كل إنسان ولا سيّما من عالم مثل ابن أبي الحديد، لأنّ فيه نسبة عمل خلاف العقل والحكمة إلى الله العليم الحكيم سبحانه وتعالى عما يصفون! فإنّ تقديم المفضول على الأفضل مخالف للحكمة والعقل ويأباه كل إنسان ذي فهم وإدراك فكيف بالله عزّ وجلّ؟ وهو يقول في كتابه الكريم:( هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ) (١) ؟

ويقول:( أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إلّا أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) (٢) ؟

والجدير بالذِّكر أن ابن أبي الحديد صاحب التعبير الآنف يقول أيضاً في شرح نهج البلاغة: ج ١/ ص ٤، طبع مصر: أنّهعليه‌السلام أفضل البشر بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله و أحقّ بالخلافة من جميع المسلمين.

____________________

١) سورة الزمر، الآية ٩.

٢) سورة يونس، الآية ٣٥.

١١٤٨

ولقد أمر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله المسلمين أنْ يأخذوا العلم من عليّعليه‌السلام ويرجعوا إليه من بعده بقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ومن أراد العلم فعليه بالباب، أو فليأتِ الباب.

فالذي أمر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله الأمة أن يرجعوا إليه ويتعلّموا منه أحق بالخلافة والإمامة، أم غيره؟!

الشيخ عبد السلام: إذا كان عليٌ كرم الله وجهه هو المقدَّم كما تزعمون، لأنّه أعلم وأفضل الناس بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلماذا لم نجد نصّاً من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يُلزم فيه المسلمين على متابعة سيدنا عليّ كرم الله وجهه؟

قلت: لا أدري هل الشيخ عبد السلام - سلّمه الله - مبتلى بالنسيان أم يتناسى أحاديثنا السالفة في الليالي الماضية، فإنّ أكثر الحاضرين يذكرون، وكذلك الصحف والمجلّات الناشرة للمحاورات السابقة موجودة والكل شاهد على أنّي ذكرتُ عشرات الأحاديث النبويّة الشريفة من كتبكم ومصادركم الموثوقة، تتضمّن النصوص الخفيّة والجليّة في وجوب متابعة الإمام عليّعليه‌السلام وإطاعته وعدم مخالفته، وبعد كل ذلك كأنّ الشيخ يفتح الموضوع من جديد ويرجع إلى بداية المناقشات فيطالب بالنصّ الصادر من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله على وجوب ولزوم متابعة الإمام عليعليه‌السلام !

ومع غضّ النظر عن المناقشات السالفة، لو أردنا أنْ نعرف ما الذي ألزم الناس أن يتبعوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ لكان الجواب: لأنّه كانصلى‌الله‌عليه‌وآله يعلم من الله ما لا يعلمون. فأسألُ فضيلة الشيخ: هل علوم

١١٤٩

النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كانت خاصّة لهداية البشر في زمان حياته المباركة، أم كانت كذلك لجميع البشر إلى يوم القيامة؟

الشيخ عبد السلام: من الواضح أنّه كان هدياً لجميع البشر إلى يوم القيامة.

قلت: بارك الله فيك.. فإذا لم يكن من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أيّ نصٍّ في تعيين الخليفة والإمام إلّا حديثه الشريف المتواتر: أنا مدينة العلم و عليٌ بابها و مَن أراد العلم فليأت الباب، لكفى في إثبات خلافة الإمام عليّعليه‌السلام وأنَّه المعيَّن بالنصَّ الجليّ.

ولقد أجمع علماء الإسلام على أنّ علي بن أبي طالب كان أعلم الأمة وأعلم الصحابة لحديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الذي رواه جمعٌ من كبار علمائكم وأعلام محدثيكم مثل أحمد في مسنده، والخوارزمي في المناقب، وأبي نعيم الحافظ في كتابه نزول القرآن في عليّ، والعلّامة القندوزي في ينابيع المودّة، والعلّامة الهمداني في مودّة القربى، وحتى ابن حجر المتعصّب في صواعقه وغيرهم بأنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: أعلمُ أمتي علي بن أبي طالب فلا يقاس به أحدٌ من الصحابة في العلم والفضيلة، كما روى ابن المغازلي في المناقب، ومحمد بن طلحة العدوي في مطالب السئول، وشيخ الإسلام الحمويني في فرائد السمطين، والعلّامة القندوزي الحنفي في ينابيع المودّة / الباب الرابع عشر، في غزارة علمهعليه‌السلام ، روى الكلبي عن عبد الله بن عباس قال: عِلْمُ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من علم الله، و علم عليّ من علم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، و علمي من علم عليّ، و ما علمي و علم الصحابة في علم عليّ إلّا

١١٥٠

كقطرة في سبعة أبحر(١) .

وقالعليه‌السلام في آخر الخطبة المرقمة ١٠٨ من نهج البلاغة: نَحْنُ شَجَرَةُ النُّبُوَّةِ وَ مَحَطُّ الرِّسَالَةِ وَ مُخْتَلَفُ الْمَلائِكَةِ وَ مَعَادِنُ الْعِلْمِ وَ يَنَابِيعُ الْحُكْمِ.

قال ابن أبي الحديد في شرحه ج ٧/ ٢١٩، ط. دار إحياء الكتب العربية: فأما قوله:

و معادن العلم و ينابيع الحكم يعني الحكمة أو الحكم الشرعيّ، فإنّه و إنْ عَنى بها نفسه و ذريّته، فإنّ الأمر فيها ظاهر جداً، قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : أنا مدينة العلم و عليٌ بابها فمن أراد المدينة فليأت الباب،و قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : أقضاكم عليٌّ. و القضاء أمرٌ يستلزم علوماً كثيرة. - وبعد نقله روايات أخرى - يقول:

و بالجملة فحاله في العلم حالٌ رفيعة جداً لم يلحقه أحد فيها و لا قاربه، و حقّ له أن يصف نفسه بأنّه معادن العلم و ينابيع الحكم، فلا أحد أحقُّ بها منه بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله . انتهى.

وأخرج ابن عبد البر في الاستيعاب: ج ٣ / ٣٨، ومحمد بن طلحة العدوي في مطالب السئول، والقاضي الأيجي في المواقف ص ٢٧٦ عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال: أقضاكم عليّ.

____________________

١) وقال ابن أبي الحديد في مقدمة شرح نهج البلاغة: و من العلوم علم تفسير القرآن و عنه أُخِذ و منه فُرّع، و إذا رجعتَ إلى كتب التفسير علمتَ صحّة ذلك لأن أكثره عنه و عن عبد الله بن عباس، و قد علم الناس حالَ ابن عباس في ملازمته له، و انقطاعه إليه، و أنّه تلميذه، و قيل له: أين علمك من علم ابن عمك؟ فقال كنسبة قطرة من المطر إلى البحر المحيط.

«المترجم»

١١٥١

وأخرج السيوطي في تاريخ الخلفاء: ص ١١٥، وأبو نعيم الحافظ في حلية الأولياء: ج ١ / ٦٥، ومحمد الجزري في أسنى المطالب: ص ١٤، وابن سعد في الطبقات، وابن كثير في تاريخه ج ٧ / ٣٥٩، وابن عبد البر في الاستيعاب: ج ٤ / ٣٨، وابن حجر في صواعقه في الفصل الذي يذكر فيه ثناء الصحابة لعليعليه‌السلام ، وغيرهم أخرجوا عن عمر بن الخطاب أنه قال: عليٌّ أقضانا، ولقد نقل العلامة القندوزي الحنفي في كتاب ينابيع المودّة / الباب الرابع عشر / عن كتاب الدرّ المنظم لابن طلحة الحلبي الشافعي قال: إعلم أنّ جميع أسرار الكتب السماويّة في القرآن وجميع ما في القرآن في الفاتحة وجميع ما في الفاتحة في البسملة وجميع ما في البسملة في باء البسملة وجميع ما في باء البسملة في النقطة التي هي تحت الباء، وقال الإمام عليّ كرم الله وجهه: أنا النقطة التي تحت الباء. انتهى وأخرج العلّامة القندوزي أيضاً في الباب، عن ابن عباس أنّه قال: أخذ بيدي الإمام عليّ ليلة مقمرة فخرج بي إلى البقيع بعد العشاء وقال: اقرأ يا عبد الله. فقرأت: بسم الله الرحمن الرحيم، فتكلم في أسرار الباء إلى بزوغ الفجر.

وروى القندوزي في الباب عن الدرّ المنظّم، وروى الخوارزمي في المناقب، وابن طلحة العدوي في المطالب: أنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام قال: سلوني عن أسرار الغيوب فإنّي وارث علوم الأنبياء والمرسلين.

وروى القندوزي أيضا في الباب أيضاً، وأحمد في المسند، وابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة: أنّ علياًعليه‌السلام قال على المنبر: سلوني قبل أن تفقدوني، سلوني عن طرق السماوات فإنّي أعرف بها من طرق الأرض.

١١٥٢

لا يخفى أنّ هذا الكلام منهعليه‌السلام - ولا سيما في ذلك الزمان الذي ما كان البشر بعدُ يتصوّر ويفكّر في طرق السماوات، ولا كان يُعْقَل ويُصَّدَق بأن للسماوات طرقاً كطرق الأرض - أكبر دليلٍ على أنّ علمه كان لَدُنيّاً ونازلاً إليه من ربّ السماء بواسطة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

والجدير بالذكر، أنّهم لما سألوه عن الكرات السماويّة والأسرار الفلكيّة، أجابهم بموجب الاكتشافات العلميّة الحديثة وعلى خلاف ما كان يعتقدون آنذاك من نظريّة بطلميوس وغيرها.

جوابهعليه‌السلام عن الكرات السماوية

روى العالم الفاضل والمحدِّث الجليل الثقة العدل الشيخ علي بن إبراهيم القمي - من أعلام القرن الثالث الهجري - في كتابه المعروف بتفسير القمي. ضمن تفسيره سورة الصافّات، وكذلك العلّامة اللُغوي والعالم الديني الورع الزاهد التقي فخر الدين الطُرَيحي في كتابه مجمع البحرين، وكان يعيش قبل ثلاثمائة سنة تقريباً، روى في مادة كوكب. وروى العلّامة الجليل والمحدّث النبيل المولى محمد باقر المجلسي رحمه الله في بحار الأنوار مجلّد السماء والعالم، قالوا بأنّهعليه‌السلام سُئل عن الكواكب في السماء فقال في جوابهم: هذه الكواكب مدائن مثل المدائن التي في الأرض. تربُطُها أعمدةٌ من نور.

هذا الكلام - في ذلك الزمان الذي ما كانت فيه هذه الوسائل والآلات الكاشفة للكرات والسّيّارات الفلكيّة - يُعدُّ من المعاجز العلميّة التي تدلّ على أنّ قائلها إنّما كان يستوحي علمه من السماء ومن الخالق

١١٥٣

العظيم. لأنّ هذا الكلام على خلاف ما كان يعتقد العلماء و الفلكيّون في ذلك العصر. وبعد مُضيّ أكثر من ألف سنّة انكشفَ صحة كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام . ولقد كان لأولاده الأئمة المعصومين سلام الله عليهم كلام من هذا القبيل أيضاً وهو كثيرٌ وقد جمعه أحد علمائنا الكبار في كتاب سمّاه - الهيئة والإسلام -.

حديث مع المستشرق الفرنسي مسيو جوئن

من المناسب أن أحدّثكم بحديث حدث في سفري هذا من العراق إلى بلادكم وهو: أني لمـّا ركبتُ السفينة والباخرة من ميناء البصرة وتوجّهتُ إلى الهند، صادفَ أن رافقني في الغرفة التي كنتُ فيها المستشرق الفرنسي مسيو جوئن وكان يجيد العربية والفارسية إلى جانب لغته الفرنسية فتصادقنا مدّة سفرنا الذي طال أيّاماً كثيرة وكنت وإيّاه في طول الطريق نتحادث عن الأمور العلميّة والدينية وكنت مهتماً بإرشاد الرجل إلى الإسلام من خلال حديثي عن اعتقاداتنا الحقة وتعاليم ديننا السامية الواصلة إلينا من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته وعترته والتي تشكِّل مذهب الشيعة الإمامية.

وفي يوم من الأيّام أقرّ الرجل وقال: إنّي أعترف بأنّ دين الإسلام يشتمل على تعاليم سامية، وعقائد عالية ومعنويات عظيمة، بحيث لا توجد مثلها في سائر الأديان وحتى المسيحية ولكنّ أتباع الديانة المسيحية توصّلوا في الاكتشافات العلميّة والاختراعات الصناعيّة.

وتقدّموا في الأمور الماديّة إلى بعد الغايات وسَبَقوا المسلمين وأتباع الديانات الأخرى في توفير وسائل الراحة والسعادة في الحياة.

١١٥٤

قلت له: كلامك صحيح ولا ننكر ذلك، ولكن أساس هذه العلوم التي أدّت إلى تلك الاكتشافات العلميّة والاختراعات الصناعية بيد الغربيين كان منبعها وأساسها من الإسلام والمسلمين، والتاريخ يشهد بأنّ الغربيين إلى القرن الثامن الميلادي كانوا يعيشون في بربريّة وهمجيّة، في حين كان المسلمون يحملون راية العلم وكانوا آنذاك دعاة التمدّن والتقدّم والصلاح، كما يعترف بذلك كبار أعلامكم مثل ارنست رنان الفرنسي، وكارليل الانجليزي، وندرمال الألماني وغيرهم.

وقبل أيّام وجدت كتاباً عند أحد زملائي الكرام وهو النواب محمد حسين خان قزلباش، من شخصيات الهند، يقيم في كربلاء والكاظمية، ناولني ذلك الكتاب وقال أنّه كتاب قيّم كتبه أحد المستشرقين الفرنسيين وترجمهُ من الفرنسيّة إلى الهنديّة السيد الفاضل والعالم الكامل السيّد علي بلجرامي الهندي، واسمه: تاريخ تمدّن العرب لمؤلفه جوستان لوبون الحائز على شهادات الدكتوراه في الطب والحقوق والاقتصاد.

قال النوّاب محمد حسين خان: ولقد أثبت فيه المؤلف بالدلائل والبراهين بأنّ كل ما عند الغربيين من العلم والتمدّن والصناعات وحتى التعاليم الأخلاقيّة وآداب المعاشرة والإدارة وسياسة البلاد وتدبير الجيوش والعساكر والمهام الاجتماعيّة والفرديّة وغيرها، إنما اكتسبوها وتعلّموها من العرب، فإنّ العرب سبقوا كل الشعوب والِملل إلى هذه الأمور الحَسَنة.

ومن الواضح أنّ المقصود من العرب، هم المسلمون لأنّ العرب قبل ظهور الإسلام، كانوا يعيشون في جاهلية وبربريّة بحيث سمّاهم

١١٥٥

المؤرّخون بعرب الجاهليّة ولكنّهم بفضل الاسلام أصبحوا روّاد العلم والتمدّن والصلاح والنظام في العالم.

فقال المسيو جوئن: نعم إنّي طالعتُ وقرأت هذا الكتاب في باريس.

فانّ المؤلف الدكتور جوستاف لوبون زميلي ولقد أهدى لي كتابه بيده، وهو كتاب علميٌ تحقيقيٌ تاريخيٌ استدلالي.

مقال جوستاف لوبون في تأثر الغرب بالتمدن الإسلامي

ولقد ترجم لي الأستاذ صادق خان قزلباش وهو يسكن مدينة الكاظمية أيضاً. بعض أوراق ذلك الكتاب، منها الفصل الثاني من الباب العاشر تحت عنوان: تأثير الغرب بالتمدن الإسلامي، وأنا أشكره كثيراً. وأقدّم إليكم هذا المقال بالمناسبة يقول جوستاف لوبون: إنّ أثر التمدن الإسلامي في الغرب لايقلّ عن الأثر الذي أوجده في الشرق، وبالإسلام تمدّنت أوروبا. وإذا أردنا أنْ نعرف مدى هذا التأثير، يلزم أن نطالع تاريخ أوربا قبل ظهور الإسلام.

ففي القرن التاسع والعاشر الميلادي أيْ في الزمن الذي وصل التمدّن الإسلامي إلى القمّة في بلاد أس پ انيا - الأندلس سابقاً - وحصل التقدّم العلمي والحضاري والإجتماعي والتجاري في تأسيس مراكز، لم يكن في كل بلاد الغرب مركزٌ واحد للعلم والحضارة، أو تعليم الآداب الاجتماعيّة والتجاريّة. وكان كلّ شيءٍ منحصراً في الكنائس وفي يد القساوسة والرهبان الجاهلين الذين كانوا يدّعون العلم والمعرفة ويجبرون الناس على الإلتزام والتمسّك بالإنحرافات والخزعبلات التي

١١٥٦

كانوا ينسبونها إلى الدين!

ومن القرن الثاني عشر الميلادي توجَّه بعض الغربيين إلى الأندلس ودخلوا المراكز العلميّة التي أسسها هناك وتلمّذوا عند العلماء المسلمين، وأصبحوا علماء فاهمين وعادوا إلى بلاد أوربا، وعملوا لإنقاذ شعوبهم من جهل القساوسة والخرافات المنتسبة إلى الدين.

فكل علماء العالَم يجب أن يعرفوا حق المسلمين وتأثير التعاليم الإسلاميّة في انتشار العلم وترغيب الناس في تحصيل العلوم، ولا سيما علماؤنا في الغرب يجب أنْ يعرفوا أنّ للمسلمين حق الحياة عليهم، ولو سمّينا تمدّن الغرب بتمدّن الإسلام والعرب كان صحيحاً.

هذا رأي أحد المستشرقين وأحد علمائكم المحققين، وأنت مثل كثير من الأوربيين تفتخر وتتباهى بالاكتشافات والاختراعات الحديثة في الغرب وتنسون ذلك الماضي المظلم ولا تتفكّرون في النور الذي أزاح عنكم ذلك الجهل والظلام المطبق والنور هو نور الاسلام والعلم الذي أوصلكم بفضل الإسلام ولو طالعتم وقرأتم تاريخ الجزيرة العربيّة قبل الإسلام أيضاً، لرأيتهم أسوأ حالاً من الغربي آنذاك، فلا علم ولا نظام ولا جولة ولا قانون و

ولمـّا جاءهم الإسلام فبفضل خاتم الأنبياء والتعاليم السامية التي جاء بها من عند الله عزّ وجلّ صارت الجزيرة من أرقى بلاد العالم، وانطلق منها المسلمون ينشرون تلك التعاليم الراقية والأحكام العالية، في حين كانت باريس التي هي اليوم مهد التمدّن والحضارة الحديثة، كانت يومذاك تعاني من البربرية والوحشية الحاكمة بين أهلها بكل

١١٥٧

ضرواة وقسوة.

قلت لمسيو جوئن: إنكم تعلمون أنّ أوربا في القرن السابع والثامن الميلادي في عهد الإمبراطور شارلمان ملك فرنسا، حصلت على شيء من النظام والتقدّم الحضاري والاجتماعي ولكن لا تُقاس مع البلاد الاسلامية حينذاك، ولقد كانت الروابط والعلاقات الدبلوماسيّة حسنة بين شارلمان وبين هارون الرشيد ولتوثيق العلاقات بودلت بينهما هدايا وتُحف، بدأ بها الإمبراطور شارلمان وأجابه هارون بإرسال جملة من الهدايا مثل المجوهرات الثمينة والملابس الفاخرة التي كانت من صنع وحياكة المسلمين، وكان منها فيلٌ كبير لم يرى الأوربيون مثله في بلادهم، وبعث ساعة كبيرة صنعها المسلمون العرب وكانت تبيّن ساعات الليل والنهار بدقّات منظّمة رنّانة بصوت يحدث على أثر سقوط أثقال حديدية في طاسة كبيرةٍ برونزية وقد نصبها الفرنسيّون على المدخل الرئيسي لعمارة الحكومة والتي كان الامبراطور يسكنها، هذا ما أثبته ونقله الدكتور جوستاف لوبون في كتابه ونقله أيضا غيره من المستشرقين والعلماء الغربيين. وإنْ أحببتم أن تعرفوا التمدنيْن الإسلامي والغربي في ذلك الزمان فراجعوا تواريخكم وطالعوا قضيّة إرسال هدايا الرشيد إلى الإمبراطور شارلمان وتلك الساعة التي تعدُّ أول ساعة من نوعها في أوربا، والجدير بالذكر أن المؤرخين الغربيين يكتبون أنّه لما نصبت هذه الساعة على المدخل الرئيسي لبيت الإمبراطور، اجتمع الناس ينظرون إليها متعجبين فلمّا رأوا حركات المؤشّرات وسمعوا تلك الدقّات الرنّانة التي كانت تحدث على أثر سقوط كريّات حديديّة في الطاسة البرونزية، قالوا فيما بينهم إنّ

١١٥٨

الشيطان الذي كان الرهبان والقساوسة يحذّروننا منها وأنّها أكبر عدوّ للإنسان قد اختفى في هذا الشيء، وهو الذي يحرِّك المؤشِّرات ويلقى الكريّات في الطاسة، فأخذوا المعاول والفؤوس وهجموا نحو دار الحكومة وبيت الإمبراطور، فلما عرف الملك كلامهم وعرف أنّ مقصدهم هدم الساعة وتحطيمها دخل معهم من باب المفاوضة والتفاهم، فاختاروا من بينهم كبارهم فصعدوا عند الساعة ونظروا إلى كيفية عملها ومحرّكاتها، وفتّشوها فلم يجدوا فيها غير قطعات خشبية وحديدية وبرونزيّة، فتنازلوا عن رأيهم واعتذروا إلى الإمبراطور!!

فالمسلمون كانوا متقدمين وسابقين على الغربيين في هذه العلوم والفنون والصناعات والاكتشافات بل هم المؤسسون لأكثر هذه الأشياء والعلوم والفنون إلّا أنّهم تكاسلوا بعد حين واغترّوا فسبقهم الغربيون وتقدّموا عليهم بما تعلّموه منهم.

ثم إنّ تقدّم الغربيين لا يرتبط بالسيد المسيحعليه‌السلام وبدينه حتى تقولوا بأن أتباع المسيح تقدَّموا على المسلمين، فإذا كان هذا الكلام صحيحاً، فلماذا عاش أتباع المسيحعليه‌السلام في وحشيّة وبربريّة وجاهلية جهلاء قريب الألف عام بعد صلب السيّد المسيح على حدّ زعمكم ولم يتحوّلوا ولم يتأدبّوا بالآداب ولم يتقيّدوا بالقانون والأحكام إلّا بعد انتشار الإسلام في العالم.

وقد طال الحديث حول الموضوع في ذلك.

الإمام عليعليه‌السلام والإكتشافات الحديثة

ثم قلت له: أنّ الفرق بين أئمة الإسلام وبين علماء العالم غير

١١٥٩

الأنبياء، أنّ العلماء توصَّلوا إلى ما توصَّلوا من الاكتشافات بالأسباب والوسائل، ولكنّ أئمتنا كشفوا عن كثير من الأسرار بغير وسائل وآلات. ثم قرأت عليه بعض الأخبار المرويّة عن أئمة أهل البيتعليهم‌السلام في تعريف وتوصيف بعض الحشرات الصغيرة التي لا تُرى بالعين المجرّدة، وقد وصفوها في زمن لم تكن المكرسكوبات وأمثالها مخترعة بعد واليوم بعد مضيّ أكثر من ألف سنّة توصّل علماؤكم الغربيّون إلى تلك الأوصاف بالآلات الحديثة والأجهزة الدقيقة. وكذلك كلامهمعليه‌السلام في الكرات السماويّة والسيّارات الفلكية، فأنتم اليوم تتباهون وتفتخرون ببعض مكتشفاتكم الفلكيّة والمجرّات والأقمار والسيّارات الفضائيّة وقد توصّلتم إليها بالأجهزة الاكتشافية والآلات العظيمة بينما توصّل إليها أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام بدون أجهزة وآلات، ومثال ذلك أنّه لمـّا سئل عن الكواكب والنجوم، قال: إنها مدائن مثل المدائن التي في الأرض. فلمّا قرأتُ عليه هذا الخبر - أَطْرَقَ مسيو جوئن إلى الأرض متفكراً -.

ثم قال: أرجوك أن تذكر لي الكتب التي نَقَلَت هذا الخبر قبل اختراع التلسكوب والاكتشافات الحديثة.

فذكرت له الأسماء المصادر القديمة فسجّلها وكتب نصّ الخبر، وقال: أنا الآن في طريقي إلى باريس وسأنزل في لندن وأراجع مكتباتها العامّة لغرض الحصول على هذه المصادر التي سجّلتها. وإن لم أجد هذه المصادر في لندن فسوف أفتّش عنها في باريس وفي سائر بلاد أوروبا، فإذا كان الخبر كما نقلتم وذكرتم في تلك المصادر القديمة - التي كُتبت قبل اختراع هذه الآلات والأجهزة - عن الكرات السماوية

١١٦٠