مناظرات وحوار ليالي بيشاور

مناظرات وحوار ليالي بيشاور0%

مناظرات وحوار ليالي بيشاور مؤلف:
المحقق: السيّد حسين الموسوي
الناشر: ذوي القربى
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 1199

مناظرات وحوار ليالي بيشاور

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيّد محمّد الموسوي الشيرازي
المحقق: السيّد حسين الموسوي
الناشر: ذوي القربى
تصنيف: الصفحات: 1199
المشاهدات: 220551
تحميل: 2542

توضيحات:

مناظرات وحوار ليالي بيشاور
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 1199 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 220551 / تحميل: 2542
الحجم الحجم الحجم
مناظرات وحوار ليالي بيشاور

مناظرات وحوار ليالي بيشاور

مؤلف:
الناشر: ذوي القربى
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

فقال بعضهم: إنّ هذه الروايات المطلقة في الجمع بين الصلاتين لعلّها تقصد الجمع في أوقات العذر، مثل الخوف والمطر وحدوث الطين والوحل، وعل هذا التأويل المخالف لظاهر الروايات أفتى جماعة كبيرة من أكابر متقدّميكم، مثل: الإمام مالك والإمام الشافعي وبعض فقهاء المدينة فقالوا: بعدم جواز الجمع بين الصلاتين إلّا لعذر كالخوف والمطر!

ومع أنّ هذا التأويل يردّه صريح رواية ابن عبّاس التي تقول: «جمع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، بالمدينة من غير خوف ولا مطر».

وقال بعضهم الآخر في تأويل هذه الروايات المطلقة الصريحة في الجمع بين الصلاتين مطلقاً، حتّى وإنْ كان بلا عذر ولا سفر: لعلّ السحاب كان قد غطّى السماء، فلم يعرفوا الوقت، فلمّا صلّوا الظهر وأتمّوا الصلاة، زال السحاب وانكشف الحجاب، فعرفوا الوقت عصراً، فجمعوا صلاة العصر مع الظهر!!

فهل يصحّ - يا ترى - مثل هذا التأويل في أمر مهمّ مثل الصلاة، التي هي عمود الدين؟!

وهل أنّ المؤوِّلين نسوا أنّ المصلّي - في الرواية - هو رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنّ وجود السحاب وعدمه لا يؤثّر في علم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، الذي يعلم من الله تعالى، وينظر بنور ربّه (عزّوجلّ)؟!

وعليه: فهل يجوز أن نحكم في دين الله العظيم استناداً إلى هذه التأويلات غير العرفيّة، التي لا دليل عليها سوى الظنّ المرجوح! وقد

٤١

قال تعال:( إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا ) (١) .

إضافة إلى ذلك ما الذي تقولونه في جمع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بين صلاتي المغرب والعشاء، مع أنّه لا أثر حينها للسحاب وعدمه فيه؟!

إذن فهذا التأويل وغيره من التأويلات، خلاف ظاهر الروايات، وخلاف صريح الخبر القائل: «إنّ ابن عبّاس استمرّ في خطبته حتّى بدت النجوم، ولم يبالِ بصياح الناس: الصلاة الصلاة، ثمّ ردّ ابن عبّاس على التميمي بقوله: أتعلّمني بالسُنّة؟! لا اُمّ لك! رأيتُ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء» ثمّ تصديق أبي هريرة لمقالة ابن عبّاس.

وعليه: فإنّ هذه التأويلات غير معقولة ولا مقبولة عندنا، وكذا غير مقبولة عند كبار علمائكم أيضاً، إذ أنّهم علّقوا عليها: بأنّها خلاف ظاهر الروايات.

فهذا شيخ الإسلام الأنصاري في كتابه «تحفة الباري في شرح صحيح البخاري في باب صلاة الظهر مع العصر والمغرب مع العشاء آخر ص ٢٩٢ في الجزء الثاني» وكذا العلّامة القسطلاني في كتابه «إرشاد الساري في شرح صحيح البخاري في ص ٢٩٣ من الجزء الثاني» وكذا غيرهما من شرّاح صحيح البخاري، وكثير من محقّقي علمائكم، قالوا: هذه التأويلات على خلاف ظاهر الروايات، وإنّ التقيّد بالتفريق بين الصلاتين ترجيح بلا مرجّح وتخصيص بلا مخصّص.

النواب: إذن فمن أين جاء هذا الاختلاف الذي فرّق بين الإخوة

____________________

١) سورة يونس، الآية ٣٦.

٤٢

المسلمين إلى فرقتين متخاصمتين، ينظر بعضهم إلى الآخر بنظر البغض والعداء، ويقدح بعضهم في عبادة البعض الآخر؟!

قلت:

أولا: بما أنّك قلت: بأنّ المسلمين صاروا فريقين متعاديين، أوجب عَليَّ الوقوف قليلاً عند كلمة: متعاديين، لنرى معاً هل العداء - كما قلت - كان من الطرفين، أو من طرف واحد؟!

وهنا لا بُدّ لي - وأنا واحد من الشيعة - أن أقول دفاعاً عن الشيعة - أتباع أهل البيتعليهم‌السلام ، وإزاحةً لهذه الشبهة عنهم -: بأنّا نحن معاشر الشيعة، لا ننظر إلى أحد من علماء العامة وعوامِهم بعين التحقير والعداء، بل نعدّهم إخواننا في الدين.

وذلك بعكس ما ينظره بعض العامة إلينا تماماً، إذ إنّهم يرون أنّ الشيعة أعداءَهم، فيتعاملون معهم معاملة العدوّ لعدوّه، ولم تأتهم هذه النظرة بالنسبة إلى شيعة آل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأتباع مذهب أهل بيت رسولهم الكريم، إلّا بسبب التقوّلات والأباطيل التي نُشرت ضدّهم بواسطة الخوارج والنواصب وبني اُميّة وأتباعهم من أعداء النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وأعداء آله الكرامصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبسبب الاستعمار - في يومنا هذا - الذي هو ألدّ أعداء الإسلام والمسلمين، والذي يخشى على منافعه ومطامعه من وحدة المسلمين وإجتماعهم.

ومع الأسف الشديد فإنّ هذه التضليلات العدوانية أثّرت في قلوب وأفكار بعض أهل السنّة، حتّى نسبونا على الكفر والشرك!

وياليت شعري هل فكّروا في أنّهم بأيّ دليل ذهبوا إلى هذا المذهب وفرّقوا بين المسلمين؟!

٤٣

ألم يفكّروا في نهي الله تعالى المسلمين عن التفرقة بقوله:( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ الله جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ) (١) ؟

ثمّ أليس الله (عزّوجلّ)، وحده لا شريك له، ربّنا جميعاً، والإسلام ديننا، والقرآن كتابنا، والنبيّ الكريم محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله خاتم النبيّين وسيّد المرسلين نبيّنا، وقوله وفعله وتقريره سُنّتنا، وحلاله حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرام إلى يوم القيامة، وأنّ الحقّ ما حقّقه، والباطل ما أبطله، ونوالي أولياءه، ونعادي أعداءه، والكعبة مطافنا وقبلتنا جميعاً، والصلوات الخمس، وصيام شهر رمضان، والزكاة الواجبة وحجّ البيت لمن استطاع إليه سبيلاً، فرائضنا، والعمل بجميع الأحكام والواجبات والمستحبّات وترك الكبائر والمعاصي والذنوب مرامنا؟!

ألستم معنا في هذا كلّه؟

أم إنّ شرعنا أو شرعكم، وإسلامنا وإسلامكم غير ما بيّنّاه من الدين المبين؟؟!

وأنا على علم ويقين بأنّكم توافقوننا في كلّ ما ذكرناه، وإن كان بيننا وبينكم شيء من الخلاف فهو كالخلاف الموجود فيما بينكم وبين مذاهبكم، فنحن وأنتم في الإسلام سواء( كُلٌّ آمَنَ بِالله وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ) (٢) .

إذن فلماذا صار بعض العامة ينسبوننا إلى ما لا يرضى به الله ورسوله، ويبغون الفُرقة بيننا وبينهم، وينظرون إلينا بنظر العداوة

____________________

١) سورة آل عمران، الآية ١٠٣.

٢) سورة البقرة، الآية ٢٨٥.

٤٤

والبغضاء؟! وهذا ما يتربّصه بنا أعداء الإسلام ويريده لنا الشيطان، شياطين الإنس والجنّ، قال تعالى في ذلك:( ... شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ وَلِتَصْغَىٰ إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ ) (١) .

وقال تعالى:( إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْـسِرِ ) (٢) فتارة يوقع الشيطان العداوة والبغضاء بين المسلمين بواسطة الخمر والميسر، وتارة بواسطة التسويلات والأوهام التي يلقيها في قلوبهم عبر التهم والأباطيل التي ينشرها شياطين الإنس في أوساطهم.

ثانياً: سألت: من أين جاء هذا الاختلاف؟

فإنّي أقول لك وقلبي يذوب حسرة وأسفاً: لقد جاء هذا وغيره من الإختلافات الفرعية على أثر اختلاف جذري وخلاف أصولي، ليس هذا الوقت مناسباً لذكره، ولعلّنا نصل إليه في مباحثنا الآتية فنتعرّض له إذا دار النقاش حوله، وحين ذاك ينكشف لكم الحقّ وتعرفون الحقيقة إن شاء الله تعالى.

ثالثاً: وأمّا بالنسبة إلى مسألة الجمع والتفريق بين الصلاتين، فإنّ فقهاءكم بالرغم من أنّهم رووا الروايات الصحيحة والصريحة في الرخصة وجواز الجمع لأجل التسهيل ورفع الحرج عن الأُمّة، أوّلوها - كما عرفت - ثمّ أفتوا بعدم جواز الجمع من غير عذر أو سفر، حتّى أنّ بعضهم - مثل أبي حنيفة وأتباعه - أفتوا بعدم جواز الجمع مطلقاً

____________________

١) سورة الأنعام، الآية ١١٢ و١١٣.

٢) سورة المائدة، الآية ٩١.

٤٥

حتّى مع العذر والسفر(١) .

ولكنّ المذاهب الاُخرى من الشافعية والمالكية والحنابلة على كثرة اختلافاتهم الموجودة بينهم في جميع الأصول والفروع أجازوا الجمع في الأسفار المباحة كسفر الحج والعمرة، والذهاب إلى الحرب، وما أشبه ذلك.

وأمّا فقهاء الشيعة، فإنّهم تبعاً للأئمّة الأطهار من آل النبي المختارصلى‌الله‌عليه‌وآله - الّذين جعلهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ميزاناً لمعرفة الحقّ والباطل، وعدلاً للقرآن، ومرجعاً للاُمّة في حلّ الاختلاف، وصرّح بأنّ التمسّك بهم وبالقرآن معاً أمان من الفرقة والضلالة بعده - أفتوا بجواز الجمع مطلقاً، لعذر كان أم لغير عذر، في سفر كان أم في حضر، جمع تقديم في أوّل الوقت، أم جمع تأخير في آخر الوقت، وفوّضوا الخيار في الجمع والتفريق إلى المصلّي نفسه تسهيلاً عليه ودفعاً للحرج عنه، وبما أنّ الله يحبّ الأخذ برُخَصه، اختارت الشيعة الجمع بين الصلاتين، حتّى لا يفوتهم شيء من الصلاة غفلة أو كسلاً، فجمعوا تقديماً، أو تأخيراً.

ولمـّا وصل الكلام في الجواب عن الجمع بين الصلاتين إلى هنا قلت لهم: أرى الكلام عن هذه المسألة بهذا المقدار كافياً، فإنّي أظنّ

____________________

١) جاء في كتاب «عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي» للإمام الحافظ ابن العربي المالكي: ج ١ باب «ما جاء في الجمع بين الصلاتين».

قال علماؤنا: الجمع بين الصلانين في المطر والمرض رخصة. وقال أبو حنيفة: بدعة وباب من أبواب الكبائر.

ثمّ يبدي الشارح رأيه فيقول: بل الجمع سُنّة. «المترجم»

٤٦

بأنّ الشبهة قد ارتفعت عن أذهانكم وانكشف لكم الحقّ، وعرفتم: أنّ الشيعة ليسوا كما تصوّرهم البعض أو صوّروهم لكم، بل إنّهم إخوانكم في الدين، وهم ملتزمون بسُنّة النبي الكريم وبالقرآن الحكيم(١) .

عود على بدأ

قلت: والآن أرى أنّ من الأفضل أنْ نعود إلى حوارنا السابق، ونتابع حديثنا حول المسائل الأصولية المهمّة، فإنّ هناك مسائل اُصوليّة أهمّ من هذه المسائل الفرعيّة، فإذا توافقنا على تلك المسائل الاصولية، فالموافقة على أمثال هذه المسائل الفرعية حاصلة بالتبع.

الحافظ: إنّني فرحٌ بمجالسة عالم فاضل ومفكِّر نبيل، ومحادثة متفكّر، ذي اطّلاع وافر على كتبنا ورواياتنا مثل جنابكم، فقد بان لي فضلكم وعلمكم في أوّل مجلس جلسناه معكم، وكما تفضّلتم فإنّ من الأفضل - الآن - أن نتابع حديثنا السابق.

____________________

١) وأمّا دليلنا على جواز الجمع بين الصلاتين من القرآن الكريم قوله تعالى:( أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَىٰ غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا ) سورة الإسراء الآية ٧٨.

فالمواقيت التي بيّنها الله تعالى للصلوات اليومية في هذه الآية المباركة، ثلاثة: ١- دلوك الشمس وهو الزوال، ٢- غسق الليل، ٣- الفجر.

وقال تعالى:( وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ ) سورة هود، الآية ١١٤.

فالطرف الأوّل - من طرفي النهار - هو: من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، والطرف الثاني هو: من زوال الشمس إلى غروبها، وزلفاً من الليل أي: أوّل الليل وهو وقت زوال الحمرة بعد غروب الشمس. «المترجم».

٤٧

غير أنّي أستأذن سماحتكم لأقول متسائلاً: لقد ثبت لنا بكلامكم الشيّق، وبيانكم العذب، أنّكم من الحجاز، ومن بني هاشم، فاُحبّ أن أعرف - أنّكم مع هذا النسب الطاهر والأصل المنيف - ما حدا بكم حتّى هاجرتم من الحجاز وعلى الخصوص من المدينة المنوّرة، مدينة جدّكم ومسقط رأسكم وسكنتم في إيران؟!

ثمّ في أيّ تاريخ كان ذلك ولماذا؟!

قلت: إنّ أوّل من هاجر من آبائي إلى إيران هو الأمير السيّد محمد العابد ابن الإمام موسى بن جعفر (عليه الصلاة والسّلام)، وكان فاضلاً تقيّاً، عابداً زاهداً، ولكثرة عبادته - إذ إنّه كان قائم الليل وصائم النهار وتالياً للقرآن الكريم في أكثر ساعات ليله ونهاره - لقّب بالعابد، وكان يحسن الخطّ ويجيد الكتابة، فصار يستغل فراغه باستنساخ وكتابة المصحف المبارك، وكان ما يأخذه من حقّ مقابل كتابته يعيش ببعضه، ويشتري بالزائد منه مماليك وعبيداً ويعتقهم لوجه الله (عزّوجلّ)، حتّى أعتق عدداً كبيراً منهم بذلك.

ولمـّا أدركته الوفاة وارتحل من الدنيا ودفن في مضجعه، أصبح مرقده الشريف وإلى هذا اليوم مزاراً شريفاً لعامة المؤمنين في مدينة شيراز.

وأمر ابن الأمير اُويس ميرزا معتمد الدولة، ثاني أولاد الحاجّ فرهاد ميرزا معتمد الدولة - عم ناصر الدين شاه قاجار - بنصب ضريح فضّي ثمين على القبر الشريف، وأمر بروضته المباركة - وهي مسجد لأداء الفرائض اليومية وإقامة الجماعة، وتلاوة آيات الكتاب الكريم، وقراءة الأدعية والصلوات المستحبّة، أمَرَ أن تُزيَّن بالمرايا وأنواع البلاط

٤٨

والرخام، ليكون مأوى الزائرين، الّذين يفدون إلى زيارة المرقد الشريف من كلّ صوب ومكان.

الحافظ: ما هو سبب هجرته من الحجاز إلى شيراز؟!

قلت: إنّ في أواخر القرن الثاني من الهجرة، حينما أجبر المأمون الإمام عليّ بن موسى الرضا (عليه الصلاة والسلام) على الرحيل من مدينة جدّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله والهجرة إلى خراسان، وفرض عليه الإقامة في طوس، وذلك بعد أن قلّده ولاية العهد كرهاً، وقع الفراق بين الإمام الرضاعليه‌السلام وبين ذويه وإخوته.

ولمـّا طال الفراق، اشتاق ذووه واخوته وكثير من بني هاشم إلى زيارتهعليه‌السلام فاستأذنوهعليه‌السلام في ذلك فأذن لهم.

كما وبعثوا كتاباً إلى المأمون يطلبون منه الموافقة على سفرهم إلى طوس لزيارة أخيهم وإمامهم الرضاعليه‌السلام ، حتّى لا يصدّهم المأمون وجلاوزته وعمّاله عن قصدهم، ولا يتعرّضوا لهم بسوء، فوافق المأمون على ذلك، وأبدى لهم رضاه، فشدّوا الرحال، وعزموا على السفر لزيارة الإمام الرضاعليه‌السلام ، فتحرّكت قافلة عظيمة تضمّ أبناء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وذرّيّته، وتوجّهت من الحجاز نحو خراسان، وذلك عن طريق البصرة والأهواز وبوشهر وشيراز إلى آخره.

وكانت القافلة كلّما مرّت ببلد فيها من الشيعة والموالين لآل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله انضمّ قسم كبير منهم إلى القافلة الهاشمية، التي كان على رأسها السادة الكرام من إخوة الإمام الرضاعليه‌السلام ، وهم: الأمير السيّد أحمد المعروف بـ: «شاه چراغ» والأمير السيّد محمد العابد وهو: «جدّنا الأعلى» والسيّد علاء الدين حسين، أبناء الإمام

٤٩

موسى بن جعفرعليه‌السلام ، فكان الناس يلتحقون بهم طوعاً ورغبة لينالوا زيارة إمامهم الرضاعليه‌السلام .

وعلى أثر ذلك ذكر المؤرّخون: بأنّ هذه القافلة حينما قربت من شيراز بلغ عدد أفرادها أكثر من خمسة عشر ألف إنسان، بين رجل وامرأة، وصغير وكبير، وقد غمرهم جميعاً شوق اللقاء، وفرحة الوصال والزيارة.

فأخبر الجواسيس وعمّال الحكومة المأمونَ في طوس بضخامة القافلة وكثرة أفرادها، وحذّروه من مغبّة وصولها إلى مركز الخلافة طوس، فأوجس المأمون - من الأخبار الواصلة إليه عن القافلة الهاشمية - خيفةً، وأحسّ منها بالخطر على مقامه ومنصبه.

فأصدر أوامره إلى جواسيسه في الطريق، وإلى حكّامه على المدن الواقعة في طريق القافلة الهاشمية، يأمرهم فيها بأن يصدّوا القافلة عن المسير أينما وجدوها، وأن يمنعوها من الوصول إلى طوس، وكانت القافلة قد وصلت قريباً من شيراز حين وصل أمر الخليفة إلى حاكمها بصدّها، فاختار الحاكم سريعاً وعلى الفور أحد جلاوزته المسمّى: «قتلغ خان» وكان شديداً قاسياً، وأمّره على أربعين ألف مقاتل، وأمرهم بصدّ القافلة الهاشمية وردّها إلى الحجاز.

فخرج هذا الجيش الجرار من شيراز باتّجاه طريق القافلة وعسكر في «خان زنيون» وهو منزل يبعد عن شيراز، ثلاثين كيلومتراً تقريباً، وبقوا يترصّدون القافلة، وفور وصول القافلة إلى المنطقة وهي في طريقها إلى شيراز باتّجاه طوس، بعث القائد «قتلغ خان» رسولاً إلى السادة الأشراف، وبلّغهم أمر الخليفة، وطلب منهم الرجوع إلى

٥٠

الحجاز من مكانهم هذا فوراً.

فأجابه الأمير السيّد أحمد - وهو كبيرهم - قائلاً:

أولاً: نحن لا نقصد من سفرنا هذا إلّا زيارة أخينا الإمام الرضاعليه‌السلام في طوس.

وثانياً: نحن لم نخرج من المدينة المنوّرة، ولم نقطع هذه المسافة البعيدة إلّا بإذن من الخليفة وبموافقة منه، ولهذا فلا مبرّر لصدّنا عن المسير.

ذهب الرسول وبلّغ مقالته إلى «قتلغ» ثمّ رجع وهو يقول: إنّ القائد قتلغ أجاب قائلاً: بأنّ الخليفة أصدر إلينا أوامر جديدة تحتّم علينا وبكلّ قوّة أن نمنعكم من السفر إلى طوس، ولعلّها أوامر أُخرى اقتضتها الظروف الراهنة، فلا بُدّ لك أن ترجعوا من هنا إلى الحجاز.

التشاور دأب النبلاء

وهنا أخذ الأمير السيّد أحمد يشاور إخوته وغيرهم من ذوي الرأي والحجى من رجال القافلة في الأمر، فلم يوافق أحد منهم على الرجوع، وأجمعوا على مواصلة السفر إلى خراسان مهما كلّفهم الأمر، فجعلوا النساء في مؤخّر القافلة، والأقوياء من الرجال المجاهدين في المقدّمة، وأخذوا يواصلون سفرهم.

وتحرّك «قتلغ خان» بجيشه وقطع عليهم الطريق، وكلّما نصحهم السادّة أبناء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بتخلية الطريق لم ينفعهم نصحهم،

٥١

وانجرّ الموقف إلى المناوشة والمقاتلة، ومنها شبّت نيران الحرب والقتال بين الطرفين، فحمى الوطيس وانهزم جيش المأمون على أثر مقاومة بني هاشم وشجاعتهم.

فتوسّل «قتلغ خان» بالمكر والخديعة، وأمر جماعة من رجاله أن يصعدوا على التلال، وينادوا بأعلى أصواتهم: يا أبناء علي وشيعته! إنْ كنتم تظنّون أنّ الرضا سوف يشفع لكم عند الخليفة، فقد وَصَلَنا خبر وفاته، وجلوس الخليفة في عزائه، فلماذا تقاتلون؟! فإن الرضا قد مات!!

أثّرت هذه الخديعة أثراً كبيراً في انهيار معنويات المقاتلين والمجاهدين، فتفرّقوا في ظلام الليل وتركوا ساحة القتال، وبقي أبناء الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وحدهم، فأمر الأمير السيّد أحمد إخوته ومن بقي معه أن يرتدوا ملابس أهل القرى ويتزيّوا بزيّهم، ويتفرّقوا في سواد اللّيل، ويتنكّبوا عن الطريق العامّ حتّى يسلموا على أنفسهم ولا يقعوا في يد قتلغ خان ورجاله، فتفرّقوا من هنا وهناك، في الجبال والقفار، مشرّدين مطاردين.

وأمّا الأمير السيّد أحمد، وكذا السيّد محمد العابد، والسيد علاء الدين، فقد دخلوا شيراز مختفين، وانفرد كلّ منهم في مكان منعزل وانشغل في عبادة ربّه.

نعم، يقال: إن المراقد المنسوبة إلى آل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في إيران وخاصة النائية منها في القرى وبين الجبال، أكثرها لأصحاب تلك الوقعة الأليمة.

٥٢

ترجمة الأمير السيّد أحمد

الأمير السيّد أحمد هو أخ الإمام الرضاعليه‌السلام ، وأفضل أولاد أبيه بعد أخيه الإمام عليّ بن موسى الرضاعليه‌السلام ، وأورعهم وأتقاهم.

وهو الذي اشترى في حياته ألف عبد مملوك وأعتقهم لوجه الله، ويلقّب باللقب المعروف «شاه چراغ» وبعد أن نجّاه الله من تلك المعركة، توجّه مختفياً مع أخويه إلى شيراز، وأقاموا فيها متنكّرين متفرّقين.

ونزل السيّد أحمد في شيراز عند أحد الشيعة في محلّة «سردزك» وهو المكان الذي فيه مرقده الآن، واختفى في بيت ذلك الموالي واشتغل بالعبادة.

وأمّا قتلغ خان، فقد جعل العيون والجواسيس في كلّ مكان لاستقصاء أخبار السادة المشرَّدين والعثور عليهم، وبعد سنة تقريباً عرف مكان السيّد أحمد، فحاصره مع رجاله، وأبى السيّد أن ينقاد ويستسلم لعدوّه، فقاتلهم ذابّاً عن نفسه، وأبدى شجاعة وشهامة هاشمية، أعجبت الناس كلّهم، وكان كلّما ضعف عن الحرب يلتجىء إلى منزله فيستريح فيه لحظات ثمّ يخرج ويدافع عن نفسه.

فلمّا رأى قتلغ أنّهم لا يستطيعون القضاء عليه عبر المواجهة المسلحة، احتالوا عليه بالدخول إلى بيت جيرانه والتسلل إليه عبر ثغرة أحدثوها من بيت الجيران، فلمّا دخل السيّد بيته ليستريح فيها قليلاً، خرجوا إليه وغدروا به، فضربوه بالسيف على رأسه، فخرّ صريعاً، ثمّ أمر قتلغ خان، فهدموا البيت على ذلك الجسد الشريف وبقي تحت

٥٣

التراب والأنقاض.

ولَمّا كان أغلب الناس في ذلك الزمان من المخالفين، ولم يكونوا شيعة لآل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله إلّا القليل منهم، وذلك على أثر الأكاذيب والأباطيل التي كانت تنشر بواسطة الدولة ورجالها ضدّهم، لم يرعوا حرمة ذلك المكان، ولا حرمة الجسد الشريف، ولم يرقبوا فيه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بل تركوه مدفوناً تحت الأنقاض وأكوام التراب.

اكتشاف الجسد الشريف

وفي أوائل القرن السابع الهجري دخلت شيراز في ظلّ حكومة الملك أبي بكر بن سعد مظفّر اليدن، وكان مؤمناً صالحاً يسعى لنشر الدين الإسلامي الحنيف، ويكرِم العلماء، ويحترم المؤمنين الأتقياء، ويحب السادة الشرفاء، وكما قيل: «الناس على دين ملوكهم» كان وزراؤه ورجال دولته مثله - أيضاً - مؤمنين أخياراً، ومنهم: الأمير مسعود بن بدر الدين، وكان كريماً يحب عمران البلاد وإصلاح حال العباد، فَعُني بتجميل مدينة شيراز وتنظيفها من الأوساخ، وتجديد بناياتها وإصلاح خرائبها، إذ إنّ شيراز كانت عاصمة ملكهم.

فأمر - في جملة ما أمر بإصلاحه، وتجديد البناء فيه - إعمار المكان الذي يضمّ جسد الأمير السيّد أحمد منذ قرون، فلمّا جاء عمّاله ومستخدموه إلى المكان وأنهمكوا بنقل التراب والأنقاض منه إلى خارج البلد، وصلوا أثناء العمل إلى جسد طريّ لشابّ جسيم وسيم، قد قتل على أثر ضربة على رأسه انفلقت هامته، فأخرجوه من بين الأنقاض وأخبروا الأمير مسعود بذلك، فجاء هو بصحبة جماعة

٥٤

من المسؤولين للتحقيق في الموضوع.

وبعد الفحص الكثير، والتنقيب عن وجود أثر يدلّ على هويّة الشابّ القتيل عثروا على خاتم له كان قد نقش عليه: «العزّة لله، أحمد بن موسى» فأذعنوا لمـّا أمروا ذلك - إضافة إلى ما كانوا قد سمعوه عن تاريخ ذلك المكان - أيضاً - من أخبار الشجاعة الهاشمية التي أبداها أولاد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنفسهم في الواقعة الأليمة التي دارت هناك وأدّت أخيراً إلى شهادة أحمد بن موسىعليه‌السلام - أنّ هذا الجسد هو جسد الأمير السيّد أحمد بن الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام .

ولمـّا شاهد الناس أنّ الجسد الشريف قد اُخرج من تحت الأنقاض وأكوام التراب وذلك بعد أربعمائة عام من تاريخ شهادته وهو على نضارته طريّاً لم يتغيّر، عرفوا أنّ صاحبه وليّ من أولياء الله تعالى، وأيقنوا بحقانية التشيّع مذهب أهل بيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، إذ إنّه كان من أولاد الرسول وعلى مذهب أهل البيت الذي استشهد في سبيله ومن أجله، فتشيّع على أثر ذلك كثير من أهل شيراز.

ثمّ أمر مسعود بن بدرالدين، أن يدفنوا الجسد الطاهر في نفس المكان الذي عثروا عليه فيه، بعد أن حفروا له قبراً وصلّوا عليه، ودفنوه في قبره مجلّلاً محترماً بحضور العلماء وأعيان شيراز، كما وأمر أن يشيّدوا على مرقده عمارة عالية ذات رحبة واسعة لتكون مأوى للزائرين والوافدين وبقيت كذلك حتّى توفّي الملك مظفّر الدين سنة ٦٥٨ هـ ق.

وفي عام ٧٥٠ هـ لمـّا آلت السلطة على بلاد فارس إلى الملك إسحاق بن محمود شاه ودخل مدينة شيراز، كانت اُمّه معه، وهي

٥٥

الملكة «تاشي خاتون» وكانت امرأة صالحة، فتشرّفت بزيارة ذلك المرقد الشريف، وأمرت بترميم الروضة المباركة وإصلاحها، كما وأمرت ببناء وتشييد قبّة جميلة جداً فوق مرقده، وجعلت قرية «ميمند» الواقعة على بعد ما يقرب من ثمانين كيلومتراً عن مدينة شيراز وقفاً عليه، وأمرت بأن يصرف واردها على تلك البقعة المباركة، وهي باقية إلى يومنا هذا، حيث يعمل المتولّون لها على قرار الوقف وينفقون واردها في شؤونه، ومحصولها حتّى اليوم: ماء ورد معروف بجودته وطيبه في العالم.

ترجمة الأمير السيّد علاء الدين حسين

السيّد علاء الدين هو أيضاً من إخوة الإمام الرضاعليه‌السلام ، ومن أبناء الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام ، وهو الذي دخل بصحبة أخويه متستّراً إلى شيراز، وفارقهما مختفياً في مكان لا يعرفه أحد، واشتغل فيه بالعبادة.

ثمّ مضت مدّة من الزمن وهو مختف، وكان بالقرب من محل اختفائه بستانٌ «لقتلغ خان» والسيّد لا يعرف أنّها لقتلغ خان، فضاقت به الدنيا يوماً وضاق صدره، فخرج من مخبئه وأطلّ على البستان لينفّس عن ضيق صدره ويروّح نفسه قليلاً، فجلس في زاوية واشتغل بتلاوة القرآن، فعرفه رجال قتلغ العاملون في البستان، فحملوا عليه، ولم يمهلوه حتّى قتلوه والقرآن في يده وآياته على شفتيه، فما هالهم إلّا أن رأوا أنّ الأرض تنشقّ وتضمّ جسده الشريف وتخفيه عنهم حتّى مصحفه الذي كان في يديه.

مرّت أعوام كثيرة على هذه الواقعة الأليمة، ومات قتلغ وانمحى

٥٦

أثر البستان، وتبدّلت حكومات ودول كثيرة في بلاد فارس، حتّى جاء عهد الدولة الصفوية.

وفي عهد الصفويّين اتّسعت مدينة شيراز حتّى وصلت البيوت إلى الأرض التي ضمت جسد السيّد علاء الدين، فعندما كانوا يحفرون فيها لوضع أساس للبناء، عثروا على جثّة شابّ جميل كأنّه قتل من ساعته، واضعاً يده على قبضة سيفه والمصحف الكريم على صدره، فعرفوا ممّا لديهم من العلائم والشواهد، أنّه السيّد علاء الدين حسين بن الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام - وقيل: إنّهم وجدوا اسمه مكتوباً على جلد المصحف الكريم - فدفنوه بعد الصلاة عليه في محلّه.

وأمر حاكم شيراز أن يبنوا على قبره الشريف مكاناً عالياً وبناءً رفيعاً ليتسع للمؤمنين والموالين الّذين يتوافدون لزيارته من كلّ صوب ومكان.

وبعد ذلك جاء رجل من المدينة المنوّرة - يدعى: الميرزا علي المدني - لزيارة مراقد السادة الشرفاء، وكان ثريّاً ومن الموالين لأهل البيت وذراريهم، فقام بتوسيع البناء على مرقد السيّد علاء الدين، وشيّد عليه قبّة جميلة، واشترى أملاكاً كثيرة فجعلها وقفاً على ذلك المرقد الشريف، وأمر بصرف وارداتها في شؤونه، كما وأوصى بأن يدفن بعد موته في جوار السيّد علاء الدين، فلمّا مات دفنوه هناك، وقبره اليوم في تلك البقعة المباركة معروف، وقد كتب عليه اسمه، وهو: «ميرزا علي المدني» ولا يزال المؤمنون يزورونه ويقرأون له الفاتحة.

ثمّ إنّه بعد ذلك أمر الملك إسماعيل الصفوي الثاني بتزيين ذاك البناء المشيّد وترميمه بأحسن وجه، فنصبوا الكاشي والمرايا وزيّنوا الروضة المباركة بأفضل زينة، وهو إلى الآن مزار عظيم ومشهد كريم،

٥٧

يقصده المؤمنون من كلّ أنحاء إيران وغيرها، وأهالي شيراز يُكنّون له غاية الاحترام والتكريم.

قال بعض النسّابة: إنّ السيّد علاء الدين كان عقيماً لا نسل له، وقال بعض آخر: كان له نسل ولكن انقرضوا، ولم يبق له منهم عقب وذرّيّة.

وكذلك الكلام في أخيه الأكبر السيّد أحمد فقد قالوا في حقّه: إنّه لم يكن له أولاد ذكور، بل كانت له بنت واحدة فقط، وذلك على ما في كتاب: «عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب».

وقال بعضٌ: كان للسيّد أحمد أولاد ذكور أيضاً.

ترجمة الأمير السيّد محمد العابد

السيّد محمّد، الملقّب بالعابد، هو: ثالث إخوة الإمام الرضاعليه‌السلام ، ورابع أولاد الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام ، وهو الذي دخل شيراز بصحبة أخويه، الأمير السيّد أحمد والسيّد علاء الدين حسين، وفارقهما إلى مكان مجهول، مختفياً ومتنكّراً لا يعرفه أحد، يعبد الله تعالى فيه حتّى وافاه الأجل ومات موتاً طبيعياً ودفن فيها.

ومن كثرة عبادته لقّب بالعابد.

خلّف أولاداً أجلّاء، أفضلهم من حيث العلم والتقوى، والزهد والورع هو: السيّد إبراهيم المعروف بـ: «المجاب».

لقّب بهذا اللقب، لأنّه عندما تشرّف بزيارة قبر جدّه الإمام أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام ، ووقف مسلِّماً عليه، أتاه جواب سلامه من داخل القبر الشريف، فسمعه هو ومن حوله، وعلى أثر هذه المنقبة أجلّه الناس وعظّموه واحترموه، ولقّبوه بالمجاب.

٥٨

وبعد وفاة أبيه السيّد محمد العابد توجّه إلى زيارة العتبات المقدّسة، وسكن بجوار قبر جدّه الشهيد الإمام الحسينعليه‌السلام ، وقريباً من قبر جدّه أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام ليزورهما أيّ وقت شاء.

وكان موضع قبر الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام قد ظَهر حديثاً وعُرِفَ في ذلك الزمان بعد ما كان مجهولاً على الناس طيلة مائة وخمسين سنة تقريباً، فظهر بكرامة قدسية لتلك البقعة المباركة، وصار خبره آنذاك حديث اليوم، يتناقله الناس في المحافل والمجالس.

الحافظ: عجيب! في أيّ حال كان مرقد أمير المؤمنين عليٍّ كرّم الله وجهه منذ دفنه إلى ذلك الزمان، حتّى اكتشف بعد مائة وخمسين سنة، هل كان مخفيّاً على المسلمين طيلة هذه المدّة؟! ولماذا أُخفي عنهم؟؟!

قلت: لمـّا استشهد أمير المؤمنين عليعليه‌السلام كان ذلك في زمن طغى فيه بنو أُميّة، ولمـّا كانعليه‌السلام يرى بنور الله أن ستمتدّ حكومة معاوية بعده من الشام إلى الكوفة، أوصى أن يُدْفَن ليلاً بلا علم من أحد، وأمر بأن يُعفى موضع قبره، لذلك لم يحضر دفنه إلّا أولاده وخواصّ شيعته.

ولكي يشتبه الأمر على الناس ويبقى محلّ القبر مجهولاً عليهم، جهّزوا في صبيحة يوم ٢١ من شهر رمضان سنة أربعين للهجرة بعيرين وعقدوا عليهما نعشين، بعثوا أحدهما إلى مكّة، والآخر إلى المدينة، وهكذا نُفِّذت وصيّة أمير المؤمنينعليه‌السلام وأخفى موضع قبرهعليه‌السلام عن عامّة الناس.

الحافظ: هل يمكنك أن تخبرني ما هو سبب هذه الوصية؟ وما

٥٩

الحكمة في الإصرار على إخفاء القبر؟!

لماذا دُفن الإمام عليعليه‌السلام سرّاً؟

قلت: نحن لا نعلم السبب والحكمة بالضبط، ربّما كان ذلك لِما يعلمهعليه‌السلام من حقد بني اُميّة وعدائهم الدفين لبني هاشم عامة، وللنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ولآلهعليه‌السلام خاصة، فإنّه كان من المحتمل أن ينبشوا القبر الشريف ويسيؤا الأدب مع الجسد الطاهر، وهو ظلم دونه كلّ ظلم!!

الحافظ: هذا الكلام الغريب منكم وبعيد جدّاً، كيف يمكن لإنسان أنْ يتعدّى على قبر مسلم بعد موته ودفنه، إنّه لا يكون مهما كان بينهم من العداء والبغضاء؟!

قلت: ولكن ذلك ليس ببعيد من بني اُمّيّة!!

أما طالعت تاريخهم الأسود وماضيهم الحقود؟!

أما قرأت جرائمهم الفضيعة وأعمالهم الفجيعة، التي يندى منها جبين الأنسانية خجلاً، وتدمع عينها أسفاً؟؟!

أما علمت أنّ هذه العصبة الخبيثة والشجرة الملعونة في القرآن، لمـّا قبضوا على زمام الحكم وغصبوا الخلافة، كم من أبواب جور فتحوا؟! وكم من جناية وغواية ابتدعوا؟! وكم من دم سفكوا؟! وأعراض هتكوا؟! وأموال نهبوا؟! وحُرُماً انتهكوا؟!

إنّ اُولئك البُعَداء عن الإسلام والإنسانية، لم يراعوا شيئاً من الدين والأخلاق الحميدة في حركاتهم وسكناتهم. فكانوا يتصرّفون في شؤون المسلمين حسب أهوائهم وآرائهم الفاسدة، وإنّ كثيراً من كبار علمائكم ومؤرّخيكم سجّلوا جرائم هذه الطغمة الفاسدة بحبر من عرق

٦٠