الجريمة الكبرى الجزء ٢

الجريمة الكبرى0%

الجريمة الكبرى مؤلف:
الناشر: المركز الوثائقي للدفاع عن المقدسات الإسلامية
تصنيف: أديان وفرق
الصفحات: 399

  • البداية
  • السابق
  • 399 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 23452 / تحميل: 3891
الحجم الحجم الحجم
الجريمة الكبرى

الجريمة الكبرى الجزء 2

مؤلف:
الناشر: المركز الوثائقي للدفاع عن المقدسات الإسلامية
العربية

الحديث ١٤٠ و١٤٢؛ هداية الرواة إلى تخريج أحاديث المصابيح والمشكاة، أحمد بن علي (ابن حجر) العسقلاني: رقم الحديث رقم ٣٤٨٤؛ البداية والنهاية، أبو الفداء إسماعيل (ابن كثير) الدمشقي: ج٤ ص٤١٦ - ٤١٧؛ السيرة النبوية، عبد الملك بن أيوب (ابن هشام) الحميري: ج٤ ص١٣٩ - ١٤٠.

١٣٢- مسند أحمد، أبو عبد الله أحمد بن حنبل: ج١٢ ص٣٠٣، رقم الحديث ١١١١٢، وكذلك راجع: ج٣ ص٣٣٢.

١٣٣- المعجم الكبير، أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني: عن معاذ بن جبل، رقم الحديث ٩٦٩.

١٣٤- مسند أحمد، أحمد بن حنبل: عن عمرو بن عبسة، رقم الحديث ١٩٠٨٢، وعن صفوان السكسكي، رقم الحديث ١٨٩٥٠.

١٣٥- أسد الغابة في معرفة الصحابة، أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني: رقم الحديث ٥٦٢٤.

١٣٦- تهذيب الكمال في أسماء الرجال: جمال الدين أبو الحجاج يوسف المزي: ج١٢ ص٤٤٨.

١٣٧- المستدرك على الصحيحين (كتاب الفتن والملاحم)، محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري: رقم الحديث ٦٩٧٩: ج٢ ص٧٦ و١٤٥، وج٤ ص٩٢.

١٣٨- دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة صلّى الله عليه وآله، أحمد بن حسين بن علي البيهقي: ج٥ ص١٦٣.

١٣٩- البداية والنهاية، الحافظ أبو الفداء إسماعيل (ابن كثير) الدمشقي: ج٤ ص٣٩٨ - ٣٩٩، وطبعة هجر: ج٦ ص٧٢.

١٤٠- السيرة الشامية، سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد صلّى الله عليه وآله،

٨١

محمد بن يوسف بن علي الصالحي الشامي: ج٥ ص٥٦٢؛ دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة صلّى الله عليه وآله، أحمد بن حسين بن علي البيهقي: ج٥ ص١٦٣؛ دلائل النبوة، أحمد بن عبد الله (أبو نعيم) الأصبهاني: ص٤٦٥؛ البداية والنهاية، أبو الفداء إسماعيل (ابن كثير) الدمشقي: ج٤ ص٣٩٨ - ٣٩٩.

١٤١- السيرة النبوية، عبد الملك بن هشام بن أيوب الحميري المعافري: ج٤ ص١٢٧؛ السيرة النبوية، أبو الفداء إسماعيل (ابن كثير) الدمشقي: ج٣ ص٦٦٢؛ المغازي، السرايا والغزوات التي قام بها النبي صلّى الله عليه وآله، أو أرسلها للجهاد، محمد بن عمر (ابن واقد) الواقدي: ج٢ ص٩٣٢ - ٩٣٧؛ دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة صلّى الله عليه وآله، أحمد بن حسين بن علي البيهقي: ج٥ ص١٦٨ - ١٦٩؛ البداية والنهاية، أبو الفداء إسماعيل (ابن كثير) الدمشقي: ج٤ ص٤٠٢.

١٤٢- الكاشف في معرفة مَن له رواية، محمد بن أحمد الذهبي: ج١ ص٥٣٦؛ السيرة النبوية، عبد الملك بن هشام بن أيوب (ابن هشام) الحميري: ج٤ ص١٣٢ - ١٣٣؛ عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير، العلامة محمد بن محمد بن سيد الناس اليعمري: ج٢ ص٢٢٣.

١٤٣- فتح الباري بشرح صحيح البخاري، أحمد بن علي (ابن حجر) العسقلاني: ج١٠ ص٤٥٥؛ تفسير معالم التنزيل (تفسير البغوي)، حسين بن مسعود البغوي: ج٦ ص٣٦٧ - ٣٦٨؛ سنن الدارقطني، علي بن عمر الدارقطني البغدادي: ج٣ ص٢١٨.

١٤٤- الاستيعاب في معرفة الأصحاب، يوسف بن عبد الله (ابن عبد البر): ج٣ ص١٦٧ - ١٦٨ و٣١٦؛ تهذيب الأسماء واللغات، محيي الدين بن شرف

٨٢

النووي: ج٢ ص٤٨، رقم الحديث ٤٨٥؛ المصنف في الأحاديث والآثار، عبد الله بن محمد (ابن أبي شيبة) الكوفي: ج٥ ص٢١٣، رقم الحديث ٢٥٣٤٧.

١٤٥- قبائل الجزيرة العربية، المؤرّخ الدكتور سلامة توفيق المطيعي: ص٢١١ - ٢١٢.

١٤٦- تاريخ الطبري، تاريخ الأمم والملوك، محمد بن جرير الطبري: ج٤ ص٤١٩ - ٤٢٥؛ صفوة الصفوة، الدكتور الشيخ عمر عبد الكافي: ج١ ص٢٩٥؛ البداية والنهاية، أبو الفداء إسماعيل (ابن كثير) الدمشقي: ج٤ (الفصل السابع) ص١٤٢ - ١٤٣.

١٤٧- الاستيعاب في معرفة الأصحاب، يوسف بن عبد الله (ابن عبد البر) القرطبي: ج٣ ص١٦٨؛ الإصابة في تمييز الصحابة، أحمد بن علي (ابن حجر) العسقلاني: ج٣ ص٥٥.

١٤٨- العبر في خبر مَن غبر، محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي: ج١ ص٨؛ تأريخ اليعقوبي، أحمد بن إسحاق بن واضح (اليعقوبي): ج٢ ص١٢٨.

١٤٩- الإصابة في تمييز الصحابة، أحمد بن علي (ابن حجر) العسقلاني: ج٣ ص٥٥؛ الاستيعاب في معرفة الأصحاب، يوسف بن عبد الله (ابن عبدالبر) القرطبي: ج٢ ص٣٦٢؛ الكاشف في معرفة مَن له رواية، محمد بن أحمد الذهبي: ج١ ص٥٣٦.

١٥٠- العبر في خبر مَن غبر، محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي: ج١ ص٨؛ تأريخ اليعقوبي، أحمد بن إسحاق بن واضح: ج٢ ص١٢٨.

١٥١- تأريخ الخلفاء، تاريخ خلفاء المسلمين، عبد الرحمن بن محمد

٨٣

السيوطي: ص٢٨؛ الكامل في التأريخ، علي بن أبي الكرم (ابن الأثير) الشيباني: ج٢ (أحداث سنة إحدى عشرة) ص٢٦ - ٤٣.

١٥٢- تاريخ الجزيرة العربية والإسلام، الدكتور عبدالوهاب محمد علوب، ترجمة لكتاب (تاريخ إسلام) للدكتور علي أكبر فياض: ص١٣٣.

١٥٣- الاستيعاب في معرفة الأصحاب، يوسف بن عبد الله (ابن عبدالبر) القرطبي المالكي: ج٢ ص٣٦٢؛ أسد الغابة في معرفة الصحابة، علي بن أبي الكرم محمد (ابن الأثير) الشيباني الجزري: ج٤ ص٣١٨؛ تاريخ مدينة دمشق، علي بن حسن بن هبة الله الدمشقي (ابن عساكر): ج٢٥ ص١٥٦؛ تاريخ الطبري، تاريخ الأمم والملوك، محمد بن جرير الطبري: ج٣ ص٢٦٠؛ حركة الردة، الدكتور علي العتوم: ص١١٤.

١٥٤- أسد الغابة في معرفة الصحابة، علي بن أبي الكرم محمد (ابن الأثير) الشيباني الجزري: ج٤ ص٣١؛ الإصابة في تمييز الصحابة، أحمد بن علي (ابن حجر) العسقلاني: ج١ ص٦١٥؛ الفتوح، محمد بن علي (ابن الأعثم) الكوفي: ج١ ص١٥ - ١٦.

١٥٥- الخلفاء والأمراء، الدكتور سليم باقر الاطرقجي: ص٣٥ - ٤٧؛ التنبيه والأشراف، علي بن حسين بن علي المسعودي: ص٣٣٦ - ٣٣٧؛ مسالك الممالك، أبو إسحاق إبراهيم الاصطخبري: ص٩٠؛ ثورة العبيد في الإسلام، أحمد جابر العلبي: ص٢٠ - ٢٣؛ ثورة الزنج، الدكتور فيصل السامر: ص١١٠.

١٥٦- التحفة النبهانية في تاريخ الجزيرة العربية، الشيخ محمد بن خليفة النبهاني: قسم البصرة ص٢٨٢؛ البداية والنهاية، أبو الفداء إسماعيل (ابن كثير) الدمشقي: ج١١ ص١٧٩؛ سير أعلام النبلاء، محمد بن أحمد الذهبي: ج١٦ ص٢٧٤ - ٢٧٥.

٨٤

١٥٧- القرامطة نشأتهم ودولتهم، مايكل دي غوية: ص١٠٢ - ١٠٨؛ الجامع في أخبار القرامطة في الأحساء والشام والعراق واليمن، الدكتور سهيل زركار: ج٢ ص٣٤٣ - ٣٤٤.

١٥٨- أثر الدعوة الوهابية في الإصلاح الديني والعمراني في الجزيرة العربية وغيرها، الشيخ محمد حامد الفقي: رقم الفقرة ١٦٣، ج٢ ص٨٩؛ تاريخ نجد المسمّى روضة الأفكار والأفهام، الشيخ حسين بن غنام: ص٨١؛ آل سعود ماضيهم ومستقبلهم، جبران شامية: ص٢٣؛ تاريخ نجد وملحقاتها، الدكتور أمين الريحاني: ص٣٥.

١٥٩- نهاية الأرب في فنون الأدب، شهاب الدين أحمد عبد الوهاب النويري: ج٢٥ ص١٩٥ - ٢٢٧.

١٦٠- تاريخ الطبري، تاريخ الأمم والملوك، محمد بن جرير الطبري: ج١٠ ص٧١ - ٧٢.

١٦١- تاريخ الدولة السعودية، حتى الربع الأوّل من القرن العشرين، الدكتورة مديحة درويش: ص٢٧ - ٣٠؛ تاريخ الدولة السعودية الثانية، عبد الفتاح حسن أبو عليه: ص٨٨ - ٩٣.

١٦٢- سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها، محمد ناصر الدين الألباني: رقم الحديث ١٣٤٥؛ صحيح البخاري، محمد بن إسماعيل البخارائي (البخاري): ج٣ ص٢٧؛ صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان، الشيخ محمد بشير السهسواني: ج١ ص٥٣٢ - ٥٣٣؛ الدرر السنية في الرد على الوهابية، العلامة السيد أحمد زيني دحلان: ص١٦٩ - ١٨٤.

٨٥

٨٦

الحقيقة السادسة: محمد بن عبد الوهاب

إذن فمَن هو هذا الخارجي الضال؟!

إنه محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي، ويرجع نسبه إلى بني تميم، كما يقول أصحابه. وممن أرخوا له من الوهابيين(١)، وقبيلة تميم من أهم وأكبر القبائل التي تسكن في منطقة نجد(٢)، وتشكل منطقة نجد القسم الأكبر من مساحة وحدود مملكة الوهابيين السعوديين(٣). وقد ظهر قادة ورؤساء من قبيلة تميم، كحرقوص بن زهير المعروف بذي الخويصرة، ومسعر بن فدكي التميمي، وقطرة بن فجاءة الكناني التميمي، وهم من قادة الخوارج الأوائل الذين خرجوا على علي عليه السلام، وقتل جلهم(٤)، وكذلك كان من قبيلة تميم قائد حركة ما تُعرف (زوراً) بثورة الزنج يحيى بن عمر المهلبي التميمي(٥) وغيرهم كثيرون.

ولم تحظَ هذه الفئة الوهابية السلفية، والتي نروم أن نتحدث عن مؤسسها، بأي امتياز علمي في عموم مناهجها وأفكارها، ولم تقدم كذلك أية منجزات فكرية أو أكاديمية تخدم البشرية على أرض الواقع، لتأخذ بالتالي طابع تلك المنجزات والمؤثرات العلمية أو الثقافية، فبقت أسيرة نفسها وسلوكها، ممّا أدى بالتالي إلى أن تبقى نكرة غير معروف عنها بشيء، ولم توصف بنعت معين، سوى أن تسمى باسم صاحبها (ابن عبد الوهاب) أو (الوهابية السلفية)(٦)، وموطنها الأصلي منطقة نجد، حيث تقع وسط الجزيرة العربية وهي مقسمة إلى عدة إمارات صغيرة متناثرة(٧)، وحائطها المبكي (مدينة الدرعية) التي تقع إلى الجهة الشمالية من وادي حنيفة (السيئ الصيت)، وعلى بعد (١٢) كيلومتراً شرقي مدينة الرياض

٨٧

الحالية(٨).

ولد الرجل على الأرجح عام ١١١٥هـ، المصادف ١٧٠٣م(٩)، أو كما يقول أحمد أمين في كتابه (زعماء الإصلاح): إنه ولد في عام ١١١١هـ. في منطقة عارض بنجد، وتحديداً في مدينة العُيينة(١٠). وهذه الأرض هي موطن مدعي النبوة أمثال مسيلمة الكذّاب وطليحة وسجاح(١١). وتوفي آخر شهر شوال أو ذي القعدة من عام ١٢٠٦ أو ١٢٠٧هـ، الموافق ١٧٩١ أو ١٧٩٢م(١٢)، وقد أرخ بعضهم مادة تأريخ وفاته فكانت (بدأ هلاك الخبيث)، كما يقول المؤرّخ الفقيه السيد أحمد زيني دحلان مفتي الشافعية في مكة المكرمة، إبان ظهور هذه الحركة(١٣). أما أبوه فقد كان يشتغل بالشعوذة والسحر وكتابة الدعاء، كما كان جده سليمان (شولمان) يحترف هذه المهنة من قبل(١٤).

وقد أصر كثير من الباحثين والمؤرّخين، اعتبار عائلة ابن عبد الوهاب هم من يهود الدونمة، أو ما شابهها، وقالوا: إن الجد الأكبر (شولمان قرقوز) قد هاجر من مناطق إسطنبول مع عائلته نحو سوريا، ثمّ إلى جزيرة العرب(١٥).

لم نحصل على أية أخبار دقيقة حول نشأة محمد بن عبد الوهاب ودوران طفولته، لكن ما حصلنا عليه من كتب بعض المؤرّخين الأجانب أن (محمداً) هذا هو وليد امرأة كانت تعرف بالزنا، ومن بائعات الهوى، اقترنت بأبيه بعدما تعرفت إليه بأنه ماهر في السحر والدجل وكتابة الدعاء والشعوذة(١٦)، وهذه المرأة هي زوجته الثانية، حيث إن الزوجة الأولى (أم سليمان) قد تطلقت منه بعدما عرفت أنه آكل للسحت عامل بالسحر(١٧).

أما كتب القوم، فقد قالوا عنه: إنه بدأ بقراءة المقدمات من العلوم الدينية، حسب مذهب الحنابلة على يد بعض مشايخ البلدة، كما يدعي

٨٨

مُناصروه وممن أرخ له من الوهابيين(١٨)، وكان هذا الشاب كما ينقل أقرانه وأساتذته، مولعاً بأخبار وقصص مَن ادعوا النبوة كمسيلمة الكذّاب، وسجاح بنت الحارث السويد، والأسود العنسي وطليحة الأسدي، فظهر من أيّام دراسته الأولى زيغ وانحراف في معتقداته وإيمانه(١٩)، وكانت تصدر منه كلمات وعبارات ركيكة وأراجيف مبهمة، بعيدة عن الدين، وروح الإيمان، وقد حذر بعض مشايخ البلدة وأساتذته بعد ما سمعوا منه، هذه الأقوال ورصدوا عليه تلك الأفعال، من مجاراته والسماح له في حضور مجالسهم. هذا ما قاله الشيخ محمود شكري الآلوسي في كتابه (تاريخ نجد)(٢٠)، كما صدر من الشيخ محمد بن سليمان الكردي والشيخ محمد حياة السندي، أقوال تؤكد انحراف هذا الشاب، ويتفرسان فيه الغواية والإلحاد: سيضل الله تعالى هذا، ويضل به مَن أشقاه وأبعده(٢١).

فبدأوا يتفرسون فيه، أن سيکون منه زيغ وضلال لما يشاهدونه من نزعاته في کثير من المسائل التي ليست بمستواه العلمي، أو في حيطة فكره وسنه، فکانوا يوبخونه ويحذرون الناس منه، فحقق الله فراستهم فيه لما ابتدعه من الزيغ والضلال الذي أغوي به الجاهلين وخالف فيه أئمة الدين، وتوصل بذلك إلى تكفير المؤمنين(٢٢). هذا ما كتبه أيضاً العالم الجليل جلال الدين فارس النبيري في كتابه (تاريخ الإسلام)(٢٣)، والعشرات من الفقهاء والعلماء والمؤرّخين ممّن كتبوا عنه.

كما اشتد اهتمام ابن عبد الوهاب بشواذ آراء وعقائد ابن تيمية وابن الجوزية، وقبلهما ابن بطة والبربهاري، بعدما عثر على بعض رسائلهم بالصدفة عند أحد مشايخه في العيينة(٢٤)، وأخذ يلتهم ويتلهف لتلك الأوراق والفصول التي تروي منكرات الأفكار وإسرائيليات التراث البالي

٨٩

للحنابلة من لسان رجل (كابن تيمية)، الذي قال عنه الرحالة ابن بطوطة: بأنه رجل ذو لوثة في عقله(٢٥).

وقد بدأت مظاهر الانحراف بالظهور من خلال أقواله وممارساته، وكلما امتد به الزمن تظهر الأزمات الفكرية والعقائدية في أقواله وأفعاله، ممّا يُستشف منها الضلالة والانحراف، وتثير غضب وعنف المشايخ وأهل البلدة عليه(٢٦)، وخصوصاً بعدما اطلع هذا الشاب المعاند على بعض كلمات وأقوال ومعتقدات ابن بطة وابن البربهاري وابن تيمية وابن الجوزية، فبدأ يتصرف ويفتي، وكأن العلم قد اجتمع عنده، وغيره لا يفقه ولا يعلم شيئاً(٢٧)، حتى كثر اللغط من قبل العلماء وأهل الحل والعقد عليه، وبدأوا بالكلام الجارح عليه وعلى أبيه والإنكار عليهما، ولأنه من لقمة الحرام والسحت والمهنة الغير شريفة (السحر والشعوذة) عند الأب، والأم بائعة الهوى، فلابد أن يكون الشيطان أحد الشركاء في صناعة الذرية والأولاد(٢٨). وما أكثر ما نصحوه فلم ينتصح، ويرشدوه فلا يهتدي، ويزجروه فلا يرتدع، وهذا ما دعا أن يتخذ أهل المدينة قراراً بطرد هذا الشاب المعاند وأهله خارج المدينة(٢٩)، وخصوصاً أن ربي العائلة (الأب والأم) كانا مورد سخط سابق عند كبار القوم، فصدر الأمر بطردهم جميعاً من المدينة، فلم يكن بُدّ لهم سوى الرحيل إلى مدينة حريملاء(٣٠). فذهبت العائلة المغضوب عليها جميعاً إلى المدينة الجديدة. طبعاً عدا الابن الأكبر لابن عبد الوهاب (سليمان)، حيث كان يعيش مع أمه المطلقة سابقاً من أبيه، وكان موضع احترام وتقدير الناس والعلماء.

لم يختلف الحال في حريملاء، فالشاب مقبل على جمع هذه الخزعبلات وتلقينها للجهال من الناس، وأخذ يتجرأ شيئاً فشيئاً، وقد تخطى

٩٠

العقدين ونيف من سني عمره(٣١)، بإظهار عقائد وأفكار مستهجنة بالية، كإنكار الشفاعة والاستغاثة وزيارة الأولياء والتجسيم لبعض صفات الله تعالى. اشتد الغضب عليه(٣٢)، فاضطر الأب، وهو لا يقل عن ابنه كفراً وسُحتاً، أن يرحل ابنه هذا اضطراراً إلى مكة المكرمة علّه يفيق من غيبوبته(٣٣)، أو يندس بين العلماء والأساتذة، فيكون له صولة وجولة. وفي هذه المدينة المقدسة حضر دروس الشيخ محمد بن سليمان الكردي، والشيخ محمد حياة السندي كما يدعي أصحابه ومريدوه(٣٤)، لكن أنى له الصواب والاستقامة، وهو بعدُ لم يذُق طعم الهداية والاستقامة ولم يحسن إسلامه، ولم يتمكن أن ينسجم مع برامج الدرس والدراسة، وفي أجواء مفعمة بالإيمان وعطر الكعبة الشريفة، وحلقات العلماء والفقهاء والصلحاء(٣٥). فبدأ كعادته السابقة يُطلق تلك المزامير الشيطانية والإسرائيليات الضالة، والتي جاءت على لسان كعب الأحبار وابن بطة والبربهاري وابن تيمية وابن الجوزية، وهلم جراً... لذا لم يدُم طويلاً، في مكة المكرمة حتى أشبعه الناس وزملاؤه وأساتذته ضرباً وركلاً وبُصاقاً(٣٦)، ليفر خائباً خاسراً إلى المدينة المنورة (على صاحبها وآله أفضل الصلاة والسلام)، وهنالك بدأ يحضر الدروس الأولية، بعد ما امتحنه الأساتذة لتعيين سطح علمه وفهمه(٣٧)، فكان التقييم أن يكون في المستوى الابتدائي(٣٨)، أما عند العصر فكان يحضر حلقات البحث المفتوحة (الكعدة)، لبعض العلماء كالشيخ عبد الله بن إبراهيم بن يوسف آل السيف(٣٩)، والشيخ عبد الله بن عبد اللطيف الإحسائي(٤٠)، وينقل العلامة الحبيب العلوي عن الشيخ موسى بن حسن حفيد القطب الشهير أبي بكر بن سالم، قال: لما كنت في المدينة المنورة، نقرأ على الشيخ محمد حياة

٩١

السندي، فكان يتردد عليه ابن عبد الوهاب، وكنت أسمع أهل الصلاح والعلماء يطردونه من مجالسهم، ويقولون فيه: سيضل هذا ويُضل الله به مَن أبعده من رحمته وأشقاه(٤١).

وكالعادة لم تؤثر فيه روحية المكان المقدس وأنفاس الطاهرين الذين عاشوا في كنف النبي وآله عليهم السلام، ولم يستلهم العبر من قبل، ولم يؤثر فيه نُصح الناصحين، وإرشاد المؤمنين، فأخذ بالنقد اللاذع والسباب والتكفير واستهجان عمل الناس وطريقة عبادتهم وزيارتهم لقبر الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله وغيرهم من الأولياء وينكر مبدأ الشفاعة والاستغاثة(٤٢)، ويشبه الله تعالى بخلقه، ويدعي عليه ما تنزه منه، فاشتد خناق الناس والعلماء عليه، وانكروه وزجروه وطردوه من حلقات الدرس وجلسات العصر، ونبذوه وراء ظهورهم(٤٣)، ولم تبقَ الأمور عند هذا الحد، فقد وُجِد متلبساً باللواط، فسجن مدة من الزمن لتأديبه(٤٤)، وفي السجن عمل من المنكرات مع السجناء، ممّا اضطر رئيس السجن لزجره والتشدد معه، ثمّ جاء القرار بطرده من المدينة المقدسة، عما هو عليه من الكفر والانحراف، وخصوصاً كما تنقل بعض المصادر من انحرافه جنسياً، ورغبته في اللواط والشذوذ والفساد، طيلة هذه الفترة من عمره(٤٥).

ضاقت الدنيا على ابن عبد الوهاب، وتشابكت الأمور، واظلمت الدنيا في عينيه، وبدل أن يأتي قبر النبي صلّى الله عليه وآله، ويطلب الشفاعة منه للهداية والاستقامة، ويتوب عما سلف عنه من الكفر والضلال والانحراف، ويتوب إلى بارئه ممّا اقترفت يداه... صمم على السفر إلى قبر ابن تيمية، وشد الرحال إليه، بعدما أشار عليه بعض صلحاء نجد (عله الشيطان)، أن يتجه صوب حران (الشام)، مسقط رأس ابن تيمية وموطن الصابئة(٤٦)، عله يجد

٩٢

ضالته المنشودة فيه، ويلقي راحلته عنده، ويستطيب أجواء السلف الصالح مثله، فيعضدونه في أفكاره وأفعاله(٤٧).

اتجه ابن عبد الوهاب إلى البصرة(٤٨)، في طريقه إلى الشام، ورأى أن يبقى فترة في البصرة، وليته لم يحط الرحال ولم يحل بها، وقد طابت عنده الأيّام في أجواء الخير والبركات في البصرة الفيحاء، فبدأ يحضر بعض الدروس عند الشيخ محمد المجموعي(٤٩)، في إحدى محلات البصرة، ومسجدها المسمّى بـ(المجمعة)(٥٠)، وينقل العلامة إبراهيم بن صبغة الله الحيدري البغدادي في كتابه (عنوان المجد في بيان أحوال بغداد والبصرة ونجد): إن الناس حينما سمعوا من هذا الرجل بعض أقاويله وضلالاته النجدية، احتقروه فآذوه وأخرجوه من المحلة، وقت الهجيرة، ولحق بعض الأذى بالشيخ محمد المجموعي أيضاً، لمآواته لابن عبد الوهاب(٥١).

وهناك كانت الطامة الكبرى والأمر الذي لامفر منه، فشاءت الأقدار وكمائن الخفايا أن يتعرف ابن عبد الوهاب وهو يفصح عن معتقداته وآرائه على شاب وسيم، يدعي أنه محمد(٥٢) في زي طلاب العلم، وقد جاء من تركيا بعد أن قضى حوالي السنتين في إسطنبول؛ ليتعلم اللغة التركية وبعض معارف الإسلام عند الشيخ أحمد أفندي(٥٣)، وليتعلم الدين واللغة العربية، وهو في البصرة هذه الأيّام، يتنقل بين مجالس الدرس الديني، ويحاول أن يُبعد الشبهة عن نفسه، فيشتغل تارة عند نجار للعربات(٥٤)، ومرة أخرى في الحمام العمومي(٥٥)، وأخرى في خدمة المسافرين والزائرين... لكنه في الحقيقة كان من جواسيس وزارة المستعمرات البريطانية، واسمه جون همفر(٥٦)، أرسلته بريطانيا ليطلع على أحوال المسلمين ونقاط قوتهم وضعفهم، وبؤر الفتن الكامنة في النعرات والاختلافات الطائفية والمذهبية

٩٣

والقبلية بينهم، علهم من خلالها يثيرون تلكم القلاقل والنعرات والثورات والحركات التحررية المزيفة، بوجه الخلافة العثمانية، بغية إسقاطها وتفتيت أجزائها؛ ليسهل عليهم بالتالي احتلالها(٥٧).

التقى ابن عبد الوهاب بهذا الشاب اللطيف وحسن السلوك، والثائر على الخلافة العثمانية، وطريقة حكومتهم اللاإسلامية واللاعادلة، والمتجذرة بالطائفية والقومية التركية(٥٨). فالخلفاء وحكومتهم العثمانية، غارقون بالفسوق والمجون والفساد والظلم و... و...، وقد تركوا البلاد الإسلامية بيد ولاة هم أشد منهم قسوة وظلماً وفساداً(٥٩).

لا ندري ماذا دار بين (اللامحمدين) في الساعات الأولى لهذا اللقاء المشؤوم!!! وما جرى بينهما من المودة والحوار... لكنا نعرف أن هذا اللقاء قد جر الويلات والبلايا فيما بعد على الإسلام والمسلمين. فتشابكت العلاقات، وتداخلت الأهواء، واكتملت الحلقة، حيث المال والجنس الرخيص، والعقائد الفاسدة المظلمة، التي أعدتها المطابخ البريطانية الصهيونية(٦٠)، من جهة، وبين هذا الشاب الطموح والكافر بكل القيم والعقائد والموازين، وهو متوقد لكل ما هو فاسد وحرام وضال، من جهة أخرى(٦١).

بدأت الجلسات تتوالى بين ابن عبد الوهاب وهذا الشاب الذي يدعي أنه من أطراف اسطنبول، واسمه شيخ محمد... ولكنه في الحقيقة من أولئك الذين ذكرتهم قبل قليل... إنه من جنود إبليس، وقد جندته الاستخبارات البريطانية، لدراسة أحوال المسلمين وحياتهم، والتعرف أکثر فأکثر على نقاط القوة والضعف فيهم، وتقديم الاقتراحات والسبل الکفيلة لنفوذ بريطانيا في المنطقة من خلال تجنيد بعض العلماء وتدريبهم لإثارة الفتن

٩٤

والنعرات الطائفية والقومية، حينما تقتضي الحالة(٦٢).

هکذا يصف المستر جون همفر (الشيخ محمد) دوره الشريف الذي يخدم به بلاده (بريطانيا) فيقول ما نصه: قال لي الرئيس في وزارة المستعمرات... إن النزاعات طبيعية بين البشر منذ إن خلق الله هابيل وقابيل، وستبقي هذه النزاعات إلى أن يعود المسيح عليه السلام، فمن النزاعات ما هي قبلية، وأخرى إقليمية، وبعضها قومية أو دينية، ومهمتك في هذه السفرة (إلى العراق) أن تتعرف على هذه النزاعات والبؤر بين المسلمين وتتعرف إلى البراكين المستعدة للانفجار منها، وتزود الوزارة بالمعلومات الدقيقة حول ذلك، وإن تمکنت من تفجير النزاع کنت في قمة الخدمة لبريطانيا العظمي، فإننا نحن البريطانيون لا يمکننا العيش في الرفاه إلا بإلقاء الاختلافات والنزاعات في كافة مرافق حياة الأمم والبلاد الأخرى، کما إنه لا يمکننا تحطيم السلطان العثماني إلا بإثارة الفتن بين رعاياه وشعوبه المختلفة، وإلا فکيف تتمکن أمة قليلة العدد من أن تسيطر على أمة کبيرة العدد(٦٣).

وفي مكان آخر يصف مستر جون همفر: صديقه العزيز (ابن عبد الوهاب)، فيقول: کان شاباً متحمساً عصبياً کثيراً، ومتحرراً بکل معنى الکلمة من أية قيود يضعها الدين الإسلامي في طريقة فهم وتفسير القرآن الکريم والسنة النبوية الشريفة، بمعنى: أنه کان يقلد نفسه في فهم القرآن والسنة، ويضرب بآراء المشايخ، لا مشايخ زمانه والمذاهب الأخري فحسب، بل بآراء الخلفاء والتابعين، إذا فهم هو من الکتاب على خلاف ما فهموه(٦٤).

أما في أموره العبادية، فكان أحلى من العسل يصلي بلا وضوء وغسل،

٩٥

ويترك واحدة ويؤدي أخرى، أما صومه للظهر، وبعد الظهر يفطر؛ لأن الصوم فيه ضرر للإنسان، ولا يجوز الضرر بالنفس(٦٥).

وأما حياته الخاصة، فهو يهوى الغلمان أكثر من الإناث، حتى ساومني على نفسي، وقد استشرت وزارتي (المباركة) بذلك، فجاء الجواب كالصاعقة علي: ما دام الأمر في خدمة بريطانيا العظمى، فمكّن الرجل ممّا يريد، هذا ما قاله همفر عن نفسه(٦٦)، أما ما ذكرته تقارير المخابرات البريطانية والروسية، عن أخلاق الرجل الثائر الموحد ابن عبد الوهاب، وسلوكه الشاذ في أيّام شبابه أو بعد الجهر بدعوته، فهي عجيبة غريبة، نستهجن مَن ذكرها ونتغاظى عنها(٦٧).

يقول المستر جون همفر - وقد أخذته الشفقة على الإسلام والمسلمين -: إن غرور الرجل وطموحه کانا يشجعانني، أن اشترك معه في الاعتقاد بأنه هو المنقذ الوحيد الذي يرجي به ومنه انتشال الإسلام والمسلمين من هذا الانحطاط والسقوط، الذي سببته الخلافة العثمانية لبلاد المسلمين(٦٨)، من جهة حياتهم اليومية، وتفشي الفقر والحرمان بينهم. بالإضافة إلى أن عقائد وسلوك العثمانيين (الخلافة العثمانية) ومن قبلهم خلفاء آل عباس وآل أمية، كان السبب الأهم في إدامة الجهل والخرافات والانحطاط والضعف، لدى المسلمين وعقائدهم وإيمانهم من جهة أخرى، ويکرر مستر همفر کثيراً: إن ابن عبد الوهاب، کان يزدري بأبي حنيفه أيما ازدراء، وکان يقول إنني أکثر فهماً من أبي حنيفة، وإن نصف کتاب البخاري باطل. انظر إلى کتاب (مذکرات المستر همفر)(٦٩).

لقد نجح مستر همفر أيما نجاح في تغذية النزعة الشيطانية لدى ابن عبد الوهاب، وتأجيج الثورة فيه على کل ما هو مقدس في الدين ولدى

٩٦

المسلمين، وانهالت الجرع الشيطانية والنسخ العقائدية (الإسرائيليات)، والأفکار الجهنمية عليه، وهي تتواتر تباعاً من مطبخ العقائد والأفکار الهدامة، في وزارة المستعمرات البريطانية(٧٠)، لتصب الزيت على النار؛ فتخلق فيه ثورة عارمة ضد كل ما هو مقدس وشريف، بل كل ما يُنسب لله تعالى في سمائه وأرضه... حتى بات الرجل ككرة من الحديد الصلب، يتدحرج نحو الهاوية، ويسحق في طريقه كل ما يمت إلى الإسلام بصلة. كما يقول الدكتور عقيل باهر الحلواني في كتابه (مؤسس الوهابية السلفية). لقد تأكد لدى الساسة البريطانيين أن العائق الوحيد للاستعمار البريطاني في هذه المنطقة الحيوية حتى الوصول إلى الهند (المستعمرة عندهم) هو دين الإسلام، وإن السبيل الوحيد لإخضاع تلك الشعوب والتغلب عليها، هو تمزيق الإسلام من الداخل وبث الفتن بين المذاهب المختلفة، والأهم من هذا هو تحريف المبادئ والقيم الأساسية وسلم الأولويات التي قام عليها الدين(٧١).

توالت السنوات الأربع في البصرة وأصبح لدى الشاب الطموح الرؤية الكاملة لأرکان مذهب جديد، هو ليس من السنة ولا من الشيعة، ليس من الإسلام ولا من غيره، إنه انقلاب فكري، واستحالة عقائدية، تطفح منها رائحة تكفير الأمّة واستهجان عقائدها وإبطال تقاليدها(٧٢).

ولقد أحكمت وزارة المستعمرات البريطانية القبضة الحديدية على ابن عبد الوهاب ووفرت له المال والنساء وواعدته بالجاه والسلطان، واتفقت معه على برنامج النقاط الست - السيئة الصيت - التي ألخصها بالنقاط التالية، وقد جمعتها من أمهات الكتب التاريخية والوثائقية(٧٣):

١- تکفير المسلمين وإباحة قتلهم وسلب أموالهم وهتك أعراضهم.

٩٧

٢- هدم الكعبة باسم آثار وثنية، ومنع الناس من الحج، وإفراغه من محتواه.

٣- السعي لخلع الخليفة العثماني الإسلامي، وتقسيم الدولة العثمانية، وإثارة الفوضي في البلاد.

٤- هدم القباب والأضرحة والأماکن المقدسة في مكة والمدينة وغيرهما.

٥- النيل من قداسة وعظمة الرسول الأکرم صلّى الله عليه وآله، والأولياء.

٦- نشر قرآن فيه زيادة ونقيصة، حسب مصالحهم وتفسيره على أهوائهم الضالة.

كانت إقامة ابن عبد الوهاب لهذه السنوات الذهبية، فرصة العمر بالنسبة له؛ فقد تدرب فيها على هضم العقائد الفاسدة والأفكار المنحرفة، التي أعدتها وزارة المستعمرات البريطانية وخارجيتها لمثل هذه المواقع(٧٤).

وقضى خمس سنوات أخر، يتنقل بين مدن العراق ومراقده المقدسة، حتى قيل أنه وصل إلى الموصل وأطرافها(٧٥)، وكذلك تتكلم التقارير عن سفره إلى بعض مدن الشامات، لاسيما زيارة قبر قائده الروحي ابن تيمية(٧٦)، وهكذا سافر إلى مدن إيران كإصفهان وشيراز وهمدان وخوزستان وقم المقدسة(٧٧)، عله يجد أنصاراً وأتباعاً له في هذه المدن، أو يحصل على موطن قدم فيها(٧٨)، وقد أحاطت به رجالات المخابرات البريطانية من كل جانب وأشبعوا غرائزه وميوله الشيطانية، وهيأوا الظروف ليتحمل الرجل المسؤولية والقيام بأعباء النهضة الشيطانية، ومحورها يقوم على وثيقة النقاط الست السيئة الصيت. والتي قوامها هدم عقائد الناس، وزعزعة إيمانهم، ونشر الفساد بينهم، وانتهاء بإزالة معالم الدين وأهله(٧٩).

٩٨

وقد کانت الجواسيس والمرتزقة لبريطانيا (العظمي) تحيط بالرجل في حله وترحاله، ترفع له في کل يوم درجة في إيمانه وأفکاره، وتغذيه بالشاذ والمنکر، وحتى المستهجن من العقائد والأفکار وهو يلتهمها بکل وجوده وأحاسيسه، کأنه وحي منزل وکتاب مقدس(٨٠)، وترعاه من طوارق الحياة وشذوذ الدهر.

ذكر كثير من المؤرّخين أن ابن عبد الوهاب کان يغير اسمه بانتظام في کل مکان يحل به، ففي البصرة يعرف نفسه باسم عبد الله، وفي بغداد بأحمد، وفي کردستان بمحمد، وفي إصفهان وهمدان بيوسف وهکذا(٨١). وإذا ما نظرنا إلى هذه الحالة الاستثنائية في تاريخ هذا الرجل، الذي كان يعيش قبل مائتي عام، لا نعرف لهذا الأمر من تفسير واقعي، سوى أن رجالات المخابرات البريطانية أو ممّن يتعاون معهم يلتزمون بهذا الأسلوب الأمني الصارم. وتذكر تقارير غربية وبريطانية، أنه مسافر مدة من الزمن إلى لندن وعاش أجواء بريطانيا العظمى.

إن الانسجام بين الروح والهوي الشيطاني لأبن عبد الوهاب، واشتياقه وانجذابه لکل ما هو منکر ومحذور في الدين يطابقه من الطرف الآخر، الحزم والعزم لرجالات وزارة المستعمرات البريطانية لتقديم کأس الكفر والإلحاد والخيانة، حتى الثمالة لهذا الرجل... وهو تطابق فريد لا يحدث دائماً في عالم السياسة والاجتماع(٨٢).

التقارير البريطانية لمستر همفر والسير برسي کوکس وسانت جون فيلبي والکابتن شکسبير، وعشرات الوثائق المعلنة لأراشيف الحکومات البريطانية والعثمانية والروسية والهندية، وهکذا شهادات علماء عصره ومؤرّخين عاصروه، تشير إلى معنى قطعي واحد، بأن وزارة المستعمرات البريطانية

٩٩

وجواسيسها وخبراءها في المطبخ البريطاني، قد أثرَوا هذا الشاب الطموح بأفكارٍ وعقائد وبدع لا تستند إلى الإسلام بصلة(٨٣)، فضلاً عن إشباع غرائزه ونزواته وأهوائه، فأصبح تمثالاً متحركاً لإبليس بين الناس، فهو يقلد فهم نفسه من القرآن الکريم والسنة النبوية الشريفة، ويدعو إلى تلکم العقائد والأفکار الشاذة، والمناهج المرتدة عن أبسط أصول الدين وقواعد الشرع الحنيف والفطرة السليمة، مع أعلى درجات العداء والبغضاء والكراهية لأبناء جلدته ودينه وأهله(٨٤).

أرادت بريطانيا عبر رجالات استخباراتها غرس ابن عبد الوهاب في إحدى المدن التي سكن فيها أو زارها ودرس فيها، لكن النتائج كانت سلبية دائماً(٨٥)، وكان المناخ العام والمستوى الفكري والديني لهذه المدن لا يسمح لمثل هذه الأفكار أن تطرح، فضلاً عن أن تجد لها أنصاراً وتابعين. بالإضافة إلى أن ابن عبد الوهاب لا يملك أية مؤهلات علمية وفقهية، تجعل له مكاناً بين فطاحل العلم والفقاهة في تلك المدن آنذاك.

توصلت وزارة المستعمرات البريطانية إلى نتيجة قطعية, مستندة إلى تقارير عملائها وجواسيسها في المنطقة، كان لها الأثر المهم في رجوع الرجل إلى بلاده، مفادها: أن الأجواء العلمية وسطوة العلماء والفقهاء، وهيمنة الشيوخ من مختلف مذاهب المسلمين في بلاد العراق وإيران والشام ومكة المكرمة والمدينة المنورة، لا تسمح ولا تصلح أن تكون مركزاً لعمليات التكفير وقذف المسلمين بالشرك، مع مجموعة من الأراجيف والشعوذات الوهابية(٨٦)، ولا يمكن لابن عبد الوهاب أو لغيره مهما أوتي من البيان وقوة الدليل ومهارة اللف والدوران، من أن يقنع مَن له عقل سليم أو لب لبيب بتلكم العقائد والأفكار الباطلة. فقد أثبتت التجربة

١٠٠