الـمُنتخب في جمع المراثي والخطب المشتهر بـ (الفخري)

الـمُنتخب في جمع المراثي والخطب المشتهر بـ (الفخري)16%

الـمُنتخب في جمع المراثي والخطب المشتهر بـ (الفخري) مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 493

الـمُنتخب في جمع المراثي والخطب المشتهر بـ (الفخري) الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 493 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 70433 / تحميل: 5609
الحجم الحجم الحجم
الـمُنتخب في جمع المراثي والخطب المشتهر بـ (الفخري)

الـمُنتخب في جمع المراثي والخطب المشتهر بـ (الفخري)

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

بن رئاب ، عن ابن أبي يعفور ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال الصبر رأس الإيمان

_________________________________________

وإن كان في نائبه مضجرة سمي رحب الصدر ويضاده الضجر ، وإن كان في إمساك الكلام سمي كتمانا ويضاده الإذاعة ، وقد سمي الله تعالى كل ذلك صبرا ونبه عليه بقوله : «وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ »(١) «وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ »(٢) «وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ »(٣) وسمي الصوم صبرا لكونه كالنوع له.

وقوله : «اصْبِرُوا وَصابِرُوا »(٤) أي احبسوا أنفسكم علي العبادة وجاهدوا أهواءكم ، وقوله عز وجل : «اصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ »(٥) أي تحمل الصبر بجهدك ، وقوله : «أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا »(٦) أي بما تحملوه من الصبر في الوصول إلى مرضات الله.

قوله : رأس الإيمان ، هو من قبيل تشبيه المعقول بالمحسوس ، ووجه الشبه ما سيأتي في الخبر الآتي ووجهه أن الإنسان ما دام في تلك النشأة هو مورد للمصائب والآفات ومحل للحوادث والنوائب والعاهات ، ومبتلى بتحمل الأذى من بني نوعه في المعاملات ومكلف بفعل الطاعات وترك المنهيات والمشتهيات ، وكل ذلك ثقيل على النفس لا تشتهيها بطبعها ، فلا بد من أن تكون فيه قوة ثابتة وملكة راسخة بها يقتدر على حبس النفس علي هذه الأمور الشاقة ، ورعاية ما يوافق الشرع والعقل فيها ، وترك الجزع والانتقام وسائر ما ينافي الآداب المستحسنة المرضية عقلا وشرعا ، وهي المسماة بالصبر ، ومن البين أن الإيمان الكامل بل نفس التصديق أيضا يبقى ببقائه ، ويفنى بفنائه ، فلذلك هو من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد.

__________________

(١) سورة البقرة : ١٧٧.

(٢) سورة الحجّ : ٣٥.

(٣) سورة الأحزاب : ٣٥.

(٤) سورة آل عمران : ٢٠٠.

(٥) سورة مريم : ٦٥.

(٦) سورة الفرقان : ٧٥.

١٢١

٢ ـ أبو علي الأشعري ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن محمد بن سنان ، عن العلاء بن فضيل ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد فإذا ذهب الرأس ذهب الجسد كذلك إذا ذهب الصبر ذهب الإيمان.

٣ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه وعلي بن محمد القاساني جميعا ، عن القاسم بن محمد الأصبهاني ، عن سليمان بن داود المنقري ، عن حفص بن غياث قال قال أبو عبد اللهعليه‌السلام يا حفص إن من صبر صبر قليلا وإن من جزع جزع قليلا ثم قال عليك بالصبر في جميع أمورك فإن الله عز وجل بعث محمداصلى‌الله‌عليه‌وآله فأمره بالصبر والرفق فقال «وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ »(١) وقال تبارك وتعالى «ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [ السَّيِّئَةَ ]

_________________________________________

الحديث الثاني : ضعيف على المشهور.

الحديث الثالث : ضعيف.

« صبر قليلا » نصب قليلا إما على المصدرية أو الظرفية أي صبر صبرا قليلا أو زمانا قليلا ، وهو زمان العمر أو زمان البلية« في جميع أمورك » فإن كل ما يصدر عنه من الفعل والترك والعقد وكل ما يرد عليه من المصائب والنوائب من قبله تعالى ، أو من قبل غيره يحتاج إلى الصبر إذ لا يمكنه تحمل ذلك بدون جهاده مع النفس والشيطان وحبس النفس عليه.

«وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ » أي من الخرافات والشتم والإيذاء «وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً » بأن تجانبهم وتداريهم ولا تكافيهم وتكل أمرهم إلى الله كما قال : «وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ » أي دعني وإياهم وكل إلى أمرهم فإني أجازيهم في الدنيا والآخرة «أُولِي النَّعْمَةِ » النعمة بالفتح لين الملمس أي المتنعمين ذوي الثروة في الدنيا ، وهم صناديد قريش وغيرهم.

«ادْفَعْ » أول الآية هكذا : «وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ » أي في الجزاء وحسن العاقبة « ولا » الثانية مزيدة لتأكيد النفي «ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ » كذا

__________________

(١) سورة المزّمّل : ١٠.

١٢٢

فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَما يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ »(١) فصبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حتى نالوه بالعظائم ورموه بها فضاق صدره فأنزل الله عز وجل عليه : «وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ

_________________________________________

في أكثر نسخ الكتاب وتفسير علي بن إبراهيم ، والسيئة غير مذكورة في المصاحف وكأنهعليه‌السلام زادها تفسيرا وليست في بعض النسخ وهو أظهر ، وقيل : المعنى ادفع السيئة حيث اعترضتك بالتي هي أحسن منها وهي الحسنة ، على أن المراد بالأحسن الزائد مطلقا أو بأحسن ما يمكن دفعها به من الحسنات ، إنما أخرج مخرج الاستئناف على أنه جواب من قال كيف أصنع؟ للمبالغة ، ولذلك وضع أحسن موضع الحسنة ، كذا ذكره البيضاوي ، وقيل : اسم التفضيل مجرد عن معناه ، أو أصل الفعل معتبر في المفضل عليه على سبيل الفرض ، أو المعنى ادفع السيئة بالحسنة التي هي أحسن من العفو أو المكافاة ، وتلك الحسنة هي الإحسان في مقابل الإساءة ، ومعنى التفضيل حينئذ بحاله لأن كلا من العفو أو المكافاة أيضا حسنة إلا أن الإحسان أحسن منهما وهذا قريب مما ذكره الزمخشري من أن لا غير مزيدة ، والمعنى أن الحسنة والسيئة متفاوتان في أنفسهما فخذ بالحسنة التي هي أحسن أن تحسن إليه مكان إساءته.

«فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ » أي إذا فعلت ذلك صار عدوك المشاق مثل الولي الشفيق «وَما يُلَقَّاها » أي ما يلقي هذه السجية وهي مقابلة الإساءة بالإحسان «إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا » فإنها تحبس النفس عن الانتقام «وَما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ » من الخير وكمال النفس ، وقيل : الحظ العظيم الجنة ، يقال :

لقاه الشيء أي ألقاه إليه« حتى نالوه بالعظائم » يعني نسبوه إلى الكذب والجنون والسحر وغير ذلك ، وافتروا عليه.

«أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ » كناية عن الغم «بِما يَقُولُونَ » من الشرك أو الطعن فيك

__________________

(١) سورة فصّلت : ٣٥.

١٢٣

رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ »(١) ثم كذبوه ورموه فحزن لذلك فأنزل الله عز وجل «قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ

_________________________________________

وفي القرآن والاستهزاء بك وبه «فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ » أي فنزه ربك عما يقولون مما لا يليق به متلبسا بحمده في توفيقك له أو فافزع إلى الله فيما نابك من الغم بالتسبيح والتحميد فإنهما يكشفان الغم عنك «وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ » للشكر في توفيقك أو رفع غمك أو كن من المصلين فإن في الصلاة قطع العلائق عن الغير «إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ » الضمير للشأن أي ما يقولون إنك شاعر أو مجنون وأشباه ذلك.

«فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ » قال الطبرسي (ره) : اختلف في معناه على وجوه : أحدها أن معناه لا يكذبونك بقلوبهم اعتقادا وإن كانوا يظهرون بأفواههم التكذيب عنادا وهو قول أكثر المفسرين ويؤيده ما روي أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لقي أبا جهل فصافحه أبو جهل فقيل له في ذلك؟ فقال : والله إني لأعلم أنه صادق ولكنا متى كنا تبعا لعبد مناف؟ فأنزل الله هذه الآية.

وثانيها : أن المعنى لا يكذبونك بحجة ولا يتمكنون من إبطال ما جئت به ببرهان ، ويدل عليه ما روي عن عليعليه‌السلام أنه كان يقرأ : لا يكذبونك ، ويقول : إن المراد بها أنهم لا يأتون بحق هو أحق من حقك.

وثالثها : أن المراد لا يصادفونك كاذبا ، تقول العرب : قاتلناكم فما أجبناكم أي ما أصبناكم جبناء ، ولا يختص هذا الوجه بالقراءة بالتخفيف لأن أفعلت وفعلت يجوزان في هذا الموضع إلا أن التخفيف أشبه بهذا الوجه.

ورابعها : أن المراد لا ينسبونك إلى الكذب فيما أتيت به لأنك كنت عندهم أمينا صادقا ، وإنما يدفعون ما أتيت به ويقصدون التكذيب بآيات الله ، ويقوي هذا الوجه قوله : ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ، وقوله : وكذب به قومك وهو

__________________

(١) سورة الحجر : ٩٧.

١٢٤

يَجْحَدُونَ وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا »(١) فألزم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله نفسه الصبر فتعدوا فذكر الله تبارك وتعالى وكذبوه فقال قد صبرت في نفسي وأهلي وعرضي ولا صبر لي على ذكر إلهي فأنزل الله عز وجل : «وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ

_________________________________________

الحق ، ولم يقل : وكذبك قومك ، وما روي أن أبا جهل قال للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما نتهمك ولا نكذبك ولكننا نتهم الذي جئت به ونكذبه.

وخامسها : أن المراد أنهم لا يكذبونك بل يكذبونني فإن تكذيبك راجع إلى ولست مختصا به لأنك رسول فمن رد عليك فقد رد على ، وذلك تسلية منه تعالى للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

«وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ » أي بالقرآن والمعجزات «يَجْحَدُونَ » بغير حجة سفها وجهلا وعنادا ، ودخلت الباء لتضمين معنى التكذيب وقال أبو علي : الباء تتعلق بالظالمين ، ثم زاد في تسلية النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله : «وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا » أي صبروا على ما نالهم منهم من التكذيب والأذى في أداء الرسالة «حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا » إياهم على المكذبين ، وهذا أمر منه تعالى لنبيه بالصبر على أذى كفار قومه إلى أن يأتيه النصر كما صبرت الأنبياء ، وبعده «وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ » أي لا يقدر أحد على تكذيب خبر الله على الحقيقة ولا على إخلاف وعده «وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ » أي خبرهم في القرآن كيف أنجيناهم ونصرناهم على قومهم.

قوله عليه‌السلام : فذكروا الله ، أي نسبوا إليه ما لا يليق بجنابة «وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ » قيل : هذا إشارة إلى حسن التأني وترك التعجيل في الأمور ، وتمهيد للأمر بالصبر ، وأقول : يحتمل أن يكون توطئة للصبر على وجه آخر ، وهو بيان عظم قدرته وأنه قادر على الانتقام منهم «وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ » أي من تعب وإعياء ، وهو رد لما

__________________

(١) سورة الأنعام : ٣٣.

١٢٥

فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ »(١) فصبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في جميع أحواله ثم بشر في عترته

_________________________________________

زعمت اليهود من أنه تعالى بدء خلق العالم يوم الأحد ، وفرغ منه يوم الجمعة واستراح يوم السبت واستلقى على العرش «فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ » أي ما يقول المشركون من إنكارهم البعث ، فإن من قدر على خلق العالم بلا إعياء قدر على بعثهم والانتقام منهم أو ما يقول اليهود من الكفر والتشبيه.

قوله عليه‌السلام : ثم بشر ، على بناء المجهول وقبل الآية في سورة التنزيل هكذا ، «وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً » وفي أكثر نسخ الكتاب وجعلناهم وكأنه تصحيف ، وفي بعضها : جعلنا منهم ، كما في المصاحف.

ثم إنه يرد عليه أن الظاهر من سياق الآية رجوع ضمير منهم إلى بني إسرائيل فكيف تكون بشارة للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عترته وكيف وصفوا بالصبر؟

والجواب ما عرفت أن ذكر القصص في القرآن لإنذار هذه الأمة وتبشيرهم ، مع أنه قد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنه يقع في هذه الأمة ما وقع في بني إسرائيل حذو النعل بالنعل ، فذكر قصة موسى وإيتائه الكتاب وجعل الأئمة من بني إسرائيل أي هارون وأولاده ، ذكر نظير لبعثة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإيتائه القرآن وجعل الأئمة من أخيه وابن عمه وأولاده كما قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنت مني بمنزلة هارون من موسى ، وقد يقال : إن قوله : «فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ » المراد به لا تكن في تعجب من سقوط الكتاب بعدك وعدم عمل الأمة به فإنا نجعل بعدك أمة يهدون بالكتاب كما جعلنا في بني إسرائيل أئمة يهدون بالتوراة.

والمفسرون ذكروا فيه وجوها : الأول أن المعنى لا تكن في شك من لقائك موسى ليلة الأسرى ، الثاني : من لقاء موسى الكتاب ، الثالث : من لقائك الكتاب ،

__________________

(١) سورة ق : ٣٨.

١٢٦

بالأئمة ووصفوا بالصبر فقال جل ثناؤه «وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ »(١) فعند ذلك قالصلى‌الله‌عليه‌وآله الصبر من الإيمان كالرأس من الجسد فشكر الله عز وجل ذلك له فأنزل الله عز وجل : «وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا

_________________________________________

الرابع : من لقائك الأذى كما لقي موسى الأذى.

« وجعلناه » أي موسى أو المنزل عليه «يَهْدُونَ » أي الناس إلى ما فيه من الحكم والأحكام «بِأَمْرِنا » إياهم أو بتوفيقنا لهم «لَمَّا صَبَرُوا » أي لصبرهم على الطاعة أو على أذى القوم أو عن الدنيا وملاذها كما قيل «وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ » لا يشكون في شيء منها ، ويعرفونها حق المعرفة.

« فشكر الله ذلك له » إشارة إلى الصبر على جميع الأحوال وذلك القول الدال على الرضا بالصبر ، وشكر الله تعالى لعباده عبارة عن قبول العمل ومقابلته بالإحسان والجزاء في الدنيا والآخرة «وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ » صدر الآية : «وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ » يعني بني إسرائيل في ظهر الآية فإن القبط كانوا يستضعفونهم فأورثهم الله بأن مكنهم وحكم لهم بالتصرف ، وأباح لهم بعد إهلاك فرعون وقومه «مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا » أي أرض الشام شرقها وغربها ، أو أرض الشام ومصر ، وقيل : كل الأرض لأن داود وسليمان كانا منهم وملكا الأرض التي باركنا فيها بإخراج الزرع والثمار وضروب المنافع «وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ » قال الطبرسي (ره) : معناه صح كلام ربك بإنجاز الوعد بإهلاك عدوهم واستخلافهم في الأرض ، وإنما كان الإنجاز تماما للكلام لتمام النعمة به ، وقيل : إن كلمة الحسنى قوله سبحانه : «وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ » إلى قوله : «يَحْذَرُونَ » وقال : الحسنى ، وإن كانت كلمات الله كلها حسنة لأنها وعد بما يحبون ، وقال الحسن : أراد وعد الله لهم بالجنة «بِما صَبَرُوا » على أذى فرعون وقومه «وَدَمَّرْنا ما

__________________

(١) سورة السجدة : ٢٤.

١٢٧

يَعْرِشُونَ »(١) فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله إنه بشرى وانتقام فأباح الله عز وجل له قتال المشركين فأنزل [ الله ] «فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ »(٢) «وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ »(٣) فقتلهم الله على يدي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله

_________________________________________

كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ » أي أهلكنا ما كانوا يبنون من الأبنية والقصور والديار «وَما كانُوا يَعْرِشُونَ » من الأشجار والأعناب والثمار ، وقيل : يعرشون يسقفون من القصور والبيوت«فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنه بشرى» أي لي ولا صحابي«وانتقام» من أعدائي ووجه البشارة ما مر أن ذكر هذه القصة تسلية للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأني أنصرك على أعدائك وأهلكهم وأنصر الأئمة من أهل بيتك على الفراعنة الذين غلبوا عليهم وظلموهم في زمن القائمعليه‌السلام وأملكهم جميع الأرض ، فظهر الآية لموسى وبني إسرائيل ، وبطنها لمحمد وآل محمد صلى الله وعليه وآله وسلم.

«فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ » الآية هكذا : «فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ » قيل : أي من حل وحرم «وَخُذُوهُمْ » أي وأسروهم والأخيذ الأسير «وَاحْصُرُوهُمْ » أي واحبسوهم أو حيلوا بينهم وبين المسجد الحرام «وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ » أي كل ممر لئلا ينتشروا في البلاد ، وانتصابه على الظرف ، وقال تعالى في سورة البقرة : «وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ » يقال ثقفه أي صادفه أو أخذه أو ظفر به أو أدركه.

« فقتلهم الله » أي في غزوة بدر وغيرها « وعجل له الثواب ثواب صبره » وفي بعض النسخ وجعل له ثواب صبره والأول أظهر وموافق للتفسير ، والحاصل أن هذه النصرة

__________________

(١) سورة الأعراف : ١٣٦.

(٢) سورة التوبة : ٦.

(٣) سورة البقرة : ١٩١.

١٢٨

وأحبائه وجعل له ثواب صبره مع ما ادخر له في الآخرة فمن صبر واحتسب لم يخرج من الدنيا حتى يقر الله له عينه في أعدائه مع ما يدخر له في الآخرة.

٤ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن علي بن الحكم ، عن أبي محمد عبد الله السراج رفعه إلى علي بن الحسينعليه‌السلام قال الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ولا إيمان لمن لا صبر له.

٥ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن حماد بن عيسى ، عن ربعي بن عبد الله ، عن فضيل بن يسار ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد فإذا ذهب الرأس ذهب الجسد كذلك إذا ذهب الصبر ذهب الإيمان.

٦ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن أبيه ، عن علي بن النعمان ، عن عبد الله بن مسكان ، عن أبي بصير قال سمعت أبا عبد اللهعليه‌السلام يقول إن الحر حر على جميع أحواله إن نابته نائبة صبر لها وإن تداكت عليه المصائب

_________________________________________

وقتل الأعداء كان ثوابا عاجلا على صبره منضما مع ما ادخر له في الآخرة من مزيد الزلفى والكرامة« واحتسب » أي كان غرضه القربة إلى الله ليكون محسوبا من أعماله الصالحة« حتى يقر الله عينه » أي يسره في أعدائه بنصره عليهم مع ما يدخر له في الآخرة من الأجر الجميل والثواب الجزيل.

الحديث الرابع : مجهول مرفوع.

الحديث الخامس : حسن كالصحيح وقد مر بعينه بسند آخر.

الحديث السادس : صحيح.

والحر ضد العبد والمراد هنا من نجا في الدنيا من رق الشهوات النفسانية وأعتق في الآخرة من أغلال العقوبات الربانية فهو كالأحرار عزيز غني في جميع الأحوال.

قال الراغب : الحر خلاف العبد والحرية ضربان : الأول من لم يجر عليه حكم السبي نحو «الْحُرُّ بِالْحُرِّ » والثاني من لم يتملكه قواه الذميمة من الحرص

١٢٩

لم تكسره وإن أسر وقهر واستبدل باليسر عسرا كما كان يوسف الصديق الأمينصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يضرر حريته أن استعبد وقهر وأسر ولم تضرره ظلمة الجب ووحشته وما ناله أن من الله عليه فجعل الجبار العاتي له عبدا بعد إذ كان له مالكا

_________________________________________

والشره على المقتنيات الدنيوية ، وإلى العبودية التي تضاد ذلك ، أشار النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله : تعس عبد الدرهم ، تعس عبد الدينار ، وقول الشاعر : « ورق ذوي الأطماع رق مخلد » ، وقيل : عبد الشهوة أذل من عبد الرق ، انتهى.

وفي القاموس : الحر بالضم خلاف العبد ، وخيار كل شيء والفرس العتيق ، ومن الطين والرمل الطيب.

« إن نابته نائبة صبر لها » أي إن عرض له حادثة أو نازلة أو مصيبة صبر عليها أو حمل عليه مال يؤخذ منه أداه ولا يذل نفسه بالبخل فيه ، قال في النهاية : في حديث خيبر قسمها نصفين نصفا لنوائبه ونصفا بين المسلمين ، النوائب جمع النائبة وهي ما ينوب الإنسان أي ينزل به من المهمات والحوادث ، وقد نابه ينوبه نوبا ومنه الحديث : احتاطوا لأهل الأموال في النائبة والواطية أي الأضياف الذين ينوبونهم.

« وإن تداكت عليه المصائب » أي اجتمعت وازدحمت ، قال في النهاية : وفي حديث عليعليه‌السلام : ثم تداككتم على تداكك الإبل الهيم على حياضها ، أي ازدحمتم وأصل الدك الكسر ، انتهى.

« لم تكسره » أي لم تعجزه عن الصبر ولم تحمله على الجزع وترك الرضا بقضاء الله تعالى« وإن أسر » إن وصلية« واستبدل باليسر عسرا » عطف على أسر ، وفي بعض النسخ واستبدل بالعسر يسرا فهو عطف على قوله لم تكسره فتكون غاية للصبر« إن استبعد » على بناء المجهول فاعل لم يضرر ، والمراد بحريته عزه ورفعته وصبره على تلك المصائب ورضاه بقضاء الله واختياره طاعة الله وعدم تذلله للمخوقين« وما ناله » أي من ظلم الإخوان وسائر الأحزان« أن من الله » أي في أن من الله أو هو بدل اشتمال

١٣٠

...........................................................................

_________________________________________

للضمير في لم تضرره أو بتقدير إلى فالظرف متعلق بلم تضرر في الموضعين على سبيل التنازع.

وأقول : يحتمل أن يكون ما ناله عطفا على الضمير في لم يضرره ، وأن من الله بيانا لما بتقدير من أو بدلا منه ، فيحتمل أن يكون فاعل نال يوسفعليه‌السلام وقيل : اللام فيه مقدر أي لأن من الله فيكون تعليلا لقوله : لم تضرر في الموضعين أو ما ناله مبتدأ وأن من الله خبره ، والجملة معطوفة على لم تضرره أو يكون الواو بمعنى مع ، أي لم تضرره ذلك مع ما ناله وأن من بيان لما.

والعاتي من العتو بمعنى التجبر والتكبر والتجاوز عن الحد ، والجبار بائعه في مصر أو العزيز فالمراد بصيرورته عبدا له أنه صار مطيعا له ، مع أنه قد روى الثعلبي وغيره أن ملك مصر كان ريان بن الوليد والعزيز الذي اشترى يوسفعليه‌السلام كان وزيره وكان اسمه قطفير فلما عبر يوسف رؤيا الملك عزل قطفير عما كان عليه وفوض إلى يوسف أمر مصر وألبسه التاج وأجلسه على سرير الملك وأعطاه خاتمه وهلك قطفير في تلك الليالي فزوج الملك يوسف زليخا امرأة قطفير ، وكان اسمها راعيل فولدت له ابنين أفراثيم وميشا فلما دخلت السنة الأولى من سني الجدب هلك فيها كل شيء أعدوه في السنين المخصبة فجعل أهل مصر يبتاعون من يوسف الطعام فباعهم أول سنة بالنقود حتى لم يبق بمصر دينار ولا درهم إلا قبضه ، وباعهم السنة الثانية بالحلي والجواهر حتى لم يبق في أيدي الناس منها شيء ، وباعهم السنة الثالثة بالمواشي والدواب حتى احتوى عليها أجمع وباعهم السنة الرابعة بالعبيد والإماء حتى لم يبق عبد ولا أمة في يد أحد ، وباعهم السنة الخامسة بالضياع والعقار والدور حتى احتوى عليها ، وباعهم السنة السادسة بأولادهم حتى استرقهم وباعهم السنة السابعة برقابهم حتى لم تبق بمصر حر ولا حرة إلا صار عبدا له ، ثم استأذن الملك وأعتقهم كلهم

١٣١

فأرسله ورحم به أمة وكذلك الصبر يعقب خيرا فاصبروا ووطنوا أنفسكم على الصبر توجروا.

٧ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن علي بن الحكم ، عن عبد الله بن بكير ، عن حمزة بن حمران ، عن أبي جعفرعليه‌السلام قال الجنة محفوفة بالمكاره

_________________________________________

ورد أموالهم إليهم ، فظهر أن الله ملكه جميع أهل مصر وأموالهم عوضا عن مملوكيته صلوات الله عليه لهم ، فهذه ثمرة الصبر والطاعة.

والمراد بإرساله إرساله إلى الخلق بالنبوة وبرحم الأمة به نجاتهم عن العقوبة الأبدية بإيمانهم به أو عن القحط والجوع أو الأعم.

« وكذلك الصبر يعقب خيرا » يعقب على بناء الأفعال قال الراغب : أعقبه كذا أورثه ذلك قال تعالى : «فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ »(١) وفلان لم يعقب أي لم يترك ولدا ، انتهى.

أي كما أن صبر يوسفعليه‌السلام أعقب خيرا عظيما له كذلك صبر كل أحد يعقب خيرا له ، ومن ثم قيل : اصبر تظفر ، وقيل :

إني رأيت للأيام تجربة

للصبر عاقبة محمودة الأثر

وقل من جد في أمر يطالبه

فاستصحب الصبر إلا فاز بالظفر

الحديث السابع : مجهول.

ومضمونه متفق عليه بين الخاصة والعامة ، فقد روى مسلم عن أنس قال : قال رسول اللهعليه‌السلام : حفت الجنة بالمكاره ، وحفت النار بالشهوات ، وهذا من بديع كلامه ، وقال الراوندي في ضوء الشهاب يقال :حف القوم حول زيد إذا أطافوا به ، واستداروا وحففته بشيء أي أدرته عليه ، يقال : حففت الهودج بالثياب ، ويقال : إنه مشتق من حفا في الشيء أي جانبيه ، يقولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : المكاره مطيفة محدقة بالجنة

__________________

(١) سورة التوبة : ٧٧.

١٣٢

والصبر فمن صبر على المكاره في الدنيا دخل الجنة وجهنم محفوفة باللذات والشهوات ـ فمن أعطى نفسه لذتها وشهوتها دخل النار.

٨ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن محبوب ، عن عبد الله بن مرحوم ، عن أبي سيار ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال إذا دخل المؤمن في قبره كانت الصلاة عن يمينه

_________________________________________

وهي الطاعات ، والشهوات محدقة مستديرة بالنار وهي المعاصي وهذا مثل يعني أنك لا يمكنك نيل الجنة إلا باحتمال مشاق ومكاره وهي فعل الطاعات والامتناع عن المقبحات ولا التفصي عن النار إلا بترك الشهوات وهي المعاصي التي تتعلق الشهوة بها فكان الجنة محفوفة بمكاره تحتاج أن تقطعها بتكلفها والنار محفوفة بملاذ وشهوات تحتاج أن تتركها.

وروي أن الله تعالى لما خلق الجنة قال لجبرئيلعليه‌السلام : انظر إليها فلما نظر إليها قال : يا رب لا يتركها أحد إلا دخلها فلما حفها بالمكاره قال : انظر إليها فلما نظر إليها قال : يا رب أخشى أن لا يدخلها أحد ولما خلق النار قال له : انظر إليها فلما نظر إليها قال : يا رب لا يدخلها أحد فلما حفها بالشهوات قال : انظر إليها فلما نظر إليها قال يا رب أخشى أن يدخلها كل أحد.

وفائدة الحديث إعلام أن الأعمال المفضية إلى الجنة مكروهة قرنا الله بها الكراهة وبالعكس منها الأعمال الموصلة إلى النار قرن بها الشهوة ليجاهد الإنسان نفسه فيحتمل تلك ويجتنب هذه.

الحديث الثامن : كالسابق.

والبر يطلق على مطلق أعمال الخير وعلى مطلق الإحسان إلى الغير وعلى الإحسان إلى الوالدين أو إليهما وإلى ذوي الأرحام ، والمراد هنا أحد المعاني سوى المعنى الأول ، قال الراغب : البر خلاف البحر وتصور منه التوسع فاشتق منه البر أي التوسع في فعل الخير وينسب ذلك إلى الله تارة نحو «إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ » و

١٣٣

والزكاة عن يساره والبر مطل عليه ويتنحى الصبر ناحية فإذا دخل عليه الملكان اللذان يليان مساءلته قال الصبر للصلاة والزكاة والبر دونكم صاحبكم فإن عجزتم عنه فأنا دونه.

٩ ـ علي ، عن أبيه ، عن جعفر بن محمد الأشعري ، عن عبد الله بن ميمون ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال دخل أمير المؤمنين صلوات الله عليه المسجد فإذا هو برجل على باب المسجد كئيب حزين فقال له أمير المؤمنينعليه‌السلام ما لك قال يا أمير المؤمنين أصبت بأبي [ وأمي ] وأخي وأخشى أن أكون قد وجلت فقال له أمير المؤمنينعليه‌السلام عليك بتقوى الله والصبر تقدم عليه غدا والصبر في الأمور بمنزلة الرأس

_________________________________________

إلى العبد تارة فيقال بر العبد ربه أي توسع في طاعته فمن الله تعالى الثواب ومن العبد الطاعة ، وبر الوالدين التوسع في الإحسان إليهما وضده العقوق« مطل » بالطاء المهملة من قولهم اطل عليهم أي أشرف ، وفي بعض النسخ بالمعجمة وهو قريب المعنى من الأول لكن التعدية بعلى بالأول أنسب« دونكم » اسم فعل بمعنى خذوا ، ويدل ظاهرا على تجسم الأعمال والأخلاق في الآخرة ومن أنكره يأوله وأمثاله بأن الله تعالى يخلق صورا مناسبة للأعمال يريه إياها لتفريحه أو تحزينه ، أو الكلام مبني على الاستعارة التمثيلية وتنحي الصبر وتمكنه في إعانته يناسب ذاته فتفطن.

الحديث التاسع : كالسابق أيضا.

« أصبت » على بناء المجهول« بأبي وأخي » أي ماتا« وأخشى أن أكون قد وجلت » الوجل : استشعار الخوف وكان المعنى أخشى أن يكون حزني بلغ حدا مذموما شرعا فعبر عنه بالوجل أو أخشى أن تنشق مرارتي من شدة الألم أو أخشى الوجل الذي يوجب الجنون« عليك » اسم فعل بمعنى الزم والباء للتقوية« بتقوى الله » أي في الشكاية والجزع وغيرهما مما يوجب نقص الإيمان ، وكأنه إشارة إلى قوله تعالى : «وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ »(١) .

« تقدم » على بناء المعلوم من باب علم بالجزم جزاء للأمر في « عليك » أو

__________________

(١) سورة آل عمران : ١٨٦.

١٣٤

من الجسد فإذا فارق الرأس الجسد فسد الجسد وإذا فارق الصبر الأمور فسدت الأمور.

١٠ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن علي بن الحكم ، عن سماعة بن مهران ، عن أبي الحسنعليه‌السلام قال قال لي ما حبسك عن الحج قال قلت جعلت فداك وقع علي دين كثير وذهب مالي وديني الذي قد لزمني هو أعظم من ذهاب مالي فلو لا أن رجلا من أصحابنا أخرجني ما قدرت أن أخرج فقال لي إن تصبر تغتبط وإلا تصبر ينفذ الله مقاديره راضيا كنت أم كارها.

١١ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن ابن سنان ، عن أبي الجارود ، عن

_________________________________________

بالرفع استئنافا بيانيا وضمير« عليه » راجع إلى الصبر بتقدير مضاف أي جزاءه ، أو إلى الله أي ثوابه ، وقيل : إلى كل من الأب والأخ ، فإن فوته جزءا خير للعلة أو إلى الأب لأنه الأصل والكل بعيد.

« غدا » أي في القيامة أو عند الموت أو سريعا.

الحديث العاشر : موثق.

والاغتباط مطاوع غبطه ، تقول : غبطه أغبطه غبطا وغبطه فاغتبط هو كمنعته فامتنع ، والغبطة إن تتمنى حال المغبوط لكونها في غاية الحسن من غير أن تريد زوالها عنه ، وهذا هو الفرق بينها وبين الحسد ، وفي القاموس : الغبطة بالكسر حسن الحال والمسرة وقد اغتبط ، وقال : الاغتباط : التبهج بالحال الحسنة ، انتهى.

والاغتباط أما في الآخرة بجزيل الأجر وحسن الجزاء ، وفي الدنيا أيضا بتبديل الضراء بالسراء ، فإن الصبر مفتاح الفرج ، وقد قال أمير المؤمنينعليه‌السلام : أضيق ما يكون الحرج أقرب ما يكون الفرج ، مع أن الكاره تزداد مصيبته فإن فوات الأجر مصيبة أخرى ، والكراهة الموجبة لحزن القلب مصيبة عظيمة ، ومن ثم قيل : المصيبة للصابر واحدة وللجازع اثنتان ، بل له أربع مصيبات الثلاثة المذكورة وشماتة الأعداء ، ومن ثم قيل : الصبر عند المصيبة مصيبة على الشامت.

الحديث الحادي عشر : ضعيف.

١٣٥

الأصبغ قال قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه الصبر صبران صبر عند المصيبة حسن جميل وأحسن من ذلك الصبر عند ما حرم الله عز وجل عليك والذكر ذكران ذكر الله عز وجل عند المصيبة وأفضل من ذلك ذكر الله عند ما حرم عليك فيكون حاجزا.

١٢ ـ أبو علي الأشعري ، عن الحسن بن علي الكوفي ، عن العباس بن عامر ، عن العرزمي ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله سيأتي على الناس زمان لا ينال الملك فيه إلا بالقتل والتجبر ولا الغنى إلا بالغصب والبخل ولا المحبة إلا باستخراج الدين واتباع الهوى ـ فمن أدرك ذلك الزمان فصبر على الفقر وهو يقدر

_________________________________________

« صبر » خبر مبتدإ محذوف أي أحدهما صبر ، وحسن أيضا خبر مبتدإ محذوف ، أي هو حسن ، ويحتمل أن يكون صبر مبتدأ وحسن خبره ، فتكون الجملة استئنافا بيانيا ، وقوله : ذكر الله خبر مبتدإ محذوف ليس إلا« فيكون » أي الذكر والفاء بيانية« حاجزا » أي مانعا عن فعل الحرام.

الحديث الثاني عشر : صحيح.

« لا ينال الملك فيه » أي السلطنة« إلا بالقتل » لعدم إطاعتهم أما الحق فيتسلط عليهم الملوك الجورة فيقتلونهم ويتجبرون عليهم ، وذلك من فساد الزمان وإلا لم يتسلط عليهم هؤلاء« ولا الغناء إلا بالغصب والبخل » وذلك من فساد الزمان وأهله لأنهم لسوء عقائدهم يظنون أن الغناء إنما يحصل بغصب أموال الناس والبخل في حقوق الله والخلق ، مع أنه لا يتوقف على ذلك ، بل الأمانة وأداء الحقوق ادعى إلى الغناء لأنه بيد الله ، ولأنه لفسق أهل الزمان منع الله عنهم البركات ، فلا يحصل الغناء إلا بهما« ولا المحبة » أي جلب محبة الناس« إلا باستخراج الدين » أي طلب خروج الدين من القلب أي بطلب خروجهم من الدين ،« واتباع الهوى » أي الأهواء النفسانية أو أهوائهم الباطلة ، وذلك لأن أهل تلك الأزمنة لفسادهم لا

١٣٦

على الغنى وصبر على البغضة وهو يقدر على المحبة وصبر على الذل وهو يقدر على العز آتاه الله ثواب خمسين صديقا ممن صدق بي.

١٣ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن أبي عبد الله ، عن إسماعيل بن مهران ، عن درست بن أبي منصور ، عن عيسى بن بشير ، عن أبي حمزة قال قال أبو جعفرعليه‌السلام لما حضرت أبي علي بن الحسينعليه‌السلام الوفاة ضمني إلى صدره وقال يا بني أوصيك بما أوصاني به أبي حين حضرته الوفاة وبما ذكر أن أباه أوصاه به يا بني اصبر على الحق وإن كان مرا

_________________________________________

يحبون أهل الدين والعبادة ، فمن طلب مودتهم لا بد من خروجه من الدين ومتابعتهم في الفسوق.

« وصبر على البغضة » أي بغضة الناس له لعدم اتباعه أهواءهم ، وصبر على الذل كأنه ناظر إلى نيل الملك ، فالنشر ليس على ترتيب اللف فالمراد بالعز هنا الملك والاستيلاء ، أو المراد بالملك هناك مطلق العز والرفعة ، ويحتمل أن تكون الفقرتان الأخيرتان ناظرتين إلى الفقرة الأخيرة ولم يتعرض للأولى لكون الملك عزيز المنال لا يتيسر لكل أحد ، والأول أظهر.

وفي جامع الأخبار الرواية هكذا : وقال أمير المؤمنينعليه‌السلام : أنه سيكون زمان لا يستقيم لهم الملك إلا بالقتل والجور ، ولا يستقيم لهم الغناء إلا بالبخل ولا يستقيم لهم الصحبة في الناس إلا باتباع أهوائهم والاستخراج من الدين ، فمن أدرك ذلك الزمان فصبر على الفقر وهو يقدر على الغناء ، وصبر على الذل وهو يقدر على العز وصبر على بغضة الناس وهو يقدر على المحبة أعطاه الله ثواب خمسين صديقا.

الحديث الثالث عشر : ضعيف.

« اصبر على الحق » أي على فعل الحق ، من ارتكاب الطاعات وترك المنهيات« وإن كان مرا » ثقيلا على الطبع لكونه مخالفا للمشتهيات النفسانية غالبا أو على

١٣٧

١٤ ـ عنه ، عن أبيه ، عن يونس بن عبد الرحمن رفعه ، عن أبي جعفرعليه‌السلام قال الصبر صبران صبر على البلاء حسن جميل وأفضل الصبرين الورع عن المحارم.

١٥ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى قال أخبرني يحيى بن سليم الطائفي قال أخبرني عمرو بن شمر اليماني يرفع الحديث إلى عليعليه‌السلام قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الصبر ثلاثة صبر عند المصيبة وصبر على الطاعة وصبر عن المعصية فمن صبر على المصيبة حتى يردها بحسن عزائها كتب الله له ثلاثمائة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين السماء إلى الأرض ومن صبر على الطاعة كتب الله له ستمائة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض إلى العرش ومن صبر عن المعصية كتب الله له تسعمائة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض إلى منتهى العرش.

_________________________________________

قول الحق وإن كان مرا على الناس ، فالصبر على ما يترتب على هذا القول من بغض الناس وأذيتهم ، أو على سماع الحق الذي إليك وإن كان مرا عليك مكروها لك. كمن واجهك بعيب من عيوبك فتصدقه فتقبله أو اطلعك على خطإ في الاجتهاد أو الرأي فتقبله ويمكن التعميم ليشمل الجميع.

الحديث الرابع عشر : مرفوع ، وضمير عنه راجع إلى أحمد فتنسحب عليه العدةالحديث الخامس عشر : ضعيف.

« حتى يردها » أي المصيبة وشدتها« بحسن عزائها » أي بحسن الصبر اللائق لتلك المصيبة« ثلاثمائة درجة » أي من درجات الجنة أو درجات الكمال فالتشبيه من تشبيه المعقول بالمحسوس ، وفي الصحاح : التخم منتهى كل قرية أو أرض ، والجمع تخوم كفلس وفلوس ، انتهى.

ويدل على أن ارتفاع الجنة أكثر من تخوم الأرض إلى العرش ، ولا ينافي ذلك كون عرضها كعرض السماء والأرض ، مع أنه قد قيل في الآية وجوه مع بعضها رفع التنافي أظهر.

١٣٨

١٦ ـ عنه ، عن علي بن الحكم ، عن يونس بن يعقوب قال أمرني أبو عبد اللهعليه‌السلام أن آتي المفضل وأعزيه بإسماعيل وقال أقرئ المفضل السلام وقل له إنا قد أصبنا بإسماعيل فصبرنا فاصبر كما صبرنا إنا أردنا أمرا وأراد الله عز وجل أمرا فسلمنا لأمر الله عز وجل.

١٧ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن سيف بن عميرة ، عن أبي حمزة الثمالي قال قال أبو عبد اللهعليه‌السلام من ابتلي من المؤمنين ببلاء فصبر عليه كان له مثل أجر ألف شهيد.

١٨ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن محمد بن سنان ، عن عمار

_________________________________________

الحديث السادس عشر : موثق كالصحيح.

والظاهر أنه المفضل بن عمر ويدل على مدح عظيم له ، وأنه كان من خواص أصحابه وأحبائه ، وإسماعيل ولده الأكبر الذي كان يظن الناس أنه الإمام بعدهعليه‌السلام ، فلما مات في حياته علم أنه لم يكن إماما ، وهذا هو المرادبقوله عليه‌السلام :

أردنا أمرا ، أي إمامته بظاهر الحال أو بشهوة الطبع ، أو المراد إرادة الشيعة كالمفضل وأضرابه ، وأدخلعليه‌السلام نفسه تغليبا ومماشاة ، ويدل على لزوم الرضا بقضاء الله والتسليم له ، وقيل : المعنى أردنا طول عمر إسماعيل وأراد الله موته ، وأغرب من ذلك أنه قال : عزى المفضل بابن له مات في ذلك الوقت بذكر فوت إسماعيل.

الحديث السابع عشر : حسن كالصحيح.

قوله عليه‌السلام : مثل أجر ألف شهيد ، فإن قيل : كيف يستقيم هذا مع أن الشهيد أيضا من الصابرين حيث صبر حتى استشهد؟ قلت : يحتمل أن يكون المراد بهم شهداء سائر الأمم أو المعنى مثل ما يستحق ألف شهيد وإن كان ثوابهم التفضلي أضعاف ذلك ، وقيل : المراد بهم الشهداء الذين لم تكن لهم نية خالصة فلم يستحقوا ثوابا عظيما والأوسط كأنه أظهر.

الحديث الثامن عشر : ضعيف على المشهور.

١٣٩

بن مروان ، عن سماعة ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال إن الله عز وجل أنعم على قوم فلم يشكروا فصارت عليهم وبالا وابتلى قوما بالمصائب فصبروا فصارت عليهم نعمة.

١٩ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ومحمد بن إسماعيل ، عن الفضل بن شاذان جميعا ، عن ابن أبي عمير ، عن إبراهيم بن عبد الحميد ، عن أبان بن أبي مسافر ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام في قول الله عز وجل : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا » قال اصبروا على المصائب.

وفي رواية ابن أبي يعفور ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال صابروا على المصائب.

٢٠ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن محمد بن عيسى ، عن علي بن محمد بن أبي جميلة ، عن جده أبي جميلة ، عن بعض أصحابه قال لو لا أن الصبر خلق قبل البلاء لتفطر المؤمن كما تتفطر البيضة على الصفا.

_________________________________________

والوبال الشدة والثقل والعذاب ، أي صارت النعمة مع عدم الشكر نكالا وعذابا عليهم في الدنيا والآخرة ، وصار البلاء على الصابر نعمة في الدنيا والآخرة.

الحديث التاسع عشر : مجهول وآخره مرسل.

وكأنه تتمة الخبر الثاني المتقدم في باب أداء الفرائض وقد مر تفسير الآية ولا تنافي بينها فإن للآيات معاني شتى ظهرا وبطنا.

الحديث العشرون : ضعيف.

والتفطر التشقق من الفطر وهو الشق ، والصفا جمع الصفاة وهي الحجر الصلد الضخم لا تنبت ، وفيه إيماء إلى أن الصبر من لوازم الإيمان ومن لم يصبر عند البلاء لا يستحق اسم الإيمان كما مر أنه من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ويشعر بكثرة ورود البلاء على المؤمن.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

إذا ما تعمدت السلو في خاطري

أباه فؤادي للهموم عنيد

وذكرني بالحزن والنوح والبكا

غريب بأكناف الطفوف فريد

يودع أهليه وداع مفارق

لهم أبد الأيام ليس يعود

كأني بمولاي الحُسين وصحبه

كأنهم تحت الوطيس أسود

عطاشى على شاطئ الفرات فمالهم

سبيل إلى قرب المياه ورود

فياليتني يوم الطفوف شهدتهم

وكنت كما جادوا هناك أجود

لقد صبروا لا ضيع الله صبرهم

إلى أن قتلوا من حوله وأبيدوا

وقد خرّ مولاي الحُسين مجدلاً

قتيلاً عفيراً في التراب وحيد

وأقبل شمر الرجس واحتز رأسه

بقلب مشؤوم فارقته سعود

وساقوا السبايا من بنات محمد

يسوقهم قاسي الفؤاد عتيد

وفاطمة الصغرى تقول لاختها

وقد كضها جهد هناك جهيد

يا أخت قد ذابت من السير مهجتي

سلي سائق الأضعان أين يزيد

تنادي وقد أبدت من الثكل صبرها

بصوت تكاد الأرض منه تميد

بكى رحمة لي حاسدي ومعاندي

فيا سوء حال إذ بكاه حسود

فني جلدي يابن الوصي وليس

فؤادي على ما لقيت جليد

فيا غائباً لا يرتجى منه أوبة

مزارك من قرب الديار بعيد

ظننت بأن تبقى فأيسني الرجا

ويأسي المرجى يابن أمي شديد

تبيد الليالي والدهور ومهجتي

وحزني على مولاي ليس يبيد

سيعلم أعداء الحُسين ورهطه

إذا ما هم يوم المعاد أعيدوا

واقبلت الزّهراء فاطم حولها

من أملاك رب العالمين جنود

تنادي إلهي خذ بحق ظالمي

فإنك عدل للخصوم عنيد

فهذا يزيد قاتل إبني ورهطه

على ظمأ حتّى فنوا وأبيدوا

وساقوا بناتي حاسرات أذلة

كما سيل من نسل العبيد عنيد

فتبكي لها الأملاك جمعاً وعندها

ينادي منادي الحق أين يزيد

فيؤتى به سحباً ويؤتى برهطه

وجوههم بين الخلائق سود

فيأمر مولاي الجليل بقتلهم

إذ قتلوا من بعد ذاك أعيدوا

١٦١

وتقتلهم أولاد فاطم كلهم

وشيعتهم والعالمون شهود

ويحشرهم ربي إلى ناره التي

يكون بها للظالمين خلود

إذا نضجت فيها هناك جلودهم

أعيد لهم من بعد ذلك جلود

فما فعلت عاد كقبح فعالهم

ولا استحسنت ما استحسنته ثمود

شهدت بمن حج الملبون بيته

وربي على ما قد شهدت شهيد

بأن رسول الله أكرم من مشى

ومن حملته في المهامة قود

وعترته أزكى وأطهر عترة

ومن جاد حتّى لا يكون يجود

ولولاهم لم يخلق الله خلقه

ولم يك وعد فيهم ووعيد

وما خلقوا إلّا ليمتحن الورى

فيشقى شقي فيهم وسعيد

عليهم سلام الله ما در شارق

وما اخضر يوماً في الأرائك عود

وإني ابن حماد بمدح أئمتي

أعيش وعيشي في الزمان حميد

أحبر في آل النّبي مدائحي

وأحسن ما حبرته وأجيد

الباب الثّالث

يا إخواني , تفكّروا في أنوار الله في أرضه وسمائه , وأصفياء الله وحججه وخلفائه , كيف تُقطّع منهم الأوصال , ويُجدّلون على الرّمال , ويتجرّعون الحتوف بأراضي الطّفوف ؟ ولعمري , هذا دأب الصّالحين وأولياء الله الـمُقرّبين ، فإنّ الله يذود أولياءه عن لذّات الدُنيا , كما يذود لراعي الشّفيق إبله عن مراتع الهلكة .وتأكيد ذلك ما روي : أنّ موسى (عليه‌السلام ) لمـّا توجّه إلى مناجاة ربّه , اعترضه رجل من عباده الصّالحين , فقال له : يا موسى , أبلغ ربّك أنّي أحبّه وأنا مُطيع له .فلمّا فرغ موسى من الـمُناجاة , نودي : (( يا موسى , ألا تبلغني رسالة عبدي ؟ )) .فقال : يا إلهي , أنت العالم بما قال عبدك .فقال ذو الجلال : (( يا موسى , أنا أيضاً أحبّه )) .فازداد ذلك الرّجل في يقين موسى إنّه عبد صالح , فلمّا رجع موسى من مُناجاة ربّه , جعل يتفقّد ذلك الرّجل في مكانه , فإذا هو بالأسد قد افترسه , فتعجّب موسى (عليه‌السلام ) وحزن عليه , وقال : يا إلهي , رجل صالح تحبّه ويحبّك , تسلّط عليه كلباً من كلابك يفترسه ؟! فأتاه النّداء : (( نعم يا موسى , وهكذا أفعل بأحبابي وأوليائي , ابتليهم في دار الهوان , وأسكنهم عندي في غرفات الجنان )).

وروي أيضاً : أنّ رجُلاً جاء إلى رسول الله , فوقف بين

١٦٢

يديه , فقال : يا رسول الله , إنّي أحبّ الله عزّ وجلّ ، فقال : (( استعد للبلاء )) .فقال : يا رسول الله , وإنّي أحبّك .فقال له : (( استعد للفقر )) .فقال : وإنّي أحبّ عليّ بن أبي طالب .فقال : (( استعد لكثرة الأعداء )).

ولـمّا كان الإمام الحُسين حبيب الملك الدّيان , وولي الواحد المنّان , وحجّة الله على العباد , لا جرم ابتلاه الله بأهل العناد والفساد ، وهل اصابته تلك السّهام والمحن العظام ، إلّا من القوس الذي وتر على أبيه واُمّه وأخيه ؟( وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ) (١) ( وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ ) (٢) .فتعساً لِمَن أردى تلك العصابة الكرام ! وسحقاً لِمَن نكّس أعلام أولئك الأعلام ! أما خافوا من أهوال يوم القيامة ؟! أما راقبوا جدّهم صاحب الغمامة ؟! أما راجعوا عقولهم فعلموا في المحشر كيف يكون ؟! وبماذا يتعللون إذا بكت الزّهراء على ما حلّ بولدها الذي هو قطعة من كبدها ؟( هُنَالِكَ تَبْلُوا كُلّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدّوا إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقّ وَضَلّ عَنْهُم مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ) (٣) .

روي : أنّ النّبي خرج من المدينة غازياً وأخذ معه عليّاً , وبقي الحسن والحُسين (عليهما‌السلام ) عند اُمّهما لأنّهما صغيران , فخرج الحُسين (عليه‌السلام ) ذات يوم من دار اُمّه يمشي في شوارع المدينة , وكان عمره يومئذ ثلاث سنين , فوقع بين نخيل وبساتين حول المدينة , فجعل يسير في جوانبها ويتفرّج في مضاربها , فمرّ عليه يهودي يُقال له صالح بن رقعة اليهودي , فأخذه إلى بيته , وأخفاه عن اُمّه حتّى بلغ النّهار إلى وقت العصر , والحُسين لم يتبيّن له أثر , فقاد قلب فاطمة بالهمّ والحزن على ولدها الحُسين (عليه‌السلام ) , فصارت تخرج من دارها إلى باب مسجد النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) سبعين مرّة , فلم تر أحداً تبعثه في طلب الحُسين (عليه‌السلام ) , ثمّ أقبلت إلى ولدها الحسن (عليه‌السلام ) , وقالت له : (( يا مُهجة قلبي وقُرّة عيني , قُم فاطلب أخاك الحُسين , فإنّ قلبي يحترق من فراقه )) .فقام الحسن وخرج من المدينة , وأتى إلى دور حولها نخل كثير , وجعل يُنادي : (( يا حُسين بن عليّ ! يا قرّة عين النّبي ! أين أنت يا أخي ؟ )) .قال : فبينما الحسن يُنادي , إذ بدا له غزالة في تلك السّاعة , فألهم الله الحسن أن يسأل الغزالة , فقال : (( يا ظبية , هل رأيت أخي حُسيناً ؟ )) .فأنطق الله الغزالة ببركات رسول الله ، وقالت : يا حسن , يا نور عين الـمُصطفى وسرور قلب الـمُرتضى , ويا مُهجة فؤاد الزّهراء , اعلم أنّ أخاك أخذه صالح اليهودي وأخفاه في بيته .فسار الحسن حتّى

____________________

(١) سورة إبراهيم / ٤٢.

(٢) سورة الشّعراء / ٢٢٧.

(٣) سورة يونس / ٣٠.

١٦٣

أتى دار اليهودي , فناداه فخرج صالح , فقال له الحسن : (( إليّ الحُسين من دارك وسلّمه إليّ , وإلّا أقول لاُمّي تدعو عليك في أوقات السّحر , وتسأل ربّها حتّى لا يبقى على وجه الأرض يهودي , ثمّ أقول لأبي يضرب بحسامه لجمعكم حتّى يلحقكم بدار البوار , وأقول لجدّي يسأل الله سبحانه أن لا يدع يهودياً إلّا وقد فارق روحه )) .فتحيّر صالح اليهودي من كلام الحسن ، وقال له : يا صبي مَن اُمّك ؟ فقال : (( اُمّي الزّهراء بنت مُحمّد الـمُصطفى , قلادة الصّفوة ودرّة صدف العصمة , وعزّة جمال العالم والحكمة , وهي نقطة دائرة المناقب والمفاخر , ولمعة من أنوار المحامد والمآثر ، خمرة طينة وجودها من تفّاحة من تفّاح الجنّة , وكتب الله في صحيفتها عتق عصاة الاُمّة ، وهي اُمّ السّادة النُجباء وسيّدة النّساء , البتول العذراء فاطمة الزّهراء (عليها‌السلام ) )).فقال اليهودي : أمّا اُمّك فعرفتها ، فمَن أبوك ؟ فقال الحسن (عليه‌السلام ) : (( إنّ أبي أسد الله الغالب عليّ بن أبي طالب , الضّارب بالسّيفين , والطّاعن بالرّمحين , والـمُصلّي مع النّبي في القبلتين , والمفدي نفسه لسيّد الثّقلين , أبو الحسن والحُسين )).فقال صالح : يا صبي , قد عرفت أباك , فمَن جدّك ؟ فقال : (( جدّي [ درّة ] من صف [ صدف ](١) الجليل ، وثمرة من شجرة إبراهيم الخليل ، الكوكب الدّرّي , والنّور المضيء من مصباح التّبجيل المعلقة في عرش الجليل , سيّد الكونين ورسول الثّقلين , ونظام الدّارين وفخر العالمين , ومُقتدى الحرمين , وإمام المشرقين والمغربين , وجدّ السّبطين أنا الحسن وأخي الحُسين )).

قال : فلمّا فرغ الحسن من تعداد مناقبه , انجلى صداه الكفر عن قلب صالح , وهملت عيناه بالدّموع , وجعل ينظر كالمتحيّر, متعجّباً من حسن منطقه وصغر سنّه وجودة فهمه , ثمّ قال : يا ثمرة فؤاد الـمُصطفى , ويا نور عين الـمُرتضى , ويا سرور صدر الزّهراء , يا حسن , أخبرني من قبل أن أسلّم إليك أخاك عن أحكام دين الإسلام , حتّى أذعن لك وأنقاد إلى الإسلام .ثمّ إنّ الحسن عرض عليه أحكام الإسلام , وعرّفه الحلال والحرام , فأسلم صالح وأحسن الإسلام على يد الإمام , وسلّمه أخاه الحُسين , ثمّ نثر على رأسيهما طبقاً من الذّهب والفضّة , وتصدّق به على الفُقراء والمساكين ببركة الحسن والحُسين (عليهما‌السلام ) ، ثمّ إنّ الحسن أخذ بيد أخيه الحُسين وأتيا إلى اُمّهما ، فلمّا رأتهما اطمأنّ قلبها وزاد سرورها بولديها.

قال : فلمّا كان اليوم الثّاني , أقبل

____________________

(١) ما في المعقوفتين هي من إضافات ( موقع معهد الإمامَين الحسنَين).

١٦٤

صالح ومعه سبعون رجُلاً من رهطه وأقاربه , وقد دخلوا جميعهم في الإسلام على يد الإمام ابن الإمام أخى الإمام (عليهم أفضل الصّلاة والسّلام) ، ثمّ تقدّم صالح إلى الباب - باب الزّهراء - رافعاً صوته بالثّناء للسادة الاُمناء , وجعل يمرّغ وجهه وشيبته على عتبة دار فاطمة , وهو يقول : يا بنت مُحمّد الـمُصطفى , عملت سوءاً بابنك وآذيت ولدك , وأنا على فعلي نادم , فاصفحي عن ذنبي .فأرسلت إليه فاطمة تقول : (( يا صالح , أمّا أنا فقد غفرت عنك من حقّي ونصيبي , وصفحت عمّا سوءتني به , لكنّهما ابناي وابنا عليّ الـمُرتضى , فاعتذر إليه ممّا آذيت ابنه )) .ثمّ إنّ صالحاً انتظر عليّاً حتّى أتى من سفره , وعرض عليه حاله واعترف عنده بما جرى له , وبكى بين يديه واعتذر مما أساء إليه , فقال له : (( يا صالح , أمّا أنا فقد رضيت عنك وصفحت عن ذنبك , لكن هؤلاء ابناي وريحانتا رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) , فامض إليه واعتذر ممّا أسأت بولده )) .قال : فأتى صالح إلى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) باكياً حزيناً , وقال : يا سيّد الـمُرسلين , أنت قد اُرسلت رحمة للعالمين , وإنّي قد أسأت وأخطأت , وإنّي قد سرقت ولدك الحُسين , وأدخلته داري وأخفيته عن أخيه واُمّه , وقد سوءتهما في ذلك , وأنا الآن قد فارقت الكفر ودخلت في دين الإسلام .فقال له النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : (( أمّا أنا فقد رضيت عنك وصفحت عن جرمك , لكن يجب عليك أن تعتذر إلى الله , وتستغفره ممّا أسأت به قرّة عين الرّسول ومهجة فؤاد البتول , حتّى يعفو الله عنك سبحانه )) .قال : فلم يزل صالح يستغفر ربّه ويتوسّل إليه , ويتضرّع بين يديه في أسحار الليل وأوقات الصّلوات , حتّى نزل جبرائيل إلى النّبي بأحسن التّبجيل , وهو يقول : (( يا مُحمّد , قد صفح الله عن جرم صالح حيث دخل في دين الإسلام على يد الإمام ابن الإمام عليهم أفضل الصّلوات والسّلام )) .:

فقل لحساده موتوا بغيضكم

فإنه بعطاء الله ممنوح

وحرفوا ما استطعتم من إمامته

فشأنه بلسان الحق ممدوح

بيوتكم بفنون اللهو مفعمة

وبيته فيه تقديس وتسبيح

فإنكم جسد ميت بكثرتكم

وفضله بين أبدان الورى روح

عن أبي ذر الغفاري , قال : كان سيدي عليّ بن أبي طالب يحدّثنا في بعض الأوقات بالمغيّبات , فبينما نحن جلوس معه في جامع الكوفة , إذ دخل إليه رجل

١٦٥

وسلّم عليه , وقال له : يا أمير المؤمنين , إنّي مررت بوادي القُرى , فرأيت خالد بن عرفطة مقتولاً مطروحاً في البر .فقال له عليّ (عليه‌السلام ) : (( كذبت , أنّ خالداً لم يمت حتّى يقود جيش الضّلال ابن زياد , ويكون حامل لوائه حبيب بن جماز لعنه الله تعالى )) .فقام حبيب بن جماز من بينهم , وقال : يا أمير المؤمنين , أراك تقول هكذا وإنّي لك شيعة , وأنا موال لك , وإنّي لك محبّ ؟! فقال له : (( مَن أنت ؟ )) .فقال : أنا حبيب بن جماز .فقال له : (( إيّاك إيّاك أن تحملها يا شقي ! ولكن لا بدّ أن تحملها وتدخل بها من هذا الباب )) .وأومى بيده إلى باب الفيل بمسجد الكوفة , (( وتُقاتل ولدي الحُسين بعد وفاتي )) .فلمّا كان من أمر الحُسين ما كان وحان من حينه ما حان , بعث ابن زياد بعمر بن سعد إلى حرب الحُسين (عليه‌السلام ) , وجعل خالد بن عرفطة على مقّدمته بأربعة آلاف فارس , وحبيب بن جماز حامل رايته , فسار بها حتّى دخل مسجد الكوفة من باب الفيل كما أخبر أمير المؤمنين (عليه‌السلام ).

ومن أخباره بالمغيّبات : أنّه (عليه‌السلام ) التفت إلى البرّاء بن عازب ، وقال له : (( يابن عازب , يُقتل ولدي الحُسين وأنت حيّ حاضر ولم تنصره , وتزعم أنّك مُحبّ لنا )) .فلمّا قُتل الحُسين , كان البرّاء بن عازب يُظهر الحسرة والنّدم , ويقول : حدّثني سيّدي عليّ بن أبي طالب أنّه يُقتل ولده الحُسين ولم أنصره .وظلّ يُكثر الحسرة والنّدم مدّة عمره.

فانظروا يا إخواني إلى ما خصّ الله به هذا الشّخص الرّباني من الفضائل العظيمة والعطايا الجسيمة .فعلى الأطائب من أهل بيت الرّسول فليبك الباكون , وإيّاهم فليندب النّادبون , ولمثلهم تذرف الدّموع من العيون , أو لا تكونون كبعض مادحيهم حيث عرته الأحزان وتتابعت عليه الأشجان , فنظم وقال فيهم :

القصيدة للشيخ الدرمكي ( رحمه ‌الله تعالى )

نحول جسمي لا ينفك عني

وقد صار البكا شغلي وفني

وقلبي فيه نيران ووجد

وهمي صار ممزوجاً بحزني

يطيب لي البكا في كل وقت

وأسعف في الرزايا من سعفني

كفاني موت خير الخلق طراً

بأن النفس في السلوان أشني

أخذتم نحلتي ظلماً وإرثي

وحلتم دون ما ربي رزقني

وسب البضعة الزّهراء لـمّا

أتت زفراً وقالت ما نصفني

١٦٦

أما في هل أتى وفيت نذري

فيا ويل لملعون عصبني

سلوا عم وطة إن شككتم

سلوا ياسين ما ربي رزقني

فقال الرجس ما نرضى بهذا

ولا ذا القول في ذا اليوم يغني

فماتت وهي في حرق وكرب

تواصل حر زفرتها بغين

وقتل الطهر في المحراب لـمّا

أتته كتب ملعون ولكني

بأنا طائعون بكل أمر

وأنت محكم في كل فن

فعجل بالمسير يظن خيراً

يحسب البيد سرعاً لا يوني

إلى أن صار في نقع المنايا

وحادي العيس مسرور يغني

فمانعه الجواد السير عنها

فقال لصحبته يا من حضرني

فما اسم الأرض يا قوم انبؤني

ففي أكنافها قد طاش ذهني

فقالوا ذي منازل كربلايا

فقال الكرب فيها قد شملني

ألا حطوا الرحال فلا مسير

ففي هذه الفلاة يكون دفني

وفيها يقتل العباس ظلماً

ويقتل كل صديق نصرني

وفيها تقتل أولادي وصحبي

وتسبى نسوتي بالرغم مني

وفي هذي الفلاة نزار حقاً

وقد جاز السعادة من نصرني

وأقتل ظامياً والماء طام

ويشربه هنيئاً من منعني

إذا شرب المحب الماء بعدي

فطاب له التنغص إذ ذكرني

وما لي مهرب عن أمر ربي

فقد لاحت دلائل ما وعدني

فلما كان وقت الظهر بانت

لهم خيل لأشقى الخلق تدني

فقال أتتكم أرجاس حرب

بأعلام تخالف ما وردني

فما للقوم قصدكم سبيلاً

وكل بالمنايا قد قصدني

فضجوا بالبكاء حزناً عليه

وقالوا بعدكم لا عيش يهني

فلا والله لا نرضى بذل

ولا نستقبل الأعداء يجني

ولكن نبذل الأرواح منا

ونرضى خير مسؤول ومغني

ونفحم عند نيران الأعادي

ونوصل فيهم ضربا بطعن

فيا لله كم قطعوا رؤوساً

وكم قد ألحقوا قرناً بقرن

١٦٧

إلى أن جدلوا بالترب جمعاً

عليهم جاريات الريح تبني

وظل الطهر يفترس الأعادي

كليث ثار في إبل وضان

إلى أن خر مطعوناً طريحاً

دنيفاً بإنكسار الطرف يرني

ينادي بعد عز وامتناع

أما أحد على أهلي يجرني

أليس البضعة الزّهراء أمي

وجدي أحمد يا من جهلني

فقال الشمر أقصر يا حُسين

وما تعديدك المعروف بغني

وحز الرأس كرهاً من قفاه

وبراه وعلاه بلدن

وخلا الجسم منعفراً طريحاً

غسيلاً بالدما من غير دفن

تلوذ به الأرامل واليتامى

حيارى يا أباه منيع ركني

يعز عليك يا أبتاه ما لي

بلا وطأ وقيد قد جرحني

أبي من لليتيمة إن سبتها

علوج أمية واستصرختني

وفاطمة الصغيرة في بكاها

تقول إليك يا أبتاه خذني

وأسكن روعتي مما جرى لي

لأن مصيبة عظمى دهتني

فلو بنت النّبي ترى مكاني

لماتت غصة لمـّا رأتني

وليت الموت قدمني بأخذ

وإلّا عند مصرعكم صرعني

أبي أصبحت منفرداً غريباً

فوا حزناه مما قد دهمني

أبي ساروا بنا فوق المطايا

بأعنف حادي يحدي ببدن

فلما أن أتين إلى يزيد

فقال لساقي الصهباء زدني

وقرب رأس مولانا إليه

ليقرع منه سناً بعد سن

فلعنة ذي الجلال على يزيد

بعد الخلق أنسى وجني

وتغشي أدلماً وأبا فلان

وقرمانا فافهم ما أكني

إليكم يا بني طه عروساً

تربت بين أتراب وخدن

زهت إذ ألبست حلل المعاني

وتوجها مديحكم بحسن

منظمها مديح درمكي

بها يرجو جواركم بعدن

فمن فضل الإله أبي محب

وأمي من محبتكم سقتني

١٦٨

إذا ما نلت من ربي ولاكم

فلا أسفي على شيء منعني

لأنكم أجل الخلق أصلاً

وأعلمهم وأفضلهم بلسن

وأعبدهم وأهداهم وأتقى

وأخوفهم لمن يغني ويفني

صلاة الله دائمة عليكم

تضاعف ما شدت ورقا تغني

١٦٩

المجلس التّاسع

في الليلة الخامسة من عشر الـمُحرّم

وفيه أبواب ثلاثة

الباب الأوّل

يا إخواني في الدّين , هل يحسن إصاخة سمعي إلى لوم اللائمين , أو يميل طبعي إلى عذل العاذلين في ترك أحزاني وشجوني , وبثّ أشجاني وأنيني , وقد فتكت أيدي الكفرة الفجرة المارقين بمولاي الحُسين بن أمير المؤمنين ؟ بل أموت وأحزانه في فؤادي وبها ألاقي الله في معادي , فأطيلوا رحمكم الله النّوح والأحزان على سادات الزّمان واُمناء الملك الدّيان , وليكن نوحكم على شفعائكم يوم النّشور أكثر من نوح الحمام والطّيور , وكيف لا ينهدّ ركني لمصابهم ولم أتجرّع بعض ما تجرّعوه من غصصهم وأوصابهم ؟ أأطمع أن أشاركهم في الفضل والأنعام ولا أشاركهم في تلك الأهوال العظام ؟ :

أذل لمن أهوى لأحظى بعزة

وكم عزة قد نالها المرء بالذل

إذا كان من تهوى عزيزاً ولم تكن

ذليلاً له فأقر السّلام على الوصل

ولعمري , كم من باك على ربع خراب , وكم من هائم على سكن التّراب , وهو غافل عن تمثّل هذا الرّزء العظيم والمصاب الجسيم ، فلا خير والله في قلوب لا تميل إليهم ودموع لا تسح عليهم ، وما لي لا أبكيهم حتّى تنقطع أوصالي ؟ كيف وهم مرجعي وبهم اتصالي :

آل الرّسول الألي لا زال حبهم

للقلب من كل داء للمحب شفا

١٧٠

ومن خذلهم فلا تشفى بشافية

قلوبهم ولهم فوق الجحيم شفا

ضاعت حقوقهم حتّى طريقتهم

قد ضل عنها عقول سيرهم عنفا

روي عن الإمام العسكري (ع) في تفسير قوله تعالى :( وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ * ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاَء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ) (الآية)(١) .قال : (( قال لي أبي عن آبائه عن رسول الله (ص) : لمـّا نزلت هذه الآية في ذمّ اليهود الذين نقضوا عهود الله , وحادوا عن أمر الله , وكذّبوا رسول الله , وقتلوا أنبياء الله , فقال النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : يا أصحابي , أفلا أنبئكم بما يضاهيكم من يهود اُمّتي ؟ فقالوا : بلى يا رسول الله صلّى الله عليك وعلى آلك .فقال : قوم من بني اُميّة يزعمون أنّهم من اُمّتي , ويظنون أنّهم من أهل ملّتي , يقتلون أفاضل ذرّيّتي وأطائب أرومتي وذرّيّة ابنتي , ويبذلون شريعتي ويتركون سنّتي , ويقتلون ولديَّ الحسن والحُسين كما قتل أسلاف هؤلاء اليهود زكريا ويحيى (عليهما‌السلام ) , ألا وأنّ الله يلعنهم كما لعنهم من قبل , ويبعث الله على بقايا ذراريهم يوم القيامة إماماً هادياً مهديّاً من ولد الحُسين , فيقتلهم عن آخرهم ويأخذ بثأر جدّه الحُسين , ولهم يوم القيامة أشدّ العذاب وبئس المصير ، ألا لعن الله قتلة الحُسين ومحبّيهم وناصريهم والشّاكّين في لعنهم من غير تقية , ألا وصلّى الله على الباكين على الحُسين والمقيمين عزاءه , ألا وصلّى الله على مَن بكى على الحُسين رحمة وشفقة ورقّة له ، ألا وصلّى الله على اللاعنين لأعدائهم والممتلين عليهم غيضاً وحنقاً ، ألا وإنّ الرّاضين بقتل الحُسين هُم شُركاء قتلته ، ألا وإنّ قتلته وأعوانهم وأشياعهم والمتقدّمين والمتأخّرين براءة من دين الله , وعليهم لعنة الله والملائكة والنّاس أجمعين ، ألا وأنّ الله يأمر ملائكته المقرّبين أن يتلقّوا دموع الباكين على مصاب الحُسين (عليه‌السلام ) , فيجمعون دموعهم وينقلونها إلى خزنة الجنان , فيمزجونها بماء الحيوان فيزيد في عذبها وطيبها وطعمها ألف ضعفها , وإنّ الملائكة المقرّبين ليتلقّون دموع الفرحين الضّاحكين لقتل الحُسين ومصاب الحُسين , فيلقونها في الهاوية , فيمزجونها بحميم جهنّم وصديدها وغساقها وغسيلها , فتزيد في شدّة حرارتها وعظيم عذابها ألف ضعفها , يشدّد الله على المنقولين إليها من أعداء آل

____________________

(١) سورة البقرة / ٨٤ - ٨٥.

١٧١

محمد في عذابهم يوم القيامة )) .قال : (( فقام ثوبان مولى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) , فقال : بأبي واُمّي يا رسول الله ! أخبرني متى قيام الساعة ؟ فقال رسول الله : ماذا أعددت لها ؟ فقال ثوبان : ما أعددت لها كثير عمل إلّا أنّي أحبّ الله ورسوله وأهل بيت رسوله .فقال رسول الله : وإلى ماذا بلغ حبّك لرسول الله وأهل بيته ؟ قال : والذي بعثك بالحقّ نبيّاً , إنّ في قلبي محبّتكم ما لو أنّي قُطّعت بالسّيوف ونُشّرت بالمناشير , وقُرّضت بالمقارض واُحرقت بالنّيران , وطُحنت برحى الحجارة , كان أحبّ إليّ وأسهل عليّ من أن أجد لك في قلبي منك غشّاً أو دغلاً أو بُغضاً , ولا لأحد من أهل بيتك ومن عترتك , فهم أحبّ الخلق إليّ من بعدك , وإنّ أبغض النّاس إليّ مَن لا يحبّك ولا يحبّ أهل بيتك وعرتك .يا رسول الله , فهذا ما عندي من حبّك وحبّ مَن يحبّك , وبغض من يبغضك أو يبغض أحداً من أهل بيتك , فإن قُبل منّي , فقد سعدت , وإن ترد منّي عملاً غيره , فما أعلم أنّ لي عملاً غير هذا أعتمد عليه وأعتدّ به يوم القيامة مع مَن أحبّ.

فقال (ص) : ...واعلم يا ثوبان , لو أنّ عليك من الذّنوب ملأ ما بين الثّرى إلى عنان السّماء , لانحسرت وزالت عنك بهذه الموالاة , أسرع من انحسار الظّل عن الصّخرة الملساء المستوية إذا طلعت عليها الشّمس , ومن انحسار الشّمس إذا غابت عنها , ولعمري , لا عمل فيها أفضل من موالات الآل ؛ لدفع تلك الأهوال والأمور العضال )) .:

يا آل طة أنتم القصد والمنى

وفي يدكم يوم اللقا النفع والضر

رجوتكم ذخري وفخري وعدتي

وما خاب من أنتم له الفخر والذخر

إذا كل من عاداكموا بجهنم

وشيعتكم والمؤمنون بكم سروا

وادخلتموهم للجنان فهم بها

وجوههم بيض ملابسهم خضر

عليكم سلام الله ما ناح صادح

على عذبات الدوح وابتسم الزهر

روي : أنّ الرّشيد لمـّا أراد أن يقتل الإمام موسى بن جعفر (عليه‌السلام ) , أعرض قتله على سائر جنده وفرسانه , فلم يقتله أحد منهم ، فأرسل إلى عُمّاله في بلاد الأفرنج يقول لهم : التمسوا إليّ قوماً لا يعرفون الله ولا يعرفون رسول الله , فإنّي أريد أن أستعين بهم على مُهمّ .قال : فأرسلوا إليه قوماً لا يعرفون من شرائط الإسلام كلمة واحدة , ولا يعرفون من اللغة العربية كلمة واحدة أبداً ، وكانوا خمسين رجلاً , فلمّا

١٧٢

دخلوا إليه , أكرمهم وأعزّهم وأنزلهم في دار الكرامة , وحمل لهم الهدايا والتُحف والخُلع السّنيّة , ثمّ استدعاهم وسألهم : مَن ربّكم , ومَن نبيّكم ؟ فقالوا : لا نعرف لنا ربّاً ولا نبيّاً أبداً .فقال لهم : هذا مرادي وهذا قصدي .فقال لوزيره : قُل لهم , إنّ الملك له عدو في هذا البيت جالس - يعني موسى بن جعفر (عليه‌السلام ) - , فادخلوا إليه واقتلوه ولكم الجائزة العُظمى .فقالوا : سمعاً وطاعة , وهذا أمر هيّن علينا , فإن أردتم قطعناه قطعاً وأكلنا لحمه .قال : فقاموا جميعاً بأسلحتهم كأنّهم السّباع الضّارية ودخلوا على الإمام موسى بن جعفر (عليه‌السلام ) , والرّشيد ينظر إليهم من طاقة حجرته ويبصر ما يفعلون , قال : فلمّا رأوه , رموا أسلحتهم وارتعدت فرائضهم وخرّوا سجّداً يبكون رحمة له ، قال : فجعل الإمام (عليه‌السلام ) يمرّ يده الشّريفة على رؤوسهم وهم يبكون , ومع ذلك يخاطبهم بلحنهم ولغتهم ، قال : فلمّا رأى الرّشيد ذلك منهم , خشي من الفضيحة وصاح بالوزير : اخرجهم عنه .فخرجوا وهُم يمشون القهقرى إجلالاً للإمام (عليه‌السلام ) , ثمّ إنّهم ركبوا خيولهم وأخذوا الهدايا والتُحف التي وصلتهم منه , ومضوا لشأنهم من غير إذن الرّشيد.

فانظروا يا إخواني إلى هذه العداوة العظيمة والشّقاوة المعضلة الجسيمة :( يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) (١) :

قوم علا بنيانهم من هاشم

فرع أشم وسؤدد ما ينقل

قوم بهم نصر الإله رسوله

وعليهم نزل الكتاب المنزل

وبهديهم رضي الإله لخلقه

وبجدهم نصر النّبي المرسل

روي : أنّ رجُلاً من الخوارج قال لـمُحمّد بن الحنفية : لِمَ غرر بك أبوك في الحروب ولم يغرر الحسن والحُسين ؟ فقال له : ويا ويلك ! أما علمت أنّهما عيناه وأنا يمينه , فهو يدفع بيمينه عن عينيه.

وعن ابن عباس , قال : لمـّا كنُا في حرب صفّين , إذ دعا عليّ ابنه مُحمّد بن الحنفية , وقال له : (( يا بني , شد على عسكر معاوية )) .ففعل ما أمره أبوه وحمل على ميمنة عسكر معاوية فكشفهم , ثمّ رجع إلى أبيه وقد جُرح , فقال له : يا أبي العطش العطش ! فسقاه جرعة من الماء , ثمّ صبّ الباقي بين درعه وجلده , فو الله لقد رايت علق الدّم يخرج من الدّرع , ثمّ أمهله ساعة , ثمّ قال له : (( يا بُني , شد على الميسرة )) .فحمل على ميسرة عسكر معاوية فكشفهم , ثمّ رجع وبه جراحات وهو يقول : الماء الماء يا أبتاه ! فسقاه جرعة من الماء وصبّ باقي الماء

____________________

(١) سورة الصّف / ٨.

١٧٣

بين درعه وجلده ، ثمّ قال له : (( يا بُني , شد على القلب )) .فحمل عليهم فكشفهم وقتل منهم فُرساناً , ثمّ رجع إلى أبيه وهو يبكي وقد أثقلته الجروح , فقام إليه أبوه وقبّل ما بين عينيه , وقال له : (( فداك أبوك ! فقد سررتني والله يا بني بجهادك هذا بين يدي , فما يبكيك , أفرح أم جزع ؟ )) .فقال : يا أبتي كيف لا أبكي وقد عرّضتني للموت ثلاث مرّات فسلّمني الله , وها أنا مجرح كما ترى ؟ وكلّما رجعت إليك لتمهلني عن الحرب ساعة , فما تمهلني وهذان أخواي الحسن والحُسين ما تأمرهما بشيء من الحرب .فقام إليه أمير المؤمنين وقبّل وجهه , وقال له : (( يا بُني , أنت ابني وهذان ابنا رسول الله , أفلا أصونهما من القتل ؟ )) .فقال : بلى يا أبتاه , جعلني الله فداك وفداهما من كلّ سوء ! :

فليت شعري هل توازي مصيبة

مصيبتكم يا آل بيت محمد

رزيتم رزايا لا يطيق بحملها

سماء ولا أرض ولا كل جامد

روي : أنّ الحسن الزّكي لمـّا دنت وفاته ونفذت أيّامه وجرى السّم في بدنه وأعضائه , وتغيّر لون وجهه ومال بدنه إلى الزّرقة والخضرة ، قال له أخوه الحُسين (عليه‌السلام ) : (( ما لي أرى لون وجهك مائلاً إلى الخضرة ؟ )) .فبكى الحسن (عليه‌السلام ) , وقال له : (( يا أخي , لقد صحّ حديث جدّي فيّ وفيك )) .ثمّ مدّ يده إلى أخيه الحُسين واعتنقه طويلاً وبكيا كثيراً , فقال الحُسين (عليه‌السلام ) : (( يا أخي , ما حدّثك جدّك وماذا سمعت منه ؟ )) .فقال : (( أخبرني جدّي رسول الله , أنّه قال : لمـّا مررت ليلة المعراج بروضات الجنان ومنازل أهل الإيمان , فرأيت قصرين عاليين متجاورين على صفة واحدة , لكن أحدهما من الزّبرجد الأخضر والآخر من الياقوت الأحمر , فاستحسنتهما وشاقني حسنهما , فقلت : يا أخي جبرائيل , لِمَن هذين القصرين ؟ فقال : أحدهما لولدك الحسن والآخر لولدك الحُسين .فقلت : يا جبرائيل , فلِمَ لا يكونا على لون واحد ؟ فسكت ولم يردّ عليّ جواباً , فقلت : يا أخي , لِمَ لا تتكلّم ؟ فقال : حياء منك يا مُحمّد .فقلت له : تالله عليك إلّا ما أخبرتني ؟ فقال : أمّا خضرة قصر الحسن , فإنّه يُسمّ ويخضر لونه عند موته، وأمّا حُمرة قصر الحُسين, فإنّه يُقتل ويُذبح ويُخضب وجهه وشيبته وبدنه من دمائه.فعند ذلك بكيا وضجّ النّاس بالبكاء والنّحيب على فقد حبيبيّ الحبيب )).

وحكي عن السّدي , قال : ضافني

١٧٤

رجل في ليلة كنت أحبّ الجليس , فرحّبت به وقرّبته وأكرمته وجلسنا نتسامر , وإذا به ينطلق بالكلام كالسّيل إذا قصد الحضيض , فطرقت له فانتهى في سمره طفّ كربلاء , وكان قريب العهد من قتل الحُسين (عليه‌السلام ) , فتأوّهت الصّعداء وتزفّرت كمداً , فقال : ما بالك ؟ قلت : ذكرت مصاباً يهون عنده كلّ مصاب .قال : أما كُنت حاضراً يوم الطّفّ ؟ قلت : لا ، والحمد لله .قال : أراك تحمد على أيّ شيء ؟ قلت : على الخلاص من دم الحُسين ؛ لأنّ جدّه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) قال : (( مَن طولب بدم ولدي الحُسين يوم القيامة , لخفيف الميزان )) .قال : قال هكذا جدّه ؟ قلت : نعم ، وقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : (( ولدي الحُسين يُقتل ظُلماً وعدواناً , ألا ومَن قتله يدخل في تابوت من نار , ويُعذّب نصف عذاب أهل النّار , وقد غلت يداه ورجلاه , وله رائحة يتعوّذ أهل النّار منها , هو ومَن شايع وبايع أو رضي بذلك :( كُلّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ ) (١) .لا يفتر عنهم ساعة , ويسقون من حميم جهنّم ، فالويل لهم من عذاب جهنم ! )) .قال : لا تُصدّق هذا الكلام يا أخي .فقلت : كيف هذا وقد قال (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : (( لا كَذِبتُ ولا كُذِّبت )) ؟ قال : ترى قالوا : قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : (( قاتل ولدي الحُسين لا يطول عمره )) ها أنا وحقّك قد تجاوزت التّسعين مع أنّك لا تعرفني .قُلت : لا والله .قال: أنا الأخنس بن زيد .قُلت : وما صنعت يوم الطّفّ ؟ قال : أنا الذي اُمّرت على الخيل الذين أمرهم عمر بن سعد بوطء جسم الحُسين بسنابك الخيل , وهشّمت أضرعه , وجررت نطفاً من تحت عليّ بن الحُسين وهو عليل حتّى كببته على وجهه , وخرمت أذني صفيّة بنت الحُسين لقرطين كانا في إذنيها .قال السّدي : فبكى قلبي هجوعاً وعيناي دموعاً , وخرجت أعالج على إهلاكه , وإذا بالسّراج قد ضعفت فقمت أظهرها , فقال : اجلس , وهو يحكي لي مُتعجّباً من نفسه وسلامته , ومدّ إصبعه ليظهرها فاشتعلت به , ففركها في التّراب فلم تنطفئ , فصاح بي : أدركني يا أخي ! فكببت الشّربة عليها وأنا غير محبّ لذلك , فلمّا شمّت النّار رائحة الماء , إزدادت قوّة , وصاح بي : ما هذه النّار وما يطفئها ؟ قلت : إلق نفسك في النّهر .فرمى بنفسه , فكُلّما ركس جسمه في الماء , اشتعلت في جميع بدنه كالخشبة البالية في الرّيح البارح ، هذا وأنا أنظره فو الله الذي لا إله إلّا هو , لم تطف حتّى صار فحماً وسار على وجه الماء , ألا لعنة الله على الظالمين

____________________

(١) سورة النّساء / ٥٦.

١٧٥

( وَسَيَعْلَمُ الّذِينَ ظَلَمُوا أَيّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ ) (١) .

فعلى الأطائب من أهل بيت الرّسول فليبك الباكون , وإيّاهم فليندب النّادبون , ولمثلهم تذرف الدّموع من العيون , أو لا تكونون كبعض مادحيهم حيث عرته الأحزان , فنظم وقال فيهم :

القصيدة للشيخ الفاضل مُحمّد بن نقيح (رحمه ‌الله تعال ى)

عجباً لقلب فيكم لا يفجع

ولأنفس في رزئكم لا تجزع

لله در مراركم بمصابكم

لم تنصدع ونواظر لا تدمع

ما هل عاشورا إلّا وهاج لي

حزن فصرت كبومة استبشع

لم أنس مولاي الحُسين بمكة

عن بيعة الباغي غداً يتمنع

تباً لقوم خالفوه وخالفوا

أمر الرسول وللوصية ضيعوا

كتبوا إليه من العراق وأجمعوا

أن ينصروه فمذ أتى لم يزمعوا

وتقاعدوا عن نصره وتعاقدوا

في خذله وعلى الأذية أجمعوا

فأراد لمـّا أن تبين غدرهم

جزماً إلى حرم المدينة يرجع

بعثوا إليه الحر عند قدومه

فبقى يساير تارة ويجعجع

ساروا فوافوا في العشية كربلا

أرض الطفوف من البراري سلقع

قال انزلوا فهنا مناخ ركابنا

وهنا محط رحالنا والمصرع

وأتى ابن سعد مقبلاً في عصبة

نحو الأطائب والعساكر تتبع

وتأهبوا للحرب بعد تظاهر

والعلج في إضرامها يتشجع

فاستمهل السبط الطغاة لعله

يدعو إلى الله العلي ويضرع

فأقام ليلته يناجي ربه

طوراً ويسجد في الظلام ويركع

ويقول إن القوم لا بغيا لهم

غيري وإني عارف من يرجع

فأقام بين يديه كل موفق

وغدا يقهقر كل من يتطمع

وأتى الحُسين يناشد القوم الذي

لم يبق فيهم من ينيب ويخشع

وغدا ابن سعد راشقاً بسهامه

قوم الإمام وفي الأذية يسرع

وأتت سهام القوم بعد كأنها

مطر تدفعه الرياح الزعزع

ذادوه عن ماء الفرات بجحفل

فيه الصوارم والسلاح يقعقع

فتيقن السبط اللقاء لربه

فأتى الخيام بدرعه يتلفع

____________________

(١) سورة الشّعراء / ٢٢٧.

١٧٦

يوصي سكينة بالسكينة بعده

بالصبر عند مصابه ويودع

وبقى رجال السبط يقتل واحد

منهم وآخر بعده يتوقع

حتى بقى فرداً وحيداً ظامياً

لا مانع عنه ولا من يدفع

حملوا عليه بالطعان فصدهم

بالسيف وهو اللوذعي الأشجع

مذ اثخنوه بالجراح وأضعفوا

منه الجوارح وهو لا يتروع

وشكى النساء إلى الحُسين من الظما

وأتينه بالطفل مضى يرضع

فمضى به نحو الطغاة كأنه

بدر بدا من برجه يتطلع

ودعا له ماء يبل غليله

ويقول هل قلب يرق ويخشع

وأتاه سهم مارق من مارق

بغروره وبكفره يتمتع

قطع الوريد من الوليد وأقبلت

منه الدماء واحمر منه البرقع

أخذ الدماء بكفه فرمى به

نحو السّماء والعين منه تدمع

ومضى يجدل كل صل صائل

ويقد هاماً منهم ويدرع

حتى دنى أجل الكتات ولم يكن

من بغدما حتم المقدر ينفع

أردوه عن ظهر الجواد كأنه

جبل لخشية ربه متصدع

لهفي له يبغي هنالك شربة

فيجاب بالشتم الشنيع ويمنع

لهفي لمصرعه الشريف على الثرى

بين اللئام وعز ذاك المصرع

لهفي لجثته الشريفة في الثرى

مطروحة يسفى عليها الزوبع

لهفي له إذ يستغيث فلم يغث

أفلم يكن عند النداء من يسمع

ذبحوه ظمآناً وكوثر جدّه

بالماء في يوم القيامة مترع

حملوا الكريم على القناة مضمخاً

والنور من أعضائه يتشعشع

قطع اللعين سنان منه وريده

هل كان يدري أي عضو يقطع

تبت يداه لقد أساء بفعله

وله جهنم في القيامة تسفع

وأتى الجواد إلى الخيام منهما

بصهيله والسرج منه بلقع

وأتت سكينة وهي تندب حاسراً

بأبي الشجاع الاريحي الأروع

وا سيداه عدمت بعدك صحتي

فإلى الإله المشتكى والمفزع

فالدين أضحى بعد فقدك ثاكلا

والدهر أمسى وهو بعدك أجدع

١٧٧

أين الحماة وأين جدّي الـمُصطفى

بل أين حيدرة البطين الأنزع

اليوم مات مُحمّد واستوسرت

أولاده من بعده وتضعضعوا

كم حرمة ظهرت محاسن وجهها

وكريمة قد مال عنها البرقع

فالطيبات الطاهرات حواسر

وتماط عنهن الثياب وتنزع

والسيد السجاد في أيدي العدا

مضني على حمل الشدائد يرفع

هذا وما سكنت به اضغانهم

وبما جرى في حقه لم يقنع

سلبوه من أثوابه ودروعه

ولنزع خاتمه تبين الإصبع

رضوا جناجن صدره بخيولهم

بغياً وعن أحقادهم لا يقلع

ويزيد ينكث ثغره بقضيبه

متمثلاً بالشعر لا يتنعنع

فليأتين غداً بقبح صنيعه

من الندامة في القيامة يقرع

تالله لا عاد ولا فرعونها

كلا ولا فعلت ثمود وتبع

كفعال هذا النكس ابن أميّة

ومقامه في يه يتسكع

أين الصحابة أين حزب مُحمّد

لا منكر منهم ولا متوجع

خص الكرام بكل خطب فادح

فيه العقول مع القلوب تروع

صبروا على البلوى بكل كريهة

والسر فيهم لا محالة يودع

طوبى لأرض حل في أكنافها

جسد الحُسين وطاب ذاك الموضع

قد قدست أرض الطفوف وبوركت

لـمّا اغتدى لك في ثراها مضجع

لك تربة فيها الشفاء وقبة

فيها الدعاء إلى المهيمن يرفع

هم سادة الدنيا ويوم معادنا

في الحشر منهم شافع ومشفع

ولسوف يدرك ثأرهم مهديهم

وأنا ليوم ظهوره أتوقع

إن لم أكن أدركت نصرة جدّه

فبنصره فيما بقي اتطمع

يابن الإمام العسكري ومن له

صيد الملوك إذا تمثل تخضع

يا سيّدي ظهر الفساد وأظلمت

سبل الرشاد فهل لنورك مطمع

وجرت علينا في الزمان ملاحم

لم ندر في تدبيرها ما نصنع

لم يبق إلّا عالم متصنع

أو جاهل متنسك أو مبدع

جعل العلوم على الفساد ذريعة

أكلوا بها الدنيا ولم يتورعوا

١٧٨

يبغون في الأرض العلو وقصدهم

قبل العوام إليهم كي يخدعوا

كل يريد رئاسة بوقاحة

وإذا رأى أهل النهى لا يتبع

يتنافسون على المناصب والعلى

والله يخفض ما يشاء ويرفع

والله يصلح شأنهم ويصدهم

عن غيهم وعن المعاصي يرجع

وبقي رجال أخلصوا في ودهم

خصوا ببلوى للجبال تصدع

أما طريد أو شريد ضائع

بين البرية أو فقير مدقع

فالله يجبر كسرهم بظهوره

يا من بهم جل المكاره تدفع

ويعين منا الصالحين بعصمة

من كل فعل موثق يستبشع

وبه نؤمل أن ينجي كل من

يبغي الهدى ولسبله تتبع

ونعوذ من خطب يهول وفتنة

فيها المعارف والحقوق تضيع

يا عترة الهادي النّبي ومن هم

عزي وكنزي والرجا والمفزع

واليتكم وبرئت من أعدائكم

وأنا بغير ولاكم لا أقنع

ونظمت في علياكم من مقولي

دراً لها وشى القريض يرصع

علماً بأن مديحكم لي نافع

ومديح قوم غيركم لا ينفع

وأنا بكم متنسك وبحبكم

متمسك وبجدكم مستشفع

لم أهو ديناً أصله من غيركم

حسبي إفتخاري أنني أتشيع

وإلى نقيح نسبتي ومحمد

إسمي فكم لي منكر ومضيع

لم استعن في نظمها بسواكم

كلا ولست لمن تقدم اتبع

بل هذه بكر أتت من فكرتي

وقريحتي للبكر دوماً تقرع

وقبولها يا سادتي مهر لها

إن صح فزت بنعمة لا تقطع

صلّى الإله عليكم ما أحييت

فكر وأوقضت العيون الهجع

أبغي الشفاعة في معادي يوم لا

مال هناك ولا بنون ينفع

بكم اؤمل نجح سعيي دائماً

وإلى الإله بحبكم أتدرع

الباب الثّاني

أيّها المؤمنون النّاصحون , اقطعوا رقاد العيون وواصلوا سهاد الجفون ،

١٧٩

وامسكوا أنفسكم عن اللذّات وابذلوا الدّموع الجاريات ، فقد أعزّ دينه وأحرزه مَن أحمل دمعه وأبرزه ، فإنّ إظهار الدّموع البادية , دليل على ما بطن من الأحزان الخافية ، أما علمتم أنّ هذه الدّموع الهتان نفئة مصدور ، وردّ شرائع الأحزان ، وعجز عن الصّدور .وإنّي كُلّما تزايدت عليّ الأفكار , يتوقّد في قلبي لهيب النّار ، فلا أجد ملجأ التّجئ إليه ولا معولاً أصبر إليه , سوى ماء الشّؤون المتحادرة من مقرحات الجفون :

إن الحزين إذا ما الحزن خالطه

كان البكاء له ملجأ من الفكر

لا تعذلوني عذولي إنني رجل

لـمّا تزايد حزني قل مصطبري

وكيف لا تحزن على سادات العباد وأنوار الله في البلاد , فليتني شاهدتهم يوم الطّفوف وفديتهم بروحي من الحتوف ، ولكن ليس إلّا ما أراد الله ولا حول ولا قوة إلّا بالله.

روي : أنّ بعض الصّالحين من المؤمنين , رأى في منامه فاطمة الزّهراء في أرض كربلاء , بعد قتل الحُسين مع جملة من نساء أهل الجنّة وهم يندبون الحُسين (عليه‌السلام ) , وفاطمة تقول : (( يا أبي يا رسول الله ! أما تنظر إلى اُمّتك ما فعلوا بولدي الحُسين ؟ قتلوه ظُلماً وعدواناً , قتلوه ومن شرب الماء منعوه , وللمنايا والغصص جرّعوه , وبالسّيوف قطّعوه , وعلى وجهه قلبوه , ومن القفا ذبحوه , فيا بئس ما فعلوه ! يا ابتاه ! أترى فُعل بولد أحد من الأنبياء كما فُعل بولدي ؟! فوا حرّ قلبه ! كأنّ ربّنا ما خلقنا إلّا للبلاء والابتلاء , فإنّا لله وإنّا إليه راجعون .يا أبتاه ! قتلوا بعلي أمير المؤمنين , واُدير الحطب على بيتي واُضرمت النّار فيه , وفُتح باب داري عليّ كُرهاً , وقُتل ولدي الـمُحسن سقطاً , كأنّي لم أكُن بضعة منك يا رسول الله ! ولا أنا الذي قُلت فيّ : فاطمة بضعة منّي يُريبني ما يُريبها , ويُزريني ما يُزريها .يا أبتي ! أتعلم ما صُنع بي ؟ كسر اللعين ضلعي حتّى متّ بأسفي , مقروحة عليك وعلى الـمُحسن وعلى ولديّ الحسن والحُسين , إنّا لله وإنّا إليه راجعون )).

ثمّ قالت (عليها‌السلام ) : (( يا أبة يا رسول الله ! وأعظم من هذا , أنّهم منعوني من البكاء عليك في المدينة , وقالوا : آذيتينا بكثرة بكائك .حتّى عدت إذا ذكرتك واشتقت إلى النّدب عليك , صرت

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493