الـمُنتخب في جمع المراثي والخطب المشتهر بـ (الفخري)

الـمُنتخب في جمع المراثي والخطب المشتهر بـ (الفخري)12%

الـمُنتخب في جمع المراثي والخطب المشتهر بـ (الفخري) مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 493

الـمُنتخب في جمع المراثي والخطب المشتهر بـ (الفخري) الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 493 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 70426 / تحميل: 5609
الحجم الحجم الحجم
الـمُنتخب في جمع المراثي والخطب المشتهر بـ (الفخري)

الـمُنتخب في جمع المراثي والخطب المشتهر بـ (الفخري)

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

الباب الثّالث

أيّها المؤمنون , أتدرون أيّ مزيّة تحصلون وفي أيّ مرتبة تحلّون ؟ أنتم والله المحبورون الفائزون المجاهدون الآمنون الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون , أليس في الكتاب الـمُبين بعد إثبات الولاية لأمير المؤمنين وأولاده الغرّ الميامين :( وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْغَالِبُونَ ) (١) ؟ وهذا الخطاب نصّ صريح في هذا الباب , واعلموا أنّ هذه الآية سرّاً عجيباً لا يتفطّن له إلّا الأريب , فلو تصوّر الـمُحبّ لآل الرّسول ما لاقوه من الخطب المهول وأخلص في ولائه , لاختار لمواساتهم في الموت على بقائه , أيُجندل الحُسين وبنو أبيه على الرّمال ويعلى كريمه الشّريف على القنا كالهلال , وتُسبى ذراريه محمولين حسراً على الجمال , يُطاف بهم في البلاد مقرنين في الأصفاد , هذا والدّموع جامدة والعيون راقدة ؟! لا والله , لا يحسن هذا من أهل الإيمان ولا ممّن يدّعي أنّه من حزب الرّحمان ، بل والله , قُل لهذا المصاب خروج الأرواح من شدّة الاكتئاب:

جار العدو عليهم حتّى غدوا

أيدي سبا في سوء حال منكر

ما بين مضروب بأبيض صارم

أو بين مطعون بلدن أسمر

أو بين مسحوب ليذبح بالعرى

أو بين مشهور وآخر موسر

أو بين من يكبو لثقل قيوده

أو بين مغلول اليدين معفر

كم من أذى متهضم قد مسهم

من ظالم باغ عليهم ومفتر

روي عن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) , أنّه قال لعليّ بن أبي طالب : (( يا عليّ , إنّ الله زوّجك ابنتي فاطمة الزّهراء وجعل صداقها الأرض , فمَن مشى عليها وكان مُبغضاً لها , كان مشيه على الأرض حراماً ولها في يوم القيامة شأن عظيم )).

وعن الصّادق (عليه‌السلام ) , أنّه قال : (( إذا كان يوم القيامة , جاءت فاطمة في لـمّة من نساء أهل الجنّة , فيُقال لها : يا فاطمة ادخلي الجنّة .فتقول : والله لا أدخل حتّى أنظر ما صُنع بولدي الحُسين من بعدي في دار الدُنيا .فيُقال لها : انظري في قلب القيامة .فتنظر يميناً وشمالاً فترى الحُسين (عليه‌السلام ) وهو واقف ليس عليه رأس , فتصرخ صرخة عالية من حرقة قلبها , فتصرخ الملائكة لصرختها , وتقول : وا ولداه ! وا مهجة قلباه ! وا حسيناه !

____________________

(١) سورة المائدة / ٥٦.

٢٨١

قال : فلم يبق في ذلك الموقف ملك ولا نبيّ ولا وصي إلّا وبكى لأجلها وحزن لحزنها .قال : فعند ذلك يشتدّ غضب الله على أعداء الرّسول , فيأمر الله تعالى ناراً اسمها هبهب - قد أوقدوا عليها ألف عام حتّى اسودّت واظلمّت لا يدخلها روح - فيُقال لها : يا هبهب , التقطي قتلة الحُسين (عليه‌السلام ) ومَن أعان على قتله .فتلتقطهم جميعاً واحداً بعد واحد , فإذا صاروا في حوصلتها , صهلت بهم وصهلوا بها وشهقت بهم وشهقوا بها واشتدّ عليهم العذاب الأليم , فيقولون : ربّنا لِمَ اوجبت علينا حرق النّار قبل عبدة الأصنام ؟ فيأتيهم الجواب : يا أشقياء , إنّ مَن علم ليس كمن لا يعلم )) .فذوقوا عذاب الهون بما كنتم تعملون :

لمصابهم تتزلزل الأطواد

ولقتلهم تتفتت الأكباد

كل الرزايا بعد وقت حلولها

تنسى ورزءهم الجليل يعاد

روي عن سهل بن سعيد الشّهرزوري , قال : خرجت من شهرزوري أريد بيت المقدس , فصار خروجي أيّام قتل الحُسين (عليه‌السلام ) , فدخلت الشّام فرأيت ؛ الأبواب مفتحة والدّكاكين مُغلقة , والخيل مُسرجة , والأعلام منشورة والرّايات مشهورة , والنّاس أفواجاً امتلأت منهم السّكك والأسواق , وهُم في أحسن زينة يفرحون ويضحكون , فقلت لبعضهم : أظنّ حدث لكم عيد لا نعرفه ؟ قالوا : لا .قُلت : فما بال النّاس كافّة فرحين مسرورين ؟ فقالوا : أغريب أنت أم لا عهد لك بالبلد ؟ قُلت : نعم ، فماذا ؟ قالوا : فُتح لأمير الـمُفسدين فتح عظيم .قُلت : وما هذا الفتح ؟ قالوا : خرج عليه في أرض العراق خارجي فقتله والمنّة لله وله الحمد .قُلت : ومَن هذا الخارجي ؟ قالوا : الحُسين بن عليّ بن أبي طالب .قُلت : الحُسين ابن فاطمة بنت رسول الله ؟ قالوا : نعم .قُلت : إنّا لله وإنّا إليه راجعون , وإنّ هذا الفرح والزّينة لقتل ابن بنت نبيّكم , وما كفاكم قتله حتّى سمّيتموه خارجياً ؟! فقالوا : يا هذا , أمسك عن هذا الكلام واحفظ نفسك ؛ فإنّه ما من أحد يذكر الحُسين بخير إلّا ضُربت عنقه .فسكتّ عنهم باكياً حزيناً ، فرأيت باباً عظيماً قد دخلت فيه الأعلام والطّبول , فقالوا : الرّأس يدخل من هذا الباب.فوقفت هُناك , وكلّما تقدّموا بالرّأس , كان أشدّ لفرحهم وارتفعت أصواتهم , وإذا برأس الحُسين والنّور يسطع من فيه كنور رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) , فلطمت على وجهي وقطعت أطماري

٢٨٢

وعلا بكائي ونحيبي , وقُلت : وا حزناه للأبدان السّليبة النّازحة عن الأوطان المدفونة بلا أكفان ! وا حزناه على الخدّ التّريب والشّيب الخضيب ! يا رسول الله ! ليت عينيك ترى رأس الحُسين في دمشق يُطاف به في الأسواق , وبناتك مشهورات على النّياق مشقّقات الذّيول والأرياق , ينظر إليهم شرار الفسّاق , أين عليّ بن أبي طالب يراكم على هذا الحال ! ثمّ بكيت وبكى لبكائي كلّ مَن سمع منهم صوتي , وأكثرهم لا يلتفتون بي ؛ لكثرتهم وشدّة فرحهم واشتغالهم بسرورهم وارتفاع أصواتهم , وإذا بنسوة على الأقتاب بغير وطاء ولا ستر , وقائلة منهنّ تقول : وا مُحمّداه ! وا عليّاه ! وا حسناه ! لو رأيتم ما حلّ بنا من الأعداء .يا رسول الله ! بناتك اُسارى كأنّهن بعض أسارى اليهود والنّصارى .وهي تنوح بصوت شجيّ يقرح القلوب على الرّضيع الصّغير , وعلى الشّيخ الكبير المذبوح من القفا ومهتوك الخبا العريان بلا رداء .وا حزناه لما نالنا أهل البيت ! فعند الله نحتسب مصيبتنا.

قال : فتعلّقت بقائمة المحمل وناديت بأعلى الصّوت : السّلام عليكم يا آل بيت مُحمّد ورحمة الله وبركاته .وقد عرفت أنّها اُمّ كلثوم بنت عليّ (عليه‌السلام ) , فقالت : مَن أنت أيّها الرّجل الذي لم يسلّم علينا أحد غيرك مُنذ قُتل أخي وسيّدي الحُسين (عليه‌السلام ) ؟ فقلت : يا سيّدتي ! أنا رجل من شهرزور اسمي سهل , رأيت جدّك مُحمّد الـمُصطفى (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) .قالت : يا سهل ! ألا ترى ما قد صُنع بنا ؟ أما والله لو عشنا في زمان لم يُر مُحمّد , ما صنع بنا أهله بعض هذا , قُتل والله أخي وسيّدي الحُسين , وسُبينا كما تُسبى العبيد والإماء , وحُملنا على الأقتاب بغير وطاء ولا ستر كما ترى .فقلت : يا سيّدتي , يعزّ والله على جدّك وأبيك واُمّك وأخيك سبط نبي الهُدى .فقالت : يا سهل ! اشفع لنا عند صاحب المحمل أن يتقدّم بالرّؤوس ؛ ليشتغل النّظّارة عنّا بها فقد خزينا من كثرة النّظر إلينا .فقلت : حُبّاً وكرامة.

ثمّ تقدّمت إليه وسألته بالله وبالغت معه , فانتهرني ولم يفعل ، قال سهل : وكان معي رفيق نصراني يُريد بيت المقدس وهو مُتقلد سيفاً تحت ثيابه , فكشف الله عن بصره , فسمع رأس الحُسين وهو يقرأ القُرآن ويقول :( وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ) (١) .فقد أدركته السّعادة , فقال : أشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له , وأنّ مُحمّداً عبده ورسوله .ثمّ انقضى سيفه وشدّ به على القوم وهو يبكي , وجعل يضرب فيهم فقتل منهم جماعة كثيرة , ثمّ تكاثروا عليه فقتلوه رحمه‌ الله ، فقالت اُمّ كلثوم : ما هذه

____________________

(١) سورة إبراهيم / ٤٢.

٢٨٣

الصّيحة ؟ فحكيت لها الحكاية , فقالت : وا عجباه ! النّصارى يحتشمون لدين الإسلام , واُمّة مُحمّد الذين يزعمون أنّهم على دين مُحمّد , يقتلون أولاده ويسبون حريمه , ولكن العاقبة للمتقين :( وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) (١) .ولقد عجبت لتلك الأطواد كيف لا تتزلزل , وكذلك النّادي كيف لا ينخسف ويتحوّل , ولكن أرتفع موجود اللطف من بين أظهرهم وهم لا يعلمون :( وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ ) (٢) :

يا أمة السوء لم تجازوا رسول الله

فيكم إذ لم يزل متعوبا

كل يوم تهتكون حريماً

من بنيه وتقتلون حبيبا

كيف تلقونه شفيعاً وترجون

غدا أن يزيل عنكم كروبا

لا وربي ينال وذاك سوى

من كان مولاهم موال منيبا

حُكي أنّ موسى بن عمران رآه إسرائيلي مستعجلاً , وقد كسته الصّفرة واعترى بدنه الضّعف وحكم بفرائصه الرّجف , وقد اقشعرّ جسمه وغارت عيناه ونحف ؛ لأنّه كان إذا دعاه ربّه للمُناجاة يصير عليه ذلك من خيفة الله تعالى , فعرفه إسرائيلي وهو ممّن آمن به , فقال له : يا نبي الله , أذنبت ذنباً عظيماً , فاسأل ربّك أن يعفو عنّي فأنعم .وسار , فلمّا ناجى ربّه , قال له : يا ربّ العالمين , أسألك وأنت العالم قبل نطقي به .فقال تعالى : (( يا موسى , ما تسألني أعطيك وما تريد أبلغك )) .قال : ربّي , إنّ فلاناً عبدك إسرائيلي أذنب ذنباً ويسألك العفو .قال : (( يا موسى , اعفو عمّن استغفرني إلّا قاتل الحُسين )) .قال موسى : يا ربّ , مَن الحُسين ؟ قال له : (( الذي مرّ ذكره عليك بجانب الطّور )) .قال : ربّ , ومَن يقتله ؟ قال : (( يقتله اُمّة جدّه الباغية الطّاغية في أرض كربلاء , وتنفر فرسه وتحمحم وتصهل وتقول في صهيلها : الظّليمة الظّليمة من اُمّة قتلت ابن بنت نبيّها , فيبقى مُلقى على الرّمال من غير غسل ولا كفن , ويُنهب رحله وتُسبى نساءه في البلدان , ويُقتل ناصروه وتُشهر رؤوسهم مع رأسه على أطراف الرّماح .يا موسى , صغيرهم يميته العطش وكبيرهم جلده منكمش , يستغيثون ولا ناصر , ويستجيرون ولا خافر )) .قال : فبكى موسى وقال : يا ربّ , ما لقاتليه من العذاب ؟ قال : (( يا موسى , عذاب يستغيث منه أهل النّار بالنّار , لا تنالهم رحمتي ولا شفاعة جدّه , ولو لم تكن كرامة له لخسفت

____________________

(١) سورة البقرة / ٥٧.

(٢) سورة الشّعراء / ٢٢٧.

٢٨٤

بهم الأرض )) .قال موسى : برئت إليك اللّهمّ منهم وممّن رضي بفعالهم .فقال سبحانه : (( يا موسى , كتبت رحمة لتابعيه من عبادي , واعلم أنّه من بكى عليه وأبكى أو تباكى , حرمت جسده على النّار )) :

بني أمية مات الدين عندكم

وأصبح الحق قد وارته أكفان

أضحت منازل آل السبط مقفرة

من الأنيس وما فيهن سكان

باهوا بمقتله ظلماً وقد هدمت

لفقده من ذوي الإسلام أركان

رزية عمت الدُنيا وساكنها

فالدمع في أعين الباكين هتان

قيل : افتخر إسرافيل على جبرائيل , فقال : إنّي من حملة العرش وصاحب الصّور والنّفخة , وأنا أقرب الملائكة إلى حضرة الجلال .فقال جبرائيل : أنا خير منك .قال : لماذا ؟ قال : أنا أمين الله على وحيه , وصاحب الكسوف والخسوف والزّلازل والرّسائل .فاختصما إلى الله تعالى , فأوحى إليهما : (( أن اسكتا , فوعزّتي وجلالي , لقد خلقت مَن هو خير منكما , انظرا إلى ساق العرش )) .فنظروا وإذا على ساق العرش : لا إله إلّا الله مُحمّد رسول الله , عليّ وفاطمة والحسن والحُسين خير خلق الله .فقال جبرائيل : بحقّهم عليك , إلّا ما جعلتني خادماً لهم .فقال : (( لك ذلك )) .فافتخر جبرائيل على الملائكة أجمع لمـّا صار خادماً لهم .فقال : مَن مثلي وأنا خادم آل مُحمّد ؟ فانكسرت الملائكة أن يفاخروه.

فتفكّروا أيّها الأعلام وتأمّلوا في هذا الإمام , وانظروا إلى ما فعل به القوم اللئام , وإلى صبره على التّجرّع والغصص والآلام , وتجرّع كؤوس الحمام , ولقد فاق على جدّه إبراهيم في هذا المقام العظيم ؛ لأنّ إبراهيم (عليه‌السلام ) ابتلي في نفسه لا غير حين اُلقي في النّار , والحُسين (عليه‌السلام ) صُرع حوله بنوه وبنو أبيه الأطهار ، واغتصبوا نفسه أيضاً , فقابل الجميع بالإستغفار والرّضا والإصطبار , فهذا مرام لم يصل قبله ولا بعده أحداً إليه إلّا هو صلوات الله وسلامه عليه ، نعم قد زاد على هذا المقام أبوه عليّ (عليه‌السلام ) , وذلك أنّ النّبي (ص) لمـّا أدركته الوفاة وكان رأسه الشّريف في حجر عليّ (ع) , بكى , فقال له : (( ما يبكيك يا أخي ؟ )) .فقال(ع) : (( يا سيّدي , كنت وقد وعدتني بالشّهادة وأنت مُعافى , وقد كنت أرجو أن اُقتل بين يديك )).فقال(ص) : (( ابشر فإنّها من ورائك , فكيف صبرك إذاً ؟ )) .فقال : (( يا رسول الله , ليس ذاك موطن الصّبر , وإنّما هو موطن الشّكر )).

٢٨٥

فقد جعل الحُسين (عليه‌السلام ) موطن الشّهادة موطن الصّبر , وعليّ (عليه‌السلام ) جعلها موطن البُشرى والشّكر , والصّبر لا يكون إلّا عن أمر مكروه , والشّكر لا يكون إلّا عن أمر محبوب , والفرق بين هذين الموطنين العظيمين , كالفرق بين هذين الإمامين الكريمين ، فعلى الأطائب من أهل بيت الرّسول فليبك الباكون , وإيّاهم فليندب النّادبون , ولمثلهم تذرف الدّموع من العيون , أو لا تكونون كبعض مادحيهم حيث عرته الأحزان وتتابعت عليه الأشجان , فنظم وقال فيهم :

القصيدة للشيخ مغامس (رحمه‌ الله تعا لى)

كيف السلو والخطوب تنوب

ومصائب الدُنيا عليك تصوب

إن البقاء على اختلاف طبائع

ورجاي أن ينجو الفتى لعجيب

والدهر أطوار وليس لأهله

إن فكروا في حالتيه نصيب

ليس اللبيب من استقر بعيشه

إن المفكر في الأمور لبيب

يا غافلاً والموت ليس بغافل

عش ما تشاء فإنك المطلوب

أبرزت لهوك إذ زمانك مقبل

زاه وإذ غصن الشباب رطيب

فمن النصير من الخطوب إذ أتت

وعلا على شرخ الشباب مشيب

عمل الفتى من علمه مكتوبة

حتّى الممات وعمره مكتوب

فتراه يكدح في المعاش ورزقه

في الكائنات مقدر محسوب

إن الليالي لا تزال مجدة

في الخلق أحداث لها وخطوب

من سر فيها ساءه من صرفها

ريب له طول الزمان قريب

عصفت بخير الخلق آل مُحمّد

صر شأمية لها وصبوب

أما النّبي فخانه من قومه

في أقربيه محاكم وصحيب

من بعدما ردوا عليه وصاله

حتّى كأن مقاله مكذوب

ونسوا رعاية أحمد في حيدر

في (خم) وهو وزيره المصحوب

فأقام فيهم برهة حتّى قضى

في الفرض وهو بغضبهم مغضوب

والطهر فاطمة زوى ميراثها

شر الأنام ودمعها مسكوب

من بعدما رمت الجنين بضربة

فقضت وحقها مغصوب

وسليلها الهادي سقته جعيدة

سما له سبط الفؤاد لهيب

٢٨٦

وجرى من الجفن الغريق بمائه

دمع على قتل الحُسين صبيب

يا يومه ما كان أقبح منظراً

وأمر طعماً أنه لعصيب

بأبي الإمام المستظام بكربلا

يدعو وليس لمـّا يقول مجيب

بأبي الوحيد وما له من راحم

يشكو الظمأ والماء منه قريب

بأبي الحبيب إلى النّبي مُحمّد

ومحمد عند الإله حبيب

يا كربلاء أفيك يقتل جهرة

سبط المطهر إن ذا لعجيب

ما أنت إلّا كربة وبلية

كل الأنام بهولها مكروب

هل لا انتصرت له من القوم الأولى

قتلوه ظلماً وهو فيك غريب

فتدكدكت فيهم رباك وغورت

منك المياه وضاق منك رحيب

لهفي وقد زحفت إليه جموعهم

فلهم رفيف نحوه ووثوب

لهفي له فرداً وحيداً بينهم

لـمّا قضت أنصاره وأصيب

لهفي وقد وافى إليه منهم

سهم لمقلته الشريف مصيب

لهفي عليه وقد هوى متعفراً

وبه أوام فادح ولغوب

لهفي عليه بالطفوف مجدلاً

تسفى عليه شمائل وجنوب

لهفي عليه والخيول ترضه

فلهم ركض حوله وخبيب

لهفي له والرأس منه مميز

والشيب من دمه الشريف خضيب

لهفي عليه ودرعه مسلوبة

لهفي عليه ورحله منهوب

لهفي على حرم الحُسين حواسراً

شعثاً وقد رعبت لهن قلوب

أبصرت شمراً فوقه فزجرته

عنه وقلن وللقلوب وجيب

يا شمر ويحك خله لبناته

ولك المهيمن إن فعلت يثبت

يا شمر ويحك من أبوه وأمه

فكر لعلك تهتدي وتثيب

حتى إذا قطع الكريم بسيفه

لم يثنه خوف ولا ترغيب

جددن ثمّ على الحُسين مأتماً

فحريمه تبكي له وحريب

لله كم لطمت خدود عنده

جزعاً وكم شقت عليه جيوب

ما أنس لا أنس الزكية زينباً

تبكي له وقناعها مسلوب

تدعو وتندب والمصاب يكضها

بين الطفوف ودمعها مسلوب

٢٨٧

وتقول أي شقوة أولى لها

صرف الزمن وحظنا المتعوب

أأخي بعدك ما صفى متكدر

ولخاطري عما يطيب نكوب

أأخي بعدك قد شقيت ورابني

دهر لأخبار الرجال مريب

أأخي بعدك لا حييت بغبطة

واغتالني خسف إلى قريب

أأخي بعدك من أطول به ومن

أسطو به والنائبات تنوب

أأخي بعدك من يدافع جاهلاً

عني ويسمع دعوتي ويجيب

لم يلق خلق ما لقيت ولا ابتلى

يوماً بمثل بليتي أيوب

حزني تذرف به الجبال وعنده

يسلو وينسى يوسفاً يعقوب

فأتت إليه أم كلثوم لها

ذبل على وجه الثرى مسحوب

قالت مصابك يا حسين أصابني

حزناً ونوري فاحم وغريب

ما كنت أحسب يابن أمي أنني

أشقي وإن الظن فيك يخيب

قد كنت دخراً لي ولكن الفتى

أبداً إليه حمامه مجلوب

فالآن بعدك ظل مجدي قالص

ولماء وجهي جفة وتصوب

ودعت سكينة بالصغيرة فاطم

قومي أخية فالمصاب يصوب

هذا أبوك معفراً ثاو له

خد على عفر الثراء تريب

فابكي أخية دائماً لمصابه

فمصابه منه الجبال تذوب

قتلت أحبائي وأهل مودتي

كملاً فليس لمـّا شكوت طبيب

ودعا ابن سعد برزوا نسوانه

فسليبة مكشوفة وسليب

قال أوقدوا النيران في أبياته

فسما لها بين البيوت لهيب

قال اقصدوا بأرض الشآم فقربت

أنقاض بزل للحريم ونيب

فركبن يندبن النّبي محمداً

وهم على حر الركاب ركوب

يا جدنا ساقوا علينا موثقاً

بالقيد وهو خائف المرعوب

يا جدنا ساقوا بناتك حسراً

حتّى تهتك سترها المحجوب

يا للرجال الأكرمين لمـّا جرى

والدهر فيه مصائب وخطوب

آل النّبي الـمُصطفى الهادي لهم

بالأرض في آفاقها تغريب

يحدوا بهم زجر ليرضى منهم

رجس لكأس مدامه شريب

٢٨٨

فالرأس بين يديه ينكت ثغره

ويرجع الألحان وهو طريب

يدعو بأشياخ له لا قدسوا

فهم الذين عليهم مغضوب

فعلى الذي ساس المضالم أولا

لعن مدى الأيام ليس يغيب

وعلى أمية أجمعين ومن لهم

يهوى من اللعن الشديد ضروب

يا أهل بيت مُحمّد دمعي لكم

جار وقلبي ما حييت كئيب

أنتم ولاة المسلمين وحبكم

فرض ونهج هديكم ملحوب

طبتم فحبكم النجاة وبغضكم

كفر برب العالمين وجوب

أولاكم الفضل الجسيم لأنه

أبداً يعاقب فيكم ويثيب

وإليكم منّي قصيدة شاعر

ذي مقول من طبعه التهذيب

أهداكم مدحاً لكي تمحي بها

عنه جرائم جمة وذنوب

فانظم مغامس ما تشاء منقحاً

بالرغم ممن يزدري ويعيب

ثم الصلاة على النّبي وآله

ما ماس من مر النسيم قضيب

٢٨٩

المجلس الرّابع

من الجزء الثّاني في السّابع من عشر الـمُحرّم

وفيه أبواب ثلاثة

الباب الأوّل

أيّها المؤمنون , أيّ قُربة يتقرّب بها المتقرّبون , وأيّ سعادة يحضى بها الفائزون , أعظم من هذه القُربات التي يرضى بها ربّ السّماوات والأئمة الهُداة , حسدوهم الظّلمة الطُغاة على ما حصل لهم من الكمالات وعلو الدّرجات عند خالق الأرضين والسّماوات , واعتضد ذلك بحبّ الدُنيا الدّنيّة , فحملهم ذلك على ارتكاب هذه الرّزيّة .فقد نُقل عن عمر بن سعد لعنه الله عندما وبّخه الرّجل الهمداني على خروجه على الحُسين ومنعه الماء وأهل بيته , أنّه قال في جوابه : يا أخا همدان , والله إنّي أَعرف النّاس بحقّ الحُسين (عليه‌السلام ) وحرمته عند الله تعالى وعند رسوله , ولكنّي حائر في أمري ما أدري كيف أصنع في هذا الوقت , كنت أتفكّر في أمري وخطر ببالي أبيات من الشّعر , فقال :

دعاني عبيد الله من دون قومه

إلى بدعة فيها خرجت لحيني

فوالله ما أدري وإني لصادق

أفكر في أمري على خطرين

أأترك ملك الري والري منيتي

أم أرجع مأثوماً بقتل حسين

وفي قتله النّار ليس دونها

حجاب وملك الري قرة عيني

ثمّ قال : يا أخا همدان , إنّ نفسي لأمّارة بالسّوء ما تحسن لي ترك مُلك الرّي , وإنّي إذا قتلت حُسيناً أكون أميراً على سبعين ألف فارس.

فيا إخواني , اعلموا

٢٩٠

أنّ التّوفيق عزيز المثال , ومَن حقّت عليه كلمة العذاب لم يفد فيه عذل العذال , ومَن غلبته نفسه تورّط في أعظم الأمور ودخل في الضّلال ، وكما أنّ للجنّة رجالاً وفي النّار لها رجال , ومَن زُحزح عن النّار واُدخل الجنّة فقد فاز , وما الحياة الدُنيا إلّا لهو , فتعساً لِمَن ظلم تلك العصابة الكرام ! وسحقاً لِمَن نكّس أعلام أولئك الأعلام ! فويل لهم ماذا يقولون حين يُعرضون وبماذا يُجيبون حين يُسألون ! هُنالك تبلو كلّ نفس ما أسلفت وردّوا إلى الله مولاهم الحقّ وضلّ عنهم ما كانوا يفترون.

حُكي : أنّ الأشعث بن قيس وجويرة الجبلي قالا يوماً لعليّ (عليه‌السلام ) : يا أمير المؤمنين , حدّثنا عن بعض خلواتك مع فاطمة (عليها‌السلام ) .فقال : (( نعم , بينما أنا وفاطمة في كساء واحد نائمان , إذ أقبل رسول الله إلينا نصف الليل , وكان (عليه‌السلام ) يأتيها بالتّمر واللبن ؛ ليعينها على تربية الحسن والحُسين (عليهما‌السلام ) , فدخل علينا ونحن نيام , فوضع رجلاً بحيالي ورجلاً بحيالها , فلمّا رأت فاطمة أباها واقفاً , همّت أن تجلس فلم تستطع , فبكت , فقال لها النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : وما يبكيك يا بنت مُحمّد الـمُصطفى؟ فقالت : أما ترى حالنا ونحن في كساء واحد نصفه تحتنا ونصفه فوقنا ؟ فقال لها : يا بنيّة , أما تعلمين أنّ الله اطلع إطلاعة من سمائه إلى أرضه , فاختار منها بعلك عليّ بن أبي طالب , وأمرني أن أزوّجك به , وأنّ الله عزّ وجلّ اتخذه لي وصيّاً وخليفة من بعدي .يا فاطمة , أما أنّ العرش سأل ربّه أن يزيّنه بزينة لم يزيّن بها شيئاً من خلقه , فزيّنه بالحسن والحُسين (عليهما‌السلام ) , وجعلهما في ركنين من أركان العرش , فالعرش يفتخر بزينته على كلّ شيء )).

وفي رواية اُخرى , أنّ فاطمة (عليها‌السلام ) لمـّا شكت عند أبيها ضعف الحال وفقر بعلها عليّاً ، قال لها : (( يا بنيّة , أتعلمين ما منزلة عليّ عندي ؟ )) .قالت : (( الله ورسوله أعلم )) .قال : (( كفاني أمري وهو ابن اثني عشر سنة , وقاتل الأبطال ولاقى الأهوال وهو ابن ثمانية عشر سنة , وفرّج همّي وجلى غمّي وأزال كربي وهو ابن عشرين سنة , وقلع باب خيبر وهو ابن اثنين وعشرين سنة )) .فاستبشرت فاطمة بذلك سروراً عظيماً.

وقد ورد فيه من الفضل ما لا يُعد ولا ينتهي إلى حد ، فمن ذلك ما روي عن النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) , أنّه قال : (( مررت ليلة المعراج بقوم تشرشر أشداقهم , فقلت : يا جبرائيل , مَن هؤلاء ؟ قال : هؤلاء الذين يقطعون على النّاس بالغيبة )) .قال : (( ثمّ

٢٩١

عدلنا عن ذلك الطّريق ، فلمّا انتهينا إلى السّماء الرّابعة , رأيت عليّاً يُصلّي ، فقلت : يا جبرائيل , هذا عليّ قد سبقنا ؟ فقال: ليس هذا عليّاً .قُلت : فمَن هو ؟ قال : إنّ الملائكة المكروبين لمـّا سمعت بفضائل عليّ (عليه‌السلام ) , وسمعت قولك فيه : أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبي من بعدي .اشتاقت إلى عليّ , فخلق الله ملكاً على صورة عليّ ، فكلّما اشتاقت إلى عليّ, جاءت إلى ذلك الملك فكأنّها قد رأت عليّاً )).

وعن ابن عبّاس , قال : رأيت أباذر وهو متعلّق بأستار الكعبة , وهو يقول : مَن عرفني فقد عرفني ومَن لم يعرفني فأنا أبوذر, لو صمتم حتّى تكونوا كالأوتاد ولو صلّيتم حتّى تكونوا كالحنايا , ما ينفعكم ذلك حتّى تحبّوا عليّاً.

وعن أبي شعيب الخراساني , قال : دخلت على الإمام أبي عبد الله , فقلت : فداك أبي واُمّي ! إنّي اشتقت إلى الغري .قال: (( وما يشوّقك إليه ؟ )) .قُلت : جُعلت فداك ! أحبّ أن أزور أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) .فقال : (( هلى تعرف فضل زيارته ؟ )).فقلت : يابن رسول الله عرّفني ذلك .قال : (( إذا أردت زيارة أمير المؤمنين ، فاعلم أنّك زائر عظام آدم وبدن نوح وجسم أمير المؤمنين )) .فقلت : جعلت فداك ! إنّ آدم بسرنديب بمطلع الشّمس , وزعموا أنّ عظامه في البيت الحرام , فكيف صارت عظامه بالكوفة ؟ فقال : (( إنّ الله أوحى إلى نوح (عليه‌السلام ) وهو في السّفينة أن يطوف بالبيت أسبوعاً , فطاف أسبوعاً , ثمّ نزل في الماء إلى ركبتيه فاستخرج تابوتاً فيه عظام آدم , فلم يزل معه التّابوت في جوف السّفينة حتّى طاف ما شاء الله أن يطوف , ثمّ ورد إلى الكوفة في مسجدها وفيه يقول الله للأرض : اقلعي ماءك .فقلعت ماءها وتفرّق الجمع الذي كانوا مع نوح في السّفينة ودفعها , فرجعت إلى بيت الله الحرام ، وأخذ نوح التّابوت فدفنه في الغري , وهو قطعة من الجبل الذي كلّم الله فيه موسى تكليماً , وقدّس الله عليه عيسى تقديساً , واتّخذ الله إبراهيم خليلاً ومُحمّداً (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) حبيبا , وجعله للمتنسّكين منسكاً , والله , ما سكن فيه بعد آبائه الطّاهرين آدم ونوح أكرم من أمير المؤمنين , وأنّك تزور الآباء الأوّلين ومُحّمداً خاتم النّبيين وعليّاً سيّد الوصيين ، وأنّ زائره يفتح له أبواب السّماء عند دعوته , فلا تكن عن الخير نوّاماً )).

وكان أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) يأتي هذه البُقعة الشّريفة ويصلّي فيها , فبينما هو ذات يوم يصلّي بالغري , إذ أقبل رجلان

٢٩٢

معهما تابوت على ناقة , فحطّا التّابوت وأقبلا إليه فسلّما عليه ، فقال(ع) : (( من أين أقبلتما ؟ )) .قالا : من اليمن .قال : (( وما هذه الجنازة ؟ )) .فقالا : كان لنا أب شيخ كبير , فلمّا أدركته الوفاة , أوصى إلينا أن نحمله وندفنه في الغري ، فقلنا : يا أبانا , إنّه موضع شاسع بعيد عن بلدنا , وما الذي تريد بذلك ؟ فقال : إنّه سيُدفن هُناك رجل يدخل في شفاعته مثل ربيعة ومضر .فقال أمير المؤمنين (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : (( الله أكبر الله أكبر , أنا والله ذلك الرّجل )) .ثمّ قام فصلّى عليه ودفناه ومضيا حيث أقبلا.

فسبحان من جعلهم رحمة للعالمين وسبباً مودياً إلى الفوز باليقين ، وجودهم لطف في حقّ الأنام , وحط أجسادهم عصم لمن ثوي فيها وأقام , وبحبّهم تُمحى الآثام ، وبصحّة الإعتقاد فيهم تمحّص الذّنوب العظام , وباتباعهم يحصل الخلاص من أهوال يوم القيامة ودخول الجنّة بسلام :

طوبى لمن أضحى هواكم قصده

وإلى محبتكم إشارة رمزه

في قربكم نيل المسرة والمنى

وجنانكم مستنزه المتنزه

قلب يهيم بحبكم تفريطه

في مثلكم والله غاية عجزه

يضحى كدود القز يتعب نفسه

في نسجه وهلاكه في قزه

طرف رآكم ثمّ شاهد غيركم

تطهيره بسوى الدما لم يجزه

نزه فؤادك عن سواهم والقهم

فوصالهم حل لكل منزه

الصبر طلسم لكنز وصالهم

من حل ذا الطلسم فاز بكنزه

فوا عجباً من قوم استطاعوا على ساداتهم فقتلوهم , وخرجوا على أهل هدايتهم فقهروهم ! أتراهم ما علموا أو علموا وما رعوا فاعتدوا وظلموا ؟ فلا غرو إن بكت عليهم محاجري أو قرح السّهاد ناظري , أو تزايدت أوصابي أو أضرمت نار وجدي واكتئابي , فعلى الأطائب من أهل بيت الرّسول فليبك الباكون , وإيّاهم فليندب النّادبون , ولمثلهم تذرف الدّموع من العيون , أو لا تكونون كبعض مادحيهم حيث عرته الأحزان وتتابعت عليه الأشجان , فنظم وقال فيهم :

القصيدة للشيخ الجليل ابن مغامس ( رحمه الله تعالى )

أتطلب دنيا بعد شيب قذال

وتذكر أياماً مضت وليال

٢٩٣

وتظهر عن بان الغوير تجلداً

وتصبو إلى نور له وضلال

إذا كنت تستحي من العار خالياً

فما لك تهوي قد كل غزال

فكم تركب الأخطار في تبع الهوى

ولا يخطر الذكر الجميل ببال

أما كان في شيب القذال هداية

فيهديك نور الشيب بعد ضلال

أتأمل في دار الغرور إقامة

لأنت حريص في طلاب محال

تيقض فأني قد رأيتك مقبلاً

عليها وللأخرى رأيتك قالي

تمسكت فيها بالغرور كمثل ما

تمسكت من نوم بطيف خيالي

فيا زلة أسرفت فيها تنغصت

لخيفتها نفسي بكل زلال

فيا سوأتاه إن حان بيني وهذه

سبيلي ولم أحذر قبيح فعالي

وكان جديراً أن يموت صبابة

فتى حاله في المذنبين كحالي

فيا قلب هل لا تستقيل من الخطا

وليس مصر في غد بمقال

تزود من الأيام خيراً فإنها

بلاغ لمشغوف بحسن مآل

اتخدعني الدُنيا وقد شاب مفرقي

وأصبحت معقولاً لها بعقالي

وانسي مساربها وما طال عهدها

وأسعى لها بالجهل سعي خيال

ولي أسرة فيها بآل مُحمّد

بني خير مبعوث وأكرم آل

تقسمهم ريب المنون فاصبحوا

عباديد أشتاتاً بكل محال

فبين شريد ترتمي غربة النوى

به بين غيطان وبين جبال

وبين صليب ماثل فوق جذعه

تهب عليه من صبي وشمال

وبين دفين وهو حي ومختف

يراقب خوفاً من وقوع نكال

وبين سميم قد سرى في عظامه

من السم قتال بغير قتال

فيا ليت شعري من أنوح ومن له

أروح وما قلبي عليه بسال

أأشجو علياً حين عمم رأسه

بمنصلت ذي رونق وصقال

له أم لبنت الـمُصطفى بعدما مضى

قضت لم تفز من إرثها بخلال

أم الحسن الزاكي سقته جعيدة

قضى بين أنصار له وموال

وإن حنيني للشهيد بكربلا

لباق فلا يقضى له بزوال

فديت إماماً بالطواف كإنما

ركائبه قد قيدت بحبال

٢٩٤

فأول لأنصار لديه وكلهم

ركوب على خيل لهم وجمال

أفيكم خبير باسمها قيل بكربلا

فقال انزلوا فيها ليوم نزال

ففي هذه حقاً محط رحالنا

وفلق رؤوس بيننا وقلال

وفي هذه حقاً ستسبي بذلة

لنا خير نسوان وخير رجال

وفي هذه حقاً ستغدوا رؤوسنا

تعلى على سمر لها وعوال

فديتك من ناع إلى الناس نفسه

ومؤذن أهليه بوشك وبال

كأن حياة النفس غير أحينة

فما لك لا ترو لها بوصال

لعمرك إن الموت مر مذاقه

فما بال طعم الموت عندك خالي

فديت وحيداً قد أحاط برحله

لآل أبي سفيان جيش ضلال

يقول لأنصار له قد ابحتكم

ذمامي وعهدي فاسمعوا لمقال

ألا فارحلوا فالليل مرخ سدوله

عليكم ومنهاج البسيطة خال

فما لهم من مطلب قد تألبوا

عليه سوى قتلي ونهب رحالي

فقالوا جميعاً ما يقال لنا وما

نقول جواباً عند رد سؤال

تقيك من الموت الشديد نفوسنا

ويرخص عند النفس ما هو غال

أمن فرق نبغي الفريق وكلنا

لأولاده والعيش بعدك قال

فطوبى لهم قد فاز والله سعيهم

فكلهم في روضة وظلال

فديت إماماً بعد قتل حماته

ينادي بصوت في البرية عال

يقول لهم إن تتقوا الله ربكم

فقتلي لكم والله غير حلال

فديت الذي يرنو الفرات بغلة

وما بلها من بردها ببلال

فديت فتى قد خر من سرج مهره

كما خر طود من منيف جبال

فديت صريعاً قد علا الشمر صدره

لقطع وريد أو لحز قذال

فديت طريحاً تركض الخيل فوقه

ترض جناجي صدره بنعال

فديت طريحاً أجمعوا بعد قتله

على نهب نسوان له وعيال

فديت قتيلاً رأسه فوق ذابل

كالبدر يزهو في أتم كمال

فديت علياً في آثاره يغتدي

به في قيود للعدو ثقال

فديت لنسوان الحُسين وأهله

أسارى حيارى في سبي ووبال

٢٩٥

فديت وقد قامت تناديه زينب

بصوت مبين عن فجيعة بال

أخي ليس دمعي ما حييت بجامد

عليك ولا قلبي عليك بسال

أخي أن تكن فارقت لا عن ملالة

فقد كنت قداماً زينتي وجمال

أخي كيف أرجو في زماني مسيرة

وقد فارقت كف اليمين شمال

أخي كيف أدعو لا تجيب كأنما

تركت وصالي أو صرمت حبالي

أخي كيف بعد القرب منك طردتني

وبعد دنوي يا أخي وجلالي

أخي لو رأت عيناك ما قد أصابني

أساءك فيما نالني وجرا لي

أخي إن وجهي قد تبدل حسنه

ومما جرى لي قد تغير حالي

أخي إن فدت نفس لنفس من الردى

فنفسي إذاً تفديك منه ومالي

أخي قد دهتني الحادثات وقد برت

نوائبها جسمي كبرى خلال

أخي كيف يفني الدهر عني خطوبه

وقد كنت فيه عدتي وثمالي

وسار ابن سعد بالسبايا حواسراً

على خلس انقاض لهم ورحال

ينادين بالمختار يا خير مرسل

وأكرم ماض في الزمان وتال

أيا جدنا ما عبد شمس فدورهم

جوار وأما دورنا فخوال

أيا جدنا عض الزمان بنانه

وصالت بنا الأيام أي مصال

أيا جدنا أما الرزايا فإننا

نقاسي لظى نيرانها بنصال

أيا جد ما أبقوا علينا بقية

ولا فتروا في أخذنا بنكال

أيا جد لم يربع بنا لاستراحة

على ما نلاقي من جوى وكلال

أيا جد لأردن تغطى رؤوسنا

ولا انتعلت أقدامنا بنعال

أيا جد جد الدهر من بعد هزله

على لاغبات في المصاب هزال

أيا جد هذا السبط في كنف كربلا

لقي بين دكداك وبين تلالي

دعوهم إليهم طالبين قدومه

لإرشاد غاو أو لبذل نوال

فلما أتاهم صار فرداً لديهم

قرين جلاد بينهم وجدال

شكا عطشاً والماء طام ودونه

رغال لهم قد اردفت برغال

يحاول منهم شربة فترده

بسمر لها قد أشرعت ونصال

فذاق الردى صبراً وما ذاق شربه

نزيل أواما مؤذناً بزوال

٢٩٦

بنوك أبيدوا والبنات بذلة

يسقن هدايا فوق نيب جمال

أيا جد لو شاهدت ما قد جرى لنا

لابصرتنا شعثاً بأسوء حال

وحسن وجوه قد تولى سعودها

توالي عليها الحزن أي نوال

بني الـمُصطفى يا صفوة الله إن لي

فؤاداً من الترنيح ليس بخال

حنيني إليكم لا يقاس بمثله

حنين حمام أم حنين فصال

ولو مر في تالي الزمان متيم

بشجو رثى فيكم لرثى لي

وهل أملك السلوان عن حُبّ سادة

إليهم إذا حل الحساب مآلي

فإن فاتني في عرصة الطف نصركم

وأجر به أن لا يفوت مقالي

ودونكم منّي عروساً زففتها

إليكم كما زفت عروس حجال

منظمة الألفاظ بكر كأنما

على جيدها يزهو عقود لآل

وما كلمت إلّا لأن كلامهما

جرى من معانيكم صفات كمال

فإن صح قبلان لها من مغامس

فلست بعقبى ما جنوت أبالي

عليكم سلام الله ما لاح بارق

وما لاح وسمى بصوت سجالي

الباب الثّاني

إنّ فضل أئمة الـمُسلمين لا يُحصى كثرة ولو اجتمع له كافّة العالمين , ولعمري , إنّ في فضيلة من فضائلهم عبرة للمعتبرين وذكرى للمتبصّرين , إلّا مَن أغواه الشّيطان فأصمّ سمعه وعميت منه العينان , فتصير عاصية عليه وإن كان ينظر بعينيه.

روي عن الإمام الصّادق (عليه‌السلام ) , قال : (( كان من بني مخزوم لهم خولة من عليّ (عليه‌السلام ) , فأتاه شابّ منهم فقال : يا خال , مات قريب لي فحزنت عليه حزناً شديداً .قال : أفتحبّ أن تراه ؟ قال : نعم .قال : فانطلق بنا إلى قبره .فلمّا وافى إليه , وقف عليه ودعى الله تعالى , وقال : يا فلان , قُم بإذن الله تعالى .فإذا الميت جالس على شفير القبر وهو يقول : زينة شالا - معناه : لبيك لبيك سيّدنا - فقال أمير المؤمنين : ما هذا اللسان , ألم تمت وأنت رجل من العرب ؟ قال : بلى ، ولكنّي متّ وأنا على ولاية غيرك , فاُدخلت النّار وانقلب لسانى إلى لسان أهل النّار ))

وعن

٢٩٧

صالح بن عقبة عن جعفر بن مُحمّد (عليه‌السلام ) , قال : (( لمـّا هلك أبو بكر [و](١) استخلف عمر , رجع [عمر] إلى المسجد فدخل عليه رجل , فقال : يا أمير المؤمنين , إنّي رجل من اليهود وأنا من ملّتهم , وقد أردت أن أسألك عن مسائل إن أجبتني فيها أسلمت ، قال : وما هي ؟ قال : ثلاث وثلاث وواحدة ، فإن سألتك وإن كان في قومك أحد أعلم منك فارشدني إليه.قال : عليك بذاك الشّاب - يعني : عليّ بن أبي طالب (عليه‌السلام ) - فأتى عليّاً فسأله ، فقال له : [لِمَ] قُلت : ثلاثاً [و] ثلاثاً وواحدة ألا قُلت سبعاً ؟ قال : أنا إذاّ جاهل , إن لم تجبني في الثّلاث اكتفيت .قال : فإن أجبتك تسلم ؟ .[ قال : نعم.قال : سل .] قال : أسألك عن أوّل حجر وضع على وجه الأرض , وأوّل عين نبعت , وأوّل شجرة نبتت ؟ قال : يا يهودي , أنتم تقولون أوّل حجر وضع على وجه الأرض الحجر الذي في بيت المقدس , كذبتم هو الحجر الذي نزل به آدم من الجنّة .قال : صدقت والله , إنّه لبخطّ هارون وإملاء موسى (عليه‌السلام ) .قال : وأنتم تقولون أوّل عين نبعت على وجه الأرض العين التي ببيت المقدس , كذبتم هي عين الحياة التي غسل فيها يوشع بن نون السّمكة , وهي العين التي شرب منها الخضر (عليه‌السلام ) , وليس يشرب منها أحد إلّا حي .قال : صدقت والله , إنّه لبخطّ هارون وإملاء موسى (عليه‌السلام ) .قال : وأنتم تقولون إنّ أوّل شجرة نبتت على وجه الأرض الزّيتون , وكذبتم بل هي العجوة [التي] نزل بها [آدم](عليه‌السلام ) من الجنّة معه .قال : صدقت والله , إنّه لبخطّ هارون وإملاء موسى (عليه‌السلام ) .قال : والثّلاث الاُخرى , كم لهذه الاُمّة من إمام هُدى لا يضرّهم مَن خذلهم ؟ قال : اثنا عشر إماماً .قال : صدقت والله , وإنّه لبخطّ هارون وإملاء موسى .قال : فأين يسكن نبيّكم من الجنّة ؟ قال : في أعلاها ذروة وأشرفها مكاناً في جنّات عدن .قال : صدقت والله , إنّه لبخطّ هارون وإملاء موسى (عليه‌السلام ) .قال : فمَن ينزل معه في منزله ؟ قال : اثنا عشر إماماً .قال : صدقت [والله] , إنّه لبخطّ هارون وإملاء موسى (عليه‌السلام ) .قال : السّابعة وأسلم , كم يعيش وصيّه بعده ؟ قال : ثلاثين سنة .قال : ثمّ يموت أو يُقتل ؟ قال : يُقتل , يُضرب على قرنه فيخضب لحيته .قال : صدقت والله , وإنّه لبخطّ هارون وإملاء موسى (عليه‌السلام ) )).

فانظروا يا إخواني , هل يوجد مثل هذا الشّخص الرّباني ؟

____________________

(١) كلّ ما هو موجود بين المعقوفتين في هذه الرّواية , هو منقول من كتاب الخصال للشيخ الصّدوق / ٤٧٦ - ٤٧٧ .(معهد الإمامين الحسنين).

٢٩٨

الله ألبسه في يوم مغرسه

ثياب حمد نقيات من العار

رفاع معضلة حمال مثقلة

دراك وتر ودفاع لا وتار

بنوه المعصومون سادات الدُنيا وشفعاء الخلق في الاُخرى ، الجنّة دار مَن والاهم والنّار سجن مَن عاداهم , أخذ الله لهم على الخلق المواثيق , وأكّد لهم على عباده العهد الوثيق.

نُقل أنّه افتخرت النّار على الجنّة , وقالت : أنا مسكن الملوك والجبابرة والقساورة , وأنت لا يسكنك إلّا الفقراء والمساكين.فشكت الجنّة إلى ربّها , فأتاها النّداء : (( اسكتي وعزّتي وجلالي , لأزينك يوم القيامة بمُحمّد خيرتي من بريّتي , وعليّ ولي أمري وخليفتي , وفاطمة الزّهراء التي مَن أحبّها اُفطم من النّار بإرادتي , والحسن والحُسين سيّدي شباب أهل الجنّة رحمتي , والأئمة المعصومين زبدة خليقتي , وشيعتهم يتنافسون في قصورك بعطيتي )).

فيا إخواني , لقد اُصيب الإسلام بمصيبة ما أعظمها وأدهى بداهية دهماء ما أدهمها , مصيبة نكّست رؤوس أهل الإيمان وعلت مناكب الطّغيان , فليت شعري , مَن أوصى بقتلهم ومَن أمر بتبديد شملهم ؟ ويلهم كأنّهم نسوا المعاد إلى ربّ العباد ! وسيعلمون إلى أيّ مُنقلب ينقلبون :

تريدون منّي يا عواذل سلوة

عن الحزن هذا مطلب ليس يعقل

فو الله لا أنسى مصابي بسادتي

إلى أن يواريني لحود وجندل

إذا ذكرت نفسي مصاب أحبتي

يظل فؤادي والحشا يتقلقل

فاوطان قلبي بالهموم ملاءته

وباب سرور القلب بالهم مقفل

وأي نعيم خلف السبط بعده

ففي القلب حزن ثابت لا يحول

كأني به والطير يحجل حوله

سليباً رداه في التراب مرمل

كأني به والشمر ينحر نحره

ومولاي من حر الظما يتململ

ولم أنسها بنت الحُسين سكينة

تشير إلى عماتها وهي تسأل

أيا عمتا ما للأصاغر ذبحوا

وما بال قومي بالصوارم قتلوا

أيا عمتا ما للحرائر سلبوا

وما ذنبنا حتّى نهان ونرذل

ايا عمتا هذا الحُسين على الثرى

سليب الردا من حوله الطير يخجل

أيا عمتا لو تنظرين لنحره

تفيض دماء مثل ما فاض جدول

٢٩٩

ولو عاينت عيناك ما نال جسمه

وما فعلت فيه سيوف وذبل

لقد نصعوه بالصوارم والقنا

فللسمر نقط والصوارم تشكل

ألا لعن الرحمن آل أمية

وآل زياد كلما حن بزل

نُقل عن لوط بن يحيى في تاريخه , قال : قال عبد الله بن قيس بن ورقة : كنت ممّن غزا مع أمير المؤمنين عليّ (عليه‌السلام ) في صفّين , وقد أخذ أبو أيوب الأعور السّلمي الماء وحرزه عن النّاس , فشكى الـمُسلمون العطش , فأرسل فوارس على كشفه , فانصرفوا خائبين فضاق صدره , فقال له ولده الحُسين (عليه‌السلام ) : (( أمضي إليه يا أبتاه )) فقال : (( امض يا ولدي )).فمضى مع فوارس , فهزم أبا أيوب عن الماء وبنى خيمته وحطّ فوارسه , وأتى إلى إبيه وأخبره , فبكى عليّ (عليه‌السلام ) ، فقيل له: ما يبكيك يا أمير المؤمنين وهذا أوّل فتح بوجه الحُسين ؟ قال : (( صحيح يا قوم , ولكن سيُقتل عطشاناً بطفّ كربلاء حتّى تنفر فرسه وتحمحم وتقول : الظّليمة الظّليمة من اُمّة قتلت ابن بنت نبيّها ))

تخيرتهم رشداً لأمري أنهم

على الحق بل هم خيرة الخيرات

فيا رب زدني في يقيني بصيرة

وزد حبهم يا رب في حسناتي

روى سلمان الفارسي , قال : دخلت إلى النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) , فإذا الحُسين (عليه‌السلام ) على فخذه وهو يقبّل عينيه ويلثم فاه وهو يقول : (( أنت سيّد ابن السّيّد , أنت الإمام ابن الإمام , أنت حجّة ابن الحجّة أبو الحجج تسعة من صلبك تاسعهم قائمهم)).

وعن ابن عباس , قال : قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : (( فاطمة مهجة قلبي , وابناها ثمرة فؤادي , وبعلها نور بصري , والأئمّة من ولده اُمناء ربّي وحبله الممدود بينه وبين خلقه , مَن اعتصم بهم نجى ومَن تخلّف عنهم هلك )).

وعن أبي جعفر (عليه‌السلام ) , قال : (( سأل ابن الكوا أمير المؤمنين , فقال : ما معنى قوله تعالى :( وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ ) (١) ؟ فقال : نحن أصحاب الأعراف , نعرف أصحابنا بسيماهم , نقف بين الجنّة والنّار , فلا يدخل الجنّة إلّا مَن عرفنا وعرفناه , ولا يدخل النّار إلّا مَن أنكرنا وأنكرناه )) :

فمن مثل مولانا عليّ الذي له

مُحمّد خير المرسلين خليل

____________________

(١) سورة الأعراف / ٤٦.

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

اندفعت المطالبة عنه ، وبرئ المشتري من الحقّين ؛ لأنّ البائع قد ثبت بالبيّنة أنّه قبض ، والآذن قد ثبت أنّ وكيله - وهو البائع - قد قبض.

ولو شهد له الشريك الآذن ، لم تُقبل شهادته في نصيبه ؛ لأنّه لو ثبت ذلك لطالَب المشهود عليه بحقّه ، وذلك جرّ نفعٍ ظاهر ، فلا تُقبل ؛ للتهمة.

وهل تُقبل شهادته في نصيب البائع؟ قال بعض علمائنا : نعم(١) .

وللشافعيّة قولان مبنيّان على أنّ الشهادة إذا رُدّت في بعض ما شهدت به ؛ للتهمة ، فهل تردّ في الباقي؟(٢) .

ولو لم يكن للمشتري بيّنة بالقبض ، كان القولُ قولَ البائع مع يمينه ؛ لأنّه منكر ، والأصل عدم القبض ، فيحلف البائع أنّه لم يقبض ، فإذا حلف أخذ نصيبه من المشتري ، ولا يشاركه الآذن ؛ لإقراره أنّ البائع قبض أوّلاً ما هو الحقّ ، ويزعم أنّ الذي قبضه ثانياً بيمينه ظلم ، فلا يستحقّ مشاركته فيه ، فإن نكل البائع عن اليمين رُدّت اليمين على المشتري ، فإذا حلف أنّه أقبض البائع جميع الثمن انقطعت المطالبة عنه ، ولو نكل المشتري أيضاً أُلزم بنصيب البائع.

وقال بعض الشافعيّة : لا يُلزم بنصيب البائع أيضاً ؛ لأنّا لا نحكم بالنكول(٣) .

وهو غلط ؛ لأنّ هذا ليس حكماً بالنكول ، وإنّما هو مؤاخذة له بإقراره بلزوم المال بالشراء ابتداءً.

____________________

(١) لم نهتد إلى القائل به ، وراجع المبسوط - للطوسي - ٢ : ٣٥٣.

(٢) الحاوي الكبير ٦ : ٤٩٠ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٥٤ ، بحر المذهب ٨ : ١٤١ ، الوسيط ٣ : ٢٧٠ ، حلية العلماء ٥ : ١٠٦ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٠٤ ، البيان ٦ : ٣٤٦ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٩٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٥١٩.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٩٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٥١٩.

٣٦١

فإذا انفصلت(١) [ خصومة ](٢) البائع و(٣) المشتري فلو جاء الشريك الآذن وطالَب البائعَ بحقّه ؛ لزعمه أنّه قبض جميع الثمن ، فعليه البيّنة ، ويُقدَّم قول البائع مع اليمين أنّه لم يقبض إلّا نصيبه بعد الخصومة الجارية بينهما ، فإن نكل البائع حلف الآذن وأخذ منه نصيبه ، ولا يرجع البائع به على المشتري ؛ لأنّه يزعم أنّ شريكه ظَلَمه بما فَعَل ، ولا يمنع البائعَ من الحلف نكولُه عن اليمين في الخصومة مع المشتري ؛ لأنّها خصومة أُخرى مع خصمٍ آخَر.

هذا إذا تقدّمت خصومة البائع والمشتري وتبعتها خصومة الشريكين ، وأمّا إن تقدّمت خصومة الشريكين فادّعى الذي لم يبع قبضَ الثمن على البائع وطالَبه بحقّه وأنكر البائع ، قُدّم قوله مع اليمين ، وكان على الشريك الآذن البيّنة بأنّ البائع قبض الثمن ، ولا تُقبل شهادة المشتري له بحالٍ البتّة ؛ لأنّه يدفع عن نفسه ، فإن فُقدت البيّنة حلف البائع على أنّه ما قبض ، فإن نكل حلف الآذن على أنّه قبض ، وأخذ نصيبه من البائع.

ثمّ إذا انفصلت الخصومة بين الشريكين ، فلو طالَب البائع المشتري بحقّه ، وادّعى المشتري الأداءَ ، فعليه البيّنة ، فإن لم تكن بيّنة حلف البائع ، وقبض حقّه ، فإن نكل حلف المشتري وبرئ ، ولا يمنع البائعَ من أن يحلف ويطلب من المشتري حقَّه نكولُه في الخصومة الأُولى مع شريكه.

وللشافعيّة وجهٌ : إنّه يمنع ؛ بناءً على أنّ يمين الردّ كالبيّنة أو كإقرار المدّعى عليه؟ إن كانت كالبيّنة فكأنّه قامت البيّنة على قبضه جميعَ الثمن ،

____________________

(١) في « خ » : « انقضت » بدل « انفصلت ».

(٢) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « حكومة ». والظاهر ما أثبتناه.

(٣) في « ث ، خ ، ر » : « مع » بدل « و».

٣٦٢

وإن كانت كالإقرار فكأنّه أقرّ بقبض جميع الثمن ، وعلى التقديرين يمنع عليه مطالبة المشتري(١) .

وضعّفه باقي الشافعيّة ؛ لأنّ اليمين إنّما تجعل كالبيّنة أو كالإقرار في حقّ المتخاصمين وفيما فيه تخاصمهما لا غير ، ومعلومٌ أنّ الشريك إنّما يحلف على أنّه قبض نصيبه ، فإنّه الذي يطالب به ، فكيف تؤثّر يمينه في غيره!؟(٢) .

وعلى ضعفه فقد قال الجويني : [ القياس ](٣) طرده فيما إذا تقدّمت خصومة البائع والمشتري ونكل البائع وحلف المشتري اليمينَ المردودة حتى يقال : تثبت للّذي لم يبع مطالبة البائع بنصيبه من غير تجديد خصومةٍ ؛ لكون يمين الردّ بمنزلة البيّنة أو الإقرار(٤) .

مسألة ١٧٩ : لو باع الشريك - المأذون له في البيع - العبدَ ، ثمّ اختلف الشريكان‌ ، فادّعى البائع على الآذن بأنّه قبض الثمن بأسره من المشتري ، فأنكر الآذن القبضَ ، وصدّق المشتري المدّعي ، فإن كان الآذن في البيع مأذوناً له في القبض للثمن من جهة البائع ، برئ المشتري من حصّة البائع ؛ لأنّه قد اعترف بأنّ وكيله قد قبض.

ثمّ تُفرض حكومتان كما تقدّم.

فإن تخاصم الذي لم يبع والمشتري ، فالقول قول الذي لم يبع في عدم القبض ، فيحلف ويأخذ نصيبه ويسلّم إليه المأخوذ.

وإن تخاصم البائع والذي لم يبع ، حلف الذي لم يبع ، فإن نكل‌

____________________

(١ و ٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٠٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٥١٩.

(٣) ما بين المعقوفين أثبتناه من المصدر.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٠٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٥١٩.

٣٦٣

حلف البائع ، وأخذ منه نصيبه ، ولا رجوع له على المشتري.

ولو شهد البائع للمشتري على القبض ، لم تُقبل ؛ لأنّه يشهد لنفسه على الذي لم يبع.

وإن لم يكن الآذن في البيع مأذوناً له في القبض من جهة البائع ، لم تبرأ ذمّة المشتري عن شي‌ءٍ من الثمن.

أمّا عن حقّ الذي لم يبع : فلأنّه منكر للقبض ، والقول قوله في إنكاره مع اليمين.

وأمّا عن حقّ المباشر للبيع : فلأنّه لم يعترف بقبضٍ صحيح.

ثمّ لا يخلو إمّا أن يكون البائع مأذوناً من جهة الذي لم يبع في القبض ، أو لا يكون هو مأذوناً أيضاً.

فإن كان مأذوناً ، فله مطالبة المشتري بنصيبه من الثمن ، ولا يتمكّن من مطالبته بنصيب الذي لم يبع ؛ لأنّه لـمّا أقرّ بقبض الذي لم يبع نصيب نفسه فقد صار معزولاً عن وكالته.

ثمّ إذا تخاصم الذي لم يبع والمشتري ، فعلى المشتري البيّنة على القبض ، فإن لم تكن بيّنة فالقول قول الذي لم يبع.

فإذا حلف ، ففي مَنْ يأخذ حقّه منه للشافعيّة وجهان :

قال المزني منهم : إن شاء أخذ تمام حقّه من المشتري ، وإن شاء شارك البائع في المأخوذ ، وأخذ الباقي من المشتري ؛ لأنّ الصفقة واحدة ، وكلّ جزءٍ من الثمن شائع بينهما ، فإن أخذ بالخصلة الثانية لم يبق مع البائع إلّا ربع الثمن(١) .

____________________

(١) بحر المذهب ٨ : ١٤٣ ، الوسيط ٣ : ٢٧٠ ، حلية العلماء ٥ : ١٠٦ ، التهذيب =

٣٦٤

و [ يفارق ](١) هذا ما إذا كان الذي لم يبع مأذوناً في القبض حيث لا يشاركه البائع فيما أخذه من المشتري ؛ لأنّ زعمه أنّ الذي لم يبع ظالمٌ فيما أخذه ، فلا يشاركه فيما ظلم به(٢) .

وقال آخَرون منهم ابن سريج : ليس له إلّا أخذ حقّه من المشتري ، ولا يشارك البائع فيما أخذه ؛ لأنّ البائع قد انعزل عن الوكالة بإقراره : إنّ الذي لم يبع قَبَض حقَّه ، فما يأخذه بعد الانعزال يأخذه لنفسه خاصّةً(٣) .

وقال آخَرون : إنّه وإن انعزل فالمسألة تحتمل وجهين بناءً على أنّ مالكَي السلعة إذا باعاها صفقةً واحدة هل ينفرد أحدهما بقبض حصّته من الثمن؟ فيه وجهان :

أحدهما : لا ، بل إذا انفرد بأخذ شي‌ءٍ شاركه الآخَر فيه ، كما أنّ الحقّ الثابت للورثة لا ينفرد بعضهم باستيفاء حصّته منه ، ولو فَعَل شاركه الآخَرون فيه ، وكذا لو كاتبا عبداً صفقةً واحدةً ، لم ينفرد أحدهما بأخذ حقّه من النجوم.

والثاني : نعم ، كما لو باع كلّ واحدٍ منهما نصيبَه بعقدٍ مفرد ، بخلاف الميراث والكتابة ، فإنّهما لا يثبتان في الأصل بصفة التجزّي ؛ إذ لا ينفرد‌

____________________

= - للبغوي - ٤ : ٢٠٥ ، البيان ٦ : ٣٤٨ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٠٠ - ٢٠١ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٢٠.

(١) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « يقارب ». والصحيح ما أثبتناه من « العزيز شرح الوجيز ».

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٠١.

(٣) بحر المذهب ٨ : ١٤٤ ، الوسيط ٣ : ٢٧١ ، حلية العلماء ٥ : ١٠٦ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٠٥ - ٢٠٦ ، البيان ٦ : ٣٤٨ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٠١ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٢٠.

٣٦٥

بعض الورثة ببعض أعيان التركة ، ولا تجوز كتابة البعض من العبد ، فلذلك لم يجز التجزّي في القبض(١) .

ولو شهد البائع للمشتري على أنّ الذي لم يبع قد قبض الثمن ، فعلى قول المزني لا تُقبل شهادته ؛ لأنّه يدفع بها شركة صاحبه فيما أخذه(٢) ، وعلى قول ابن سريج تُقبل(٣) .

وإن لم يكن البائع مأذوناً في القبض ، قال بعض الشافعيّة : للبائع مطالبة المشتري بحقّه هنا ، وما يأخذه يسلم له ، وتُقبل هنا شهادة البائع للمشتري على الذي لم يبع(٤) .

وقال آخَرون : ينبغي ثبوت الخلاف في مشاركة صاحبه فيما أخذه ، ويُخرَّج قبول الشهادة على الخلاف(٥) .

مسألة ١٨٠ : لو غصب واحد نصيبَ أحد الشريكين بأن نزّل نفسه منزلته‌ ، فأزال يده ولم يُزل يدَ صاحبه الآخَر ، بل استولى على العبد ومَنَع أحدَهما الانتفاع به دون الآخَر ، فإنّه يصحّ من الذي لم يغصب نصيبه بيع نصيبه ، ولا يصحّ من الآخَر بيع نصيبه ، إلّا من الغاصب ، أو ممّن يتمكّن من انتزاعه من يد الغاصب.

ولو باع الغاصب والذي لم يغصب نصيبه جميعَ العين في عقدٍ واحد ، صحّ في نصيب المالك ، ووقف نصيب الآخَر إن أمضاه المغصوب منه صحّ ، وإلّا فلا.

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٠١.

(٢ و ٣) الوسيط ٣ : ٢٧١ ، حلية العلماء ٥ : ١٠٧ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٠٦ ، البيان ٦ : ٣٤٩ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٠١ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٢٠.

(٤ و ٥) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٠١ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٢٠.

٣٦٦

وقالت الشافعيّة : يصحّ في نصيب مَنْ لم يغصب منه ، ويبطل في الآخَر ، ولا يُخرَّج على الخلاف في تفريق الصفقة عندهم ؛ لأنّ الصفقة تتعدّد بتعدّد البائع(١) .

ومنهم مَنْ قال : يبنى القول في نصيب المالك على أنّ أحد الشريكين إذا باع نصفَ العبد مطلقاً ينصرف إلى نصيبه أو يشيع؟ وجهان ، فإن قلنا : ينصرف إلى نصيبه ، صحّ بيع المالك في نصيبه ، وإن قلنا بالشيوع ، بطل البيع في ثلاثة أرباع العبد ، وفي ربعه قولان.

ولا يُنظر إلى هذا البناء فيما إذا باع المالكان معاً وأطلقا ، ولا يُجعل كما إذا أطلق كلّ واحدٍ منهما بيعَ نصف العبد ؛ لأنّ هناك تناول العقد الصحيح جميعَ العبد(٢) .

مسألة ١٨١ : قد بيّنّا(٣) أنّ شركة الأبدان باطلة ، سواء اشترك العمل أو اختصّ بأحدهما وتقبّل الآخَر.

فلو قال واحد لآخَر : أنا أتقبّل العمل وأنت تعمل والأُجرة بيننا بالسويّة أو على نسبة أُخرى ، لم يصح عند علمائنا - وبه قال زفر(٤) - ولا يستحقّ العامل المسمّى ، بل له أُجرة المثل.

وقال أحمد : تصحّ الشركة ؛ لأنّ الضمان يستحقّ به الربح بدليل شركة الأبدان ، وتقبّل العمل يوجب الضمان على المتقبّل ، ويستحقّ به الربح ،

____________________

(١) بحر المذهب ٨ : ١٤٥ ، حلية العلماء ٥ : ١٠٨ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٠٧ ، البيان ٦ : ٣٤٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٠٢ - ٢٠٣ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٢١.

(٢) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٠٧ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٠٣ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٢١.

(٣) في ص ٣١٢ ، المسألة ١٤٢.

(٤) المغني ٥ : ١١٣ ، الشرح الكبير ٥ : ١٨٧.

٣٦٧

فصار كتقبّله المالَ في المضاربة ، والعمل يستحقّ به العامل الربح كعمل المضاربة ، فينزَّل منزلة المضاربة(١) .

والحكم في الأصل ممنوع.

مسألة ١٨٢ : الربح في شركة الأبدان على نسبة العملين ، لا على الشرط الذي شرطاه‌ ، عند علمائنا ؛ لأنّ الشركة باطلة على ما تقدّم(٢) بيانه.

وقال أحمد : إنّها صحيحة ، والشركة على ما اتّفقوا عليه من مساواةٍ أو تفاضلٍ ، ولكلٍّ منهما المطالبة بالأُجرة ، وللمستأجر دفعها إلى كلّ واحدٍ منهما ، وإلى أيّهما دفع برئ منها ، وإن تلفت في يد أحدهما من غير تفريطٍ فهي من ضمانهما معاً ؛ لأنّهما كالوكيلين في المطالبة ، وما يتقبّله كلّ واحدٍ منهما من عملٍ فهو من ضمانهما يطالب به كلّ واحدٍ منهما ، ويلزمه عمله ؛ لأنّ هذه الشركة لا تنعقد إلّا على الضمان ، ولا شي‌ء منها تنعقد عليه الشركة حال الضمان ، فكأنّ الشركة تتضمّن ضمان كلّ واحدٍ منهما عن الآخَر ما يلزمه.

ولو أقرّ أحدهما بما في يده ، قُبِل عليه وعلى شريكه ؛ لأنّ اليد له ، فيُقبل إقراره بما فيها ، ولا يُقبل إقراره بما في يد شريكه ولا بدَيْنٍ عليه(٣) .

وهذا كلّه عندنا باطل.

ولو عمل أحدهما دون صاحبه ، فالكسب للعامل خاصّةً عندنا ، وإن حصل من الآخَر سفارة فله أُجرته عليها.

وقال أحمد : إذا عمل أحدهما خاصّةً ، كان الكسب بينهما على‌

____________________

(١) المغني ٥ : ١١٣ و ١١٤ ، الشرح الكبير ٥ : ١٨٧ و ١٨٨.

(٢) في ص ٣١٢ - ٣١٣ ، المسألة ١٤٢.

(٣) المغني ٥ : ١١٤ ، الشرح الكبير ٥ : ١٨٨.

٣٦٨

ما شرطاه ، سواء ترك العمل لمرضٍ أو غيره ، ولو طالَب أحدهما الآخَر أن يعمل معه ، أو يقيم مقامه مَنْ يعمل ، فله ذلك ، فإن امتنع فللآخَر الفسخ(١) .

وهو باطل عندنا على ما سلف(٢) .

ولو كان لقصّارٍ أداةٌ ولآخَر بيتٌ ، فاشتركا على أن يعملا بأداة هذا في بيت هذا والكسب بينهما ، جاز ، والأجر بينهما على ما شرطاه ، عند أحمد ؛ لأنّ الشركة وقعت على عملهما ، والعمل يستحقّ به الربح في الشركة ، والآلة والبيت لا يستحقّ بهما شي‌ء(٣) .

وعندنا أنّ هذه الشركة باطلة ، وقد سلف(٤) .

مسألة ١٨٣ : إذا كانت الشركة باطلةً ، قسّما الربح على قدر رؤوس أموالهما‌ ، ويرجع كلٌّ منهما على الآخَر بأجر عمله - وبه قال أبو حنيفة والشافعي وأحمد في إحدى الروايتين(٥) - لأنّ المسمّى يسقط في العقد الفاسد ، كالبيع الفاسد إذا تلف المبيع في يد المشتري ، والنماء فائدة مالهما ، فيكون تابعاً للأصل ، كالثمرة.

والرواية الأُخرى لأحمد : إنّهما يقتسمان الربح على ما شرطاه ، ولا يستحقّ أحدهما على الآخَر أجر عمله ، وأجراها مجرى الصحيحة ؛ لأنّه عقد يصحّ مع الجهالة ، فيثبت المسمّى في فاسده ، كالنكاح(٦) .

____________________

(١) المغني ٥ : ١١٤ و ١١٥ ، الشرح الكبير ٥ : ١٨٩.

(٢) في ص ٣٤٠ - ٣٤١ ، المسألة ١٦١.

(٣) المغني ٥ : ١١٦ ، الشرح الكبير ٥ : ١٩١.

(٤) في ص ٣٤٥ ، المسألة ١٦٥.

(٥) الاختيار لتعليل المختار ٣ : ٢٦ ، الفقه النافع ٣ : ٩٩٦ / ٧٢١ ، البيان ٦ : ٣٣٣ ، المغني والشرح الكبير ٥ : ١٢٨.

(٦) المغني ٥ : ١٢٩ ، الشرح الكبير ٥ : ١٢٨.

٣٦٩

إذا عرفتَ هذا ، فلو كان مال كلّ واحدٍ منهما متميّزاً ، وكان ربحه معلوماً ، كان لكلٍّ ربحُ ماله ، ولا يشاركه الآخَر فيه.

ولو ربح في جزءٍ منه ربحاً متميّزاً وباقيه مختلطاً ، كان له تمام ما تميّز(١) من ربح ماله ، وله بحصّة باقي ماله من الربح.

مسألة ١٨٤ : ليس لأحد الشريكين أن يكاتب الرقيق ، ولا يعتق على مالٍ ولا غيره ، ولا يزوّج الرقيق‌ ؛ لأنّ الشركة منعقدة على التجارة ، وليست هذه الأنواع تجارةً ، لا سيّما تزويج العبد ؛ فإنّه محض ضررٍ.

وليس له أن يُقرض ولا يحابي ؛ لأنّه تبرّع.

وليس له أن يشارك بمال الشركة ولا يدفعه مضاربةً ؛ لأنّ ذلك يُثبت في المال حقوقاً ، ويستحقّ غير المالك ربحه ، وليس له ذلك إلّا بإذن ربّ المال.

وليس له أن يمزج مال الشركة بماله ، ولا مال غيره ؛ لأنّه تعيّب في المال.

وليس له أن يستدين على مال الشركة ، فإن فَعَل فربحه له ، وعليه خسرانه.

وقال بعض العامّة : إذا استدان شيئاً ، لزم الشريكين معاً ، وربحه لهما وخسرانه عليهما ؛ لأنّ ذلك تملّك مالٍ بمالٍ ، فأشبه الصرف(٢) .

وهو غلط ؛ لأنّه أدخل في الشركة أكثر ممّا رضي الشريك أن يشاركه فيه ، فلم يجز ، كما لو ضمّ إلى مال الشركة شيئاً من ماله ، ويفارق الصرف ؛ لأنّه بيع وإبدال عينٍ بعينٍ ، فهو كبيع الثياب بالدراهم.

____________________

(١) في « ج » والطبعة الحجريّة : « يتميّز ».

(٢) المغني ٥ : ١٣٠ ، الشرح الكبير ٥ : ١٢٣.

٣٧٠

وليس له أن يُقرّ على مال الشركة ، فإن فَعَل لزم في حقّه دون صاحبه ، سواء أقرّ بدَيْنٍ أو عينٍ ؛ لأنّ شريكه إنّما أذن له في التجارة ، والإقرار ليس منها.

ولو أقرّ بعيبٍ في عينٍ باعها أو أقرّ الوكيل على موكّله بالعيب ، لم يُقبَل ، خلافاً لأحمد(١) .

ولو أقرّ بقبض ثمن المبيع أو أجر المكاري والحمّال وأشباه ذلك ، فالأقرب : القبول ؛ لأنّه من توابع التجارة ، فكان له ذلك كتسليم المبيع وأداء ثمنه.

ولو رُدّت السلعة عليه بعيبٍ ، قَبِلها ، أو أعطى أرشها.

ولو حطّ من الثمن شيئاً أو أسقط دَيْناً لهما عن [ غريمهما ](٢) لزم في حقّه ، وبطل في حقّ شريكه ؛ لأنّ ذلك تبرّع ، والتبرّع يمضى في حصّته دون شريكه.

ولو كان لهما دَيْنٌ حالّ فأخّر أحدهما حصّته من الدَّيْن ، جاز - وبه قال أبو يوسف ومحمّد(٣) - لأنّه أسقط حقّه من التعجيل ، فصحّ أن ينفرد به أحدهما ، كالإبراء.

وقال أبو حنيفة : لا يجوز(٤) .

مسألة ١٨٥ : قد بيّنّا أنّ الشركة تتضمّن نوع وكالةٍ ، ولا يتعدّى الشريك حدّ الوكالة ، فليس له أن يبيع نَسْأً.

____________________

(١) المغني ٥ : ١٣١ ، الشرح الكبير ٥ : ١٢٠.

(٢) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « غيرهما ». والمثبت كما في المغني ٥ : ١٣١.

(٣ و ٤) المغني ٥ : ١٣١ ، الشرح الكبير ٥ : ١٢٤.

٣٧١

وإذا اشترى بجنس ما عنده دَفَعه ، وإن اشترى بغير جنسه لم يكن له أن يستدين الجنس ويصرفه في الثمن ؛ لأنّا منعناه من الاستدانة ، لكن له أن يبيع بثمنٍ من النقد الذي عيّنه ويدفع.

وليس له أن يودع إلّا مع الحاجة ؛ لأنّه ليس من الشركة ، وفيه غرور ، أمّا مع الحاجة فإنّه من ضرورة الشركة ، فأشبه دفع المتاع إلى الحمّال ، وهو إحدى الروايتين عن أحمد.

والثانية : يجوز ؛ لأنّه عادة التجّار ، وقد تدعو الحاجة إلى الإيداع(١) .

والعادة لا تقضي على الشرع ، والحاجة مسوّغة كما قلنا.

وليس له أن يوكّل فيما يتولّاه بنفسه ، كالوكيل.

وفي إحدى الروايتين عن أحمد : الجواز(٢) .

فإن وكّل أحدهما بإذن صاحبه جاز ، وكان لكلٍّ منهما عزله.

وليس لأحدهما أن يرهن بالدَّيْن الذي عليهما إلّا بإذن صاحبه أو مع الحاجة.

وعن أحمد روايتان(٣) .

وليس لأحدهما السفر بالمال المشترك إلّا بإذن صاحبه. والأقرب : إنّ له الإقالة ؛ لأنّها إمّا بيعٌ عند جماعةٍ من العامّة(٤) ، وهو يملك البيع ، أو فسخٌ عندنا ، وهو يملك الفسخ ، ويردّ بالعيب ، كلّ ذلك مع المصلحة.

ولو قال له : اعمل برأيك ، جاز أن يعمل كلّ ما يصلح في التجارة من الإبضاع والمضاربة بالمال والمشاركة وخلطه بماله والسفر والإيداع والبيع نسيئةً والرهن والارتهان والإقالة ونحو ذلك ؛ لأنّه فوّض إليه الرأي في‌

____________________

(١ - ٣) المغني ٥ : ١٣٢ ، الشرح الكبير ٥ : ١٢٢.

(٤) راجع ج ١٢ - من هذا الكتاب - ص ١١٧ ، الهامش (٣)

٣٧٢

التصرّف الذي تقتضيه الشركة ، فجاز له كلّ ما هو من التجارة ، فأمّا ما يكون تمليكاً بغير عوضٍ - كالهبة والحطيطة لغير فائدةٍ والقرض والعتق ومكاتبة الرقيق وتزويجه - فلا يفعله إلّا بإذنه ؛ لأنّه إنّما فوّض إليه العمل برأيه في التجارة ، وليس ذلك منها.

ولو أخذ أحد الشريكين مالاً مضاربةً ، فربحه له دون صاحبه ؛ لأنّه يستحقّ ذلك في مقابلة عمله ، وليس ذلك من المال الذي اشتركا فيه.

مسألة ١٨٦ : قد بيّنّا أنّ الشركة من العقود الجائزة لكلٍّ منهما فسخها والرجوع في الإذن والمطالبة بالقسمة‌ ؛ لأنّ الإنسان مسلّط على ماله ، فكان له المطالبة بإفرازه من مال غيره وتمييزه عنه ، وليس لأحدهما مطالبة الآخَر بإقامة رأس المال ، بل يقتسمان الأعواض إذا لم يتّفقا على البيع ، ولا يصحّ التأجيل في الشركة.

ولو كان بعض المال في أيديهما والآخَر غائب عنهما فاقتسما الذي في أيديهما والغائب عنهما ، صحّت في المقبوض ، دون الغائب [ عن ](١) الناس ؛ لأنّ الباقرعليه‌السلام سُئل عن رجلين بينهما مال منه بأيديهما ومنه غائب عنهما ، فاقتسما الذي بأيديهما وأحال كلّ واحدٍ منهما بنصيبه من الغائب ، فاقتضى أحدهما ولم يقتض الآخَر ، قال : « ما اقتضى أحدهما فهو بينهما ، وما يذهب بماله!؟ »(٢) .

وسأل [ عبد الله بن سنان ](٣) الصادقَعليه‌السلام : عن رجلين بينهما مال منه‌

____________________

(١) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « على ». والصحيح ما أثبتناه.

(٢) التهذيب ٧ : ١٨٥ - ١٨٦ / ٨١٨.

(٣) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والطبعة الحجريّة : « معاوية بن عمّار » وهو في سند الحديث ٨٢٠ من التهذيب ٧ : ١٨٦ ، والمثبت من المصدر.

٣٧٣

دَيْنٌ ومنه عينٌ ، فاقتسما العين والدَّيْن فتوى(١) الذي كان لأحدهما من الدَّيْن أو بعضه وخرج الذي للآخَر [ أيردّ ](٢) على صاحبه؟ قال : « نعم ، ما يذهب بماله!؟ »(٣) .

مسألة ١٨٧ : لو كان لرجلين دَيْنٌ بسببٍ واحد إمّا عقد أو ميراث أو استهلاك أو غيره ، فقبض أحدهما منه شيئاً ، فللآخَر مشاركته فيه - وهو ظاهر مذهب أحمد بن حنبل(٤) - لما تقدّم(٥) في المسألة السابقة في رواية [ عبد الله بن سنان ](٦) عن الصادق(٧) .

ولأنّ تمليك القابض ما قبضه يقتضي قسمة الدَّيْن في الذمّة من غير رضا الشريك ، وهو باطل ، فوجب أن يكون المأخوذ لهما والباقي بينهما.

ولغير القابض الرجوعُ على القابض بنصفه ، سواء كان باقياً في يده أو أخرجه عنها ، وله أن يرجع على الغريم ؛ لأنّ الحقّ ثبت في ذمّته لهما على وجهٍ سواء ، فليس له تسليم حقّ أحدهما إلى الآخَر ، فإن أخذ من الغريم لم يرجع على الشريك بشي‌ءٍ ؛ لأنّ حقّه ثابت في أحد المحلّين ، فإذا اختار أحدهما سقط حقّه من الآخَر.

وليس للقابض منعه من [ الرجوع على ](٧) الغريم بأن يقول : أنا‌

____________________

(١) راجع الهامش (١) من ص ٣٩.

(٢) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « يراد ». والمثبت من المصدر.

(٣) التهذيب ٧ : ١٨٦ / ٨٢١.

(٤) المغني ٥ : ١٩٧ ، الشرح الكبير ٥ : ١٨١.

(٥) آنفاً.

(٦) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « معاوية بن عمّار ». والصحيح ما أثبتناه من المصدر.

(٧) ما بين المعقوفين يقتضيه السياق.

٣٧٤

أُعطيك نصف ما قبضت ، بل الخيرة إليه من أيّهما شاء قبض ، فإن قبض من شريكه شيئاً رجع الشريك على الغريم بمثله.

وإن هلك المقبوض في يد القابض ، تعيّن حقّه فيه ، ولم يضمنه للشريك ؛ لأنّه قدر حقّه فيما تعدّى بالقبض ، وإنّما كان لشريكه مشاركته ؛ لثبوته في الأصل مشتركاً.

ولو أبرأ أحد الشريكين الغريمَ من حقّه ، برئ منه ؛ لأنّه بمنزلة قبضه منه ، وليس لشريكه الرجوعُ عليه بشي‌ءٍ ؛ لأنّه لم يقبض شيئاً من حقّ الشريك.

ولو أبرأ أحدهما من جزءٍ مشاع ، سقط من حقّه ، وبسط ما يقبضانه من الغريم على النسبة ، فلو أبرأ أحدهما الغريمَ من عُشْر الدَّيْن ثمّ قبضا من الدَّيْن شيئاً ، قسّماه على قدر حقّهما في الباقي ، للمُبرئ أربعة أتساعه ، ولشريكه خمسة أتساعه.

وإن قبض(١) نصف الدَّيْن ثمّ أبرأ أحدهما من عُشْر الدين كلّه ، نفذت البراءة في خُمس الباقي ، وما بقي بينهما على ثمانية ، للمُبرئ ثلاثة أثمانه ، وللآخَر خمسة أثمانه ، فما قبضاه بعد ذلك اقتسماه على هذا.

ولو اشترى أحدهما بنصيبه من الدَّيْن ثوباً ، قال بعض العامّة : كان للآخَر إبطال الشراء ، فإن بذل له المشتري نصف الثوب ولا يبطل البيع ، لم يلزمه(٢) ذلك(٣) .

وإن أجاز البيع ليملك [ نصف ] الثوب جاز ، ويبنى على بيع الفضولي

____________________

(١) الظاهر : « قبضا ».

(٢) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « لم يلزم ». والمثبت من المصدر.

(٣) المغني ٥ : ١٩٨ ، الشرح الكبير ٥ : ١٨٢.

٣٧٥

هل يقف على الإجازة أو لا؟ فعندنا نعم ، وبين العامّة خلاف(١) .

ولو أجّل أحدهما نصيبه من الدَّيْن جاز ، فإنّه لو أسقط حقّه جاز فتأخيره أولى ، فإن قبض الشريك بعد ذلك [ شيئاً ] لم يكن لشريكه الرجوعُ عليه بشي‌ءٍ.

هذا إذا أجّله في عقدٍ لازم ، وإن لم يكن في عقدٍ لازم كان له الرجوعُ ؛ لأنّ الحالّ لا يتأجّل بالتأجيل ، فوجوده كعدمه.

وعن أحمد رواية أُخرى : إنّ ما يقبضه أحدهما له ، دون صاحبه ؛ لأنّ ما في الذمّة لا ينتقل إلى العين إلّا بتسليمه إلى غريمه أو وكيله ، وما قبضه أحدهما فليس لشريكه فيه قبض ولا لوكيله ، فلا يثبت له فيه حقٌّ ، وكان لقابضه(٢) ؛ لثبوت يده عليه بحقٍّ ، فأشبه ما لو كان الدَّيْن بسببين ، ولأنّ هذا يشبه الدَّيْن في الذمّة ، وإنّما يتعيّن حقّه بقبضه ، فأشبه تعيينه بالإبراء ، ولأنّه لو كان لغير القابض حقٌّ في المقبوض لسقط بتلفه كسائر الحقوق ، ولأنّ هذا القبض إن كان بحقٍّ لم يشاركه غيره فيه ، كما لو كان الدَّيْن بسببين ، وإن كان بغير حقٍّ لم يكن له مطالبته ؛ لأنّ(٣) حقّه في الذمّة لا في العين ، فأشبه ما لو أخذ غاصب منه مالاً ، فعلى هذا ما قبضه القابض يختصّ به ، دون شريكه ، وليس لشريكه الرجوعُ عليه ، فإن اشترى بنصيبه ثوباً أو غيره صحّ ، ولم يكن لشريكه إبطال الشراء ، وإن قبض أكثر‌

____________________

(١) المغني ٥ : ١٩٨ ، الشرح الكبير ٥ : ١٨٢.

(٢) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « له قبضه » بدل « لقابضه ». والصواب ما أثبتناه من المصدر.

(٣) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « ولأنّ ». والصحيح ما أثبتناه بدون الواو ، كما في المصدر.

٣٧٦

من حقّه بغير إذن شريكه لم يبرأ الغريم ممّا زاد على حقّه(١) .

والمشهور ما قلناه أوّلاً.

ولا تصحّ قسمة ما في الذمم ؛ لأنّ الذمم لا تتكافأ ولا تتعادل ، والقسمة تقتضي التعديل ، والقسمة من غير تعديلٍ بيعٌ ، ولا يجوز بيع الدَّيْن بالدَّيْن ، فلو تقاسما ثمّ تَوى(٢) بعض المال ، رجع مَنْ تَوى ماله على مَنْ لم يَتْو ، وبه قال ابن سيرين والنخعي وأحمد في إحدى الروايتين ، وفي الأُخرى : يجوز ذلك ؛ لأنّ الاختلاف لا يمنع القسمة ، كما لو اختلفت الأعيان ، وبه قال الحسن وإسحاق(٣) .

وهذا إذا كان في ذممٍ متعدّدة ، فأمّا في ذمّةٍ واحدة فلا يمكن القسمة ؛ لأنّ معنى القسمة إفراز الحقّ ، ولا يتصوّر ذلك في ذمّةٍ واحدة.

مسألة ١٨٨ : قد بيّنّا أنّه إذا تساوى المالان تساوى الشريكان في الربح‌ ، وإن تفاوت المالان تفاوتا في الربح على النسبة ، فإن شرطا خلاف ذلك جاز عندنا ، وصحّت الشركة ، وبه قال أبو حنيفة(٤) ، خلافاً للشافعي(٥) .

فلو كان لأحدهما ألف وللآخَر ألفان فأذن صاحب الألفين لصاحب الألف أن يتصرّف فيهما على أن يكون الربح بينهما نصفين فإن كان صاحب الألفين شرط على نفسه العمل فيهما أيضاً ، صحّ عندنا.

وقال الشافعي : تفسد الشركة ، ويكون الربح على قدر المالين ،

____________________

(١) المغني ٥ : ١٩٨ - ١٩٩ ، الشرح الكبير ٥ : ١٨٢ - ١٨٣.

(٢) راجع الهامش (١) من ص ٣٩.

(٣) الإشراف على مذاهب أهل العلم ١ : ٦٨ / ٥٠ ، المغني ٥ : ١٩٩ ، الشرح الكبير ٥ : ١٢٤.

(٤) راجع الهامش (٢) من ص ٣٥٣.

(٥) راجع الهامش (٢) من ص ٣٥٢.

٣٧٧

ويجب لكلّ واحدٍ منهما على الآخَر أُجرة عمله في نصيبه(١) .

وقال أبو حنيفة : إذا كانت الشركة فاسدةً لم يجب لواحدٍ منهما أُجرة ؛ لأنّ العمل لا يقابله عوض في الشركة الصحيحة فكذلك الفاسدة(٢) .

والمعتمد عندنا : إنّ الشركة إذا فسدت كان لكلٍّ منهما أُجرة مثل عمله - كما هو قول الشافعي - لأنّ المتشاركين إذا شرطا في مقابلة عملهما ما لم يثبت ، يجب أن يثبت عوض المثل ، كما لو شرطا في الإجارة شرطاً فاسداً.

وما ذكره في الصحيحة فإنّما لم يستحق في مقابلة العمل عوضاً ؛ لأنّه لم يشترط في مقابلته شيئاً ، وفي مسألتنا بخلافه.

ولو شرط صاحب الألفين العمل على صاحب الألف خاصّةً ، صحّت الشركة ، وكانت شركةً وقراضاً عند الشافعي ، ويكون لصاحب الألف ثلث الربح بحقّ ماله ، والباقي - وهو ثلثا الربح - بينهما ، لصاحب المال ثلاثة أرباعه ، وللعامل ربعه ، وذلك لأنّه جعل النصف له ، فجعلنا الربح ستّة أسهم منها ثلاثة شرط حصّة ماله منها سهمان ، وسهم هو ما يستحقّه بعمله على مال شريكه [ و ](٣) حصّة مال شريكه أربعة أسهم ، للعامل سهم ، وهو الربع(٤) .

وعندنا أنّه يكون شركةً صحيحة ؛ عملاً بالشرط.

ولو كان لرجلين ألفا درهم فأذن أحدهما لصاحبه أن يعمل في ذلك‌

____________________

(١) حلية العلماء ٥ : ٩٦ ، البيان ٦ : ٣٣٣.

(٢) حلية العلماء ٥ : ٩٦ و ٩٧ ، البيان ٦ : ٣٣٣.

(٣) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « من ». والظاهر ما أثبتناه.

(٤) بحر المذهب ٨ : ١٣٢ - ١٣٣ ، البيان ٦ : ٣٣٤ ، المغني ٥ : ١٣٦ - ١٣٧.

٣٧٨

ويكون الربح بينهما نصفين ، فإنّ هذا ليس بشركةٍ ولا قراض ؛ لأنّ شركة العنان تقتضي أن يشتركا في المال والعمل ، والقراض يقتضي أن يكون للعامل نصيب من الربح في مقابلة عمله ، وهنا لم يشرط له ، فإذا عمل كان الربح بينهما نصفين على قدر المالين ، وكان عمله في نصيب شريكه معونةً له منه وتبرّعاً ؛ لأنّه لم يشترط لنفسه في مقابلته عوضاً.

مسألة ١٨٩ : لو اشتريا عبداً وقبضاه فأصابا به عيباً فأراد أحدهما الإمساكَ والآخَر الردَّ ، لم يجز‌ ، وبه قال أبو حنيفة(١) .

وقال الشافعي : يجوز(٢) .

وقد سلف(٣) ذلك في كتاب البيوع(٤) .

إذا تقرّر هذا ، فإذا اشترى أحد الشريكين عبداً فوجد به عيباً ، فإن أرادا الردَّ كان لهما.

وإن أراد أحدهما الردَّ والآخَر الإمساك ، فإن كان قد أطلق الشراء ولم يذكر أنّه يشتريه له ولشريكه لم يكن له الردّ ؛ لأنّ الظاهر أنّه يشتريه لنفسه ، فلم يلزم البائع حكماً بخلاف الظاهر.

وإن كان قد أعلمه أنّه يشتريه بمال الشركة أو له ولشريكه ، لم يكن لأحدهما الردّ وللآخَر الأرش على ما تقدّم.

وللشافعيّة وجهان :

أحدهما : ليس له الردّ ؛ لأنّه إنّما أوجب إيجاباً واحداً ، فلا يبعّض‌

____________________

(١) البيان ٦ : ٣٤٢ ، وراجع ج ١١ - من هذا الكتاب - ص ١٧٢ ، الهامش (٣)

(٢) البيان ٦ : ٣٤٢ ، وراجع ج ١١ - من هذا الكتاب - ص ١٧٢ ، الهامش (٤)

(٣) في ج ١١ ، ص ١٧٢ ، المسألة ٣٤٠.

(٤) في النسخ الخطّيّة : « البيع ».

٣٧٩

عليه.

والثاني : له الردّ ؛ لأنّه إذا كان يقع الشراء لاثنين ، كان بمنزلة أن يوجب لهما ، ولو أوجب لهما كان في حكم العقدين ، كذا هنا(١) .

وإذا باع أحد الشريكين عيناً من أعيان الشركة وأطلق البيع ثمّ ادّعى بعد ذلك أنّه باع ماله ومال شريكه بغير إذنه ، لم تُسمع دعواه ؛ لأنّه يخالف ظاهر قوله ، فإن ادّعى ذلك شريكه ، كان عليه إقامة البيّنة أنّه شريكه فيه ، فإذا قامت البيّنة به وادّعى المشتري أنّه أذن للبائع في البيع ، كان القولُ قولَه : إنّه لم يأذن ، مع يمينه ، فإذا حلف فسخ البيع في نصيبه إن لم يجز البيع ، ولا ينفسخ في الباقي إلّا برضا المشتري.

وللشافعي قولان مبنيّان على تفريق الصفقة(٢) .

مسألة ١٩٠ : إذا كان لكلٍّ من الرجلين عبد بانفراده ، صحّ بيعهما معاً صفقةً واحدة ومتعدّدة‌ ، اتّفقت قيمتهما أو اختلفت ، عندنا.

وللشافعي قولان :

أحدهما : يصحّ مطلقاً ؛ لأنّ جملة الثمن معلومة في العقد.

والثاني - وهو الأصحّ عندهم - : إنّ البيع فاسد ؛ لأنّ العقد إذا كان في أحد طرفيه عاقدان كان بمنزلة العقدين ، فتكون حصّة كلّ واحدٍ منهما مجهولةً ؛ لأنّ ما يخصّ كلّ واحدٍ من العبدين من الثمن غير معلومٍ في العقد ، بخلاف ما لو كان العبدان لواحدٍ ؛ لوحدة العقد(٣) .

وهو غلط ؛ إذ مجموع الثمن في مقابلة مجموع الأجزاء ، وهُما‌

____________________

(١) الحاوي الكبير ٦ : ٤٨٦ ، بحر المذهب ٨ : ١٣٧ ، البيان ٦ : ٣٤٢.

(٢) راجع بحر المذهب ٨ : ١٣٨.

(٣) التهذيب - للبغوي - ٣ : ٤٩٩ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ١٤٥ ، روضة الطالبين ٣ : ٩٢.

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493