الـمُنتخب في جمع المراثي والخطب المشتهر بـ (الفخري)

الـمُنتخب في جمع المراثي والخطب المشتهر بـ (الفخري)8%

الـمُنتخب في جمع المراثي والخطب المشتهر بـ (الفخري) مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 493

الـمُنتخب في جمع المراثي والخطب المشتهر بـ (الفخري) الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 493 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 70438 / تحميل: 5610
الحجم الحجم الحجم
الـمُنتخب في جمع المراثي والخطب المشتهر بـ (الفخري)

الـمُنتخب في جمع المراثي والخطب المشتهر بـ (الفخري)

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

ثم ساروا برأسه والسبايا

تتهادى بذلة وهوان

حيث وافوا يزيد زاد سروراً

ثمّ أبدى مسرة الجذلان

قائلاً ارجعوا فلسنا نبالي

حيث نلنا أمالنا والأماني

ثم ردوا الكريم أزهر في الأفق

ضياء من نوره النيران

فادكارى رد الكريم شجاني

وعويل الرجال والنسوان

حين وافوا من الشآم ولا قوا

جابراً زائراً لتلك المغاني

فأقاموا له عزاً يقرح القلب

ويبدي كواً من الأشجان

آه لهفي لزينب تندب السبط

وتذري مدامع الأجفان

وتنادي بلوعة واكتئاب

وجفون عبرى وقلب عان

أين من يسعد النوائح بالنوح

ويرثو الفاقد الولهان

أين من وجدّه كوجدي وشجوي

حيث يشجي فؤاده ما شجاني

أين من قلبه كقلبي المعنى

لعياني من العنا ما عناني

أين من يندب المصارع بالطف

ومثوى الكهول والشبان

أين من يعرف المودة للقربى

بنص النّبي والقرآن

أين أهل الوفا وأهل التأسي

ليسوا بالهم والأحزان

أين من يندب الوحيد من الناصر

يشكو من قلة الأعوان

أين من يندب الحُسين ويذري

من مآقي شونة ما شآن

أين من يندب الإمام إمام

الخلق طراً من أنسها والجان

أين من يندب الشجاع المحامي

عن حمى الدين فارس الفرسان

ومفيد العفاة يوم طعام

ومبيد العراة يوم طعان

وكمال الورى وزين البرايا

وجمال الأقران والإخوان

اين من يندب الحماة حماة

الدين أهل المعروف والإحسان

وبدوراً غابوا فلسنا نراهم

في سماء السّماء والجنان

أين من يندب الكريم كريم سبط

يسمو على سنان سنان

ويزيد اللعين ينكث منه

ثغره الجوهري بالخيزران

٣٦١

ظلمونا فويل من ظلم الآل

ولم يخش سطوة الرحمن

يوم يجثو الحُسين بين يد الله

وما رأسه على الجثمان

وتراه البتول وهو بلا رأس

فتبدي الأشجان عند العيان

فتنادي يا رب هذا حسين

قتلوه الأعداء بالعدوان

فانتصف لي من الظلوم وخذ لي

يا إلهي من كل قاص وداني

عندها يغضب الإله فتأتي

هبهب تلقط الظلوم الجاني

يا بني الـمُصطفى سموتم محلاً

سامياً في المكان والإمكان

أنتم منهج المحجة في الدين

ونهج الإرشاد والإيمان

وجمال لأوجه الدهر يبدو

كل شخص منكم جمال زمان

وجرى ماء حبكم ذوي الإيمان

مجرى الأرواح في الأبدان

فهو نجوى لمن أراد نجاة

من ولاكم وسر علم البيان

فلهذا نجل السمين مواليه

أراد البيان بعد المعاني

ثم أهدى إليك در نظام

وعقوداً يفقن نظم الجمان

يتولاكم بوجه ويبدي

بوجوه من المديح حسان

مدح تبهج الولي سروراً

وتهيج العداوة بالأحزان

فعليكم من السلام سلام

كل آن وساعة وزمان

٣٦٢

المجلس السّابع

من الجزء الثّاني في الليلة التّاسعة من عشر الـمُحرّم

وفيه أبواب ثلاثة

الباب الأوّل

أيّها المؤمنون الأتقياء العارفون , أما تحبّون أن يرجح لكلّ واحد منكم ميزانه ؟ أما تريدون أن يعطى كلّ واحد منكم على حزنه ثواباً جزيلاً وثناءاً جميلاً ؟ أما بلغكم عن الفصيح النّاطق الإمام الصّادق (عليه‌السلام ) , أنّه قال : (( نفس المهموم المحزون لنا تسبيح , وحزنه لمصابنا عبادة , وكتمان سرّنا عنده جهاد في سبيل الله , ونوحه على مصابنا أفضل العبادة , وبكائه على ما أصابنا من أعدائنا تمحيص لذنوبه )) .وإذا كان الحال هذه , فينبغي للمؤمن أن يتجلبب أشجانه ويلبس شعار وجده وأحزانه , فإنّ الرّقة على الآل من أحسن الأحوال وأكملها عند ذي الجلال , كما جاءت به الرّواية عن الصّادق حيث قال : (( إنّ اكمال المؤمنين أحسنهم خُلقاً وأكثرهم رقّة علينا أهل البيت , وأشدّهم حبّاً لنا وأكثرهم حزناً علينا وأكثرهم مودّة لنا )).

فيا إخواني , محبّتهم من النّار تقيكم وولايتهم عند كلّ كريهة حتّى الموت تكفيكم ، كما ورد بذلك الخبر عن الصّادق (عليه‌السلام ) , حيث قال : (( مرض مؤمن صالح فافتقده سلمان الفارسي , فقال : أين صاحبنا فلان ؟ فقيل له : إنّه مريض .قال: امشوا بنا إليه لنعوده .فقاموا معه جميعاً , فدخلوا عليه فوجدوه في حال النّزع وهو يجود بنفسه , فبكى سلمان وقال : يا ملك الموت , ارفق بولي أهل البيت .فقال له ملك الموت بلسان فصيح يسمعه مَن حضر : يا عبد الله , اعلم أنّي لرقيق بالمؤمنين ولو ظهرت لك .فتعجّب الحاضرون من هذا الكلام ولم يروا المتكلم )) .وإذا كان الأمر

٣٦٣

كذلك , فكيف لا ننوح على أولاد مُحمّد الـمُصطفى وعليّ المُرتضى وفاطمة البتول الزّهراء ؟! ويلهم تواثبوا عليهم جهراً فقتلوهم وعن شرب الماء منعوهم كأنّهم ما عرفوهم , فتبّاً لهم ما أجرأهم على انتهاك حُرمة الرّسول وتقريح كبد الزّهراء البتول , فكأنّهم نسوا المعاد إلى ربّ العباد.

القصيدة للصاحب بن عباد (رحمه‌الله )

عيني جودي على الشهيد القتيل

واتركي الخد كالمحل المحل

كيف يشفي البكاء في قتل مولاي

إمام التنزيل والتأويل

قاتلوا الله والنبي ومولاهم علياً

إذ قاتلوا ابن الرسول

فجعوه من غدرهم برضيع

هل سمعتم بمر ضع مقتول

ثم لم يشفهم سوى قتل نفس

هي نفس التكبير والتهليل

هي نفس الحُسين نفس رسول الله

نفس الوصي نفس البتول

ذبحوه ذبح الأضاحي فيا قلب

تصدع على الغريب الذليل

نُقل : أنّه لمـّا وصل الحُسين (عليه‌السلام ) في مسيره إلى الكوفة إلى منزل اسمه سوق ، جلس (عليه‌السلام ) ناحية عن النّاس , وإذا برجل قد قدم من الكوفة , فسأله الحُسين (عليه‌السلام ) وقال : (( ما الخبر ؟ )) .فقال : يا سيّدي , ما خرجت من الكوفة حتّى رأيت هانياً ومُسلماً بن عقيل مقتولين وبُعث برأسيهما إلى يزيد .فقال الحُسين (عليه‌السلام ) : (( إنّا لله وإنّا إليه راجعون )) .وسار الرّجل ولم يعلم به أحد من أصحابه.

قال : وكان لـمُسلم بنت عمرها احدى عشرة سنة مع الحُسين (عليه‌السلام ) , فلمّا قام الحُسين من مجلسه , جاء إلى الخيمة فعزّز البنت وقرّبها من منزله , فحسّت البنت بالشّر ؛ لأنّ (عليه‌السلام ) كان قد مسح على رأسها وناصيتها كما يُفعل بالأيتام , فقالت : يا عم , ما رأيتك قبل هذا اليوم تفعل بي مثل ذلك ؟! أظن أنّه قد استشهد والدي ؟ فلم يتمالك الحُسين (عليه‌السلام ) من البكاء , وقال : (( يا ابنتي , أنا أبوك وبناتي اخواتك )) .فصاحت ونادت بالويل , فسمع أولاد مُسلم ذلك الكلام وتنفسوا الصّعداء , وبكوا بكاءاً شديداً ورموا بعمائمهم إلى الأرض.

قال : لمـّا تأمّل الحُسين (عليه‌السلام ) هذا الحال وقتل مُسلم , وأنّ أهل الكوفة هُم الذين أعانوا على قتل أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) ونهب الحسن وضربه بالخنجر على

٣٦٤

فخذه , فبكى بكاءاً شديداً حتّى اخضلت لحيته بالدّموع.

ونُقل أيضاً : لمـّا آل أمر الحُسين إلى القتال بكربلاء وقُتل جميع أصحابه , ووقعت النّوبة على أولاد أخيه , جاء القاسم بن الحسن وقال : يا عم , الإجازة لأمضي إلى هؤلاء الكفرة .فقال له الحُسين : (( يابن الأخ , أنت من أخي علامة وأريد أن تبقى ؛ لأتسلّى بك )) .ولم يعطه إجازة للبراز , فجلس مهموماً مغموماً باكي العين حزين القلب , وأجاز الحُسين إخوته للبراز ولم يجزه , فجلس القاسم متألماً ووضع رأسه على رجليه.

وذُكر : أنّ أباه قد ربط له عوذة في كتفه الأيمن ، وقال له : (( إذا أصابك ألم وهمّ , فعليك بحلّ العوذة وقراءتها وفهم معناها , واعمل بكلّ ما تراه مكتوباً فيها )) .فقال القاسم لنفسه : مضى سنين عليّ ولم يصبني من مثل هذا الألم .فحلّ العوذة وفضّها ونظر إلى كتابتها , وإذا فيها : (( يا ولدي قاسم , أوصيك إنّك إذا رأيت عمّك الحُسين (عليه‌السلام ) في كربلاء وقد أحاطت به الأعداء , فلا تترك البراز والجهاد لاعداء رسول الله ولا تبخل عليه بروحك , وكلّما نهاك عن البراز , عاوده ليأذن لك في البراز ؛ لتحضى في السّعادة الأبدية )).

فقام القاسم من ساعته وأتى إلى الحُسين (عليه‌السلام ) وعرض ما كتب الحسن على عمّه الحُسين , فلمّا قرأ الحُسين العوذة , بكى بكاءاً شديداً ونادى بالويل والثّبور وتنفّس الصّعداء , وقال : (( يابن الأخ , هذه الوصية لك من أبيك , وعندي وصية اُخرى منه لك , ولا بدّ من إنفاذها )) .فمسك الحُسين (عليه‌السلام ) على يد القاسم وأدخله الخيمة وطلب عوناً وعباساً وقال لاُمّ القاسم: (( ليس للقاسم ثياب جدد ؟ )) .قالت : لا .فقال لأخته زينب : (( ايتيني بالصّندوق )) .فأتته به ووضع بين يديه , ففتحه وأخرج منه قباء الحسن وألبسه القاسم , ولفّ على رأسه عمامة الحسن , ومسك بيد ابنته التي كانت مُسماة للقاسم فعقد له عليها , وأفرد له خيمة , وأخذ بيد البنت ووضعها بيد القاسم وخرج عنهما , فعاد القاسم ينظر إلى ابنة عمّه ويبكي إلى أن سمع الأعداء يقولون : هل من مبارز ؟ فرمى بيد زوجته وأراد الخروج وهي تقول له : ما يخطر ببالك وما الذي تريد أن تفعله ؟ قال لها : أريد ملاقاة الأعداء , فإنّهم يطلبون البراز وأنّي أريد ملاقاتهم .فلزمته ابنة عمّه , فقال لها : خلّي ذيلي , فإنّ عرسنا أخّرناه إلى الآخرة .فصاحت وناحت وأنّت من قلب حزين , ودموعها جارية على خدّيها وهي تقول : يا قاسم , أنت تقول عرسنا أخّرناه إلى الآخرة , وفي القيامة بأيّ شيء أعرفك وفي أيّ

٣٦٥

مكان أراك ؟ فمسك القاسم يده وضربها على ردنه وقطعها , وقال : يا بنة العم , اعرفيني بهذه الرّدن المقطوعة .قال : فانفجع أهل البيت بالبكاء لفعل القاسم , وبكوا بكاءاً شديداً ونادوا بالويل والثّبور.

قال مَن روى : فلمّا رأى الحُسين أنّ القاسم يريد البراز , قال له : (( يا ولدي , أتمشي برجلك إلى الموت ؟ )) .قال : وكيف يا عم وأنت بين الأعداء وحيداً فريداً لم تجد محامياً ولا صديقاً ؟! روحي لروحك الفداء ونفسي لنفسك الوقاء ! ثمّ إنّ الحُسين (عليه‌السلام ) شقّ أزياق القاسم وقطع عمامته نصفين ثمّ أدلاها على وجهه ، ثمّ ألبسه ثيابه بصورة الكفن وشدّ سيفه بوسط القاسم وأرسله إلى المعركة , ثمّ إنّ القاسم قدم إلى عمر بن سعد ، وقال : يا عمر , أما تخاف الله أما تراقب الله يا أعمى القلب؟! أما تراعي رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ؟ فقال عمر بن سعد : أما كفاكم التّجبّر , أم تطيعون يزيد ؟ فقال القاسم : لا جزاك الله خيراً , تدّعي الإسلام وآل رسول الله عطاشا ظمآ.

قد اسودّت الدُنيا باعينهم , فوقف هنيهة فما رأى أحداً يقدم إليه , فرجع إلى الخيمة فسمع صوت ابنة عمّه تبكي , فقال لها : ها أنا جئتك .فنهضت قائمة على قدميها وقالت : مرحباً بالعزيز , الحمد لله الذي أراني وجهك قبل الموت .فنزل القاسم في الخيمة وقال : يا بنت العم , مالي اصطبار أن أجلس معك والكفّار يطلبون البراز .فودّعها وخرج وركب جواده وحماه في حومة الميدان ، ثمّ طلب المبارزة , فجاء إليه رجل يُعدّ بألف فارس , فقتله القاسم وكان له أربعة أولاد مقتولين , فضرب القاسم فرسه بسوط وعاد يقتل بالفرسان إلى أن ضعفت قوّته , فهمّ بالرّجوع إلى الخيمة , وإذا بالأزرق الشّامي قد قطع عليه الطّريق وعارضه , فضربه القاسم على اُمّ رأسه فقتله , وسار القاسم إلى الحُسين وقال : يا عمّاه ! العطش العطش أدركني بشربة من الماء ! فصبّره الحُسين واعطاه خاتمه وقال : (( حطه في فمك ومصه )).

قال القاسم : فلمّا وضعته في فمي , كأنّه عين ماء فارتويت وانقلبت إلى الميدان .ثمّ جعل همّته على حامل اللوى وأراد قتله , فاحتاطوا به بالنّبل , فوقع القاسم على الأرض , فضربه شيبة بن سعد الشّامي بالرّمح على ظهره فأخرجه من صدره , فوقع القاسم يخور بدمه ونادى : يا عم أدركني ! فجاءه الحُسين (عليه‌السلام ) وقتل قاتله , وحمل القاسم إلى الخيمة فوضعه فيها , ففتح القاسم عينه فرأى الحُسين قد احتضنه وهو يبكي ويقول : (( يا ولدي لعن الله

٣٦٦

قاتليك , يعزّ والله على عمّك أن تدعوه وأنت مقتول .يا بني , قتلوك الكفّار كأنّهم ما عرفوا مَن جدّك وأبوك )) .ثمّ إنّ الحُسين (عليه‌السلام ) بكى بكاءاً شديداً , وجعلت ابنة عمّه تبكي وجميع مَن كان منهم ؛ لطموا الخدود وشقّوا الجيوب ونادوا بالويل والثّبور وعظائم الأمور.

فيا إخواني , اكثروا النّوح وجددوا الأحزان على ما جرى على سادات الزّمان .فواحزناه لما أصاب أهل بيت الرّسول وبني الزّهراء البتول من الأشقياء النّغول ! فتبّاً لهم فيما فعلوه وتعساً لهم فيما تحمّلوه ! فبأيّ شيء يتعللون حين يسئلون ؟ وبم يجيبون حين يستنطقون ؟ كلا , والله ليس لهم جواب مانع ولا خطاب دافع , وسيردّون إلى العذاب الأليم والعقاب الجسيم ، وعلى الأطائب من أهل البيت فليبك الباكون , وإيّاهم فليندب النّادبون , ولمثلهم تذرف الدّموع من العيون ، أو لا تكونون كبعض مادحيهم حيث عرته الأحزان فتتابعت عليه الأشجان , فنظم وقال فيهم :

القصيدة للشيخ مُحمّد السّبيعي (رحمه‌ الله تعالى )

مشيب تولى للشباب وأقبلا

نذيراً لمن امسى وأضحى مغفلاً

يرى الناس منهم ظاعن أثر ظاعن

فظن سواه الطاعن المتحملا

ترحلت الجيران عنه إلى البلا

وما رحل الجيران إلّا ليرحلا

ولكنه لمـّا مضى العمر ضائعاً

بكى عمره الماضي فحن وأعولا

تذكر ما افنى الزمان شبابه

فبات يسح الدمع في الخد مسبلا

ولم يبك من فقد الشباب وإنما

بكى ما جناه ضارعاً متنصلا

تصرمت اللذات عنه وخلفت

ذنوباً غداً من أجلها متوجلا

حنانيك يا من عاش خمسين حجّة

وخمساً ولم يعدل عن الشر مغدلا

وليس له في الخير مثقال ذرة

وكم ألف مثقال من الشر حصلا

وقد جاءه في الذرتين كفاته

إذا ما تلي في محكم الذكر منزلا

أعاتب نفسي في الخلا ولم يفد

عتابي على ما فات في زمن خلا

فيا ليت إنّي قبل ما قد جنت يدي

على نفسها لاقيت حتفاً معجلا

ويا ليت إنّي كنت في الوحش هاملاً

ولم أك للطاعات في العمر مهملا

ويا ليت أمي لا غدت حاملاً بمن

غدا حاملاً وزراً يوازن أجيلا

٣٦٧

ويا ليت شعري هل تفيد ندامتي

على ما به أمسى وأضحى مثقلاً

عذيري من الذنب الذي صار موجباً

عذاب إلهي عاجلاً ومؤجلاً

يدي قد جنت يا صبي على يدي

ونفسي لنفسي حرت العذل فاعذلا

ولا تعذل عيناً على عينها بكت

فطرفي على طرفي جني وتأملا

سأبكي على ما فات منّي ندامة

إذا الليل أرخى الستر منه وأسبلا

سأبكي على ذنبي وآفات غفلتي

وأبكي قتيلاً بالطفوف مجدلا

سأبكي على ما مات منّي بعبرة

تجود إذا جاء المحرم مقبلا

حنيني على ذاك القتيل وحسرتي

عليه غريباً في المهامة والفلا

حنيني على الملقى ثلاثاً معفراً

طريحاً ذبيحاً بالدماء مغسلا

سأبكي عليه والمذاكي بركضها

تكفنه مما أثارته قسطلا

سأبكي عليه وهي من صدره

ترض عظاماً أو تفصل مفصلا

سأبكي على الحران قلباً من الظما

وقد منعوه أن يعل وينهلا

إلى أن قضى يا لهف نفسي على الذي

قضى بغليل يشبه الجمر مشعلا

سأبكي على المحروز رأساً من القفا

إلى أن برى السيف الوريدين والطلا

سأبكي عليه يوم اضحى بكربلاء

يكابد من أعدائه الكرب والبلا

وقد أصبحت أفراسه وركابه

وقوفاً بهم لم تنبعث فتوجلا

فقال بأي الأرض تعرف هذه

فقالوا له هذي تسمى بكربلا

فقال على اسم الله حطوا رحالكم

فليس لنا أن نستقل ونرحلا

ففي هذه مهراق جاري دمائنا

ومهراق دمع الهاشميات ثكلا

وفي هذه والله تضحى جسومنا

وزوارها سيّد يعاقب فرعلا

وفي هذه والله تضحى رؤوسنا

مشهرة تعلو من الخط ذبلاً

وفي هذه والله تسبى حريمنا

وتضحى بأنواع العذاب وتبتلا

وفيها تساق الهاشميات حسراً

وتضرب ضرب الشدقميات جفلا

فلهفي على مضروبة الجسم وهي من

ضروب الأسى تبكي هماماً مبجلا

ولهفي على أطفالها في جحورها

تمج عقيب الثدي سهماً ومنصلا

ولهفي على الطفل المفارق أمه

ولهفي تبكي على الطفل مطفلا

٣٦٨

ولهفي عليها وهي في غربة النوى

تجوب الفيافي مجهلاً أثر مجهلا

أشيعة آل الـمُصطفى من يكون لي

عويناً على رزء الشهيد مولولا

أشيعة آل الـمُصطفى من ينوح لي

وينعي الإمام الفاضل المتفضلا

قفا نبك من ذكرى حبيب مُحمّد

وخلوا لذكراكم حبيباً ومنزلا

قفا نبك من تذكاره ومصابه

فتذكاره ينسي الذخول فحرملا

فوالله لا أنسى وإن بعد المدى

قتل ضبابي من الدين قد خلا

فوالله لا أنساه يخفض في الثرى

وشمر على الصدر المعظم قد علا

يهبر أوداج الحُسين بسيفه

إلى حيث رواه نجيعاً وخضلا

ولم أنس أخت السبط زينب أقبلت

لتقبيله ثمّ انثنت لم تقبلا

وقد قنع الرجس المزنم رأسه

ومنكبها الزاكي قطيعاً مفتلا

فقالت له يا شمر دعني هنيهة

أعلل قلباً باللقا لن يعللا

فإن لم يكن إلّا تعلل ساعة

فإني بها أشقى فؤاداً معللا

أيا شمر دع عيني إلى نور عينه

به تشتفي من قبل أن تتحملا

اتمنع عيني نظرة من حبيبه

ولا لذ في قلبي سواه ولا حلا

اتمنعني من نظرة يشتفي بها

فؤادي بمن لي كان كهفاً وموئلا

اتفردني وحدي وابن والدي

وتحتز رأساً منه رأس على الملا

فما رق منه القلب عنه خضوعه

وأوجعها بالسوط ضرباً مثكلا

وميز رأس السبط ثمّ رمى به

فسبحت الأملاك في سبعها العلا

وسحت عليه سبعها الدم قاني

ولا عجباً من أن تسح وتهملا

ولا عجباً إن مادت الأرض بالورى

وأرجف منها جانباها وزلزلا

ومالوا إلى سبي الحريم فحللو

بجهلهم ما ليس في الشرع حللا

فكم سالب درعاً وكم هاتك خب

وقاصم خلخال فادمى المخلخلا

٣٦٩

سأبكي له وهو العليل وفي الحشا

غليل ببرد الماء أن يتبللا

سأبكي لبنت السبط فاطم قد غدت

قريحة جفن وهي تبكيه معولا

تحن فيشجي كل قلب حنينها

وتصدع من صم الصياخيد جندلا

تقول أبي أبكيك يا خير من مشى

ومن ركب الطرف الجواد المحجلا

أبي كنت للدين الحنيفي موضحاً

ومذ ثكلتك البيض أصبح مثكلا

أبي يا ثمال الأرملات وكهفها

إذا عاينت خطباً من الدهر معضلا

أبي يا ربيع المجد بين ومن به

يغاث من السقيا إذا الناس أمحلا

أبي يا غياث المستغيثين والذي

غداً لهم كنزاً وذخراً وموئلا

أبي أن سلا المشتاق أو وجد العزى

فإن فؤادي بعدك ماسلا

سأبكيك تبكيك المحارب شجوها

وقد فقدت مفروضها والتنقلا

سأبكيك تبكيك المحارب شجوها

وقد فقدت مفروضها والتنقلا

سأبكيك تبكيك المناجاة في الدجى

سأبكيك يبكيك الكتاب مرتلا

سأبكيك إذ تبكي عليه سكينة

ومدمعها كالغيث جاد وأسبلا

ونادت رباب أمتاه فاقبلت

وقد كضها فقد الحُسين وأثكلا

وقالت لها يا أمنا ما لوالدي

مضى مزمعاً عنا الرحيل إلى البلا

أنادي به يا والدي وهو لم يجب

وقد كان طلقاً ضاحكاً متهللا

أظن أبي قد حال عما عهدته

وإلّا فقد أمسى بنا متبدلا

ألا أبتا قد شقت البين شملنا

وجرعنا في الكأس صبراً وحنظلا

ونادى المنادي بالرحيل فقربوا

من الهاشميات الفواطم نزلا

وصار بها الحادي يغني مغرداً

سل الدار عمن قد نأى وترحلا

تسير ورأس السبط يسري أمامها

كبدر الدجى وافى السعود فاكملا

فلهفي لها عن كربلا قد ترحلت

مخلفة أزكى الأنام وأنبلا

ولهفي لها بين العراق وجلق

إذ هو جلا خلفن قابلن هو جلا

ولهفي لها في اعنف السير والسرى

تأم زينب بالشآم مضللا

فلما رآها في حبائل سره

تهلل مسروراً وأبدى التغزلا

ونادى برأس السبط ينكث ثغره

وينشد أشعاراً بها قد تمثلا

٣٧٠

نفلق هاماً من رجال أعزة

علينا وهم كانوا أحق وأجملا

الا فاعجبوا من ناكث ثغر سيداً

له أحمد يمسي ويضحى مقبلا

له عذب الرحمن ماسح وابل

وعذب أصحاب السقيفة أولا

أولئك في يوم السقيفة أفسدوا

جميع الورى جيلاً فجيلاً لهم تلا

أولئك من أردى الحُسين بكربلا

ومن خان لله المهيمن مرسلا

قضوا ما قضوا من أمرهم بعدما قضى

نبيهم واستعجلوا أن يغسلا

وجاءهم إبليس في زي عابد

فأطنب في شكر الإله وطولا

ولم يشكر الملعون إلّا لأنه

رأى حبترا صار الإمام فحمدلا

وقال أبا ...........تهن فإنني

أبايع قبل الناس لن اتشكلا

فقل لرجيم جاء نحو رجيمه

فبايعه قبل العصاة وعجلا

أويلك لم تذعن لآدم ساجداً

وبايعت أدنى العالمين وأنذلا

تغشاك باللعن الإله مضاعفاً

وخص ابن سلما والدلام ونعثلا

بني الوحي والتنزيل من لي بمدحكم

ومدحكم في محكم الذكر أنزلا

وإن كان نظمي كالفريد مفصلا

فقد أنزل الرحمن فيكم مفصلا

ولكني أرجو شفاعة جدكم

لـمّا فقت فيه دعبلاً ثمّ جرولا

فهنيتموا بالمدح من خالق الورى

فقد نلتموا أعلا محلاً وأفضلا

فسمعاً من السبعي نظم غرائب

يظل لديها احظل الفحل احضلا

غرائب يهويها الكميت ودعبل

كما فيكم أهوى الكميت ودعبلا

أجاهر فيها بالولاء مصرحاً

وبغضي لشانيكم مزجت به الولا

لقد سيط لحمي في هواكم وفي دمي

وما قل منّي في عدوكم القلا

عليكم سلام الله يا خير من مشى

ويا خير من لبي وطاف وهللا

فما ارتضى إلّا كموالي سادة

وما سواكم فالبراءة والخلا

الباب الثّاني

أيّها المؤمنون السّامعون والاُمناء الصّالحون , اعلموا أنّ الله تعالى قد ابتلى ابن نبيّكم الحُسين (عليه‌السلام ) ببلاء عظيم , بكت من أجله السّموات بأركانها ، والأرض بأرجائها والأشجار بأطيارها وأغصانها ، والملائكة المقرّبون وأهل

٣٧١

السّماوات أجمعون.

فأيّ قلب لا ينصدع لقتله , وأيّ فؤاد لا يحزن من أجله ؟! وكيف لا وقد أصبح أهل البيت مطرّدين مشرّدين مذودين عن الأوطان والدّيار , شاسعين في البراري والأمصار كأنّهم أولاد اليهود والكفّار ، فيا لها من مصيبة عظمت في الإسلام وجليل خطب عمّ سائر الأنام.

فيا إخواني , لا تُقصّروا في البكاء والعويل وتساعدوا على هذا الرّزء الجليل , وابرزوا الدّموع الهتان ومخفيات الأشجان والأحزان على ما أصاب سادات الزّمان من الذّل والهوان :

يا مؤمناً متشياً بولائه

يرجو النجا والفوز يوم المحشر

أبك الحُسين بلوعة وبحرقة

إن لم تجدها لم فؤادك وأكثر

وامزج دموعك بالدماء وقل ما

في حقه حقاً إذا لم تنصر

والبس ثياب الحزن يوم مصابه

وما بين أسود حالك أو أصفر

فعساك تحضى في المعاد بشربة

من حوضهم ماء لذيذ سكر

روي عن أبي مخنف , قال : لمـّا قُتل الحُسين (عليه‌السلام ) , اُسر من عسكره غلامان صغيران , فاُتي بهما إلى عُبيد الله بن زياد لعنه الله , فدعا بسجّان له وقال له : خُذ هذين الغلامين واسجنهما , ومن طيب الطّعام فلا تطعمهما ومن بارد الماء فلا تسقهما , وضيّق عليهما سجنهما.

قال : فأخذهما السّجان ووضعهما في السّجن إلى أن صار لهما سنة كاملة حتّى ضاقت صدورهما ، فقال الصّغير للكبير : يا أخي , يوشك أن تُفنى أعمارنا وتُبلى أبداننا في هذا السّجن , أفلم تخبر السّجان بخبرنا ونتقرّب إليه بمُحمّد الـمُصطفى (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ؟ فقال : هكذا يكون.

فلمّا جنّهما الليل , أتى السّجان إليهما بقرصين من شعير وكوز من ماء ، فقام إليه الصّغير فقال له : يا شيخ , أتعرف مُحمّد الـمُصطفى ؟ قال : وكيف لا أعرفه وهو نبيي وشفيعي يوم القيامة ! قال له : يا شيخ , أتعرف عليّ بن أبي طالب ؟ قال: وكيف لا أعرفه وهو إمامي وابن عمّ نبيي ! قال له : يا شيخ , أتعرف مُسلم بن عقيل ؟ قال : بلى أعرفه وهو ابن عمّ رسول الله .فقال له : يا شيخ , نحن من عترة مُسلم بن عقيل , نسألك من طيب الطّعام فلا تطعمنا ومن بارد الماء فلا تسقينا , وقد ضيّقت علينا سجننا , فما لك وما لنا لا ترحمنا لصغر سننا ؟ أما ترعانا لأجل سيّدنا رسول الله ؟ فلمّا سمع السّجان كلامهما , بكى بكاءاً شديداً وانكبّ على أقدامهما يقبّلهما ويقول :

٣٧٢

نفسي لنفسكما الفداء وروحي لروحكما الوقا ! يا عترة مُحمّد الـمُصطفى , والله لا يكون مُحمّد خصمي في القيامة , هذا باب السّجن مفتوح فخذوا أيّ طريق شئتما , يا حبيبي سيروا بالليل واكمنا بالنّهار.

قال : فلمّا خرجا لم يدريا إلى أيّ جهة يمضيان , فلمّا جهجه الصّبح عليهما , دخلا بستاناً وصعدا على شجرة واكتنا بها , فلمّا طلعت الشّمس , وإذا بجارية قد رأتهما , فأقبلت إليهما وسألتهما عن حالهما وطيب قلوبهما , وقالت لهما : سيرا معي إلى مولاتي فإنّها محبّة لكما .فسارا معها , فسبقتهم الجارية فاعلمت مولاتها , فلمّا سمعت بهما , قامت حافية إليهما واستقبلتهما بالبشرى , وقالت لهما : ادخلا على رحب وسعة .فلمّا دخلا , أنزلتهما في مكان لم يدخل إليه أحد من النّاس , وخدمتهما خدمة تليق بهما.

ثمّ إنّ ابن زياد لعنه الله نادى في شوارع الكوفة : أنّ مَن جاءني بأولاد مُسلم بن عقيل , فله الجائزة العظمى .وكان زوج تلك المرأة من جملة من طلبهما , فلمّا جنّ الليل , أقبل اللعين إلى داره وهو تعبان من كثرة الطّلب ، فقالت له زوجته الصّالحة : أين كُنت , فإنّي أرى في وجهك آثار التّعب ؟ قال : إنّ ابن زياد قد نادى بأزقّة الكوفة : أنّ مَن جاءني بأولاد مُسلم بن عقيل , كان له عندي الجائزة العظيمة .وقد خرجت في الطّلب فلم أجد لهما أثراً ولا خبراً .فقالت له زوجته : يا ويلك أما تخاف من الله ! ما لك وأولاد الرّسول تسعى إلى الظّالم بقتلهم , فلا تغرّنّك الدُنيا .قال : أطلب الجائزة من الأمير .قالت : تكون أقلّ النّاس وأحقرهم عنده إن سعيت بهذا الأمر.

فبينما هو بين النّائم واليقظان , إذ سمع الهمهمة من داخل البيت ، فقال لزوجته : ما هذه الهمهمة ؟ فلا ترد عليه الجواب كأنّها [لا] تسمع , فقعد وطلب مُصباحاً , فتناوم أهل البيت كأنّهم لم يسمعوا , فقام وأشعل المصباح وأراد فتح الباب ، فقالت له زوجته : ما تريد من فتح الباب ؟ ومانعته , فقاتلها ومانعها وفتح الباب , وإذا بأحد الولدين قد انتبه , فقال لأخيه : يا أخي , اجلس فإنّ هلاكنا قد قرب .فقال له أخوه : وما رأيت يا أخي ؟ قال : بينما أنا نائم وإذا بأبي واقف عندي , وإذا بالنّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) وعليّ والحسن والحُسين وقوف وهم يقولون لأبي : ما لك تركت أولادك بين الكلاب والملاعين ؟ فقال لهما أبي : وها هُما باثري قادمين .فلمّا سمع الملعون كلامهما , جاء إليهما وقال لهما : مَن أنتما ؟ قالوا : من آل الرّسول .[قال] : ومَن أبوكم ؟ قالوا :

٣٧٣

مُسلم بن عقيل .فقال الملعون : إنّي أتعبت اليوم فرسي ونفسي في طلبكما وأنتما عندي.

ثمّ إنّه لطم الأكبر منهما لطمة أكبّه على الأرض حتّى تهشّم وجهه وأسنانه من شدّة الضّربة , وسال الدّم من وجهه وأسنانه، ثمّ إنّه كتّفهما كتافاً وثيقاً , فلمّا نظرا إلى ما فعل به [بهم] اللعين , قالا : ما لك يا هذا تفعل بنا هذا الفعل , وامرأتك قد أضافتنا وأكرمتنا وأنت هكذا تفعل بنا ؟ أما تخاف الله فينا ؟ أما تراعي يتمنا وقربنا من رسول الله ؟

فلم يعبأ اللعين بكلامهما ولا رحمهما ولا رقّ لهما ، ثمّ دفعهما إلى خارج البيت , وبقيا مكتّفين إلى الفجر وهُما يتوادعان ويبكيان ؛ لما جرى عليهما , وأمّا الملعون , فلمّا أصبح الصّبح , أخرجهما من داره وقصد بهما جانب الفُرات ؛ ليقتلهما وزوجته وولده وعبده خلفه وهم يخوّفونه الله تعالى ويلومونه على فعله , فلم يرتدع اللعين ولم يلتفت إليهم حتّى وصلوا إلى جانب الفُرات , فأشهر اللعين سيفه ؛ لقتلهما فوقعت زوجته على يديه ورجليه تقبّلهما وتقول له : يا رجل , اعف عن هذين الولدين اليتيمين , واطلب من الله الذي تطلبه من أميرك عُبيد الله بن زياد , فإنّ الله يرزقك عوض ما تطلبه منه أضعافاً مضاعفة .فزعق الملعون عليها زعقة الغضب حتّى طار عقلها وذهل لبّها ، ثمّ قال للعبد : يا أسود , خُذ هذا السّيف واقتل هذين الغلامين , وائتني برأسيهما حتّى انطلق بهما إلى عُبيد الله بن زياد , وآخذ جائزتي منه ألفي درهماً وفرساً .فلمّا همّ بقتلهما , قال له أحد الغلامين : يا أسود , ما أشبه سوادك بسواد بلال مؤذّن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) , يا أسود , ما لك وما لنا حتّى تقتلنا ؟ امض عنّا حتّى لا نطالبك بدمنا عند رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) .فقال لهما الغلام [العبد] : يا حبيبي مَن أنتما ؟ فإنّ مولاي أمرني بقتلكما.فقالوا: يا أسود , نحن من عترة نبيّك مُحمّد (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) , نحن أولاد مُسلم بن عقيل , أضافتنا عجوزكم هذه الليلة ومولاك يريد قتلنا.

قال : فانكبّ العبد على أقدامهما يقبّلهما ويقول : نفسي لنفسكما الفداء وروحي لروحكما الوقاء يا عترة مُحمّد الـمُصطفى! والله لا يكون مُحمّد خصمي يوم القيامة .ثمّ رمى السّيف من يده ناحية وطرح نفسه في الفُرات وعبر إلى الجانب الآخر , فصاح به مولاه : عصيتني ؟ فقال : اطعتك ما دمت لا تعصي الله , فلمّا عصيت الله عصيتك ؛ أحبّ إليّ من أن أعصي الله وأطيعك .فقال اللعين : والله , ما يتولّى قتلكما أحد غيري .فأخذ السّيف وأتى إليهما وسلّ السّيف

٣٧٤

من جفنه , فلمّا همّ بقتلهما , جاء إليه ولده وقال له : يا أبه , قدّم حلمك وأخّر غضبك وتفكّر فيما يصيبك في القيامة .قال: فضربه بالسّيف فقتله .فلمّا رأت الحُرمة ولدها مقتولاً , أخذت بالصّياح والعويل.

قال : فتقدم الملعون إلى الولدين , فلمّا رأياه تباكيا ووقع كلّ منهما على الآخر يودّعه ويعتنقه , والتفتا إليه وقالا له : يا شيخ , لا تدعنا نطالبك بدمائنا عند جدّنا يوم القيامة , خذنا حيّين إلى ابن زياد يصنع بنا ما يريد .فقال : ليس إلى ذلك سبيل .فقالا له : يا شيخ , بعنا في السّوق وانتفع بأثماننا ولا تقتلنا .فقال : لا بدّ من قتلكما .قالا له : يا شيخ , ألا ترحم يتمنا وصغرنا ؟ فقال لهما : ما جعل الله لكما في قلبي من الرّحمة شيئاً .فقالا : يا شيخ , دعنا نصلّي كلّ منّا ركعتين .قال : صلّيا ما شئتما إن نفعتكما الصّلاة.

قال : فصلّيا أربع ركعات , فلمّا فرغا رفعا طرفيهما إلى السّماء وبكيا وقالا : يا عادل يا حكيم , أحكم بيننا وبينه بالحقّ.ثمّ قالا له : يا هذا , ما أشدّ بغضك لأهل البيت ؟ فعندها عمد الملعون وضرب عنق الأكبر , فسقط إلى الأرض يخور في دمه , فصاح أخوه وجعل يتمرّغ بدم أخيه وهو ينادي : وا أخاه ! وا قلّة ناصراه ! وا غربتاه ! هكذا ألقى الله وأنا متمرّغ بدم أخي.فقال له الملعون : لا عليك سوف ألحقك بأخيك في هذه السّاعة .ثمّ ضرب عنقه , ووضع رأسيهما في المخلاة ورمى أبدانهما في الفُرات , وسار بالرّأسين إلى عُبيد الله بن زياد , فلمّا مثل بين يديه , وضع المخلاة فقال له : ما في المخلاة يا هذا؟ قال : رؤوس أعدائك أولاد مُسلم بن عقيل .فكشف عن وجهيهما , فإذا هُما كالأقمار المشرقة , فقال : لِمَ قتلتهما ؟ قال : بطمع الفرس والسّلاح .فقام ابن زياد ثمّ قعد ثلاثاً وقال : ويلك وأين ظفرت بهما ؟! قال : في داري , وقد أضافتهم عجوز لنا.فقال ابن زياد : أفلا عرفت لهما حقّ الضّيافة وأتيت بهما حيّين إليّ ؟ فقال : خشيت أن يأخذهما أحد منّي ولا أقدر على الوصول إليك .فأمر ابن زياد أن يغسلوهما من الدّم , فلمّا غسلوهما واُتي بهما إليه ونظرهما , تعجّب من حسنهما وقال له : يا ويلك ! لو أتيتني بهما حيّين , لضاعفت لك الجائزة .فتعذّر بعذره الأوّل ، ثمّ قال له : يا ويلك ! حين أردت قتلهما ما قالا لك ؟ قال , قالا لي : يا شيخ , ألا تحفظ قرابتنا من رسول الله ؟ قال : فما قُلت لهما ؟ قال : قُلت لهما : مالكما من رسول الله قرابة .قال : فماذا قالا لك أيضاً ؟

٣٧٥

قال : قالا لي : ألا ترحم صغر سننا ؟ فقلت لهما : ما جعل الله لكما في قلبي من الرّحمة شيئاً .قال : فما قالا لك أيضاً ؟ قال : قالا لي : امض إلى السّوق فبعنا وانتفع بأثماننا ؟ فقلت لهما : لا بدّ من قتلكما .قال : فماذا قالا لك أيضاً ؟ قال : قالا لي : ألا تمضي بنا إلى ابن زياد يحكم فينا بأمره ؟ فقلت لهما : ليس إلى ذلك من سبيل .قال : فماذا قالا لك أيضاً ؟ قال : قالا لي : دعنا نُصلي كلّ واحد منّا ركعتين ؟ فقلت لهما : فصلّيا إن نفعتكما الصّلاة .فصلّيا أربع ركعات , فلمّا فرغا من الصّلاة , رفعا طرفيهما إلى السّماء ودعيا وقالا : يا حي يا حكيم , أحكم بيننا وبينه بالحقّ.

ثمّ نظر ابن زياد إلى ندمائه وكان فيهم محبّ لأهل البيت , وقال له : خُذ هذا الملعون وسر به إلى موضع قتل فيه الغلامين , واضرب عنقه ولا تدع أن يختلط دمه بدمهما , وخُذ هذين الرّأسين وارمهما في موضع رمي به أبدانما.

قال : فأخذه وسار به وهو يقول : والله , لو أعطاني ابن زياد جميع سلطنته , ما قبلت هذه العطية .وكان كلّما مرّ بقبيلة , أراهم الرّأسين وحكى لهم بالقصّة , وما يريد يفعل بذلك اللعين .ثمّ سار به إلى موضع قتل فيه الغلامان , فقتله بعد أن عذّبه بقطع عينيه وقطع أذنيه ويديه ورجليه ورمى بالرّأسين في الفُرات.

قال : فخرجت الأبدان وركبت الرّؤوس عليها بقدرة الله تعالى , ثمّ تحاضنا وغاصا في الفُرات ، ثمّ إنّ ذلك الرّجل المحب أتى بالرّأس - رأس ذلك اللعين - فنصبه على قناة وجعل الصّبيان يرجمونه بالحجارة .ألا لعنة الله على القوم الظّالمين( وَسَيَعْلَمُ الّذِينَ ظَلَمُوا أَيّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ ) (١) .وعلى الأطائب من أهل البيت فليبك الباكون , وإيّاهم فليندب النّادبون , ولمثلهم تذرف الدّموع من العيون ، أو لا تكونون كبعض مادحيهم حيث عرته الأحزان فتتابعت عليه الأشجان , فنظم وقال فيهم :

القصيدة للشيخ ابن حماد (رحمه ‌الله تعالى )

دا قلبه الداعي الوعيد فاسمعا

وداع لبادي شيبه فتودعا

وأيقن بالترحال فاعتد زاده

وحاذر من عقبى الذنوب فاقلعا

إلى كم وحتى ما اشتغالك بالمنى

وقد مر منك الأطيبان فودعا

____________________

(١) سورة الشّعراء / ٢٢٧.

٣٧٦

أيقنع بالتفريط في الزاد عاقل

رأى الرأس منه بالمشيب تقنعا

إذا نزع الإنسان ثوب شبابه

فليس ترى إلّا إلى الموت مسرعا

وشيبك توقيع المنون مقدماً

بأنك لموت في غد متوقعا

أتطمع أن تبقى وغيرك ما بقي

فليس نرى للنفس في العيش مطمعا

تدافع بالآمال عن أخذ أهبة

ليوم إذا ما حم لم يغن مدفعا

وتسأل عند الموت ربك رجعة

ويهات أن تعطي هنالك مرجعا

أما لك إخوان شهدت رفاتهم

وكنت لهم نحو القبور مشيعا

وأنت فعن قرب إلى الموت صائر

وينعاك للإخوان ناع لهم نعى

جرت عينه النجلى عن صحن خده

فاصبح بين الدود نهباً موزعا

وأنت كضيف لا محالة راحل

ومسترجع ما كان عندك مودعا

تلاقي الذي فرطت واستدرك الذي

مضى باطلاً واصنع من الخير مصنعا

ولا تدع الدُنيا الغرور فإنما

هلاكك فيها إن تغر وتخدعا

فقد جعلت دار الفجائع والأسى

فلست ترى إلّا مزاراً مفجعا

كفاك بخير الخلق آل مُحمّد

أصابهم هم المصائب أجمعا

تخطفهم ريب المنون بصرفه

فاغرب بالارزاء فيهم وابدعا

وقفت على أبياتهم فرأيتها

خراباً أراباً قفرة الجو بلقعا

وإن لهم في عرصة الطف وقعة

تكاد لها الأطواد أن تتزعزعا

غزتهم بجيش الحقد أمة جدهم

ولم ترع فيهم من لهم كان قد رعا

كأني بمولاي الحُسين وصحبه

وجيش ابن سعد حولهم قد تجمعا

وقد قام فيهم خاطباً قائلاً لهم

ولم يك من ريب المنون ليجزعا

ألم تأتني يا قوم بالكتب رسلكم

تقولون عجل نحونا السير مسرعا

وأنا جميعاً شيعة لك لا نرى

لغيرك في حق الإمامة موضعا

وقد جئت للعهد الذي عليكم

فما عندكم في ذاك قولوا لأسمعا

فقالوا له ما هذه الكتب كتبنا

فقال لهم خلوا سبيلي لارجعا

فقالوا له هيهات بل لنسوقكم

إلى ابن زياد كارهين وخضعا

فإن لم تجيبوا فالأسنة بيننا

يجرعكم أطرافها السم منقعا

٣٧٧

فقال لهم يا ويلكم فتباعدوا

عن الماء كي نروي فقالوا له معاً

سنوردكم حوض الردى قبل ورده

ومالوا عليه بالأسنة شرعا

فبادر أصحاب الحُسين إليهم

فرادى ومثنى حاسرين ودرعا

إذا ما أتوا نحو الشريعة للظما

رأوا دونها زرق الأسنة شرعا

لقد صبروا لا ضيع الله صبرهم

ولم يك عند الله صبر مضيعا

إلى أن ثووا صرعى على الترب حوله

فلله ذاك المصرع الطف مصرعا

ووافوا إلى مولاي إذا ظل وحده

فلا قوة إذ لاقوا شجاعاً سميدعا

فشد عليهم شدة علوية

فخلى نياط القوم منها مقطعا

كفعل أبيه في الحروب وضربه

وهل تلد الشجعان إلّا مشجعا

إلى أن ثوى عن سرجه متعفراً

يلاحظ فسطاط النساء مودعا

وأقبل شمر الرجس فاحتز رأسه

وخلف منه الجسم شلوا مبضعا

وشال سنان في السنان برأسه

كبدر الدجى وافى من التم مطلعا

ومالوا على رحل الحُسين وأهله

فيا يومهم ما كان أدهى واشنعا

فلو تنظر النسوان في ذلة السبا

يسقن على رغم عطاشى وجوعا

وزينب ما تنفك تدعو باختها

أيا أخت ركني قد وهى وتضعضعا

أيا أخت أخت من بعد الحُسين نعده

لحادثة الأيام حصناً ممنعا

أيا أخت هذا اليوم آخر عهدنا

فبعد حسين قط لن نتجمعا

أيا أخت لو أن الذي بي من الأسى

برضوي إذاً لانهدا ولتزعزعا

أيا أخت أبكي لليتامى بذلة

ونوحي وابكي للأرامل ضيعا

فيا مؤمناً في زعمه متشيعاً

ولا مؤمن إلّا الذي قد تشيعا

أتذبح في يوم به ذبح العدى

أمامك فاعفر عفر خديك لالعا

ويألف في عاشور جنبك مضجعاً

وترب الفلا أضحى لمولاك مضجعا

أيضحك منك الثغر من بعد أن غدى

به ثغر مولاك الحُسين مقرعا

أينهب فيه رحل آل مُحمّد

وبيتك فيه لا تزال موسعا

فيا ليت سمعي صم عن ذكر يومه

ويا ليت لم يخلق لي الله مسمعا

سأبكي دماً بعد الدّموع لفقده

وإن لم يكن يترك لي الحزن مربعا

٣٧٨

أشيعة آل الـمُصطفى من يلومني

على بغض من يشني الشفيع المشفعا

برئت إلى الرحمن ممن شناهم

ولا زلت أبكيهم إلى أن أشيعا

ولائي لهم شفع البرا من عدوهم

بذلك أرجوهم غداً لي شفعا

أوالي الذي سمى لكثرة علمه

بطيناً كما سمى من الشرك انزعا

ومدح ابن حماد لآل مُحمّد

يرجى بأن يجزى لدى البعث ما سعا

الباب الثّالث

أيّها الأصحاب والإخوان , أطيلوا الأشجان والأحزان وابكوا لسادات الزّمان ، فيا ليت علمي ماذا يقول ظالم بضعة الرّسول، إذ حاولوا إطفاء نور خاتم النّبيين ومحو آثار ذرّيّته من بين العالمين , فتعساً لهم ! ما حملهم على غصب البتول ابنة النّبي الرّسول ؟ وعلى ماذا أنفسهم وطّنوا وعلى أيّ شيء اعتمدوا وركنوا ؟ فهل كانت إلّا أيّام قلائل وفيء زائل ، ثمّ يردون على الهول الطّائل :( نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ) (١) .

فيا إخواني , إذا ذكرت مصابهم في تلك الأيّام وما حلّ بهم من الآلام العظام , يعتريني الهمّ والحزن حتّى تكاد تخرج روحي من البدن , فاتمنّى مَن أبثّ حزني إليه ؛ ليساعدني ويسعفني على ما أنا عليه

لا تحسبوا مدمعي المبيض غير دمي

وإنما نار أنفاسي تصعده

روي عن عبد الحميد (ره) , قال : بينما الحُسين (عليه‌السلام ) واقف في ميدان الحرب يوم الطّفّ وهو يستعطف القوم شربة ماء , وهو ينادي : (( هل من راحم يرحم آل الرّسول الـمُختار ؟ هل من ناصر ينصر الذّرّيّة الأطهار ؟ هل من مجير لأبناء البتول , هل من ذاب يذّب عن حرم الرّسول ؟ )) .إذ أتى الشّمر اللعين إليه حتّى صار بالقرب منه , ونادى : أين أنت يا حُسين ؟ فقال : (( ها أنا ذا )) .فقال : أتطلب منّا شربة من الماء ؟ هذا مطلب محال , ولكن ابشر بالنّار الحمراء وشرب الحميم .فقال الحُسين (عليه‌السلام ) : (( من أنت يا لعين ؟ )) .فقال : الشّمر .فقال الحُسين (عليه‌السلام ) : (( الله أكبر , صدق جدّي رسول الله في رؤياه من قبل )) .فقال له الشّمر : في أيّ شيء صدق جدك ؟ فقال (عليه‌السلام ) : (( قال جدّي : رأيت في منامي كلباً أبقع يأكل من لحوم أهل بيتي ويلعق

____________________

(١) سورة التّحريم / ٦.

٣٧٩

من دمائهم .وأمّا أنا فإنّي رقدت الآن , فرأيت في منامي كلاباً كثيرة تريد تنهش من لحمي وتشرب من دمي , وكان فيهم كلب أبقع وكان أشدّهم عليّ جرأة وأكثرهم عليّ حنقاً , وهو أنت يا شمر )) .- وكان الشّمر لعنه الله أبقع الجسد - قال : فغضب الشّمر من كلام الحُسين وازداد حنقاً وبغضاً ، وقال : والله لا يقتلك غيري , ولأذبحنّك من قفاك ؛ ليكون ذلك أشدّ بك :

ليبك على الإسلام من كان باكياً

فقد هدمت أركانه ومعالمه

وقد ذهب الإسلام إلّا بقية

قليل من الدُنيا الذي هو لازمه

فيا لهفاه على مصاب الإسلام بعصابة جعلهم الله تعالى رحمة للأنام , بهم تتحصّل الخيرات وتكتسب الفضائل والكمالات، فيا خيبة من ناوأهم ويا خسران من أبغضهم وعاداهم !

روي عن بعض الثُقاة : أنّ عبد الله بن عمر لمـّا بلغه أنّ الحُسين (عليه‌السلام ) متوجه إلى العراق , جاء إليه وأشار عليه بالطّاعة والإنقياد لابن زياد وحذّره من مشاقّة أهل العناد ، فقال له الحُسين (عليه‌السلام ) : (( يا عبد الله , إنّ من هوان هذه الدُنيا على الله, أنّ رأس يحيى بن زكريا (عليه‌السلام ) اُهدي إلى بغي من بغايا بني إسرائيل , فامتلأ به سروراً ولم يعجّل الله عليهم بالإنتقام , وعاشوا في الدُنيا مغتبطين .ألم تعلم يا عبد الله , أنّ بني إسرائيل كانوا يقتلون ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشّمس سبعين نبيّاً ، ثمّ يجلسون في أسواقهم يبيعون ويشترون كأنّهم لم يفعلوا شيئاً , ولم يعجّل الله عليهم بانتقام , بل أخذهم الله أخذ عزيز مقتدر ؟ )).

ثمّ قال (( يا عبد الله , اتق الله ولا تدعن نصرتي ولا تركنن إلى الدُنيا ؛ لأنّها دار لا يدوم فيها نعيم ولا يبقى أحد من شرّها سليم , متواترة محنها متكاثرة فتنها , أعظم النّاس فيها بلاء الأنبياء ، ثمّ الأئمة الاُمناء ثمّ المؤمنون ثمّ الأمثل بالأمثل )).

قال (عليه‌السلام ) : (( يا عبد الله , قد خُطّ الموت على ولد آدم مخطّ القلادة على جيد الفتاة , وما أولهني إلى لقاء أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف , وخير مصرع أنا لاقيه , كأنّي بأوصالي تقطّعها عسلان الفلوات بين النّواويس وكربلاء , فيملأنّ منّي أكراشاً جوفاً وأجوفة سغباً , لا محيص يوم خطّ بالقلم , رضا الله رضانا أهل البيت , نصبر على بلائه ليوافينا أجور الصّابرين , لن تشذّ عن رسول الله لحمته , هي مجموعة لنا في حظيرة القدس , تقربهم عينه وينجز لهم وعده , فمن كان باذلاً فينا مهجته وموطّناً على لقاء الله نفسه ؟

٣٨٠

فليرحل معي , فإنّي راحل مصبحاً إن شاء الله تعالى )).

ثمّ لقيه أبو هريرة الأسدي , فقال له : يابن رسول الله , ما الذي أخرّك من حرم جدّك مُحمّد الـمُصطفى ؟ فقال : (( يا أبا هريرة , إنّ بني اُميّة أخذوا مالي فصبرت , وشتموا عرضي فحملت , وطلبوا دمي فهربت عن حرم جدّي )) .وكان يزيد أنفذ عمر بن العاص في جيش عظيم وولاه أمر الحاج , وأوصاه أن يقبض على الحُسين سرّاً ويقتله غيلة , ألا لعنة الله على القوم الظّالمين.

قال : ثمّ جاء إليه عبد الرّحمن بن الحرث , وأشار عليه بترك ما يجزم عليه من المسير إلى الكوفة وبالغ معه , وذكّره ما فعله أهل الكوفة بأبيه وأخيه من قبله , وحذّره منهم غاية الحذر , فشكر له الحُسين (عليه‌السلام ) ، وقال : (( لقد اجتهدت برأيك هذا ولكن مهما يقض الله يكن , وأيم الله , لتقتضي [ليقتلني] الفئة الباغية , وليسلبنّهم الله بعد قتلي ذلاً شاملاً وسيفاً قاطعاً في رقابهم ، ثمّ يسلّط الله عليهم من يذلّهم حتّى يكونوا أذلّ من قوم سبأ , إذ ملكتهم امرأة فحكمت في أموالهم وأولادهم ودمائهم, وكذلك اُميّة )) :

إن كان منزل دمعي لا أنيس له

فإن رسم الكرى عن مقلتي درسا

ما زلت أجحد ما القى وادفعه

فاستشهد العاذلون الدمع والنفسا

روي عن الصّادق (عليه‌السلام ) , أنّه قال : (( دخل جابر الأنصاري إلى أبي في مدينة الرّسول , فقال له : يا جابر , بحقّ جدّي رسول الله , ألا أخبرتني عن اللوح , أرأيته عند اُمّي فاطمة الزّهراء ؟ فقال جابر (ره) : أشهد بالله العظيم ورسوله النّبي الكريم , لقد أتيت إلى فاطمة الزّهراء في بعض الأيّام ؛ لأهنئها بولدها الحُسين (عليه‌السلام ) بعدما وضعته بستة أيّام , فإذا هي جالسة وبيدها لوح أخضر من زبرجدة خضراء , وفيه كتابة أنوار الشّمس , وله رائحة أطيب من المسك , فقلت لها : ما هذا اللوح يا بنت رسول الله ؟ فقالت : هذا اللوح أهداه الله إلى أبي رسول الله , فيه اسم مُحمّد الـمُصطفى واسم عليّ الـمُرتضى واسم ولدي الحسن والحُسين ، واسماء الأئمة الباقين من ولدي .فسألتها أن تدفعه إلي ؛ لانظر ما فيه , فدفعته إلي فسررت به سروراً عظيماً، فقلت لها : يا ستّ النّساء , هل تأذنين لي أن اكتب نسخته ؟ فقالت : افعل .فأخذته ونسخته عندي , فقال له الباقر (عليه‌السلام ) : هل لك أن تريني

٣٨١

النّسخة بعينها الآن ؟ فمضى جابر إلى منزله فأتى بصحيفة من كاغذ , مكتوب فيها : بسم الله الرّحمن الرّحيم , هذا كتاب من العليم أنزله الرّوح الأمين على خاتم النّبيين أجمعين ، أمّا بعد , يا مُحمّد , عظّم اسمائي واشكر نعمائي , ولا تجحد آلائي ولا ترج سوائي ولا تخشى غيري , فمَن يرجو ويخشى غيري , أعذّبه عذاباً لا أعذّب به أحداً من العالمين .يا مُحمّد , إنّي اصطفيتك على سائر الأنبياء , وفضلّت وصيّك عليّاً على سائر الأوصياء , وجعلت ولدك الحسن عيبة علمي بعد انقضاء مدّة أبيه , وجعلت الحُسين خير أولاد الأوّلين والآخرين ومن نسله الأئمة المعصومين , وعليه تشب فتنة صمّاء , فالويل كلّ الويل لِمَن حاربه وغصبه حقّه ! ومنه يعقب زين العابدين , وبعده مُحمّد الباقر لعلمي والدّاعي إلى سبيلي على منهاج الحقّ , ومن بعده جعفر الصّادق القول والعمل , ومن بعده الإمام المطهّر موسى بن جعفر , ومن بعده عليّ بن موسى الرّضا , يقتله كافر عنيد ذو بأس شديد , ومن بعده مُحمّد الجواد يُقتل مسموماً , ومن بعده عليّ الهادي يُقتل بالسّم , ومن بعده الحسن العسكري يُقتل بالسّم , ومن بعده القائم المهدي , وهو الذي يقيم اعوجاج الدّين ويأخذ ثأر الأئمة الطّاهرين صلوات الله عليهم أجمعين , وهو رحمة للعالمين وسوط عذاب على الظّالمين , وسألقي عليه كمال موسى وبهاء عيسى وصبر أيّوب , فتذلّ أوليائي قبل ظهوره وتهادى رؤوسهم كما تتهادى رؤوس التّرك والدّيلم , فيظهر حجّتي فيهم , فيُقتلون ويُحرقون وتُصبغ الأرض من دمائهم , ويفشوا الويل والرنة في نسائهم , أولئك أوليائي حقّاً , بهم أدفع كلّ فتنة عمياء حندسية , وبهم أكشف الزّلازل وأرفع الأسلال(١) والأغلال :( أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ ) (٢) )).

فقال بعض أصحاب الصّادق (عليه‌السلام ) : يا مولانا , لو لم نسمع في دهرنا إلّا فضل هذا الحديث , لكفانا فضله .وقال (عليه‌السلام )(٣) : (( ولكن فصنه إلّا عن أهله )).

فانظروا أيّها الإخوان الأبرار إلى ما فعل بالأئمة الأطهار , الأشقياء الكفرة الفجّار , فيا ويلهم ماذا يجيبون عند بكاء الرّسول لمصاب ذرّيّة البتول , وبكاء إبراهيم خليل الرّحمن وغضب لغضبهما الملك الدّيان ! :( هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاَهُمْ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ) (٤) .

فعلى الأطائب من أهل الرّسول فليبك الباكون وأيّاهم فليندب النّادبون , ولمثلهم تذرف الدّموع من العيون , أو لا

____________________

(١) الموجود في الكافي : ١/ ٥٢٨ : وأدفع الآصار .(مؤسسة الإمامين الحسنين).

(٢) سورة البقرة / ١٥٧.

(٣) ولكن الوارد في المصادر المعتبرة كالكافي ٢/٥٢٨ , وغيره : قال أبو بصير : لو لم تسمع في دهرك ، إلا هذا الحديث لكفاك ، فصنه إلا عن أهله .(معهد الإمامين الحسنين).

(٤) سورة يونس / ٣٠.

٣٨٢

تكونون كبعض مادحيهم حيث عرته الأحزان والأشجان , فنظم وقال فيهم :

القصيدة للشيخ محمود بن طريح النّجفي (رحمه‌الله )

هجوعي وتلذاذي عليّ محرم

إذا هل في دور الشهور المحرم

أجدد حزناً لا يزال مجدداً

ولي مدمع هام همول مسجم

وأبكي على الأطهار من آل هاشم

وما ظفرت أيدي أولي البغي منهم

هم العروة الوثقى هم المعدن التقى

هم الشرف السامي نور الهدى هم

هم العترة الداعي إلى الرشد حبهم

ينبئنا فيه الكتاب المعظم

بهم نطقت مدحاً من الله (هل أتى)

(وطه) (ويس) (وعم) (ومريم)

وجدهم الهادي النّبي وأمهم

بتول ومولانا عليّ أبوهم

يعز على المختار والطهر حيدر

وفاطمة بالطف رزء معظم

وقد سار بالرهط الحُسين بن فاطمة

لكتب من الطاغين بالخدع تقدم

إلى أن أتى أرض الطفوف بأهله

فلم ينبعث مهر ولم يجر منسم

فقال فما هذي البقاع التي بها

وقفن تسمى (كربلاء) قال خيموا

فقال تسمى نينوى نينوى قال أوضحوا

فقالوا تسمى (كربلاء) قال خيموا

نعم هذه والله أخبر جدنا

بأن بها تسبى نسانا وتظلم

وفي هذه الآذان تهوي إلى الثرى

وفي هذه الأطفال بالرغم تيتم

وفي هذه تبدوا البنات حواسراً

وتوجع ضرباً بالسياط وتشتم

وفي هذه النسوان يبرزن هتكاً

بغير شعور والسعور ترنم

وتخرم أقراط وتدمي أساور

وتسلب خمر والخلاخل تقصم

وتستعطف النسوان آل أمية

فلم تر من يحنو عليها ويرحم

وسار ابن سعد واللعين ابن خولة

وشمر وطم الأرض جيش عرمرم

فلما أحاطوا بالحسين تناوبوا

وأكيفهم ليل من الكفر مظلم

وأقبلت الأعداء من كل جانب

على الظلم واشتاقت إليهم جهنم

وصال امامي بالطغاة مجادلاً

كما صال بالأغنام ليث غشمشم

وجالدهم بالبيض ضرباً وبالقنا

طعاناً وروى الأرض بالدم منهم

إلى أن فنوا أصحابه ورجاله

وأضحى فريداً ألفه الترب والدم

٣٨٣

فنادى ألا هل ناصراً ومجاهداً

يجاهد عن آل النّبي ويغنم

فلم يلق إلّا سمهرياً يجيبه

وإلّا يمانياً به الموت يعلم

وداروا عليه بالقسي فأرسلت

لجثمانه نبل فرادى وتوأم

فأصدفه سهم الردى متشعباً

ثلاثاً تلقاها الوريد المكرم

فجد له الأرض ملقى على الثرى

طريحاً له الذراري شراب ومطعم

فقام إليه الشمر يسعى وقد جثى

على صدره والشمر رجس مزنم

وأقبل مهر السبط نحو خيامه

يحمحم عرياناً وينعي ويلطم

فلما رأين الطاهرات خرجن في

أذل السبا كل إليه تقدم

وبادرن نحو السبط وهو مرمل

يكلمنه شجواً ولا يتكلم

رأت زينب صدر الحُسين مرضضاً

فصاحت ونار الحزن في القلب تضرم

وصكت من الضرب المبرح وجهها

ولم تر صبراً من جوى الثكل يعصم

تقول أخي قد كنت نوراً لشملنا

فيا سورنا لم أنت فينا مهدم

أخي يا أخي قد كنت كنزاً لفقرنا

فها أنت في أيدي العدى تتقسم

أخي يا أخي قد كنت كهفاً لعزنا

الم ترنا بالذل نسبى ونشتم

أخي زود الأطفال وعداً وأوبة

فليس سوى الباري وإياك يرحم

أخي زود الولهى سكينة نظرة

فمهجتها حرى وعبرتها دم

أخي تهتوي التقبيل منك سكينة

وشمر لها بالسوط ضرباً يؤلم

أخي فاطم الصغرى تحب التفاتة

وحقك هذا قلبها فيك مغرم

أخي بنتك الأخرى رقية ضمها

إليك فأحشاها من الوجد تضرم

تقولا هلمي يا سكينة نرتمي

على والدي دعنا من الموت نسلم

وإلّا فقومي ودعيه فإنه

يروم إرتحالاً بعده ليس يقدم

ولم أنس وجداً أم كلثوم تشتكي

إلى جدها يا جد لو كنت تعلم

أيا جد هل تنظر حسيناً مرملاً

لأضلعه خيل العدة تحطم

وهل تنظر السجاد بالقيد موثقاً

يضربه التكبيل سحباً ويشتم

أيا جدنا هذي بناتك حسراً

أسارى قرط ابن بنتك تقسم

أيا جدنا ساقوا علياً مكبلاً

لينظره الطاغي يزيد المزنم

٣٨٤

أيا جدنا رأس الحُسين يقله

سنان سناه بالقناة محكم

فيا لك مقتولا أصيب بقتله

ملائكة الرحمن والجن معهم

ويا لك من رزء عظيم إذا به

تقاس الرزايا كلها فهو أعظم

ويا لك من يوم مهول تزلزلت

له الأرض والأطيار بالجو حوم

ويا لك من حزن كأن مذاقه

على شيعة المختار صاب وعلقم

أتسبى كريمات الحُسين على الضنا

ويكنف نسوان العلوج المخيم

أل لعن الرحمن آل أمية

وأشياخهم مع من تناسل منهم

وأشياعهم والتابعين لقولهم

ومن لهم بالقلب يهوى ويرحم

فيا عترة الهادي خذوها بمدحكم

مدبجة كالدر حين ينظم

على كل بيت للمديح يتيمة

بأسماع من يهواكم تتقسم

تزف إليكمم كل عشر محرم

يتوق إليها الشاعر المترنم

مديحاً لمحمود العزيزي عبدكم

له باعاديكم من اللعن أسهم

موالي مواليكم معادي عدوكم

مودته في حبكم لا تكتم

ويرجي بها يوم القيامة شربة

من الحوض يا أهل الشفاعة منكم

خذوا لي وآبائي وأمي ووالدي

أماناً من أذى النّار وأرحم

ورهطي وإخواني وقارئن مدحتي

ومستمعيها واعطفوا وترحم

وفي الخلد نرجو تدخلونا بجاهكم

فليس لنا إلّا النّبي وأنتم

صلاة وتسليم مساء وبكرة

من الله عد الذر تترى عليكم

٣٨٥

المجلس الثّامن

من الجزء الثّاني ، في التّاسع من عشر الـمُحرّم

وفيه أبواب ثلاثة

الباب الأوّل

أيّها الإخوان , اكثروا رحمكم الله النّوح والأشجان , واظهروا شعائر الأحزان على سادات الزّمان , واُولي الكرم والفضل والإحسان خصوصاً في شهر عاشوراء ، وإن كان حزنهم خليقاً في كل الشّهور.

وكيف لا نبكي على مصاب من لا يحصل لنا من النّار الخلاص إلّا إذا قمنا في محبّتهم بالإخلاص ؟! وما لنا لا نعادي أعداء قوم محبّهم يحبّهم الجبار ومبغضهم يورده موارد أهل النّار ؟! ففي الخبر عن سيّد البشر , أنّه قال ذات يوم لبعض أصحابه: (( يا عبد الله , احبب في الله وابغض في الله ووال في الله وعاد في الله ، فإنّه لا تنال ولاية الله إلّا بذلك , ولا يجد رجل طعم الإيمان وإن كثرت صلاته وصيامه , حتّى يكون ذلك كذلك )) .فقال له : يا رسول الله , وكيف لي أن اعلم أنّي قد واليت في الله وعاديت في الله ، ومَن وليّ الله عزّ وجلّ حتّى أواليه ، ومَن عدوه حتّى أعاديه ؟ فأشار رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) إلى عليّ (عليه‌السلام ) ، فقال : (( أترى هذا ؟ )) .قال : بلى .قال : (( وليّ هذا وليّ الله ، وعدو هذا عدو الله ، فوال ولي هذا لو أنّه أبوك , وعاد عدوه لو أنّه أبوك )) :

إذا كنت تهوى القوم فاسلك طريقهم

فما وصلوا إلّا بعد العلائق

وما نقل الهندي وهو حديدة

على الكتف إلّا بعد دق المطارق

فيا هذا : أيلام من شقّ الجيوب ، جيوب القلوب لا جيوب الثّياب , أو يعنّف مَن أجرى الدّماء لا الدّموع على هذا المصاب ؟ كلا , حاشا لله حقّهم لا

٣٨٦

يقضي وشكرهم لا يؤدي ، لكن من بذل الاجتهاد كان جديراً أن يحصل المراد.

روي عن أبي حمزة الثّمالي , قال : أتيت إلى سيّدي ومولاي عليّ بن الحُسين (عليه‌السلام ) وهو في داره في مدينة الرّسول , فاستأذنت عليه بالدّخول فاذن لي , فدخلت عليه فوجدته جالساً , وإذا على فخذه صبي صغير وهو مشغوف به ، وهو يقبّله ويحنو عليه ، فقام الصّبي يمشي فعثر فوقع على عتبة الباب , فانشج رأسه فوثب إليه مهرولاً وقد أحزنه ذلك , فجعل ينشّف دمه بخرقة وهو يقول له : (( يا بني , أعيذك بالله أن تكون المصلوب في الكناس )) .فقلت له : يا مولاي فداك أبي واُمّي وأيّ كناس ؟! فقال : (( يُصلب ابني هذا في موضع يُقال له الكناس من أعمال الكوفة )) .فقلت : يا مولاي أو يكون ذلك ؟! قال : (( والله سيكون ذلك , والذي بعث مُحمّداً بالحقّ نبيّاً , لئن عشت بعدي لترين هذا الغلام في ناحية من نواحي الكوفة وهو مقتول مسحوب ، ثمّ يُدفن ويُنبش ويُصلب في الكناسة ، ثمّ يُنزل بعد زمان طويل فيُحرق ويُذرى في الهوى )) .فقلت : جعلت فداك ! وما اسم هذا الغلام ؟ قال : (( هذا ابني زيد )) .وهو مع ذلك يحدّثني ويبكي ، ثمّ قال لي : (( أتحبّ أن أحدّثك بحديث ابني هذا ؟ )) .قلت : بلى.

قال : (( بينما أنا ليلة ساجداً في محرابي , إذ ذهب بي النّوم فرأيت كأنّي إلى الجنّة , وكأنّ رسول الله وعليّاً والحسن والحُسين وقد زوجوني بحورية من حور العين , فواقعتها واغتسلت عند سدرة الـمُنتهى , وإذا أنا بهاتف يقول : أتحبّ أن أبشّرك بولد اسمه زيد ؟ فاستيقظت من نومي وقمت وصلّيت صلاة الفجر , وإذا أنا بطارق الباب ، فخرجت إليه , فإذا معه جارية وهي مخمرة بخمار ، فقلت له : ما حاجتك ؟ فقال : أريد عليّ بن الحُسين .فقلت : أنا هو .فقال : أنا رسول الـمُختار إليك , وهو يقرئك السّلام ويقول : قد وقعت هذه الجارية بأيدينا , فاشتريتها بستمائة دينار وقد وهبتها لك , وهذه أيضاً ستمائة دينار اُخرى فاستعن بها على زمانك .فدفع إليّ المال ومعه كتاب , فقبضت المال والجارية ، فقلت لها : ما اسمك ؟ قالت : اسمي حورية .فقلت : صدق الله ورسوله ، هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربّي حقّاً .فدخلت بها تلك الليلة فإذا هي غاية الصّلاح , فعلقت منّي بهذا الغلام ، فلمّا وضعته سمّيته زيداً ، وسترى ما قُلت لك )).

٣٨٧

قال أبو حمزة الثّمالي : فو الله لقد رأيت زيداً مقتولاً , ثمّ سُحب ثمّ دُفن ثمّ نُشر ثمّ صُلب ، ولم يزل مصلوباً زماناً طويلاً حتّى عشعشت الفاختاة في جوفه ، ثمّ اُحرق وذري في الهواء رحمة الله عليه.

وروى فضله عن بعض الأخبارين , قال : سألت خالد بن فضله عن فضل زيد بن زين العابدين (عليه‌السلام ) , فقال : أيّ رجل كان .فقلت : وما علمت عن فضله ؟ قال : كان يبكي من خشية الله تعالى حتّى تختلط دموعه بدمه طول ليله , حتّى اعتقد كثير من النّاس فيه الإمامة , وكان سبب اعتقادهم ذلك منه ؛ لخروجه بالسّيف يدعو بالرّضى من آل مُحمّد (عليهم‌السلام ) , فظنوه يريد بذلك نفسه ولم يكن يريدها ؛ لمعرفته باستحقاق من قبله ، وكان سبب خروجه ؛ الطّلب بدم جدّه الحُسين (عليه‌السلام ) , وأنّه دخل يوماً على هشام بن عبد الملك ، وقد كان جمع له هشام بني اُميّة , وأمرهم أن يتضايقوا في المجلس ؛ حتّى لا يتمكن زيد من الوصول إلى قربه ، فوقف زيد مقابله وقال له : يا هشام , ليس أحد من عباد الله فوق أن يوصي بتقوى الله في عباده ، وأنا اُوصيك بتقوى الله فاتقه .فقال هشام : يا زيد , أنت المؤهل نفسك للخلافة ، وأنت الرّاجي لها ؟! وما أنت وذاك لا اُمّ لك , وإنّما أنت ابن أمة .فقال له زيد : إنّي لا اعلم أحداً أعظم عند الله من نبي بعثه , فلو كان ذلك يقصر عن منتهى غاية لم يبعث الله إسماعيل نبيّاً وهو ابن أمة , فالنّبوة أعظم أم الخلافة ؟ وبعد , فما يقصر في رجل جدّه رسول الله وهو ابن عليّ بن أبي طالب أن يكون ابن أمة.

قال : فنهض هشام مغضباً ودعا قهرمانه وقال : والله , لآتين هذا بعسكر يضيق به الفضاء .وخرج زيد وهو يقول : لم يكره قوم قط حرّ السّيوف إلّا ذلّوا .ثمّ إنّه توجه إلى الكوفة فاجتمع عليه أهلها وبايعوه على الحرب معه .فنقضوا ببيعته وسلّموه لعدوه , فقُتل رحمة الله عليه وصُلب في موضع يُقال له الكناس , وبقي مصلوباً بينهم أربع سنوات لا ينكر أحد منهم بيد ولا لسان , وقد عشعشت الفاختاة في جوفه , وقد خانوا به أهل الكوفة ونقضوا بيعته كما خانوا آبائه وأجداده من قبل ، ألا لعنة الله على القوم الظّالمين.

قال : فلمّا بلغ قتله إلى الصّادق (عليه‌السلام ) , حزن عليه حزناً عظيماً وجعل يئنّ من وجده عليه , وفرّق من ماله صدقة عنه وعمّن اُصيب معه من أصحابه لكلّ بيت منهم ألف دينار ، وكان مقتله يوم الاثنين لليلتين خلتا من شهر صفر سنة عشرين

٣٨٨

ومئة من الهجرة ، وكان عمره يوم قُتل اثنين وأربعين سنة ، قال : فلمّا قُتل زيد , سرّ بقتله المنافقون وحزن له المؤمنون ، وأمّا هشام بن الحكم , فإنّه فرح بقتله وعمل يوم قتله عيداً , وأنشد يقول :

صلبنا لكم زيداً على جذع نخلة

ولم نر مهدياً على الجذع يصلب

وقستم بعثمان علياً سفاهة

وعثمان خير من عليّ وأطيب

قال : فبلغ قوله إلى الصّادق (عليه‌السلام ) , فاغتم منه غمّاً شديداً ، ورفع يديه إلى نحو السّماء وهما يرتعدان من شدّة عرقه , وقال : (( اللّهمّ , إن كان عبدك الحكم كاذباً , فسلّط عليه كلباً من كلابك يأكله )).

قال : فأرسله بنو اُميّة إلى الكوفة , فافترسه الأسد لعنة الله عليه , فوصل خبره إلى الصّادق (عليه‌السلام ) , فخرّ ساجداً لله ؛ لسرعة إجابة دعائه , وقال : (( الحمد لله الذي انجز وعده وأهلك عدوه( وَسَيَعْلَمُ الّذِينَ ظَلَمُوا أَيّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ ) (١) )).لقد غرّتهم الدُنيا الدّنية حتّى أردتهم وأهلكتهم , فحسبهم جهنّم وساءت مصيراً ، يوم لا يجدون من الله وليّاً ولا نصيراً

ألا يا بايعاً ديناً بدنيا

غروراً لا يدوم لها نعيم

إلى ديان يوم الدين نمضي

وعند الله تجتمع الخصوم

نُقل : أنّه كانت الدّولة لبني اُميّة ألف شهر ، وكانوا لا يزالون يأمرون الخطباء بسبّ عليّ بن أبي طالب على رؤوس المنابر ، فأوّل من تأمّر منهم معاوية عليه اللعنة ومدّة خلافته عشرون سنة ، ثمّ تخلّف من بعده ولده يزيد عليه اللعنة ثلاثة سنين وثمانية أشهر وأربعة عشر يوماً ، ثمّ تخلّف من بعده معاوية بن يزيد شهراً واحداً وأحد عشر يوماً ، وترك الخلافة ؛ خوفاً من عذاب الله, واعترف بظلم آبائه وعرّف النّاس ذلك وهو قائم على المنبر , حتّى أنّ اُمّه لامته على ذلك ، فقالت له : ليتك كنت حيضة ولم تكن بشراً , أتعزل نفسك عن منصب آبائك ؟! فقال لها : يا اُمّاه , وأنا والله وددت أن أكون حيضة , ولا أطأ موطئاً لست له بأهل , ولا ألقى الله عزّ وجلّ بظلم آل مُحمّد.

ثمّ تخلّف من بعده عبد الملك بن مروان عليه اللعنة إحدى وعشرين سنة وشهراً ، ثمّ تخلّف من بعده الوليد بن عبد الملك بن مروان عليه اللعنة إحدى وعشرين سنة وشهراً ، ثمّ تخلّف من بعده الوليد بن عبد الملك تسع سنين

____________________

(١) سورة الشّعراء / ٢٢٧.

٣٨٩

وثمانية أشهر ويوماً واحداً , ثمّ تخلّف من بعده أخوه هشام بن عبد الملك , تسع عشرة سنة وتسعة أشهر وتسعة أيّام ، ثمّ تخلّف مروان الحمار خمس سنين وشهراً وثلاثة عشر يوماً , فملك بنو اُميّة ثلاثة وثمانون سنة وأربعة أشهر ، يكون المجموع ألف شهر , وهم مع ذلك يسبّون عليّاً (عليه‌السلام ) .ثمّ تخلّف عمر بن عبد العزيز وأبطل السّب عن عليّ.

فلمّا قُتل الحُسين (عليه‌السلام ) لم تقم لبني اُميّة قائمة حتّى سلبهم الله ملكهم واضمحلّ ذكرهم ، فلمّا تولّى السّفاح , أحمد بن مُحمّد بن عليّ بن عبد الله بن العبّاس , عمّ رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) فاستأصل الأكثر منهم ، ألا لعنة الله على القوم الظّالمين .وعلى الأطائب من أهل البيت فليبك الباكون ، وإيّاهم فليندب النّادبون , ولمثلهم تذرف الدّموع من العيون , أولا تكونون كبعض مادحيهم حيث عرته الأحزان وتتابعت عليه الأشجان , فنظم وقال فيهم :

القصيدة لابن حماد (رحمة الله)

ويك يا عين سحي دمعاً سكوباً

ويك يا قلب كن حزيناً كئيبا

ساعداني سعدتما فعسى

أشفي غليلاً من لوعة وكروبا

إن يوم الطفوف لم يبق لي من

لذة العيش والرقاد نصيبا

يوم صارت إلى الحُسين بنو حرب

بجيش فنازلوه الحروبا

وحموه من الفرات فما ذاق

سوى الموت دونه مشروبا

في رجال باعوا النفوس على الله

فنالوا ببيعها المرغوبا

لست أنساه حين أيقن بالموت

دعاهم فقام فيهم خطيبا

ثم قال الحقوا بأهليكم إذ

ليس غيري أرى لهم مطلوبا

شكر الله سعيكم إذ نصحتم

ثمّ أحسنتم لي المصحوبا

فأجابوه ما وفيناك إن نحن

تركناك بالطفوف غريبا

أي عذر لنا يوم نلقى

الله والطهر جدك المندوبا

حاش لله بل نواسيك أو يأخذ

كل من المنون نصيبا

فبكى ثمّ قال جوزيتم الخير

فما كان سعيكم ان يخيبا

ثم قال أجمعوا الرجال وشبوا

النّار فيها حتّى تصير لهيبا

وغدا للقتال في يوم عاشوراء

فأبدى طعناً وضرباً مصيبا

٣٩٠

فكأني بصحبه حوله صرعى

لدى كربلاء شباباً وشيبا

فكأني أراه فرداً وحيداً

ظامياً بينهم يلاقي الكروبا

حاملاً طفله بقبله حتّى

قد هو الطفل بالدماء خضيبا

وكأني أراه إذ خر مطعوناً

على حر وجهه مكبوبا

وكأني بمهره قاصداً الفسطاط

يبدي تحمحماً ونحيبا

وبرزن النساء حتّى إذا أبصرن

حيارى وقد شققن الجيوبا

فكأني بزينب إذ رأته

عارياً دامي الجبين تريبا

أقبلت نحو اختها ثمّ قالت

وديه وداع من لا يؤوبا

أخت يا أخت كيف صبرك عنه

وهو كان المؤمل المحبوبا

ثم خرت عليه تلثم خديه

وقد صار دمعها مسكوبا

وتناديه يا أخي لو رأت عيناك

حالي رأيت أمراً عجيباً

يا أخي لا حييت بعدك هيهات

حياتي من بعدكم لن تطيبا

كنت حصني من الزمان إذا ما

خفت خطباً دفعت عني الخطوبا

ضاقت الأرض بي وكانت علينا

بك يا سيّدي فناءاً رحيبا

يا هلالاً لمـّا استتم كمالاً

غاله خسفه فأهوى غروبا

يا قضيباً اغضى ما كان أودته

رياح الورى وكان رطيبا

ما توهمت يا شقيق فؤادي

كأن هذا مقدراً مكتوبا

عد يتاماك إن أردت منيباً

يا أخي بالرجوع وعداً قريبا

فلعلي أسر فيك ولياً

وأسوء الحسود فيك المريبا

يا أخي حق فيك ما كنت أخشاه

فظني قد بان فيك كذوبا

يا أخي فاطم الصغيرة كلمها

فقد كاد قلبها أن يذوبا

يا أخي قلبك الشفيق علينا

ما له قد قسى وصار صليبا

ما أذل اليتيم حين ينادي

بأبيه ولا يراه مجيبا

يا أخي لو ترى علياً لدى اليتم

مع الأسر ما يطيق وجوبا

يا أخي لو ترى علياً لقد صار

لدى القيد بينهم مسحوبا

يا أخي ضمه إليك وقربه

وسكن فؤاده المرعوبا

٣٩١

لا تباعده يا أخي بعد إذا

عودته منك ذلك التقريبا

يا أخي لو تراه مستضعفاً بين

الأعادي مقيداً مصحوبا

كلما أوجعوه بالضرب ناداك

وقد صار دمعه مسكوبا

يا أخي هل يعز فيك على

حين أضحى مكبلاً مضروبا

يا أخي زود اليتيم اعتناقا

والتزاماً إذا أردت المغيبا

عندها قد بكت ملائكة الله

واهتز عرش ربي غضوبا

ثم سيرن حاسرات حيارى

ما يفترن رنة ونحيبا

وإذا ما رأين بالرأس قد شيل

على رأس ذابل منصوبا

يتساقطن بالوجوه على الأرض

ويندبن بالعويل ندوبا

وينادين : يا أقل البرايا

كلها رحمة وأقسى قلوبا

باعدوا الرأس وارحمونا ورقوا

لا تزيدوا قلوبنا تعذيبا

ما لنا بيننا وبينكم الله

لدى الحشر حاكماً وحسيبا

يوم عاشور لا رعيت لقد

كنت مشوماً على الهداة عصيبا

يا بني الـمُصطفى السلام عليكم

ما أقل الغصون طيراً طروبا

هدني الحزن بعدكم مثل ما هد

من الحزن يوسف يعقوبا

ولقد زاد ذكر زيد غليلي

حين أضحى على الكناس صليبا

ثم أذري من بعد قبر ونبش

وحريق بين الرياح نهيبا

أمة السوء لم تجازوا رسول الله

فيكم إذ لم يزل متعوبا

كل يوم تهتكون حريماً

من بنيه وتقتلون حبيبا

وتبيحون ما حمى وتشنون

على أهله الأذى والحروبا

كيف تلقونه شفيعاً وترجون

غداً أن يزيل عنكم كروبا

لا وربي ينال ذاك سوى من

كان مولاهم موال منيبا

وإليكم يا سادتي قد توجهت

مطيعاً لأمركم مستجيبا

بكم طاب مولد علم الله

وزادت بصيرتي تهذيبا

ويقيني صفا لكم فصفا سري

وودي قتلت حصنا عجيبا

وخلعت العذار فيكم فلن

أقبل عذلا فيكم ولا تأنيبا

٣٩٢

وأنا الشاعر ابن حماد لا ينكر

فضلي من كان طبا لبيبا

الباب الثّاني

أيّها المؤمنون السّامعون , اعملوا رحمكم الله الفكر وأطيلوا التّأمل والنّظر , وانظروا إلى هذا الإمام وشدّة صبره على المضض والآلام , وتجرّع كؤوس الحمام في رضى الملك العلام , فإنّه أمر تحير فيه الأفكار وتذهل في معانيه القلوب والأبصار .ألا ترون إلى إبراهيم الخليل (عليه‌السلام ) ابتلى بنفسه لا غير حين اُلقي في النّار , والحُسين (عليه‌السلام ) صُرع حوله بنوه وبنو أبيه الأطهار وآله وصحبه الأخيار , واغتصبوا نفسه الزّكية , فقابل الجمع بالرّضى والاصطبار ؟! وهذا أمر لم يصل أحد قبل ولا بعد إليه إلّا أبوه الإمام عليه أفضل الصّلاة والسّلام :

كفاك قسماً لو أكتفيت به

إنك في المجد والعلى علم

بمن يلوذ الراجي سواك ومن

به يعوذ اللاجي ويعتصم

فلا غرو إن بكينا الإمام الحُسين (عليه‌السلام ) بدمع يخجل صوب الغمام .أليس هو ابن حبيب الملك العلام ؟ أليس هو سبط سيّد الأنام ؟ أليس هو ثمرة فؤاد الزّهراء ؟ أليس من خدّامه جبرائيل ؟ أليس من عتقائه دردائيل ؟ فيا ويل من ظلمهم وغصبهم حقّهم وهضمهم !

نُقل : أنّه لمـّا أنفذ ابن زياد برأس الحُسين (عليه‌السلام ) إلى يزيد لعنه الله , التفت يزيد إلى عبد الملك بن مروان , وقال له : انطلق حتّى تأتي عمر بن سعيد بن العاص بالمدينة , فبشره بقتل الحُسين .قال عبد الملك : فركبت ناقتي وسريت نحو المدينة , فلمّا دخلت المدينة , لقيني رجل من قُريش فقال لي : ما الخبر ؟ فقلت : عند الأمير تسمعه .فبكى الرّجل وقال : إنّا لله وإنّا إليه راجعون , قُتل والله الحُسين .قال عبد الملك : فلمّا دخلت على عمر بن سعيد , قال لي : ما وراءك ؟ قُلت : ما يسرّ الأمير , قُتل والله الحُسين بن عليّ .فاسترّ بذلك سروراً عظيماً , [و] قال لي : اخرج فناد في شوارع المدينة بقتل الحُسين ؛ لتسرّ بذلك بني اُميّة وتكمد بني هاشم .قال : فخرجت فناديت في شوارع المدينة , فلم أسمع واعية قطة [قط] مثل واعية بني هاشم في دورهم ينوحون على

٣٩٣

الحُسين (عليه‌السلام ) حين سمعوا النّداء بقتله , ثمّ رجعت إلى عمر بن سعيد بن العاص , فلمّا رآني تبسّم ضاحكاً ثمّ قال :

عجت نساء بني زياد عجة

كعجيج نسوتنا غداة الأرنب

فالآن أشفينا القلوب بقتله

وسقى حسين جرعة لم تشرب

ثمّ قال : هذه والله واعية بواعية عثمان .ثمّ خرج إلى المسجد ورقى المنبر وأعلمَ النّاس بقتل الحُسين (عليه‌السلام ) , ودعا ليزيد بدوام الـمُلك وشدّة السّلطان , وسبّ الحُسين وذمّه , ثمّ نزل عن المنبر .فإزداد البكاء والنّوح في دور بني هاشم , وقال : وخرجت اُمّ لقمان بنت عقيل بن أبي طالب حين سمعت نعي الحُسين وهي حاسرة ومعها أخواتها ؛ اُمّ هاني وأسماء ورملة وزينب بنات عقيل , وهن يبكين قتلاهن بطفّ كربلاء , وواحدة منهنّ تقول :

ماذا تقولون إذ قال النّبي لكم

ماذا فعلتم وأنتم آخر الأمم

بعترتي وبأهلي بعد مفتقدي

منهم أسارى ومنهم ضرجوا بدم

ما كان هذا جزائي إذ نصحت لكم

أن تخلفوني بسوء في ذوي رحمي

قال : فلمّا كان الليل من ذلك اليوم الذي خطب فيه عمر بن سعيد , إذ سمع أهل المدينة في جوف الليل منادياً ينادي ولا يُرى شخصه :

أيها القاتلون ظلماً حسيناً

إبشروا بالعذاب والتنكيل

كل من في السّماء يدعو عليكم

من نبي وملائك وقبيل

قد لعنتم على لسان ابن داود

وموسى وصاحب الإنجيل

فتبّاً لهم ما أجرأهم على انتهاك حرمة خاتم النّبيين ! وما أقسى قلوبهم على الذّرّيّة الطّاهرين , كأنّهم لم يسمعوا بفضلهم في القُرآن الـمُبين على لسان الرّسول وجبرائيل الأمين , بلى والله قد سمعوا وعرفوا وعاهدوا عليه وما وفوا( وَسَيَعْلَمُ الّذِينَ ظَلَمُوا أَيّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ ) (١) .

وابشروا أيّها الشّيعة وبشروا , فإنّ لكم عند الله الأجر العظيم والثّواب الجسيم ، وتصديق ذلك ما روي عن أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) , أنّه كان يقول لغلامه قنبر : (( أبشر وبشّر المؤمنين , أنّ رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله )

____________________

(١) سورة الشّعراء / ٢٢٧.

٣٩٤

مات وهو ساخط على اُمّته إلّا الشّيعة ، ألا وإنّ لكلّ شيء عروة , وعروة الإسلام الشّيعة , ألا وإنّ لكلّ شيء دعامة , ودعامة الإسلام الشّيعة ، ألا وإنّ لكلّ شيء شرفاً , وشرف الإسلام الشّيعة ، ألا وإنّ لكلّ شيء سيّداً , وسيّد المجالس مجالس الشّيعة .والله , لولا من في الأرض منكم , ما أنعم الله على أهل الخلاف وما لهم في الآخرة من نصيب , وإنّ تعبّدوا واجتهدوا وصاموا وصلّوا كثيراً , لن يدخلوا الجنّة , وإنّ شيعتنا ينظرون بنور الله ومن خالفنا ينقلب بسخط الله .والله , إنّ فقراءكم أهل الغنى وإنّ أغنياءكم أهل القنوع , وإنّ كلّكم أهل دعوة الله وأهل إجابته ، أنتم الطّيبون ونساءكم الطّيبات ، كلّ مؤمن منكم صدّيق في الجنّة , وكلّ مؤمنة حوراء في الجنّة )).

فيا إخواني , ما عذر أهل الإيمان في إضاعة البكاء ولبس أثواب الأحزان ؛ لمصاب سيّد الشّهداء من ولد عدنان ؟ كيف لا ؟! وهو حبيب ربّ العالمين وابن سيّد الوصيين وآية الله في العالمين.

ففي الخبر عن ابن مسعود , أنّه قال : دخلت يوماً على رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) , فقلت : يا رسول الله , أرني الحقّ حتّى أنظر إليه .فقال لي : (( يابن مسعود الج المخدع )) .فولجت , فرأيت عليّ بن أبي طالب راكعاً ساجداً وهو يقول عقيب كلّ صلاة : (( اللّهمّ , بحرمة مُحمّد عبدك ورسولك اغفر للخاطئين من شعيتي )) .قال ابن مسعود : فخرجت أخبر رسول الله بذلك , فرأيته راكعاً وساجداً وهو يقول : (( اللّهمّ , بحرمة عليّ بن أبي طالب عبدك اغفر للعاصين من اُمّتي )) .قال ابن مسعود : فأخذني الهلع حتّى غشي عليّ .فرفع النّبي رأسه فقال : (( يابن مسعود , أكفرت بعد إيمانك ؟ )) .فقلت : معاذ الله , ولكنّي رأيت عليّاً يسأل الله تعالى بك وتسأل الله به , ولا أدري أيّكما أفضل ! فقال النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : (( يابن مسعود , إنّ الله عزّ وجل خلقني وعلقني [وعليّ] والحسن والحُسين من نور عظمته قبل الخلق بألف عام حين لا تسبيح ولا تقديس ، ففتق نوري فخلق منه السّماوات ، وفتق نور عليّ فخلق منه العرش والكرسي ، وعلي أجلّ من العرش والكرسي ، وفتق نور الحسن فخلق منه اللوح والقلم ، والحسن أجلّ من اللوح والقلم , وفتق نور الحُسين فخلق منه الجنان والحور والولدان ، والحُسين أفضل منهم ، فاظلمت المشارق والمغارب , فشكت الملائكة إلى الله عزّ وجلّ الظُلمة وقالت : اللّهمّ , بحرمة هذه الأشباح التي خلقتهم إلّا ما فرّجت عنّا من هذه الظُلمة.

٣٩٥

فخلق الله روحاً وقرنها باُخرى فخلق منها نوراً ، ثمّ أضارت الرّوح(١) , فخلق منها الزّهراء فأضاءت منها المشارق والمغارب ؛ فمن ذلك سمّيت الزّهراء .يابن مسعود , إذا كان يوم القيامة , يقول الله عزّ وجلّ لي ولعلي : ادخلا الجنّة مَن شئتما وادخلا النّار من شئتما , وذلك قوله تعالى :( أَلْقِيَا فِي جَهَنّمَ كُلّ كَفّارٍ عَنِيدٍ ) (٢) .والكافر من جحد نبوّتي والعنيد من عادى عليّاً وأهل بيته وشيعته )).

ولله درّ دعبل الخزاعي , حيث قال :

ولو قلدوا الموصى إليه أمورهم

لزمت بمأمون على العثرات

أخو خاتم الرسل الصفي من القذا

ومفترس الأبطال في الغمرات

فإن جحدوا كان الغدير شهودهم

وبدر وأحد شامخ الهضبات

وآي من القرآن يتلى بفضله

وإيثاره بالقوت في اللزبات

نحى لجبرائيل الأمين وأنتم

عكوف على العزى معاً ومنات

روى الشّيخ أبو عليّ الطّبرسي في مجمع البيان في تفسير قوله تعالى :( إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً إلى قوله وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً ) (٣) .قال : نزلت في عليّ وفاطمة والحسن والحُسين وجارية لهم تُسمّى فضّة .وذكر القصّة بإسناد عن الصّادق (عليه‌السلام ) وابن عبّاس , قالا : (( مرض الحسن والحُسين وهما صبيّان صغيران , عادهما رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ومعه رجلان , فقال أحدهما لأمير المؤمنين : يا أبا الحسن , لو نذرت في ابنيك نذراً عافاهما الله تعالى , فقال عليّ : أصوم ثلاثة أيّام شكراً لله سبحانه , وكذلك قالت فاطمة وكذا الصّبيّان وكذا جاريتهم فضّة , فألبسهما الله العافية , فأصبحوا صياماً وليس عندهم شيء من الطّعام ، فانطلق أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) إلى جار له يهودي يعالج الصّوف اسمه شمعون , فقال له أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) : هل لك أن تعطيني جزراً من الصّوف تغزلها لك ابنة مُحمّد بثلاثة أصواع من شعير ؟ فقال اليهودي : نعم.وأعطاه , فجاء بالصّوف والشّعير وأخبر فاطمة بذلك , فقبلت وأطاعت ثمّ عمدت فغزلت ثلثه ، ثمّ أخذت صاعاً من الشّعير فطحنته فخبزت منه خمسة أقراص ، وصلّى أمير المؤمنين صلاة المغرب مع رسول الله ، ثمّ أتى المنزل فوضع الخوان بين يديه وجلسوا يتعشون خمستهم , فأوّل لقمة كسرها أمير المؤمنين إذا مسكين قد وقف

____________________

(١) في المصدر : ثم أضاف النور بالروح .(معهد الإمامين الحسنين).

(٢) سورة ق / ٢٤.

(٣) سورة الإنسان/٥ - ٢٢.

٣٩٦

على الباب وقال : السّلام عليكم يا أهل بيت النّبوة , أنا مسكين من مساكين الـمُسلمين , اطعموني مما تأكلون اطعمكم الله من موائد الجنّة .فوضع أمير المؤمنين اللقمة من يده ثمّ قال : يا فاطمة ادفعيه إليه .فعمدت فاطمة إلى ما كان على الخوان جميعه فدفعته إلى المسكين , وباتوا جياعاً وأصبحوا صياماً ولم يذوقوا إلّا الماء القراح ، ثمّ عمدت إلى الثّلث الثّاني من الصّوف فغزلته , ثمّ أخذت صاعاً من الشّعير فطحنته وخبزت منه خسمة أقراص لكلّ واحد قرص ، وصلّى أمير المؤمنين مع رسول الله صلاة المغرب ، ثمّ أتى المنزل , فلمّا وضع الخوان بين يديه وجلسوا خمستهم , فأوّل لقمة كسرها أمير المؤمنين إذا بيتيم ينادي بالباب : السّلام عليكم يا أهل بيت النّبوة , أنا يتيم من يتامى الـمُسلمين , أطعموني مما تأكلون أطعمكم الله من موائد الجنّة .فرمى أمير المؤمنين اللقمة وقال لفاطمة : ادفعيه إليه .ثمّ عمدت فاطمة إلى جميع ما على الخوان من الخبز فأعطته لليتيم , وباتوا جياعاً لم يذوقوا إلّا الماء وأصبحوا صائمين ، فعمدت فاطمة إلى الثّلث الباقي من الصّوف فغزلته وطحنت الباقي من الشّعير وعجنته , وخبزته خمسة أقراص لكلّ واحد قرص , فصلّى أمير المؤمنين مع رسول الله صلاة المغرب وأتى المنزل فوضع الخوان وجلسوا يتعشون خمستهم , فأوّل لقمة كسرها أمير المؤمنين وأراد وضعها في فمه , إذا بأسير من أسارى المشركين ينادي بالباب : السّلام عليكم يا أهل بيت النّبوة , تأسروننا وتشرّدوننا ولا تطعموننا مما تأكلون , أطعمونا أطعمكم الله من موائد الجنّة .فرمى أمير المؤمنين اللقمة من يده وعمدت فاطمة إلى ما كان على الخوان فجمعته ودفعته إلى الأسير , وباتوا ليلتهم جياعاً وأصبحوا مفطرين وليس عندهم شيء )).

قال شعيب في حديثه : وأقبل عليّ بالحسن والحُسين نحو رسول الله وهما يرتعشان كالفراخ من شدّة الجوع , فلمّا نظرهما رسول الله قال : (( يا أبا الحسن , ما أشدّ ما يسوءني ما أراكم فيه )) .فقال : (( يا رسول الله , انطلق معي إلى فاطمة )).فانطلق , فإذا هي في محرابها وقد لصقت بطنها بظهرها من شدّة الجوع وغارت عيناها في وجهها , فلمّا نظرها رسول الله , ضمّها إليه وقال : (( وا غوثاه ! أنتم منذ ثلاثة أيّام على ما أرى )) .فهبط جبرائيل (عليه‌السلام ) وقال : خُذ يا مُحمّد مما هنّاك الله في أهل بيتك .قال : (( وما آخذ يا جبرائيل ؟ )) .قال :( هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ

٣٩٧

مِنَ الدَّهْرِ إلى قوله إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً ) (١) :

بأهلي ومالي ثمّ قومي وأسرتي

فداء لمن أضحى قتيل ابن ملجم

علي رقا فوق الخلائق في الورى

فهدّت له أركان بيت المحرم

تكاد الصفا والمشعران كلاهما

تهدّر وبان النقص في ماء زمزم

وأصبحت الشمس المنير ضياؤها

لقتل عليّ لونها لون أدهم

وضل له أفق السّماء كأنه

شقيقة ثوب لونها لون عندم

وناحت عليه الأرض إذ فجعت به

حنيناً لثكلى نوحها بترنم

وأضحى التقي والخير والعلم والنهى

وبات العلي في قبره المتهدم

وقال غيره من أهل الفضل :

إلى م الام وحتى متى

أعنف في حُبّ هذا الفتى

فهل زوجت فاطم غيره

وفي غيره (هل أتى) هل أتى

فيا إخواني , العنوا من ظلمهم وغصبهم حقّهم وهضمهم , فعلى مثل هؤلاء الأشراف فليبك الباكون , وإيّاهم فليندب النّادبون , ولمثلهم تذرف الدّموع من العيون , أو لا تكونون كبعض مادحيهم حيث عرته الأحزان , فنظم وقال فيهم :

القصيدة للشيخ الخليعي (رحمه‌الله )

سجعت فوق الغصون فاقدات للقرين

فاستهلت سحب أجفاني وهزتني شجوني

غردت لاشجوها شجوي ولاحنت حنيني

لا ولا قلت لها يا ورق بالنوح أسعديني

ماشجي الباكي طروباً وشجي الباكي الحزين

حق لي أبكي دماء عوض الدمع الهتوني

لغريب نازح الدار خلى من معين

لتريب الخددامي الوجه مرضوض الجبين

لحبيب أسلم القلب إلى داء دفين

لست أنساه بأرض الطف إذا قال أخبروني

ما اسم هذه الأرض قالوا كربلاء يابن الأمين

فبكى شجواً ونادى يا لقومي حان حيني

أرض كرب وبلاء في رباها يدفنوني

وبها تهتك نسواني وفيها يقتلوني

وبها يمتحن الله رجالاً ينصروني

فارجعوا جزيتم خير جزاء واتركوني

ليس للقوم سوى قتلي قصد فاسمعوني

فأجابوا لا ومن خصك بالفضل المبين

لا رجعنا أو سنسقي القوم كاسات المنون

فانثنى نحو الحريم الفاطميات بلين

____________________

(١) سورة الإنسان /١ - ٢٢.

٣٩٨

قائلاً يا أخت يا أخت هلمي ودعيني

أخت يا زينب ضمي شمل أهلي خلفيني

واحرسي السجاد واحميه بأجفان العيون

فهو القائم من بعدي بعلم وبدين

وإن اشتد عليكن مصابي فاندبيني

وإذا نحت فنوحي بشجون وسكون

واتقي الله وكوني خير أسلاف القرون

وإذا قمت إلى نافلة الليل اذكروني

وإذا استعبدت مولاك صلاة فصليني

وغداً نحو العدى يرتاح للحرب الزبون

جاثلاً يشبه في سطوته ليث العرين

فرمته أسهم الأحقاد عن أيدي الضغون

فهوى شلواً طعيناً آه للشلو الطعين

وغدت زينب تبكي بعويل ورنين

وتنادي وا رجالاه فقد خابت طنوني

أين جدّي أين حملات أبي أين حصوني

ليرونا والعدى هتكوا كل مصون

حاسرات يسحبونا في سهول وحزون

وتنادي والمطايا تشتكي شد الوضين

واضلالي لوجوه كبدور في دجون

واعنائي في يتامي في البكا قد أقرحوني

وأشقائي في أسارى في قيود يرمقوني

يا لها صفقة مغبون ولوعات حزين

يحمل الرأس السماوي إلى الرجس اللعين

وبنات الـمُصطفى تهدي إلى كلب مهين

يا بني (طه ويس وحم ونون)

بكم استعصمت من شر خطوب تعتريني

فإذا خفت فأنتم لنجاتي كالسفين

وعليكم ثقل ميزاني وأنتم تنقذوني

فاحشروا العبد الخليعي إلى ذات اليمين

واليكم مدحاً أسنى من الدر الثمين

يا حجاب الله والمحمي عن رجم الظنون

فيك داريت أناساً عزموا أن يقتلوني

وتحصنت بقول الصّادق الحبر الأمين

إتقوا إن التقي من دين آبائي وديني

ولأوصافك وريت كلامي وحنيني

وإلى مدحكم أظهرت ظهوري وبطوني

وكفاني علمك الشاهد للسر المصون

ومعاذ الله أن ألوي عن الحبل المتين

وأساوي بين مفضال ومفضول ضنين

وعليم وعديم وأمين وخئوني

بين من قال : أقيلوني ومن قال : اسألوني

هل يساويه بعلم أو فضل أو بدين

الباب الثّالث

أيّها الرّؤساء الأعلام , كيف يلتذّ العاقل منكم بطعام وقد حكمت في مواليه الكفرة اللئام ، أو بشراب وقد قُتلوا في الظّلماء [الظّماء] والماء حولهم قد طما , أو

٣٩٩

يسكن بعدهم إلى الطّمأنينة والدّعة وقد ضيّقوا عليهم الأرحبة والسّعة ، أو يقلّ من النّوح والأحزان وقد لاقوا الهوان من أبناء الزّمان ؟! ولِمَ لا نموت صبابة في هواهم ؛ طلباً لرّضى الله ورضاهم ؟ :

الموت مر ولكني إذا ظمئت

نفسي إلى المجد مستحل لمشربه

رئاسة ماض في رأسي وساوسها

تدور فيه وأخشى أن تدور به

حُكي عن زيد النّساج , قال : كان لي جار وهو شيخ كبير عليه آثار النّسك والصّلاح ، وكان يدخل إلى بيته ويعتزل عن النّاس ولا يخرج إلّا يوم الجُمُعة.

قال زيد النّساج : فمضيت يوم الجُمُعة إلى زيارة زين العابدين (عليه‌السلام ) , فدخلت إلى مشهده , وإذا أنا بالشّيخ الذي هو جاري قد أخذ من البئر ماء وهو يريد أن يغتسل الجُمُعة والزّيارة ، فلمّا نزع ثيابه , وإذا في ظهره ضربة عظيمة فتحتها أكثر من شبر وهي تسيل قيحاً ودماً , فاشمأزّ قلبي منها ، فحانت منه التفاتة فرآني فخجل , فقال لي : أنت زيد النّساج ؟ فقلت : نعم.فقال لي : يا بني , عاونّي على غسلي .فقلت : لا والله لا أعاونك حتّى تخبرني بقصّة هذه الضّربة التي بين كتفيك , ومن كفّ من خرجت , وأيّ شيء كان سببها ؟ فقال لي : يا زيد , أخبرك بها بشرط أن لا تحدّث بها أحداً من النّاس إلّا بعد موتي.فقلت : لك ذلك .فقال : عاونّي على غسلي فإذا لبست أطماري حدّثتك بقصّتي.

قال زيد : فساعدته , فاغتسل ولبس ثيابه وجلس في الشّمس وجلست إلى جانبه وقلت له : حدّثني .فقال لي : اعلم إنّا كنّا عشرة أنفس قد تواخينا على الباطل وتوافقنا على قطع الطّريق وارتكاب الآثام , وكانت بيننا نوبة نديرها في كلّ ليلة على واحد منّا ؛ ليصنع لنا طعاماً نفيساً وخمراً عتيقاً وغير ذلك ، فلمّا كانت الليلة التّاسعة وكنّا قد تعشّينا عند واحد من أصحابنا وشربنا الخمر ، ثمّ تفرّقنا وجئت إلى منزلي وهدوت ونمت ، أيقظتني زوجتي وقالت لي : إنّ الليلة الآتية نوبتها عليك ولا في البيت عندنا حبّة من الحنطة .قال : فانتبهت وقد طار السّكر من رأسي وقلت : كيف أعمل وما الحيلة وإلى أين أتوجه ؟ فقالت لي زوجتي : الليلة ليلة الجُمُعة ولا يخلو مشهد مولانا عليّ بن أبي طالب من زوّار يأتون إليه يزورونه , فقم وامض وأكمن على الطّريق , فلا بدّ أن ترى أحداً فتأخذ ثيابه فتبيعها وتشتري شيئاً من

٤٠٠

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493