الـمُنتخب في جمع المراثي والخطب المشتهر بـ (الفخري)

الـمُنتخب في جمع المراثي والخطب المشتهر بـ (الفخري)0%

الـمُنتخب في جمع المراثي والخطب المشتهر بـ (الفخري) مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 493

الـمُنتخب في جمع المراثي والخطب المشتهر بـ (الفخري)

مؤلف: الإمام الكبير والـمُصنّف الشّهير الشّيخ فخر الدّين الطريحي النّجفي
تصنيف:

الصفحات: 493
المشاهدات: 58910
تحميل: 2826


توضيحات:

الـمُنتخب في جمع المراثي والخطب المشتهر بـ (الفخري) الجزء 1 الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 493 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 58910 / تحميل: 2826
الحجم الحجم الحجم
الـمُنتخب في جمع المراثي والخطب المشتهر بـ (الفخري)

الـمُنتخب في جمع المراثي والخطب المشتهر بـ (الفخري)

مؤلف:
العربية

يا عارياً كست الأرياح جثته

قميص ترب بدم النحر مزرور

وغسلته الضبا من دم منحره

وشيبه قطنه والترب كافور

ونعشه من قنى الخطى أرفعها

والقبر في قلب من والاه محفور

يا سيّدي ما ترى الأيام حولك

والسجاد يسحب في الأقياد مأسور

وأم كلثوم للأيتام جامعة

وقلبها بسيوف الحزن مشطور

وبينهم فاطمة الصغراء صارخة

وشعرها من وراء الكتف منشور

تقول يا أبتا خلفتنا عبر

وفي بعض ما نالنا النّاس تعبير

من للأرامل والأيتام يا أبتا

وأنت تحت طباق الأرض مقبور

ما كان أطيبنا والشمل مجتمع

ونحن في نعمة والقلب مسرور

تبدل الأمن خوفاً والنعيم شقا

واليسر عسراً وضد الصفو تكبير

ما كنت أحسب أن الدهر يعذرني

وبذل وجهي وهتك الستر مذخور

لا زلت أحذر حتّى صرت في حذري

وحاذر الدهر لم ينفعه تحذير

يعز على البضعة الزّهراء لو نظرت

أولادها الغر كلّ وهو مضرور

كان الحُسين لنا سوراً وقصر حمى

فاليوم هدّم ذاك القصر والسور

يا عمتاه قربوا الأجمال يرتحلوا

والرأس يقدمهم في الرمح مشهور

قومي نودع جثمان الحُسين فقد

حان الرحيل وما للقوم تأخير

فغردت برفيع الصوت عمتها

أما لزلتنا يا قوم تكبير

تسيرونا على الأقتاب عارية

شعثاً عراة لنا في السير تعثير

يا ليت أسماعنا من قبل ذا طرشت

جمعاً وأعيننا من رزئنا عور

بأي وجه تلاقي الله ويلك يا

حادي اتق الله أين الله محذور

فحين لمـّا أتو أرض الشام معاً

نحو اللعين وباب القصر محصور

وأقبلوا بالسبايا والرؤوس معاً

نحو اللعين وباب القصر محصور

فكبروا قال ما هذا فقيل له

رأس الحُسين فأنشأ وهو مسرور

أخذت ثأري بقتلي لابن فاطمة

ظلماً وخالفت ما في الكتب مسطور

فلعنة الله تغشاه ووالده

مخلد في أطباق النّار مدحور

وجاد أجداث آل الـمُصطفى أبداً

غيث مقيم مدى الأيام مهمور

٤٢١

متى نرى الشمس من غرب وقد طلعت

لها شعاع على الآفاق مظهور

والعدل بالأرض والأيام باسمة

والظلم والفسق والطغيان مطمور

أنا العبد الذليل الدرمكي ومن

شخصي على فطرة الإسلام مفطور

صلّى الإله على من حبهم سكن

ومدحهم في جميع الكتب مسطور

الباب الثّاني

أيّها المؤمنون والاُمناء الصّالحون , أجروا مياه العيون من مقرحات الجفون ، على هذا الخطب العظيم والمصاب الجسيم ، خطب يقلّ فيه بذل الأرواح ويهون فيه الضّرب والكفاح ، خطب أبكى الرّسول وأحرق كبد البتول .فواعجباه ممّن تقدّم إليهم بذلك وخاض بنفسه تلك المهالك ! كيف لم تُحفظ فيهم القرابة والنّسب والشّرف والحسب , حتّى تركوا رجالهم بنجيع الدّماء مخضوبة , وأبدانهم على التّراب مسلوبة , ومخدراتهم سبايا منهوبة ؟ فكم من جرم أجترموه وعظيم أمر ارتكبوه ، فما أجرأهم على الله وعلى انتهاك حرمة رسول الله.

فيا إخواني , كيف لا نبكي عليهم ونحن قلوبنا إليهم ؟ وقد ورد في الخبر عن الإمام الصّادق (عليه‌السلام ) , أنّه قال : (( مَن ذُكرنا عنده فبكى لما أصابنا من نوب الدّهر , غفر الله ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر )) .فلذلك يجب علينا لبس سراويل الجزع والأشجان وإرسال الدّموع الهتان ، وأن نضجّ ضجيج الثّكلى بين العباد ، ونواسي بهذا التّعداد عليّ بن الحُسين السّجاد ؛ لما روي أنّه بكى على أبيه الحُسين أربعين سنة , وما وضع بين يديه طعام إلّا وبكى ، حتّى قال مولى له : جُعلت فداك يا بن رسول الله ! إنّي أخشى عليك أن تكون من الهالكين .فيقول :( إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنْ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ) (١) .ثمّ قال : (( إنّي لم أذكر مصرع بني فاطمة إلّا وخنقتني العبرة )) :

إن كنت محزوناً فما لك ترقد

هلاّ بكيت لمن بكاه محمد

ولقد بكته في السّماء ملائك

زهر كرام راكعون سجد

والشمس والقمر المنير كلاهما

حول النجوم تباكيا والفرقد

____________________

(١) سورة يوسف / ٨٦.

٤٢٢

أنسيت قتل المصطفين بكربلا

حول الحُسين ذبائح لم يلحدوا

فسقوه من جرع الحتوف بمشد

كثر العدو به وقل المسعد

ثم استناحوا الصائنات حواسراً

فالشمل من بعد الحُسين مبدد

كيف السلو وفي السبايا زينب

تدعو بحرقة قلبها يا أحمد

يا جد حولي من يتامى إخوتي

في الذل قد سلبوا القناع وجردوا

يا جد قد منعوا الفرات وقتلوا

عطشاً فليس لهم هناك مورد

يا جد من ثكلي وطول مصيبتي

ولما أعانيه أقوم وأقعد

يا جد لو أبصرتني ورأيتني

والخد منّي بالدماء مخدد

يا جد ذا نحر الحُسين مضرج

بالدم والجسم الشريف مجرد

يا جد ذا صدر الحُسين مرضض

والخيل تنزل من علاء وتصعد

يا جد ذا ابن الحُسين معلل

ومغلل في قيده ومصفد

يرنو لوالده وينظر حاله

وبنو اُميّة في العمى لم يهتدوا

يا جد ذا شمر يروم بفتكه

ذبح الحُسين فأي عين ترقد

ليحوز جائزة الزنيم عليه من

لعن المهيمن ما به يتضهد

حتى إذا أهوى عليه بسيفه

نادى بفاضل صوته يا واحد

يا خالقي أنت الرقيب عليهم

في فعلهم ظلماً وأنت الشاهد

وتعج طوراً بالنبي وآله

وتقول يا جدّه ألا يا أحمد

يا والدي الساقي على الـمُرتضى

نال العدو بنا كما قد مهدوا

يا أمي الزّهراء قومي جددي

وجميع أملاك السّماء لك ينجد

هذا حبيبك بالحديد قتلى مقطع

ومخضب بدمائه مستشهد

والطيبون بنوك قتلى حوله

فوق الصعيد مبضع ومجرد

هذا مصاب ما أصيب بمثله

بشر من المخلوق إلّا واحد

وإليكم من عبدكم ومحبكم

بعض النظام عساه فيه يسعد

صلّى الإله عليكم يا سادتي

ما دام طير في الغصون يغرد

روي عن نقلة الأخبار : أنّ اليوم الذي قُتل فيه مُسلم بن عقيل وهو يوم الثّلاثاء لثمان خلون من ذي الحجّة يوم التّروية ، كان فيه خروج الحُسين من مكّة

٤٢٣

إلى العراق بعد أن طاف وسعى وأحلّ من إحرامه وجعل حجّة عمرة مفردة ؛ لأنّه (عليه‌السلام ) لم يتمكّن من إتمام الحج مخافة أن يُبطش به ؛ وذلك لأنّ يزيد لعنه الله أنفذ عمر بن سعد بن العاص في عسكر عظيم , وولاه أمر الموسم وأمره على الحاج كلّه , وكان قد أوصاه بقبض الحُسين (عليه‌السلام ) سرّاً , وإن لم يتمكن منه يقتله غيلة .ثمّ إنّه لعنه الله دسّ مع الحجاج في تلك السّنة ثلاثين رجُلاً من شياطين بني اُميّة , وأمرهم بقتل الحُسين على كلّ حال اتفق , فلمّا علم الحُسين بذلك , حلّ من إحرام الحج وجعلها عمرة مفردة.

وعن بعض النّاقلين : أنّ مُحمّد بن الحنفيّة لمـّا بلغه الخبر : أنّ أخاه الحُسين خارج من مكّة يُريد العراق , كان بين يديه طشت فيه ماء وهو يتوضأ , فجعل يبكي بكاءاً شديداً حتّى سُمع , وكفّ دموعه في الطشت مثل المطر ، ثمّ إنّه صلّى المغرب ثمّ سار إلى أخيه الحُسين , فلمّا صار إليه , قال له : يا أخي , إنّ أهل الكوفة قد عرفت غدرهم ومكرهم بأبيك وأخيك من قبلك , وإنّي أخشى عليك أن تكون حالك كحال من مضى من قبلك , فإن أطعت رأيي , قم بمكّة وكُن أعزّ مَن في الحرم المشرّف.

فقال : (( يا أخي , إنّي أخشى أن تغتالني أجناد بني اُميّة في حرم مكّة , فأكون كالذي يُستباح دمه في حرم الله )) .فقال : يا أخي , فسر إلى اليمن فإنّك أمنع النّاس به .فقال الحُسين : (( والله يا أخي , لو كنت في جحر هامة من هوام الأرض , لاستخرجوني منه حتّى يقتلوني )) .ثمّ قال : (( يا أخي سأنظر فيما قُلت )).

قال : فلمّا كان وقت السّحر , عزم الحُسين على الرّحيل إلى العراق , فجاءه أخوه مُحمّد بن الحنفيّة وأخذ بزمام ناقته التي هو راكبها ، وقال : يا أخي , ألم تعدني النّظر فيما أشرت به عليك ؟ فقال : (( بلى )) .قال : فما حداك على الخروج عاجلاً ؟ فقال : (( يا أخي , إنّ جدّي رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) أتأني بعدما فارقتك وأنا نائم , فضمّني إلى صدره وقبّل ما بين عيني وقال : يا حُسين يا قُرّة عيني , اخرج إلى العراق , فإنّ الله عزّ وجلّ قد شاء أن يراك قتيلاً مخضّباً بدمائك )) .فبكى ابن الحنفيّة بكاءاً شديداً , وقال له : يا أخي , إذا كان الحال هكذا , فما معنى حملك هذه النّسوة وأنت ماض إلى القتل ؟ فقال : (( يا أخي , قد قال لي جدّي أيضاً : إنّ الله عزّ وجلّ قد شاء أن يراهم سبايا مهتكات يسقن في أسر الذّل , وهن أيضاً لا يفارقنني ما دمت حيّاً )) .فبكى ابن الحنفيّة بكاءاً شديداً وجعل يقول : أودعتك الله

٤٢٤

يا حُسين , في وداعة الله يا حُسين.

ونُقل : أنّه لمـّا خرج من مكّة , اعترضه رسول عمر بن سعد وفيهم يحيى بن سعيد ليردّوه , فأبى عليهم , وتدافع الفريقان وتضاربوا بالسّياط , ثمّ امتنع عليهم الحُسين امتناعاً شديداً ومضى لوجهه , فنادوه وقالوا : يا حُسين , ألا تتقي الله تخرج من الجماعة وتفرّق بين هذه الاُمّة ؟ فقال لهم : (( لي عملي ولكم عملكم , أنتم بريئون ممّا أعمل وأنا بريء ممّا تعملون )).

وروي عن الطّرماح بن حكيم , قال : لقيت حُسيناً وقد امترت لأهلي ميرة ، فقلت : اذكر الله في نفسك , لا يغرّنك أهل الكوفة , والله إن دخلتها لتقتُلن , وأنّي أخاف أن لا تصل إليها , فإن كنت مجمعاً على الحرب , فانزل أجاء فإنّه جبل منيع , والله ما لنا فيه ذلّ قط , وعشيرتي جميعاً يرون نصرتك ما أقمت فيهم .فقال : (( إنّ بيني وبين القوم موعداً أكره أن أخلفها , فإن يدفع الله , فقديماً ما أنعم علينا وكفى , وإن يكن ما لا بدّ منه , ففوز وشهادة إن شاء الله )) .ومضى لوجهه.

ونُقل أيضاً : أنّ الحُسين (عليه‌السلام ) لمـّا عزم على الخروج إلى العراق من المدينة , جاءت إليه اُمّ سلمة - زوجة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) - وقالت له : يا بُني , لا تحزّني بخروجك إلى العراق فإنّي سمعت من جدّك رسول الله يقول : (( يُقتل ولدي الحُسين بأرض العراق في أرض يُقال لها كربلاء )) .فقال : (( يا اُمّاه , وأنا والله أعلم ذلك , وإنّي مقتول لا محالة وليس لي من هذا بدّ, وإنّي والله لأعرف اليوم الذي اُقتل فيه وأعرف مَن يقتلني وأعرف البقعة التي اُدفن فيها , وإنّي أعرف من يُقتل من أهل بيتي وقرابتي وشيعتي , وإن أردت يا اُمّاه أريتك حفرتي ومضجعي ومكاني )) .ثمّ أشار بيده الشّريفة إلى جهة كربلاء , فانخفضت الأرض حتّى أراها مضجعه ومدفنه وموضع معسكره وموقفه ومشهده كما هو الآن , وهي من بعض فضائله صلوات الله وسلامه عليه.

فعند ذلك بكت اُمّ سلمة بكاءاً عظيماً وسلّمت أمرها إلى الله تعالى .فقال لها : (( يا اُمّاه , قد شاء الله عزّ وجلّ أن يراني مقتولاً مذبوحاً ظُلماً وعدواناً , وقد شاء الله أن يرى حرمي ورهطي ونسائى مسبيين مشرّدين , وأطفالي مذبوحين مظلومين مأسورين مقيّدين , وهم يستغيثون فلا يجدون ناصراً ولا مُعيناً ))

:فداؤك روحي يا حسين وعترتي

وأنت عفير في التراب جديل

وجسمك عريان طريح على الثرى

عليك خيول الظّالمين تجول

بناتك تسبى كالإماء حواسرا

وسبطك ما بين العداة قتيل

٤٢٥

ثمّ إنّ الحُسين (عليه‌السلام ) بعدما توجّه إلى العراق , كتب كتاباً إلى أهل العراق يقول فيه : (( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ : من الحُسين بن عليّ إلى إخوانه المؤمنين ، سلام عليكم , وإنّي أحمد الله إليكم الذي لا إله إلّا هو , أمّا بعد : فإنّ كتاب مُسلم بن عقيل أتاني يخبرني بحسن رأيكم واجتماع ملّتكم على نصرتنا والطّلب بحقّنا , فسألت الله أن يحسن لنا ولكم الصّنيع وأن يثيبكم على ذلك أعظم الأجر ، وقد شخصت إليكم من مكّة يوم الثّلاثاء لثمان مضين من ذي الحجّة يوم التّروية , فإذا قدم عليكم رسولي , فاكتموا أمركم وخذوا حذركم , فإنّي قادم عليكم في أيّامي هذه إن شاء الله تعالى , والسّلام )).

فلمّا أقبل الرّسول بالكتاب , اعترضه الحصين بن نمير وبعث به إلى ابن زياد , فاستخرج الكتاب فلم يقبل تسليمه إليه ومزّقه ولم يمكّنه منه , فقال ابن زياد : من أنت ؟ قال : أنا رجل من شيعة أمير المؤمنين .قال : ممّن الكتاب وإلى مَن ؟ قال : من الحُسين إلى أهل الكوفة .فغضب ابن زياد , فقال له : اصعد على المنبر وسب الكذّاب ابن الكذّاب الحُسين بن عليّ .قال : لمـّا صعد المنبر : حمد الله وأثنى عليه وقال : أيّها النّاس , إنّ هذا الحُسين بن عليّ خير خلق الله ابن فاطمة الزّهراء بنت رسول الله , وأنا رسوله إليكم وقد فارقته بالحجاز , فأجيبوه .ثمّ لعن عُبيد الله ابن زياد وأباه واستغفر لعليّ بن أبي طالب.

قال : فأمر ابن زياد بأن يُلقى من أعلى القصر .ففُعل به فمات من ساعته وعجّل الله بروحه إلى الجنّة.

قال الرّاوي : فبينما الحُسين في المسير , إذ طلع عليه ركب مقبلون من الكوفة وفيهم هلال بن نافع البجلي وعمرو بن خالد, فسألهما عن النّاس , فقال : أمّا الأشراف فقد استمالهم ابن زياد بالأموال ، وأمّا باقي النّاس فقلوبهم معك وسيوفهم عليك .وبلّغاه الخبر عن مُسلم بن عقيل وهانئ بن عروة أنّهما قُتلا .فقال : (( إنّا لله وإنّا إليه راجعون )) .ثمّ قال للركب : (( ولكم عِلم برسولي ؟ )) .قالوا : نعم ، قتله ابن زياد .فاسترجع وبكى ، وقال : (( جعل الله له الجنّة ثواباً , اللّهمّ اجعل لنا ولشيعتنا منزلاً كريماً إنّك على كل شيء قدير )) .ثمّ إنّه (عليه‌السلام ) قام خطيباً بالنّاس وقال : (( إنّه قد نزل بنا من الأمر ما ترون , وإنّ الدُنيا قد تغيّرت وتنكّرت وأدبر معروفها , ولم يبق منها إلّا صبابة كصبابة

٤٢٦

الإناء , ألا ترون إلى الحقّ لا يُعمل به وإلى الباطل لا يُنتهى عنه , ليرغب المؤمنين في لقاء الله محقّاً , ولا يرى الموت إلّا سعادة والحياة مع الظّالمين إلّا برماً ))(١) .ثمّ سار (عليه‌السلام ) إلى نصف النّهار , فرقد واستيقظ وقال : (( رأيت هاتفاً يقول : أنتم تسيرون والمنايا تسرع بكم إلى الجنّة )) .فقال له ابنه : يا أبتاه , ألسنا على الحقّ ؟ قال : (( يا بُني , أي والذي مرجع العباد إليه )).قال : إذاً لا نُبالي بالموت .ثمّ أنّه (عليه‌السلام ) سار حتّى أتى إلى موضع يُقال له زبالة , فنزل بها وخطب النّاس فقال : (( أيّها النّاس , إنّما جمعتكم على أنّ العراق لي(٢) وقد أتاني خبر فظيع عن ابن عمّي مُسلم , يدلّ على أنّ شيعتنا قد خذلتنا , فمَن كان منكم يصبر على حرّ السّيوف وطعن الأسنّة فليتم معنا , وإلّا فلينصرف عنّا )).

قال : فجعل القوم يتفرّقون يميناً وشمالاً حتّى لم يبق معه من أهل بيته ومواليه نيف وسبعون رجلاً , وهم الذين خرجوا معه من مكّة , فساربهم إلى الثّعلبية , فاعترضهم الحرّ بن يزيد الرّياحي قادماً من نحو القادسية في أربعة آلاف فارس ، فلم يزل الحرّ يساير الحُسين حتّى جاء وقت الظّهر , فخرج وصلّى بالنّاس وقال : (( أيّها النّاس , المعذرة إلى الله وإليكم , اعلموا أنّي لم آتكم حتّى أتتني كتبكم بـ : أنّ لك ما لنا وعليك ما علينا .فإن كنتم على ذلك فقد أتيتكم , وإن كنتم كارهين لقدومي انصرفت عنكم )) .فقال له الحرّ : لا نعرف ما تقول ولا نعرف من كتب إليك ولا من أرسل , وإنّما اُمرنا أن لا نفارقك إلّا عند عُبيد الله بن زياد .فقال الحُسين : (( يا ويلك ! الموت أدنى إليكم من ذلك )) .ثمّ إنّه (عليه‌السلام ) همّ بالرّجوع , فمنعه الحرّ أشدّ المنع , فلمّا كثر بينهم الخطاب , قال الحرّ : فإذا أبيت ذلك , فخذ طريقاً لا يدخلك الكوفة ولا يرجع بك إلى المدينة.

قال : فسار الحُسين (عليه‌السلام ) والحرّ يساره حتّى انتهى إلى قصر بني مقاتل , وإذا بفسطاط مضروب , فقال (عليه‌السلام ) : (( لِمَن هذا السّفطاط ؟ )) .فقيل : لرجل يقطع الطّريق .فأرسل الحُسين إليه , فقال له : (( يا هذا , إنّك قد جمعت على نفسك ذنوباً كثيرة , فهل لك من توبة تمحّص بها عنك الذّنوب ؟ )) .قال : فماذا ؟ قال : (( تنصر ابن بنت رسول الله )) .فقال : والله , ما خرجت من الكوفة إلّا خوفاً أن تقدم إليها , فأكون أوّل من يحاربك مع ابن زياد , ولكن هذه فرسي وهذا سيفي واعفني من ذلك .فأعرض عن الحُسين , فقال : (( إذا بخلت بنفسك , فلا حاجة لنا في مالك )) .وتلا هذه الآية :( وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا ) (٣) .

____________________

(١) هكذا ورد في هذا الكتاب , ولكن الوارد في مناقب آل أبي طالب : ٣/٢٢٤, وفي غيره من الكتب هو : (( قد نزل ما ترون من الأمر , وأنّ الدّنيا قد تنكّرت وتغيّرت وأدبر معروفها , واستمرّت حتّى لم يبق منها إلا كصبابة الإناء ، وإلا خسيس عيش كالمرعى الوبيل ، ألا ترون الحقّ لا يُعمل به ، والباطل لا يتناهى عنه ، ليرغب المؤمن في لقاء الله ، وإنّي لا أرى الموت إلا سعادة ، والحياة مع الظّالمين إلا برما )) .(معهد الإمامين الحسنين).

(٢) هكذا موجود في الكتاب .(معهد الإمامين الحسنين).

(٣) سورة الكهف / ٥١.

٤٢٧

قال : سمعت جدّي رسول الله يقول : (( مَن سمع نداء أهل البيت ولم يجبه , أكبّه الله على منخريه في النّار )) .ثمّ إنّه سار (عليه‌السلام ) فلمّا فارقه الرّجل , ندم على ما فاته من نصرة الحُسين.

قال : فبينما هم يسيرون , وإذا براكب على نجيب قد أقبل من نحو الكوفة , فلمّا وصل , سلّم على الحرّ ولم يُسلّم على الحُسين , ثمّ دفع إلى الحرّ كتاباً من ابن زياد يأمره فيه بالتّعجيل , فساروا جميعاً إلى أن انتهوا [إلى](١) أرض كربلاء , إذ وقف الجواد الذي تحت الحُسين ولم ينبعث من تحته , وكلّما حثّه على المسير لم ينبعث خطوة واحدة , فنزل عنه وركب غيره فلم ينبعث خطوة واحدة ، فقال الإمام (عليه‌السلام ) : (( يا قوم , ما يُقال لهذه الأرض ؟ )) .فقالوا : نينوي .فقال : (( هل لها اسم غير هذا ؟ )) .قالوا : نعم , شاطئ الفُرات .فقال : (( هل لها اسم غير هذا ؟ )) .قالوا : نعم ، تُسمّى كربلاء .فعند ذلك تنفّس الصُعداء ، فقال : (( هذه والله كرب وبلاء , وههنا والله تُرمّل النّسوان وتُذبح الأطفال , وههنا والله تُهتك الحريم , فانزلوا بنا يا كرام , فههنا محلّ قبورنا , وههنا والله محشرنا ومنشرنا , وبهذه أوعدني جدّي رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ولا خلف لوعده ! )) .ثمّ إنّه نزل عن فرسه وجلس بعد ذلك يصلح سيفه وهو يقول :

يا دهر أف لك من خليلي

كم لك بالإشراق والأصيل

من طالب وصاحب قتيل

والدهر لا يقنع بالبديل

وكل حي سالك سبيلي

ومنتهى الأمر إلى الجليل

ولم يزل يكرّر هذه الأبيات حتّى سمعت أخته زينب , فوثبت تجرّ ذيلها حتّى انتهت إليه , وقالت له : يا أخي وقرّة عيني , ليت الموت أعدمني الحياة يا خليفة الماضين وثمال الباقين , هذا كلام مَن أيقن بالموت , وا ثكلاه ! اليوم مات جدّي مُحمّد الـمُصطفى وأبي عليّ الـمُرتضى واُمّي فاطمة الزّهراء وأخي الحسن الرّضي.

قال لها : (( يا أختاه , لا يذهب بحلمك الشّيطان تعزّي بعزاء الله , فإنّ أهل السّماء والأرض يموتون , وكلّ شيء هالك إلّا وجهه ، أبي خير منّي وأخي خير منّي ولكلّ مسلم برسول الله أسوة )) .فقالت : يا أخي , تُقتل وأنا أنظر إليك ؟ فردت غصته وتغرغرت عيناه بالدّموع .فقالت : يا أخي , ردنا إلى حرم جدّنا .فقال : (( لو ترك القطا لغفا ونام )) .قالت : والله يا أخي , لا فرحت بعدك أبداً .ثمّ إنّها

____________________

(١) من إضافات المقوم .(معهد الإمامين الحسنين).

٤٢٨

لطمت وجهها وأهوت إلى جيبها فشقّته وخرّت مغشية عليها , ثمّ قام الحُسين إليها وقال لها : (( يا أختاه , بحقّي عليك إذا أنا قُتلت فلا تشقّي عليّ جيباً ولا تخمشي وجهاً ولا تدعين بالويل والثّبور )) .ثمّ حملها حتّى أدخلها الخيمة , ثمّ خرج إلى أصحابه وأمرهم أن يقرّبوا البيوت بعضها إلى بعض , ففعلوا ذلك.

ثمّ إنّ ابن زياد لعنه الله نادى في عسكره : معاشر النّاس , مَن يأتيني برأس الحُسين وله الجائزة العُظمى , وأعطه ولاية الرّي سبع سنين ؟ فقام إليه عمر بن سعد لعنه الله , وقال : أصلح الله الأمير .وقال : امض إليه وامنعه من شرب الماء وآتني برأسه.فقال : أيّها الأمير أخّرني شهراً .قال : لا أفعل .قال : ليلتي هذه .قال : قد فعلت .ثمّ نهض من وقته وساعته ودخل مضربه ، فدخل عليه أولاد المهاجرين والأنصار وقالوا له : يابن سعد , تخرج إلى حرب الحُسين وأبوك سادس الإسلام ! فقال : لست أفعل ذلك .ثمّ جعل يفكّر في مُلك الرّي وقتل الحُسين , فأضلّه الشّيطان وأعمى قلبه فاختار قتل الحُسين (عليه‌السلام ) وملك الرّي , واستعدّ للحرب ومدّ العساكر إلى أن تكمّلت عشرين ألفاً , فضيّقوا على الحُسين وأصحابه.

ثمّ إنّ الحُسين قام متكئاً على سيفه وقال : (( أمّا بعد , أيّها النّاس , انسبوني مَن أنا وراجعوا إلى أنفسكم فعاتبوها ؟ هل يحلّ لكم سفك دمي وانتهاك حُرمي ؟ ألست ابن بنت نبيكم وابن عمّه أولى النّاس بالمؤمنين من أنفسكم(٢) ؟ أو ليس حمزة سيّد الشّهداء عمّ أبي ؟ أو لم يبلغكم قول رسول الله فيّ وفي أخي ؟ سلوا زيد بن أرقم وجابر بن عبد الله الأنصاري وسهل بن سعد السّاعدي وأنس بن مالك , يخبروكم عن هذا القول ؟ فإن كنتم تشكّون إنّي ما أنا ابن بنت نبيكم , فوالله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبي غيري , والله , ما تعمدت الكذب منذ نشأت وعرفت أنّ الله يمقت الكذب وأهله , هل تطالبونني بقتل منكم قتلته أو بمال استهلكته أو بقصاص من جراحة ؟ )) .فسكتوا.

فلمّا كان اليوم التّاسع من الـمُحرّم , دعاهم عمر بن سعد إلى المحاربة , فأرسل الحُسين (عليه‌السلام ) أخاه العبّاس يلتمس منهم التّأخير في تلك الليلة ، فقال أبن سعد للشمر : ما تقول ؟ فقال : أمّا أنا , فلو كنت الأمير لم أنظره .فقال عمر بن سلمة(٢) : سبحان الله , والله لو كانوا من التّرك أو الدّيلم وسألوك هذا , ما كان لك أن تمنعهم , فيحنئذٍ أمهلهم .فكان لهم في تلك الليلة دويّ كدوي

____________________

(١) هكذا ورد في هذا الكتاب , ولكن الوارد في الإرشاد للشيخ المفيد ٢/٩٧ , وغيره هو : ثمّ قال : أمّا بعد , فانسبوني فانظروا مَن أنا ، ثمّ ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها ، فانظروا هل يصلح لكم قتلي وانتهاك حرمتي ؟ ألست ابن بنت نبيّكم وابن وصيه وابن عمّه , وأوّل المؤمنين المصدّق لرسول الله بما جاء به من عند ربّه ؟ ...(معهد الإمامين الحسنين).

(٢) ورد في كتاب الفتوح لأحمد بن أعثم الكوفي ٥/٩٨.: فقال رجل من أصحابه يُقال له عمرو بن الحجاج : ...(معهد الإمامين الحسنين).

٤٢٩

النّحل من الصّلاة والتّلاوة.

ثمّ إنّ الحُسين جمع أصحابه فحمد الله وأثنى عليه , ثمّ قال : (( أمّا بعد ، لا أعلم أنّ أصحاباً أوفى ولا أخير من أصحابي ، ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي ، فجزاكم الله عنّي خيراً ، ألا وإنّي قد أذنت لكم فانطلقوا فأنتهم في حلّ ليس عليكم منّي ذمام ، وقد غشيكم الليل فاتخذوه ستراً جميلاً )) .فقال له إخوته وأبناؤه وأبناء عبد الله بن جعفر : لا نفعل ذلك ولا نبقى بعدك , لا أرانا الله ذلك أبداً .فدعا لهم العبّاس وإخوته ثمّ بايعوه , وقال لبني مُسلم بن عقيل : (( حسبكم من القتل ما تقدّم في مُسلم , اذهبوا فقد أذنت لكم )) .قالوا : لا والله لا نفارقك أبداً حتّى نضرب بسيوفنا ونُقتل بين يديك.

ثمّ إنّ الحُسين ركب فرسه وتهيّأ للقتال ، ثمّ إنّ القوم أقبلوا يزحفون نحو الحُسين , فرمى عمر بن سعد إلى أصحاب الحُسين سهماً , وقال : اشهدوا لي عند الأمير إنّي أوّل مَن رمى .فقال الحُسين لأصحابه : (( قوموا إلى الموت الذي لا مفرّ لكم عنه )).فنهضوا جميعاً والتقى العسكران وامتاز الرّجال من الفرسان , واشتدّ الجدال بين العسكرين إلى أن علا النّهار , فاشتدّ العطش بالحُسين وأصحابه , فدعا بأخيه العبّاس وقال له : (( اجمع أهل بيتك واحفر بئراً )) .ففعلوا ذلك فطمّوها ثمّ حفروا أُخرى فطمّوها , فتزايد العطش عليهم .فقال العبّاس لأخيه الحُسين : يا أخي , ما ترى ما حلّ بنا من العطش , وأشدّ الأشياء علينا عطش الأطفال والحرم ؟ فقال الإمام (عليه‌السلام ) : (( امض إلى الفُرات وآتنا بشيء من الماء )) .فقال : سمعاً وطاعة .فضمّ إليه رجالاً وسار حتّى أشرفوا على المشرعة , فوثبوا عليهم الرّجال وقالوا لهم : ممّن القوم ؟ قالوا : نحن من أصحاب الحُسين .قالوا : وما تصنعون ؟ قالوا : فقد كضّنا العطش , وأشدّ ذلك علينا عطش الحرم والأطفال .فلمّا سمعوا ذلك , حملوا عليهم فمنعوهم ، فحمل عليهم العبّاس فقتل منهم رجالاً وجدّل أبطالاً حتّى كشفهم عن المشرعة , ونزل فملأ قربته ومدّ يده ليشرب , فتذكّر عطش الحُسين (عليه‌السلام ) , فنفض يده وقال : والله لا ذقت الماء وسيّدي الحُسين عطشان .ثمّ صعد المشرعة فأخذه النّبل من كلّ مكان حتّى صار جلده كالقنفذ من كثرته , فحمل عليه رجل من القوم فضربه ضربة قطع بها يمينه , فأخذ السّيف بشماله فحمل عليه آخر فقطعها , فانكبّ وأخذ السّيف بفمه , فحمل عليه رجل فضربه بعمود من حديد على رأسه ففلق هامته , فوقع على

٤٣٠

الأرض وهو يُنادي : يا أبا عبد الله عليك منّي السلام ! فلمّا رأى الحُسين أخاه وقد انصرع , صرخ : (( وا أخاه ! وا عبّاساه مهجة قلباه ! يعزّ والله عليَّ فراقك )) .ثمّ حمل على القوم وكشفهم عنه , ثمّ نزل إليه فحمله على ظهر جواده , وأقبل به إلى الخيمة فطرحه وهو يبكي حتّى أغمي عليه .ولله درّ مَن قال :

أحق الناس أن يبكى عليه

فتى أبكى الحُسين بكربلاء

أخوه وابن والده عليّ

أبو الفضل المضرج بالدماء

ومن ساواه لا يثنيه شيء

وجادله على ظمأ بماء

ومن قال أيضاً :

وما زال في حرب الطغاة مجاهداً

إلى أن هوى فوق الصعيد مجدلا

وقد رشقوه بالنبال وخرقوا

له القربة الماء الذي كان قد ملا

فنادى حسيناً والدموع هوامل

أيا ابن أبي قد خاب ما كنت آملا

عليك سلام الله يا بن مُحمّد

على الرغم منّي يا أخي نزل البلا

فلما رآه السبط ملقى على الثرى

يعالج كرب الموت والدمع أهملا

فجاء إليه والفؤاد مقرح

ونادى بقلب بالهموم قد امتلا

أخي كنت عوني في الأمور جميعها

أبا الفضل يا من كان للنفس باذلا

يعز علينا أن نراك على الثرى

طريحاً ومنك الوجه أضحى مرملا

عليك من الرحمن ألف تحية

فقدرك عندي يا أخي الآن قد علا

فأبشر بجنات من الله في غد

وبالحور والولدان والفوز والعلى

روي : أنّه لمـّا قُتل العبّاس , تدافعت الرّجال على أصحاب الحُسين (عليه‌السلام ) , فلمّا نظر ذلك , نادى : (( يا قوم , أما من مجير يجيرنا ؟ أما من مغيث يغيثنا ؟ أما من طالب حقّ فينصرنا ؟ أما من خائف من النّار فيذّب عنّا ؟ أما من أحد يأتينا بشربة من الماء لهذا الطّفل ؛ فإنّه لا يطيق الظّمأ ؟ )) .فقام إليه ولده الأكبر - وكان له من العمر سبعة عشر سنة - فقال : أنا آتيك بالماء يا سيّدي .فقال : (( امض بارك الله فيك )) .قال : فأخذ الرّكوة بيده ، ثمّ اقتحم الشّريعة وملأ الرّكوة وأقبل بها نحو أبيه , فقال : يا أبة , الماء لِمَن طُلب , اسق أخي وإن بقى شيء فصبه علىَّ , فإنّي والله عطشان .فبكى الحُسين

٤٣١

وأخذ ولده الطّفل فأجلسه على فخذه , وأخذ الرّكوة وقرّبها إلى فيه ، فلمّا همّ الطّفل أن يشرب , أتاه سهم مسموم فوقع في حلق الطّفل , فذبحه قبل أن يشرب من الماء شيئاً , فبكى الحُسين ورمى الرّكوة من يده ونظر بطرفه إلى السّماء ، وقال : (( أللّهمَّ أنت الشّاهد على قوم قتلوا أشبه الخلق بنبيّك وحبيبك ورسولك )) :

والله ما لي أنيس بعد فرقتكم

إلّا البكاء وقرع السن من ندم

ولا ذكرت الذي أبدى الزمان لكم

إلّا جرت أدمعي ممزوجة بدمي

ثمّ إنّه اشتدّ القتال بين الفريقين حتّى قتل مقتلة عظيمة ورجع إلى أبيه يستغيث من العطش , فقال له : (( اصبر قليلاً حتّى تلقى جدّك أمير المؤمنين فيسقيك بكفّه شربة لا ظمأ بعدها )) .فرجع وحمل عليهم فقتل مقتلة عظيمة , ثمّ كمن له ملعون من أصحاب عمر بن سعد , فضربه ضربة على مفرق رأسه فانصرع فنادى : يا أباه , هذا جدّي مُحمّد الـمُصطفى , وهذا جدّي عليّ الـمُرتضى , وهذه جدّتي فاطمة الزّهراء , وهذه جدّتي خديجة , وهم إليك مشتاقون .فأقبل الحُسين وفرّق القوم عنه وصاح بأعلى صوته , فتصارخن النّساء , فقال لهن الحُسين : (( اسكتن , فإنّ البكاء أمامكن )) .فأخذ رأس ولده ووضعه في حجره, وجعل يمسح الدّم عن وجهه وهو يقول : (( قتلوك يا بني , ما أجرأهم على الله وعلى انتهاك حرم رسول الله , قتل الله قوماً قتلوك يا بني )) .واغرورقت عيناه بالدّموع.

قال مَن شهد الوقعة : كأنّي أنظر إلى امرأة خرجت من فسطاط الحُسين وهي كالشّمس الزّاهرة وهي تُنادي : وا ولداه ! وا قرّة عيناه ! فقلت : مَن هذه ؟ قالوا : زينب بنت عليّ.

فانظروا يا إخواني إلى أهل المكر والعناد , كيف حملهم الغل الكامن في الفؤاد على قتل أولاد الرّسول وثمرة فؤاد الزّهراء البتول, فتركوهم مصرعين على الرّمال في أذلّ الأحوال غير مراقبين فيهم ذا الجلال ، رؤوسهم في أعالي الرّماح وأجسادهم شاحبة تسفى عليها الرّياح ، فهم ما بين قتيل يجري منه الصّديد وأسيراً مكبّل بالحديد.

فيا عيوني سحّي دموعاً ويا فؤادي ذبّ كمداً وخشوعاً , فيحقّ على هؤلاء الأطائب أن يبكي الباكون ويندب النّادبون وتذرف الدّموع من العيون , أو لا تكونون كبعض مادحيهم حيث عرته الأحزان وتتابعت عليه الأشجان , فنظم وقال فيهم :

٤٣٢

القصيدة لسيف بن عمير (رحمه‌الله )

جل المصاب بمن أصبنا فاعذري

يا هذه ، وعن الملامة فاقصري

أفما علمت بأن ما قد نالنا

رزء عظيم مثله لم يذكر

رزء عظيم لا يقاس بمثله

رزء فلم تسمع به أو تبصر

رزء به عشر الإله مصابه

والشمس كاسفة ولما تزهر

رزء النّبي الـمُصطفى ومصيبة

جلت لدى الملك المجليل الأكبر

رزء الحُسين الطهر أكرم من برى

بارىء الورى من سوقة ومؤمر

من جدّه الهادي النّبي الـمُصطفى

وأبوه حيدرة عظيم المفخر

والبضعة الزّهراء فاطم أمه

حوراء طاهرة وبنت الأطهر

فأحق سبط الـمُصطفى وحبيبه

هذا الشبير وصنو ذاك الشبر

فأحق أن يرثى وأن نبكي له

بتفجع وتوجع وتحسر

وأحق من ألف ناء أو دمنة

درست معالمها بسطح المجحر

هذا الحُسين ملقى بشاطىء كربلاء

ظمآن دامي الخد ثمّ المنحر

عار بلا كفن ولا غسل سوى

مور الرياح ثلاثة لم يقبر

مقطوع رأس هشمت أضلاعه

وكسير ظهر كسره لم يجبر

ومباعد عن داره وحماته

ومنازل بحجوفها والمشعر

ويظام مضطهداً غريباً نازحاً

نائي المزار بذلة لم ينصر

ويذاد عن ماء الفرات ووردها

ذود البعير لخمسة لم يصدر

ويداس بعد ركوبه خير الورى

بحوافر وسنابك وبعسكر

ودق ثغر كان أحمد لم يزل

عن لثمه في الخد غير مفتر

وحريمه من حوله وحماته

ماتوا ضمأ فورودهم من كوثر

لم ينثنوا من نصره حتّى غدوا

أيدي سبا في سوء حال منكر

ما بين مضروب بأبيض صارم

أو بين مطعون بلدن أسمر

أو بين مسحوب ليذبح بالعرى

أو بين مشهور وآخر موسر

أو بين من يكبو لثقل قيوده

أو بين مغلول اليدين معفر

ورضيع حول بالحسام فطامه

وصغير سن عن أذى لم يكبر

٤٣٣

هذا وزين العابدين مكتفاً

بالقيد بين عصابة لم تنظر

قد أثخنوه بضربهم وبقيدهم

قد أوثقوه فكان كالمتضور

فكأن مولاي الحُسين وقد غدا

متأهباً لقتالهم لم يحذر

ذو لبدة عز المعين مجاهداً

ثبت الجنان أشد كل غضنفر

يغشى النزال ولا يزال محامياً

حتّى رماه سهم رجس أبتر

فهوى الصعيد مجدلاً ومعفراً

ثبت الجنان أشد كل غضنفر

يدعو الإله ويستغيث بجده

في حاله المستضعف المستنصر

يومي إلى نحو الخيام وتارة

نحو العدو كخائف متحذر

فكأنما قد ألبسوه من الظبا

ثوبين بين معصفر ومزعفر

وأتاه أشقاها لقطع كريمه

ولحز أوداج وقطع الأبهر

لم يدر ذاك الرجس أي عظيمة

أم أي داهية أتى أم منكر

لما ابان الرأس بان به الهدى

وعلا الظلام على الضياء الأزهر

وهوى إلى السفل الحضيض مكرم

والظلم شاد وساد كل مغشمر

والجن ناحت شجوة في أرضها

والغيث غاض ماء الأبحر

وعليه أمطرت السّماء وقبله

يحيي دماً وسواهما لم تمطر

وهوى يدور الأُفق في أفلاكها

فكأنها من قبله لم تبدر

وكأنها أفلاكها في كربلاء

أو كربلاء صارت فريق المنبر

يا كربلاء حويت ما لم تحوه

أرض السواك من الضياء النير

غيبت بطن الأرض منك معظماً

وغدوت تفتخري بكل غنضفر

كنت مجازاً ثمّ صرت حقيقة

بين البلا والكرب للمتبصر

ومن العجائب بعد قتل المجتبى

بدع وأحداث لنسل الأطهر

نسل النّبي الـمُصطفى وحريمه

تسبى كما تسبى بنات الأصفر

ويشهرون ويسلبون مدارعاً

ومقانعاً من بعد سلب المعجر

ويسيرون على المطايا كالإماء

أسرى كأنهم لأسرة قيصر

شعثا مثاكيل عطاشى جوعا

أسرى كأنهم لأسرة قصير

ويصغرون ويشتمون عداوة

بأوامر من كافر متجبر

٤٣٤

لم أنس زينب وهي حسرى حائر

في نسوة متبرجات حسر

تمشي إلى نحو الحُسين وتشتكي

ما نالها من ظلم ذاك المعشر

تدعو وتندب يا ثمال أرامل

وربيع أيتام أطفال صغر

يا بن النّبي الـمُصطفى خير الورى

وابن البتولة والإمام الأطهر

قد جل رزؤك يا أخي وجل ما

ألقاه من ثكل وطول تضرر

أأخي رزؤك ملبسي ثوب الضنا

ومغيراً جسمي بلون أصفر

أأخي مذ فارقت فارقني العرا

وعلى عليّ تحسري وتزفري

أأخي واصلني العزاء وهجرتني

ولقد عهدتك واصلاً لم تهجر

أأخي حالي بعد بعدك ما صفا

وحلاوتي ممزوجة بتمرمر

أأخي بعد البعد منك تقربت

منّي المصائب في الزمان الأعسر

أأخي دار أُمية معمورة

وديار فاطم عاطل لم تعمر

أأخي شمل أُمية مستجمع

وبنات أحمد شملهم يتكدر

أأخي أولاد لآل أُمية

مخفورة وبناتنا لم تخفر

يا سيّدي يا واحدي وموئلي

يا من إليه شكايتي وتجأري

يا غايتي يا بغيتي يا منيتي

يا من يقيني نائبات الأعصر

كم من أسى متهضم قد مسنا

من ظالم باغ علينا مفتر

كنا نعدك للحوادث ملجأ

فإذا فقدت فكسرنا لم يجبر

ظفر العدو بنا ونال مراده

لـمّا مضيت وقبل ذا لم يظفر

في ربع جدك آمنون وغفل

أخرجتنا لمصائب لم تشعر

فإذا ارعوت أهوت إليه تضمه

وقناعها سلب ولم تتخمر

وسكينة عنها السكينة فارقت

لـمّا ابتديت بفرقة وتغير

ورقية رق الحسود لضعفها

وغدا ليعذرها الذي لم يعذر

ولأم كلثوم يجد جديدها

لثم عثيب دموعها لم يكرر

لم أنسها وسكينة ورقية

يبكينه بتحسر وتزفر

يدعون أُمهم البتولة فاطماً

دعوى الحزين الواله المتحير

يا أُمنا هذا الحُسين مجدلا

ملقى عفيراً مثل بدر مزهر

٤٣٥

في تربها متعفراً ومضمخاً

جثمانه بنجيع دم أحمر

ظمآن فارق رأسه جثمانه

عريان مسلوب الرداء والمئزر

يا أمنا نوحي عليه وعولي

في قبرك المستور بين الأقبر

يا أمنا لو تعلمين بحالنا

لرأيت ذا حال قبيح المنظر

أما الرجال فمو سر ومعفر

والمحصنات ففي سبي وتشهر

هذا وكيف يحمل والعزا

منا عقيب مصابنا بالمنذر

أم كيف تسلو النفس عن تطلابه

بلا بالبكاء عليهم بتحسر

يا مؤمناً متشيعاً بولائه

يرجو النجا والفوز يوم المحشر

ابك الحُسين بلوعة وبعبرة

إن لم تجد هاذب فؤادك واكثر

وامزج دموعك بالدماء وقل ما

في حقه حقاً إذا لم تنصر

والبس ثياب الحزن يوم مصابه

ما بين أسود حالك أو أخضر

فعساك تحظى في المعاد بشربة

من حوضهم ماء لذيذ سكر

ويزيدني حزناً بأن رؤوسهم

تهدى إلى الطاغي يزيد المفتر

فكأنها فوق العوالي أنجم

زهرت بأنوار الهدى للمنظر

لما رأى الملعون أحوال النسا

والرأس ظل بحاله المستبشر

فعلى أمية كلها وعتيقها

ودلامها لعن أبي لم يحصر

هذا مصاب للنبي وآله

يوم الطفوف جرى بصحة مخبر

ما في الرزايا الهائلات رزية

بأجل منها في الأمور وأكبر

كل المصائب لو تعاظم شأنها

هي دون ذلك في المحل الأكبر

عدت على أفعال عاد واعتدت

ما عقر ناقة صالح من أحمر

وإليكم يا سادتي وأحبتي

شعر كنظم الدر أو الجوهر

حبرت ألفاظاً فجاءت درة

هذبتها بجوانحي وتفكري

ألبستها حلل المعاني فاغتدت

تسبي العقول بمسمع وبمنظر

أبهى واسنى من عروس تجتلي

وأرق من صهباء تروق بمحضر

سادات إذا قرئت على أمثالها

نظم يعيب لجرول ولحبتر

أرثي الحُسين بها وارجو منكم

يوم المعاد كرامتي وتوفري

٤٣٦

والعفو عما قد جنيت من الخطا

وجرائم لولاكم لا تغفر

وعبيدكم سيف فتى ابن عميرة

عبد لعبد عبيد حيدر قنبر

وعليكم صلّى المهيمن ما سرى

أو سار ركب في دجى أو مقمر

الباب الثّالث

يا إخواني في الدّين , هل يحسن نوح النّائحين إلّا على الذّرية الطّاهرة ؟ وهل يليق بكاء الباكين إلّا على أولاد عليّ أمير المؤمنين ؟ فوا حسرتاه على تلك الأجساد المرمّلة بالدّماء وعلى تلك الأفواه اليابسة من الظماء ! ويا لهفاه على مولاي الحُسين ينادي فلا يجاب قد شغله المصاب عن توديع الأولاد والأحباب ! زخرفوا له الأكاذيب وقالوا له أقدم على السّعة والتّرحيب وعلى النّزل الخصيب , فنحن لك ما تريد أرقّاء وعبيد ، فحين أناخ برحلهم وحطّ بمحلهم , سارعوا إليه بالسّيوف والرّماح وصارعوا في ميدان الكفاح , فجاهدهم بمن معه من أبنائه وأهل بيته وأحبّابه إلى أن سقوا الحتوف رشقاً بالنّبال , وطعناً بالرّماح وضرباً بالسّيوف.

فيا ويلهم ما أجرأهم على الله وعلى انتهاك حرمة رسول الله , ولكن سيعلمون أيّ منقلب ينقلبون .فبالله عليكم يا إخواني , أديموا عليهم الحزن الطّويل فإن مصابهم عظيم جليل :

يا نفس صبراً فكل نائبة

سوى مصاب الحُسين تحتمل

ويا جفوني سحي عليه فلي

عن كل رزء برزئه شغل

لهفي له يشتكي الأوام وللبيض

المواضي من نحره بلل

لهفي لذاك الجبين معفراً

كالشمس أنى بدا لها الخجل

لهفي لنسوانه وقد كشفت

عن صدرهن السجوف والكلل

هذي تنادي أخي وتلك أبي

والدمع فوق الخدود منهمل

وزينب مستجيرة ولها

على أخيها ندب ومرتجل

تصيح من حسرة ومن أسف

والقلب منها مرّوع وجل

أين عليّ بن الحُسين ألا

أين المحامي والفارس البطل

وفاطم تستغيث عمتها

صارخة دمع عينها خضل

يا سادتي يا بني النّبي ومن

عليهم في المعاد أتكل

٤٣٧

ما عنكم لابن حرة عوض

وليس منكم ملعارف بدل

وأين عنكم بالولاء لكم

تمحى الخطايا ويغفر الزلل

فلا يفرح الظّالمون بما هم عليه عاكفون وسيعلمون إلى ما إليه يرجعون , فتبّاً لمن أعمتهم أطماعهم الدّنيوية وأهواؤهم المرديّة الرّدية ، جعلوا يركضون في أودية الضّلال على مطايا الأطماع , فنكستهم إلى الأذقان في أمر حمله لا يستطاع , ولكن لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصّدور , ألا ترون يا إخواني إلى أوّل الرّجلين عند نزول الموت حيث قال , كما نقله الثّقات من الرّجال : يا ليتني كنت تبنة في لبنة .وهل هذا إلّا نظير قوله تعالى :( وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَالَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا ) (١) .وإلى الثّاني حيث قال : لو أنّ لي ملئ الأرض ذهباً لافتديت به من هول المطّلع .وهل هذا إلّا مثل قوله تعالى :( وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) (٢) .فشتّان ما بين ذين وبين مَن قال حين ضُرب على اُمّ رأسه : (( فزت وربّ الكعبة )).

ولعمري , إنّ نسبة هؤلاء وأضرابهم إليه افتراء على الله وعليه .فيا سعد من تمسّك بذراريه , ويا فلاح من اعتقده وكان من حزبه ومواليه .بنوه المعصومين سادات الدُنيا وشفعاء الخلق في الآخرة , أزالوهم عن مراتبهم التي رتّبهم الله في العالمين , فبذلك استحقّوا منه العذاب المهين واللعنة إلى يوم الدّين.

نُقل : أنّه لمـّا قُتل عليّ بن الحُسين في طفّ كربلاء , أقبل عليه الحُسين وعليه جبّة خزّ دكناء وعمامة موردة وقد أرخى لها غرّتين , فقال مخاطباً له : (( أما أنت يا بني , فقد استرحت من كرب الدُنيا وغمّها وما أسرع اللحوق بك )) .ثمّ وثب على قدميه ببردة رسول الله والتّحف بها , وأفرغ عليه درعه الفاضل وتقلّد سيفه , واستوى على متن جواده وهو غائص في الحديد , فأقبل على اُمّ كلثوم وقال لها : (( أوصيك يا اُخيّه بنفسك خيراً , وإنّي بارز إلى هؤلاء القوم )) .فأقبلت سكينة وهي صارخة وكان يحبّها حبّاً شديداً , فضمّها إلى صدره ومسح دموعها بكمّه وقال :

سيطول بعدي يا سكينة فاعلمي

منك البكاء إذا الحمام دهاني

لا تحرقي قلبي بدمعك حسرة

ما دام منّي الروح في جثماني

فإذا قتلت فأنت أولى بالذي

تأتينه يا خيرة النسوان

ونقل آخر وهو : أنّه لمـّا قُتل أصحاب الحُسين كلّهم وتفانوا وابيدوا ولم يبق

____________________

(١) سورة النّبأ / ٤٠.

(٢) سورة الزّمر / ٤٧.

٤٣٨

أحد , بقي (عليه‌السلام ) يستغيث فلا يُغاث وأيقن بالموت , أتى إلى نحو الخيمة وقال لأخته : (( آتيني بثوب عتيق لا يرغب فيه أحد من القوم أجعله تحت ثيابي ؛ لئلا اُجرّد منه بعد قتلي )).

قال : فارتفعت أصوات النّساء بالبكاء والنّحيب , ثمّ أوتي بثوب فخرّقه ومزّقه من أطرافه وجعله تحت ثيابه , وكان له سروال جديد فخرّقه أيضاً ؛ لئلا يُسلب منه , فلمّا قُتل , عمد إليه رجل فسلبهما منه وتركه عرياناً بالعراء مجرّداً على الرّمضاء , فشلّت يداه في الحال وحلّ به العذاب والنّكال.

قال : فلمّا لبس الحُسين (عليه‌السلام ) ذلك الثّوب المخرّق , ودّع أهله وأولاده وداع مفارق لا يعود , قال : وكان عبد الله بن الحسن الزّكي واقفاً بإزار الخيمة وهو يسمع وداع عمّه الحُسين , فخرج في أثره وهو يبكي ويقول : والله لا أفارق عمّي .فلحقته زينب لتحبسه ؛ لأنّه صغير لم يبلغ الحُلم والحُسين يقول لها : (( يا أختي احبسيه )) .فانفلت الصّبي من يدها وقال : والله لا أفارق عمّي .فأقبل حرملة بن كاهل اللعين إلى الحُسين (عليه‌السلام ) , فضرب الصّبي بالسّيف فأطنّ يمينه إلى الجلد , فإذا هي معلقة, فصاح الصّبي : يا عمّاه أدركني ! فأخذه الحُسين وضمّه إليه وقال : (( يابن أخي , صبراً على ما نزل بك يا ولدي )) .فبينما هو يخاطبه , إذا رماه اللعين حرملة بسهم فذبحه في حجره , فصاحت زينب : وابن أخاه , ليت الموت أعدمني الحياة , ليت السّماء أطبقت على الأرض , وليت الجبال تدكدكت على السّهل .وكان عمر بن سعد اللعين قريباً منها , فقالت : ويحك يا عمر , يُقتل ابن بنت رسول الله وأنت تنظر إليه ؟! فلم يجبها.

قال من شهد الوقعة : ثمّ إنّ الحُسين (عليه‌السلام ) أقبل على عمر بن سعد , وقال له : (( أخيّرك في ثلاث خصال )) .قال : وما هي ؟ قال : (( تتركني حتّى أرجع إلى المدينة إلى حرم جدّي رسول الله )) .قال : ما لي إلى ذلك سبيل .قال : (( اسقوني شربة من الماء , فقد نشفت كبدي من الظّمأ )) .فقال : ولا إلى الثّانية سبيل .قال : (( وإن كان لا بدّ من قتلي , فليبرز إليّ رجل بعد رجل )) .فقال : ذلك لك.

فحمل على القوم وهو يقول :

أن ابن عليّ الطهر من آل هاشم

كفاني بهذا مفخر حين أفخر

وفاطم أمي ثمّ جدّي مُحمّد

وعمي يدعى ذا الجناحين جعفر

بنا بيّن الله الهدى من ضلالة

ويغمر بنا آلاءه ويطهر

٤٣٩

علينا وفينا أنزل الوحي والهدى

ونحن سراج الله في الأرض نزهر

ونحن ولاة الحوض نسقي محبنا

بكأس رسول الله من ليس ينكر

إذا ما أتى يوم القيامة ظامياً

إلى الحوض يسقيه بكفيه حيدر

إمام مطاع أوجب الله حقه

على الناس جمعاً والذي كان ينظر

وشيعتنا في الناس أكرم شيعة

ومبغضنا يوم القيامة يخسر

فطوبى لعبد زارنا بعد موتنا

بجنة عدن صفوها لا يكدّر

قال : ثمّ إنّ الحُسين (عليه‌السلام ) نظر إلى اثنين وسبعين رجلاً من أهل بيته صرعى , فالتفت إلى الخيمة ونادى : (( يا سكينة يا فاطمة يا زينب يا اُمّ كلثوم , عليكنّ منّي السّلام )) .فنادته سكينة : يا أبة , استسلمت للموت ؟ فقال : (( كيف لا يستسلم من لا ناصر له ولا معين )) .فقالت : يا أبة , ردنا إلى حرم جدّنا .فقال : (( هيهات , لو تُرك القطا لنام )) .فتصارخن النّساء فسكتهنّ الحُسين , ثمّ حمل على القوم وهو يقول :

كفر القوم وقدماً رغبوا

عن ثواب الله رب الثقلين

حنقاً منهم وقالوا إننا

نأخذ الأول قدماً بالحسين

يا لقومي من أناس قد بغوا

جمعوا الجمع لأهل الحرمين

لا لذنب كان منّي سابقاً

غير فخري بضياء الفرقدين

بعلي الطهر من بعد النّبي

ذاك خيرة هاشم في الخافقين

خيرة الله من الخلق أبي

وارث العلم ومولى الثقلين

اُمي الزهراء حقا وأبي

وارث العلم ومولى الثقلين

فضة قد صفيت من ذهب

فأنا الفضة ابن الذهبين

ذهب في ذهب في ذهب

ولجين في لجين في لجين

والدي شمس وأمي قمر

فأنا الكوكب وابن القمرين

عبد الله غلاماً يافعاً

وقريش يعبدون الوثنين

يعبدون اللات والعزى معاً

وعلي قائم بالحسنين

مع رسول الله سبعاً كاملاً

ما على الأرض مصل غير ذين

هجر الأصنام لا يعبدها

مع قريش لا ولا طرفة عين

من له جد كجدي في الورى

أو كأمي في جميع المشرقين

٤٤٠