الـمُنتخب في جمع المراثي والخطب المشتهر بـ (الفخري)

الـمُنتخب في جمع المراثي والخطب المشتهر بـ (الفخري)12%

الـمُنتخب في جمع المراثي والخطب المشتهر بـ (الفخري) مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 493

الـمُنتخب في جمع المراثي والخطب المشتهر بـ (الفخري) الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 493 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 70437 / تحميل: 5609
الحجم الحجم الحجم
الـمُنتخب في جمع المراثي والخطب المشتهر بـ (الفخري)

الـمُنتخب في جمع المراثي والخطب المشتهر بـ (الفخري)

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

لمخالفته(١) النذر.

ولو فاته الجميع لغير عذر ، وجب عليه القضاء متتابعاً - وهو أصحّ وجهي الشافعية(٢) - لأنّه صرّح في نذره بالتتابع ، فيكون مقصوداً له بالذات.

والثاني للشافعية : أنّه لا يلزمه الاستئناف لو أفسد آخره ، ولا تتابع القضاء لو أهمل الجميع ؛ لأنّ التتابع واقع من ضروراته ، فلا أثر للفظه وتصريحه(٣) . وهو ممنوع.

وإن لم يقيّد بالتتابع ، لم يجب الاستئناف لو أفسد آخره ولا تتابع القضاء لو أهمله ، بل يجب القضاء مطلقاً ؛ لأنّ التتابع فيه كان من حقّ الوقت وضروراته ، لا أنّه وقع مقصوداً ، فأشبه التتابع في صوم رمضان.

مسألة ٢٠٢ : لو نذر اعتكاف شهر ، لزمه شهر بالأهلّة أو ثلاثون يوماً‌. وهل يلزمه التتابع؟ الأقرب : العدم ، بل له أن يفرّقه ثلاثة ثلاثة ، أو يوماً ويضيف إليه آخرَيْن مندوبين على الإِشكال السابق.

وقال الشافعي : لا يلزمه التتابع ؛ لأنّه معنى يصحّ فيه التفريق ، فلا يجب فيه التتابع بمطلق النذر كالصيام. وهو إحدى الروايتين عن أحمد. والثانية : يلزمه التتابع. وبه قال أبو حنيفة ومالك(٤) .

فإن اعتكف شهراً بين هلالين ، أجزأه وإن كان ناقصاً. وإن اعتكف ثلاثين يوماً من شهرين ، جاز.

ويدخل فيه الليالي ؛ لأنّ الشهر عبارة عنهما ، ولا يجزئه أقلّ من ذلك - وبه قال الشافعي(٥) - إلاّ أن يقول : أيّام شهر أو نهار هذا الشهر ؛ فلا يلزمه‌

____________________

(١) في « ط ، ن » لمخالفة.

(٢و٣) الوجيز ١ : ١٠٧ ، فتح العزيز ٦ : ٥١٢ ، المجموع ٦ : ٤٩٣.

(٤) حلية العلماء ٣ : ٢٢٠ ، المغني ٣ : ١٥٧ - ١٥٨ ، الشرح الكبير ٣ : ١٣٨ ، المدونة الكبرى ١ : ٢٣٤ ، بداية المجتهد ١ : ٣١٧ ، بدائع الصنائع ٢ : ١١١.

(٥) الوجيز ١ : ١٠٧ ، فتح العزيز ٦ : ٥١٣ ، المهذب للشيرازي ١ : ١٩٨ ، المجموع ٦ : ٤٩٣ =

٢٨١

الليالي.

ولو قال : ليالي هذا الشهر ؛ لم ينعقد عندنا ؛ لأنّ من شرط الاعتكاف الصوم ، والليل ليس محلاً للصوم.

وقال الشافعي : ينعقد ويلزم الاعتكاف ليلاً ، ولا يلزمه الأيّام(١) .

ولو نذر اعتكاف يوم ، قال الشافعي : لا يلزم ضمّ الليلة إلّا أن ينوي ، فحينئذٍ يلزم ؛ لأنّ اليوم قد يطلق ويراد به اليوم بليلته(٢) .

وللشافعي قول آخر : إنّه تدخل الليلة إلّا أن ينوي يوماً بلا ليلة(٣) .

ولو نذر اعتكاف يومين ، وجب عليه ضمّ ثالث إليهما عندنا ، وعند العامّة لا يلزم.

فعلى قولهم هل تلزمه الليلة بينهما؟ للشافعية ثلاثة أوجه :

أحدها : لا تلزم إلّا إذا نواها ؛ لما سبق من أنّ اليوم عبارة عمّا بين طلوع الفجر وغروب الشمس.

والثاني : تلزم إلّا أن يريد بياض النهار ؛ لأنّها ليلة تتخلّل نهار الاعتكاف ، فأشبه ما لو نذر اعتكاف العشر.

والثالث : إن نوى التتابع أو قيّد به لفظاً ، لزمت ليحصل التواصل ، وإلّا فلا(٤) .

ولو نذر اعتكاف ليلتين ففي النهار المتخلّل بينهما هذا الخلاف.

ولو نذر ثلاثة أيام أو عشرة أيام أو ثلاثين يوماً ، ففي لزوم الليالي المتخلّلة ، الوجوه الثلاثة(٥) .

____________________

= ٤٩٣.

(١) فتح العزيز ٦ : ٥١٣ ، المجموع ٦ : ٤٩٣ ، حلية العلماء ٣ : ٢١٨.

(٢و٣) فتح العزيز ٦ : ٥١٤ ، المهذب للشيرازي ١ : ١٩٨ ، المجموع ٦ : ٤٩٦.

(٤) المهذب للشيرازي ١ : ١٩٨ ، المجموع ٦ : ٤٩٦ - ٤٩٧ ، فتح العزيز ٦ : ٥١٤.

(٥) فتح العزيز ٦ : ٥١٥ ، المهذب للشيرازي ١ : ١٩٨ ، المجموع ٦ : ٤٩٧.

٢٨٢

وقال بعض الشافعية : إن نذر اليومين لا يستتبع شيئاً من الليالي ، والخلاف في الثلاثة فصاعداً ؛ لأنّ العرب إذا أطلقت اليومين عنت مجرّد النهار ، وإذا أطلقت الأيّام عنت بلياليها(١) .

مسألة ٢٠٣ : لا خلاف بين الشافعية في أنّ الليالي لا تلزم بعدد الأيّام‌ ، فإذا نذر يومين لم تلزم(٢) ليلتان بحال ، وبه قال مالك وأحمد(٣) .

وقال أبو حنيفة : تلزم(٤) ليلتان(٥) .

ولو نذر اعتكاف يوم ، لم يجز تفريقه ، ويلزمه أن يدخل معتكفة قبل طلوع الفجر ويخرج منه بعد غروب الشمس.

وقال مالك : يدخل معتكفة قبل غروب الشمس من ليلة ذلك اليوم ، كما لو نذر اعتكاف شهر ؛ لأنّ الليل يتبع النهار بدليل ما لو كان متتابعاً(٦) .

والوجه : ما قلناه من أنّ الليلة ليست من اليوم ، وهي من الشهر.

ولو نذر اعتكاف ليلة ، لزمه دخول معتكفة قبل غروب الشمس ويخرج منه بعد طلوع الفجر عند العامة(٧) . وليس له تفريق الاعتكاف عند أحمد(٨) .

وقال الشافعي : له التفريق(٩) .

مسألة ٢٠٤ : لو نذر العشر الأخير من بعض الشهور ، دخل فيه الأيّام والليالي‌ ، وتكون الليالي هنا بعدد الأيّام ، كما في نذر الشهر ، وقد تقدّم.

____________________

(١) فتح العزيز ٦ : ٥١٥ - ٥١٦.

(٢) في « ط ، ف ، ن » لم تلزمه.

(٣) المجموع ٦ : ٤٩٧ ، فتح العزيز ٦ : ٥١٦ ، حلية العلماء ٣ : ٢٢١ ، المغني ٣ : ٥٩ ، الشرح الكبير ٣ : ١٣٩.

(٤) في « ف ، ن » : تلزمه.

(٥) بدائع الصنائع ٢ : ١١٠ ، المبسوط للسرخسي ٣ : ١٢٢ - ١٢٣ ، حلية العلماء ٣ : ٢٢١ ، المغني ٣ : ١٥٩ ، الشرح الكبير ٣ : ١٣٩.

(٦) المغني ٣ : ١٥٩ ، الشرح الكبير ٣ : ١٤٠ ، بداية المجتهد ١ : ٣١٤ - ٣١٥.

(٧ - ٩ ) المغني ٣ : ١٥٩ - ١٦٠ ، الشرح الكبير ٣ : ١٤٠.

٢٨٣

ويخرج عن العهدة إذا استهلّ الهلال ، كان الشهر كاملاً أو ناقصاً ؛ لأنّ الاسم يقع على ما بين العشرين إلى آخر الشهر.

ولو نذر أن يعتكف عشرة أيّام من آخر الشهر ودخل المسجد اليوم العشرين ، أو قُبَيْل الحادي والعشرين فنقص الشهر ، لزمه قضاء يوم ؛ لأنّه حدّد القصد إلى العشرة.

تذنيب : إذا نذر أن يعتكف يوم قدوم زيد فيه ، لم ينعقد‌ ؛ لأنّه إن قدم ليلاً ، لم يلزمه شي‌ء ، وإن قدم نهاراً ، لم ينعقد ؛ لمضيّ بعض اليوم غير صائم للاعتكاف.

ومَنْ لا شَرَط(١) الصوم أوجب عليه اعتكاف بقية النهار(٢) .

وللشافعي في قضاء ما مضى من النهار قولان :

أصحّهما عندهم : العدم ؛ لأنّ الوجوب ثبت من حين القدوم.

والثاني : الوجوب ؛ لأنّا نتبيّن بقدومه أنّ ذلك يوم القدوم ، فيجب أن يعتكف بقية اليوم ، ويقضي بقدر ما مضى من يوم آخر(٣) .

وقال بعضهم : يستأنف اعتكاف يوم ليكون اعتكافه موصولاً(٤) .

ولو كان الناذر وقت القدوم ممنوعاً من الاعتكاف بمرض أو حبس ، قضاه عند زوال العذر.

وقال بعضهم : لا شي‌ء عليه ؛ لعجزه وقت الوجوب ، كما لو نذرت المرأة صوم يوم بعينه فحاضت فيه(٥) .

____________________

(١) أي : لم يشترط ، والدليل عليه قوله تعالى :( فَلا صَدَّقَ وَلا صَلّى ) [ القيامة : ٣١ ]. والمغني : لم يصدّق ولم يصلّ.

(٢) فتح العزيز ٦ : ٥١٧ ، المجموع ٦ : ٥٤٠.

(٣) فتح العزيز ٦ : ٥١٧ - ٥١٨ ، المجموع ٦ : ٥٤٠ - ٥٤١.

(٤) فتح العزيز ٦ : ٥١٨ ، المجموع ٦ : ٥٤١ ، مختصر المزني : ٦١.

(٥) فتح العزيز ٦ : ٥١٨.

٢٨٤

المطلب الخامس :

في الرجوع من الاعتكاف ، وأحكام الخروج من المسجد‌

مسألة ٢٠٥ : قد بيّنّا أنّ الاعتكاف في أصله مندوب إليه غير واجب بدون النذر وشبهه‌ ، فإذا تبرّع به كان ندباً إجماعاً ، فإذا شرع في الاعتكاف ، فلعلمائنا في صيرورته واجباً حينئذٍ أقوال ثلاثة :

أحدها : قال الشيخ -رحمه‌الله - في بعض مصنّفاته : إنّه يصير واجباً بالنيّة والدخول فيه(١) - وبه قال أبو الصلاح(٢) من علمائنا ، وهو قول مالك وأبي حنيفة(٣) - لأنّ الأخبار دلّت على وجوب الكفّارة بإفساد الاعتكاف بجماع وغيره على الإِطلاق ، ولو لم ينقلب واجباً لم تجب الكفّارة ، وبالقياس على الحج والعمرة.

والأخبار محمولة على الاعتكاف الواجب. وأيضاً لا استبعاد في وجوب الكفّارة في هتك الاعتكاف المستحب. والفرق : احتياج الحجّ والعمرة إلى إنفاق مال كثير ففي إبطلاهما تضييع للمال وهو منهي عنه.

الثاني : أنّه إن اعتكف يومين وجب الثالث ، وإن اعتكف أقلّ لم يجب الإِكمال - وهو ظاهر كلام الشيخ في النهاية(٤) ومذهب ابن الجنيد(٥) وابن البرّاج(٦) - لقول الباقرعليه‌السلام : « إذا اعتكف يوماً ولم يكن اشترط فله أن‌

____________________

(١) المبسوط للطوسي ١ : ٢٨٩.

(٢) الكافي في الفقه : ١٨٦.

(٣) المدونّة الكبرى ١ : ٢٣٢ ، المنتقى - للباجي - ٢ : ٨٤ ، بدائع الصنائع ٢ : ١٠٨ ، المغني والشرح الكبير ٣ : ١٢٣.

(٤) النهاية : ١٧١ ، وحكاه عنه في ظاهر النهاية أيضاً المحقق في المعتبر : ٣٢٤.

(٥) حكاه عنه المحقق في المعتبر : ٣٢٤.

(٦) المهذب لابن البراج ١ : ٢٠٤.

٢٨٥

يخرج ويفسخ اعتكافه ، وإن أقام يومين ولم يكن اشترط فليس له أن يخرج ويفسخ اعتكافه حتى تمضي ثلاثة أيام »(١) .

وفي طريقها علي بن فضّال ، وفيه ضعف.

الثالث : أنّ له إبطالَه مطلقاً ، وفسخه متى شاء ، سواء في اليوم الأول أو الثاني أو الثالث ، اختاره السيد المرتضى(٢) رضي‌الله‌عنه ، وابن إدريس(٣) ، وبه قال الشافعي وأحمد(٤) ، وهو الأقوى ؛ لأصالة بقاء ما كان على ما كان ، وبراءة الذمة.

مسألة ٢٠٦ : لا يجب الاعتكاف بمجرّد النيّة‌ - وهو قول عامّة أهل العلم - للأصل.

وقال مَنْ لا يُعتدّ به : إنّه يجب الاعتكاف بمجرّد العزم عليه ؛ لأنّ عائشة رَوَتْ أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان ، فاستأذنته عائشة فأذن لها فأمَرَتْ ببنائها(٥) فضُرب ، وسألت حفصة أن تستأذن لها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ففعلَتْ فأمرَتْ ببنائها فضُرب ، فلمـّا رأت ذلك زينب بنت جحش أمَرَتْ ببنائها فضُرب.

قالت : وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، إذا صلّى الصبح دخل معتكفة ، فلمـّا صلّى الصبح انصرف فبصر بالأبنية ، فقال : ( ما هذا؟ ) فقالوا : بناء عائشة وحفصة وزينب ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :

____________________

(١) التهذيب ٤ : ٢٨٩ - ٢٩٠ / ٨٧٩ ، الاستبصار ٢ : ١٢٩ / ٤٢١.

(٢) حكاه عنه المحقق في المعتبر : ٣٢٤.

(٣) السرائر : ٩٧.

(٤) المجموع ٦ : ٤٩٠ ، المغني والشرح الكبير ٣ : ١٢٣.

(٥) البناء واحد الأبنية ، وهي البيوت التي تسكنها العرب في الصحراء ، فمنها : الطراف والخباء والقبّة والمضرب. النهاية - لابن الأثير - ١ : ١٥٧ - ١٥٨.

٢٨٦

( ألبرّ أردتنّ؟ ما أنا بمعتكف ) فرجع ، فلمـّا أفطر اعتكف عشراً من شوّال(١) .

ولأنّها عبادة تتعلّق بالمسجد فلزمت بالدخول فيها ، كالحجّ(٢) .

والرواية تدلّ على النقيض ؛ لأنّ تركه دليل على عدم الوجوب بالعزم.

والفرق بينه وبين الحجّ قد سبق.

مسألة ٢٠٧ : لو اعتكف ثلاثة أيّام ، كان بالخيار‌ إن شاء زاد عليها وإن شاء لم يزد ، وإن زاد يوماً جاز له عدم الزيادة على الأربعة.

فإن زاد على الثلاثة يومين ، قال الشيخ : يجب الإِكمال ستة(٣) ؛ فأوجب السادس - وبه قال ابن الجنيد(٤) وأبو الصلاح(٥) - لقول الباقرعليه‌السلام : « من اعتكف ثلاثة أيّام فهو يوم الرابع بالخيار إن شاء ازداد أيّاماً اُخر ، وإن شاء خرج من المسجد ، فإن أقام يومين بعد الثلاثة فلا يخرج من المسجد حتى يستكمل ثلاثة اُخر »(٦) .

وفي طريقها علي بن فضّال ، والأصل براءة الذمة.

مسألة ٢٠٨ : لا يجوز للمعتكف الخروج من المسجد الذي اعتكف فيه حالة اعتكافه إلّا لضرورة‌ بإجماع العلماء كافة ؛ لما رواه العامة عن عائشة أنّها قالت : السنّة للمعتكف أن لا يخرج إلّا لما لا بدّ له منه(٧) .

وعنها : أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، كان إذا اعتكف يُدني إليَّ‌

____________________

(١) أوردها ابنا قدامة في المغني والشرح الكبير ٣ : ١٢٣ ، وفي صحيح مسلم ٢ : ٨٣١ / ١١٧٣ ، وسنن ابن ماجة ١ : ٥٦٣ / ١٧٧١ ، وسنن أبي داود ٢ : ٣٣١ - ٣٣٢ / ٢٤٦٤ نحوها.

(٢) المغني والشرح الكبير ٣ : ١٢٣ - ١٢٤.

(٣) النهاية : ١٧١ ، المبسوط للطوسي ١ : ٢٩٠.

(٤) حكاه عنه المحقق في المعتبر : ٣٢٤.

(٥) الكافي في الفقه : ١٨٦.

(٦) التهذيب ٤ : ٢٨٨ / ٨٧٢ ، الاستبصار ٢ : ١٢٩ / ٤٢٠.

(٧) سنن أبي داود ٢ : ٣٣٣ - ٣٣٤ / ٢٤٧٣ ، سنن البيهقي ٤ : ٣٢٠.

٢٨٧

رأسه فاُرجّله ، وكان لا يدخل البيت إلّا لحاجة الإِنسان(١) .

ومن طريق الخاصة : قول الصادقعليه‌السلام : « لا يخرج المعتكف من المسجد إلّا في حاجة »(٢) .

ولأنّ الاعتكاف هو اللبث ، فإذا خرج بطل الاسم.

والممنوع إنّما هو الخروج بجميع بدنه ، فلو أخرج يده أو رأسه ، لم يبطل اعتكافه ؛ لما تقدّم في رواية عائشة.

ولو أخرج إحدى رجليه أو كلتيهما وهو قاعد مادٌّ لهما ، فكذلك ، وإن اعتمد عليهما فهو خارج.

والممنوع منه الخروج عن كلّ المسجد.

فلو صعد على المنارة ، فإن كانت في وسط المسجد أو بابها فيه أو في رحبته وهي تُعدّ من المسجد ، جاز سواء كان الصعود للأذان أو لغيره ، كما يصعد على سطح المسجد ودخول بيت منه.

وإن كان الباب خارج المسجد ، لم يجز ؛ لأنّها لا تُعدّ حينئذٍ من المسجد ، ولا يصح الاعتكاف فيها.

وهل للمؤذّن صعودها للأذان؟ الأقرب : المنع - وهو أحد وجهي الشافعية(٣) - لأنّه لا ضرورة إليه ، لإِمكان الأذان على سطح المسجد ، فصار كما لو صعدها لغير الأذان ، أو خرج لغير ضرورة ، أو خرج إلى الأمير ليُعْلمه الصلاة.

والثاني : الجواز ؛ لأنّها مبنيّة للمسجد معدودة من توابعه.

ولأنّه قد اعتاد صعودها للأذان وقد استأنس الناس بصوته ، فيعذر فيه.

____________________

(١) سنن أبي داود ٢ : ٣٣٢ / ٢٤٦٧ ، سنن الترمذي ٣ : ١٦٧ / ٨٠٤ ، سنن البيهقي ٤ : ٣١٥ ، مسند أحمد ٦ : ١٨١.

(٢) التهذيب ٤ : ٢٩٣ / ٨٩١ ، الاستبصار ٢ : ١٢٨ / ٤١٦.

(٣) فتح العزيز ٦ : ٥٣٠.

٢٨٨

ويجعل زمان الأذان مستثنى عن اعتكافه(١) .

مسألة ٢٠٩ : يجوز للمعتكف الخروج عن المسجد لقضاء الحاجة‌ بإجماع العلماء.

قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على أنّ للمعتكف أن يخرج من معتكفة للغائط والبول(٢) .

ولأنّ هذا ممّا لا بدّ منه ، ولا يمكن فعله في المسجد ، فلو بطل الاعتكاف بخروجه إليه ، لم يصح لأحد أن يعتكف.

ولأنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، كان يعتكف ، ومن المعلوم أنّه كان يخرج لقضاء الحاجة.

ولما رواه العامة عن عائشة أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، كان إذا اعتكف لا يدخل البيت إلّا لحاجة الإِنسان(٣) .

ومن طريق الخاصة : ما رواه داود بن سرحان ، قال : كنت بالمدينة في شهر رمضان ، فقلت للصادقعليه‌السلام : إنّي اُريد أن أعتكف فماذا أقول وماذا أفرض على نفسي؟ فقال : « لا تخرج من المسجد إلّا لحاجة لا بدّ منها ولا تقعد تحت ظلال حتى تعود إلى مجلسك »(٤) .

وفي معناه الخروج للاغتسال من الاحتلام.

ولو كان إلى جانب المسجد سقاية خرج إليها ولا يجوز التجاوز ، إلّا أن يجد غضاضةً بأن يكون من أهل الاحتشام(٥) ، فيحصل له مشقّة بدخولها ، فيجوز له العدول إلى منزله وإن كان أبعد.

____________________

(١) فتح العزيز ٦ : ٥٣٠.

(٢) المغني ٣ : ١٣٢ ، الشرح الكبير ٣ : ١٤٢.

(٣) تقدّمت الاشارة إلى مصادرها في الصفحة السابقة ، الهامش (١).

(٤) الكافي ٤ : ١٧٨ / ٢ ، الفقيه ٢ : ١٢٢ / ٥٢٨ ، التهذيب ٤ : ٢٨٧ - ٢٨٨ / ٨٧٠.

(٥) أي : الاستحياء. الصحاح ٥ : ١٩٠٠.

٢٨٩

ولو بذل له صديق منزله - وهو قريب من المسجد - لقضاء الحاجة ، لم تلزمه الإِجابة ؛ لما فيه من المشقّة بالاحتشام ، بل يمضي إلى منزل نفسه ، سواء كان منزله قريباً أو بعيداً بُعْداً متفاحشاً أو غير متفاحش ، إلّا أن يخرج بالبُعْد عن مسمّى الاعتكاف.

ولو كان له منزلان أحدهما أقرب ، تعيّن عليه القصد إليه ، خلافاً لبعض الشافعيّة حيث سوّغ له المضيّ إلى الأبعد(١) .

ولو احتلم ، وجب عليه المبادرة بالخروج عن المسجد للغسل ؛ لأنّ الاستيطان حرام.

مسألة ٢١٠ : يجوز للمعتكف الخروج لشراء المأكول والمشروب‌ إذا لم يكن له مَنْ يأتيه به بالإِجماع ؛ لأنّ الحاجة تدعو إليه ، والضرورة ثابتة فيه ، فجاز كغيره من الضروريات.

وهل يجوز الخروج للأكل خارج المسجد؟ إشكال ، أقربه ذلك إن كان فيه غضاضة ويكون من أهل الاحتشام ، وإلّا فلا.

وللشافعية وجهان : هذا أحدهما ؛ لأنّه قد يستحيي منه ويشقّ عليه.

والثاني : أنّه لا يجوز - وهو قول الشافعي في الاُمّ(٢) - لأنّ الأكل في المسجد ممكن(٣) .

ولو عطش ولم يجد الماء في المسجد ، فهو معذور في الخروج.

ولو وجده فالأقرب منعه من الخروج للشرب - وهو أصحّ وجهي الشافعية - لأنّ فعله في المسجد ممكن ، ولا يستحي منه ، ولا يُعدّ تركه من المروة ،

____________________

(١) المهذب للشيرازي ١ : ١٩٩ ، فتح العزيز ٦ : ٥٣٣ ، حلية العلماء ٣ : ٢٢٢.

(٢) قال الشافعي في الاُم ٢ : ١٠٥ : وإن أكل المعتكف في بيته فلا شي‌ء عليه. وكذلك حكاه عنه النووي في المجموع ٦ : ٥٠٥.

(٣) المهذب للشيرازي ١ : ١٩٩ ، المجموع ٦ : ٥٠٥ ، فتح العزيز ٦ : ٥٣٢ ، حلية العلماء ٣ : ٢٢٢.

٢٩٠

بخلاف الأكل فيه(١) .

ولو فجأه القي‌ء خرج من المسجد ليتقيّأ خارجه صيانةً للمسجد وأهله عن الاستقذار.

وكلّ ما لا بدّ منه ولا يمكن فعله في المسجد فله الخروج إليه ، ولا يفسد اعتكافه ، وهو على اعتكافه ما لم يطل المكث ويخرج به عن اسم المعتكف.

مسألة ٢١١ : لو اعتكف في أحد المساجد الأربعة واُقيمت الجمعة في غيره‌ لضرورة ، أو اعتكف في غيرها عند مَنْ سوَّغه ، خرج لأدائها ، ولم يبطل اعتكافه عند علمائنا - وبه قال أبو حنيفة وأحمد(٢) - لأنّه خرج لأداء واجب عليه ، فلا يبطل به اعتكافه ، كما لو خرج لأداء الشهادة ، أو لإِنقاذ غريق ، أو إطفاء حريق.

وقال الشافعي : يجب أن يخرج لصلاة الجمعة.

وفي بطلان اعتكافه قولان ، أحدهما : لا يبطل ، كما اخترناه. والثاني: أنّه يبطل - وبه قال مالك(٣) - لسهولة الاحتراز عن هذا الخروج بأن يعتكف في الجامع.

وعلى هذا لو كان اعتكافه المنذور أقلّ من أسبوع ، ابتدأ من أول الاُسبوع أين شاء من المساجد وفي الجامع متى شاء ، وإن كان أكثر من اُسبوع ، فيجب أن يبتدئ به في الجامع حتى لا يحتاج إلى الخروج للجمعة.

فإن كان قد عيّن غير الجامع وقلنا بالتعيين ، فلا يخرج عن نذره إلّا بأن‌

____________________

(١) فتح العزيز ٦ : ٥٣٢ ، المجموع ٦ : ٥٠٥ ، حلية العلماء ٣ : ٢٢٣.

(٢) الهداية للمرغيناني ١ : ١٣٢ ، بدائع الصنائع ٢ : ١١٤ ، المغني ٣ : ١٣٢ ، الشرح الكبير ٣ : ١٤٣ ، حلية العلماء ٣ : ٢٢٣.

(٣) الكافي في فقه أهل المدينة : ١٣١ ، حلية العلماء ٣ : ٢٢٣ ، المجموع ٦ : ٥١٤ ، فتح العزيز ٦ : ٥٤٠.

٢٩١

يمرض فتسقط عنه الجمعة ، أو بأن يتركها عاصياً ويدوم على اعتكافه(١) .

وهذا يستلزم الجمع بين الضدّين في الحكمين.

واحتجّ على بطلان الاعتكاف : بأنّه أمكنه أداء فرضه بحيث لا يخرج منه ، فبطل بالخروج ، كالمكفّر إذا ابتدأ صوم شهرين متتابعين في شعبان أو ذي الحجّة.

وليس بجيّد ؛ لأنّه إذا نذر أيّاماً معيّنة فيها جمعة ، فكأنّه استثنى الجمعة بلفظه.

ويبطل ما ذكره بما لو نذرت المرأة اعتكاف أيّام متتابعة فيها عادة حيضها.

مسألة ٢١٢ : يجوز للمعتكف أن يخرج لعيادة المرضى وشهادة الجنائز‌ عند علمائنا أجمع ، سواء اشترط ذلك في اعتكافه أو لا - وبه قال عليعليه‌السلام ، وسعيد بن جبير والنخعي والحسن(٢) - لما رواه العامّة عن عليعليه‌السلام ، أنّه قال : « إذا اعتكف الرجل فليشهد الجمعة وليعد المريض وليحضر الجنازة وليأت أهله وليأمرهم بالحاجة وهو قائم »(٣) .

ومن طريق الخاصة : قول الصادقعليه‌السلام : « ولا يخرج في شي‌ء إلّا لجنازة أو يعود مريضاً ولا يجلس حتى يرجع »(٤) .

ولأنّه مؤكّد الاستحباب ، والاعتكاف للعبادة ، فلا يناسب منعها من مؤكّداتها.

وقال عطاء وعروة ومجاهد والزهري والشافعي ومالك وأصحاب الرأي :

____________________

(١) المجموع ٦ : ٥١٣ - ٥١٤ ، فتح العزيز ٦ : ٥٤٠.

(٢) المغني ٣ : ١٣٦ ، الشرح الكبير ٣ : ١٤٨ ، المجموع ٦ : ٥١٢.

(٣) مصنّف ابن أبي شيبة ٣ : ٨٧ - ٨٨ ، وأوردها ابنا قدامة في المغني ٣ : ١٣٦ ، والشرح الكبير ٣ : ١٤٨.

(٤) الكافي ٤ : ١٧٨ - ١٧٩ / ٣ ، الفقيه ٢ : ١٢٢ / ٥٢٩ ، التهذيب ٤ : ٢٨٨ / ٨٧١.

٢٩٢

ليس له الخروج في ذلك - وعن أحمد روايتان(١) - لما روته عائشة ، قالت : كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، إذا اعتكف لا يدخل البيت إلّا لحاجة الإِنسان(٢) .

وعنها : أنّها قالت : السنّة على المعتكف أن لا يعود مريضاً ولا يشهد جنازةً ولا يمسّ امرأةً ولا يباشرها ولا يخرج لحاجة إلّا لما لا بدّ منه(٣) .

ولأنّه ليس بواجب ، فلا يجوز ترك الاعتكاف الواجب لأجله(٤) .

والحديث نقول بموجبه ، ولا دلالة فيه على موضع النزاع.

والحديث الثاني ليس مسنداً إلى الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلا يكون حجّةً.

وكونه ليس بواجب لا يمنع الاعتكاف من فعله ، كقضاء الحاجة.

مسألة ٢١٣ : لو تعيّنت عليه صلاة الجنازة‌ وأمكنه فعلها في المسجد ، لم يجز له الخروج إليها ، فإن لم يمكنه ذلك ، فله الخروج إليها.

وإن تعيّن عليه دفن الميت أو تغسيله ، جاز له الخروج لأجله ، لأنّه واجب متعيّن ، فيقدّم على الاعتكاف ، كصلاة الجمعة.

والشافعي لمـّا منع من عيادة المريض وصلاة الجنازة قال : لو خرج لقضاء الحاجة فعاد في الطريق مريضاً ، فإن لم يقف ولا ازْوَرَّ(٥) عن الطريق ، بل اقتصر على السلام والسؤال ، فلا بأس ، وإن وقف وأطال ، بطل اعتكافه ، وإن لم يُطل فوجهان ، والأصحّ : أنّه لا بأس به.

____________________

(١) المغني ٣ : ١٣٦ ، الشرح الكبير ٣ : ١٤٨.

(٢) سنن أبي داود ٢ : ٣٣٢ / ٢٤٦٧ ، سنن الترمذي ٣ : ١٦٧ / ٨٠٤ ، سنن البيهقي ٤ : ٣١٥.

(٣) سنن أبي داود ٢ : ٣٣٣ - ٣٣٤ / ٢٤٧٣ ، سنن البيهقي ٤ : ٣٢١.

(٤) المدوّنة الكبرى ١ : ٢٣٥ ، بدائع الصنائع ٢ : ١١٤ ، المجموع ٦ : ٥١٢ ، المغني ٣ : ١٣٦ ، الشرح الكبير ٣ : ١٤٨ - ١٤٩.

(٥) ازْوَرَّ : عدل وانحرف. لسان العرب ٤ : ٣٣٥.

٢٩٣

ولو ازْوَرَّ عن الطريق قليلاً فعاده ، فقد جعلوه على هذين الوجهين. والأصحّ عندهم : المنع ؛ لما فيه من إنشاء سير لغير قضاء حاجة.

وقد روي أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، كان لا يسأل عن المريض إلّا مارّاً في اعتكافه ولا يعرّج عليه(١) (٢) .

ولو كان المريض في بيت الدار التي يدخلها لقضاء الحاجة ، فالعدول لعيادته قليل ، وإن كان في دار اُخرى فكثير.

ولو خرج لقضاء حاجة فعثر في الطريق على جنازة ، فلا بأس إذا لم ينتظرها ولا يزْوَرّ عن الطريق.

وفيه وجه آخر : أنّه لا يجوز ؛ لأنّ في صلاة الجنازة يفتقر إلى الوقفة(٣) .

مسألة ٢١٤ : يجوز الخروج للمعتكف لإِقامة الشهادة عند الحاكم‌ ، سواء كان الاعتكاف واجباً أو ندباً ، وسواء كان متتابعاً أو غير متتابع ، تعيّن عليه التحمّل والأداء أو لم يتعيّن عليه أحدهما إذا دُعي إليها ؛ لأنّ إقامة الشهادة أمر واجب لا بدّ منه ، فصار ضرورة ، كقضاء الحاجة ، فلا يكون مبطلا ، وإذا دعي إليها مع عدم التعيين ، تجب الإِجابة ، فلا يمنع منه الاعتكاف.

وقال الشافعي : إن تعيّن عليه التحمّل والأداء ، خرج ، ولا يبطل اعتكافه المتتابع بخروجه ، ويستأنف إذا عاد ، وإن تعيّن عليه التحمّل دون الأداء ، فكما لو لم يتعيّنا عليه ، وإن كان بالعكس فقولان ؛ لأنّه خرج لغير حاجة ، فأبطل التتابع(٤) .

والمقدّمة الاُولى ممنوعة.

____________________

(١) لا يعرّج عليه ، أي : لم يُقم ولم يحتبس. النهاية - لابن الأثير - ٣ : ٢٠٣.

(٢) أوردها الرافعي في فتح العزيز ٦ : ٥٣٣ ، وفي سنن أبي داود ٢ : ٣٣٣ / ٢٤٧٢ ، وسنن البيهقي ٤ : ٣٢١ بتفاوت في اللفظ.

(٣) فتح العزيز ٦ : ٥٣٣ ، والمجموع ٦ : ٥١١ - ٥١٢.

(٤) المجموع ٦ : ٥١٥ ، فتح العزيز ٦ : ٥٣٨.

٢٩٤

مسألة ٢١٥ : يجوز للمعتكف أن يخرج في حاجة أخيه المؤمن‌ ؛ لأنّه طاعة فلا يمنع الاعتكاف منه.

ولما رواه الصدوق -رحمه‌الله - عن ميمون بن مهران ، قال : كنت جالساً عند الحسن بن عليعليهما‌السلام ، فأتاه رجل فقال له : يا ابن رسول الله إنّ فلاناً له عليَّ مال ويريد أن يحبسني ؛ فقال : « والله ما عندي مال فأقضي عنك » قال : فكلّمه فلبسعليه‌السلام نعله ، فقلت له : يا ابن رسول الله أنسيت اعتكافك؟ فقال : « لم أنس ولكني سمعت أبي يحدّث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال : مَنْ سعى في حاجة أخيه المسلم فكأنّما عَبَدَ الله عزّ وجلّ تسعة آلاف سنة صائماً نهاره قائماً ليله»(١) .

مسألة ٢١٦ : قال الشيخرحمه‌الله : يجوز أن يخرج ليؤذّن في منارة خارجة عن المسجد‌

وإن كان بينه وبين المسجد فضاء(٢) ، ولا يكون مبطلاً لاعتكافه ؛ لأنّ هذه المنارة بُنيت للمسجد وأذانه ، فصارت كالمتّصلة به.

ولأنّ الحاجة قد تدعو إلى ذلك بأن يكون مؤذّن المسجد وقد عرف الجيران صوته ووثقوا بمعرفته بالأوقات ، فجاز ذلك.

وقال الشافعي : إن لم يكن بابها في المسجد ولا في رحبته المتّصلة به ، ففي بطلان اعتكاف المؤذّن الراتب بصعودها للأذان وجهان.

ولو خرج إليها غير المؤذّن الراتب للأذان ، فإن أبطلنا اعتكاف الراتب فإبطال هذا أولى ، وإلّا فقولان مبنيّان على أنّها مبنيّة للمسجد ، فتكون معدودةً من توابعه ، فلا يبطل اعتكافه ، أو أنّ الراتب قد اعتاد صعودها للأذان ، واستأنس الناس بصوته ، فيبطل هذا(٣) ؛ لفقد هذا المعنى فيه(٤) .

____________________

(١) الفقيه ٢ : ١٢٣ - ١٢٤ / ٥٣٨.

(٢) الخلاف ٢ : ٢٣٥ ، المسألة ١٠٦ ، والمبسوط للطوسي ١ : ٢٩٤.

(٣) أي : اعتكاف المؤذّن غير الراتب.

(٤) المجموع ٦ : ٥٠٦ ، فتح العزيز ٦ : ٥٣٠ - ٥٣١.

٢٩٥

قال الشيخرحمه‌الله : لو خرج المؤذّن إلى دار الوالي وقال : حيَّ على الصلاة أيّها الأمير ، أو قال: الصلاة أيّها الأمير ، بطل اعتكافه(١) .

وهو حسن ؛ لأنّه خرج من معتكفة لغير ضرورة.

وللشافعي قول بالجواز ؛ لأنّ بلالاً جاء فقال : السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته ، الصلاة يرحمك الله(٢) .

ونمنع كون بلال قاله حال اعتكافه ، أو أنّه خرج من المسجد فجاز أن يكون وقف على بابه.

سلّمنا ، لكن فعله ليس حجّةً.

ويجوز للمعتكف الصعود على سطح المسجد ؛ لأنّه من جملته ، وبه قال الفقهاء الأربعة(٣) . وكذا يجوز أن يبيت فيه.

ولو كان إلى جنب المسجد رحبة وليست منه ، لم يجز الخروج إليها إلّا لضرورة ؛ لأنّها خارجة عن المسجد فكانت كغيرها ، وهو إحدى الروايتين عن أحمد. والثانية : الجواز ؛ لأنّها تابعة له ومعه ، فكانت بمنزلته(٤) .

والمقدّمتان ممنوعتان. ولا فرق بين أن يكون عليها حائط وباب أو لم يكن.

مسألة ٢١٧ : إذا خرج المعتكف لضرورة ، حرم عليه المشي تحت الظلال والوقوف فيه‌ - إلّا لضرورة - إلى أن يعود إلى المسجد. وكذا لا يقف تحت غير الظلال ؛ لأنّه مُنافٍ للاعتكاف الذي هو اللبث في المسجد خاصة ، ولأنّ في المشي تحت الظلال نوعَ ترفّه.

قال الصادقعليه‌السلام : « ولا تقعد تحت ظلال حتى تعود إلى‌

____________________

(١) المبسوط للطوسي ١ : ٢٩٤.

(٢) لم نعثر عليه في مظانّه.

(٣) المغني ٣ : ١٣٨ ، الشرح الكبير ٣ : ١٥٠.

(٤) المغني ٣ : ١٣٨ - ١٣٩ ، الشرح الكبير ٣ : ١٥٠.

٢٩٦

مجلسك »(١) .

وقال الصادقعليه‌السلام : « لا ينبغي للمعتكف أن يخرج من المسجد إلّا لحاجة لا بدّ منها ثم لا يجلس حتى يرجع ولا يخرج في شي‌ء إلّا لجنازة أو يعود مريضاً ولا يجلس حتى يرجع »(٢) .

وبه قال الثوري(٣) .

وحكى عنه الطحاوي في كتاب الاختلاف أنّ المعتكف لا يدخل تحت سقف إلّا أن يكون ممرّه فيه ، فإن دخل فسد اعتكافه(٤) . وباقي العامّة يجيزون له الاستظلال بالسقف(٥) .

و [ السيد المرتضى ](٦) رحمه‌الله ، احتجّ عليهم : بإجماع الطائفة والاحتياط.

مسألة ٢١٨ : إذا خرج المعتكف لضرورة ، لم يجز له أن يصلّي إلّا في المسجد الذي اعتكف فيه إلّا بمكّة خاصة‌ ، فإنّه يصلّي في أيّ بيوتها شاء ؛ لأنّها حرم ، فلها حرمة ليست لغيرها.

ولقول الصادقعليه‌السلام : « المعتكف بمكّة يصلّي في أيّ بيوتها شاء سواء عليه صلّى في المسجد أو في بيوتها » ثم قالعليه‌السلام بعد كلام. « ولا يصلّي المعتكف في بيت غير المسجد الذي اعتكف فيه إلّا بمكّة »(٧) .

وقال الصادقعليه‌السلام : « المعتكف بمكّة يصلّي في أيّ بيوتها‌

____________________

(١) الكافي ٤ : ١٧٨ / ٢ ، الفقيه ٢ : ١٢٢ / ٥٢٨ ، التهذيب ٤ : ٢٨٧ - ٢٨٨ / ٨٧٠.

(٢) الكافي ٤ : ١٧٨ - ١٧٩ / ٣ ، الفقيه ٢ : ١٢٢ / ٥٢٩ ، التهذيب ٤ : ٢٨٨ / ٨٧١.

(٣ - ٥ ) كما في الانتصار للسيد المرتضى : ٧٤.

(٦) في النسخ الخطية المعتمدة في التحقيق وفي الطبعة الحجرية : الشيخ ، بدل السيد المرتضى. والظاهر كونه من سهو النسّاخ. وما أثبتناه هو الصحيح الموافق لمنتهى المطلب [ ٢ : ٦٣٥ ] للمصنّف ، والانتصار [ : ٧٤ ] للسيد المرتضى ، مضافاً إلى عدم ورود أصل المسألة في الخلاف للشيخ الطوسي.

(٧) التهذيب ٤ : ٢٩٣ / ٨٩١ ، الاستبصار ٢ : ١٢٨ / ٤١٦.

٢٩٧

شاء ، والمعتكف في غيرها لا يصلّي إلّا في المسجد الذي سمّاه »(١) .

ولو اعتكف في غير مكّة فخرج لضرورة فضاق وقت الصلاة عن عوده ، صلّى أين شاء ، ولا يبطل اعتكافه ؛ لأنّه صار ضرورياً ، فيكون معذوراً ، كالمضيّ إلى الجمعة.

مسألة ٢١٩ : أوقات الخروج للضرورة لا يجب تداركها‌ ، ولا يخرج المعتكف فيها عن اعتكافه إذا لم يَطُل الزمان ، بل يكون الاعتكاف مستمرّاً في أوقات الخروج لقضاء الحاجة وشبهها ، ولهذا لو جامع في هذا الوقت ، بطل اعتكافه. وهو أحد وجهي الشافعيّة(٢) .

والثاني : أنّه لا يستمرّ ، بل يكون زمان الخروج لقضاء الحاجة كالمستثنى لفظاً عن المدّة المنذورة؛ لأنّه لا بدّ منه ، فإن جعلناه كقضاء الحاجة ، لم يحتج إلى تجديد النيّة ، وإن جعلناه كالمستثنى ، فلأنّ اشتراط التتابع في الابتداء رابطة لجميع ما سوى تلك الأوقات(٣) .

وقال بعض الشافعية : إن طال الزمان ، ففي لزوم التجديد وجهان(٤) .

والحقّ : أنّ مع طول الزمان بحيث يخرج عن الاسم يبطل الاعتكاف.

وإذا خرج لقضاء الحاجة ، لم يكلّف الإِسراع ، بل يمشي على سجيّته المعهودة ؛ لأنّ عليه مشقّةً في إلزامه غير ذلك.

وإذا خرج لقضاء الحاجة ، لم يجز له أن يجامع في مروره بأن يكون في هودج ، أو فرض ذلك في وقفة يسيرة ، فإن فعل بطل الاعتكاف.

وللشافعية في إبطال الاعتكاف وجهان : أصحهما : البطلان.

أمّا على تقدير القول باستمرار الاعتكاف في أوقات الخروج لقضاء‌

____________________

(١) الفقيه ٢ : ١٢١ / ٥٢٣ ، التهذيب ٤ : ٢٩٣ - ٢٩٤ / ٨٩٢ ، الاستبصار ٢ : ١٢٨ / ٤١٧.

(٢ و ٣ ) فتح العزيز ٦ : ٥٣٢ ، المجموع ٦ : ٥٠٢ - ٥٠٣.

(٤) فتح العزيز ٦ : ٥٣٢ ، المجموع ٦ : ٥٠٣.

٢٩٨

الحاجة : فظاهر ؛ لأنّ الجماع يكون قد صادف الاعتكاف.

وأمّا على تقدير القول بعدم استمراره : فلأنّ الجماع عظيم الوقع ، فالاشتغال به أشدّ إعراضاً عن العبادة.

والثاني : أنّه لا يبطل ؛ لأنّه غير معتكف في تلك الحالة ولم يصرف إليه زماناً(١) .

وإذا فرغ من قضاء الحاجة واستنجى ، لم يلزمه نقل الوضوء إلى المسجد ، بل يقع ذلك تابعاً ، بخلاف ما إذا احتاج إلى الوضوء بمعنى غير قضاء الحاجة ، كما لو قام من النوم ، فإنّه لا يجوز له الخروج ليتوضّأ في أظهر وجهي الشافعية إذا أمكن الوضوء في المسجد(٢) .

وإذا منعنا من الأكل خارج المسجد أو مشى إلى منزله لقضاء الحاجة ، جاز له أن يأكل لقمة أو لقمتين ، وليس له أن يأكل جميع أكله ؛ لأنّ القليل لا اعتداد به.

مسألة ٢٢٠ : إذا حاضت المرأة أو نفست وهي معتكفة ، لزمها الخروج من المسجد‌ بلا خلاف ؛ لأنّ الحيض حدث يمنع اللبث في المسجد ، فهو كالجنابة وآكد منه وقد قالعليه‌السلام : ( لا اُحلّ المسجد لحائض ولا جنب )(٣) .

وإذا خرجت لعذر الحيض ، مضت إلى بيتها. وبه قال الشافعي ومالك وربيعة والزهري وعمرو بن دينار(٤) .

أمّا خروجها من المسجد : فلما تقدّم من الإِجماع والحديث.

وأمّا رجوعها إلى منزلها : فلأنّه وجب عليها الخروج من المسجد وبطل‌

____________________

(١) فتح العزيز ٦ : ٥٣٣ - ٥٣٤ ، المجموع ٦ : ٥٠٤.

(٢) فتح العزيز ٦ : ٥٣٤ ، المجموع ٦ : ٥٠٣.

(٣) سنن أبي داود ١ : ٦٠ / ٢٣٢.

(٤) المغني ٣ : ١٥٣ ، الشرح الكبير ٣ : ١٤٦ ، المجموع ٦ : ٥٢٠ ، المنتقى - للباجي - ٢ : ٨٥.

٢٩٩

اعتكافها.

ولقول الصادقعليه‌السلام : « إنّها ترجع إلى بيتها »(١) .

وقال أحمد : إن لم يكن في المسجد رحبة ، رجعت إلى منزلها ، وإن كان له رحبة خارجه يمكن أن تضرب فيها خباءها ، ضربت خباءها فيها مدّة حيضها(٢) .

وقال النخعي : تضرب فسطاطها في دارها ، فإذا طهرت ، قضت تلك الأيّام ، وإن دخلت بيتاً أو سقفاً استأنفت(٣) .

لأنّ عائشة قالت : كنّ المعتكفات إذا حضن أمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بإخراجهنّ من المسجد وأن يضربن الأخبية في رحبة المسجد حتى يطهرن(٤) .

ولا حجّة فيه ؛ لجواز أن يكونعليه‌السلام أمر بذلك ليعرف الناس أنّ رحبة المسجد ليست منه ، أو لأنّ الاعتكاف قد كان واجباً عليهنّ وعلمعليه‌السلام من حالهنّ توهّم سقوطه بخروجهنّ من المسجد.

إذا عرفت هذا ، فإن كان اعتكافها ثلاثة أيّام لا غير ، فإذا حاضت في أثنائه بطل ، ولم يجز لها البناء على ما فعلته ؛ لأنّ الاعتكاف لا يكون أقلّ من ثلاثة أيّام عندنا.

ثم إن كان واجباً ، وجب عليها بعد الطهر الاستئناف ، وإلّا فلا.

وإن كان أكثر ، فإن حاضت بعد الثلاثة ، جاز لها البناء على ما فعلته بعد الطهر ، لأنّه عذر كقضاء الحاجة.

ولا يُعدّ أيّام الحيض من الاعتكاف إجماعاً. ومَنْ لا يشترط الصوم من‌

____________________

(١) الكافي ٤ : ١٧٩ / ٢ ، الفقيه ٢ : ١٢٣ / ٥٣٦.

(٢) المغني ٣ : ١٥٣ ، الشرح الكبير ٣ : ١٤٦.

(٣) المغني ٣ : ١٥٣ ، الشرح الكبير ٣ : ١٤٦ ، المجموع ٦ : ٥٢٠.

(٤) أورده ابنا قدامة في المغني ٣ : ١٥٤ ، والشرح الكبير ٣ : ١٤٧.

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

خصه الله بفضل وتقى

فأنا الأزهر ابن الأزهرين

جوهر من فضة مكنونة

فأنا الجوهر ابن الدرتين

نحن أصحاب العبا خمستنا

قد ملكنا شرقها والمغربين

نحن جبريل لنا سادسنا

ولنا البيت ومثوى الحرمين

كل ذا العالم يرجو فضلنا

غير ذا الرجس لعين الوالدين

جدي المرسل مصباح الدجى

وأبي الموفى له بالبيعتين

والدي خاتمه جاد به

حين وافى رأسه للركعتين

قتل الأبطال لمـّا برزوا

يوم أحد وببدر وحنين

أظهر الإسلام رغماً للعدى

بحسام صارم ذي شفرتين

قال : ولم يزل يحمل على القوم يجالدهم بالسّيف يميناً وشمالاً , حتّى قتل منهم مقتلة عظيمة , إلى أن انكشفوا من بين يديه واقتحم المشرعة ونزل إلى الماء , وقد كضّه العطش العظيم وكذلك فرسه.

قال : فلمّا حسّ الفرس ببرد الماء يجري تحت قدميه , حطّ رأسه ليشرب , فصبر عليه حتّى شرب ونفض ناصيته ، ثمّ جعل ذوائب السّيف في يده وغرف غرفة ليشرب , وإذا بصائح : يا حُسين , أدرك خيمة النّساء .فرمى الماء من يده وأقبل مسرعاً نحو الخيمة , فرآها سالمة , فعلم أنّها كانت حيلة من الكفرة اللئام ؛ ليحرموه شرب الماء ويحولوا بينه :

وا لهفتاه على معين سيادة

أكدى وكان على الزمان معينا

أبكي أعز كأن ضوء جبينه

فلق صدوقاً في الحديث أمينا

طابت مآزره وطاب ثناؤه

فوجدته بالمدحتين قمينا

إن المحامد لا تقوم بفضله

فاقصص له (الأنفال) أو (ياسينا)

اليوم سلطت الدئور على العلى

ولقد بررت المكرمات سنينا

حتى أغارت للمنون كتائب

لم أدر أن لها عليكم كمينا

هتكت حمى المجد المصون ولم تدع

دمعاً لذي حلم عليك مصونا

وقال آخر :

لهفي عليه وقد أحاط به العدى

والبيض تبرق والخيول صواهل

ويقول وهو يجود بينهم وقد

فقد النصير وثم تم الخاذل

٤٤١

هل مسعد هل منجد هل ناصر

هل ذائد هل فارس هل راجل

هل راغب هل واهب هل هارب

هل ناصح هل راشد هل عاقل

يأتي إلينا ناصراً ومحامياً

فيرى لنا حقاً نفاه الباطل

يا سعدة إن قرّ وهو مفارق

يا فوزة إن قرّ وهو مواصل

لا تجهلوا فالجهل داء معضل

لا يشتفى من داء جهل جاهل

فأنا الإمام عليكم دون الورى

وبذاك قد قامت هناك دلائل

جدي النّبي مُحمّد من فضله

فضل على كل البرية شامل

وأبي الوصي أبر من وطأ الثرى

من بعده حاف غدا أو ناعل

والام فاطمة البتول ومن لها

فضل به ضرع الفضائل حافل

وأخي الزكي وجعفر عمي فمن

في الفضل من كل الأنام يماثل

ولنا المعاد يعود فضل قضائه

فهناك نحكم فيكم أو نسأل

فهناك أوقد كل باغ خارج

نيران حرب وهو فينا داخل

فيا إخواني , كيف لا تبكي عليهم محاجري ؟! وكيف لا يقرح السّهاد ناظري أو تتزايد أوصابي أو تضرم نار وجدي واكتئابي؟! فيا جفوني سحّي دماً , ويا قلبي ازدد ألماً , ويا حرقي اشتدّى عليهم , ويا أشواقي تزايدي إليهم ، فإنّه يحقّ على مثلهم أن يبكي الباكون ويندب النّادبون وتذرف الدّموع من العيون .أو لا تكونون كبعض مادحيهم حيث عرته الأحزان والأشجان , فنظم وقال فيهم :

القصيدة لأبي الحُسين بن أبي سعيد (رحمه‌الله )

أيها الباكي المطيل بكاه

كل ما آن صبحه ومساه

إبك ما عشت للحسين بشجو

لا ترد بالبكا الطويل سواه

فهو سبط النّبي أكرم سبط

فاز عبد بنفسه واساه

يوم أضحى بكربلاء بين قوم

خذلوه وأظهروا بغضاه

وهو يدعوهم إلى منهج الحق

وهم في عمى الضلالة تاهوا

كتبوا نحوه يقولون إنا

قد رضينا بكل ما ترضاه

سر إلينا فلا إمام نراه

يهتدي ذا الورى إذاً بهداه

٤٤٢

غيرك اليوم يابن من فرض الله

على سائر الأنام ولاه

كن إلينا مسارعاً فعلينا

حين تأتي جميع ما تهواه

فأتى مسرعاً إليهم فلمّا

عاينوه وعنده أقرباه

أعرضوا عن وداده ثمّ أبدى

منهم الحقد من له أخفاه

ثم صالوا عليه صولة بغي

لم يريدوا من الأنام سواه

فتحامت إليه إخوان صدق

رغبة في قتال من عاداه

بذلو دونه النفس اختيارا

للمنايا ولم يعد إلّا هو

ما ونوا ساعة إلا ابيدوا

للمنايا ولم يعد إلا هو

تارة بطعن الطغاة وطوراً

بالحسام الصقيل يحمي حماه

إذ رماه اللعين خولى بسهم

وهو عن ذاك غافل لا يراه

وعلاه اللعين أعني سنانا

طعنة بالسنان شلت يداه

فهوى بالجراح يخفض في الأرض

صريعاً أبي وأمي فداه

وأتى مسرعاً إلى نحره الشمر

بعد أن سل سيفه وانتضاه

فبرى رأسه وكبر لـمّا

أن على رأس رمحه علاه

فبكت من فعاله الجن والإنس

ومن حل في رفيع سماه

وبكى البيت والمقام ونادى

مذهب الحق آه وا ويلاه

وغدا الدين بعد هذا حزينا

وعليه الزمان شق رداه

وتولى الجواد يبكي عليه

أسفاً وهو بالبكا ينعاه

ورأت زينب أخاها على الأرض

صريعاً معفراً بدماه

ثاوياً بالعرى قتيلاً سليبا

عارياً من قميصه ورداه

ثم نادت بأختها أخت يا أخت

حق لي في الحُسين ما أخشاه

أخت يا أخت خيّب الدهر فيه

ما ارتجيناه آه وا خيبتاه

ما توهمت في جنود يزيد

أنهم يهرقون ظلماً دماه

أخت يا أخت آه وا طول حزني

بعد آه ثمّ وا حسرتاه

أخت يا أخت قد جفاني حبيب

ما تعمدت في الزمان جفاه

أخت يا أخت ودعيه وقولي

لحسين متى يعدنا لقاه

٤٤٣

أخت يا أخت اسكبي الدمع حزناً

لقتيل ما غمضت عيناه

أخت يا أخت قاتل الله قوماً

قتلوه وحرموه لقاه

أخت يا أخت اندبيه بشجو

ندب صب تقلقت أحشاه

أخت يا أخت اندبيه وقولي

يا وحيداً أبيد بعد ظماه

يا شهيداً لموته أفل البدر

واعتراه الخسوف بعد ضياه

يا قضيباً حين استوى وتدلى

أقصفته المنون بعد استواه

يا قتيلاً بكت له الجن والإنس

طويلاً واستوحشت لجفاه

لهف نفسي وجميع خيل الأعادي

قد أهدت بركضها أعضاه

لهف نفسي على بنات حسين

حاسرات يصحن وا جده

لهف نفسي على الحُسين وشمر

قد برى الرأس عامداً من قفاه

آه وا ذلتاه من بعد عز

آه وا ضيعتاه يا جداه

آه وا خيبتاه بعد حسين

آه وا غربتاه وا وحدتاه

آه يا جد لو رأيت حسيناً

بعد أن أحدقت به أعداه

حرموا مورد الفرات عليه

إفتراء وذبحوا ابناه

وسقوه الحمام ظلماً وجوراً

واستباحوا أمواله ونساه

جد يا جد لو رأيت علياً

ناحلاً والسقام قد أضناه

لو تراه بقيد وهو يبكي

بين قوم لا يرحمون بكاه

وإذا ما رأى أم كلثوم نادى

أتعبوني بالقيد يا عمتاه

فبكت رحمة له أم كلثوم

وأجابت من بعد ذاك نداه

ثم قالت له ألا إن ذا الحال

عزيز لجدنا أن يراه

وعزيز عليه أن لو يرى اليوم

بعينيه بعض ما نلناه

لو يرانا ونحن فوق المطايا

عند رجس نسير في مسراه

وإذا ما وقفن في السير عنه

ساعة لم يكف عنا أذاه

طالباً للشآم نحو يزيد

جعلت في جهنم مثواه

ثم لمـّا أتيته في دمشق

بهت الرجل إذ رأت عيناه

رأس سبط النّبي فوق قناه

والسبايا يصحن وا سنداه

٤٤٤

ثم قال الزنيم ويل ابن مرجان

على الطاهرين ما أعداه

ويحه ما أشده من عتل

ويحه في الفعال ما أقساه

كنت أرضى بدون ذا الفعل منه

لكن الأمر ما أراد الله

ودعا الرجس بعد ذاك بالرأس

فأوتي به فلمّا رآه

ساطعاً بالضيا تعجب منه

ثمّ منه تعجبت جلساه

وعلا بالقضيب رأس حسين

ثمّ في طست عسجد ألقاه

وانثنى الرجس ثمّ أنشد شعراً

وترنم وقال في منشاه

ليت أشياخنا تشاهد ذا اليوم

الذي قد أسرنا لقاه

يا لها اليوم فرحة وسروراً

حيث نال الصديق فيه مناه

فعلى الطاغي اللعين يزيد

لعنة الله دائماً تغشاه

فالعنوه ببكرة وأصيل

فلقد طال في المعاد شقاه

والعنوا ما استطعتم ابن زياد

وابن سعد ومن سعى في رضاه

فلقد باع دينه من يزيد

بالزهيد القليل من دنياه

جددوا اللعن ما بقيتم عليه

وأطيلوا مدى الزمان سجاه

فلعنهم من المهيمن لعن

ليس يفنى ولا يزول بقاه

يا بني المـُصطفى سلام عليكم

ما أضاء الصبح واستنار ضياه

أنتم صفوة العلى من الخلق

جميعاً وأنتم أمناه

أنتم منهج القويم وأنتم

يا بني أحمد منار هداه

أنتم حبله المتين فطوبى

لمحب تمسكته يداه

أنتم يا بني النّبي حجج الله

في البرايا وأنتم خلفاه

حبكم في المعاد ذخري وكنزي

يوم يلقى المسيء ما قد جناه

وإذا ما أبو الحُسين ارتجاكم

حاش لله أن يخيب رجاه

ابن أبي سعد مخلص الود فيكم

في غد يرتجيكم شفعاه

ويرجي الخلود في جنة الخلد

وأن تصفحوا له عن جناه

وعليكم من ربكم صلوات

ليس يحصي عظيمها إلّا هو

ما دعا الله مخلص حين صلّى

في مقام وما استجيب دعاه

٤٤٥

المجلس العاشر

من الجزء الثّاني ، في العاشر من شهر المـُحرّم

وفيه أبواب ثلاثة

الباب الأوّل

عباد الله , إنّ المصيبة بالحُسين (عليه‌السلام ) أعظم المصائب ، فصبّوا فيها شآبيب الدّموع السّواكب بتصعيد الزّفرات الغوالب , واستنزفوا بالبكاء الدّماء , واعقبوا الكرب والبلاء بتذكّركم كربلاء.

نعم , إنّ المصيبة بالمقتول نجل الرّسول والبتول وعلى الليث الصّؤول , مصيبة لا يُجبر كسرها ، وشعلة في صدور المؤمنين لا يطفئ جمرها , وعظيمة من العظائم يتجدد على الأيّام ذكرها ، ورزية لا يتنفّس فجرها , وقارعة زلزلت منها الأرض برّها وبحرها عجباً لمن يتذكر مصارع هؤلاء الأتقياء الشّهداء العظماء من أهل بيت صفوة الخلق خاتم الأنبياء ، ثمّ يتمتع بعدهم بشربة من الماء !

سبحان الله ! أيّ ظُلم جرى على أهل الحراب والمحراب وأرباب الكتيبة والكتاب , وفتيان الطّعان والضّراب ورجال القب والقباب , قاصمي الأصلاب وقاسمي الأسباب وقاصمي الرّقاب , وهازمي الأحزاب وفالقي جماجم الأتراب , اُمراء الخطاب المستطاب ملوك يوم الحساب سلاطين يوم الثّواب والعقاب.

ما عذر أرجاس بني اُميّة إذ منعوهم من الطّعام والشّراب والفُرات يومئذ مكرعة الكلاب , حبسوا سادة الخلق في صحراء الاكتئاب , ثمّ ذبحوا تلك النّفوس الزّكية وعرضوها للنسور والذّئاب , وعفروا تلك الوجوه البدرية في التّراب .هيهات , لا عذر إلّا أن يُساقوا - بعد عتاب ربّ الأرباب , بأيدي الملائكة الغلاظ الشّداد الغضاب - إلى دار العذاب الشّديد الالتهاب الضّيقة

٤٤٦

المسالك والشّعاب.

صفت الدُنيا للطغاة ذوي العناد , واتسقت أحوال الوجاهة للأنكاد ذوي الأحقاد , ونفذّت أوامرهم على رقاب العباد , ولفظت إليهم الخزائن نفائس الطّارف والتّلاد , وآل الرّسول مشرّدين في البلاد منحجرون في كلّ شعب بغير بزّة وزاد ، مستشعرون للخوف مكتحلون بالسّهاد , قد ضربت عليهم الأرض بالسّهاد ، بنات الظّلمة في الدّور والقصور مسبلات السّتور ، وبنات الرّسول في حرّ الشّمس في مهبّ الصّبا والدّبور ، ضاربات الصّدور على هؤلاء البدور وغروبها في مغارب القبور ، ومصيرها إلى بطون السّباع وحواصل الطّيور , تمتّعت اليزيدية تمتّعاً قليلاً وسيعذبون بذلك طويلاً , يورثهم ذلك العذاب رنّة وعويلاً , إذ نسوا وراءهم يوماً ثقيلاً , يوم لا ينفع خليل خليلاً ولا يغني عنه فتيلاً إن هم إلّا كالأنعام بل هُم أضل ظليلاً.وفواكه ذلك قطوفها ويسقون لما مُنعوا من ماء الفُرات(١) ( كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً * عَيْناً فِيهَا تُسَمَّى‏ سَلْسَبِيلاً ) (٢) .وجدوا إلهاً رحيماً كريماً قد أسدى إليهم نعيماً مُقيما , وهؤلاء وجدوا الرّسول خصيماً , وسكنوا سعيراً وجحيماً , سقوا صديداً وغساقاً وحميماً :( يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ) (٣) .

فيا إخواني : لو تصوّر المُحبّ لآل الرّسول ما لاقوا من الخطب المهول , لاختار مواساتهم في الموت الشّديد وجعله عدّة للعيش الرّغيد ، ليجدل الحُسين وأهل بيته وأصحابه على الرّمال , وبعليّ كريمه الشّريف على القنا كالهلال , وتسبى ذراريه محمولين حسراً على الجمال , يُطاف بهم في البلاد مقرنين في الأصفاد , هذا والدّموع جامدة ونيران الأحزان هامدة والأشجان متباعدة , لا يحسن ذلك من أهل الإيمان ولا من كاملي العقول والأديان , بل والله , قلّ لهذا المصاب خروج الأرواح من شدّة الاكتئاب.

فيا إخواني : اسكبوا الدّموع وأقلّوا الهجوع على من فقدهم عظيم ومصابهم جسيم , فقد ورد في الخبر عن أهل العلم والأثر عن منذر النّوري : سمعت الحُسين (عليه‌السلام ) يقول : (( من دمعت عينه فينا دمعة أو قطرت عيناه فينا قطرة , بوأه الله في الجنّة حقباً )) .وعنه (عليه‌السلام ) , أنّه قال : (( أنا قتيل العبرة , ما ذكرت عند مؤمن إلّا بكى واغتمّ لمصابي )) .وعن عليّ بن الحُسين (عليه‌السلام ) , أنّه قال : (( أيما مؤمن ذرفت عيناه لقتل أبي عبد الله الحُسين حتّى تسيل على خدّه , بوأه الله في الجنّة غرفاً يسكنها أحقاباً )).

فهذه والله النّعمة العظمى والثّواب الهني

____________________

(١) يقصد هُنا (قدس‌سره ) : آل الرّسول (ص) .(معهد الإمامين الحسنين).

(٢) سورة الإنسان /١٧ - ١٨.

(٣) سورة الإنسان / ٣١.

٤٤٧

الأهنى.

وعن الباقر (عليه‌السلام ) , أنّه قال : (( رحم الله شيعتنا , لقد شاركونا بطول الحزن على مصاب جدّي الحُسين , وأيما مؤمن دمعت عيناه حتّى تسيل على خدّه ؛ حزناً على ما مسّنا من الأذى من عدونا في دار الدُنيا , بوأه الله منزل صدق في الجنّة )).

وروي عن الصّدوق القمّي في كتاب كامل الزّيارات بإسناده إلى زرارة(١) , قال : أبو عبد الله : (( يا زرارة , إنّ السّماء بكت على الحُسين أربعين صباحاً بالدّم , وإنّ الأرض بكت أربعين صباحاً بالسّواد , وإنّ الشّمس بكت أربعين صباحاً بالكسوف والحمرة , وإنّ الجبال تقطّعت وابتزت , وإنّ البحار تفجّرت , وإنّ الملائكة بكت أربعين صباحاً على الحُسين , وما اختضبت منّا امرأة ولا ادهنت ولا اكتحلت ولا رجل , حتّى أتانا رأس عُبيد الله بن زياد , وما زلنا في عبرة بعده , وكان جدّي إذا ذكره , بكى حتّى تملأ عيناه لحيته وحتى يبكي لبكائه رحمة من رآه , وإنّ الملائكة الذين عند قبره ليبكون فيبكي لبكائهم كلّ مَن في الهواء والسّماء من الملائكة , ولقد خرجت نفسه (عليه‌السلام ) فزفرت جهنّم زفرة كادت الأرض تنشقّ لزفرتها , ولقد جرت نفس عُبيد الله بن زياد ويزيد بن معاوية , فشهقت جهنّم شهقة لو لا أنّ الله حبسها بخزانها , لأحرقت مَن على فوق الأرض من فورها , ولو يؤذن لها ما بقي شيء إلّا ابتلعته ولكنّها مأمورة مصفودة , ولقد عتت على الخزان غير مرّة حتّى أتاها جبرائيل فضربها بجناحه فسكنت , وإنّها لتبكيه وتندبه وإنّها لتتلظّى على قاتله , ولولا مَن على الأرض من حجج الله , لتفطّرت الأرض وأكفت ما عليها , وما يكثر الزّلازل إلّا عند اقتراب السّاعة , وما عين أحبّ إلى الله ولا عبرة من عين بكت ودمعت عليه , وما من باك يبكيه إلّا وقد وصل فاطمة وساعدها عليه , وما من عبد يُحشر إلّا وعيناه باكية إلّا الباكين على جدّي , فإنّه يحشر وعينه قريرة والبشارة بلقائه والسّرور على وجهه , والخلق في الفزع وهم آمنون , والخلق يعرضون وهم خدّام الحُسين (عليه‌السلام ) تحت العرش وفي ظل العرش لا يخافون سوء الحساب , يقال لهم : ادخلوا الجنّة .فيأبون ويختارون مجلسه وحديثه , وأنّ الحور لترسل إليهم : إنّا قد اشتقناكم مع الولدان المخلدون .فما يرفعون رؤوسهم إليهم ؛ لما يرون في مجلسهم من السّرور والكرامة , وأنّ أعداءهم من بين مسحوب بناصيته إلى النّار ومن قائل ما لنا من شافعين ولا صديق حميم , وإنّهم ليرون منزلهم وما يقدرون أن يدنوا إليهم ولا يصلون إليهم ,

____________________

(١) الوارد في كامل الزّيارات / ١٦٧ , هكذا : عن زرارة ، قال : قال : أبو عبد الله ...(معهد الإمامين الحسنين).

٤٤٨

وإنّ الملائكة لتأتيهم من أزواجهم ومن خزانهم ما أعطوا من كرامة , فيقولون : نأتيكم إن شاء الله تعالى .فيرجعون إليّ بمقالاتهم(١) , فيزدادون إليهم شوقاً ؛ إذ هم خيّروا بما هم فيه من الكرامة وقربهم من الحُسين , فيقولون : الحمد لله الذي كفانا الفزع الأكبر وأهوال القيامة ونجّانا ممّا كنّا نخاف .ويؤتون بالمراكب والرّجال على النّجائب فيستوون , وهم في الثّناء على الله والصّلاة على مُحمّد وآله حتّى ينتهوا إلى منازلهم )).

وعن زيد الشّحام , قال : كنّا عند أبي عبد الله ونحن جماعة من الكوفيين , إذ دخل جعفر بن عفان على أبي عبد الله فقرّبه وأدناه ، ثمّ قال : (( يا جعفر )) .قال : لبيك جعلني الله فداك ! قال : (( بلغني أنّك تقول الشّعر في الحُسين وتجيد ؟ )) .قال : نعم جعلني الله فداك ! قال : (( قُل )) .فأنشده ومن حوله حتّى سالت له الدّموع على وجهه ولحيته ، ثمّ قال : (( يا جعفر , والله لقد شهد الملائكة المقرّبون ههنا يسمعون قولك في الحُسين (عليه‌السلام ) , ولقد بكوا كما بكينا أو أكثر , ولقد أوجب الله لك يا جعفر في ساعته الجنّة بأسرها وغفر لك )).

وقال أيضاً : (( يا جعفر ألا أزيدك ؟ )) .قال : نعم يا سيّدي .قال : (( ما من أحد قال في الحُسين شعراً فبكى وأبكى به , إلّا أوجب الله له الجنّة وغفر له )).

وعنه (عليه‌السلام ) , قال : (( إذا كان يوم العاشر من المـُحرّم , تنزل الملائكة من السّماء ومع كلّ ملك منهم قارورة من البلّور الأبيض , ويدورون في كلّ بيت ومجلس ؛ يبكون فيه على الحُسين (عليه‌السلام ) , فيجمعون دموعهم في تلك القوارير ، فإذا كان يوم القيامة , فتلتهب نار جهنّم , فيضربون من تلك الدّموع على النّار , فتهرب النّار عن الباكي على الحُسين مسيرة ستين ألف فرسخ )).

أيا شيعة المختار نوحوا لمصرع

الشهيد وبالدمع الغزير فجودوا

تطأه الخيول الحادثات بركضها

ويسفى عليه بعد ذاك صعيد

وآل رسول الله يشهرون في الملأ

وآل ابن هند في الخدور قعود

ورأس إمام السبط في رأس ذابل

طويل على رأس سنان يميد

وينكثه بالخيزران شماتة

به وسروراً كافر وعنيد

برزن النساء الهاشميات حسراً

عليهن من نسج الثكول برود

نوادب يخدش الوجوه تفجعاً

وتلطم بالأيدي لهن خدود

____________________

(١) والذي ورد في كامل الزّيارات : ١٦٩ , هو : فيرجعون إلى أزواجهم بمقالاتهم ...(معهد الإمامين الحسنين).

٤٤٩

فقوموا بأعباء العزاء فإنه

جليل وأما غيره فزهيد

فيا إخواني , يحقّ لي أن أجعل النّوح عليهم دأبي وأن أظهر عليهم جزعي واكتئابي , وكيف لا والعيش بعدهم لا يصفو والزّفرة عليهم لا تقفو ؟! وكيف الصّبر لمن يمثل مولاه الحُسين (عليه‌السلام ) وهو واقف ينادي في ميدان القتال : ألا هل من نصير ينصر الآل ؟ ألا هل من معين يعين عترة المختار ؟ ألا هل من ذابّ يذبّ عن الذّرية الأطهار ؟ أين الثقاة البررة والأتقياء الخيرة؟ أين من أوجب حقّاً عليه الإسلام ؟ أين الوصية فينا من الرّسول ؟ فما عذر أهل الزّمان عن إقامة العزاء للإمام الشّهيد العطشان؟

نُقل أنّ الحُسين (عليه‌السلام ) لمـّا كان في موقف كربلاء , أتته أفواج من الجنّ الطّيّارة , وقالوا له : نحن أنصارك فمرنا بما تشاء , فلو أمرتنا بقتل عدو لكم لفعلنا .فجزاهم خيراً , وقال لهم : (( إنّي لا أخالف قول جدّي رسول الله حيث أمرني بالقدوم عليه عاجلاً , وإنّي الآن قد رقدت ساعة , فرأيت جدّي رسول الله قد ضمّني إلى صدره وقبّل ما بين عيني وقال لي : يا حُسين , إنّ الله عزّ وجلّ شاء أيراك مقتولاً ملطخاً بدمائك , مخضّباً شيبتك بدمائك مذبوحاً من قفاك , وقد شاء الله أن يرى حرمك سبايا على أقتاب المطايا .وإنّي والله , سأصبر حتّى يحكم الله بأمره وهو خير الحاكمين )).

ثمّ إنّه (عليه‌السلام ) لم يزل يحمل على القوم ويقاتلهم حتّى قتل من القوم ألوفاً ، فلمّا نظر الشّمر لعنه الله إلى ذلك , قال لعمر بن سعد : أيّها الأمير , والله لو برز إلى الحُسين أهل الأرض لأفناهم عن آخرهم , فالرّأي أن نفترق عليه , ونملأ الأرض بالفرسان والرّماح والنّبل تحيط به من كلّ جانب.

قال : ففعلوا ذلك , وجعل الحُسين يحمل تارة على الميمنة واُخرى على الميسرة , حتّى قتل على ما نُقل ما يزيد على عشرة آلاف فارس ولا يبين فيهم لكثرتهم حتّى اثخنوه بالجراح.

نُقل : أنّه وقع فيه ثمانون جرحاً ما بين طعنة ونبلة , فبينما هو كذلك , إذ رماه اللعين خولّى بن يزيد الأصبحي بسهم فوقع في لبّته فأرداه صريعاً على الأرض , فجعل ينزع السّهم ويأخذ الدّم بكفّه فيخضب به رأسه ولحيته , فقيل له : ما هذا يا أبا عبد الله ؟ فقال : (( حتّى ألقى جدّي وأنا مخضوب بدمي , فأشكو إليه ما نزل بي )).

قال : فنادى شمر بن [ذي](١) الجوشن لعنه الله : ما انتظاركم فيه احملوا عليه من كلّ جانب .فضربه زرعة بن شريك لعنه الله على عاتقه الأيسر , وضربه الآخر

____________________

(١) من إضافات المقوم .(معهد الإمامين الحسنين).

٤٥٠

من كندة على وجهه , وآخر ضربه على مفرق رأسه , وحمل عليه جوشن(١) فقطعه وأصاب السّيف رأسه فسال الدّم منه وأخذ منه البرنس ، فقال له الحُسين (عليه‌السلام ) : (( لا أكلت بيمينك ولا شربت بها وحشرك الله مع القوم الظّالمين )).

قال : فأقبل الكندي بالبرنس إلى منزله , فقال لزوجته : هذا برنس الحُسين فاغسليه من الدّم ، فبكت وقالت له : ويلك قتلت الحُسين وسلبت برنسه ! والله لا صبحتك أبداً .فوثب إليها ليلطمها فانحرفت عن اللطمة , فأصابت يده الباب التي في الدّار , فدخل مسمار في يده فعملت عليه حتّى قطعت من وقته , ولم يزل فقيراً حتّى ما ت لا رضي ‌الله ‌عنه

وطعنه سنان بن أنس النّخعي برمح , وبادر إليه خولّى بن يزيد ليجتز رأسه , فرمقه بعينيه فارتعدت فرائصه منه فلم يجسر عليه وولّى عنه .ثمّ ابتدر إليه أربعون فارساً كلّ يريد قطع رأسه وعمر بن سعد لعنه الله يقول : عجّلوا عليه عجّلوا عليه .فدنا إليه شبث بن ربعي وبيده سيف ليجتز رأسه , فرمقه (عليه‌السلام ) بطرفه فرمى السّيف من يده وولّى هارباً وهو ينادي : معاذ الله يا حُسين أن ألقى أباك بدمك.

قال : فأقبل إليه رجل قبيح الخلقة كوسج اللحية أبرص اللون يُقال له سنان , فنظر إليه (عليه‌السلام ) فلم يجسر عليه وولّى هارباً وهو يقول : ما لك يا عمر بن سعد غضب الله عليك , أردت أن يكون مُحمّد خصمي.

فنادى ابن سعد : من يأتيني برأسه وله ما يتهنى به ؟ فقال الشّمر : أنا أيّها الأمير .فقال : أسرع ولك الجائزة العُظمى .فأقبل إلى الحُسين - وقد كان غشي عليه - فدنا إليه وبرك على صدره , فحسّ به (عليه‌السلام ) وقال : (( يا ويلك من أنت فقد ارتقيت مرتقى عظيماً ؟! )) .فقال : هو الشّمر .فقال له : (( ويلك مَن أنا ؟! )) .فقال : أنت الحُسين بن عليّ وابن فاطمة الزّهراء وجدّك مُحمّد المـُصطفى .فقال الحُسين : (( ويلك إذا عرفت هذا حسبي ونسبي فلِمَ تقتلني ؟! )) .فقال الشّمر : إن لم أقتلك فمن يأخذ الجائزة من يزيد ؟ فقال (عليه‌السلام ) : (( أيما أحبّ إليك الجائزة من يزيد أو شفاعة جدّي رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ؟ )) .فقال اللعين : دانق من الجائزة أحبّ إليّ منك ومن جدّك .فقال الحُسين (عليه‌السلام ) : (( إذا كان لا بدّ من قتلي فاسقني شربة من الماء )) .فقال له : هيهات والله لا ذقت قطرة واحدة من الماء حتّى تذوق الموت غصّة بعد غصّة .فقال له : (( ويلك اكشف لي عن وجهك وبطنك ! )) .فكشف له , فإذا هو أبقع أبرص

____________________

(١) هكذا هو الوارد في هذا الكتاب , ولكن الوارد في شرح الأخبار ٣/١٦٣ : من كندة يُقال له مالك بن بشير .وفي الإرشاد ٢/١١٠ : مالك بن النّسر الكندي .وفي روضة الواعظين /١٨٨ : رجل يقال له مالك بن انس .وفي مثير الأحزان /٥٥ : فجاء مالك بن النّثر .وفي أعلام الورى بأعلام الهدى ١/٤٦٧ : مالك الكندي .وغيرهم قالوا غير ذلك .(معهد الإمامين الحسنين).

٤٥١

له صورة تشبه الكلاب والخنازير , فقال الحُسين (عليه‌السلام ) : (( صدق جدّي فيما قال )) .فقال : وما قال جدّك ؟ قال : ((يقول لأبي : يا عليّ , يقتل ولدك هذا رجل أبقع أبرص أشبه الخلق بالكلاب والخنازير )) .فغضب الشّمر من ذلك وقال : تشبهني بالكلاب والخنازير , فو الله لأذبحنّك من قفاك .ثمّ قلبه على وجهه وجعل يقطع أوداجه روحي له الفداء وهو ينادي : (( وا جدّه ! وا مُحمّداه ! وا أبا قاسماه ! وا أبتاه وا عليّاه ! أأقتل عطشاناً وجدّي مُحمّد المـُصطفى ؟! أأقتل عطشاناً وأبي عليّ المـُرتضى واُمّي فاطمة الزّهراء ؟! )) .فلمّا احتز الملعون رأسه , شاله في قناة فكبّر وكبّر العسكر معه , وشرع الحُسين في سلبه(١) , فأخذ سراويله بحر بن كعب , وأخذ عمامته أحبش بن يزيد ، وأخذ سيفه رجل من بني دارم , وانتهبوا رحله , فتزلزلت الأرض وأظلم الشّرق والغرب , وأخذت النّاس الصّواعق والرّجفة من كلّ جانب , وامطرت السّماء دماً ، وانكسفت الشّمس لقتله ، وفيه يقول الشّاعر :

ألم تر أن الشمس أضحت مريضة

لقتل حسين والبلاد اقشعرت

وإن قتيل الطف من آل هاشم

أذلّ رقاب المسلمين فذّلت

فيا فؤادي القريح من الكآبة والحزن لا تستريح ، أو ما يحقّ لهذا الرّزء الجليل أن تشق عليه القلوب فضلاً عن الجيوب.

نُقل أنّه لمـّا قُتل الحُسين (عليه‌السلام ) , جعل جواده يصهل ويحمحم ويتخطى القتلى في المعركة واحداً بعد واحد ، فنظر إليه عمر بن سعد , فصاح بالرّجال : خذوه وآتوني به .وكان من جياد خيل رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) , قال : فتراكضت الفرسان إليه , فجعل يرفس برجليه ويمانع عن نفسه ويكدم بفمه , حتّى قتل جماعة من النّاس ونكس فرساناً عن خيولهم ولم يقدروا عليه , فصاح ابن سعد : ويلكم تباعدوا عنه ودعوه لننظر ما يصنع ! فتباعدوا عنه ، فلمّا أمن الطّلب , جعل يتخطى القتلى ويطلب الحُسين (عليه‌السلام ) , حتّى إذا وصل إليه , جعل يشمّ رائحته ويقبّله بفمه ويمرغ ناصيته عليه , وهو مع ذلك يصهل ويبكي بكاء الثّكلى حتّى أعجب كلّ من حضر ، ثمّ انفلت يطلب خيمة النّساء وقد ملأ البيداء صهيلاً , فسمعت زينب صهيله , فأقبلت على سكينة وقالت : هذا فرس أخي الحُسين(ع) قد أقبل لعلّ معه شيئاً من الماء .فخرجت متخمّرة من باب الخباء تتطلع إلى الفرس , فلمّا نظرتها , فإذا هي عارية من راكبها والسّرج خال منه , فهتكت عند

____________________

(١) هذا ما ورد في الكتاب , ولكن ورد في الكامل في التاريخ ٤/٧٨ , تاريخ الطبري ٤/٣٤٦ , وغيرهم هو : وسُلب الحُسين ما كان عليه ...(معهد الإمامين الحسنين).

٤٥٢

ذلك خمارها ونادت : والله قُتل الحُسين ! فسمعت زينب قولها فصرخت وبكت وأنشأت تقول :

شرقت بالريق في أخٍ فجعت به

وكنت من قبل أرعى كل ذي جاري

فالوهم أحسبه شيئاً فأندبه

لولا التخيل ضاعت فيه أفكاري

قد كنت آمل آمال أسر بها

لولا القضاء الذي في حكمه جاري

جاد الجواد فلا أهلاً بمقدمه

إلّا بوجه حسين مدرك الثار

ما للجواد لحاه الله من فرس

أنلا يجد دون الضيغم الجاري

يا نفس صبراً على الدُنيا ومحنتها

هذا الحُسين قتيل بالعرى عاري

قال : فخرجن النّساء فلطمن الخدود وشققن الجيوب وصحن : وا محمداه ! وا عليّاه ! وا فاطماه ! وا حسناه ! وا حُسيناه ! وارتفع الضّجيج وعلا الصّراخ , فصاح ابن سعد : أضرموا عليهم النّار في الخيمة .فقيل : يا ويلك يا عمر ! ما كفاك ما صنعت بالحُسين وتريد أن تحرق حرم رسول الله بالنّار , لقد عزمت أن تخسف بنا الأرض ؟! .فأمرهم بعد ذلك بنهب ما في الخيم.

فيا ويلهم , ما أجرأهم على الله وعلى انتهاك حرمة رسول الله من غير جرم اجترموه ولا مكروه ارتكبوه ! فيا لها من مصيبة ما أوجعها ومن رزية ما أفجعها ! فكيف لا يحزن المحبّون وقد ذبح المبغضون ذرّيّة رسول الله من غير سبب ، وداروا برؤوسهم البلدان من غير أمر قد وجب ، وسبوا نساءهم على الجمال وادخلوهم على يزيد في أذلّ الأحوال ؟! ما هو إلّا شيء( تَكَادُ السّماوَاتُ يَتَفَطّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقّ الْأَرْضُ وَتَخِرّ الْجِبَالُ هَدّاً ) (١) :

ولم أنس من بين النساء سكينة

تقول ودمع العين يهمي ويهمل

أبي يا أبي يا خير ذخر فقدته

فيا ضيعتي من ذا لضيمي أؤمل

أبي يا أبي ما كان أسرع فرقتي

لديك فمن لي بعدك اليوم يكفل

أبي يا أبي من للشدائد يرتجي

ومن لي إذا ما غبت كهف وموئل

أبي يا أبي هل لا تعود لثاكل

تعلّ من الأحزان طوراً وتنهل

ومن لليتامى بعد بعدك سيّدي

ومن للأيامى كافل ومتكفل

فعذب حياتي بعد فقدك والدي

وما دمت حتّى للقيامة حنظل

____________________

(١) سورة مريم / ٩٠.

٤٥٣

وتشكو إلى الزّهراء بنت مُحمّد

بقلب حزين بالكآبة مقفل

أيا جدتا قومي من القبر وانظري

حبيبك متروب الجبين مرمل

عرايا على عادي العرى متعفراً

قتيلاً خضيباً بالدماء مغسل

وقد قطعوا دون الوريد وريده

وديس ومنه الرأس في الرمح يحمل

وقد حرموا ماء الفرات عتاوة

علينا وسلب الفاطميات حللوا

وتلك الوجوه المشرقات برغمها

تهتك ما بين الأنام وتهزل

وتلك الجباه الشامخات على القنا

تشج وترمي بالتراب وترمل

وساروا بنا يا جدّه حواسرا

وأوجهنا بعد التخفر تبذل

سبايا على الأقتاب تبدو جسومنا

عرايا بلا ظل به نتظلل

وقال آخر :

وزينب من فرط الأسى تكثر البكا

تقول أخي من لي إذا نابني الدهر

أخي يابن أمي يا حسين أما ترى

نساءك حسبرى عز عندهم الستر

أخي يا كفيلي يا شقيقي وعدتي

ومعتمدي إن مسني العسر واليسر

أخي كنت ركني في الشدائد ملجأ

وعوني ومن في حكمه النهي والأمر

أخي قد رمانا الدهر بالضر والعنا

أخي قد علانا بعدك الذل والكسر

أخي قل صبري واحتمالي ومن تكن

فقيداً لها من أين يلقي لها الصبر

أخي بعدك السجاد في قيد أسرهم

فلهفي لمن قد مضه القيد والأسر

أخي لو ترانا فوق أقتاب بدنهم

يسار بنا حسرى يعالجنا القهر

أخي كل خطب هان عند حلوله

سوى يومك الجاري فمطعمه مرّ

فيا نكبة هدّت قوى دين أحمد

وعظم مصاب في القلوب له شعر

قال آخر : (ويُنقل أنّه لزينب بنت فاطمة (عليهما‌السلام ) :

تمسك بالكتاب ومن تلاه

فأهل البيت هم أهل الكتاب

بهم نزل الكتاب وهم تلوه

وهم أهل الهداية للصواب

إمامي وحد الرّحمن طفلاً

وآمن قبل تشديد الخطاب

علي كان صديق البرايا

عليّ كان فاروق العذاب

٤٥٤

شفيعي في القيامة عند ربي

نبيي والوصي أبو تراب

وفاطمة البتول وسيدا من

يخلد في الجنان من الشباب

على الطف السلام وساكنيه

وروح الله في تلك القباب

نفوس قدست في الأرض قدماً

وقد خلصت من النطف العذاب

مضاجع فتية عهدوا فناموا

هجوداً في الفوافد والشعاب

علتهم في مضاجعهم كعاب

بأرواق منعمة رطاب

وصيرت القبور لهم قصوراً

مناخاً ذات أفنية رحاب

بنات مُحمّد أضحت سبايا

يسقن مع الأسارى والتهاب

معثرة الذيول مكشفات

كسبي الروم دامية الكعاب

لئن أبرزن كرهاً من حجاب

فهن من التعفف في حجاب

أيبخل بالفرات على حسين

وقد أضحى مباحاً للكلاب

فلي قلب عليه ذو التهاب

ولي جفن عليه ذو انسكاب

نُقل عن زينب بنت عليّ (عليهما‌السلام ) قالت : في اليوم الذي أمر ابن سعد بسلبنا ونهبنا , كنت واقفة على باب الخيمة , إذ دخل الخيمة رجل أزرق العينين وأخذ جميع ما كان فيها وأخذ جميع ما كان عليّ , ونظر إلى زين العابدين فرآه مطروحاً على نطع من الأديم وهو عليل , فجذب النّطع من تحته , وجاء إليّ وأخذ قناعي وقرطين كانا في أذني , وهو مع ذلك يبكي , فقلت له : لعنك الله هتكتنا وأنت مع ذلك تبكي ؟! قال : أبكي مما جرى عليكم أهل البيت .قالت زينب : فقد غاضني , فقلت له : قطع الله يديك ورجليك وأحرقك بنار الدُنيا قبل الآخرة .فوالله ما مرّت به الأيّام حتّى ظهر المختار وفعل به ذلك ، ثمّ أحرقه بالنّار.

وأمّا عليّ بن الحُسين (عليهما‌السلام ) , فإنّه أقبل إليه الشّمر مع جماعة وأرادوا قتله ، فقيل له : صبي عليل لا يحلّ قتله .ثمّ أقبل عليهم عمر بن سعد لعنه الله , فضج النّساء في وجهه بالبكاء والنّحيب حتّى ذهل اللعين وارتعدت فرائصه , وقال لهم : لا تقربوا هذا الصّبي .ووكّل بعليّ بن الحُسين وعياله من حضر , وقال لهم : أحفظوا واحذروا أن يخرج منهم أحد .فلمّا رأت اُمّ كلثوم ما حلّ بهم , بكت وأنشأت :

يا سائلي عن فتية صرعوا

بالطف أضحوا رهن أكفاني

٤٥٥

وفتية ليس يجارى بهم

بنو عقيل خير فرسان

ثم بعون وأخيه معاً

فذكرهم هيج أحزاني

من كان مسروراً بما مسنا

أو شامتاً يوماً بنا شاني

لقد ذللنا بعد عز فما

أرفع ضيماً حين يغشاني

لقد هتكنا بعد صون لنا

وسامني وجدي وأشجاني

قال : ثمّ إنّ عمر بن سعد اللعين نادى بأصحابه : مَن يبتدر إلى الحُسين فيوطئ ظهره وصدره بفرسه ؟ فابتدر من القوم عشرة رجال منهم إسحاق بن حنوة الحضرمي(١) وهو الذي يقول : نحن رضضنا الصّدر بعد الظّهر [بكلّ يعبوب شديد الأسر](٢) فداسوه بخيولهم حتّى هشموا صدره وظهره ، ورجع عمر بن سعد من ذلك .وقيل : أقام إلى الغد فجمع قتلاه فصلّى بهم ودفنهم وترك الحُسين وأصحابه ، فلمّا ارتحلوا إلى الكوفة وتركوهم على تلك الحال , عمد أهل الغاضرية من بني أسد , فكفّنوا أصحاب الحُسين وصلّوا عليهم ودفنوهم ، وكانوا اثنين وسبعين رجلاً.

ثمّ إنّ عمر بن سعد أمر بالرّحيل , فأخذوا السّبايا على الجمال , وحملوا عليّ بن الحُسين أسيراً , وحملوا الرؤوس على الأسنّة , وتركوا القتلى مطرحين بأرض الغاضريات.

ونُقل عن الشّعبي أنّه قال : سمع أهل الكوفة ليلة قتال الحُسين قائلاً يقول :

أبكي قتيلاً بكربلاء

مضرج الجسم بالدماء

أبكي قتيل الطغاة ظلماً

بغير جرم سوى الوفاء

أبكي قتيلاً بكى عليه

من ساكن الأرض والسماء

هتك أهلوه واستحلوا

ما حرم الله في الإماء

يا بأبي جسمه المعرى

إلّا من الدين والحياء

كل الرزايا لها عزاء

وماذا لرزء من عزاء

قال : ثمّ إنّ عمر بن سعد لمـّا أذن للناس بالرّحيل إلى الكوفة , وأمر بحمل السّبايا من بنات الحُسين وإخوته وذراريهم , فمرّوا بجثّة الحُسين ومَن معه , صاحت النّساء ولطمن وجوههن , ونادت زينب بنت عليّ : يا مُحمّداه ! صلّى عليك مليك السّماء , هذا حُسين بالعراء مرمّل بالدّماء معفّر بالتّراب مقطّع الأعضاء , يا محمداه ! بناتك في العسكر سبايا وذرّيّتك مقتّلة تسفى عليهم الصّبا , هذا أبيك(٣) محزوز

____________________

(١) هكذا ورد في الكتاب , ولكن الوارد في بحار الأنوار ٤٥/٥٩ , والعوالم ، الإمام الحسين (ع) /٣٠٣ , ولواعج الأشجان /١٩٥ , وأعيان الشّيعة ١/٦١٢ , واللهوف في قتلى الطّفوف /٨٠ , وغيرهم , هو : أسيد بن مالك .وفي بعض غيرهم غيره .(معهد الإمامين الحسنين).

(٢) كما في مثير الأحزان /٦٠ , ولواعج الأشجان /١٩٥ , وغيرهم .(معهد الإمامين الحسنين).

(٣) هكذا ورد في الكتاب , ولكن الوارد في بحار الأنوار ٤٥/٥٩ , والعوالم ، الإمام الحسين (ع) /٣٠٣ , واللهوف في قتلى الطّفوف /٧٨ , وغيرهم , هو : وهذا حسين ...(معهد الإمامين الحسنين).

٤٥٦

الرّأس من القفا , لا هو غائب فيرجى ولا جريح فيداوى .فما زالت تقول هذا القول حتّى أبكت كلّ صديق وعدو , حتّى رأينا دموع الخيل تنحدر على حوافرها .ولله درّ بعض المحبّين حيث يقول :

قفوا ودعونا قبل بعدكم عنا

وداعاً فإن الجسم من أجلكم مضني

فقد نقضت منّي الحياة وأصبحت

على فجاج الأرض من بعدك سجنا

سلامي عليكم ما أمرّ فراقكم

فيا ليتنا من قبل ذاك اليوم قد متنا

وإني لارثي للغريب وإنني

غريب بعيد الدار والأهل والمعنى

إذا طلعت شمس النهار ذكرتكم

وإن غربت جددت من أجلكم حزنا

لقد كان عيشي بالأحبة صافياً

وما كنت أدري أن صحبتنا تفنى

زمان نعمنا فيه حتّى إذا انقضى

بكينا على أيامنا بدم أقنى

فوالله قد زاد اشتياقي إليكم

ولم يدع التغميض لي بعدكم جفنا

وقد بارحتني لوعة البين والأسى

وقد صرت دون الخلق مقترعاً سنا

وقد رحلوا عني أحبة خاطري

فما أحد منهم على غربتي حنا

عسى ولعل الدهر يجمع بيننا

وترجع أيام الهنا مثل ما كنافيا

إخواني , كيف لا نلبس جلابيب الأحزان وسرابيل الأشجان على سادات الزّمان واُمناء الملك الدّيان , المبرّئين من الزّيادة والنّقصان , الممدوحين بكلّ جارحة ولسان ! فتعساً لمن أرداهم وسحقاً وخيبة لمن خالفهم وعصاهم ! وليتني حضرتهم يوم الطّفوف ووقيتهم بنفسي من الحتوف , ولكن الأمر ما أراد الله ولا حول ولا قوة إلّا بالله.

روى الثّقاة من أصحاب الحديث بأسانيدهم عن هند بنت الحرث , قالت : نزل رسول الله خيمة خالتي اُمّ سعد فنام ، ثمّ قام عن رقدته فدعا بماء يغسل يديه ، ثمّ تمضمض ومج في عوسجة إلى جانب الخيمة , فأصبحنا فإذا هي أعظم دوحة , وجاءت بثمر كأعظم ما يكون في لون الورس ورائحة العنبر وطعم الشّهد , ما أكل منها جائع إلّا شبع ولا ظمأ إلّا روي ولا سقيم إلّا بريء , ولا أكلت من ورقها شاة إلّا درّ لبنها , فكنّا نسمّيها المباركة , حتّى أصبحت ذات يوم تساقط ثمرها واصفر ورقها , ففزعنا ممّا رأينا , فما راعنا إلّا نعي رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) , ثمّ إنّه بعد ثلاثين سنة , أصبحت ذات شوكة من أسفلها إلى أعلاها ,

٤٥٧

وتساقط ثمرها وذهبت نضرتها , فما شعرنا إلّا بقتل أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليهما‌السلام ) ، فما أثمرت بعد ذلك وكنّا ننتفع بورقها ، ثمّ أصبحنا وإذا بها قد نبع من ساقها دم عبيط وقد ذبل ورقها , فبينما نحن فزعين مهمومين , إذ أتانا مقتل الحُسين السّبط ويبست الشّجرة على أثر ذلك وذهبت.

وروي عن ابن عباس , قال : كنت نائماً في منزلي في المدينة قابلة الظّهر , فرأيت رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) وهو مقبل من نحو كربلاء , وهو أشعث أغبر والتّراب على شيبته وهو باكي العين حزين القلب , ومعه قارورتان مملؤتان دماً ، فقلت له : يا رسول الله , ما هذه القارورتان المملؤتان دماً ؟ فقال : (( هذه فيها من دم الحُسين , وهذه الاُخرى من دم أهل بيته وأصحابه , وإنّي رجعت الآن من دفن ولدي الحُسين )) .وهو مع ذلك لا يفيق من البكاء والنّحيب.

قال ابن عباس : فاستيقظت من نومي فزعاً مرعوباً حزيناً على الحُسين ولم أعلم بقتله , فبقيت في الهمّ والغمّ أربعة وعشرين يوماً , حتّى جاء النّاعي إلى المدينة بقتل الحُسين (عليه‌السلام ) , فحسبت من يوم الرؤيا إلى ذلك اليوم , فإذا هو يوم قتل الحُسين وفي تلك السّاعة كان مقتله , فتعجبت من ذلك وتزايدت أحزاني وتصاعدت أشجاني.

فعلى الأطائب من أهل بيت الرّسول فليبك الباكون , وإيّاهم فليندب النّادبون , ولمثلهم تذرف الدّموع من العيون ، أو لا تكونوا كبعض مادحيهم حيث عرته الأحزان , فنظم وقال فيهم :

القصيدة لمحمد بن حماد (رحمه‌الله )

لغير مصاب السبط دمعك ضائع

ولم نحظ بالحظ الذي أنت طامع

ولا أنت فيما تدعيه من الولاء

إذا لم يذب من لوعة الحزن سامع

فكل مصاب دون رزء ابن فاطم

حقير ورزء السبط والله فازع

فدعني عذولي والبكاء فإنني

اراك خلياً لم ترعك الفواجع

لأي مصاب اُمّ لأي رزية

تصان لها دون الحُسين المدامع

لحا الله طرفاً لم يسح دموعه

بقان فما دمع على السبط ضائع

فأين ادعاك الود والعهد والولاء

وقولك إنّي تابع ومتابع

يبيت حسين ساهر الطرف خائفاً

وطرفك ريان من النوم هاجع

٤٥٨

وجسم حسين بالدماء مرمل

وجسمك في ثوب من الحزن دارع

أيا عين ابكي للحسين وما جرى

عليه وما جرت عليه الخدائع

لقد كاتبوه الناكثون وكثروا

لقولهم أقدم فسعدك طالع

وليس لنا إلاك يابن مُحمّد

إماماً وإن الدين والحق ضائع

وأنفسنا دون النفوس وأهلها

وأموالنا تفديك والكل طائع

فأقبل مولاي الحُسين بأهله

يحدبهم حدب الظهور الجراشع

فلم يلق إلّا غادراً ومنافقاً

وكل لعين أحرقته المطامع

يسائله ماذا الذين أنت طالب

وفي أي قول جئت فيه وطامع

فقال لهم كتب لكم ورسائل

تخبر أن الكل للحق طائع

فأبدوا جحوداً واغتدوا وتجبروا

وباحوا بما كانوا بذكراه طالعوا

وأصبح ممنوعاً من الماء ورده

وقد ملكت دون الحُسين الشرائع

فيا لهف قلبي للشهيد وأهله

وأصحابه كل هناك يطالع

إلى الماء يجري واللئام تحوطه

كلون سماء موجه متدافع

وللفاطميات العفاف تلهف

على شربه والذئب والكلب شارع

فلما رأى السبط الشهيد ضلالهم

وكل لكل في الغواية تابع

أتى نحوهم في نعله وردائه

ولا راعه من كثرة القوم رائع

وقال لهم يا قوم أي شريعة

مبدلها اُمّ أي بدعة بادع

يحل لكم قتلي بغير جناية

ألا فانسبوني من أنا ثمّ راجعوا

نفوسكم قبلي الندامة والأسى

فما الحزن من بعد التفرط نافع

إذا لم تكونوا ترتضون قدومنا

دعوني عنكم إنّي الآن راجع

فقالوا له خل التعل والمنى

وصحبك جمعاً سلموا ثمّ بايعوا

وإلّا فكاسات المنون مليئة

بها السم من زرق الأسنة ناقع

فشأنك والحالين أي كلاهما

تريد فأخبرنا بما أنت صانع

فقال لهم كفوا عن الحرب إنني

أفكر فيما قلتم وأطالع

ولما دجي الليل البهيم عليهم

وطاب لخالين القلوب المضاجع

دعا السبط أنصاراً كراماً أعفة

وما منهم إلّا حمى وطائع

٤٥٩

فقال لهم بالحل أمضوا واسلكوا

سبيل النجا بالليل فالبر واسع

فقالوا جميعاً لا رعى الله عيشة

نعيش بها والسبط للموت جارع

فقاموا يرون الموت أكبر مغنم

وما منهم إلّا عن السبط دافع

وقام لهم سوق من الموت حامياً

وتجاره سمر القنا والقواطع

وبادي منادي الموت واشتجر القنا

وقد نشرت للبيع ثمّ البضائع

فكم بائع نال السعادة والمنى

وكم خاب ذاك اليوم شار وبائع

فلله من أقمار ثمّ تساقطت

على الأرض صرعى فهي فيها طوالع

وآساد غيل بعد بأس وسطوة

مذللة من بعد عز خواضع

وعاد حسين مثل ما قال شاعر

كما مثل كف طار عنها الأصابع

ونسوانه من بين سبي وغارة

حزانا حيارى نادبات جوازع

وبنت عليّ لا تمل من البكا

بقلب لها قلب الأحبة لاسع

تقول أخي هذا الفراق متى اللقا

وفي أي وقت يجمع الشمل جامع

أخي من لنا من بعد فقدك كافل

وفيمن تلوذ البائسات الضوائع

وصاح ابن سعد إذ رأى السبط وسلبه

ونهب خيام النساء وسارعوا

ألا عجلوا قتل الحسين وسلبه

ونهب خيام النساء وسارعوا

فمال عليه القوم بالبيض والقنا

ورشق سهام رميه متتابع

فأردوه مخضوب الثياب كأنه

شمام هوى من سرجه أو مقالع

كأني بشمر جالساً فوق صدره

لرأس حسين بالمهند قاطع

وعلى سنان رأسه في سنانه

ونور حسين السبط كالبدر ساطع

فيا لك من يوم عظيم مصابه

عجيب أمور للشواهق ضارع

ففحم الغوى والجهل والبطل جامع

ونهر الهدى والدين والحق ضائع

وفيه حسين بالدماء مرمل

وفيه يزيد بالمسرة رائع

وزواره عود وخمرة وقينة

وزوار مولاي الحُسين الجوامع

وطفل يزيد بالمهود ممهد

وطفل حسين بالمنية راضع

وأطلال أولاد الدعي عوامر

وأطلال أولاد النّبي بلاقع

وآل زياد بالستور أعزة

وآل رسول الله فيها ضوارع

٤٦٠

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493