الـمُنتخب في جمع المراثي والخطب المشتهر بـ (الفخري)

الـمُنتخب في جمع المراثي والخطب المشتهر بـ (الفخري)12%

الـمُنتخب في جمع المراثي والخطب المشتهر بـ (الفخري) مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 493

الـمُنتخب في جمع المراثي والخطب المشتهر بـ (الفخري) الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 493 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 70414 / تحميل: 5608
الحجم الحجم الحجم
الـمُنتخب في جمع المراثي والخطب المشتهر بـ (الفخري)

الـمُنتخب في جمع المراثي والخطب المشتهر بـ (الفخري)

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

ويبيت جسم ابن النّبي مرملاً

ترباً يوطئ الخيل والأقدم

وإلى ابن آكلة الكبود برأسه

يسري بعين الواحد العلام

ويمكن الرجس القضيب بجهله

وبضغنة من ثغره البسام

لكنه أملى لهم فتمردوا

في الكفر وازدادوا من الآثام

يا سادة شرف الكتاب بما حوى

فيهم من الإجلال والإعظام

يا من إذا ذكر اللبيب مصابهم

هانت عليه مصائب الأيام

قسماً بمن فرض الولاء على الورى

لكم وذلك أعظم الأقسام

ما أطمع الأرجاس فيما أبدعوا

فيكم وجرأهم على الأقدام

إلّا الذين تعاقدوا أن ينقضوا

ما أحكم الهادي من الإبرام

يا قاسم النيران يا من حبه

فرض عليّ مؤكد الإلزام

أنا عبدك الخلعي لا أخشى لظى

وعليك معتمدي وأنت عصامي

فلقد عرفت بغير نكر خالقي

ونبي الهادي معاً وإمامي

ولقد دللت على وجوب رئاسة

المعصوم لا حصر ولا متعامي

فلتعطفن على يوم تقول للأشياع

طبتم فادخلو بسلام

وتقاد أعداء الرسول إلى الردى

عصب الخنا والرجس والآثام

ويعجل الله العذاب لمعشر

غدروا فأبلغ من عداك مرامي

٤١

المجلس الثّالث

في الليلة الثّانية من عشر الـمُحرّم

وفيه أبواب ثلاثة

الباب الأوّل

اعلموا أعزّكم الله بقيام الدّين واحياكم واماتكم على سنّة سيّد الـمُرسلين , إنّ نور الإسلام ما ظهر ولا استقام إلّا بعليّ (عليه الصّلاة والسّلام) ، وجهاده بين يدي سيّد الأنام لاظهار الإسلام ، فقتل الرّجال وجدّل الأبطال في حومة النّزال ، فلم يبق بيت من قُريش إلّا وعمل صليل حسامه في جوانبه ، وأخنى على أهله وأقاربه ، لا جرم بغضه أهل الشّقاق , فأبطنوا الخلاف وأظهروا الوفاق , فحين عرف النّبي ذلك من ضمائرهم - إذ هو الـمُطّلع على ما في سرائرهم - قام فيهم بالوصية فيه وفي ذرّيّته وبنيه , مقاماً بعد مقام حتّى أسمع كافة الإسلام , فلم يسعهم إلّا القبول في الظّاهر لما يقول , فلمّا توفي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) , ارتدّوا وقصدوه وأساءوا إلى وصيه وقتلوه , وثنوا ببنيه وأشياعه ومواليه , فحقّت عليهم كلمة الكفر ؛ بالإرتداد التي وعدهم بها ربّ العباد.

روي عن ابن عبّاس قال : حضرت مسألة فعجز عمر عن ردّها ، فقال ما تقولون يا صحابة رسول الله , مَن ترون يقوم بجواب هذه المسألة ؟ فقالوا : أنت أعرف منّا .قال : كُلّنا والله يعلم ابن بجدتها والخبير بها .فقالوا : لعلّك أردت عليّ بن أبي طالب .قال : وإنّى يعدل بي عنه .قالوا : لوبعثت إليه لأتاك .قال : هيهات هُناك شمخ من هاشم وأثره من علم يؤتى لا يأتي ، قوموا بنا إليه .فقام القوم بأجمعهم , فإذا هو (عليه‌السلام ) في حائط له مُتّك على مسحاة في يده ,

٤٢

يتلو قوله تعالى :( أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ) (١) .ودموعه تجري على خدّيه , فأجهش القوم لبكائه ثمّ سكن وسكنوا ، فأصدر إليه عمر مسألته وأدّى عليّ جوابها ، فقال : يا أبا الحسن , لقد أرادك الحقّ ولكن أبى قومك .فقال (ع) : (( يا أبا حفص , خفّظ عليك من هُنا ومن هُناك :( إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا ) (٢) )) .فلمّا أراد عمر الإنصراف , قال : أؤنسك يابن عباس ؟ قال ابن عبّاس : فأخذ بيدي وقال : يابن عبّاس , لقد كان ابن عمّك أحقّ بهذا الأمر لو لا ثلاث .قُلت : وما هي ؟ قال : حداثة سنّه ومحبّته لأهل بيته وبغض قُريش له .قال , فقلت : يا أمير المؤمنين , أتأذن لي في الجواب ؟ فقال : قُل .فقلت : أمّا حداثة سنّه , فوالله ما استحدثه الله حين جعله أخاً لنبيّه , وجعل نفسه كنفسه، وأمّا محبّته لأهل بيته , فقد عمل بقول الله تعالى فيهم :( قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلّا الْمَوَدّةَ فِي الْقُرْبَى ) (٣) .وأمّا بغض قُريش له , فعلى مَن نقمت قُريش , أعلى الله حيث أمر رسوله بحربها ؟ أم على رسوله حيث أمر عليّاً بقتالها ؟ أم على عليّ حيث أطاع رسوله فيها ؟ قال : فجذب يده وقال : يابن عبّاس , إنّك لتغرق من بحر.

فانظروا يا إخواني إلى ما في ضمائرهم من الأحقاد , حيث قتل بسيفه منهم الآباء والأولاد ؛ امتثالاً لأمر ربّ العباد ، طلبوا نيل مفاخرة الجميلة , فعجزوا عنها وأعيتهم وجوه الحيلة , فلمّا صارت أزمة الاُمور إليهم ووردوها عليهم , صوّبوا صوائب المصائب في ذرّيّته وبنيه وشيعته ومُحبّيه , فلا ترى إلّا قتيلاً على وجه الثّرى , أو مأسوراً قد أضربه طول السّرى , أو نسوة حواسر على أقتاب الجمال , تصفح وجوههم الرّجال , يندبن جدّهم الـمُصطفى وأباهم الـمُرتضى واُمّهم الزّهراء , يُسار بهم بالعنف الشّديد إلى أشر العبيد , كأنّهم اُسارى بعض اليهود والنّصارى ، ولله درّ مَن قال من الرّجال :

يا للرجال لعظم هول مصيبة

جلّت مصيبتها وخطب هايل

الشمس كاسفة لفقد إمامنا

خير الخلائق والإمام العادل

يا خير من ركب المطى ومن مشى

فوق الثرى من محتف أو ناعل

يابن النّبي لرزءكم هدم الهدى

والحق أصبح خاضعاً للباطل

روي عن أبي سلمة قال : حججت مع عمر بن الخطاب , فلمّا صرنا بالأبطح , فإذا بأعرابي قد أقبل علينا فقال : يا عمر , إنّي خرجت من منزلي وأنا حاج

____________________

(١) سورة القيامة / ٣٧.

(٢) سورة النّبأ / ١٧.

(٣) سورة الشّورى / ٢٣.

٤٣

مُحرم , فأصبت بيض النّعام فاجتنيت وشويت وأكلت , فما يجب عليّ ؟ قال : ما يحضرني في ذلك شيء فاجلس , لعلّ الله يُفرّج عنك ببعض أصحاب مُحمّد (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) .فإذا بأمير المؤمنين (عليه‌السلام ) قد أقبل والحُسين يتلوه , فقال عمر : يا أعرابي , هذا عليّ بن أبي طالب فدونك ومسألتك .فقام الأعرابي فسأله , فقال عليّ (عليه‌السلام ) : (( يا أعرابي , سل هذا الغلام عندك )) .( يعني : الحُسين (عليه‌السلام ) ) فقال الأعرابي : إنّما يحيلني كلّ واحد منكم على الآخر .فأشار النّاس إليه : ويحك ! هذا ابن رسول الله فاسأله .فقال الأعرابي : يابن رسول الله , إنّي خرجت من بيتي حاجّاً مُحرماً وقصّ عليه القصّة .فقال الحُسين (عليه‌السلام ) : (( ألك إبل ؟ )) .قال : نعم .قال : (( خُذ بعدد البيض الذي أصبت نوقاً , فاضربها بالفحولة , فما فضلت فاهدها إلى بيت الله الحرام )) .فقال عمر : يا حُسين , النّوق يزلقن .فقال الحُسين : (( يا عمر , إنّ البيض يمرقن )) .فقال : صدقت وبررت .فقام عليّ (عليه‌السلام ) وضمّه إلى صدره , وقال :( ذُرّيّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (١) .

فوا عجباه من قوم عرفوا فضائلهم الكريمة وارتكبوا منهم هذه الأفعال العظيمة ! ولكنّها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصّدور , ولله درّ مَن قال :

مطهرون نقيات ثيابهم

تجري الصلاة عليهم أين ما ذُكروا

من لم يكن علوياً حين تنسبه

فما له من قديم الدهر مفتخر

والله لما بدأ خلقاً فأتقنه

صفاكم واصطفاكم أيها البشر

فأنتم الملأ الأعلا وعندكم

علم الكتاب وما جاءت به السور

روى بشّار بن عبد الله قال : دخلت على مولاي الصّادق (عليه‌السلام ) وهو يومئذٍ مُقيم بالكوفة , فرأيت قدّامه طبقاً فيه رطب وهو يأكل منه , فقال لي : (( يا بشّار , ادن فكلّ معي من هذا الرّطب )) .فقلت : هنّاك الله به وجعلني فداك .فقال لي : (( لِمَ لا تأكُل ؟ )) .فقلت : إنّي في همّ عظيم من شيء رأيته الآن في طريقي هذا , قد أوجع قلبي وأهاج حزني , فقال لي : (( بحقّي عليك , إلّا ما أخبرتني بما رأيت )) .فقلت : يا مولاي , رأيت ظالماً يضرب امرأة ويسوقها إلى الحبس , وهي تنادي : الـمُستغاث بالله وبرسول الله .ولم يغثها أحد من النّاس ، فقال : (( ولِمَ فُعل بها ذلك ؟ )) .فقلت : سمعت من النّاس يقولون : إنّها عثرت بحجر وهي تمشي , فقالت : لعن الله ظالميك يا فاطمة

____________________

(١) سورة آل عمران / ٣٤.

٤٤

الزّهراء .فسمعها هذا الجلواز فصنع بها ما سمعت ، قال : فقطع الصّادق (عليه‌السلام ) أكله وتظاهر حزنه , ولم يزل يبكي حتّى ابتلّ منديله ولحيته , وقال لي : (( نغّصت عليّ يا بشّار , قُم بنا إلى مسجد سهيل ؛ لندعوا الله عزّ وجلّ ونسأله خلاص هذه المرأة )) .قال : ووجّه بعض أصحابه إلى باب السّلطان , وقال له : (( لا تبرح حتّى تأتيني بالخبر الصّحيح , فإن حدث في المرأة حدث , سر إلينا حيث كُنّا )) .فسرنا إلى مسجد السّهلة , وصلّى كلّ منّا ركعتين لله عزّ وجلّ ، ثمّ رفع الصّادق (عليه‌السلام ) يديه بالدُعاء , وابتهل إلى الله تعالى بالثّناء , ثمّ خرّ ساجداً لله ساعة ثمّ رفع رأسه , وقال : (( الحمد لله ، قُم يا بشّار اُطلقت المرأة )) .فبينما نحن على الطّريق , إذ أتانا الرّجل الذي وجهه الصّادق إلى باب السّلطان , فقال له : (( ما الخبر ؟ )) .فقال : اُطلقت المرأة .فقال (( كيف كان إطلاقها ؟ )) .قال : كنت واقفاً عند باب السّلطان , إذ خرج الحاجب فدعا المرأة وقال لها: ما الذي تكلّمت به ؟ قالت : عثرت بحجر فقلت : لعن الله ظالميك يا فاطمة الزّهراء .ففُعل بي ما ترون .قال : فناولها مئتي درهم وقال : خُذي هذا المال واجعلى السّلطان في حلّ .فأبت أن تأخذها وانصرفت إلى منزلها , فقال الصّادق (عليه‌السلام ) : (( أبت أن تأخذها وهي والله محتاجة إليها )) .ثمّ إنّه (عليه‌السلام ) أخرج من جيبه صرّة فيها سبعة دنانير لم يكن عنده غيرها ، وقال لي: (( اذهب أنت يا بشّار إلى منزلها , واقرأها عنّي السّلام وادفع إليها هذه الدّنانير )) .فقال : فمضيت إليها واقرأتها منه السّلام , فقالت : بالله عليك , اقرأني مولاي الصّادق السّلام ؟ فقلت : أي والله .فخرّت ساجدة لله ساعة ورفعت رأسها , وقالت : اقرأني مولاي السّلام ؟ فقلت : نعم .فسجدت لله شكراً حتّى فعلت ذلك ثلاث مرّات ، فقلت لها : يا أمة الله , خُذي ما أرسله إليك سيدي وابشري بالجنّة .فأخذت واستبشرت وشكرته على ذلك , وقالت : يا بشّار , اسأله أن يستوهب أمة الله من الله تعالى .قال فرجعت إليه وحدّثته بما جرى , فجعل يبكي ويقول : (( غفر الله لها )).

فتفكّروا يا إخواني بمصائب سادة النّاس وما حلّ بهم من الكفرة الأرجاس , أزالوهم عن مناصبهم التي أحلّهم الله فيها , ودفعوهم عن الدّرجة التي لم يصلوا إليها ، فهذه القضية أصل كلّ بليّة إن كنت تعيها , ولأن علا نحيبي من هذا المصاب ؛ فلعظم ما في قلبي من الحزن والاكتئاب , وعظم شوقي وتزايد زفرتي , غير خفيّ على مواليّ وسادتي , ولله درّ مَن قال :

٤٥

سلوا ضمائركم عني فإن وجدت

غير الصفا فلوموني على الكدر

فإن وفت فأنا ذاك الوفي على

ما تعهدون إلى أن ينقضي عمري

فعلى الأطائب من أهل بيت الرّسول فليبك الباكون , وإيّاهم فليندب النّادبون , ولمثلهم تذرف الدّموع من العيون , أولا تكونون كبعض مادحيهم حيث عرته الأحزان , فنظم وقال فيهم :

القصيدة للشيخ الخليعي (رحمه‌الله )

العين عبرى دمعها مسفوح

والقلب من ألم الأسى مقروح

ما عذر مثلي يوم عاشورا إذا

لم أبك آل محمّد وأنوح

أم كيف لا أبكي الحُسين وقد غدا

شلواً بأرض الطف وهو ذبيح

والطاهرات حواسر من حوله

كل تنوح ودمعها مسفوح

هذي تقول أخي وهذي والدي

ومن الرزية قلبها مقروح

أسفي لذاك الشيب وهو مضمخ

بدمائه والوجه فيه قروح

ولفاطم تبكي عليه بحرقة

وتقبل الوجنات هي تصيح

ظلت تلعلع حاسراً مسبية

وسكينة ولهى عليه تنوح

يا والدي لا كان يومك إنه

يوم لباب مصائبي مفتوح

اليوم مات محمّد يا والدي

والطهر موسى والمسيح ونوح

اليوم آدم في العزاء وعرسه

حوى وقد جل المصاب جموح

اليوم تبكيك السماء بأدمع

مثل الدماء أسفاً ويكسف نوح

لهفي عليه مرملاً بدمائه

ومن السوافي كفنته الريح

لهفي له يبغى النصيح وماله

في كربلاء من الأنام نصوح

لهفي له والجسم مه مجدلا

فوق الثرى حتّى حواه ضريح

لهفي لرأس ابن النّبي محمّد

كالبدر من فوق السنان يلوح

والطهر زين العابدين مقيد

يمشي وقد أردى به التبريح

والطاهرات على المطايا حسر

تغدوا العداة عليهم وتروح

قد أقفلوهن الشئام بلا وطا

وعلى الجسوم لباسهن مسفوح

وإلى الذبول جيوبهن وقد غدت

تلك الجسوم بها القروح تسيح

٤٦

والجو معتكر الظلام بلا ضحى

باد وفي وجه الثراء كلوح

والأرض ترجف من رزية أحمد

وعليه وحش الفلا مقروح

وعلى الزمان من الكآبة ذلة

وإليه طرف الحادثات لموح

يا آل أحمد أن شعري فيكم

والمدح ما طال المدى تسبيح

شرفي بكم وبمدحكم ولطال ما

في الناس شرف مادحاً ممدوح

أترى أرى المهدي يظهر قبل ما

يوماً على جسدي يضم ضريح

فهنالك الخلعي يبلغ ما نوى

وبظاهر السر الخفي يبيح

وإليكم مرثية ما أنشدت

إلّا ومنها المسك ظلٍ يفوح

شعر الورى في غير آل محمّد

جسم بلا روح وشعري روح

ولقد روى عن جعفر بن محمّد

خبر أتى والنقل عنه صحيح

إن الولاء بلا براء ما ينفع المولى

وهذا واضح مشروح

صلّى الإله عليكم يا سادتي

ما غاب نجم في السماء يلوح

الباب الثّاني

أيّها المؤمنون , اجروا ماء العيون ، ويا أيّها الباكون , سلوا لذيذ الرّقاد من جفون الجفون ، أما تنظرون إلى هذا الخطب الفادح وهذا المصاب الفادح ؟ أما تستحقّ مواليكم أهل العُلا الممادح بكاء باك ونوح نائح ؟ بلى والله ؛ لأنّه خطب تذلّ له النّفوس وتحلّ بين أطباق الثّرى والرّموس .مصاب أبكى فاطمة البتول وأحزن قلب الـمُصطفى الرّسول , مصاب بكت عليه السّماء دماً واُقيم له فوق الطّباق مأتماً ، افيُعذر أحدٌ من ذوي الألباب في ترك الحزن والإكتئاب على المصاب ، كيف ؟ وهم الذين فيهم قال بعض مادحيهم :

أمحب آل محمّد جد بالبكا

إن كنت من يهوى النبي المرسلا

واسكب شآبيب الدموع فإن تكن

فيه الأخير فقد تبعت الأولا

وابك الفروع الطيبات تفرعت

من دوحة لمحمّد فسقت علا

وابك الغصون الناظرات ومن علا

ذرواتها ناحت حمامات البلا

وابك البدور الطالعات كواملا

حاق المحاق بها فأمست أفلا

وابك البحور الزاخرات ووردها

قد كان للوارد عذباً سلسلا

٤٧

وأبك الجبال الراسخات ومن بنى

مجداً أسمى سما العلاء مؤثلا

فمصابه أبكى السماء كأبة

والشهب حزناً والسماك الأعزلا

من أجل ذلك أن قلبي لم يزل

متقلقاً لمصابهم متقلقلا

والعيش في الدنيا إذا ما نغصوا

فيها فما يحلو فكيف وما حلا

روي : أنّ آدم (عليه‌السلام ) لمـّا هبط إلى الأرض , لم ير حواء فصار يطوف الأرض في طلبها , فمرّ بكربلاء , فاعتلّ وأعاق وضاق صدره من غير سبب , وعثر في الموضع الذي قُتل فيه الحُسين (عليه‌السلام ) حتّى سال الدّم من رجله , فرفع رأسه إلى السّماء وقال : إلهي هل حدث منّي ذنب آخر فعاقبتني به , فإنّي طفت جميع الأرض ما أصابني سوء مثل ما أصابني في هذه الأرض ؟ فأوحى الله إليه : (( يا آدم , ما حدث منك ذنب , ولكن يُقتل في هذه الأرض ولدك الحُسين (عليه‌السلام ) ظُلماً , فسال دمك موافقة لدمه )) .فقال آدم : يا ربّ , أيكون الحُسين نبيّاً ؟ قال : (( لا , ولكنّه سبط النّبي مُحمّد )) .فقال : ومَن القاتل له ؟ قال : (( قاتله يزيد )) .فقال آدم : فأيّ شيء أصنع يا جبرائيل ؟ فقال : العنه يا آدم .فلعنه أربع مرّات , ومشى خطوات إلى جبل عرفات , فوجد حواء هُناك.

وروي : أنّ نوحاً (عليه‌السلام ) لمـّا ركب في السّفينة , طافت به جميع الدُنيا , فلمّا مرّت بكربلاء , أخذته الأرض وخاف نوح الغرق , فدعا ربّه وقال : إلهي طفت جميع الدّنيا وما أصابني فزع مثل ما أصابني في هذه الأرض .فنزل جبرائيل وقال : يا نوح , في هذا الموضع يُقتل الحُسين (عليه‌السلام ) سبط مُحمّد خاتم الأنبياء وابن خاتم الأوصياء .فقال : ومَن القاتل له يا جبرائيل ؟ قال : قاتله لعين أهل سبع سماوات وسبع أرضين .فلعنه نوح أربع مرّات , فسارت السّفينة حتّى بلغت الجودي واستقرّت عليه.

وروي : أنّ إبراهيم مرّ في أرض كربلاء وهو راكب فرساً , فعثرت به وسقط إبراهيم (عليه‌السلام ) وشج رأسه وسال دمه , فأخذ في الاستغفار وقال : إلهي أيّ شيء حدث منّي ؟ فنزل إليه جبرائيل وقال : يا إبراهيم , ما حدث منك ذنب , ولكن هُنا يُقتل سبط خاتم الأنبياء وابن خاتم الأوصياء ؛ فسال دمك موافقة لدمه .قال : يا جبرائيل , ومَن يكون قاتله ؟ قال : لعين أهل السّماوات والأرض , والقلم جرى على اللوح بلعنه بغير إذن ربّه , فأوحى الله تعالى إلى القلم : أنّك استحقّيت الثّناء بهذا اللعن.فرفع إبراهيم (عليه‌السلام ) يديه ولعن يزيداً لعناً كثيراً ,

٤٨

وأمّن فرسه بلسان فصيح , فقال إبراهيم لفرسه : أيّ شيء عرفت حتّى تؤمّن على دُعائي ؟ فقال : يا إبراهيم , أنا أفتخر بركوبك عليّ , فلمّا عثرت وسقطت عن ظهري , عظمت خجلتي , وكان سبب ذلك من يزيد.

وروي : أنّ إسماعيل (عليه‌السلام ) كانت أغنامه ترعى بشط الفرات , فأخبره الرّاعي أنّها لا تشرب الماء من هذه المشرعة منذ كذا يوماً , فسأل ربّه عن سبب ذلك , فنزل جبرائيل (عليه‌السلام ) , وقال : يا إسماعيل , سل غنمك فإنّها تجيبك عن سبب ذلك .فقال: لِمَ لا تشربين من هذا الماء ؟ فقالت بلسان فصيح : قد بلغنا أنّ ولدك الحُسين (عليه‌السلام ) سبط مُحمّد يُقتل عطشاناً , فحن لا نشرب من هذه المشرعة حُزناً عليه .فسألها عن قاتله , فقالت : يقتله لعين أهل السّماوات والأرضين والخلائق أجمعين .فقال إسماعيل : اللهمّ العن قاتل الحُسين.

وروي : أنّ موسى كان ذات يوم سائراً ومعه يوشع بن نون , فلمّا جاء إلى أرض كربلاء , انخرق نعله وانقطع شراكه ودخل الحسك في رجليه وسال دمه , فقال : إلهي ! أيّ شيء حدث منّي ؟ فأوحى الله إليه : (( إنّ هُنا يُقتل الحُسين , وهُنا يُسفك دمك موافقة لدمه )) .فقال : ربّ ومَن يكون الحُسين ؟ فقيل له : (( هو سبط مُحمّد الـمُصطفى وابن عليّ الـمُرتضى )) .فقال: ومَن يكون قاتله ؟ فقيل : (( هو لعين السّمك في البحار , والوحوش في القفار , والطّير في الهواء )) .فرفع موسى يديه ولعن يزيد ودعى عليه , وأمّن يوشع بن نون على دعائه ومضى لشأنه.

وروي : أنّ سُليمان (عليه‌السلام ) كان يجلس على بساطه ويسير في الهواء , فمرّ ذات يوم وهو سائر في أرض كربلاء , فأدارت الرّيح بساطه ثلاث دورات حتّى خافوا السّقوط , فسكنت الرّيح ونزل البساط في أرض كربلاء , فقال سُليمان للريح : لِمَ سكنتي ؟ فقالت : إنّ هُنا يُقتل الحُسين (عليه‌السلام ) .فقال : ومَن يكون الحُسين ؟ قال : هو سبط مُحمّد الـمُختار وابن عليّ الكرار.فقال : ومَن قاتله ؟ قالت : لعين أهل السّماوات والأرض يزيد .فرفع سُليمان يديه ولعنه ودعى عليه , وأمّن دعائه الإنس والجن , فهبّت الرّيح وسار البساط.

وروي : أنّ عيسى (عليه‌السلام ) كان سائحاً في البراري ومعه الحواريون , فمرّوا بكربلاء , فرأوا أسداً كاسراً قد أخذ الطّريق , فتقدّم عيسى إلى الأسد , وقال له : لِمَ جلست في هذا الطّريق ولا تدعنا نمرّ فيه ؟ فقال الأسد بلسان فصيح : إنّي لم أدع لكم الطّريق حتّى تلعنوا يزيد قاتل الحُسين .فقال عيسى

٤٩

ومَن يكون الحُسين ؟ قال : سبط مُحمّد النّبي الاُمّي وابن عليّ الوليّ .قال : ومَن قاتله ؟ قال: قاتله لعين الوحوش والذّئاب والسّباع أجمع خصوصاً أيّام عاشوراء .فرفع عيسى (عليه‌السلام ) يديه ولعن يزيد ودعى عليه , وأمّن الحواريون على دعائه , فتنحّى الأسد عن طريقهم ومشوا لشأنهم.

فيا إخواني الذين اقتدوا بالأنبياء والمرسلين والملائكة الـمُقرّبين , باللعن على يزيد الغوي العنيد , ألا لعنة الله على الظّالمين.ولله درّ مَن قال :

إذا جاء عاشوراء تضاعف حسرتي

لآل رسول الله وانهل عبرتي

هو اليوم فيه اغبرت الأرض كلها

وجوماً عليهم والسماء اقشعرت

مصائب ساءت كل من كان مسلماً

ولكن عيون الفاجرات أقرت

إذا ذكرت نفسي مصيبة كربلا

وأشلاء سادات بها قد تفرت

أضاقت فؤادي واستباحت تجارتي

وعظم كربي ثمّ عيشي أمرت

أريقت دماء الفاطميات بالملا

فلو عقلت شمس النهار لخرت

ألا بأبي تلك الدماء التي جرت

بأيدي كلاب في الجحيم استقرت

توابيت من نار عليهم قد أطبقت

لهم زفرة في جوفها بعد زفرة

فشتان من في النار قد كان هكذا

ومن هو في الفردوس فوق الأسرة

روي عن طريق الخصم ، مما صح روايته عن أبي هريرة , قال : خرج علينا رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ومعه حسن وحُسين (عليهما‌السلام ) , هذا على عاتقه الأيمن وهذا على عاتقه الأيسر , وهو يلثم هذا مرّة وهذا اُخرى حتّى انتهى إلينا , فقال له رجل : إنّك لتحبّهما ؟ قال : (( ومَن أحبّهما فقد أحبّني ، ومَن أبغضهما فقد أبغضني )).

وبالطّريق المذكور عن ابن عبّاس : إنّ النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) , قال للحسن والحُسين : (( مَن أحبّكما كان معي في الجنّة , ومَن أبغضكما ففي النّار ))

فيا عاذلي خل عن عذلي

أيحسن أن يسلو مثلهم مثلي

أتروم ويحك سلواني ، أو تحاول إطفاء نيراني وتبريد وجدي وأشجاني ؟ هيهات هيهات هذا لا يكون ، وحيل بينهم وبين ما يشتهون ، فيا حرقي تزايدي ويا نار وجدي توقّدي ، ويا فؤادي القريح من الحزن والكآبة لا يستريح ، ويا

٥٠

قلبي الولهان دم في العناء والأحزان ، ولله درّ مَن قال :

لا أضحك الله سن الدهر إن ضحكت

وآل أحمد مظلومون قد قهروا

مشردون نفوا عن عقر دارهم

كأنهم قد جنوا ما ليس يغتفر

روي عن بعض الأخبار : أنّ النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) أجلس يوماً الحُسين (عليه‌السلام ) على فخذه الأيمن , وولده إبراهيم على فخذه الأيسر , وجعل يلثم هذا مرّة وهذا اُخرى ؛ من شدّة شغفه بهما , فهبط جبرائيل من ربّ العالمين , وقال : يا مُحمّد , إنّ الله لم يكُن ليجمع لك بينهما , فاختر من شئت منهما ؛ فإنّ الله قد أمر بقبض روح واحد منهما .فقال : (( يا أخي جبرائيل , إن مات الحُسين , بكى عليه عليّ وفاطمة والحسن وأنا ، وإن مات ولدي إبراهيم بكيت أنا وحدي , فسل ربّك إليه يقبض إبراهيم ولدي )) .فمات إبراهيم بعد ثلاثة أيّام ، فكان النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) إذا رأى حُسيناً مُقبلاً إليه , يقول له : (( مرحباً بمن فديته بابني إبراهيم )).

فانظروا يا إخوتي إلى هذا الشّخص العظيم الرّباني , أيفديه سيّد الـمُرسلين بولده الذي هو من فلذة أحشائه وكبده ؟ ويقتله أولاد الزّواني وتخون فيه الأماني , اُولئك هم الخاسرون :( وَسَيَعْلَمُ الّذِينَ ظَلَمُوا أَيّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ ) (١) .

فعلى الأطائب من أهل بيت الرّسول فليبك الباكون , وإيّاهم فليندب النّادبون , ولمثلهم تذرف الدّموع من العيون , أو لا تكونون كبعض مادحيهم حيث عرته الأحزان وتتابعت عليه الأشجان , فنظم فيهم وقال :

القصيدة للخليعي (رحمه‌الله )

جفون لا تمل من الهمول

وجسم لا يفك من النحول

وقلب لا يفيق من الرزايا

لتذكار القتيل ابن القتيل

قتيل بالطفوف أطال نوحي

وأسلمني إلى الحزن الطويل

قتيل أورث المختار حزناً

وأذكى النار في قلب البتول

بنفسي وهو يسري والمنايا

أمام الركب تسري بالحمول

بنفسي وهو يسري مستدلا

وضوء سناه نهج هذا الدليل

يقول ألا أخبروني ما اسم أرض

أراني كارهاً فيها نزولي

أبينوا ما اسمها المشهور عنها ؟

فقالوا كربلا يابن الرسول

___________________

(١) سورة الشّعراء / ٢٢٧.

٥١

فقال هي البلا وفي ثراها

تريق دماؤنا أيدي النغول

بها تضحى أعزتنا أسارى

يلوح عليهم كسر الذليل

بها تسبى كرائمنا وفيها

يتامانا تعثر في الذيول

إلى الرحمن أستعدي وأشكو

على عضب رموني بالذحول

أضاعوا عهد جدي عن قريب

وساقوني إلى الورد الوبيل

ألا حطوا رحالكم وقيلوا

فليس من المنية من مقيل

ومن رام النجاة وحاد عني

إلى الدنيا ففي دعة الجليل

فقالوا ما لنا فيها خلود

وليس متاعها غير القليل

وكيف يلذ بعدك طيب عيش

لأرباب البصائر والعقول

أنا وأبيك لا نلوي وظل

سيوف مظنة الظل الظليل

فمر إلى المضارب غير وأن

بقلب عاطف بر وصول

ونادى زينباً يا أخت قومي

إلى التوديع من قبل الرحيل

أوصيكم بتقوى الله إنا

قبيل مُحمّد خير القبيل

عليك بطاعة السجاد بعدي

محل الذكر والعلم الجزيل

وإن نودي بقتل أخيك بين

الورى فعليك بالصبر الجميل

وقولي في سبيلي الله إني

رزيت فإنه خير السبيل

ولطم الخد يقبح بالموالي

وشق الجيب يرزي بالأصيل

ومر مشمراً للحرب يسطو

على الأبطال بالسيف الصقيل

فلما أثخنوا وخر ملقى

وراح المهر يعلن بالصهيل

برزن الطاهرات مهتكات

حيارى لا يفقن من العويل

ونادت زينب لما رأته

يجود بنفسه تحت الخيول

أخي هل للسبايا من ولي

أخي هل لليتامى من كفيل

وخرت فوقه تلقي دماءاً

براحتها على الخد الأسيل

وتدعو أمها الزّهراء وتطفي

بسح دموعها حر الغليل

ألا يا اُم قومي وساعديني

على نكبات دهري واندبي لي

ترى هل أنت عالمة بأنا

نجرر بالحزون وبالسهول

٥٢

وهل أخبرت بالسجاد أضحى

مع الأعداء في قيد ثقيل

عليلا يشتكي مرضاً وأسراً

فوا أسفي على العاني العليل

ويدعو السبط وهو لقي رميل

يلاحظها بناظره الكليل

فيا لله من نوب رمتنا

بأسهمها ومن خطب جليل

أيحمل رأس مولى الخلق طراً

إلى الأمصار في رمح طويل

وتهدى الطاهرات إلى يزيد

سبايا بالمذلة والخمول

ألا يابن النّبي ومن هداني

بحبكم إلى نهج السبيل

مصابك يا قتيل الطف أدمى

جفوني لا البكاء على الطلول

وبعدي عن مزار ثراك أضنى

فؤادي لا مفارقة الخليل

وإن وليك الخلعي يرجو

الشفاعة منك في اليوم المهول

محبكم وعارفكم يقيناً

بإيضاح المحجة والدليل

يواليكم ويبرئ من عداكم

ولا يصغي إلى عذل العذول

ينوح عليكم ما دام حياً

ويبكيكم وما هو بالملول

لقد بلغ المنى عبد عطفتم

عليه وفاز منكم بالقبول

الباب الثّالث

أيّها الإخوان , ألا تستنهضون مُضمرات الأحزان , فتجرونها في ميادين الأشجان ؟ ألا تمتطون كواهل عوامل الأشواق وتحثونها في ميادين السّباق , فتحوزوا قصب السّبق التي أنتم أولى بها وأحقّ ؟ أما علمتم أنّ الـمُقصّر عن هذه الغاية بنفسه قصّر, والـمُتأخر عن بلوغ النّهاية لحظة اُخرى :( مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبّكَ بِظَلاّمٍ لِلْعَبِيدِ ) (١) ؟ ولئن سحت من جفوني الدّموع , فإنّها عن نيران بين الضّلوع ، ولئن جزعت من هذا المصاب , فلعظم ما في قلبي من الوجد والاكتئاب .ولله درّ مَن قال من الرّجال :

لأي مصاب يذرف الشان ماءه

وتقضي نفوس أو تفت كبود

لأعظم من هذا المصاب وخطبه

عظيم على أهل السّماء شديد

مصاب له في قلب كلّ مصيبة

سهام لحبات القلوب تبيد

وللهم هم والرزايا رزية

وللحزن حزن زايد ويزيد

____________________

(١) سورة فصلّت / ٤٦.

٥٣

روي في بعض الأخبار عن الصّحابة الأخيار , قال : رأيت النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) , يمصّ لعاب الحُسين كما يمصّ الرّجل السّكرة , وهو يقول : (( حُسين منّي وأنا من حُسين , أحبّ الله مَن أحبّ حُسيناً , وأبغض الله مَن أبغض حُسيناً ، حُسين سبط من الأسباط لعن الله قاتله )) .فنزل جبرائيل , وقال : يا مُحمّد , إنّ الله قتل بيحيى بن زكريا سبعين ألفاً من الـمُنافقين , وسيقتل بابن ابنتك الحُسين , سبعين ألفاً من الكافرين وسبعين ألفاً من الـمُعتدين , وإنّ قاتل الحُسين في تابوت من نار , ويكون عليه نصف عذاب أهل الدّنيا , وقد شُدّت يداه ورجلاه بسلاسل من نار , وهو منكس على اُمّ رأسه في قعر جهنّم , وله ريح يتعوذ أهل النّار من شدّة نتنها , وهو فيها خالد ذائق العذاب الأليم لا يفتر عنه , ويسقى من حميم جهنم.

وروي عن الصّادق (عليه‌السلام ) أيضاً في بعض الأخبار : (( أنّ ملكاً من ملائكة الصّف الأعلى , اشتاق لرؤية النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) , واستأذن ربّه بالنّزول إلى الأرض لزيارته , وكان ذلك الملك لم ينزل إلى الأرض أبداً مُنذ خُلق , فلمّا أراد النّزول , أوحى الله تعالى إليه يقول : أيّها الملك , أخبر مُحمّداً أنّ رجلاً من اُمّته اسمه يزيد , يقتل فرخه الطّاهر بن الطّاهرة , نظيرة البتول مريم بنت عمران .فقال الملك : لقد نزلت إلى الأرض وأنا مسرور برؤية نبيك مُحمّد (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) , فكيف أخبره بهذا الخبر الفظيع , وإنّني لاستحي منه أن أفجعه بقتل ولده , فليتني لم أنزل إلى الأرض ، قال فنودي الملك من فوق رأسه : أن أفعل ما اُمرت به.فدخل الملك إلى رسول الله ونشر أجنحته بين يديه , وقال : يا رسول الله , اعلم أنّي أستأذنت ربّي في النّزول إلى الأرض ؛ شوقاً لرؤيتك وزيارتك , فليت ربّي كان حطّم أجنحتي ولم آتك بهذا الخبر , ولكن لا بدّ من إنفاذ أمر ربّي عزّ وجلّ ، اعلم يا مُحمّد , إنّ رجُلاً من اُمّتك اسمه يزيد , ( زاده الله لعناً في الدُنيا وعذاباً في الآخرة ) , يقتل فرخك الطّاهر ابن الطّاهرة , ولن يتمتّع قاتله في الدُنيا من بعده إلّا قليلاً , ويأخذه الله مُقاصّاً له على سوء عمله , ويكون مُخلّداً في النّار .فبكى النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) بُكاءاً شديداً , وقال : أيّها الملك , هل تفلح اُمّة تقتل ولدي وفرخ ابنتي ؟ قال : لا يا مُحمّد , بل يرميهم الله باختلاف قلوبهم وألسنتهم في دار الدّنيا , ولهم في الآخرة عذاب أليم )).

وعن كعب الأحبار حين أسلم في أيّام خلافة عمر بن الخطاب , وجعل النّاس يسألونه عن الملاحم التي تظهر في آخر الزّمان ,

٥٤

فصار كعب يخبرهم بأنواع الأخبار والملاحكم والفتن التي تظهر في العالم , ثمّ قال : وأعظمها فتنة وأشدّها مصيبة لا تنسى إلى أبد الآبدين , مصيبة الحُسين (عليه‌السلام ) , وهي الفساد الذي ذكره الله تعالى في كتابه المجيد , حيث قال :( ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النّاسِ ) (١) .وإنّما فُتح الفساد بقتل هابيل بن آدم , وخُتم بقتل الحُسين (عليه‌السلام ) , أو لا تعلمون أنّه تُفتح يوم قتله أبواب السّماوات , ويؤذن للسماء بالبكاء فتبكي دماً , فرأيتم الحمرة في السّماء قد ارتفعت , فاعلموا أنّ السّماء تبكي حُسيناً.

فقيل : يا كعب , لِمَ لا تفعل السّماء كذلك ولا تبكي دماً لقتل الأنبياء ممّن كان أفضل من الحُسين ؟ فقال : ويحكم ! إنّ قتل الحُسين أمر عظيم , وإنّه ابن سيّد ال ـ مُرسلين , وإنّه يُقتل علانية مبارزة ظُلماً وعدواناً , ولا تُحفظ فيه وصيّة جدّه رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) , وهو مزاج مائه وبضعة من لحمه , يُذبح بعرصة كربلاء ، فو الذي نفس كعب بيده , لتبكينّه زمرة من الملائكة في السّماوات السّبع , لا يقطعون بكاءهم عليه إلى آخر الدّهر ، وإنّ البقعة التي يُدفن فيها خير البقاع , وما من نبيّ إلّا ويأتي إليها ويزورها ويبكي على مصابه , ولكربلاء في كلّ يوم زيارة من الملائكة والجن والإنس , فإذا كانت ليلة الجُمُعة , ينزل إليها تسعون ألف ملك , يبكون على الحُسين ويذكرون فضله ، وإنّه يُسمّى في السّماء حُسيناً المذبوح , وفي الأرض أبا عبد الله المقتول - وفي البحار : الفرخ الأزهر المظلوم - وإنّه يوم قتله , تنكسف الشّمس بالنّهار , ومن الليل ينخسف القمر , وتدوم الظُلمة على النّاس ثلاثة أيّام , وتمطر السّماء دماً , وتدكدك الجال وتغطمط البحار ؛ ولو لا بقية من ذرّيّته وطائفة من شيعته الذين يطلبون بدمه ويأخذون بثاره , لصبّ الله عليهم ناراً من السّماء , أحرقت الأرض ومَن عليها.

ثمّ قال كعب : يا قوم , كأنّكم تتعجبون بما اُحدّثكم فيه من أمر الحُسين (عليه‌السلام ) , وإنّ الله تعالى لم يترك شيئاً كان أو يكون من أوّل الدّهر إلى آخره , إلّا وقد فسّره لموسى (عليه‌السلام ) , وما نسمة خُلقت إلّا وقد رُفعت إلى آدم (عليه‌السلام ) في عالم الذّر وعُرضت عليه ، ولقد عُرضت عليه هذه الاُمّة , ونظر إليها وإلى اختلافها وتكالبها على هذه الدّنيا الدّنية ، فقال آدم : يا ربّ , ما لهذه الاُمّة الزّكية وبلاء الدّنيا وهم أفضل الاُمم ؟ فقال له : (( يا آدم , إنّهم اختلفوا فاختلفت قلوبهم , وسيظهرون الفساد في الأرض , كفساد قابيل حين قتل هابيل , وأنّهم يقتلون فرخ

____________________

(١) سورة الرّوم / ٤١.

٥٥

حبيبي مُحمّد الـمُصطفى )) .ثمّ مثّل لآدم (عليه‌السلام ) مقتل الحُسين ومصرعه , ووثوب اُمّة جدّه عليه , فنظر إليهم فرآهم مسودّة وجوههم ، فقال : يا ربّ , أبسط عليهم الانتقام , كما قتلوا فرخ نبيك الكريم عليه أفضل الصّلاة .ولله درّ مَن قال من الرّجال:

إذا أبصرتك العين من بعد غاية

وعارض فيك الشك أثبتك القلب

ولو أن قوماً يمموك لقادهم

باسمك حتّى يستدل بك الركب

وروي عن ريان بن شبيب , قال : دخلت على الرّضا (عليه‌السلام ) في أوّل يوم من الـمُحرّم , فقال لي : (( يابن شبيب , أصائم أنت ؟ )) .فقلت : لا .فقال : (( إنّ هذا اليوم هو اليوم الذي دعا زكريا ربّه عزّ وجلّ , فقال :( رَبّ هَبْ لِي مِن لَدُنْكَ ذُرّيّةً طَيّبَةً إِنّكَ سَمِيعُ الدّعَاءِ ) (١) .فاستجاب الله تعالى له , وأمر الملائكة فنادت زكريا :( وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى ) (٢) .فمن صام هذا اليوم ثمّ دعا الله تعالى , استجاب الله له كما استجاب لزكريا .يابن شبيب , إنّ الـمُحرّم هو الشّهر الذي كان أهل الجاهلية يحرّمون فيه القتال لحُرمته , فما عرفت هذه الاُمّة حُرمة شهرها ولا حُرمة نبيّها , لقد قتلوا في هذا الشّهر ذرّيّته , وسبوا نساءه وانتهبوا ثقله , فلا غفر الله لهم ذلك أبداً .يابن شبيب , إن كُنت باكياً لشيء , فابك للحُسين بن عليّ بن أبي طالب (عليهم‌السلام ) , فإنّه ذُبح كما يُذبح الكبش , وقُتل معه من أهل بيته ثمانية عشر رجُلاً ما لهم في الأرض شبيه , ولقد بكت السّماء والأرض لقتله , ولقد نزل إلى الأرض من الملائكة أربعة آلاف لنصرته فلم يؤذن لهم , فهم عند قبره شعث غبر إلى أن يقوم القائم (عليه‌السلام ) فيكونون من أنصاره , وشعارهم يا لثارات الحُسين (عليه‌السلام ) .يابن شبيب , لقد حدّثني أبي عن أبيه عن جدّه (عليه‌السلام ) , أنّه لمـّا قُتل جدّي الحُسين (عليه‌السلام ) , أمطرت السّماء دماً وتراباً أحمراً.

يابن شبيب , إن بكيت على الحُسين , ثمّ تصير دموعك على خدّيك , غفر الله لك كُلّ ذنب أذنبته صغيراً كان أو كبيراً.يابن شبيب , إن سرّك أن تلقى الله ولا ذنب عليك , فزر الحُسين (عليه‌السلام ) .يابن شبيب , إن سرّك أن تسكن الغرف المبنية في الجنّة مع النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) , فالعن قاتل الحُسين .يابن شبيب , إن سرّك أن يكون لك من الثّواب مثل ما لمن استشهد مع الحُسين (عليه‌السلام ) , فقُل متى ما ذكرته : يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزاً عظيماً ! يابن شبيب , إن سرّك أن تكون معنا في الدّرجات العُلى من الجنات , فاحزن لحزننا وافرح لفرحنا

____________________

(١) سورة آل عمران / ٣٨.

(٢) سورة آل عمران / ٣٩.

٥٦

وعليك بولايتنا , فلو أنّ رجُلاً أحبّ حجراً , لحشره الله معه يوم القيامة )).

فيا أيّها الأبرار , لا تبخلوا بالدّموع الغزار على عترة النّبي الـمُختار , ألا تحبّون أن يغفر الله لكم ويجزل ثوابكم ؟ أليس هم شفعاءكم يوم المعاد إذا وقفتم بين يدي ربّ العباد ؟ أليس بهم تحطّ الأوزار ؟ أليس هم الجنن الواقية من النّار ؟ فسارعوا رحمكم الله إلى النّوح والبكاء عليهم , فإنّ ذلك من أعظم القرب إلى الله وإليهم ، فيا عجباً ممّن يطيل النّوح على الدّيار , ويندب الرّبوع المقفرة والآثار , ولا يبكي لمصاب السّادة الأطهار وأولاد عليّ الكرّار ! ولكنّها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القُلوب التي في الصّدور.

فعلى الأطائب من أهل بيت الرّسول فليبك الباكون , وإيّاهم فليندب النّادبون , ولمثلهم تذرف الدّموع من العيون , أو لا تكونون كبعض مادحيهم حيث عرته الأحزان , فنظم فيهم وقال :

القصيدة للنيلي (رحمه‌الله )

لا تنكري إن ألفت الهم والأرقا

وبت من بعدهم حلف الأسى قلقا

قد كنت آمل روحي أن تفارقني

ولا أرى شملنا الملتام مفترقا

ليث الركائب لازمت لبينهم

وليت ناعق يوم البين لا نعقا

كم هد ركني وكم أوهى قوى جلدي

وكم دم بمواضي جوره هرقا

لا تطلبوا أبداً مني البقاء فهل

يرجى مع البين من أهل الغرام بقا

يحق لي أن بكت عيني دماً لهم

وإن غدوت بنار الحزن محترقا

يا منزلا لعبت أيدي الشتات به

لعب النحول بجسمي إذ به علقا

مالي على ربعك البالي غدوت به

وظلت أسأل عن أهليه ما نطقا

أبكي عليه ولو أن البكاء على

سوى بني أحمد المختار ما خلقا

تحكمت فيهم الأعداء ويلهم

ومن نجيع الدما أسقوهم علقا

تداركت منهم الأعداء ثارهم

يوم الطفوف وداروا حولهم حلقا

ذادوهم عن ورود الماء ويلهم

ومن نجيعهم اسقوهم العلقا

تا لله كم قصموا ظهراً لحيدرة

وكم بروا للرسول الـمُصطفى عنقا

والله ما قبلوا بالطف يومهم

إلّا بما يوم ( بدر ) فيهم سبقا

وقد رواه حديثاً صادقاً لهم

زيد بن أرقم إذ كان أمره حذقا

٥٧

إذا قال كنت مقيماً في دمشق

جاءت سبايا حسين تذرف الأمقا

حتّى إذا أحضروهن الطغاة إلى

يزيد إذ زاده من كفره حنقا

حتّى إذا أبرزت للسبي جارية

كأنها البدر من حسن إذا اتسقا

فقال من هذه قالوا سكينة بنت

الخارجي الذي عن حكمنا أبقا

فقال كيف رأيت الله مكنني

رقابكم إذ لنا صرتم من العتقا

أخذت ثأري من ابن النّبي ومن

غدا من أسلافنا من جدكم سبقا

هناك قالت أمه أنى ثكلتك يا

أردى الأنام ويا من ليس فيه تقا

اسمع مناماً رأت عيناي بارحتّى

يزيد قلبك هماً عندما طفقا

فقال قصي لنا رؤياك فابتدرت

تقص والدمع منها يسبق النطقا

فبينما أنا إذ صلّيت نافلتي

أثنى عليّ خالقي والليل قد غسقا

إذ الحُسين أبي قد جاء ملتثماً

فرقى وقد مد لي كفيه معتنقا

وعاينت مقلتي من بعد ذاك إلى

قصر من النور يزهو أبيضاً يققا

عال شرانفه الياقوت حمرتها

للناظرين إليها يدهش الامقا

فبينما أنا نحو القصر ناظرة

إذ شرع الباب لي من بعدما غلقا

وعاينت مقلتي خمساً وقد برزوا

من المشايخ في ترتيبهم نسقا

ومن بين أيديهم شخص فقلت له

والقلب مني لما عاينت قد خفقا

لمن ترى يا فتى ذا القصر قالوا لمو

لاك الحُسين ولولاه لما خلقا

وهذه الخمسة الأشباح آدم

ثمّ الطهر نوح الذي في حبكم سقا

وذا الخليل وهناك الكليم وذا

عيسى النّبي الذي يبرئ بغير رقا

وعاينت مقلتي شخصاً لطلعته

نور علا الشمس لما تبلغ الأفقا

وكفه قابض من فوق لمته

باك بعبرته قد صار مختنقا

وقد قطعت زفرات الحزن مهجته

والقلب منه لما قد ناله حنقا

فقلت من ذا فقالوا يا سكينة ذا

النّبي جدك ينجو من به علقا

فقمت اسعى إليه ثمّ قلت له

يا جد لم يبق منا من به وثقا

يا جدنا لو ترى بالطف قد قتلت

رجالنا وإبنك السبط الشهيد لقا

يا جدنا لو ترانا نستغيث فلا

نغاث قد قطعوا من دوننا الطرقا

٥٨

يا جدنا لو ترانا إذ نحث على

الأقتاب نطلب من أعدائنا الرفقا

فعندها ضمني جدي وقبلني

وخر من عظم ما حدثته صعقا

ومد كفي وصيف القوم أدخلني

في القصر وهو بطيب المسك قد عبقا

وفيه خمس نساء لو برزن إلى

الشمس الظهيرة خلتا نورها شفقا

وبين تلك النساء الخمس باكية

قد أكثرت دونهن النوح والحرقا

أثوابها من سود قد صبغن وفي

أزياقها الدمع في الأردان قد خرقا

وشعرها فوق كتفيها تنشره

على الحُسين ومنها الجيب قد مزقا

فقلت أخبرني يا ذا الوصف فمن

هذي النساء فقل لي لا لقيت شقا

فقال هاتيك يا سكينة و

الاُخرى خديجة أو في العالمين تقا

وهذه مريم أيضاً وسارتها

مع هاجر قد ملكن الخلق والخلقا

وذي القميص الذي قد ضمخته دماً

بنت النّبي الذي فوق البراق رقا

فقمت أسعى إليها ثمّ قلت لها

أخبرك أن أبي بالبيض قد مزقا

يا جدنا لو ترى عيناك إبنك

بين الرأس منه وبين الجسم قد مزقا

يا جدنا لو رأيتنا وليس لنا

عن أعين الناس من فوق المطى وقا

فعندها صرخت في الحل فاطمة

حتّى لقد خلت أن القصر قد طبقا

وأقبلت وهي تشكي تستغيث على

قتل الحُسين وتذري الدمع مندفقا

والهفتاه لحزني فيك يا ولدي

وا حسرتا يا قتيل الصحب والرفقا

وا طول لهفي عليك اليوم يا ولدي

لأهجرن سهادي فيك والأرقا

وظل من حولها النسوان في ثكل

يندبن للسبط لا لهواً ولا ملقا

هنا قامت وضمتني براحتها

لصدرها فسكبت الدمع مندفقا

وأقبلت وهي تذري الدمع تسألني

عن الحُسين وعن طاغ به طرقا

وتستغيث وتدعو يا سكينة من

أضحى يغسل إبني من به رفقا

ويلاه ويلاه من أضحى يكفنه

ومن رأى وجهه والنحر والحدقا

ويلاه ويلاه من عبى الحنوط

ومن ترى سار حول النعش والنطلقا

ويلاه ويلاه من صلّى عليه ومن

أيضاً ترى للثرى في لحده طبقا

ومن ترى يكفل الأيتام ويحك بعد

ابني الحُسين ومن في حبنا صداقا

٥٩

وكيف خلف زين العابدين ومن

أوصى إليه من الأصحاب والرفقا

متى أرى القائم المهدي يقدم جيش

الله والسنجق المنصور قد خفقا

هناك أظهر عن ما لو أردت به

خرق السموات من دون الورى خرقا

يا آل طه لقد نال الأمان بكم

في البعث كلّ ولي مؤمن صدقا

أحب أعدائي فيكم إذ تحبكم

وإنني أهجر الأهلين والرفقا

فهانموها من النيلي رائقة

تحكي الحيا رقة لفظاً ومنتسقا

إذا تلا نائح يوماً محاسنها

أزرت على كلّ من بالشعر قد نطقا

من شاعر في مجال الشعر خاطره

إلى طريق العلا والمجد قد سبقا

بها سموت على من قال مقتدما

حي الفريق الحي فافترقا

وأزفت ما قال نصر في قصيدته

طيف لخنساء من بعد الكرى طرقا

بعد الصلاة على المختار سيدنا

خير الورى شرفاً ما مثله خلقا

٦٠

والجمهور كافة - إلّا قتادة - على سقوط الكفّارة فيهما(١) .

وقتادة أوجبها قبل الزوال وبعده(٢) .

وابن أبي عقيل من علمائنا أسقطها بعد الزوال أيضاً.

والمشهور ما بيّناه ؛ لأنّه قبل الزوال مخيَّر بين الإِتمام والإِفطار ، وبعده يتعيّن الصوم ، فلهذا افترق الزمانان في إيجاب الكفّارة وسقوطها ؛ لقول الصادقعليه‌السلام : « صوم النافلة لك أن تفطر ما بينك وبين الليل متى ما شئت ، وصوم قضاء الفريضة لك أن تفطر الى زوال الشمس ، فإذا زالت الشمس فليس لك أن تفطر »(٣) .

تذنيب : لو أفطر في قضاء النذر المعيّن بعد الزوال ، لم يجب عليه شي‌ء سوى الإِعادة‌ ؛ لأصالة البراءة ، وإن كان في قول الصادقعليه‌السلام ، دلالة ما على الوجوب.

مسألة ٣١ : المشهور في كفّارة قضاء رمضان : إطعام عشرة مساكين ، فإن لم يتمكّن ، صام ثلاثة أيام‌.

وقد روي : أنّه لا شي‌ء عليه(٤) . وروي : أنّ عليه كفّارة رمضان(٥) .

وتأوّلهما الشيخ - بحمل الاُولى على العاجز(٦) ، والثانية على المستخفّ بالعبادة ، المتهاون بها(٧) .

____________________

(١ و ٢ ) المغني ٣ : ٦٤ ، الشرح الكبير ٣ : ٦٨ ، بداية المجتهد ١ : ٣٠٧ ، حلية العلماء ٣ : ٢٠٤.

(٣) التهذيب ٤ : ٢٧٨ / ٨٤١ ، الاستبصار ٢ : ١٢٠ / ٣٨٩.

(٤) التهذيب ٤ : ٢٨٠ / ٨٤٧ ، الاستبصار ٢ : ١٢١ - ١٢٢ / ٣٩٤.

(٥) التهذيب ٤ : ٢٧٩ / ٨٤٦ ، الاستبصار ٢ : ١٢١ / ٣٩٣.

(٦) المبسوط للطوسي ١ : ٢٨٧.

(٧) التهذيب ٤ : ٢٧٩ ذيل الحديث ٨٤٦ ، الاستبصار ٢ : ١٢١ ذيل الحديث ٣٩٣.

٦١

وأمّا النذر المعيّن : فالمشهور أنّ في إفطاره كفّارة رمضان ؛ لمساواته إيّاه في تعيين الصوم.

وابن أبي عقيل لم يوجب في إفطاره الكفّارة ، وهو قول العامّة(١) .

تذنيب : لو صام يوم الشك بنية قضاء رمضان‌ ، ثمّ أفطر بعد الزوال ، ثمّ ظهر أنّه من رمضان، احتمل سقوط الكفّارة.

أمّا عن رمضان : فلأنّه لم يقصد إفطاره ، بل قصد إفطار يوم الشك ، وهو جائز له.

وأمّا عن قضاء رمضان : فلظهور أنّه زمان لا يصح(٢) للقضاء.

ويحتمل : وجوب كفّارة رمضان ، ويحتمل وجوب كفّارة قضائه.

مسألة ٣٢ : يشترط في إفساد الصوم بالإِفطار اُمور ثلاثة : وقوعه عنه متعمّداً ، مختاراً ، مع وجوب الصوم عليه.

أمّا شرط العمد : فإنّه عندنا ثابت إجماعاً منّا ؛ فإنّ المفطر ناسياً لا يفسد صومه مع تعيّن الزمان ، ولا يجب به قضاء ولا كفّارة عند علمائنا أجمع - وبه قال أبو هريرة وابن عمر وعطاء وطاوس والأوزاعي والثوري والشافعي وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي(٣) - لما رواه العامة عن أبي هريرة قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( إذا أكل أحدكم أو شرب ناسياً ، فليتمّ صومه ، فإنّما أطعمه الله وسقاه )(٤) .

____________________

(١) المغني ٣ : ٦٤ ، الشرح الكبير ٣ : ٦٨.

(٢) في « ن » : لا يصلح.

(٣) المغني ٣ : ٥٣ ، الشرح الكبير ٣ : ٤٦ ، المجموع ٦ : ٣٢٤ ، حلية العلماء ٣ : ١٩٦ ، اختلاف العلماء : ٦٩ ، الهداية للمرغيناني ١ : ١٢٢.

(٤) أورده ابنا قدامة في المغني ٣ : ٥٣ والشرح الكبير ٣ : ٤٦ ، ونحوه في صحيح البخاري ٣ : ٤٠ ، وسنن الدار قطني ٢ : ١٧٨ - ١٧٩ / ٢٩ ، وسنن البيهقي ٤ : ٢٢٩.

٦٢

وعن عليعليه‌السلام ، قال : « لا شي‌ء على مَن أكل ناسياً »(١) .

ومن طريق الخاصة : قول الباقرعليه‌السلام : « كان أمير المؤمنينعليه‌السلام ، يقول : مَن صام فنسي فأكل وشرب فلا يفطر من أجل أنّه نسي ، فإنّما هو رزق رزقه الله فليتمّ صيامه »(٢) .

ولأنّ التكليف بالإِمساك يستدعي الشعور ، وهو منفي في حقّ الناسي ، فكان غير مكلَّف به؛ لاستحالة تكليف ما لا يطاق.

وقال ربيعة ومالك : يفطر الناسي كالعامد ؛ لأنّ الأكل ضدّ الصوم ، لأنّ الصوم كفّ ، فلا يجامعه ، وتبطل العبادة به كالناسي في الكلام في الصلاة(٣) .

ونمنع كون الأكل مطلقاً ضدّاً ، بل الضدّ هو : الأكل العمد. ونمنع بطلان الصلاة مع نسيان الكلام.

ولو فعل ذلك حالة النوم ، لم يفسد صومه ؛ لانتفاء القصد فيه والعلم ، فهو أعذر من الناسي.

أمّا الجاهل بالتحريم فإنّه غير معذور ، بل يفسد الصوم مع فعل المفطر ويكفّر.

وأمّا المـُكرَه والمتوعَّد بالمؤاخذة ، فالأقرب : فساد صومهما ، لكن لا تجب الكفّارة.

مسألة ٣٣ : قد بيّنا أنّ القصد لوصول شي‌ء إلى الجوف شرط في الإِفساد‌ ، فلو طارت ذبابة أو بعوضة إلى حلقه ، لم يفطر بذلك إجماعاً.

____________________

(١) أورده ابنا قدامة في المغني ٣ : ٥٣ ، والشرح الكبير ٣ : ٤٦ ، وانظر : سنن البيهقي ٤ : ٢٢٩.

(٢) التهذيب ٤ : ٢٦٨ / ٨٠٩.

(٣) المغني ٣ : ٥٣ ، الشرح الكبير ٣ : ٤٦ ، المدونة الكبرى ١ : ٢٠٨ ، الكافي في فقه أهل المدينة : ١٢٥ ، حلية العلماء ٣ : ١٩٧ ، اختلاف العلماء : ٦٩ ، الهداية للمرغيناني ١ : ١٢٢.

٦٣

أمّا لو وصل غبار الطريق أو غربلة الدقيق إلى جوفه ، فإن كانا غليظين ، وأمكنه التحرّز منه ، فإنّه يفسد صومه ، ولو كانا خفيفين ، لم يفطر.

والعامة لم تفصِّل ، بل قالوا : لا يفطر(١) .

ولو أمكنه إطباق فيه أو اجتناب الطريق ، لم يفطر عندهم أيضا ؛ لأنّ تكليف الصائم الاحتراز عن الأفعال المعتادة التي يحتاج اليها عسر ، فيكون منفياً(٢) ، بل لو فتح فاه عمداً حتى وصل الغبار إلى جوفه ، فأصحّ وجهي الشافعية : أنّه يقع عفواً(٣) .

ولو وُطئت المرأة قهراً ، فلا تأثير له في إفساد صومها ، وكذا لو وُجر في حلق الصائم ماء وشبهه بغير اختياره.

وللشافعي قولان فيما لو اُغمي عليه فوُجر في حلقه معالجةً وإصلاحاً ، أحدهما : أنّه يفطر ؛ لأنّ هذا الإِيجار لمصلحته ، فكأنّه بإذنه واختياره. وأصحّهما : أنّه لا يفطر ، كإيجار غيره بغير اختياره(٤) .

وهذا الخلاف بينهم مفرَّع على أنّ الصوم لا يبطل بمطلق الإِغماء ( وإلّا فالإِيجار )(٥) مسبوق بالبطلان(٦) .

وهذا الخلاف كالخلاف في المغمى عليه المـُحرِم إذا عُولج بدواء فيه طيب هل تلزمه الفدية؟(٧) .

مسألة ٣٤ : ابتلاع الريق غير مفطر عند علمائنا‌ ، سواء جمعه في فمه‌

____________________

(١) اُنظر : فتح العزيز ٦ : ٣٨٦ ، والمجموع ٦ : ٣٢٧ ، والمغني ٣ : ٥٠ - ٥١ ، والشرح الكبير ٣ : ٤٨ - ٤٩.

(٢ و ٣ ) فتح العزيز ٦ : ٣٨٦ ، المجموع ٦ : ٣٢٧ - ٣٢٨.

(٤) فتح العزيز ٦ : ٣٨٦ - ٣٨٧ ، المجموع ٦ : ٣٢٥.

(٥) ورد بدل ما بين القوسين في النسخ الخطية المعتمدة في التحقيق وفي الطبعة الحجرية : ولا بالإِيجار. وما أثبتناه - وهو الصحيح - من المصدر.

(٦) فتح العزيز ٦ : ٣٨٧.

(٧) فتح العزيز ٦ : ٣٨٧ ، المجموع ٦ : ٣٢٥.

٦٤

ثم ابتلعه ، أو لم يجمعه ، وبه قال الشافعي(١) ، وهو أصحّ وجهي الحنابلة(٢) .

أمّا إذا لم يجمعه : فلأنّ العادة تقتضي بلعه ، والتحرّز منه غير ممكن ، وبه يحيى الإِنسان ، وعليه حمل بعض المفسّرين قوله تعالى( وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْ‌ءٍ حَيٍّ ) (٣) .

وأمّا إذا جمعه : فلأنّه يصل إلى جوفه من معدنه ، فأشبه إذا لم يجمعه.

وقال بعض الحنابلة : إنّه يفطر ؛ لأنّه يمكنه التحرّز عنه ، فأشبه ما لو قصد ابتلاع غيره(٤) . وهو ممنوع.

وشرط الشافعية في عدم إفطاره شروطاً :

الأول : أن يكون الريق صرفاً‌ ، فلو كان ممزوجاً بغيره متغيّراً به ، فإنّه يفطر بابتلاعه ، سواء كان ذلك الغير طاهراً ، كما لو كان يفتل خيطاً مصبوغاً فغيّر ريقه ، أو نجساً ، كما لو دميت لثته وتغيّر ريقه.

فلو ابيضّ الريق وزال تغيّره ، ففي الإِفطار بابتلاعه للشافعية وجهان : أظهرهما عندهم : الإِفطار ؛ لأنّه لا يجوز له ابتلاعه لنجاسته ، والريق إنّما يجوز ابتلاع الطاهر منه.

والثاني : عدم الإِفطار ، لأنّ ابتلاع الريق مباح ، وليس فيه عين(٥) آخر وإن كان نجساً حكماً.

وعلى هذا لو تناول بالليل شيئاً نجساً ولم يغسل فمه حتى أصبح فابتلع الريق ، بطل صومه على الأول.

الثاني : أن يبتلعه من معدنه‌ ، فلو خرج الى الظاهر من فمه ثم ردّه بلسانه‌

____________________

(١) فتح العزيز ٦ : ٣٨٩ ، المجموع ٦ : ٣١٧.

(٢) المغني ٣ : ٤٠ ، الشرح الكبير ٣ : ٧٣.

(٣) الأنبياء : ٣٠ ، وانظر : فتح العزيز ٦ : ٣٨٩.

(٤) المغني ٣ : ٤٠ ، الشرح الكبير ٣ : ٧٣.

(٥) في الطبعة الحجرية بدل عين : شي‌ء.

٦٥

أو غير لسانه وابتلعه ، بطل صومه. وهذا عندنا كما ذكروا.

أمّا لو أخرج لسانه وعليه الريق ثم ردّه وابتلع ما عليه ، لم يبطل صومه عندنا - وهو أظهر وجهي الشافعية - لأنّ اللسان كيف ما يقلب معدود من داخل الفم ، فلم يفارق ما عليه معدنه.

فلو بلّ الخيّاط الخيط بالريق ، أو الغزّال بريقه ، ثم ردّه إلى الفم على ما يعتاد عند القتل ، فإن لم يكن عليه رطوبة تنفصل ، فلا بأس ، وإن كانت وابتلعها ، أفطر عندنا - وهو قول أكثر الشافعية - لأنّه لا ضرورة اليه وقد ابتلعه بعد مفارقة المعدن.

والثاني للشافعية : أنّه لا يفطر ؛ لأنّ ذلك القدر أقلّ ممّا يبقى من الماء في الفم بعد المضمضة.

وخصّص بعض الشافعية ، الوجهين بالجاهل بعدم الجواز ، وإذا كان عالماً يبطل صومه إجماعاً.

الثالث : أن يبتلعه وهو على هيئته المعتادة‌ ، أمّا لو جمعه ثم ابتلعه فعندنا لا يفطر ، كما لو لم يجمعه.

وللشافعية وجهان : أحدهما : أنّه يبطل صومه ؛ لإِمكان الاحتراز منه.

وأصحّهما : أنّه لا يبطل - وبه قال أبو حنيفة - لأنّه ممّا يجوز ابتلاعه ولم يخرج من معدنه ، فأشبه ما لو ابتلعه متفرّقاً(١) .

فروع :

أ - قد بيّنا أنّه لا يجوز له ابتلاع ريق غيره ولا ريق نفسه إذا انفصل عن فمه.

وما روي عن عائشة : أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يمصّ لسانها وهو‌

____________________

(١) فتح العزيز ٦ : ٣٨٩ - ٣٩١ ، المجموع ٦ : ٣١٧ - ٣١٨ ، وبدائع الصنائع ٢ : ٩٠.

٦٦

صائم(١) ، ضعيف ؛ لأنّ أبا داود قال : إنّ إسناده ليس بصحيح(٢) .

سلّمنا ، لكن يجوز أن يمصّه بعد إزالة الرطوبة عنه ، فأشبه ما لو تمضمض بماء ثم مجّه.

ب - لو ترك في فمه حصاة وشبهها وأخرجها وعليه بلّة من الريق كغيره ثم أعادها وابتلع الريق ، أفطر.

وإن كان قليلاً فإشكال ينشأ : من أنّه لا يزيد على رطوبة المضمضة ، ومن أنّه ابتلع ريقاً منفصلاً عن فمه فأفطر به كالكثير.

ج - قد بيّنا كراهة العلك ؛ لما فيه من جمع الريق في الفم وابتلاعه ، فتقلّ مشقّة الصوم ، فيقصر الثواب. ولا فرق بين أن يكون له طعم أم لا.

ولو كان مفتّتاً فوصل منه شي‌ء إلى الجوف ، بطل صومه ، كما لو وضع سكرة في فمه وابتلع الريق بعد ما ذابت فيه.

د - لو ابتلع دماً خرج من سنّه أو لثته ، أفطر ، بخلاف الريق.

ه- النخامة إذا لم تحصل في حدّ الظاهر من الفم ، جاز ابتلاعها.

وإن حصلت فيه بعد انصبابها من الدماغ في الثقبة النافذة منه إلى أقصى الفم فوق الحلقوم ، فإن لم يقدر على صرفه ومجّه حتى نزل الى الجوف ، لم يفطر ، وإن ردّه الى فضاء الفم أو ارتدّ اليه ثم ابتلعه ، أفطر عند الشافعية(٣) .

وإن قدر على قطعه من مجراه ومجّه ، فتركه حتى جرى بنفسه ، لم يفطر. وللشافعية وجهان(٤) .

و - لو تنخّع(٥) من جوفه ثم ازدرده ، فالأقرب : عدم الإِفطار ؛ لأنّه معتاد في الفم غير واصل من خارج ، فأشبه(٦) الريق.

____________________

(١) سنن أبي داود ٢ : ٣١١ - ٣١٢ / ٢٣٨٦ ، سنن البيهقي ٤ : ٢٣٤.

(٢) حكاه ابنا قدامة في المغني ٣ : ٤١ ، والشرح الكبير ٣ : ٧٤.

(٣ و ٤ ) فتح العزيز ٦ : ٣٩٣ ، المجموع ٦ : ٣١٩.

(٥) النخاعة : النخامة. الصحاح ٣ : ١٢٨٨.

(٦) في هامش « ن » : بخطّه [ أي المصنّف ] : أشبه.

٦٧

وقال الشافعي : إنّه يفطر ؛ لأنّه يمكنه(١) التحرّز منه ، فأشبه الدم ، ولأنّها من غير الفم فأشبه(٢) القي‌ء(٣) . وعن احمد روايتان(٤) .

مسألة ٣٥ : لا يفطر بالمضمضة والاستنشاق مع التحفّظ إجماعاً‌ ، سواء كان في الطهارة أو غيرها.

ولأنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال للسائل عن القُبلة : ( أرأيت لو تمضمضت بماء ثم مججته أكنت مفطراً؟)(٥) .

ولأنّ الفم في حكم الظاهر ، فلا يبطل الصوم بالواصل اليه كالأنف والعين.

أمّا لو تمضمض للصلاة ، فسبق الماء الى جوفه ، أو استنشق ، فسبق الى دماغه من غير قصد ، لم يفطر عند علمائنا(٦) - وبه قال الأوزاعي وأحمد وإسحاق والشافعي في أحد القولين ، وهو مروي عن ابن عباس(٧) - لأنّه وصل الماء الى جوفه من غير قصد ولا إسراف ، فأشبه ما لو طارت الذبابة فدخلت حلقه.

ولأنّه وصل بغير اختياره ، فلا يفطر به كالغبار.

وللشافعية طريقان : أصحّهما عندهم : أنّ المسألة على قولين ، أحدهما : أنّه يفطر - وبه قال مالك وأبو حنيفة(٨) - لأنّه وصل الماء الى جوفه‌

____________________

(١) في « ن ، ف » : أمكنه.

(٢) في « ن ، ط » : أشبه.

(٣) المغني ٣ : ٤١ ، الشرح الكبير ٣ : ٧٤.

(٤) المغني ٣ : ٤١ ، الشرح الكبير ٣ : ٧٤ - ٧٥.

(٥) سنن أبي داود ٢ : ٣١١ / ٢٣٨٥ ، سنن الدارمي ٢ : ١٣ ، سنن البيهقي ٤ : ٢٦١ ، المصنّف - لابن أبي شيبة - ٣ : ٦١ ، المستدرك - للحاكم - ١ : ٤٣١ بتفاوت.

(٦) في « ف » : عندنا.

(٧) المغني ٣ : ٤٢ ، الشرح الكبير ٣ : ٥٠ - ٥١ ، المجموع ٦ : ٣٢٦ و ٣٢٧ ، فتح العزيز ٦ : ٣٩٣.

(٨) المغني ٣ : ٤٢ ، الشرح الكبير ٣ : ٥١ ، المجموع ٦ : ٣٢٧ ، فتح العزيز ٦ : ٣٩٣ ، =

٦٨

بفعله ، فإنّه الذي أدخل الماء في فمه وأنفه. والثاني - وبه قال أحمد(١) - أنّه لا يفطر.

والثاني : القطع بأنّه لا يفطر.

وعلى القول بطريقة القولين ، فما محلّهما؟ فيه ثلاث طرق ، أصحّها عندهم : أنّ القولين فيما إذا لم يبالغ في المضمضة والاستنشاق ، فأمّا إذا بالغ أفطر بلا خلاف.

وثانيها : أنّ القولين فيما إذا بالغ ، أمّا إذا لم يبالغ فلا يفطر بلا خلاف.

والفرق على الطريقين : أنّ المبالغة منهي عنها ، وأصل المضمضة والاستنشاق مرغّب فيه ، فلا يحسن مؤاخذته بما يتولّد منه بغير اختياره.

والثالث : طرد القولين في الحالتين ، فإذا تميّزت حالة المبالغة عن حالة الاقتصار على أصل المضمضة والاستنشاق ، حصل عند المبالغة للشافعي قولان مرتّبان ، لكن ظاهر مذهبهم عند المبالغة الإِفطار ، وعند عدمها الصحّة(٢) .

هذا إذا كان ذاكراً للصوم ، أمّا إذا كان ناسياً فإنّه لا يفطر بحال.

وسبق الماء عند غسل الفم من النجاسة كسبقه في المضمضة ، وكذا عند غسله من أكل الطعام.

ولو تمضمض للتبرّد ، فدخل الماء حلقه من غير قصد ، أفطر ، لأنّه غير مأمور به.

مسألة ٣٦ : قد بيّنا أنّ الأكل والشرب ناسياً غير مفطر عند علمائنا(٣) ‌سواء قلّ أكله أو كثر.

____________________

= المدونة الكبرى ١ : ٢٠٠ ، تحفة الفقهاء ١ : ٣٥٤ ، بدائع الصنائع ٢ : ٩١‌.

(١) المغني ٣ : ٤٢ ، الشرح الكبير ٣ : ٥٠ ، فتح العزيز ٦ : ٣٩٣ ، المجموع ٦ : ٣٢٧.

(٢) فتح العزيز ٦ : ٣٩٣ - ٣٩٤.

(٣) في النسخ الخطية المعتمدة في التحقيق : عندنا. وما أثبتناه من الطبعة الحجرية.

٦٩

وقال مالك : إنّه يفطر(١) . وللشافعي فيما إذا كثر أكله ناسياً قولان(٢) .

ولو أكل جاهلاً ، أفسد صومه.

وقال الشافعي : إن كان قريب العهد بالإِسلام ، أو كان قد نشأ في بادية ، وكان يجهل مثل ذلك ، لم يبطل صومه ، وإلّا بطلِ(٣) .

ولو جامع ناسياً للصوم ، لم يفطر عندنا. وللشافعية طريقان ، أصحّهما : القطع بأنّه لا يبطل. والثاني : أنّه يخرّج على قولين(٤) .

مسألة ٣٧ : إذا أجنب الصائم ليلاً في رمضان أو المعيّن ثم نام‌ ، فإن كان على عزم ترك الاغتسال واستمرّ به النوم الى أن أصبح ، وجب عليه القضاء والكفّارة.

وإن نام على عزم الاغتسال ثم استيقظ ثانياً ثم نام ثالثاً بعد انتباهتين ، وجب القضاء والكفّارة أيضاً.

وإن نام من أول مرة عازماً على الاغتسال فطلع الفجر ، لم يكن عليه شي‌ء.

وإن نام ثانياً ، واستمرّ به النوم على عزم الاغتسال حتى طلع الفجر ، وجب عليه القضاء خاصة ، لأنّ ابن أبي يعفور سأل الصادقعليه‌السلام : الرجل يجنب في رمضان ثم يستيقظ ثم ينام حتى يصبح ، قال : « يتمّ يومه(٥) ويقضي يوماً آخر ، فإن لم يستيقظ حتى يُصبح أتمّ يومه وجاز له »(٦) .

ولأنّه فرّط في الاغتسال ، فوجب عليه القضاء ، ولا تجب الكفّارة ؛ لأنّ المنع من النومة الاُولى تضييق على المكلّف.

مسألة ٣٨ : لو ظنّ بقاء الليل ، فأكل أو شرب أو جامع‌ ، وبالجملة‌

____________________

(١) المغني ٣ : ٥٣ ، الشرح الكبير ٣ : ٤٦ ، حلية العلماء ٣ : ١٩٧ ، المجموع ٦ : ٣٢٤ ، فتح العزيز ٦ : ٤٠١.

(٤-٢) فتح العزيز ٦ : ٤٠١ ، المجموع ٦ : ٣٢٤.

(٥) في التهذيب والفقيه والطبعة الحجرية : صومه.

(٦) الاستبصار ٢ : ٨٦ / ٢٦٩ ، التهذيب ٤ : ٢١١ / ٦١٢ ، والفقيه ٢ : ٧٥ / ٣٢٣.

٧٠

فَعَل الـمُفطرَ ، ثم ظهر له أنّ فعله صادف النهار ، وأنّ الفجر قد كان طالعاً ، فإن كان قد رصد الفجر وراعاه فلم يتبيّنه ، أتمّ صومه ، ولا شي‌ء عليه.

وإن لم يرصد الفجر مع القدرة على المراعاة ثم تبيّن أنّه كان طالعاً ، وجب عليه إتمام الصوم والقضاء خاصة ، ولا كفّارة عليه ؛ لأنّه مُفرِّط بترك المراعاة ، فوجب القضاء ؛ لإِفساده الصوم بفعل الـمُفطر ، ولا كفّارة ؛ لعدم الإِثم ، وأصالة البقاء.

وأمّا مع المراعاة : فلأنّ الأصل بقاء الليل ، وقد اعتضد بالمراعاة ، فكان التناول جائزاً له مطلقاً ، فلا فساد حينئذٍ ، وجرى مجرى الساهي.

وسُئل الصادقعليه‌السلام ، عن رجل تسحّر ثم خرج من بيته وقد طلع الفجر وتبيّن ، فقال : « يتمّ صومه ذلك ثم ليقضه »(١) .

وإن تسحّر في غير شهر رمضان بعد الفجر أفطر.

والعامّة لم يفصّلوا ، بل قال الشافعي : لا كفّارة عليه مطلقاً ، سواء رصد أو لم يرصد مع ظنّ الليل ، وعليه القضاء ، وهو قول عامة الفقهاء(٢) ، إلّا إسحاق به راهويه وداود ؛ فإنّهما قالا : لا يجب عليه القضاء(٣) . وهو مذهب الحسن ومجاهد وعطاء وعروة(٤) .

وقال أحمد : إذا جامع بظنّ أنّ الفجر لم يطلع ويبيّن أنّه كان طالعاً ، وجب عليه القضاء والكفّارة مطلقاً(٥) . ولم يعتبر المراعاة.

واحتجّ مُوجبو القضاء مطلقاً : بأنّه أكل مختاراً ، ذاكراً للصوم فأفطر ، كما لو أكل يوم الشك ، ولأنّه جهل وقت الصيام ، فلم يعذر به ، كالجهل بأول رمضان.

____________________

(١) الكافي ٤ : ٩٦ / ١ ، التهذيب ٤ : ٢٦٩ / ٨١٢ ، الاستبصار ٢ : ١١٦ / ٣٧٩.

(٤-٢) المجموع ٦ : ٣٠٦ و ٣٠٩ ، المغني ٣ : ٧٦ ، الشرح الكبير ٣ : ٥٣ ، حلية العلماء ٣ : ١٩٣.

(٥) المغني ٣ : ٦٥ ، الشرح الكبير ٣ : ٦٧.

٧١

واحتجّ الآخرون : بما رواه زيد بن وهب ، قال : كنت جالساً في مسجد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، في رمضان في زمن عمر ، فاُتينا بعِساسٍ(١) فيها شراب من بيت حفصة ، فشربنا ونحن نرى أنّه من الليل ، ثم انكشف السحاب ، فإذا الشمس طالعة ، قال : فجعل الناس يقولون : نقضي يوماً مكانه ، فقال عمر : والله لا نقضيه ، ما تجانَفْنا(٢) لإِثم(٣) .

والجواب : المنع من الأكل في رمضان عالماً مع المراعاة. وقول عمر ليس حجّةً.

واحتجّ أحمد : بأنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أمر المجامع بالتكفير من غير تفصيل(٤) .

والأمر إنّما كان للهتك ؛ لأنّ الأعرابي شكى كثرة الذنب وشدّة المؤاخذة ، وذلك إنّما يكون مع قصد الإِفطار.

مسألة ٣٩ : لو أخبره غيره بأنّ الفجر لم يطلع‌ ، فقلَّده وترك المراعاة مع قدرته عليها ، ثم فعل المفطر وكان الفجر طالعاً ، وجب عليه القضاء خاصة ؛ لأنّه مفرّط بترك المراعاة ، فأفسد صومه ، ووجب القضاء ، والكفّارة ساقطة عنه ؛ لأنّه بناء على أصالة بقاء الليل وعلى صدق الـمُخبر الذي هو الأصل في المسلم.

وسأل معاوية بن عمّار ، الصادقعليه‌السلام : آمُر الجارية أن تنظر طلعِ الفجر أم لا ، فتقول : لم يطلع ، فآكل ثم أنظر(٥) فأجده قد طلعِ حين نَظَرَتْ ، قال : « تتمّ يومك(٦) وتقضيه ، أمّا انّك لو كنت أنت الذي نظرت ما كان عليك‌

____________________

(١) العُسُّ : القدح الكبير. وجمعه عِساس وأعساس. النهاية - لابن الأثير - ٣ : ٢٣٦.

(٢) الجَنَفُ : الـمَيل. لسان العرب ٩ : ٣٢.

(٣) سنن البيهقي ٤ : ٢١٧ وأورده ابنا قدامة في المغني ٣ : ٧٦ - ٧٧ ، والشرح الكبير ٣ : ٥٣.

(٤) المغني ٣ : ٦٦ ، الشرح الكبير ٣ : ٦٧.

(٥) في الكافي و « ف » : أنظره.

(٦) في النسخ المعتمدة في التحقيق وفي الطبعة الحجرية : يومه. وما أثبتناه من الكافي =

٧٢

قضاؤه »(١) .

ولو أخبره غيره بطلوع الفجر فظنّ كذبه ، فتناول الـمُفطرَ وكان الفجر طالعاً ، وجب القضاء ؛ للتفريط بترك المراعاة مع القدرة ، ولا كفّارة عليه ؛ لعدم الإِثم ؛ لأصالة بقاء الليل.

وسأل عيص بن القاسم ، الصادقعليه‌السلام ، عن رجل خرج في شهر رمضان وأصحابه يتسحّرون في بيت ، فنظر الى الفجر فناداهم ، فكفّ بعضهم ، وظنّ بعضهم أنّه يسخر فأكل ، قال : « يتمّ صومه ويقضي »(٢) .

ولا فرق بين أن يكون المخبر عدلاً أو فاسقاً ؛ للإِطلاق.

ولو أخبره عدلان بطلوع الفجر فلم يكفّ ، ثم ظهر أنّه كان طالعا ، فالأقرب : وجوب القضاء والكفّارة ؛ لأنّ قولهما معتبر في نظر الشرع ، يجب العمل به ، فتترتّب عليه توابعه.

مسألة ٤٠ : لو أفطر لظلمة عرضت توهّم منها دخول الليل ثم ظهر مصادفته للنهار ، وجب القضاء خاصة‌ ؛ لتفريطه حين بنى على وهمه.

ولو ظنّ دخول الليل لظلمة عرضت إمّا لغيم أو غيره ، فأفطر ثم تبيّن فساد ظنّه ، أتمّ صومه ، ووجب عليه القضاء عند أكثر علمائنا(٣) - وهو قول العامة(٤) - لأنّه تناول ما يفسد الصوم عامداً ، فوجب عليه القضاء ، ولا كفّارة ؛ لحصول الشبهة.

ولما رواه العامة عن حنظلة ، قال : كنّا في شهر رمضان وفي السماء سحاب ، فظننّا أنّ الشمس غابت ، فأفطر بعضنا ، فأمر عمر مَن كان أفطر أن‌

____________________

= و التهذيب.

(١) الكافي ٤ : ٩٧ / ٣ ، التهذيب ٤ : ٢٦٩ / ٨١٣ ، ونحوه في الفقيه ٢ : ٨٣ / ٣٦٨‌

(٢) الكافي ٤ : ٩٧ / ٤ ، التهذيب ٤ : ٢٧٠ / ٨١٤ ، والفقيه ٢ : ٨٣ / ٣٦٧.

(٣) كالشيخ المفيد في المقنعة : ٥٧ ، وأبي الصلاح الحلبي في الكافي في الفقه : ١٨٣.

(٤) كما في المعتبر : ٣٠٧.

٧٣

يصوم مكانه(١) .

ومن طريق الخاصة : ما رواه أبو بصير عن الصادقعليه‌السلام ، في قوم صاموا شهر رمضان ، فغشيهم سحاب أسود عند غروب الشمس ، فرأوا أنّه الليل ، فقال : « على الذي أفطر صيام ذلك اليوم ، إنّ الله عزّ وجلّ يقول :( ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ ) (٢) فمن أكل قبل أن يدخل الليل فعليه قضاؤه ، لأنّه أكل متعمّداً »(٣) .

وللشيخ - قول آخر : إنّه يمسك ولا قضاء عليه(٤) ؛ لأنّ أبا الصباح الكناني سأل الصادقعليه‌السلام ، عن رجل صام ثم ظنّ أنّ الشمس قد غابت وفي السماء علّة فأفطر ، ثم إنّ السحاب انجلى فإذا الشمس لم تغب ، فقال : « قد تمّ صومه ولا يقضيه »(٥) .

والحديث ضعيف السند ؛ لأنّ فيه محمد بن الفضيل وهو ضعيف.

واعلم : أنّه فرقٌ بين بقاء الليل ودخوله ؛ فإنّ الأول اعتضد بأصالة البقاء ، والثاني اعتضد بضدّه ، وهو : أصالة عدم الدخول ، مع أنّه متمكّن من الصبر الى أن يحصل اليقين.

واعلم : أنّ المزني نقل عن الشافعي : أنّه لو أكل على ظنّ أنّ الصبح لم يطلع بعدُ ، أو أنّ الشمس قد غربت وكان غالطاً فيه ، لا يجزئه صومه ، ووافقه أصحابه على روايته في الصورة الثانية.

وأنكر بعضهم الاُولى ، وقال : لا يوجد ذلك في كتب الشافعي ، ومَذهَبُه أنّه لا يبطل الصوم إذا ظنّ أنّ الصبح لم يطلع بعدُ ؛ لأصالة بقاء الليل ،

____________________

(١) أورده المحقّق في المعتبر : ٣٠٧ ونحوه في سنن البيهقي ٤ : ٢١٧.

(٢) البقرة : ١٨٧.

(٣) الكافي ٤ : ١٠٠ ( باب من ظنّ أنّه ليل فأفطر قبل الليل ) الحديث ٢ ، التهذيب ٤ : ٢٧٠ / ٨١٥ ، الاستبصار ٢ : ١١٥ / ٣٧٧.

(٤) التهذيب ٤ : ٢٧٠ ذيل الحديث ٨١٥ ، والاستبصار ٢ : ١١٦.

(٥) الاستبصار ٢ : ١١٥ / ٣٧٤ ، التهذيب ٤ : ٢٧٠ - ٢٧١ / ٨١٦ ، والفقيه ٢ : ٧٥ / ٣٢٦.

٧٤

بخلاف آخر النهار ؛ فإنّ الأصل بقاء النهار ، فالغلط في الاُولى معذور ، دون الثانية.

ومنهم مَن صحّح الروايتين ، وقال : لعلّه نقله سماعاً ؛ لأنّه تحقّق خلاف ظنّه ، واليقين مقدّم على الظنّ ، ولا يبعد استواء حكم الغلط في دخول الوقت وخروجه ، كما في الجمعة(١) .

إذا عرفت هذا ، فالأحوط للصائم الإِمساك عن الإِفطار حتى يتيقّن الغروب ؛ لأصالة بقاء النهار ، فيستصحب الى أن يتيقّن خلافه.

ولو اجتهد وغلب على ظنّه دخول الليل ، فالأقرب : جواز الأكل.

وللشافعية وجهان : هذا أحدهما ، والثاني : لا يجوز ؛ لقدرته على تحصيل اليقين(٢) .

وأمّا في أول النهار فيجوز الأكل بالظنّ والاجتهاد ؛ لأصالة بقاء الليل.

ولو أكل من غير يقين ولا اجتهاد ، فإنّ تبيّن له الخطأ ، فالحكم ما تقدّم ، وإن تبيّن الصواب ، فقد استمرّ الصوم على الصحّة.

لا يقال : مقتضى الدليل عدم صحّة الصوم ، كما لو صلّى في الوقت مع الشك في دخوله ، وكما لو شكّ في القبلة من غير اجتهاد ، وتبيّن له الصواب ، لا تصحّ صلاته.

لأنّا نقول : الفرق : أنّ ابتداء العبادة وقع في حال الشك فمنع الانعقاد ، وهنا انعقدت العبادة على الصحّة وشك في أنّه هل أتى بما يفسدها ثم تبيّن عدمه.

ولو استمرّ الإِشكال ، ولم يتبيّن الخطأ من الصواب ، فالأقرب : وجوب القضاء لو أفطر آخر النهار ؛ لأصالة البقاء ، ولم يبن الأكل على أمر يعارضه.

____________________

(١) فتح العزيز ٦ : ٤٠١.

(٢) فتح العزيز ٦ : ٤٠٢ ، المجموع ٦ : ٣٠٦.

٧٥

وإن اتّفق في أوله ، فلا قضاء ؛ لأصالة بقاء الليل.

ونقل عن مالك : وجوب القضاء في هذه الصورة أيضاً ؛ لأصالة بقاء الصوم في ذمته ، فلا يسقط بالشك(١) .

والأقوى ما قلناه من جواز الأكل حتى يتبيّن الطلوع أو يظنّه - وبه قال ابن عباس وعطاء والأوزاعي والشافعي وأحمد وأصحاب الرأي(٢) - لقوله تعالى :( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ ) (٣) .

وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، يقول : ( فكلوا واشربوا حتى يؤذّن ابن اُمّ مكتوم )(٤) وكان أعمى لا يؤذّن حتى يقال له : أصبحت.

والسقوط إنّما هو بعد الثبوت ، والصوم مختص بالنهار.

مسألة ٤١ : القي‌ء عامداً يوجب القضاء خاصة‌ عند أكثر علمائنا(٥) وأكثر العامة(٦) ؛ لما رواه العامة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( مَن ذرعه القي‌ء وهو صائم فليس عليه قضاء ، وإن استقاء فليقض)(٧) .

ومن طريق الخاصة : قول الصادقعليه‌السلام : « إذا تقيّأ الصائم فقد‌

____________________

(١) فتح العزيز ٦ : ٤٠٢ - ٤٠٣ ، المجموع ٦ : ٣٠٦ ، والكافي في فقه أهل المدينة : ١٣٠ ، المغني ٣ : ٧٧ ، الشرح الكبير ٣ : ٥٢.

(٢) المغني ٣ : ٧٧ ، الشرح الكبير ٣ : ٥٢ ، المجموع ٦ : ٣٠٦ ، فتح العزيز ٦ : ٤٠١ ، الهداية للمرغيناني ١ : ١٢٩ - ١٣٠ ، تحفة الفقهاء ١ : ٣٦٥ - ٣٦٦ ، بدائع الصنائع ٢ : ١٠٥.

(٣) البقرة : ١٨٧.

(٤) صحيح البخاري ٣ : ٣٧ ، صحيح مسلم ٢ : ٧٦٨ - ٣٨.

(٥) منهم : الشيخ الطوسي في النهاية : ١٥٥ ، والمبسوط ١ : ٢٧١ - ٢٧٢ ، وأبو الصلاح الحلبي في الكافي في الفقه : ١٨٣ ، والقاضي ابن البرّاج في المهذب ١ : ١٩٢ ، والمحقق الحلّي في شرائع الإِسلام ١ : ١٩٢ ، والمعتبر : ٣٠٨.

(٦) المغني ٣ : ٥٤ ، المجموع ٦ : ٣١٩ - ٣٢٠.

(٧) سنن أبي داود ٢ : ٣١٠ / ٢٣٨٠ ، سنن البيهقي ٤ : ٢١٩.

٧٦

أفطر ، وإن ذرعه من غير أن يتقيّأ فليتمّ صومه »(١) .

وقال أبو ثور : لو تعمّد القي‌ء وجب القضاء والكفّارة(٢) ؛ لأنّه سلوك في مجرى الطعام ، فكان موجباً للقضاء والكفّارة كالأكل.

وهو معارض بالروايات وأصالة البراءة.

ولو ذرعه القي‌ء ، فلا قضاء عليه ولا كفّارة بإجماع علمائنا - وهو قول كلّ من يحفظ عنه العلم(٣) - لأنّه فعل حصل بغير اختياره. وللروايات(٤) .

وروي عن الحسن البصري : وجوب القضاء خاصة(٥) . وهو خارق للإِجماع.

مسألة ٤٢ : إذا طلع الفجر وهو مُجامعٌ فاستدام الجماع ، وجب عليه القضاء والكفّارة عند علمائنا‌ - وبه قال مالك والشافعي وأحمد(٦) - لأنّه ترك صوم رمضان بجماع أثم به ؛ لحرمة الصوم ، فوجبت به الكفّارة ، كما لو وطأ بعد طلوع الفجر.

وقال أبو حنيفة : يجب عليه القضاء دون الكفّارة ؛ لأنّ وطأه لم يصادف صوماً صحيحاً ، فلم يوجب الكفّارة ، كما لو ترك النيّة وجامع(٧) .

والأصل ممنوع ، مع أنّ تركه للصوم لترك النية ، لا للجماع.

فأمّا لو نزع في الحال فأقسامه ثلاثة :

____________________

(١) الكافي ٤ : ١٠٨ / ٢ ، التهذيب ٤ : ٢٦٤ / ٧٩١.

(٢) المجموع ٦ : ٣٢٠ ، معالم السنن - للخطابي - ٣ : ٢٦١.

(٣) المجموع ٦ : ٣٢٠ ، المغني ٣ : ٥٤.

(٤) الكافي ٤ : ١٠٨ / ١ - ٣ ، التهذيب ٤ : ٢٦٤ / ٧٩٠ و ٧٩١.

(٥) المجموع ٦ : ٣٢٠ ، حلية العلماء ٣ : ١٩٦.

(٦) المغني ٣ : ٦٥ ، الشرح الكبير ٣ : ٦٦ ، المهذب للشيرازي ١ : ١٩١ - ١٩٢ ، المجموع ٦ : ٣٠٩ و ٣٣٨ ، فتح العزيز ٦ : ٤٠٤ ، حلية العلماء ٣ : ٢٠٢.

(٧) بدائع الصنائع ٢ : ٩١ ، المغني ٣ : ٦٥ ، الشرح الكبير ٣ : ٦٦ ، فتح العزيز ٦ : ٤٠٤ ، حلية العلماء ٣ : ٢٠٢.

٧٧

الأول : أن يحسّ وهو مُجامعٌ بعلامات الصبح ، فينزع بحيث يوافق آخر النزع ابتداء الطلوع.

الثاني : أن يطلع الصبح وهو مُجامعٌ ويعلم بالطلوع كما طلع ، وينزع كما علم.

الثالث : أن يمضي زمان بعد الطلوع ثم يعلم به ، ففي الثالثة الصوم باطل - وبه قال الشافعي(١) - وإن نزع كما علم ؛ لأنّ بعض النهار قد مضى وهو مشغول بالجماع.

والوجه : أنّه إن تمكّن من المراعاة ولم يُراع وصادف الجماعُ النهارَ ، وجب عليه القضاء.

وعلى القول الصحيح للشافعية : أنّه لو مكث في هذه الصورة ، فلا كفّارة عليه ، لأنّ مكثه مسبوق ببطلان الصوم(٢) .

وأمّا الصورتان الأُوليان ، فعندنا أنّه إن كان قد راعى ولم يفرط بترك المراعاة ، لا قضاء عليه ، وإلّا وجب القضاء.

وعند الشافعي يصحّ صومه مطلقاً(٣) ، ولم يعتبر المراعاة.

وله قول آخر : إنّ الصورة الاُولى يصحّ صومه فيها(٤) ؛ لأنّ آخر النزع وافق ابتداءَ الطلوع ، فلم يحصل النزع في النهار.

وهذا عندنا باطل ؛ لأنّا نوجب الطهارة في ابتداء الصوم.

وأمّا إذا طلع ثم نزع ، فسد صومه عندنا وعند الشافعي(٥) ؛ لأنّ الإِخراج يستلزم التلذّذ ، فيكون مُجامعاً.

وقال مالك وأحمد : لا يفسد صومه ؛ لأنّ النزع ترك الجماع ، فلا يتعلّق به ما يتعلّق بالجماع ، كما لو حلف أن لا يلبس ثوباً هو لابسه فنزعه في الحال ، لا يحنث(٦) .

____________________

(٥-١) المجموع ٦ : ٣٠٩ ، فتح العزيز ٦ : ٤٠٣.

(٦) فتح العزيز ٦ : ٤٠٣ - ٤٠٤.

٧٨

وهو فاسد عندنا ؛ لما قدّمناه من وجوب الطهارة.

ولو طلع الفجر وعلم به كما طلع ، ومكث فلم ينزع ، فسد صومه ، وبه قال الشافعي(١) .

وتجب عليه الكفّارة عندنا ، خلافاً للشافعي في أحد القولين(٢) .

( وذكر فيما )(٣) إذا قال لامرأته : إن وطأتكِ فأنتِ طالق ثلاثاً ، فغيَّب الحشفة ، وطلّقت ، ومكث : أنّه لا يجب المهر(٤) .

واختلف أصحابه على طريقين : أحدهما : أنّ فيهما قولين نقلاً وتخريجاً ، أحدهما : وجوب الكفّارة هنا والمهر ثَمَّ ، كما لو نزع وأولج ثانياً.

والثاني : لا يجب واحد منهما ، لأنّ ابتداء الفعل كان مباحاً.

وأصحّهما : القطع بوجوب الكفّارة ونفي المهر.

والفرق : أنّ ابتداء الفعل لم يتعلّق به الكفّارة ، فتتعلّق بانتهائه حتى لا يخلو الجماع في نهار رمضان عمداً عن الكفّارة ، والوطء ثَمَّ غير خالٍ عن المقابلة بالمهر ؛ لأنّ المهر في النكاح يقابل جميع الوطآت(٥) .

وقال أبو حنيفة : لا تجب الكفّارة بالمكث(٦) . واختاره المزني من الشافعية(٧) .

ووافقنا مالك وأحمد على الوجوب(٨) .

والخلاف جارٍ فيما إذا جامع ناسياً ثمّ تذكّر الصوم واستدام.

____________________

(١و٢) المجموع ٦ : ٣٠٩ و ٣٣٨ ، فتح العزيز ٦ : ٤٠٤.

(٣) في النسخ الخطية الثلاث « ط ، ف ، ن » والطبعة الحجرية : وذكرهما. والصحيح ما أثبتناه.

(٤و٥) فتح العزيز ٦ : ٤٠٤ ، المجموع ٦ : ٣٣٩.

(٨-٦) فتح العزيز ٦ : ٤٠٤.

٧٩

تنبيهٌ:

قيل : كيف يعرف طلوع الفجر المجامع(١) وشبهه؟ فإنّه متى عرف الطلوع كان الطلوع الحقيقي متقدّماً عليه.

اُجيب بأمرين :

أحدهما : أنّ المسألة موضوعة على التقدير ، كما هو عادة الفقهاء في أمثالها.

والثاني : إنّا تعبّدنا بما نطّلع عليه ، ولا معنى للصبح إلّا ظهور الضوء للناظر ، وما قبله لا حكم له.

فإذا كان الشخص عارفاً بالأوقات ومنازل القمر ، وكان بحيث لا حائل بينه وبين مطلع الفجر ورصد ، فمتى أدرك فهو أول الصبح الذي اعتبره الشارع(٢) ، وقد نبّه الله تعالى عليه بقوله( حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ ) (٣) .

مسألة ٤٣ : قد بيّنا أنّ ماء مضمضة الصلاة والاستنشاق لها‌ لو سبق إلى الحلق من غير قصد ، لم يفسد صومه ، ولا كفّارة فيه - ولو كان للتبرّد أو العبث ، وجب عليه القضاء خاصة عند علمائنا - لأنّه في الصلاة فعل مشروعاً ، فلا تترتّب عليه عقوبة ؛ لعدم التفريط شرعا ، وفي التبرّد والعبث فرَّط بتعريض الصوم للإِفساد بإيجاد ضدّه ، وهو : عدم الإِمساك ، فلزمه العقوبة ؛ للتفريط.

ولا كفّارة عليه ؛ لأنّ سماعة سأله عن رجل عبث بالماء يتمضمض به من عطش ، فدخل حلقه ، قال : « عليه قضاؤه ، وإن كان في وضوئه فلا‌

____________________

(١) في النسخ الخطية الثلاث « ط ، ف ، ن » : للمجامع. وما أثبتناه من الطبعة الحجرية.

(٢) تعرض للسؤال والجواب ، الرافعي في فتح العزيز ٦ : ٤٠٤ - ٤٠٥ ، والنووي في المجموع ٦ : ٣٠٩.

(٣) البقرة : ١٨٧.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493