المنتخب للطريحي المنتخب في جمع المراثي والخطب المشتهر بـ (الفخري) الجزء ١

المنتخب للطريحي المنتخب في جمع المراثي والخطب المشتهر بـ (الفخري)18%

المنتخب للطريحي المنتخب في جمع المراثي والخطب المشتهر بـ (الفخري) مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 220

الـمُنتخب في جمع المراثي والخطب المشتهر بـ (الفخري) الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 220 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 36807 / تحميل: 5167
الحجم الحجم الحجم
المنتخب للطريحي المنتخب في جمع المراثي والخطب المشتهر بـ (الفخري)

المنتخب للطريحي المنتخب في جمع المراثي والخطب المشتهر بـ (الفخري) الجزء ١

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

وأمطر في كل البلاد صواعقاً

وهبت له ريح من الشر زعزع

فلم ينج منهم غير من باع دينه

وقال بما يرضي الضلوع ويقنع

ولا عز إلّا من أتى بنميمة

ولا ذل إلّا مؤون متورع

منازل أهل الجور في كل بلدة

عمار وأهل العدل في تلك بلقع

يقولون في أرض العراق مشعشع

وهل بقعة إلّا وفيها مشعشع

فلا فرق إلّا عجزهم واقتداره

وظلمهم فيما يطيقون اشنع

لقد صاقت الآفاق وارتق الفضا

فليس لأهل الدين في الأرض موضع

فهل عامر في الأرض بل أو مفازة

وليس لها في الظلم جمع مجمع

وما سن فيها الظلم إلّا عصابة

تقول على آل النّبي تجمع

فأولهم نسل القحافي حبتر

لئيم له في اللؤم أصل وموضع

أبوه دعى لابن جذعان خادم

وحبترة أدنى محل وأوضع

وتابعه ابن الصهاكي أدلم

عتل زنيم فاجر متبدع

إذا كان منسوباً لسبع

فهل عجب فيما يقول ويصنع

وتابعه في الظلم آل اُميّة

تواطوا على ظلم الوصي وأجمعوا

فلم يتركوا للدين أصلاً يقله

ولم يتركوا فرعاً له يتفرع

وقادوا عليّاً في حمائل سيفه

وكسر أسيافاً لقوم وأضلع

كسيف زبير ثمّ ضلع ابن ياسر

وضلع ابن مسعود وللصحف قطع

إذا فعلوا هذا بأصحاب أحمد

وقالوا لنا إن الصحابة أجمعوا

على حبتر ثمّ ارتضوه أميرهم

فهل عاقل يرضى بهذا ويقنع

وفاطمة الزّهراء حازوا تراثها

عناداً فجاءت حبتراً تتشفع

فقال أبوك المصطفى قال معلناً

بأن أولي القربى من الإرث يمنعوا

فقالت فهاتوا نحلتي وعطيتي

فقالوا لها هل شاهد لك يسمع

فقالت شهودي أذهب الرجس عنهم

لهم آية التطهير ما فيه مدفع

هم حيدر وابناه مع اُمّ أيمن

فهل لك في رد الشهادة مطمع

فقال لها ظلماً وكفراً وقسوة

فلسنا بقول البعل والابن نقنع

فلما رأت تصميمه في ضلاله

وليس عن العصيان أو الظلم يقلع

١٤١

فقامت وأنت عند ذلك أنة

يكاد لها صم الصفا يتصدع

وتابعت الزفرات والنوح والبكا

إلى أن قضت لم يرق للطهر مدمع

فيا عجباً من رده لشهودها

وقول أناس ليس في الكفر تطمع

ألم يفقهوا أقواله وفعاله

ألم ينظروا يا ويلهم ثمّ يسمعوا

فهل رد إلّا من نفى الرجس عنهم

ورد الذي قد جاء بالوحي يصدع

يزكي إله العالمين وأحمد

أناساً ويأتي نغل تيم ويمنع

فتباً لها من اُمة ضل سعيها

توالي كفراً بالإله وتتبع

وأعظم من كل الرزايا رزية

مصارع يوم الطّفّ أدهى واشنع

بها لبس الدين الحنيفي خلعة

من الذل لا تبلى ولا تتقطع

فما أنس لا أنس الحُسين ورهطه

وعترته بالطف ظلماً تصرع

ولم أنسه والشمر من فوق رأسه

يهشم صدراً وهو للعلم مجمع

ولم أنس مظلوماً ذبيحاً من القنا

وقد كان نور الله في الأرض يلمع

يقبله الهادي النّبي بنحره

وموضع تقبيل النّبي يقطع

إذا حز عضو منه نادى بجده

وشمر على تصميمه ليس يرجع

وميز عنه الرأس ظلماً وقسوة

ولا عينه تندو ولا القلب يخشع

تزلزلت الأفلاك من كل جانب

تكاد السما تنقض والأرض تقلع

وعرج جبرائيل ينوح بحرقة

ويشجي أملاك السما ويفجع

وضجت أملاك السّماء وتناوحت

طيور الفلا والوحش والجن أجمع

وجئن كريمات الرّسول حواسراً

ولم يبق جيب لا يشق ويرقع

تقبل جثمان الحُسين سكينة

وشمر لها بالسوط ضرباً يقنع

فيؤلمها ضرب السياط فتلتجي

لعمتها من حيث بالضرب توجع

تقول له يا شمر ويحك خلها

إذا كان بالتقبيل ترضى وتقنع

وترفع صوتاً اُمّ كلثوم بالبكا

وتشكو إلى الله العلي وتضرع

وتندب من عظم الرزية جدها

فلو جدنا ينظر إلينا ويسمع

أيا جدنا نشكو إليك اُميّة

فقد بالغوا في ظلمنا وتبدعوا

أيا جدنا لو أن رأيت مصابنا

لكنت ترى أمراً له الصخر يصدع

أيا جدنا هذا الحُسين معفراً

على الترب محزوز الوريدين مقطع

١٤٢

فجثمانه تحت الخيول ورأسه

عناداً بأطراف الأسنة برقع

أيا جدنا لم يتركوا من رجالنا

كبيراً ولا طفلاً على الثدي يرضع

أيا جدنا لم يتركوا لنسائنا

خماراً ولا ثوباً ولم يبق برقع

أيا جدنا سرنا عرايا حواسرا

كأنا سبايا الروم بل نحن أوضع

أيا جدنا لو أن ترانا أذلة

أسارى إلى أعدائنا نتضرع

ايا جدنا نسترحم القوم لم نجد

شفيعاً ولا من ذي الإساءة يدفع

أيا جدنا شمر يبز قناعنا

ويضربنا ضرب الإماء ويوجع

أيا جدنا زين العباد مكبل

عليل سقيم مدنف متوجع

إذا ما رآنا حاسرات بلا غطا

تكاد الحشا تنفت والروح تنزع

فيصرف عنا الوجه من غير بغضة

ويرنو إلى الرأسُ الحُسينُ فيجزع

فما فعلت عاد كفعل اُميّة

ولكنهم آثار قوم تتبع

فما قتل السبط الشهيد ورهطه

سوى عصبة يوم السقيفة أجمعوا

وما ذاك إلّا سامري وعجله

أهم أصلوا للظلم والقوم فرعوا

ألا لعن الله الذين توازروا

على ظلم آل المصطفى وتجمعوا

أيا سادتي يا آل بيت مُحمّد

بكم مفلح مستعصم متمنع

وأنتم ملاذي عند كل كريهة

وأنتم له حصن منيع ومفزع

إذا كنتم درعي ورمحي ومنصلي

فلا اختشي بأساً ولا أتروع

بك أتقي هول المهمات في الدنا

وأهوال روعات القيامة أدفع

فدونكموها من محب ومبغض

له كبد حرى وقلب مفجع

ولا طاقتي إلّا المدائح والهجا

وليس بهذا علة القلب تنفع

الا ساعة فيها أجرد صارماً

وأضرب هام القوم حتّى يصرع

فحينئذ يشفي الفؤاد وحزنه

مقيم ولو لم يبق للقوم موضع

فكيف ولو بالحر قسنا جميعهم

لزاد عليهم للرياحي اصبع

أيا سادتي يا آل بيت مُحمّد

ويا من بهم يعطي الإله ويمنع

ألا فاقبلوا من عبدكم ومحبكم

قليلاً فإن الحر يرضى ويقنع

فإن كان تقصير بما قد أتيته

فساحة غدري يا موالي مهيع

فلست بقوال ولست بشاعر

ولكن من فرط الأسى أتولع

١٤٣

الباب الثّالث

أيّها الإخوان , كيف تخفي زفرات الأحزان ؟ أم كيف تطفي لهبات الأشجان ؟ أتراكم ما تعلمون ما جرى على سادات الزّمان في تلك الأماكن والأوطان ؟ قسماً بالبيت العتيق , لو فكّر المؤمن فيما اصابهم من المحن , لغدى روحه أن تخرج من البدن , كيف لا وهم أنوار الله في أرضه وسمائه , وأصفياء الله وأبناء أصفيائه ! اجتروا عليهم فقطّعوا منهم الأوصال , وجدّلوهم على الرّمال , وجرّعوهم كؤوس الحتوف بأرض الطّفوف , وأخذوا نساءهم سبايا على أقتاب المطايا , عرايا حفايا على أيدي أهل العناد وأشرّ العباد , أمر تكاد السّماوات أن يتفطّرن منه , وتنشقّ الأرض وتخرّ الجبال هدّا :

والله ما عاد بأعظم جرأة

منهم ولا فعلت ثمود وتبع

وناداهم لما به حفوا معاً

زمراً ولم يك من لقاهم يجزع

يا شر خلق الله ما من مسلم

منكم له دين يكف ويردع

حرم النّبي تموت من حر الظما

والوحش في ماء الشريعة يترع

ألكم طلائب عندنا تبغونها ؟

أم ما عرفتم ويلكم ما يصنع

فيا لهف نفسي على الكهول والشّبان ! ويا تأسّفي على تلك الأجسام والأبدان ! فيا ليتني كنت تراباً لأقدامهم , وخادماً من جملة خدّامهم.

روي عن المفضل بن عمر , قال : قُلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام ) : كيف كانت ولادة فاطمة (عليها‌السلام ) ؟ فقال : (( نعم , إنّ خديجة لـمّا تزوج بها رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) , هجرتها نساء مكّة , وكنّ لا يدخلنّ إليها ولا يسلّمنّ عليها ولا يتركن امرأة تدخل إليها , فاستوحشت خديجة لذلك , فلمّا حملت بفاطمة , كانت فاطمة تحدّثها في بطنها وتصبّرها , وكانت تكتم ذلك عن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) , فدخل يوماً فسمع خديجة تحدّث فاطمة , فقال لها : يا خديجة , مَن تحدثين ؟ قالت : الجنين في بطني يحدّثني ويؤنسني قال : يا خديجة , هذا جبرائيل يبشّرني أنّها ابنتي , وأنّها النّسلة الطّاهرة الميمونة , وأنّ الله سيجعل نسلي منها , وسيجعل من نسلها أئمة , ويجعلهم خلفاء في أرضه بعد انقضاء وحيه.

فلم تزل خديجة (عليها‌السلام ) على ذلك حتّى حضرت ولادتها , فوجّهت إلى نساء قُريش

١٤٤

وبني هاشم : أن تعالين لتلين منّي ما تلي النّساء من النّساء فأرسلنّ إليها : عصيتينا ولم تقبلي قولنا , وتزوجت مُحمّداً يتيم أبي طالب فقيراً لا مال له , فلسنا نجيء ولا نلي من أمرك شيئاً فاغتمّت خديجة (عليها‌السلام ) لذلك , فبينما هي كذلك , إذ دخل عليها أربع نسوة سمر طوال كأنّهن من نساء بني هاشم , ففزعت منهنّ لـمّا رأتهن , فقالت إحداهنّ : لا تحزني يا خديجة , إنّا رسل ربّك ونحن أخواتك ؛ أنا سارة , وهذه آسية بنت مزاحم وهي رفيقتك في الجنّة , وهذه مريم بنت عمران , وهذه كلثم أخث موسى بن عمران , بعثنا الله إليك ؛ لنلي منك ما تلي النّساء من النّساء فجلست واحدة عن يمينها واُخرى عن يسارها , والثّالثة بين يديها والرّابعة من خلفها , فوضعت فاطمة (عليها‌السلام ) طاهرة مطهّرة , فلمّا سقطت إلى الأرض , أشرق منها النّور حتّى دخل بيوت مكّة , ولم يبق في شرق الأرض ولا في غربها إلّا أشرق فيه ذلك النّور , ودخل عشر من الحور العين , كلّ واحدة منهنّ معها طشت من الجنّة وإبريق من الجنّة , وفي الإبريق ماء من ماء الكوثر , فتناولتها المرأة التي كانت بين يديها , فغسّلتها بماء الكوثر , وأخرجت خرقتين بيضاوين , أشدّ بياضاً من اللبن وأطيب ريحاً من المسك والعنبر , فلفّتها بواحدة وقنّعتها بالثّانية , ثمّ استنطقتها فنطقت فاطمة (عليها‌السلام ) بالشّهادتين , فقالت : أشهد أن لا إله إلّا الله , وأنّ أبي مُحمّد رسول الله سيّد الأنبياء , وأنّ بعلي سيّد الأوصياء , وولدي سادة الأسباط , ثمّ سلّمت عليهنّ واحدة وسمّت كلّ واحدة باسمها , وأقبلنّ يضحكن إليها , وتباشرت الحور العين , وبشّر أهل السّماء بعضهم بعضاً بولادة فاطمة , وحدث في السّماء نور زاهر لم تره الملائكة قبل ذلك , ثمّ قالت النّسوة : خذيها يا خديجة , طاهرة مطهّرة زكية ميمونة , بورك فيها وفي نسلها فتناولتها فرحة مستبشرة , وألقمتها ثديها فدرّ عليها , وكانت فاطمة تنمو في اليوم كما ينمو الصّبي في الشّهر , وفي الشّهر كما ينمو الصّبي في السّنة )).

وعن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) , قال : (( فاطمة سيدة نساء العالمين من الأوّلين والآخرين , وأنّها لتقوم في محرابها , فيسلّم عليها سبعون ألف مَلك من الملائكة المقرّبين , وينادونها بما نادت به الملائكة مريم , فيقولون : يا فاطمة , إنّ الله اصطفاك وطهّرك واصطفاك على نساء العالمين ثمّ يلتفت إلى عليّ (عليه‌السلام ) , فيقول له : يا عليّ , فاطمة بضعة منّي وهي نور عيني وثمرة فؤادي , يسوءني ما ساءها

١٤٥

ويسرّني ما سرّها , وإنّها أوّل من يلحقني من أهل بيتي , فأحسن إليها بعدي )) :

يا نفس إن تتلقي صبراً فقد ظلمت

بنت النّبي رسول الله وإبناها

تلك التي أحمد المختار والدها

وجبرائيل أمين الله رباها

الله طهرها من كل فاحشة

من كل ريب وزكاها وصفاها

فهذا يا إخوان الدّين ما وصل إلينا في ولادة بنت سيّد المرسلين.

وأمّا ولادة الحُسين بن عليّ (عليهما‌السلام ) , فقد روي فيها عن ابن عبّاس , قال : لـمّا أراد الله أن يهب لفاطمة الزّهراء , وكان في رجب في اثني عشر ليلة خلت منه ، فلمّا وقعت في طلقها , أوحى الله عزّ وجلّ إلى لعيا ( وهي : حوراء من الجنّة ) وأهل الجنان إذا أرادوا أن ينظروا إلى شيء حسن نظروا إلى لعيا ، قال : ولها سبعون ألف وصيفة , وسبعون ألف قصر , وسبعون ألف مقصورة , وسبعون ألف غرفة مكلّلة بأنواع الجواهر والمرجان , وقصر لعيا أعلا من تلك القصور ومن كلّ القصور في الجنّة , إذا أشرفت على الجنّة , نظرت جميع ما فيها وأضاءت الجنّة من ضوء خدّها وجبينها , فأوحى الله إليها : (( أن اهبطي إلى دار الدّنيا , إلى بنت حبيبي مُحمّد فآنسي لها )) فأوحى الله إلى رضوان خازن الجنان : (( أن زخرف الجنّة وزيّنها ؛ كرامة لمولود يولد في دار الدّنيا )) وأوحى الله إلى الملائكة : (( أن قوموا صفوفاً بالتّسبيح والتّقديس والثّناء على الله تعالى )) وأوحى إلى جبرائيل وميكائيل وإسرافيل : (( أن اهبطوا إلى الأرض في قنديل من الملائكة )) قال ابن عباس : والقنديل ألف ألف ملك , فبينما هبطوا من سماء إلى سماء , إذا في السّماء الرّابعة ملك يُقال له (صلصائيل) , له سبعون ألف جناح قد نشرها من المشرق إلى المغرب , وهو شاخص نحو العرش ؛ لأنّه ذكر في نفسه فقال : ترى الله يعلم ما في قرار هذا البحر , وما يسير في ظلمة الليل وضوء النّهار ؟ فعلم الله تعالى في نفسه , فأوحى الله إليه : (( أن أقم مكانك لا تركع ولا تسجد ؛ عقوبة لك لما فكّرت )).

قال : فهبطت لعيا على فاطمة , وقالت لها : مرحباً بك يا بنت مُحمّد كيف حالك ؟ قالت (عليها‌السلام ) لها : (( بخير )) ولحق فاطمة الحياء من لعيا لم تدري ما تفرش لها , فبينما هي متفكّرة , إذ هبطت حوراء من الجنّة ومعها درنوك من درانيك الجنّة , فبسطته في منزل فاطمة فجلست عليه لعيا , ثمّ إنّ فاطمة (عليها‌السلام ) ولدت الحُسين (عليه‌السلام ) في وقت الفجر , فقبّلته لعيا وقطعت سرّته ونشّفته بمنديل من

١٤٦

مناديل الجنّة , وقبّلت عينيه وتفلت في فيه , وقالت له : بارك الله فيك من مولود وبارك في والديك وهنأت الملائكة جبرائيل , وهنأ جبرائيل مُحمّداً سبعة أيّام بلياليها , فلمّا كان في اليوم السّابع , قال جبرائيل : يا مُحمّد , آتنا بابنك هذا حتّى نراه قال : فدخل النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) على فاطمة , فأخذ الحُسين وهو ملفوف بقطعة صوف صفراء , فأتى به إلى جبرائيل , فحلّه وقبّله بين عينيه وتفل في فيه , وقال : بارك الله فيك من مولود , وبارك في والديك يا صريع كربلاء ! ونظر إلى الحُسين وبكى , وبكى النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) وبكت الملائكة , وقال جبرائيل : اقرأ فاطمة ابنتك السّلام , وقُل لها : تُسمّيه الحُسين , فقد سمّاه الله جلّ إسمه , وإنّما سُمّي الحُسين ؛ لأنّه لم يكُن في زمانه أحسن منه وجهاً فقال رسول الله (ص) : (( يا جبرائيل , تهنيني وتبكي ؟! )) قال : نعم يا مُحمّد , آجرك الله في مولودك هذا فقال (ص) : (( يا حبيبي جبرائيل ومَن يقتله ؟ )) قال : شراذمة من اُمّتك يرجون شفاعتك لا أنالهم الله ذلك فقال النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : (( خابت اُمّة قتلت ابن بنت نبيّها )) قال جبرائيل : خابت ثمّ خابت من رحمة الله , وخاضت في عذاب الله ودخل النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) على فاطمة , فأقرأها من الله السّلام , وقال لها : (( يا بنيّة , سمّيه الحُسين فقد سمّاه الله الحُسين )) فقالت : (( من مولاى السّلام وإليه يعود السّلام , والسّلام على جبرائيل )) وهنأها النّبي وبكى ، فقالت : (( يا أبتاه ! تهنئني وتبكي ؟ )) قال : (( نعم يا بنيّة ! آجرك الله في مولودك هذا )). فشهقت شهقة وأخذت في البكاء وساعدتها لعيا ووصائفها , وقالت : (( يا أبتاه ! مَن يقتل ولدي وقرّة عيني وثمرة فؤادي ؟ )) قال : (( شراذمة من اُمّتي يرجون شفاعتي لا أنالهم الله ذلك )) قالت فاطمة : (( خابت اُمّة قتلت ابن بنت نبيّها )) قالت لعيا : خابت ثمّ خابت من رحمة الله , وخابت في عذابه (( يا أبتاه ! اقرىء جبرائيل عنّي السّلام , وقُل له في أيّ موضع يُقتل ؟ )) قال : (( في موضع يُقال له كربلاء , فإذا نادى الحُسين لم يجبه أحد منهم , فعلى القاعد من نصرته لعنة الله والملائكة والنّاس أجمعين ، ألا أنّه لن يُقتل حتّى يخرج من صلبه تسعة من الأئمة , ثمّ سمّاهم بأسمائهم إلى آخرهم , وهو الذي يخرج آخر الزّمان مع عيسى بن مريم ، فهؤلاء مصابيح الرّحمن وعروة السّلام , محبّهم يدخل الجنّة ومبغضهم يدخل النّار )).

قال : وعرج جبرائيل وعرج الملائكة وعرجت لعيا , فبقي الملك صلصائيل , فقال : يا حبيبي , أقامت القيامة على أهل

١٤٧

الأرض ؟ قال : لا ، ولكن هبطنا إلى الأرض , فهنئنا مُحمّداً بولده الحُسين قال : حبيبي جبرائيل , فاهبط إلى الأرض , فقل له : يا مُحمّد , اشفع إلى ربّك في الرّضا عنّي ؛ فإنّك صاحب الشّفاعة قال : فقام النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ودعا بالحُسين (عليه‌السلام ) , فرفعه بكلتا يديه إلى السّماء , وقال : (( اللّهمّ , بحقّ مولودي هذا عليك إلّا رضيت على الملك )) فإذا النّداء من قبل العرش : (( يا مُحمّد , قد فعلت وقدرك كبير عظيم )) قال ابن عباس : والذي بعث مُحمّداً بالحقّ نبيّاً , إنّ صلصائيل يفخر على الملائكة ؛ أنّه عتيق الحُسين , ولعيا تفخر على الحور العين ؛ بأنّها قابلة الحُسين.

فيا إخواني , يحقّ لمَن فارقته ساداته الذين بهم سعادته , ولم يتمكّن من الوصول إليهم , ولبذل نفسه في الجهاد بين يديهم , أن تسيل دموعه الهاطلة وتزيد حرقته المواصلة , ويواصل النّوح بالعويل لا سيّما لو كان بذاك رضا الجليل ، فنوحوا يا إخواني على ساداتكم الكرام , وتمثّلوا ما أصابهم من الكفرة اللئام , قتلوا رجالهم وذبحوا أطفالهم ونهبوا أموالهم ، فعلى مثلهم فليبك الباكون , وعلى مثلهم تذرف الدّموع من العيون ، أو لا تكونون كبعض مادحيهم حيث عرته الأحزان وتتابعت عليه الأشجان , فنظم وقال فيهم :

القصيدة لابن المتوج ( رحمه ‌الله تعالى )

ألا نوحوا وضجوا بالبكاء

على السبط الشهيد بكربلاء

ألا نوحوا بسكب الدمع حزناً

عليه وامزجوه بالدماء

الا نوحوا على من قد بكاه

رسول الله خير الأنبياء

ألا نوحوا على من قد بكاه

عليّ الطهر خير الأوصياء

ألا نوحوا على من قد بكته

حبيبة أحمد ست النساء

ألا نوحوا على من قد بكاه

لعظم الشجو أملاك السماء

ألا نوحوا على قمر منير

عراه الخسف من بعد الضياء

ألا نوحوا على غصن رطيب

ذوي بعد النظارة والبهاء

ألا نوحوا لخامس آل طه

وياسين وأصحاب العباء

ألا نوحوا على شرف القوافي

ومتخرة المرائي والثناء

ألا نوحوا عليه وقد أحاطت

به خيل البغاء الأشقياء

١٤٨

إذ أقبل واعظاً فيهم خطيباً

وبالغ في النصيحة والدعاء

ألا يا قوم أنشدكم فردوا

جوابي هل يحل لكم دمائي

وجدي أحمد وأبي عليّ

وأمي فاطم ست النساء

فقالوا هل نطقت بقول صدق

وقد أخبرت بالحق السواء

ولكن قد أمرنا لا نخلي

سبيلك أو تبايع بالوفاء

وإلّا بالقواضب والعوالي

نجرعكم بها غصص الظماء

فقال أبالقتال تخوفوني

وهل تخشى الأسود من الظباء

فنادوا للقتال معاً ونادى

أخيل الله هبي للقاء

فكافحهم على غصص إلى أن

أبادوا ناصريه ذوي الوفاء

وصادفهم بمهجته إلى أن

أتاه سهم أشقى الأشقياء

فخرّ وبادر الملعون شمر

وحز وريده بعد ارتقاء

وعلا رأسه في رأس رمح

وخلى الجسم شلواً بالعراء

ومالوا في الخيام فحرقوها

وعاثوا في الذراري والنساء

وساقوا الطاهرات مهتكات

على قتب الجمال بلا وطاء

ألا يا آل ياسين فؤادي

لذكري مصابكم حلف الضناء

فأنتم عدتي لي في يوم معادي

إذا حشر الخلائق للجزاء

وما أرجو لآخرتي سواكم

وحاشا أن يخيب بكم رجائي

أنا ابن متوج توجتموني

بتاج الفخر طراً والبهاء

صلاة الخلق والخلاق تترى

عليكم بالصباح وبالمساء

ولعنته على قوم أباحوا

دماءكم بظلم وافتراء

١٤٩

المجلس الثّامن

في اليوم الرّابع من عشر الـمُحرّم

وفيه أبواب ثلاثة

الباب الأول

تفكّروا أيّها الإخوان في أهل الظّلم والعدوان , كيف حملتهم الأحقاد والغلّ الكامن في الفؤاد , على انتهاك حرمة الرّسول وذرّيّة الزّهراء البتول , فصرعوهم على الرّمال ولم يراقبوا الكبير المتعال , ولا بما قيل وقال , بل رفعوا رؤوس آل النّبي على الرّماح , وتركوا أجسادهم شاحبة تسفى عليها الرّمال ، فهم ما بين قتيل يجري منه الصّديد وأسير مكبّل بالحديد ، وامرأة تحنّ ومريض يئنّ ، وسبايا كسبي العبيد ، يُقادون بالعنف إلى يزيد , كأنّهم اُسارى بني الأصفر وليسوا من ذرّيّة النّبي المطهّر :

قليل لهذا الرزء تكوير شمسها

وإن تفطر السبع الشداد له قطرا

مصاب بكت منه السّماء وأهلها

وأشقت به الشم الرعان على المسرى

وخطب جليل قليل حين حلوله

لدمع رسول الله من عينه أجرى

ليبك بنو السلام طراً عليهم

كما بكت الآيات والملّة الغرا

حملتهم الدُنيا الدّنيّة على قتل العترة النّبوية وقد ورد في الخبر عن سادات البشر , حبّها من أعظم الأخطار الموجبة للسخط ودخول النّار.

وفي الحديث القدسي : (( لو صلّى عبدي صلاة أهل السّماوات وأهل الأرضين , وصام صيام أهل السّماوات وأهل الأرضين , وحجّ حجيج أهل السّماوات وأهل الأرضين

١٥٠

وطوى عن أكل الطّعام مثل الملائكة المقرّبين , ثمّ أرى في قلبه من حبّ الدّنيا ذرّة , أو من سمعتها أو من رئاستها , أو من محمدتها أو من حليتها , أو من زينتها أدنى من ذرّة , فإنّه لا يجاورني في دار كرامتي ، ولأنزعنّ من قلبه محبّتي , ولأظلمنّ قلبه حتّى ينسى ذكري ؛ حتّى لا أذيقه رحمتي يوم القيامة )).

وفي الخبر عن الصّادق (عليه‌السلام ) , قال : (( إذا كان يوم القيامة , يمرّ رسول الله بشفير جهنّم , ومعه عليّ بن أبي طالب والحسن والحُسين (عليهم‌السلام ) , فيراهم المختار وهو يومئذ في النّار , فينادي بصوت عال : يا شفيع المذنبين ! أنقذني من النّار فلم يجبه ، فينادي : يا عليّ ! أغثني من النّار فلم يجبه ، فينادي : يا حسن يا سيّد شباب أهل الجنّة ! أدركني فلم يجبه ، فينادي : يا حُسين يا سيّد الشّهداء ! أنا الذي قتلت أعداءك وأخذت لك بالثأر , أنقذني من النّار فيقول النّبي : يا حُسين , إنّ المختار قد احتجّ عليك بأخذ الثّأر من أعدائك , فأنقذه من النّار قال : فينتفض الحُسين (عليه‌السلام ) سريعاً كالبرق الخاطف , ويخرجه من النّار , ويغمسه في نهر الحيوان , ويدخله الجنّة مع الأخيار ببركة النّبي المختار )).

فسُئل الصّادق (ع) : يابن رسول الله , فلِمَ اُدخل المختار النّار وهو من الأخيار والشّيعة الأبرار , وأفضل الأنصار لأهل بيت النّبي المختار ؟! فقال (عليه‌السلام ) : (( إنّ المختار كان يحبّ السّلطنة , وكان يحبّ الدّنيا وزينتها وزخرفها , وأنّ حبّ الدّنيا رأس كلّ خطيئة ؛ لأنّ رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) قال : والذي بعثني بالحقّ نبياً , لو أنّ جبرائيل أو ميكائيل كان في قلبهما ذرّة من حبّ الدّنيا , لأكبّهما الله على وجوههما في نار جهنّم )).

فنزّهوا أيّها الإخوان أنفسكم عن الرّاكعون إلى الدُنيا , وإيّاكم وطلب الرّئاسة والعليا ؛ فإنّها دار لا يدوم فيها نعيم , ولم يبق أحد من شرّها سليم , وكيف يرضى العاقل بالدّنيا دار بعد آل الرّسول وسلالة الطّاهرة البتول ؟! هذه والله دار غدرت بمواليها , فلا خير والله فيها إلّا مَن اتخذ فيها الزّاد ليوم المعاد ، ولعمري , لا عمل فيها أفضل من موالاة الآل , الدّافعة لتلك الأهوال يوم الحشر والمآل :

هم السادة الأطهار آل محمد

هم الدين والدنيا لمن يتعقل

هم الطور والأعراف والنور والضحى

وياسين والأحقاف والمترمل

مهابط وحي الله في حجراتهم

وتبيان برهان الكتاب المنزل

١٥١

فما مثلهم في الكون إن عد مفخر

أعد نظراً يا صاح إن كنت تعقل

خلت منهم أرض العقيق وعطلت

منازل آيات بها الوحي ينزل

منازل تنزيل بها الحزن قد ثوى

ومجلس أنس قد خلا منه نزل

حدا بهم حادي المنايا معجلا

وسارت بهم عنفاً على الابن نزل

أصابتهم أيدي المصائب فاغتدوا

أماثيل في الدّنيا لمن يتمثل

فما منهم إلّا قتيل وهالك

بسم ومذبوح وذاك مكبل

على مثلهم فليبك بالمدى المدى

ويذرف دمعاً كالمسيل مسبل

روي عن عليّ بن عاصم الكوفي الأعمى , قال : دخلت على سيدي ومولاي الحسن العسكري (عليه‌السلام ) , فسلّمت عليه , فردّ عليّ السّلام وقال : (( مرحباً بك يابن عاصم , اجلس مكانك , هنيئاً لك يابن عاصم , أتدري ما تحت قدميك ؟ )) فقلت : يا مولاي , إنّي أرى تحت قدمي هذا البساط , كرّم الله وجه صاحبه فقال لي : (( يا بن عاصم , اعلم أنّك على بساط جلس عليه كثير من النّبيين والمرسلين )) فقلت : يا سيدي , ليتني لا أفارقك ما دمت في دار الدّنيا ثمّ قلت في قلبي : ليتني أرى هذا البساط فعلم الإمام ما في ضميري , فقال : (( ادن منّي )) فدنوت منه , فمسح يده على وجهي , فصرت بصيراً بإذن الله ، ثمّ قال لي : (( هذا قدم أبينا آدم , وهذا أثر هابيل , وهذا أثر شيث , وهذا أثر إدريس , وهذا أثر هود , وهذا أثر صالح , وهذا أثر لقمان , وهذا أثر إبراهيم , وهذا أثر لوط , وهذا أثر شعيب , وهذا أثر موسى , وهذا أثر داود , وهذا أثر سُليمان , وهذا أثر الخضر , وهذا أثر دانيال , وهذا أثر ذي القرنين الاسكندر , وهذا أثر عدنان , وهذا أثر عبد الـمُطّلب , وهذا أثر عبد الله , وهذا أثر عبد مُناف , وهذا أثر جدّي رسول الله , وهذا أثر جدّي عليّ بن أبي طالب ))

قال عليّ بن عاصم : فأهويت على الأقدام كلّها وقبّلتها , وقبّلت يد الإمام العسكري (عليه‌السلام ) , وقلت له : يا سيدي , إنّي عاجز عن نصرتكم بيدي , وليس أملك غير موالاتكم , والبراءة من أعدائكم واللعن لهم في خلواتي , فكيف حالي يا سيدي ؟ فقال : (( حدّثني أبي عن جدّي عن رسول الله , قال : مَن ضعف عن نصرتنا أهل البيت , ولعن في خلواته أعداءنا , بلغ الله صوته إلى جميع الملائكة , فكلّما لعن أحدكم أعداءنا , ساعدته الملائكة ولعنوا من لا يلعنهم ، فإذا بلغ صوته إلى الملائكة , استغفروا له

١٥٢

وأثنوا عليه , وقالوا : اللّهمّ صلّ على روح عبدك , هذا الذي بذل في نصرة أوليائه جهده , ولو قدر على أكثر من ذلك لفعل فإذا النّداء من قبل الله تعالى يقول : يا ملائكتي , إنّي قد أجبت دعائكم في عبدي هذا , وسمعت نداءكم , وصلّيت على روحه مع أرواح الأبرار , وجعلته من الـمُصطفين الأخيار )).

وكذلك قال عليّ بن أبي طالب (عليه‌السلام ) لأصحابه الذين كانوا معه لـمّا غُصبت الخلافة منه , حيث قال : (( يا أصحابي , الزموا بيوتكم واصبروا على البلاء , ولا تحرّكوا بأيديكم وسيوفكم وأهواء ألسنتكم , ولا تستعجلوا بما يُعجّله الله لكم ؛ فإنّه مَن مات منكم على فراشه وهو على معرفة من حقّ ربّه , وحقّ نبيّه وآل نبيّه , كان كمن مات شهيداً , أو أجره على الله , واستوجب ثواب ما نوى من صالح عمله , وقامت النّية مقام صلاته وجهاده بسيفه ويده , وإنّ لكلّ شيء أجلاً وانتهاء )).

فيا إخوتي , لله درّ الشّيعة الـمُخلصين , والأتباع الـمُتّقين , وأهل الولاية أجمعين , الذين بذلوا قلوبهم في المحبّة , واستعملوها في المودّة والمسبّة.

روي في الخبر عن سيّد البشر (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) , أنّه كان يقول للحسن والحُسين : (( أنتما زينة عرش الرّحمن , أنتما اللؤلؤة والمرجان )) فقيل له : يا رسول الله , وكيف ذلك , وكيف يكونان تزيين عرش الرّحمن ؟ فقال النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : (( إذا كان يوم القيامة , يزيّن عرش ربّ العالمين بكلّ زينة , ثمّ يؤتى بمنبرين من نور , كلّ منبر طوله مئة ميل , فيوضع أحدهما عن يمين العرش , والآخر عن يسار العرش ، ثمّ يؤتى بالحسن والحُسين (عليهما‌السلام ) , فيقف الحسن على أحدهما والحُسين على الآخر , يزيّن الرّب تبارك وتعالى بهما عرشه كما تزيّن المرأة قرطاها )) ثمّ قال (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : (( ويوضع يوم القيامة منابر تحت العرش لشيعتي , ولشيعة أهل بيتي المخلصين في ولايتنا , فيقول الله عزّ وجلّ : هلمّوا يا عبادي إليّ لأنشر عليكم كرامتي , فقد أوذيتم في دار الدُنيا )).

وقال أيضاً (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : (( أنا الشّجرة وفاطمة فرعها وعليّ لقاحها , والحسن والحُسين ثمرها , وشيعتنا أهل البيت أوراقها , قد أفلح من تمسّك بهذه الشّجرة )).

وفي الخبر أيضاً عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) , أنّه قال : (( يدخل الجنّة من اُمّتي سبعون ألفاً بلا حساب عليهم ولا عذاب يصل إليهم )) ثمّ التفت إلى عليّ (عليه‌السلام ) , فقال : (( شيعتك هُم وأنت إمامهم )).

وعن أبي عبد الله (عليه‌السلام ) , قال : (( إذا بلغت نفس المؤمن الحنجرة , وأهوى ملك الموت بيده إليها , يرى قرّة عين , يُقال له : انظر عن يمينك فيرى رسول الله

١٥٣

وعليّاً وفاطمة والحسن والحُسين , فيقولون له : إلينا إلى الجنّة والله لو بلغت روح عدوّنا إلى صدره , وأهوى ملك الموت بيده إليها , لا بدّ أن يُقال : انظر عن يسارك فيرى مُنكراً ونكيراً يُهدّدانه بالعذاب , نعوذ بالله منه )) :

مناقبهم بين الورى مستنيرة

لها غرر مجلوة وحجول

مناقب جلت أن يحاط بحصرها

نمتها فروع قد زكت وأصول

مناقب وحي الله أثبتها لهم

بما قام منه شاهد ودليل

مناقب من خلق النّبي وخلقه

ظهرت فما يغتالهن أفول

أمولاي آمالي تؤمل نصركم

وقلبي إليكم بالولاء يميل

وقد طال عمر الصبر في أخذ ثاركم

كما آن للظلم المقيم رحيل

متى يشتفي حر الغليل ويشتفي

فؤاد بآلام المصاب عليل

ويجبر هذا الكسر في ظل دولة

لها النصر جند والأمان دليل

هنالك يضحى دين آل محمد

عزيزاً ويمسي الكفر وهو ذليل

ويطوي بساط الحزن بعد كآبة

وتنشر نشراً للهناء ذيول

فيا آل طه الطاهرين رجوتكم

ليوم به فصل الخطاب طويل

أقيلوا إعثاري يوم فقري وفاقتي

فظهري بأعباء الذنوب ثقيل

فيا إخواني , دعوا التّشاغل عنكم بالأهل والأوطان والأتراب والأخدان , تفكّروا فيما أصاب سادات الزّمان الذين تمّ لكم بهم الإيمان , واستحققتهم بموالاتهم دخول الجنان ورضاء الرّحمن.

فعلى الأطائب من أهل بيت الرّسول فليبك الباكون , وإيّاهم فليندب النّادبون , ولمثلهم تذرف الدّموع من العيون ، أو لا تكونون كبعض مادحيهم حيث عرته الأحزان وتتابعت عليه الأشجان , فنظم وقال فيهم :

القصيدة للشيخ الخليعي (رحمه ‌الله تع الى)

يا عين لا لخلو الربع والدمن

باكي الرزايا سوى الباكي على السكن

وآسى بني الهدى فيما أصيبت به

وساعدي البضعة الزّهراء على الحزن

وقابليها بارض الطف صارخة

على القتيل الغريب النازح الوطن

١٥٤

تشكو إلى الله والأملاك محدقة

بالعرض تستصرخ المولى أبا حسن

من حولها مريم العذراء وآسية

تكرر النوح بالتذكار والحزن

والنوح من نادبات الجن مرتفع

وقلبها موجع بالثكل والمحن

لهفي على قول مولاتي وقد نظرت

شلو الحُسين بلا غسل ولا كفن

ملقى على الأرض عاري الجسم منعفر

الخدين مختضب الأوداج والذقن

لهفي على زينب حرى مجردة

مسلوبة تستر الأكتاف بالردن

تقول يا واحدي من لي إذا نزلت

بي الحوادث يحميني ويكفيني

لهفي على فاطم الصغرى مقرحة

بالدمع أجفانها مسلوبة الوسن

تدعو إلى زينب يا عمتا سلب العلج

القناع ليسبيني ويهتكني

فرمت أستر وجهي عند رؤيته

فظل يشتمني عمداً ويضربني

أين الحماة وأين الناصرون لنا

وا خيبتي جار دهري واعتدى زمني

لهفي على السيد السجاد معتقلاً

في أسرهم مستذلا ناحل البدن

إذا شكا اسمعوه قبح شتمهم

وإن ونى قنعوه فاضل الرسن

وا حسرتاه لكريم السبط مشتهراً

كالبدر يشرق فوق الدل واللدن

فيا لها محنة عمت مصيبتها

ويا لها حسرة في قلب ذي شجن

يهني يزيد برأس طال ما رشف

المختار من ثغره تقبيل مفتتن

وتستحث بنات المصطفى ذللا

على المطايا إلى الأطراف والمدن

قد قابلونا بنو حرب بما صنعوا

ولا شفوا غلل الأحقاد والضغن

بفعلهم كفروا فينا واعتقدوا

أن لا جزاء على قبح ولا حسن

مضوا على سنن الماضين وارتكبوا

نهج الضلال ومالوا عن هدى السنن

كأنني بالبتول الطهر واقفة

في الحشر تشكو إلى الرّحمن ذي المنن

تأتي وقد ضمخت ثوب الحُسين دماً

من نحره وهي تبدي الحزن في حزن

تدعو الا ابن مسمومي ويا أسفي

على قتيلي ويا كربي ويا حزني

يا رب من نوزعت ميراث والدها

مثلي ومن طولبت بالحقد والإحن

ومن ترى جرعت في ولدها غصص

كما ابن مرجانة الملعون جرعني

ومن ترى كذبت قبلي وقد علموا

أن الإله من الأرجاس طهرني

وهل لبنت نبي أضرمت شعل

كما أطيف به بيتي ليحرقني

١٥٥

خرجت أطلب للأطفال بلغتهم

دفعني ظالمي عنها ودافعني

رب انتصف لي ممن خان عهدك

في ولدي وممن زوى إرثي فأفقرني

وتستغيث أمام العرش ساجدة

والمصطفى واقف والدمع كالمزن

فيبرز الأمر أني قد سمعت وقد

نقمت ممن عصى أمري وخالفني

أعظم بها ومنادي الحشر يسمع بالصوت

الرفيع لديها كل ذي أذن

غضوا العيون فخاتون القيامة قد

جاءت لتشفع فيمن بالولاء كنى

من كل محترق من عظم فجعتها

بكى وساعدها بالمدمع والهتن

يا سادتي الهادي النّبي ومن

أخلصت ودي لهم في السر والعلن

عرفتكم بدليل العقل والنظر المهدي

فلم أخش كيد الجاهل اللكني

ظفرت بالكنز في علم اليقين فلم

أخش اعتراضاً لدى شك ينازعني

فلست آسى على من ظل يبعدني

بالقرب منكم ومن بالغت ترحمني

وإنني أرتجي أن سوف يلطف بي

ربي فيصفح عن جرمي ويرحمني

وأن فاطمة الزّهراء تشفع لي

والمرتضى لجنان الخلد يقسمني

فاز الخليعي كل الفوز واتضحت

بكم له سبل الإرشاد والسنن

الباب الثّاني

أيّها المؤمنون الأخيار , لا تبخلوا بالدّموع الغزار على عترة النّبي الـمُختار ، ألا تحبّون أن يغفر الله لكم ويجزل لديه ثوابكم ؟ أليس هُم شفعاؤكم يوم المعاد إذا وقفتم بين يدي ربّ العباد ؟ أليس هُم العدّة لكم بكلّ شدّة ؟ أليس بهم تحطّ الأوزار ؟ أليس هُم الجنان الواقية من النّار ؟ فمَن بخل منكم عليه بإثارة الأحزان والأشجان , فعلى نفسه بخل ولقدر مواليه وساداته حقر وجهل , أيبكي الباكون منكم على الأهل والأولاد والآباء والأجداد ؟ فيا عجباً لمن أساء إليهم وظلمهم وقصّر في حقّهم وما أكرمهم ! وما ارتكب منهم ما يوجب السّخط العظيم , والعدل عن النّهج القويم والصّراط الـمُستقيم ؟! أمر :( تَكَادُ السّماوَاتُ يَتَفَطّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقّ الْأَرْضُ وَتَخِرّ الْجِبَالُ هَدّاً ) (١) :

إن كنت في شك فسل عن حالهم

سنن الرّسول ومحكم التنزيل

فهناك أعدل شاهد لذوي النهى

وبيان فضلهم على التفصيل

____________________

(١) سورة مريم / ٩٠.

١٥٦

ووصية سبقت لأحمد فيهم

جاءت إليه على يدي جبرائيل

روي عن اُمّ سلمة : أنّ الحسن والحُسين دخلا على رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) , وكان عنده جبرائيل (عليه‌السلام ) , فجعلا يدوران حوله يشبّهانه بدحية الكلبي , فجعل جبرائيل يومي بيده نحو السّماء كالـمُتناول شيئاً , فإذا بيد جبرائيل تفّاحة وسفرجلة ورمّانة , فناولهما الجميع , فتهلّلت وجوههما فرحاً وسعيا إلى جدّهما , فقبّلهما وقال لهُما : (( اذهبا إلى منزلكما وابدءوا بأبيكما )) ففعلا كما أمرهما جدّهما , ولم يأكلوا منها شيئاً حتّى جاء النّبي إليهم , فجلسوا جميعاً وأكلوا حتّى شبعوا , ولم يزالوا يأكلون من ذلك السّفرجل والتّفّاح والرّمان , وهو يرجع كما كان أوّلاً حتّى قُبض النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) , ولم يلحقه التّغيير والنّقصان في مدّة أيّام حياة فاطمة (عليها‌السلام ).

قال الحُسين (عليه‌السلام ) : (( فلمّا توفّيت اُمّي فاطمة , فقدنا الرّمان وبقي التّفّاح والسّفرجل أيّام حياة أبي ، فلمّا استشهد أبي عليّ بن أبي طالب (عليه‌السلام ) , فقدنا السّفرجل وبقي التّفاح عليَّ إلى وقت مُنعت فيه شرب الماء , فكنت أشمّها إذا عطشت , فيسكن لهيب عطشي ، فلمّا دنا أجلي , رأيتها قد تغيّرت فأيقنت بالفناء )).

قال عليّ بن الحُسين : (( سمعت أبي يقول ذلك قبل مقتله بساعة , فلمّا قضى نحبه , وجد ريح التّفّاح في مصرعه , فالتمست التّفّاحة فلم أجد لها أثراً , فبقي ريحها بعد مقتله (عليه‌السلام ) , ولقد زرت قبره فشممت منه رائحة التّفّاح تفوحّ من قبره صلوات الله عليه , فمَن أراد ذلك من شيعتنا الصّالحين الزّائرين قبر الحُسين , فيلتمس ذلك في أوقات السَّحر , فإنّه يجد رائحة التّفّاح عند قبر الحُسين إن كان مخلصاً موالياً صادقاً )).

وعن الصّادق (عليه‌السلام ) : (( أنّ جبرائيل نزل إلى النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) , فقال : يا مُحمّد , إنّ الله يقرؤك السّلام ويبشّرك بمولود من ابنتك فاطمة الزّهراء (عليها‌السلام ) , وتقتله اُمّتك من بعدك فقال : يا جبرائيل , قُل لربّي , لا حاجة لي في مولد يولد من فاطمة وتقتله اُمّتي من بعدي قال : فعرج جبرائيل (عليه‌السلام ) إلى السّماء في أسرع من طرفة عين , ثمّ هبط وقال : يا مُحمّد , إنّ ربّك يقرأ عليك السّلام , ويبشّرك أنّه جاعل في ذرّيّته الأمانة والولاية والوصيّة فقال النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : رضيت بذلك ثمّ أرسل النّبي إلى ابنته فاطمة (عليها‌السلام ) , يقول : إنّ الله يبشّرك بمولود يولد منك وتقتله اُمّتي من بعدي فجزعت فاطمة وأرسلت إليه تقول : لا حاجة لي في مولود يولد منّي وتقتله اُمّتك من بعدنا فأرسل إليها يقول : إنّ الله

١٥٧

جاعل من ذرّيّته الإمامة والولاية والوصيّة فأرسلت إليه تقول : إنّي قد رضيت :( حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي ) (١) [ فلو أنّه قال : اصلح لي ذريتي ، لـ ] كانت ذرّيّته كلّهم أئمة )) فهذه الآية نزلت في شأن الحُسين (ع).

وروي : أنّ الحُسين لم يرضع من ثدي فاطمة شيئاً , ولا رضع من اُنثى لبناً , ولكنّه كان يؤتى به إلى جدّه رسول الله , فيضع إبهامه في فيه , فيمصّ منها لبناً يكفيه ويُغذّيه يومين أو ثلاثة أيّام , فنبت لحم الحُسين من لحم رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) , ودمه من دمه وعظمه من عظمه , ومخّه من مخّه وشعره من شعره , ولم يولد مولود لستة أشهر , إلّا عيسى بن مريم والحُسين بن فاطمة (عليهم‌السلام ).

وفي خبر آخر : أنّ فاطمة (عليها‌السلام ) لـمّا اغتسلت بعدما ولدت الحُسين , جفّ لبنها , فطلب رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) مرضعة , فلم يجد له مرضعة , فكان يأتيه الحُسين مع اُمّ سلمة فيلقمه إبهامه فيمصّه , ويجعل الله له من إبهام النّبي رزقاً يغذّى به بقدرة الله تعالى.

وفي خبر آخر : بل كان رسول الله يُدخل لسانه في فم الحُسين , فيغّره كما يغّر الطّير فرخه , فيجعل الله له في ذلك رزقاً بقدرة الله تعالى , ففعل ذلك به أربعين يوماً وليلة ، فنبت لحمه من لحم رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ).

أيقتل ظمآناً حُسين بكربلا

وفي كل عضو من أنامله بحر

ووالده الساقي على الحوض في غد

وفاطمة ماء الفرات لها مهر

فوا لهف نفسي للحسين وما جنى

عليه غداة الطف في حربه شمر

سنان سنان خارق منه في الحشا

وصارم شمر في الوريد له شمر

تجر عليه العاصفات ذيولها

ومن نسج أيدي الصافنات له طمر

فيا لك مقتولاً بكته السّماء دماً

فمغبر وجه الأرض بالدم محمر

مصابكم يا آل طة مصيبة

ورزء على السّلام أحدثه الكفر

حكى عبد الله بن العبّاس , قال : جاءني رجل من بني اُميّة , فقال : أريد أن أسألك عن سؤال ؟ فقلت له : سل عمّا تُريد فقال لي : يا عبد الله , ما تقول في دم البعوضة , هل يُنقض الوضوء أم لا ؟ وهل هو طاهر أم نجس ؟ فقلت له : ثكلتك اُمّك يا عديم الرأي ! تسأل عن دم البعوضة فلِمَ لا سألت عن دم الحُسين ابن بنت

____________________

(١) سورة الأحقاف / ١٥.

١٥٨

رسول الله ؟! سفكتم دمه وقطعتم لحمه وكسرتم عظمه , وقتلتم أولاده وأطفاله وأنصاره , وسبيتم حريمه ومنعتموه من شرب الماء , ألا لعنة الله على الظّالمين ثمّ التفت عبدالله إلى جلسائه , وقال : انظروا إلى هذا اللعين , كيف يسألني عن دم البعوضة , ولا يخاف أن يسأله الله عن دم الحُسين ابن بنت رسول الله ؟! ثمّ قال لأصحابه : والله , إنّي سمعت بهاتي أذني من رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) يقول مراراً كثيرة : (( الحسن والحُسين ريحانتاي في الدُنيا , وهُما منّي وأنا منهُما , أحبّ الله مَن أحبّهما , وأبغض الله مَن أبغضهما , وآذى الله مَن آذاهما , ووصل الله مَن وصلهما , وقطع الله مَن قطعهما , فإنّهما ابناي وسبطاي وقرّتا عيني , وسيّدي شباب أهل الجنّة من الخلق أجمعين )) فقلت : يا رسول الله , أيّ أهل بيتك أحبّ إليك ؟ فقال : (( الحسن والحُسين أحبّ النّاس إليّ )) وكان يقول (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : (( يا فاطمة , ادعى لي ابني )) فيأتيان إليه فيضمّهما إليه , ويشمّهما ويقبّلهما ويقول : (( أحبّ الله مَن أحبّ الحسن والحُسين ومَن أحبّ ذرّيّتهما , فمَن أحبّهم لم تمس جسده نار جهنّم ولو كانت ذنوبه بعدد رمل عالج , إلّا أن يكون له ذنب يخرجه عن الإيمان )).

وعن الأوزاعي , عن عبد الله بن شداد , عن اُمّ الفضل بنت الحرث , أنّها دخلت على رسول الله فقالت : يا رسول الله , رأيت البارحة حلماً مُنكراً شديداً قال : (( وما هو يا اُمّ الفضل ؟ )) قالت : رأيت كأنّ قطعة من جسدك قُطعت ووضعت في حجري فقال رسول الله : (( يا اُمّ الفضل , ستلد ابنتي فاطمة غُلاماً , فتكون تربيته في حجرك )) قالت : فولدت فاطمة الحُسين وكان كما قال رسول الله , فربّيته في حجري ، فدخلت به يوماً على النّبي فوضعته في حجره ، ثمّ حانت منّي إلتفاتة , فإذا عينا رسول الله تهرقان بالدّموع , فقلت : بأبي أنت واُمّي يا رسول الله ، ما لك تبكي ؟! فقال : (( أتاني جبرائيل أخي , وأخبرني أنّ اُمّتي ستقتل ابني هذا , وأتاني بقبضة من تربة حمراء فأرانيها )).

ومن طرقهم : أنّ عيسى بن مريم (عليه‌السلام ) مرّ بكربلاء , فرأى عدّة من الظّباء هناك مجتمعة , فأقبلت إليه وهي تبكي , وأنّه جلس وجلس الحواريّون , فبكى وأبكى الحواريّين وهم لا يدرون لِمَ جلس ولِمَ بكى , فقالوا : ياروح الله وكلمته , ما يبكيك ؟ قال : أتعلمون أيّ أرض هذه ؟ قالوا : لا قال : هذه أرض يُقتل فيها فرخ لرسول أحمد , وفرخ الخيّرة الطّاهرة البتول شبيهة اُمّي , ويُلحد فيها , وهي أطيب من المسك ؛ لأنّها طيبة الفرخ المستشهد , وهكذا تكون طينة الأنبياء وأولاد الأنبياء (عليهم‌السلام ) , وهذه الظّباء

١٥٩

تكلّمني وتقول : إنّها ترعى في هذه الأرض ؛ شوقاً إلى تربة الفرخ الـمُبارك وزعمت أنّها آمنة في هذه الأرض ثمّ ضرب بيده إلى ثغر تلك الظّباء فشمّها , وقال : اللّهمّ , ابقها حتّى يشمّها أبوه فتكون له عزاء فبقيت إلى أيّام أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) , فشمّها وبكى وأخبر بقصّتها.

وعن سلمان الفارسي , أنّه قال : كان سيّدنا أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) يحدّثنا كثيراً بالأشياء والمغيّبات , التي تحدث على مرور السّنين والأوقات , وأنّه يوم الجُمُعة يخطب على منبره في جامع الكوفة , فقال في خطبته : (( أيّها النّاس , سلوني قبل أن تفقدوني , فو الله , لا تسألوني عن فئة تضلّ مئة وتهدي مئة , إلّا أنبأتكم بناعقها وسائقها إلى يوم القيامة )) قال : فقام إليه رجل فاجر فاسق , وقال له : يا عليّ , أخبرني كم في رأسي ولحيتي من طاقة شعر ؟ فقال له (عليه‌السلام ) : (( والله , لقد أخبرني بسؤالك هذا ابن عمّي رسول الله , ونبّأني بما سألت عنه , وإنّ على كلّ طاقة من شعر رأسك ولحيتك شيطاناً يغويك ويستفزّك , وإنّ على كلّ شعرة من بدنك شيطاناً يلعنك ويلعن ولدك ونسلك , وإنّ لك ولداً رجساً ملعوناً , يقتل ولدي الحُسين بن بنت رسول الله , وأنت وولدك بريئان من الإيمان , ولولا أنّ الذي سألتني عنه يعسر برهانه لأخبرتك به , ولكن حسبك فيما نبأتك به من لعنتك ورجسك , وولدك الملعون الذي يقتل ولدي ومهجة قلبي الحُسين )) قال : وكان له ولد صغير في ذلك الوقت , فلمّا نشأ وكبر وكان من أمر الحُسين ما كان , نمى الصّبي وتجبّر وتولّى قتل الحُسين (عليه‌السلام ) وقيل : إنّ ذلك الصّبي كان اسمه خولّى بن يزيد الأصبحي , وهو الذي طعن الحُسين برمحه , فخرج السّنان من ظهره , فسقط الحُسين على وجهه يخور في دمه ويشكو إلى ربّه :( أَلَا لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظّالِمِينَ ) (١) فيا ويلهم ما أجرأهم على الله وعلى انتهاك حُرمة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) , كأنّهم ما سمعوا ما ورد في حقّهم , أم سمعوا وهم غافلون ! :( وَسَيَعْلَمُ الّذِينَ ظَلَمُوا أَيّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ ) (٢) .

فعلى الأطائب من آل بيت مُحمّد فليبك الباكون , وإيّاهم فليندب النّادبون , ولمثلهم تذرف الدّموع من العيون ، أو لا تكونون كبعض مادحيهم حيث عرته الأحزان , فنظم وقال فيهم :

القصيدة للشيخ ابن حماد (رحمه‌ الله ت عالى)

أرى الصبر يفنى والهموم تزيد

وجسمي يبلى والسقام جديد

____________________

(١) سورة هود / ١٨.

(٢) سورة الشّعراء / ٢٢٧.

١٦٠

إذا ما تعمدت السلو في خاطري

أباه فؤادي للهموم عنيد

وذكرني بالحزن والنوح والبكا

غريب بأكناف الطفوف فريد

يودع أهليه وداع مفارق

لهم أبد الأيام ليس يعود

كأني بمولاي الحُسين وصحبه

كأنهم تحت الوطيس أسود

عطاشى على شاطئ الفرات فمالهم

سبيل إلى قرب المياه ورود

فياليتني يوم الطفوف شهدتهم

وكنت كما جادوا هناك أجود

لقد صبروا لا ضيع الله صبرهم

إلى أن قتلوا من حوله وأبيدوا

وقد خرّ مولاي الحُسين مولاي الحُسين مجدلاً

قتيلاً عفيراً في التراب وحيد

وأقبل شمر الرجس واحتز رأسه

بقلب مشؤوم فارقته سعود

وساقوا السبايا من بنات محمد

يسوقهم قاسي الفؤاد عتيد

وفاطمة الصغرى تقول لاختها

وقد كضها جهد هناك جهيد

يا أخت قد ذابت من السير مهجتي

سلي سائق الأضعان أين يزيد

تنادي وقد أبدت من الثكل صبرها

بصوت تكاد الأرض منه تميد

بكى رحمة لي حاسدي ومعاندي

فيا سوء حال إذ بكاه حسود

فني جلدي يابن الوصي وليس

فؤادي على ما لقيت جليد

فيا غائباً لا يرتجى منه أوبة

مزارك من قرب الديار بعيد

ظننت بأن تبقى فأيسني الرجا

ويأسي المرجى يابن أمي شديد

تبيد الليالي والدهور ومهجتي

وحزني على مولاي ليس يبيد

سيعلم أعداء الحُسين ورهطه

إذا ما هم يوم المعاد أعيدوا

واقبلت الزّهراء فاطم حولها

من أملاك رب العالمين جنود

تنادي إلهي خذ بحق ظالمي

فإنك عدل للخصوم عنيد

فهذا يزيد قاتل إبني ورهطه

على ظمأ حتّى فنوا وأبيدوا

وساقوا بناتي حاسرات أذلة

كما سيل من نسل العبيد عنيد

فتبكي لها الأملاك جمعاً وعندها

ينادي منادي الحق أين يزيد

فيؤتى به سحباً ويؤتى برهطه

وجوههم بين الخلائق سود

فيأمر مولاي الجليل بقتلهم

إذ قتلوا من بعد ذاك أعيدوا

١٦١

وتقتلهم أولاد فاطم كلهم

وشيعتهم والعالمون شهود

ويحشرهم ربي إلى ناره التي

يكون بها للظالمين خلود

إذا نضجت فيها هناك جلودهم

أعيد لهم من بعد ذلك جلود

فما فعلت عاد كقبح فعالهم

ولا استحسنت ما استحسنته ثمود

شهدت بمن حج الملبون بيته

وربي على ما قد شهدت شهيد

بأن رسول الله أكرم من مشى

ومن حملته في المهامة قود

وعترته أزكى وأطهر عترة

ومن جاد حتّى لا يكون يجود

ولولاهم لم يخلق الله خلقه

ولم يك وعد فيهم ووعيد

وما خلقوا إلّا ليمتحن الورى

فيشقى شقي فيهم وسعيد

عليهم سلام الله ما در شارق

وما اخضر يوماً في الأرائك عود

وإني ابن حماد بمدح أئمتي

أعيش وعيشي في الزمان حميد

أحبر في آل النّبي مدائحي

وأحسن ما حبرته وأجيد

الباب الثّالث

يا إخواني , تفكّروا في أنوار الله في أرضه وسمائه , وأصفياء الله وحججه وخلفائه , كيف تُقطّع منهم الأوصال , ويُجدّلون على الرّمال , ويتجرّعون الحتوف بأراضي الطّفوف ؟ ولعمري , هذا دأب الصّالحين وأولياء الله الـمُقرّبين ، فإنّ الله يذود أولياءه عن لذّات الدُنيا , كما يذود لراعي الشّفيق إبله عن مراتع الهلكة وتأكيد ذلك ما روي : أنّ موسى (عليه‌السلام ) لـمّا توجّه إلى مناجاة ربّه , اعترضه رجل من عباده الصّالحين , فقال له : يا موسى , أبلغ ربّك أنّي أحبّه وأنا مُطيع له فلمّا فرغ موسى من المُناجاة , نودي : (( يا موسى , ألا تبلغني رسالة عبدي ؟ )) فقال : يا إلهي , أنت العالم بما قال عبدك فقال ذو الجلال : (( يا موسى , أنا أيضاً أحبّه )) فازداد ذلك الرّجل في يقين موسى إنّه عبد صالح , فلمّا رجع موسى من مُناجاة ربّه , جعل يتفقّد ذلك الرّجل في مكانه , فإذا هو بالأسد قد افترسه , فتعجّب موسى (عليه‌السلام ) وحزن عليه , وقال : يا إلهي , رجل صالح تحبّه ويحبّك , تسلّط عليه كلباً من كلابك يفترسه ؟! فأتاه النّداء : (( نعم يا موسى , وهكذا أفعل بأحبابي وأوليائي , ابتليهم في دار الهوان , وأسكنهم عندي في غرفات الجنان )).

وروي أيضاً : أنّ رجُلاً جاء إلى رسول الله , فوقف بين

١٦٢

يديه , فقال : يا رسول الله , إنّي أحبّ الله عزّ وجلّ ، فقال : (( استعد للبلاء )) فقال : يا رسول الله , وإنّي أحبّك فقال له : (( استعد للفقر )) فقال : وإنّي أحبّ عليّ بن أبي طالب فقال : (( استعد لكثرة الأعداء )).

ولـمّا كان الإمام الحُسين حبيب الملك الدّيان , وولي الواحد المنّان , وحجّة الله على العباد , لا جرم ابتلاه الله بأهل العناد والفساد ، وهل اصابته تلك السّهام والمحن العظام ، إلاّ من القوس الذي وتر على أبيه واُمّه وأخيه ؟( وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ) (١) ( وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ ) (٢) فتعساً لِمَن أردى تلك العصابة الكرام ! وسحقاً لِمَن نكّس أعلام أولئك الأعلام ! أما خافوا من أهوال يوم القيامة ؟! أما راقبوا جدّهم صاحب الغمامة ؟! أما راجعوا عقولهم فعلموا في المحشر كيف يكون ؟! وبماذا يتعللون إذا بكت الزّهراء على ما حلّ بولدها الذي هو قطعة من كبدها ؟( هُنَالِكَ تَبْلُوا كُلّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدّوا إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقّ وَضَلّ عَنْهُم مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ) (٣) .

روي : أنّ النّبي خرج من المدينة غازياً وأخذ معه عليّاً , وبقي الحسن والحُسين (عليهما‌السلام ) عند اُمّهما لأنّهما صغيران , فخرج الحُسين (عليه‌السلام ) ذات يوم من دار اُمّه يمشي في شوارع المدينة , وكان عمره يومئذ ثلاث سنين , فوقع بين نخيل وبساتين حول المدينة , فجعل يسير في جوانبها ويتفرّج في مضاربها , فمرّ عليه يهودي يُقال له صالح بن رقعة اليهودي , فأخذه إلى بيته , وأخفاه عن اُمّه حتّى بلغ النّهار إلى وقت العصر , والحُسين لم يتبيّن له أثر , فقاد قلب فاطمة بالهمّ والحزن على ولدها الحُسين (عليه‌السلام ) , فصارت تخرج من دارها إلى باب مسجد النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) سبعين مرّة , فلم تر أحداً تبعثه في طلب الحُسين (عليه‌السلام ) , ثمّ أقبلت إلى ولدها الحسن (عليه‌السلام ) , وقالت له : (( يا مُهجة قلبي وقُرّة عيني , قُم فاطلب أخاك الحُسين , فإنّ قلبي يحترق من فراقه )) فقام الحسن وخرج من المدينة , وأتى إلى دور حولها نخل كثير , وجعل يُنادي : (( يا حُسين بن عليّ ! يا قرّة عين النّبي ! أين أنت يا أخي ؟ )) قال : فبينما الحسن يُنادي , إذ بدا له غزالة في تلك السّاعة , فألهم الله الحسن أن يسأل الغزالة , فقال : (( يا ظبية , هل رأيت أخي حُسيناً ؟ )) فأنطق الله الغزالة ببركات رسول الله ، وقالت : يا حسن , يا نور عين الـمُصطفى وسرور قلب الـمُرتضى , ويا مُهجة فؤاد الزّهراء , اعلم أنّ أخاك أخذه صالح اليهودي وأخفاه في بيته فسار الحسن حتّى

____________________

(١) سورة إبراهيم / ٤٢.

(٢) سورة الشّعراء / ٢٢٧.

(٣) سورة يونس / ٣٠.

١٦٣

أتى دار اليهودي , فناداه فخرج صالح , فقال له الحسن : (( إليّ الحُسين من دارك وسلّمه إليّ , وإلاّ أقول لاُمّي تدعو عليك في أوقات السّحر , وتسأل ربّها حتّى لا يبقى على وجه الأرض يهودي , ثمّ أقول لأبي يضرب بحسامه لجمعكم حتّى يلحقكم بدار البوار , وأقول لجدّي يسأل الله سبحانه أن لا يدع يهودياً إلّا وقد فارق روحه )) فتحيّر صالح اليهودي من كلام الحسن ، وقال له : يا صبي مَن اُمّك ؟ فقال : (( اُمّي الزّهراء بنت مُحمّد الـمُصطفى , قلادة الصّفوة ودرّة صدف العصمة , وعزّة جمال العالم والحكمة , وهي نقطة دائرة المناقب والمفاخر , ولمعة من أنوار المحامد والمآثر ، خمرة طينة وجودها من تفّاحة من تفّاح الجنّة , وكتب الله في صحيفتها عتق عصاة الاُمّة ، وهي اُمّ السّادة النُجباء وسيّدة النّساء , البتول العذراء فاطمة الزّهراء (عليها‌السلام ) )) فقال اليهودي : أمّا اُمّك فعرفتها ، فمَن أبوك ؟ فقال الحسن (عليه‌السلام ) : (( إنّ أبي أسد الله الغالب عليّ بن أبي طالب , الضّارب بالسّيفين , والطّاعن بالرّمحين , والـمُصلّي مع النّبي في القبلتين , والمفدي نفسه لسيّد الثّقلين , أبو الحسن والحُسين )) فقال صالح : يا صبي , قد عرفت أباك , فمَن جدّك ؟ فقال : (( جدّي [ درّة ] من صف [ صدف ](١) الجليل ، وثمرة من شجرة إبراهيم الخليل ، الكوكب الدّرّي , والنّور المضيء من مصباح التّبجيل المعلقة في عرش الجليل , سيّد الكونين ورسول الثّقلين , ونظام الدّارين وفخر العالمين , ومُقتدى الحرمين , وإمام المشرقين والمغربين , وجدّ السّبطين أنا الحسن وأخي الحُسين )).

قال : فلمّا فرغ الحسن من تعداد مناقبه , انجلى صداه الكفر عن قلب صالح , وهملت عيناه بالدّموع , وجعل ينظر كالمتحيّر , متعجّباً من حسن منطقه وصغر سنّه وجودة فهمه , ثمّ قال : يا ثمرة فؤاد الـمُصطفى , ويا نور عين الـمُرتضى , ويا سرور صدر الزّهراء , يا حسن , أخبرني من قبل أن أسلّم إليك أخاك عن أحكام دين الإسلام , حتّى أذعن لك وأنقاد إلى الإسلام ثمّ إنّ الحسن عرض عليه أحكام الإسلام , وعرّفه الحلال والحرام , فأسلم صالح وأحسن الإسلام على يد الإمام , وسلّمه أخاه الحُسين , ثمّ نثر على رأسيهما طبقاً من الذّهب والفضّة , وتصدّق به على الفُقراء والمساكين ببركة الحسن والحُسين (عليهما‌السلام ) ، ثمّ إنّ الحسن أخذ بيد أخيه الحُسين وأتيا إلى اُمّهما ، فلمّا رأتهما اطمأنّ قلبها وزاد سرورها بولديها.

قال : فلمّا كان اليوم الثّاني , أقبل

____________________

(١) ما في المعقوفتين هي من إضافات ( موقع معهد الإمامَين الحسنَين).

١٦٤

صالح ومعه سبعون رجُلاً من رهطه وأقاربه , وقد دخلوا جميعهم في الإسلام على يد الإمام ابن الإمام أخى الإمام (عليهم أفضل الصّلاة والسّلام) ، ثمّ تقدّم صالح إلى الباب - باب الزّهراء - رافعاً صوته بالثّناء للسادة الاُمناء , وجعل يمرّغ وجهه وشيبته على عتبة دار فاطمة , وهو يقول : يا بنت مُحمّد الـمُصطفى , عملت سوءاً بابنك وآذيت ولدك , وأنا على فعلي نادم , فاصفحي عن ذنبي فأرسلت إليه فاطمة تقول : (( يا صالح , أمّا أنا فقد غفرت عنك من حقّي ونصيبي , وصفحت عمّا سوءتني به , لكنّهما ابناي وابنا عليّ الـمُرتضى , فاعتذر إليه ممّا آذيت ابنه )) ثمّ إنّ صالحاً انتظر عليّاً حتّى أتى من سفره , وعرض عليه حاله واعترف عنده بما جرى له , وبكى بين يديه واعتذر مما أساء إليه , فقال له : (( يا صالح , أمّا أنا فقد رضيت عنك وصفحت عن ذنبك , لكن هؤلاء ابناي وريحانتا رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) , فامض إليه واعتذر ممّا أسأت بولده )) قال : فأتى صالح إلى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) باكياً حزيناً , وقال : يا سيّد الـمُرسلين , أنت قد اُرسلت رحمة للعالمين , وإنّي قد أسأت وأخطأت , وإنّي قد سرقت ولدك الحُسين , وأدخلته داري وأخفيته عن أخيه واُمّه , وقد سوءتهما في ذلك , وأنا الآن قد فارقت الكفر ودخلت في دين الإسلام فقال له النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : (( أمّا أنا فقد رضيت عنك وصفحت عن جرمك , لكن يجب عليك أن تعتذر إلى الله , وتستغفره ممّا أسأت به قرّة عين الرّسول ومهجة فؤاد البتول , حتّى يعفو الله عنك سبحانه )) قال : فلم يزل صالح يستغفر ربّه ويتوسّل إليه , ويتضرّع بين يديه في أسحار الليل وأوقات الصّلوات , حتّى نزل جبرائيل إلى النّبي بأحسن التّبجيل , وهو يقول : (( يا مُحمّد , قد صفح الله عن جرم صالح حيث دخل في دين الإسلام على يد الإمام ابن الإمام عليهم أفضل الصّلوات والسّلام )) :

فقل لحساده موتوا بغيضكم

فإنه بعطاء الله ممنوح

وحرفوا ما استطعتم من إمامته

فشأنه بلسان الحق ممدوح

بيوتكم بفنون اللهو مفعمة

وبيته فيه تقديس وتسبيح

فإنكم جسد ميت بكثرتكم

وفضله بين أبدان الورى روح

عن أبي ذر الغفاري , قال : كان سيدي عليّ بن أبي طالب يحدّثنا في بعض الأوقات بالمغيّبات , فبينما نحن جلوس معه في جامع الكوفة , إذ دخل إليه رجل

١٦٥

وسلّم عليه , وقال له : يا أمير المؤمنين , إنّي مررت بوادي القُرى , فرأيت خالد بن عرفطة مقتولاً مطروحاً في البر فقال له عليّ (عليه‌السلام ) : (( كذبت , أنّ خالداً لم يمت حتّى يقود جيش الضّلال ابن زياد , ويكون حامل لوائه حبيب بن جماز لعنه الله تعالى )) فقام حبيب بن جماز من بينهم , وقال : يا أمير المؤمنين , أراك تقول هكذا وإنّي لك شيعة , وأنا موال لك , وإنّي لك محبّ ؟! فقال له : (( مَن أنت ؟ )) فقال : أنا حبيب بن جماز فقال له : (( إيّاك إيّاك أن تحملها يا شقي ! ولكن لا بدّ أن تحملها وتدخل بها من هذا الباب )) وأومى بيده إلى باب الفيل بمسجد الكوفة , (( وتُقاتل ولدي الحُسين بعد وفاتي )) فلمّا كان من أمر الحُسين ما كان وحان من حينه ما حان , بعث ابن زياد بعمر بن سعد إلى حرب الحُسين (عليه‌السلام ) , وجعل خالد بن عرفطة على مقّدمته بأربعة آلاف فارس , وحبيب بن جماز حامل رايته , فسار بها حتّى دخل مسجد الكوفة من باب الفيل كما أخبر أمير المؤمنين (عليه‌السلام ).

ومن أخباره بالمغيّبات : أنّه (عليه‌السلام ) التفت إلى البرّاء بن عازب ، وقال له : (( يابن عازب , يُقتل ولدي الحُسين وأنت حيّ حاضر ولم تنصره , وتزعم أنّك مُحبّ لنا )) فلمّا قُتل الحُسين , كان البرّاء بن عازب يُظهر الحسرة والنّدم , ويقول : حدّثني سيّدي عليّ بن أبي طالب أنّه يُقتل ولده الحُسين ولم أنصره وظلّ يُكثر الحسرة والنّدم مدّة عمره.

فانظروا يا إخواني إلى ما خصّ الله به هذا الشّخص الرّباني من الفضائل العظيمة والعطايا الجسيمة فعلى الأطائب من أهل بيت الرّسول فليبك الباكون , وإيّاهم فليندب النّادبون , ولمثلهم تذرف الدّموع من العيون , أو لا تكونون كبعض مادحيهم حيث عرته الأحزان وتتابعت عليه الأشجان , فنظم وقال فيهم :

القصيدة للشيخ الدرمكي (رحمه ‌الله تعال ى)

نحول جسمي لا ينفك عني

وقد صار البكا شغلي وفني

وقلبي فيه نيران ووجد

وهمي صار ممزوجاً بحزني

يطيب لي البكا في كل وقت

وأسعف في الرزايا من سعفني

كفاني موت خير الخلق طراً

بأن النفس في السلوان أشني

أخذتم نحلتي ظلماً وإرثي

وحلتم دون ما ربي رزقني

وسب البضعة الزّهراء لـمّا

أتت زفراً وقالت ما نصفني

١٦٦

أما في هل أتى وفيت نذري

فيا ويل لملعون عصبني

سلوا عم وطة إن شككتم

سلوا ياسين ما ربي رزقني

فقال الرجس ما نرضى بهذا

ولا ذا القول في ذا اليوم يغني

فماتت وهي في حرق وكرب

تواصل حر زفرتها بغين

وقتل الطهر في المحراب لـمّا

أتته كتب ملعون ولكني

بأنا طائعون بكل أمر

وأنت محكم في كل فن

فعجل بالمسير يظن خيراً

يحسب البيد سرعاً لا يوني

إلى أن صار في نقع المنايا

وحادي العيس مسرور يغني

فمانعه الجواد السير عنها

فقال لصحبته يا من حضرني

فما اسم الأرض يا قوم انبؤني

ففي أكنافها قد طاش ذهني

فقالوا ذي منازل كربلايا

فقال الكرب فيها قد شملني

ألا حطوا الرحال فلا مسير

ففي هذه الفلاة يكون دفني

وفيها يقتل العباس ظلماً

ويقتل كل صديق نصرني

وفيها تقتل أولادي وصحبي

وتسبى نسوتي بالرغم مني

وفي هذي الفلاة نزار حقاً

وقد جاز السعادة من نصرني

وأقتل ظامياً والماء طام

ويشربه هنيئاً من منعني

إذا شرب المحب الماء بعدي

فطاب له التنغص إذ ذكرني

وما لي مهرب عن أمر ربي

فقد لاحت دلائل ما وعدني

فلما كان وقت الظهر بانت

لهم خيل لأشقى الخلق تدني

فقال أتتكم أرجاس حرب

بأعلام تخالف ما وردني

فما للقوم قصدكم سبيلاً

وكل بالمنايا قد قصدني

فضجوا بالبكاء حزناً عليه

وقالوا بعدكم لا عيش يهني

فلا والله لا نرضى بذل

ولا نستقبل الأعداء يجني

ولكن نبذل الأرواح منا

ونرضى خير مسؤول ومغني

ونفحم عند نيران الأعادي

ونوصل فيهم ضربا بطعن

فيا لله كم قطعوا رؤوساً

وكم قد ألحقوا قرناً بقرن

١٦٧

إلى أن جدلوا بالترب جمعاً

عليهم جاريات الريح تبني

وظل الطهر يفترس الأعادي

كليث ثار في إبل وضان

إلى أن خر مطعوناً طريحاً

دنيفاً بإنكسار الطرف يرني

ينادي بعد عز وامتناع

أما أحد على أهلي يجرني

أليس البضعة الزّهراء أمي

وجدي أحمد يا من جهلني

فقال الشمر أقصر يا حُسين

وما تعديدك المعروف بغني

وحز الرأس كرهاً من قفاه

وبراه وعلاه بلدن

وخلا الجسم منعفراً طريحاً

غسيلاً بالدما من غير دفن

تلوذ به الأرامل واليتامى

حيارى يا أباه منيع ركني

يعز عليك يا أبتاه ما لي

بلا وطأ وقيد قد جرحني

أبي من لليتيمة إن سبتها

علوج أمية واستصرختني

وفاطمة الصغيرة في بكاها

تقول إليك يا أبتاه خذني

وأسكن روعتي مما جرى لي

لأن مصيبة عظمى دهتني

فلو بنت النّبي ترى مكاني

لماتت غصة لـمّا رأتني

وليت الموت قدمني بأخذ

وإلّا عند مصرعكم صرعني

أبي أصبحت منفرداً غريباً

فوا حزناه مما قد دهمني

أبي ساروا بنا فوق المطايا

بأعنف حادي يحدي ببدن

فلما أن أتين إلى يزيد

فقال لساقي الصهباء زدني

وقرب رأس مولانا إليه

ليقرع منه سناً بعد سن

فلعنة ذي الجلال على يزيد

بعد الخلق أنسى وجني

وتغشي أدلماً وأبا فلان

وقرمانا فافهم ما أكني

إليكم يا بني طه عروساً

تربت بين أتراب وخدن

زهت إذ ألبست حلل المعاني

وتوجها مديحكم بحسن

منظمها مديح درمكي

بها يرجو جواركم بعدن

فمن فضل الإله أبي محب

وأمي من محبتكم سقتني

١٦٨

إذا ما نلت من ربي ولاكم

فلا أسفي على شيء منعني

لأنكم أجل الخلق أصلاً

وأعلمهم وأفضلهم بلسن

وأعبدهم وأهداهم وأتقى

وأخوفهم لمن يغني ويفني

صلاة الله دائمة عليكم

تضاعف ما شدت ورقا تغني

١٦٩

المجلس التّاسع

في الليلة الخامسة من عشر الـمُحرّم

وفيه أبواب ثلاثة

الباب الأوّل

يا إخواني في الدّين , هل يحسن إصاخة سمعي إلى لوم اللائمين , أو يميل طبعي إلى عذل العاذلين في ترك أحزاني وشجوني , وبثّ أشجاني وأنيني , وقد فتكت أيدي الكفرة الفجرة المارقين بمولاي الحُسين بن أمير المؤمنين ؟ بل أموت وأحزانه في فؤادي وبها ألاقي الله في معادي , فأطيلوا رحمكم الله النّوح والأحزان على سادات الزّمان واُمناء الملك الدّيان , وليكن نوحكم على شفعائكم يوم النّشور أكثر من نوح الحمام والطّيور , وكيف لا ينهدّ ركني لمصابهم ولم أتجرّع بعض ما تجرّعوه من غصصهم وأوصابهم ؟ أأطمع أن أشاركهم في الفضل والأنعام ولا أشاركهم في تلك الأهوال العظام ؟ :

أذل لمن أهوى لأحظى بعزة

وكم عزة قد نالها المرء بالذل

إذا كان من تهوى عزيزاً ولم تكن

ذليلاً له فأقر السّلام على الوصل

ولعمري , كم من باك على ربع خراب , وكم من هائم على سكن التّراب , وهو غافل عن تمثّل هذا الرّزء العظيم والمصاب الجسيم ، فلا خير والله في قلوب لا تميل إليهم ودموع لا تسح عليهم ، وما لي لا أبكيهم حتّى تنقطع أوصالي ؟ كيف وهم مرجعي وبهم اتصالي :

آل الرّسول الألي لا زال حبهم

للقلب من كل داء للمحب شفا

١٧٠

ومن خذلهم فلا تشفى بشافية

قلوبهم ولهم فوق الجحيم شفا

ضاعت حقوقهم حتّى طريقتهم

قد ضل عنها عقول سيرهم عنفا

روي عن الإمام العسكري (ع) في تفسير قوله تعالى :( وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ * ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاَء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ) (الآية)(١) قال : (( قال لي أبي عن آبائه عن رسول الله (ص) : لـمّا نزلت هذه الآية في ذمّ اليهود الذين نقضوا عهود الله , وحادوا عن أمر الله , وكذّبوا رسول الله , وقتلوا أنبياء الله , فقال النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : يا أصحابي , أفلا أنبئكم بما يضاهيكم من يهود اُمّتي ؟ فقالوا : بلى يا رسول الله صلّى الله عليك وعلى آلك فقال : قوم من بني اُميّة يزعمون أنّهم من اُمّتي , ويظنون أنّهم من أهل ملّتي , يقتلون أفاضل ذرّيّتي وأطائب أرومتي وذرّيّة ابنتي , ويبذلون شريعتي ويتركون سنّتي , ويقتلون ولديَّ الحسن والحُسين كما قتل أسلاف هؤلاء اليهود زكريا ويحيى (عليهما‌السلام ) , ألا وأنّ الله يلعنهم كما لعنهم من قبل , ويبعث الله على بقايا ذراريهم يوم القيامة إماماً هادياً مهديّاً من ولد الحُسين , فيقتلهم عن آخرهم ويأخذ بثأر جدّه الحُسين , ولهم يوم القيامة أشدّ العذاب وبئس المصير ، ألا لعن الله قتلة الحُسين ومحبّيهم وناصريهم والشّاكّين في لعنهم من غير تقية , ألا وصلّى الله على الباكين على الحُسين والمقيمين عزاءه , ألا وصلّى الله على مَن بكى على الحُسين رحمة وشفقة ورقّة له ، ألا وصلّى الله على اللاعنين لأعدائهم والممتلين عليهم غيضاً وحنقاً ، ألا وإنّ الرّاضين بقتل الحُسين هُم شُركاء قتلته ، ألا وإنّ قتلته وأعوانهم وأشياعهم والمتقدّمين والمتأخّرين براءة من دين الله , وعليهم لعنة الله والملائكة والنّاس أجمعين ، ألا وأنّ الله يأمر ملائكته المقرّبين أن يتلقّوا دموع الباكين على مصاب الحُسين (عليه‌السلام ) , فيجمعون دموعهم وينقلونها إلى خزنة الجنان , فيمزجونها بماء الحيوان فيزيد في عذبها وطيبها وطعمها ألف ضعفها , وإنّ الملائكة المقرّبين ليتلقّون دموع الفرحين الضّاحكين لقتل الحُسين ومصاب الحُسين , فيلقونها في الهاوية , فيمزجونها بحميم جهنّم وصديدها وغساقها وغسيلها , فتزيد في شدّة حرارتها وعظيم عذابها ألف ضعفها , يشدّد الله على المنقولين إليها من أعداء آل

____________________

(١) سورة البقرة / ٨٤ - ٨٥.

١٧١

محمد في عذابهم يوم القيامة )) قال : (( فقام ثوبان مولى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) , فقال : بأبي واُمّي يا رسول الله ! أخبرني متى قيام الساعة ؟ فقال رسول الله : ماذا أعددت لها ؟ فقال ثوبان : ما أعددت لها كثير عمل إلّا أنّي أحبّ الله ورسوله وأهل بيت رسوله فقال رسول الله : وإلى ماذا بلغ حبّك لرسول الله وأهل بيته ؟ قال : والذي بعثك بالحقّ نبيّاً , إنّ في قلبي محبّتكم ما لو أنّي قُطّعت بالسّيوف ونُشّرت بالمناشير , وقُرّضت بالمقارض واُحرقت بالنّيران , وطُحنت برحى الحجارة , كان أحبّ إليّ وأسهل عليّ من أن أجد لك في قلبي منك غشّاً أو دغلاً أو بُغضاً , ولا لأحد من أهل بيتك ومن عترتك , فهم أحبّ الخلق إليّ من بعدك , وإنّ أبغض النّاس إليّ مَن لا يحبّك ولا يحبّ أهل بيتك وعرتك يا رسول الله , فهذا ما عندي من حبّك وحبّ مَن يحبّك , وبغض من يبغضك أو يبغض أحداً من أهل بيتك , فإن قُبل منّي , فقد سعدت , وإن ترد منّي عملاً غيره , فما أعلم أنّ لي عملاً غير هذا أعتمد عليه وأعتدّ به يوم القيامة مع مَن أحبّ.

فقال (ص) : واعلم يا ثوبان , لو أنّ عليك من الذّنوب ملأ ما بين الثّرى إلى عنان السّماء , لانحسرت وزالت عنك بهذه الموالاة , أسرع من انحسار الظّل عن الصّخرة الملساء المستوية إذا طلعت عليها الشّمس , ومن انحسار الشّمس إذا غابت عنها , ولعمري , لا عمل فيها أفضل من موالات الآل ؛ لدفع تلك الأهوال والأمور العضال )) :

يا آل طة أنتم القصد والمنى

وفي يدكم يوم اللقا النفع والضر

رجوتكم ذخري وفخري وعدتي

وما خاب من أنتم له الفخر والذخر

إذا كل من عاداكموا بجهنم

وشيعتكم والمؤمنون بكم سروا

وادخلتموهم للجنان فهم بها

وجوههم بيض ملابسهم خضر

عليكم سلام الله ما ناح صادح

على عذبات الدوح وابتسم الزهر

روي : أنّ الرّشيد لـمّا أراد أن يقتل الإمام موسى بن جعفر (عليه‌السلام ) , أعرض قتله على سائر جنده وفرسانه , فلم يقتله أحد منهم ، فأرسل إلى عُمّاله في بلاد الأفرنج يقول لهم : التمسوا إليّ قوماً لا يعرفون الله ولا يعرفون رسول الله , فإنّي أريد أن أستعين بهم على مُهمّ قال : فأرسلوا إليه قوماً لا يعرفون من شرائط الإسلام كلمة واحدة , ولا يعرفون من اللغة العربية كلمة واحدة أبداً ، وكانوا خمسين رجلاً , فلمّا

١٧٢

دخلوا إليه , أكرمهم وأعزّهم وأنزلهم في دار الكرامة , وحمل لهم الهدايا والتُحف والخُلع السّنيّة , ثمّ استدعاهم وسألهم : مَن ربّكم , ومَن نبيّكم ؟ فقالوا : لا نعرف لنا ربّاً ولا نبيّاً أبداً فقال لهم : هذا مرادي وهذا قصدي فقال لوزيره : قُل لهم , إنّ الملك له عدو في هذا البيت جالس - يعني موسى بن جعفر (عليه‌السلام ) - , فادخلوا إليه واقتلوه ولكم الجائزة العُظمى فقالوا : سمعاً وطاعة , وهذا أمر هيّن علينا , فإن أردتم قطعناه قطعاً وأكلنا لحمه قال : فقاموا جميعاً بأسلحتهم كأنّهم السّباع الضّارية ودخلوا على الإمام موسى بن جعفر (عليه‌السلام ) , والرّشيد ينظر إليهم من طاقة حجرته ويبصر ما يفعلون , قال : فلمّا رأوه , رموا أسلحتهم وارتعدت فرائضهم وخرّوا سجّداً يبكون رحمة له ، قال : فجعل الإمام (عليه‌السلام ) يمرّ يده الشّريفة على رؤوسهم وهم يبكون , ومع ذلك يخاطبهم بلحنهم ولغتهم ، قال : فلمّا رأى الرّشيد ذلك منهم , خشي من الفضيحة وصاح بالوزير : اخرجهم عنه فخرجوا وهُم يمشون القهقرى إجلالاً للإمام (عليه‌السلام ) , ثمّ إنّهم ركبوا خيولهم وأخذوا الهدايا والتُحف التي وصلتهم منه , ومضوا لشأنهم من غير إذن الرّشيد.

فانظروا يا إخواني إلى هذه العداوة العظيمة والشّقاوة المعضلة الجسيمة :( يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) (١) :

قوم علا بنيانهم من هاشم

فرع أشم وسؤدد ما ينقل

قوم بهم نصر الإله رسوله

وعليهم نزل الكتاب المنزل

وبهديهم رضي الإله لخلقه

وبجدهم نصر النّبي المرسل

روي : أنّ رجُلاً من الخوارج قال لـمُحمّد بن الحنفية : لِمَ غرر بك أبوك في الحروب ولم يغرر الحسن والحُسين ؟ فقال له : ويا ويلك ! أما علمت أنّهما عيناه وأنا يمينه , فهو يدفع بيمينه عن عينيه.

وعن ابن عباس , قال : لـمّا كنُا في حرب صفّين , إذ دعا عليّ ابنه مُحمّد بن الحنفية , وقال له : (( يا بني , شد على عسكر معاوية )) ففعل ما أمره أبوه وحمل على ميمنة عسكر معاوية فكشفهم , ثمّ رجع إلى أبيه وقد جُرح , فقال له : يا أبي العطش العطش ! فسقاه جرعة من الماء , ثمّ صبّ الباقي بين درعه وجلده , فو الله لقد رايت علق الدّم يخرج من الدّرع , ثمّ أمهله ساعة , ثمّ قال له : (( يا بُني , شد على الميسرة )) فحمل على ميسرة عسكر معاوية فكشفهم , ثمّ رجع وبه جراحات وهو يقول : الماء الماء يا أبتاه ! فسقاه جرعة من الماء وصبّ باقي الماء

____________________

(١) سورة الصّف / ٨.

١٧٣

بين درعه وجلده ، ثمّ قال له : (( يا بُني , شد على القلب )) فحمل عليهم فكشفهم وقتل منهم فُرساناً , ثمّ رجع إلى أبيه وهو يبكي وقد أثقلته الجروح , فقام إليه أبوه وقبّل ما بين عينيه , وقال له : (( فداك أبوك ! فقد سررتني والله يا بني بجهادك هذا بين يدي , فما يبكيك , أفرح أم جزع ؟ )) فقال : يا أبتي كيف لا أبكي وقد عرّضتني للموت ثلاث مرّات فسلّمني الله , وها أنا مجرح كما ترى ؟ وكلّما رجعت إليك لتمهلني عن الحرب ساعة , فما تمهلني وهذان أخواي الحسن والحُسين ما تأمرهما بشيء من الحرب فقام إليه أمير المؤمنين وقبّل وجهه , وقال له : (( يا بُني , أنت ابني وهذان ابنا رسول الله , أفلا أصونهما من القتل ؟ )) فقال : بلى يا أبتاه , جعلني الله فداك وفداهما من كلّ سوء ! :

فليت شعري هل توازي مصيبة

مصيبتكم يا آل بيت محمد

رزيتم رزايا لا يطيق بحملها

سماء ولا أرض ولا كل جامد

روي : أنّ الحسن الزّكي لـمّا دنت وفاته ونفذت أيّامه وجرى السّم في بدنه وأعضائه , وتغيّر لون وجهه ومال بدنه إلى الزّرقة والخضرة ، قال له أخوه الحُسين (عليه‌السلام ) : (( ما لي أرى لون وجهك مائلاً إلى الخضرة ؟ )) فبكى الحسن (عليه‌السلام ) , وقال له : (( يا أخي , لقد صحّ حديث جدّي فيّ وفيك )) ثمّ مدّ يده إلى أخيه الحُسين واعتنقه طويلاً وبكيا كثيراً , فقال الحُسين (عليه‌السلام ) : (( يا أخي , ما حدّثك جدّك وماذا سمعت منه ؟ )) فقال : (( أخبرني جدّي رسول الله , أنّه قال : لـمّا مررت ليلة المعراج بروضات الجنان ومنازل أهل الإيمان , فرأيت قصرين عاليين متجاورين على صفة واحدة , لكن أحدهما من الزّبرجد الأخضر والآخر من الياقوت الأحمر , فاستحسنتهما وشاقني حسنهما , فقلت : يا أخي جبرائيل , لِمَن هذين القصرين ؟ فقال : أحدهما لولدك الحسن والآخر لولدك الحُسين فقلت : يا جبرائيل , فلِمَ لا يكونا على لون واحد ؟ فسكت ولم يردّ عليّ جواباً , فقلت : يا أخي , لِمَ لا تتكلّم ؟ فقال : حياء منك يا مُحمّد فقلت له : تالله عليك إلّا ما أخبرتني ؟ فقال : أمّا خضرة قصر الحسن , فإنّه يُسمّ ويخضر لونه عند موته ، وأمّا حُمرة قصر الحُسين , فإنّه يُقتل ويُذبح ويُخضب وجهه وشيبته وبدنه من دمائه فعند ذلك بكيا وضجّ النّاس بالبكاء والنّحيب على فقد حبيبيّ الحبيب )).

وحكي عن السّدي , قال : ضافني

١٧٤

رجل في ليلة كنت أحبّ الجليس , فرحّبت به وقرّبته وأكرمته وجلسنا نتسامر , وإذا به ينطلق بالكلام كالسّيل إذا قصد الحضيض , فطرقت له فانتهى في سمره طفّ كربلاء , وكان قريب العهد من قتل الحُسين (عليه‌السلام ) , فتأوّهت الصّعداء وتزفّرت كمداً , فقال : ما بالك ؟ قلت : ذكرت مصاباً يهون عنده كلّ مصاب قال : أما كُنت حاضراً يوم الطّفّ ؟ قلت : لا ، والحمد لله قال : أراك تحمد على أيّ شيء ؟ قلت : على الخلاص من دم الحُسين ؛ لأنّ جدّه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) قال : (( مَن طولب بدم ولدي الحُسين يوم القيامة , لخفيف الميزان )) قال : قال هكذا جدّه ؟ قلت : نعم ، وقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : (( ولدي الحُسين يُقتل ظُلماً وعدواناً , ألا ومَن قتله يدخل في تابوت من نار , ويُعذّب نصف عذاب أهل النّار , وقد غلت يداه ورجلاه , وله رائحة يتعوّذ أهل النّار منها , هو ومَن شايع وبايع أو رضي بذلك :( كُلّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ ) (١) لا يفتر عنهم ساعة , ويسقون من حميم جهنّم ، فالويل لهم من عذاب جهنم ! )) قال : لا تُصدّق هذا الكلام يا أخي فقلت : كيف هذا وقد قال (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : (( لا كَذِبتُ ولا كُذِّبت )) ؟ قال : ترى قالوا : قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : (( قاتل ولدي الحُسين لا يطول عمره )) ها أنا وحقّك قد تجاوزت التّسعين مع أنّك لا تعرفني قُلت : لا والله قال : أنا الأخنس بن زيد قُلت : وما صنعت يوم الطّفّ ؟ قال : أنا الذي اُمّرت على الخيل الذين أمرهم عمر بن سعد بوطء جسم الحُسين بسنابك الخيل , وهشّمت أضرعه , وجررت نطفاً من تحت عليّ بن الحُسين وهو عليل حتّى كببته على وجهه , وخرمت أذني صفيّة بنت الحُسين لقرطين كانا في إذنيها قال السّدي : فبكى قلبي هجوعاً وعيناي دموعاً , وخرجت أعالج على إهلاكه , وإذا بالسّراج قد ضعفت فقمت أظهرها , فقال : اجلس , وهو يحكي لي مُتعجّباً من نفسه وسلامته , ومدّ إصبعه ليظهرها فاشتعلت به , ففركها في التّراب فلم تنطفئ , فصاح بي : أدركني يا أخي ! فكببت الشّربة عليها وأنا غير محبّ لذلك , فلمّا شمّت النّار رائحة الماء , إزدادت قوّة , وصاح بي : ما هذه النّار وما يطفئها ؟ قلت : إلق نفسك في النّهر فرمى بنفسه , فكُلّما ركس جسمه في الماء , اشتعلت في جميع بدنه كالخشبة البالية في الرّيح البارح ، هذا وأنا أنظره فو الله الذي لا إله إلّا هو , لم تطف حتّى صار فحماً وسار على وجه الماء , ألا لعنة الله على الظالمين

____________________

(١) سورة النّساء / ٥٦.

١٧٥

( وَسَيَعْلَمُ الّذِينَ ظَلَمُوا أَيّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ ) (١) .

فعلى الأطائب من أهل بيت الرّسول فليبك الباكون , وإيّاهم فليندب النّادبون , ولمثلهم تذرف الدّموع من العيون , أو لا تكونون كبعض مادحيهم حيث عرته الأحزان , فنظم وقال فيهم :

القصيدة للشيخ الفاضل مُحمّد بن نقيح (رحمه‌ الله تعالى )

عجباً لقلب فيكم لا يفجع

ولأنفس في رزئكم لا تجزع

لله در مراركم بمصابكم

لم تنصدع ونواظر لا تدمع

ما هل عاشورا إلّا وهاج لي

حزن فصرت كبومة استبشع

لم أنس مولاي الحُسين بمكة

عن بيعة الباغي غداً يتمنع

تباً لقوم خالفوه وخالفوا

أمر الرسول وللوصية ضيعوا

كتبوا إليه من العراق وأجمعوا

أن ينصروه فمذ أتى لم يزمعوا

وتقاعدوا عن نصره وتعاقدوا

في خذله وعلى الأذية أجمعوا

فأراد لـمّا أن تبين غدرهم

جزماً إلى حرم المدينة يرجع

بعثوا إليه الحر عند قدومه

فبقى يساير تارة ويجعجع

ساروا فوافوا في العشية كربلا

أرض الطفوف من البراري سلقع

قال انزلوا فهنا مناخ ركابنا

وهنا محط رحالنا والمصرع

وأتى ابن سعد مقبلاً في عصبة

نحو الأطائب والعساكر تتبع

وتأهبوا للحرب بعد تظاهر

والعلج في إضرامها يتشجع

فاستمهل السبط الطغاة لعله

يدعو إلى الله العلي ويضرع

فأقام ليلته يناجي ربه

طوراً ويسجد في الظلام ويركع

ويقول إن القوم لا بغيا لهم

غيري وإني عارف من يرجع

فأقام بين يديه كل موفق

وغدا يقهقر كل من يتطمع

وأتى الحُسين يناشد القوم الذي

لم يبق فيهم من ينيب ويخشع

وغدا ابن سعد راشقاً بسهامه

قوم الإمام وفي الأذية يسرع

وأتت سهام القوم بعد كأنها

مطر تدفعه الرياح الزعزع

ذادوه عن ماء الفرات بجحفل

فيه الصوارم والسلاح يقعقع

فتيقن السبط اللقاء لربه

فأتى الخيام بدرعه يتلفع

____________________

(١) سورة الشّعراء / ٢٢٧.

١٧٦

يوصي سكينة بالسكينة بعده

بالصبر عند مصابه ويودع

وبقى رجال السبط يقتل واحد

منهم وآخر بعده يتوقع

حتى بقى فرداً وحيداً ظامياً

لا مانع عنه ولا من يدفع

حملوا عليه بالطعان فصدهم

بالسيف وهو اللوذعي الأشجع

مذ اثخنوه بالجراح وأضعفوا

منه الجوارح وهو لا يتروع

وشكى النساء إلى الحُسين من الظما

وأتينه بالطفل مضى يرضع

فمضى به نحو الطغاة كأنه

بدر بدا من برجه يتطلع

ودعا له ماء يبل غليله

ويقول هل قلب يرق ويخشع

وأتاه سهم مارق من مارق

بغروره وبكفره يتمتع

قطع الوريد من الوليد وأقبلت

منه الدماء واحمر منه البرقع

أخذ الدماء بكفه فرمى به

نحو السّماء والعين منه تدمع

ومضى يجدل كل صل صائل

ويقد هاماً منهم ويدرع

حتى دنى أجل الكتات ولم يكن

من بغدما حتم المقدر ينفع

أردوه عن ظهر الجواد كأنه

جبل لخشية ربه متصدع

لهفي له يبغي هنالك شربة

فيجاب بالشتم الشنيع ويمنع

لهفي لمصرعه الشريف على الثرى

بين اللئام وعز ذاك المصرع

لهفي لجثته الشريفة في الثرى

مطروحة يسفى عليها الزوبع

لهفي له إذ يستغيث فلم يغث

أفلم يكن عند النداء من يسمع

ذبحوه ظمآناً وكوثر جدّه

بالماء في يوم القيامة مترع

حملوا الكريم على القناة مضمخاً

والنور من أعضائه يتشعشع

قطع اللعين سنان منه وريده

هل كان يدري أي عضو يقطع

تبت يداه لقد أساء بفعله

وله جهنم في القيامة تسفع

وأتى الجواد إلى الخيام منهما

بصهيله والسرج منه بلقع

وأتت سكينة وهي تندب حاسراً

بأبي الشجاع الاريحي الأروع

وا سيداه عدمت بعدك صحتي

فإلى الإله المشتكى والمفزع

فالدين أضحى بعد فقدك ثاكلا

والدهر أمسى وهو بعدك أجدع

١٧٧

أين الحماة وأين جدّي الـمُصطفى

بل أين حيدرة البطين الأنزع

اليوم مات مُحمّد واستوسرت

أولاده من بعده وتضعضعوا

كم حرمة ظهرت محاسن وجهها

وكريمة قد مال عنها البرقع

فالطيبات الطاهرات حواسر

وتماط عنهن الثياب وتنزع

والسيد السجاد في أيدي العدا

مضني على حمل الشدائد يرفع

هذا وما سكنت به اضغانهم

وبما جرى في حقه لم يقنع

سلبوه من أثوابه ودروعه

ولنزع خاتمه تبين الإصبع

رضوا جناجن صدره بخيولهم

بغياً وعن أحقادهم لا يقلع

ويزيد ينكث ثغره بقضيبه

متمثلاً بالشعر لا يتنعنع

فليأتين غداً بقبح صنيعه

من الندامة في القيامة يقرع

تالله لا عاد ولا فرعونها

كلا ولا فعلت ثمود وتبع

كفعال هذا النكس ابن أميّة

ومقامه في يه يتسكع

أين الصحابة أين حزب مُحمّد

لا منكر منهم ولا متوجع

خص الكرام بكل خطب فادح

فيه العقول مع القلوب تروع

صبروا على البلوى بكل كريهة

والسر فيهم لا محالة يودع

طوبى لأرض حل في أكنافها

جسد الحُسين وطاب ذاك الموضع

قد قدست أرض الطفوف وبوركت

لـمّا اغتدى لك في ثراها مضجع

لك تربة فيها الشفاء وقبة

فيها الدعاء إلى المهيمن يرفع

هم سادة الدنيا ويوم معادنا

في الحشر منهم شافع ومشفع

ولسوف يدرك ثأرهم مهديهم

وأنا ليوم ظهوره أتوقع

إن لم أكن أدركت نصرة جدّه

فبنصره فيما بقي اتطمع

يابن الإمام العسكري ومن له

صيد الملوك إذا تمثل تخضع

يا سيّدي ظهر الفساد وأظلمت

سبل الرشاد فهل لنورك مطمع

وجرت علينا في الزمان ملاحم

لم ندر في تدبيرها ما نصنع

لم يبق إلّا عالم متصنع

أو جاهل متنسك أو مبدع

جعل العلوم على الفساد ذريعة

أكلوا بها الدنيا ولم يتورعوا

١٧٨

يبغون في الأرض العلو وقصدهم

قبل العوام إليهم كي يخدعوا

كل يريد رئاسة بوقاحة

وإذا رأى أهل النهى لا يتبع

يتنافسون على المناصب والعلى

والله يخفض ما يشاء ويرفع

والله يصلح شأنهم ويصدهم

عن غيهم وعن المعاصي يرجع

وبقي رجال أخلصوا في ودهم

خصوا ببلوى للجبال تصدع

أما طريد أو شريد ضائع

بين البرية أو فقير مدقع

فالله يجبر كسرهم بظهوره

يا من بهم جل المكاره تدفع

ويعين منا الصالحين بعصمة

من كل فعل موثق يستبشع

وبه نؤمل أن ينجي كل من

يبغي الهدى ولسبله تتبع

ونعوذ من خطب يهول وفتنة

فيها المعارف والحقوق تضيع

يا عترة الهادي النّبي ومن هم

عزي وكنزي والرجا والمفزع

واليتكم وبرئت من أعدائكم

وأنا بغير ولاكم لا أقنع

ونظمت في علياكم من مقولي

دراً لها وشى القريض يرصع

علماً بأن مديحكم لي نافع

ومديح قوم غيركم لا ينفع

وأنا بكم متنسك وبحبكم

متمسك وبجدكم مستشفع

لم أهو ديناً أصله من غيركم

حسبي إفتخاري أنني أتشيع

وإلى نقيح نسبتي ومحمد

إسمي فكم لي منكر ومضيع

لم استعن في نظمها بسواكم

كلا ولست لمن تقدم اتبع

بل هذه بكر أتت من فكرتي

وقريحتي للبكر دوماً تقرع

وقبولها يا سادتي مهر لها

إن صح فزت بنعمة لا تقطع

صلّى الإله عليكم ما أحييت

فكر وأوقضت العيون الهجع

أبغي الشفاعة في معادي يوم لا

مال هناك ولا بنون ينفع

بكم اؤمل نجح سعيي دائماً

وإلى الإله بحبكم أتدرع

الباب الثّاني

أيّها المؤمنون النّاصحون , اقطعوا رقاد العيون وواصلوا سهاد الجفون ،

١٧٩

وامسكوا أنفسكم عن اللذّات وابذلوا الدّموع الجاريات ، فقد أعزّ دينه وأحرزه مَن أحمل دمعه وأبرزه ، فإنّ إظهار الدّموع البادية , دليل على ما بطن من الأحزان الخافية ، أما علمتم أنّ هذه الدّموع الهتان نفئة مصدور ، وردّ شرائع الأحزان ، وعجز عن الصّدور وإنّي كُلّما تزايدت عليّ الأفكار , يتوقّد في قلبي لهيب النّار ، فلا أجد ملجأ التّجئ إليه ولا معولاً أصبر إليه , سوى ماء الشّؤون المتحادرة من مقرحات الجفون :

إن الحزين إذا ما الحزن خالطه

كان البكاء له ملجأ من الفكر

لا تعذلوني عذولي إنني رجل

لـمّا تزايد حزني قل مصطبري

وكيف لا تحزن على سادات العباد وأنوار الله في البلاد , فليتني شاهدتهم يوم الطّفوف وفديتهم بروحي من الحتوف ، ولكن ليس إلّا ما أراد الله ولا حول ولا قوة إلّا بالله.

روي : أنّ بعض الصّالحين من المؤمنين , رأى في منامه فاطمة الزّهراء في أرض كربلاء , بعد قتل الحُسين مع جملة من نساء أهل الجنّة وهم يندبون الحُسين (عليه‌السلام ) , وفاطمة تقول : (( يا أبي يا رسول الله ! أما تنظر إلى اُمّتك ما فعلوا بولدي الحُسين ؟ قتلوه ظُلماً وعدواناً , قتلوه ومن شرب الماء منعوه , وللمنايا والغصص جرّعوه , وبالسّيوف قطّعوه , وعلى وجهه قلبوه , ومن القفا ذبحوه , فيا بئس ما فعلوه ! يا ابتاه ! أترى فُعل بولد أحد من الأنبياء كما فُعل بولدي ؟! فوا حرّ قلبه ! كأنّ ربّنا ما خلقنا إلّا للبلاء والابتلاء , فإنّا لله وإنّا إليه راجعون يا أبتاه ! قتلوا بعلي أمير المؤمنين , واُدير الحطب على بيتي واُضرمت النّار فيه , وفُتح باب داري عليّ كُرهاً , وقُتل ولدي الـمُحسن سقطاً , كأنّي لم أكُن بضعة منك يا رسول الله ! ولا أنا الذي قُلت فيّ : فاطمة بضعة منّي يُريبني ما يُريبها , ويُزريني ما يُزريها يا أبتي ! أتعلم ما صُنع بي ؟ كسر اللعين ضلعي حتّى متّ بأسفي , مقروحة عليك وعلى الـمُحسن وعلى ولديّ الحسن والحُسين , إنّا لله وإنّا إليه راجعون )).

ثمّ قالت (عليها‌السلام ) : (( يا أبة يا رسول الله ! وأعظم من هذا , أنّهم منعوني من البكاء عليك في المدينة , وقالوا : آذيتينا بكثرة بكائك حتّى عدت إذا ذكرتك واشتقت إلى النّدب عليك , صرت

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220