المنتخب للطريحي المنتخب في جمع المراثي والخطب المشتهر بـ (الفخري) الجزء ٢

المنتخب للطريحي المنتخب في جمع المراثي والخطب المشتهر بـ (الفخري)0%

المنتخب للطريحي المنتخب في جمع المراثي والخطب المشتهر بـ (الفخري) مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 272

المنتخب للطريحي المنتخب في جمع المراثي والخطب المشتهر بـ (الفخري)

مؤلف: الإمام الكبير والـمُصنّف الشّهير الشّيخ فخر الدّين الطريحي النّجفي
تصنيف:

الصفحات: 272
المشاهدات: 28468
تحميل: 2657


توضيحات:

الـمُنتخب في جمع المراثي والخطب المشتهر بـ (الفخري) الجزء 1 الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 272 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 28468 / تحميل: 2657
الحجم الحجم الحجم
المنتخب للطريحي المنتخب في جمع المراثي والخطب المشتهر بـ (الفخري)

المنتخب للطريحي المنتخب في جمع المراثي والخطب المشتهر بـ (الفخري) الجزء 2

مؤلف:
العربية

فقال لهم بالحل أمضوا واسلكوا

سبيل النجا بالليل فالبر واسع

فقالوا جميعاً لا رعى الله عيشة

نعيش بها والسبط للموت جارع

فقاموا يرون الموت أكبر مغنم

وما منهم إلّا عن السبط دافع

وقام لهم سوق من الموت حامياً

وتجاره سمر القنا والقواطع

وبادي منادي الموت واشتجر القنا

وقد نشرت للبيع ثمّ البضائع

فكم بائع نال السعادة والمنى

وكم خاب ذاك اليوم شار وبائع

فلله من أقمار ثمّ تساقطت

على الأرض صرعى فهي فيها طوالع

وآساد غيل بعد بأس وسطوة

مذللة من بعد عز خواضع

وعاد حسين مثل ما قال شاعر

كما مثل كف طار عنها الأصابع

ونسوانه من بين سبي وغارة

حزانا حيارى نادبات جوازع

وبنت عليّ لا تمل من البكا

بقلب لها قلب الأحبة لاسع

تقول أخي هذا الفراق متى اللقا

وفي أي وقت يجمع الشمل جامع

أخي من لنا من بعد فقدك كافل

وفيمن تلوذ البائسات الضوائع

وصاح ابن سعد إذ رأى السبط وسلبه

ونهب خيام النساء وسارعوا

ألا عجلوا قتل الحسين وسلبه

ونهب خيام النساء وسارعوا

فمال عليه القوم بالبيض والقنا

ورشق سهام رميه متتابع

فأردوه مخضوب الثياب كأنه

شمام هوى من سرجه أو مقالع

كأني بشمر جالساً فوق صدره

لرأس حسين بالمهند قاطع

وعلى سنان رأسه في سنانه

ونور حسين السبط كالبدر ساطع

فيا لك من يوم عظيم مصابه

عجيب أمور للشواهق ضارع

ففحم الغوى والجهل والبطل جامع

ونهر الهدى والدين والحق ضائع

وفيه حسين بالدماء مرمل

وفيه يزيد بالمسرة رائع

وزواره عود وخمرة وقينة

وزوار مولاي الحُسين الجوامع

وطفل يزيد بالمهود ممهد

وطفل حسين بالمنية راضع

وأطلال أولاد الدعي عوامر

وأطلال أولاد النّبي بلاقع

وآل زياد بالستور أعزة

وآل رسول الله فيها ضوارع

٢٤١

كمثل لمـّا يضربن من كل جانب

وقد أخذت عن رؤوسهن المقانع

إذا نظروا رأس الحُسين إمامهم

إلى الأرض من فوق المطايا تواقع

ولم أنس زين العابدين مكبلاً

وشمر له بالسب والضرب واجع

وفخذاه نضاخان قان وقلبه

من الوجد والتبريح بالذل خاشع

فكل مصاب هان دون مصابهم

وكل بلاء دونه متواضع

أيا سادتي يا آل طه عليكم

سلام متى ناح الحمام المراجع

فوالله ما لي في المعاد ذخيرة

ولا عمل فيه انمحى الذنب طائع

سوى حبكم يا خيرب من وطأ الثرى

وإني بذاك الذخر راض وقانع

لعل ابن حماد مُحمّد عبدكم

له في غد خير البرية شافع

عليكم سلام الله ما هبت الصبا

وما لاح نجم في دجى الليل لا مع

الباب الثّاني

يا إخواني , وكيف لا تحزنون على حبيب ربّ العالمين ، وثمرة فؤاد الزّهراء بنت خاتم النّبيين ، وقرّة عين عليّ أمير المؤمنين؟! وكيف لا يكون كذلك وقد ورد في الخبر عن سيّد البشر , أنّه قال في الحسن والحُسين : (( اللّهمّ , أحبّهما وأحبّ من يحبّهما )). وقال : (( مَن أحبّ الحسن والحُسين أحببته , ومَن أحببته أحبّه الله , ومَن أحبّه الله أدخله الجنّة , ومَن بغضهما بغضته , ومَن أبغضته أبغضه الله , ومَن أبغضه الله أدخله النّار )).

فوا عجباه ممّن يحبّهما رسول الملك الخلاق , كيف يقع بهما أهل الضّلال والنّفاق ! فأيّ فؤاد لا يحزن لفقدهم ؟ وأيّ عين تحبس دمعها من بعدهم ؟ وكيف تستقرّ القلوب وقد أصبح أهل بيت الرّسول مطرودين على(١) الأوطان , مشرّدين في البراري والبلدان , شاسعين في الأمصار كأنّهم مع سبايا الكفّار , من غير جرم اجترموه أو مكروه ارتكبوه. فكم من ورع اُريق دمه وذي كمال نكس علمه , فلو سمعتم كيف ينوح عليه(٢) لسان الصّلوات ويحنّ إليهم إنسان الخلوات , وتبكيهم محاريب المساجد وتناديهم أندية الفوائد , لشجاكم سماع تلك الواعية النّازلة , وعرفتم تقصيركم في هذه المصيبة الشّاملة. ولله درّ مَن قال من الرّجال :

ولم أنس مولاي الحُسين وقد غدا

يودع أهليه ويوصي ويعجل

____________________

(١) الأنسب : عن. المقوّم.

(٢) الأنسب : عليهم. المقوّم.

٢٤٢

ينادي ألا يا أهل بيت مُحمّد

أصيغوا ل ـ مّا أوصيكموا وتقبلوا

عليكم بتقوى الله لا تتغيروا

لعظم رزاياكم ولا تتبدلوا

ودوموا على أعمالكم وانتهالكم

وقوموا إذا جن الدجى وتنفلوا

وإن نابكم خطب فلا تتضعضعوا

لوقع الرزايا واصبروا وتحملوا

وفاطمة الصغرى تقول لأختها

هلمي إلى التوديع فالأمر مهول

ألى والدي يوصني بنا أخواته

وعيناه من حزن تفيض وتهمل

وتدعو ألا يا سيّدي بلغ العدى

بنا ما تمنوا في النفوس وأمّلوا

وقمن النساء الفاطميات ولهاً

فأبصرن منه ما يسوء ويذهل

وخرت عليه زينب مستغيثة

ومعجزها من نحره متبلل

وتشكو إلى الزّهراء فاطم حالها

وتندب مما نالها وتولول

أيا اُمّ قومي من ثرى القبر وانظري

حبيبك ملقى في الثرى لا يغسل

وهل أنت يا ست النساء عليمة

بأنا حيارى نستجير ونسأل

وهل لك علم من عليّ فإنه

أسير عليل في القيود مغلل

علمتم وما أعلمتمونا برزئكم

وحملتمونا اليوم ما ليس يحمل

فيا حسرة لا تنقضي ومصيبة

لقد نزلت بالناس دهياء معضل

نُقل : أنّ الحُسين لـمّا أراد الخروج إلى العراق , قالت له اُمّ سلمه : يا مولاي لا تخرج , قد سمعت جدّك رسول الله يقول: (( يُقتل ابني الحُسين بالعراق )). وعندي تربة دفعها إليّ في قارورة ، فقال : (( والله إنّي مقتول كذلك , وإن لم أخرج إلى العراق يقتلوني أيضاً )). ثمّ أخذ تربة فجعلها في قارورة وأعطاها إيّاها وقال : (( اجعليها مع القارورة التي أعطاك ايّاها جدّي , فإذا فاضتا دماً , فاعلمي أنّي قد قُتلت )). قالت اُمّ سلمه : فلمّا كان يوم عاشوراء , نظرت إلى القارورتين بعد الظّهر , فإذا هُما قد صارتا دماً. فصاحت وأعلمت من كان عندها , فصرخوا وأقاموا عليه العزاء. ولم يُقلب ذلك اليوم حجر ولا مدر إلّا ووجد تحته دم عبيط.

علم جدّه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) أنّه مقتول فأوعز إليه , فاستقرّ ذلك في الخاطر وانعقدت عليه السّرائر , فهان عليه ما يلقاه في طاعة ربّه ومولاه حتّى جاهد على الضّلال ممتثلاً لرضا ذي الجلال. فويل لمن خصماؤه شفعاؤه وشفعاؤه خصماؤه !

فيا إخواني , لا تساموا في إقامة

٢٤٣

الأحزان ولا ترغبوا عن إظهار الجزع والأشجان , فإنّه قليل في جنب هذا الخطب الجليل.

نُقل : أنّه لـمّا ارتحل عمر بن سعد لعنه الله ومن معه من أرض كربلاء متوجهاً إلى الكوفة , ومعهم حرم رسول الله ورؤوس العلويين ورأس الحُسين بمقدمهم , سمعوا هاتفاً يقول :

نُقل : أنّ الأبيات لسُليمان بن قتيبة

مررت على أبيات آل مُحمّد

فلم أرها أمثالها يوم حلت

فلا أبعد الله الديار وأهلها

وإن أصبحت عنها برغم تخلت

وكانوا رجاء ثمّ صاروا رزية

لقد عظمت تلك الرزايا وجلت

ألا أن قتل السبط من آل هاشم

أذل رقاب المسلمين فذلت

ألم تر أن الشمس أضحت مريضة

لقتل حسين والبلاد اقشعرت

فليت الذي أهوى إليه بسيفه

أصاب به يمنى يديه فشلت

عن مُسلم الجصاص , قال : دعاني ابن زياد لإصلاح دار الإمارة بالكوفة , فبينما أنا أجصص الأبواب , وإذا بالزّعقات قد ارتفعت من جنبات الكوفة ، فأقبلت على خادم وكان يعمل معنا , فقلت : ما لي أرى الكوفة تضجّ ؟ قال : السّاعة أتوا برأس خارجي , خرج على يزيد بن معاوية. فقلت : مَن هذا الخارجي ؟ قال : الحُسين بن عليّ. قال : فتركت الخادم حتّى خرجت ولطمت وجهي حتّى خشيت على عيني أن تذهبا , وغسلت يدي من الجص وخرجت من ظهر القصر وأتيت إلى الكناس , فبينما أنا واقف والنّاس يتوقعون وصول السّبايا والرّؤوس , إذ قد أقبلت نحو أربعين شقة تحمل على أربعين جملاً فيها الحرم والنّساء وأولاد فاطمة , وإذا بعليّ بن الحُسين على بعير بغير وطاء وأوداجه تشجب(١) دماً وهو مع ذلك يبكي ويقول :

يا أمة السوء لا سقياً لربعكم

يا أمة لم تراعي جدنا فينا

لو أننا ورسول الله يجمعنا

يوم القيامة ما كنتم تقولونا

تسيرونا على الأقتاب عارية

كأننا لم نشيد فيكم دينا

بني أمية ما هذا الوقوف على

تلك المصائب لا تبلون داعينا

____________________

(١) هكذا ورد في هذا الكتاب , ولكن الوارد في الكتب الاُخرى : تشخب. المقوّم.

٢٤٤

تصفقون علينا كفكم فرحاً

وأنتم في فجاج الأرض تسبونا

أليس جدّي رسول الله ويلكم

أهدى البرية من سبل المضلينا

يا وقعة الطف قد أورثتني حزناً

والله يهتك أستار المسيئينا

قال : وصار أهل الكوفة يناولون الأطفال الذين على المحامل بعض التّمر والخبز والجوز , فصاحت بهم اُمّ كلثوم وقالت : يا أهل الكوفة , إنّ الصّدقة علينا حرام. وصارت تأخذ ذلك من أيدي الأطفال ومن أفواههم وترمي به إلى الأرض , قال : كلّ ذلك والنّاس يبكون على ما أصابهم ، ثمّ إنّ اُمّ كلثوم أطلعت رأسها من المحمل وقالت لهم : يا أهل الكوفة , تقتلنا رجالكم وتبكينا نساؤكم , فالحاكم بيننا وبينكم الله يوم فصل القضاء. فبينما هي تخاطبهم , وإذا بضجّة قد ارتفعت , وإذا هُم بالرّوؤس بمقدمهم رأس الحُسين , وهو رأس أزهري قمري أشبه الخلق برسول الله , ولحيته كسواد التّيح قد اتصل بها الخطاب , ووجهه دائرة قمر طالع , والرّيح تلعب بها(١) يميناً وشمالاً ، فالتفتت زينب فرأت رأس أخيها , فنطحت جبينها بمقدم المحمل حتّى رأينا الدّم يخرج من تحت قناعها , وأومت إليه بحرقة وجعلت تقول :

يا هلالاً لـمّا استتم كمالاً

غاله خسفه فأبدى غروبا

ما توهمت يا شقيق فؤادي

كان هذا مقدراً كتوبا

يا أخي فاطم الصغرى كلمها

فقد كاد قلبها أن يذوبا

يا أخي قلبك الشفيق علينا

ما له قد قسا وصار صليبا

يا أخي لو ترى علياً لدى الأسر

مع اليتم لا يطيق وجوبا

كلما أوجعوه بالضرب ناداك

بذل يفيض دمعاً سكوبا

يا أخي ضمه إليك وقربه

وسكن فؤاده المرعوبا

ما أذل اليتيم حين ينادي

بأبيه ولا يراه مجيبا

قال : ثمّ إنّ ابن زياد اللعين جلس في قصر الإمارة وأذن للناس أذناً عامّاً , وأمر بإحضار رأس الحُسين , فاُحضر بين يديه وجعل ينظر إليه ويبتسم وكان بيده قضيب , فجعل يضرب به ثناياه. قال : وكان إلى جانبه رجل من الصّحابة يُقال له

____________________

(١) الظّاهر أنّه يقصد لحيته. المقوّم.

٢٤٥

زيد بن أرقم وكان شيخاً كبيراً ، فلمّا رآه يفعل ذلك , قال له : ارفع قضيبك عن هاتين الشّفتين , فوالله الذي لا إله إلّا هو, لقد رأيت ثنايا رسول الله ترشف ثناياه. ثمّ انتحب وبكى , فقال ابن زياد : أتبكي , أبكى الله عينك ؟ والله لولا أنّك شيخ قد خرفت وذهب عقلك , لأضربنّ عنقك. فنهض عنه مولّياً.

ثمّ دخلت عليه زينب بنت عليّ وهي متنكّرة وعليها أرذل ثيابها ، فجلست ناحية وقد حفّ بها إماؤها , فقال ابن زياد : مَن هذه ؟ فلم تجبه , فأعاد القول ثانية ، فقال له بعض الخدم : زينب بنت عليّ. فأقبل عليها ابن زياد وقال لها : الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم. فقالت : الحمد لله الذي أكرمنا بنبيّه مُحمّد وطهّرنا من الرّجس تطهيراً ، إنّما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر وهو أنت يا عدو الله وعدو رسوله. فقال لها : كيف رأيت صنع الله بأخيك وأهل بيته ؟ فقالت : كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم , وسيجمع الله بينك وبينهم وتتحاجّون وتتخاصمون عنده ، وإنّ لك يا بن زياد موقفاً فاستعد له جواباً وإنّي لك به(١) . فغضب ابن زياد واستشاط , فقال له عمرو بن حريث : إنّها امرأة والمرأة لا تؤاخذ بشيء من خطاياها. فقال ابن زياد : قد شفى الله نفسي من طاغيتك والعصاة من أهل بيتك. فرقّت زينب وبكت وقالت : لعمري , لقد قتلت كهلي وأبرزت أهلي وقطعت فرعي واجتثت أصلي , فإن يشفك هذا فقد اشتفيت ؟ فقال ابن زياد : هذه سجّاعة , ولعمري , كان أبوها أسجع منها. فقالت : ما للمرأة والسّجاعة , وأنّى لي السّجاعة , وأنّي لفي شغل عنها ولكن صدري نفث بما قُلت.

ثمّ عُرض عليه عليّ بن الحُسين ، فقال له : مَن أنت ؟ قال : أنا عليّ بن الحُسين ، وقد كان لي أخ أكبر منّي قتلوه النّاس. فقال له ابن زياد : قتله الله. فقال عليّ بن الحُسين : الله يتوفّى الأنفس حين موتها. قال : فغضب ابن زياد وقال : ألك جرأة على جوابي وفيك بقيّة الرّد عليّ ؟! اذهبوا إليه(٢) فاضربوا عنقه. فتعلّقت به زينب وقالت : يا بن زياد , حسبك من دمائنا. واعتنقته وقالت : والله لا أفارقه , وإن قتلتموه فاقتلوني معه. فنظر ابن زياد وقال : واعجباً للرحم ! والله إنّي لأظنّها تودّ أن أقتلها دونه ، دعوه فإنّي أراه لما به مشغول.

ثمّ قام من مجلسه وخرج من القصر وجاء المسجد وصعد المنبر وقال : الحمد لله الذي أظهر الحقّ وأهله ,

____________________

(١) هكذا ورد في هذا الكتاب , ولكن الوارد في اللهوف في قتلى الطّفوف /٩٤ , وغيره , فقالت : ما رأيت إلا جميلا ، هؤلاء قوم كتب عليهم القتال فبرزوا إلى مضاجعهم , وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاج وتخاصم , فانظر لمن يكون الفلج يؤمئذ , هبلتك اُمّك يا بن مرجانة. (معهد الإمامين الحسنين).

(٢) هكذا ورد في هذا الكتاب , ولكن الوارد في اللهوف في قتلى الطفوف /٩٥ , وغيره : به. (معهد الإمامين الحسنين).

٢٤٦

ونصر الأمير يزيد بن معاوية وحزبه , وقتل الكذّاب ابن الكذّاب وشيعته. فقام إليه عبد الله بن عفيف الأزدي وكان من شيعة عليّ (عليه‌السلام ) , وقال بأعلى صوته : يا عدو الله , الكذّاب أنت وأبوك والذي ولاك وأبوه , يا بن مرجانة , تقتل أولاد الأنبياء وتقوم مقام الصّديقين الأتقياء ؟! قال ابن زياد : عليّ به. فأخذته الجلاوزة , فنادى : معاشر الأزد. فاجتمع منهم جمع كثير فانتزعوه من أيديهم ، فلمّا كان الليل , أمر ابن زياد من يأتيه به وقد كان كفّ بصره , فهجموا عليه ولم يكن عنده غير ابنته , فقال لها : يا بنيّة , ناوليني سيفي وقولي : خلفك وأمامك وعن يمينك وعن شمالك. فقتل منهم مقتله عظيمة ، ثمّ ظفروا به واخذوه أسيراً إلى ابن زياد , فقال له : الحمد لله الذي أعمى عينيك. فقال له : الحمد لله الذي فتح عينيك وأعمى قلبك. فأمر به فضربت عنقه وصلب رحمة الله عليه. قال من حضر : رأيت ناراً قد خرجت من القصر كادت تحرقه , فقام ابن زياد عن سريره هارباً ودخل بعض بيوته. كلّ ذلك ولم يرتدع اللعين عن غيّه وشقاوته.

ثمّ التفت إلى السّبي فرأى زينب وهي تتخفّى بين النّساء وتستر وجهها بكمّها ؛ لأنّ قناعها اُخذ منها , فقال لها : يا زينب , كلّميني بحقّ جدّك رسول الله. فقالت : وما الذي تريد وقد هتكتني بين النّساء ؟ قال : كيف رأيت صنع الله بأخيك , أراد أن يكابر الأمير يزيد في مكّة , فخيّب الله أمله وقطع رجاه ؟ فقالت زينب : ويلك يابن مرجانة ! كم تسحب علينا أثواب غيّك , فإنّ أخي إن طلب الخلافة فلا عدوان عليه , فإنّه طلب ميراث جدّه وأبيه , وإنّه أحقّ بالأمر منك وممّن أمّرك , لكنّك استجرت الجحيم لنفسك , فاستعد لله جواباً إذا كان هو القاضي والخصم جدّي رسول الله والسّجن جهنّم.

قال : فغار عليّ بن الحُسين على عمّته , فقال لابن زياد : إلى كم تهتك عمّتي بين من يعرفها ومَن لا يعرفها , قطع الله يديك ورجليك ؟ قال : فاستشاط ابن زياد وأمر بضربه , فمنع من ذلك.

قال : ثمّ إنّ اللعين دعا بالشّمر وخولّى وشبث بن ربعي وعمر بن الحاج وضمّ إليهم ألف فارس وزوّدهم , وأمرهم بأخذ السّبايا والرّؤوس إلى دمشق عند يزيد , وأمر أن يشهروهم في كلّ بلدة يدخلونها , فساروا على الفرات واخذوا على أوّل منزل نزلوا وكان المنزل خراباً , فوضعوا الرّأس بين أيديهم والسّبايا قريباً منه , وإذا بكفّ خارج من الحائط وقلم يكتب بدم هكذا :

٢٤٧

أترجو أمة قتلت حسيناً

شفاعة جدّه يوم الحساب

فال والله لي لهم شفيع

وهم يوم القيامة في العذاب

قال : ففزعوا من ذلك وارتاعوا ورحلوا من ذلك المنزل , وإذا بهاتف يسمعونه ولا يرونه وهو يقول :

ماذا تقولون إذ قال النّبي لكم

ماذا فعلتم وأنتم آخر الأمم

بعترتي وبأهلي عند مفتقدي

منهم أسارى ومنهم ضرجوا بدم

ماكان هذا جزائي إذ نصحت لكم

أن تخلفوني بسوء في ذوي رحمي.

قال : فلمّا وصلوا إلى تكريت , أنفذوا إلى صاحب البلد : أن تلقانا فإنّ معنا رأس الحُسين وسباياه. فلمّا أخبرهم الرّسول بذلك , نُشرت الأعلام وخرجت الغلمة(١) يتلقونهم ، فقالت النّصارى : ما هذا ؟ فقالوا : رأس الحُسين. فقالوا : هذا رأس ابن بنت نبيّكم ؟ قالوا : نعم. قال : فعظم ذلك عليهم وصعدوا إلى بيعهم وضربوا النّواقيس ؛ تعظيماً لله ربّ العالمين , وقالوا : اللّهمّ , إنّا إليك براء ممّا صنع هؤلاء الظّالمون.

قال : فلمّا رحلوا من تكريت وأتوا على وادي النّخلة , سمعوا بكاء الجنّ وهن يلطمن الخدود على وجوههن ويقلنّ :

مسح النّبي جبينه فله بريق في الخدود

أبواه من علياً قريش جدّه خير الجدود

واُخرى تقول :

ألا يا عين جودي فوق خدي

فمن يبكي على الشّهداء بعدي

علي رهط تقودهم المنايا

إلى متكبر في الملك عبد

قال : فلمّا وصلوا إلى بلدة يُقال لها مرشاد , خرج المشايخ والمخدرات والشّبّان ؛ يتفرّجون على السّبي والرّؤوس , وهُم مع ذلك يصلّون على مُحمّد وآله ويلعنون أعداءهم وهو من العجائب ، ثمّ رحلوا عنه إلى مدينة يُقال لها بعلبك , وكتبوا إلى صاحبها : بأن تلقانا فإنّ معنا رأس الحُسين بن عليّ. فأمر بالرّايات فنشرت , وخرج الغلمان يتلّقونهم على نحو من ستة أميال فرحاً بهم.

قال : فدعت عليهم

____________________

(١) الظّاهر يريد : الغلمان. المقوّم.

٢٤٨

اُمّ كلثوم , فقالت : أباد الله كثرتكم وسلّط عليكم من يقتلكم. قال : فعند ذلك بكى عليّ بن الحُسين وقال :

هو الزمان فلا تفنى عجائبه

عن الكرام وما تهدأ مصائبه

فليت شعري إلى كم ذا تجاذبنا

فنونه وترانا كم نجاذبه

يسري بنا فوق أقتاب بلا وطاء

وسائق العيس يحمي عنه غاربه

كأننا من أسارى الروم بينهم

كأنما قاله المختار كاذبه

كفرتم برسول الله ويحكم

فكنتم مثل من ضلت مذاهبه

قال : ونصبوا الرّمح الذي فيه الرّأس إلى جانب صومعة راهب , فسمعوا هاتفاً يقول :

والله ما جئتكم حتّى بصرت به

بالطف منعفر الخدين منحورا

وحوله فتية تدمى نحورهم

مثل المصابيح يغشون الدجي نورا

كان الحُسين سراجاً يستضاء به

الله أعلم إنّي لم أقل زورا

فقالت اُمّ كلثوم : من أنت يرحمك الله ؟ قال : أنا ملك من الجنّ , أتيت أنا وقومي لننصر الحُسين فصادفناه وقد قُتل. قال : فلمّا سمعوا بذلك , رعبت قلوبهم وقالوا : إنّنا علمنا أنّنا من أهل النّار بلا شك. فلمّا جنّ الليل , أشرف الرّاهب من صومعة ونظر إلى الرأس وقد سطع منه نور وقد أخذ في عنان السّماء , ونظر إلى باب قد فُتح من السّماء والملائكة ينزلون وهم ينادون : يا أبا عبد الله عليك السّلام. فجزع الرّاهب من ذلك , فلمّا أصبحوا وهمّوا بالرّحيل , أشرف الرّاهب عليهم وقال : ما الذي معكم ؟ قالوا : رأس الحُسين بن عليّ. فقال : ومَن اُمّه ؟ قالوا : فاطمة بنت مُحمّد. قال : فجعل الرّاهب يصفق بكلتا يديه وهو يقول : لا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم , صدقت الأحبار فيما قالت. فقالوا : وما الذي قالت الأحبار ؟ قال : يقولون إذا قُتل هذا الرّجل , مطرت السّماء دماً ، وذلك لا يكون إلّا لنبي أو ولد وصي. ثمّ قال : وا عجباه من اُمّة قتلت ابن بنت نبيّها وابن وصيه ! ثمّ إنّه أقبل على صاحب الرّأس الذي يلي أمره , وقال له : أرني الرّأس لأنظر إليه. فقال : ما أنا بالذي أكشفه إلّا بين يدي الأمير يزيد ؛ لأحظى عنده

٢٤٩

بالجائزة وهي بدرة عشرة آلاف درهم. فقال الرّاهب : أنا أعطيك ذلك. فقال : احضره. فاحضر له ما قال ، ثمّ أخذ الرّأس وكشف عنه وتركه في حجره , فبدت ثناياه , فانكبّ عليها الرّاهب وجعل يقبّلها ويبكي ويقول : يعزّ عليّ يا أبا عبد الله لاكون أوّل قتيل بين يديك , ولكن إذا كان في الغد , فاشهد لي عند جدّك إنّي أشهد أن لا إله إلّا الله , وأنّ محمداً عبده ورسوله. ثمّ ردّ الرّأس بعد أن أسلم وأحسن إسلامه ، فسار القوم ثمّ جلسوا يقتسمون الدّراهم , فإذا هي خزف مكتوب عليها :( وَسَيَعْلَمُ الّذِينَ ظَلَمُوا أَيّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ ) (١) . قال : ثمّ ساروا إلى أن قربوا من دمشق , وإذا بهاتف يقول :

رأس ابن بنت مُحمّد ووصيه

يا للرجال على قناة يرفع

والمسلمون بمنظر وبمشهد

لا جازع فيهم ولا متوجع

كحلت بمنظلك العيوم عماءها

وأصم رزؤك كل أذن تسمع

ما روضة إلّا تمنت أنها

لك تربة ولخط جنبك مضجع

منعوا زلال الماء آل مُحمّد

وغدت ذئاب البر فيه تكرع

عين علاها الكحل فيه تفرقعت

ويد تصافح في البرية تقطع

قال : فلمّا وردوا إلى دمشق , جاء البريد إلى يزيد وهو مُعصب الرّأس ويداه ورجلاه في طشت من ماء حار , بين يديه طبيب يعالجه وعنده جماعة من بني اُميّة يحادثونه , فحين رآه , قال له : أقرّ عينيك بورود رأس الحُسين. فنظره شزراً وقال : لا أقرّ الله عينيك. ثمّ قال للطبيب : اسرع واعمل ما تريد أن تعمل. قال : فخرج الطّبيب عنه وقد أصلح جميع ما أراد أن يصلح ، ثمّ إنّه أخذ كتاباً بعثه إليه ابن زياد وقرأه , فلمّا انتهى إلى آخره , عضّ على أنامله حتّى كاد أن يقطعها , ثمّ قال : إنّا لله وإنّا إليه راجعون. ودفعه إلى مَن كان حاضراً ، فلمّا قرأوه , قال بعضهم لبعض : هذا ما كسبت أيديكم. فما كان إلّا ساعة , وإذا بالرّايات قد أقبلت ومن تحتها التّكبير , وإذا بصوت هاتف لا يُرى شخصه يقول :

جاؤوا برأسك يا بن بنت مُحمّد

مترملاً بدمائه ترميلا

ويكبرون بأن قتلت وإنما

قتلوا بك التكبير والتهليلا

____________________

(١) سورة الشّعراء / ٢٢٧.

٢٥٠

قال : ثمّ دخلوا بالسّبايا والرّؤوس إلى دمشق وعليّ بن الحُسين معهم على جمل بغير وطاء , وهو يقول :

أقاد ذليلاً في دمشق كأنني

من الزنج عبد غاب عنه نصير

وجدي رسول الله في كل مشهد

وشيخي أمير المؤمنين أمير

فيا ليت لم انظر دمشق ولم أكن

يراني يزيد في البلاد أسير

قال : ثمّ أتوا إلى باب السّاعات , فوقفوا هناك ثلاث ساعات يطلبون الإذن من يزيد , فبينما هُم كذلك , إذ خرج مروان بن الحكم , فلمّا نظر إلى رأس الحُسين (عليه‌السلام ) , صار ينظر إلى أعطافه جذلاً طرباً ، ثمّ خرج أخوه عبد الرّحمن , فلمّا نظر إلى الرّأس بكى ، ثمّ قال : أمّا أنتم فقد حُجبتم عن جدّه رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) , والله لا جامعتكم على أمر أبداً. قال : ثمّ قال : بالعزيز عليّ يا أبا عبد الله ما نزل بك. ثمّ أنشأ يقول :

سمية أمسى نسلها عدد الحصى

وبنت رسول الله ليس لها نسل

إمام غريب الطف ادنى برأسه

من ابن زياد وهو في العالم الرذل

قال : ثمّ إنّ يزيد لعنه الله بعث يطلب الرّأس , فلمّا اُوتي به إليه , وضعه في طشت من ذهب وجعل ينكث ثناياه بقضيب كان عنده , وهو يقول : رحمك الله يا حُسين , لقد كنت حسن المضحك. ثمّ أنشأ :

نفلق هاماً من رجال أعزة

علينا وهم كانوا أعق واظلما

قال : ثمّ نظر إلى عليّ بن الحُسين وقال : أبوك قطع رحمي وجهل حقّي ونازعني في سلطاني , ففعل الله به ما رأيت. فقال عليّ بن الحُسين(ع) :( مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ) (١) . فقال يزيد لولده خالد : أجب عليّ بن الحُسين على جوابه. فلم يدر خالد ما يقول , فقال أبوه : قُل له :( وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ) (٢) . فقال عليّ بن الحُسين(ع) :( اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا ) (٣) . فسكت يزيد , وإذا بغراب ينعق ويصيح في أعلى القصر , فأنشأ اللعين يقول :

____________________

(١) سورة الحديد / ٢٢.

(٢) سورة الشّورى / ٣٠.

(٣) سورة الزّمر / ٤٢.

٢٥١

يا غراب البين ما شئت فقل

إنما تندب أمراً قد فعل

كل ملك ونعيم زائل

وبنات الدهر يلعبن بكل

ليت أشياخي ببدر شهدوا

وقعة الخزرج من وقع الأسل

لأهلوا واستهلوا فرحاً

ثمّ قالوا يا يزيد لا تشل

قد قتلنا القوم من ساداتهم

وعدلناه ببدر فاعتدل

وأخذنا من عليّ ثارنا

وقتلنا الفارس الندب البطل

لست من خندف إن لم أنتقم

من بني أحمد ما كان فعل

لعبت هاشم في الملك فلا

خبر جاء ولا وحي نزل

قال : ثمّ إنّه التفت إلى القوم وقال : كيف صنعتم بهم ؟ فقالوا : جاءنا بثمانية عشر من أهل بيته وسبعين رجلاً من شيعته وأنصاره , فسألناهم النّزول على حكم الأمير يزيد , فأبوا , فغدونا عليهم من شرق الأرض وغربها , وأحطنا بهم من كلّ ناحية حتّى أخذت السّيوف مأخذها من هام القوم , فلاذوا بنا كما يلوذ الحمام من الصّقر , فما كان إلا ساعة حتّى أتينا على آخرهم , فهاتيك أجسادهم مجرّدة وثيابهم مرمّلة وخدودهم معفّرة , تصهرهم الشّمس وتسفى عليهم الرّيح وزوارهم العقبان والرّخم. قال : فأطرق يزيد رأسه وقال : كنت أرضى من طاغيتكم بدون قتل الحُسين. قال : ثمّ إنّ هند بنت عبد الله بن عمر زوجة يزيد , دعت برداء وتقنّعت ووقفت خلف السّتار ، فلمّا رأت الرّأس بين يدي يزيد , قالت : ما هذا ؟ فقال : رأس الحُسين بن فاطمة. فبكت هند وقالت : عزيز على فاطمة أن ترى رأس ابنها بين يديك يا يزيد , ويحك فعلت فعلة استوجبت بها النّار يوم القيامة ! والله ما أنا لك بزوجة ولا أنت ببعل , ويلك يا يزيد بأيّ وجه تلقى الله وجدّه رسول الله ؟ فقال لها : ارتدعي يا هند من كلامك هذا , والله ما أخبرت بذلك ولا أمرت به. فعند ذلك خرجت عنه وتركته , ثمّ دخل عليه الشّمر اللعين يطلب منه الجائزة وهو يقول :

إملأ ركابي فضة أو ذهباً

قتلت خير الخلق أماً وأباً

قال : فنظر إليه يزيد شزراً وقال : أملأ ركابك حطباً وناراً , ويلك إذا علمت أنّه خير الخلق اُمّاً وأباً , فلم قتلته وجئتني برأسه ؟! اخرج من بين يدي لا جائزة

٢٥٢

لك عندي. فخرج على وجهه هارباً قد خسر الدُنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين.

قال : وحضر عند يزيد رأس الجالوت , فرآه يقلّب رأس الحُسين بالقضيب ، فقال له : اتأذن لي أن أسألك يا يزيد ؟ فقال اسأل ما بدا لك. فقال له : سألتك بالله هذا رأس مَن , فما رأيت أحسن منه ولا من مضحكه ؟ فقال : هذا رأس الحُسين بن عليّ , خرج علينا بأرض العراق فقتلناه. فقال رأس الجالوت : فيما استوجب هذا الفعل ؟ فقال : ويلك دعوه أهل العراق وكتبوا إليه وأرادوا أن يجعلوه خليفة , فقتله عاملي عُبيد الله بن زياد وبعث إليّ برأسه ! فقال له : يا يزيد , هو أحقّ منكم بما طلب وهو ابن بنت نبيّكم , ما أعجب أمركم , إنّ بيني وبين داود نيفاً وثلاثين جدّاً , واليهود يعظّمونني ويأخذون التّراب من تحت قدمي , وأنتم بالأمس نبيّكم بين أظهركم , واليوم شددتم على ولده فقتلتموه وسبيتم حريمه وفرقتموهم في البراري والقفار , إنّكم لأشرّ قوم ! فقال له يزيد : ويلك أمسك عن هذا الكلام أو تقتل !

ثمّ إنّ اللعين أمر بإحضار السّبايا , فاحضروا بين يديه , فلمّا حضروا عنده , جعل ينظر إليهن(١) ويسأل مَن هذه ومَن هذا , فقيل : [ هذه](٢) اُمّ كلثوم الكبرى وهذه اُمّ كلثوم الصّغرى , وهذه صفيّة وهذه اُمّ هانئ وهذه رقيّة بنات عليّ , وهذه سكينة وهذه فاطمة بنتا الحُسين , وهذا عليّ بن الحُسين. فالتفت اللعين إلى سكينة وقال : يا سكينة , أبوك الذي كفر حقّي وقطع رحمي ونازعني في مُلكي. فبكت سكينة وقالت : لا تفرح بقتل أبي ؛ فإنّه كان مُطيعاً لله ولرسوله ودعاه إليه فأجابه وسعد بذلك , وإنّ لك يا يزيد بين يدي الله مقاماً يسألك عنه , فاستعد للمسألة وجواباً , وأنّى لك الجواب. قال لها : اسكتي يا سكينة , فما كان لأبيك عندي حقّ.

قال : فوثب رجل من لخم , وقال : يا أمير , هب لي هذه الجارية من الغنيمة , فتكون خادمة عندي - يعني : سكينة - قال : فانضمّت إلى عمّتها اُمّ كلثوم وقالت : يا عمّتاه أترين نسل رسول الله يكونون مماليكاً للأدعياء ؟! فقالت اُمّ كلثوم لذلك الرّجل : اسكت يا لُكع الرّجال , قطع الله لسانك وأعمى عينيك وأيبس يديك وجعل النّار مثواك , إنّ أولاد الأنبياء لا يكونون خدمة لأولاد الأدعياء.

قال : فوالله ما استتم كلامها حتّى أجاب الله دعاءها في ذلك الرّجل ، فقالت : الحمد لله الذي عجّل لك العقوبة في الدُنيا قبل الآخرة , فهذا جزاء من يتعرّض بحرم رسول الله.

نُقل عن

____________________

(١) الأنسب : إليهم. المقوّم.

(٢) من إضافات المقوّم.

٢٥٣

علي بن الحُسين (عليه‌السلام ) , أنّه قال : (( لـمّا وفدنا على يزيد بن معاوية لعنه الله , أتونا بحبال وربطونا مثل الأغنام , وكان الحبل بعنقي وعنق اُمّ كلثوم وبكتف زينب وسكينة والبنيات , وساقونا , وكلّما قصرنا عن المشي , ضربونا حتّى أوقفونا بين يدي يزيد , فتقدمت إليه وهو على سرير مملكته , وقلت له : ما ظنك برسول الله لو يرانا على هذه الصّفة ؟ فبكى وأمر بالحبال فقطعت من أعناقنا وأكتافنا )).

ونُقل أيضاً : أنّ الحريم لـمّا اُدخلن إلى يزيد بن معاوية , كان ينظر إليهن ويسأل عن كلّ واحدة بعينها وهن مربطات بحبل طويل , وكانت بينهنّ امرأة تستر وجهها بزندها ؛ لانّها لم تكن عندها خرقة تستر وجهها , فقال : مَن هذه ؟ قالوا : سكينة بنت الحُسين. فقال : أنت سكينة ؟ فبكت واختنقت بعبرتها حتّى كادت تطلع روحها , فقال لها : وما يبكيك ؟ قالت : كيف لا تبكي مَن ليس لها ستراً تستر وجهها ورأسها عنك وعن جلسائك ؟ فبكى اللعين ثمّ قال : لعن الله عبيد الله بن زياد , ما أقوى قلبه على آل الرّسول. ثمّ قال لها : ارجعي حتّى آمركنّ بأمري.

كثير الحزن من مثلي قليل

فاقلل من مصابك يا عليل

ماصبي لو علمت به عظيم

ورزئي حين تعله جليل

أصبت بسيد ساد البرايا

فليس لفضل سؤدده عديل

شريكي في مصيبتي الرسول

وفاطم والوصي وجبرائيل

حسين بن النّبي فدته نفسي

على الرمضاء عريان قتيل

يرى ماء الفرات على ظماء

وليس إلى الورود له سبيل

يطاف برأسه في رأس رمح

وجثته ترضضها الخيول

وقد برزت حلائله سبايا

كسبي الروم موقفها ذليل

فأي مصيبة من ذاك أدهى

إذا ذكرت تفكرها العقول

فماذا للنبي إذا رأته

غداة الحشر أمته تقول

وكلهم لعترته ظلوم

غشوم قاتل شأن خذول

ستعلم أمة قتلت حسيناً

بأن عذاب قاتله وبيل

إذا عرضوا على الرحمن صفاً

وجاءت ثمّ فاطمة البتول

وفي يدها قميص السبط تشكو

ظلامتها فينصفها الجليل

٢٥٤

ويهوي الظالمون بها جميعاً

إلى قعر الجحيم لهم عويل

وتشفع في مواليها فتعطي

شفاعتها كما قال الرسول

وتقدمهم إلى الفردوس حتّى

تكون ثوابهم ولهم مقيل

وإني من مواليهم حياتي

لأن ثواب مولاهم جزيل

أحبهم وأبغض شانئيهم

وذلك لي إلى ربي وسيل

وأنشر فضلهم نثراً ونظماً

وأعلم أن ذاك لهم قليل

فانظروا يا إخواني إلى ما قد حلّ بذراري رسول الملك العلام من الطّغاة الكفرة اللئام ، أخرجوهن من خدورهن مسلّبات؛ للشعور ناشرات وللخدود لاطمات ، وللمحامي والكفيل فاقدات ، ولمحاسن الوجوه بأيديهن ساترات. يعزّ عليّ ذكر هذا المصاب , أو يسمح بسطره بناني , أوأتمثّله في خاطري وجناني ، ولكن لا حيلة فيما صدر ممّا جرى به القضاء والقدر , إلّا مَن فاتته نصرتهم يوم القتال , فلا ييأس من مشاركتهم في تلك الحال , فإنّ الله تعالى جعل متابعتنا لهم فيما أمكن من الأفعال , وحزننا وبكائنا بالدّموع السّجال , وبثّ عيوب أعداءهم أهل الزّيغ والضّلال , قائماً مقام الجهاد معهم يوم القتال, كما ورد في الخبر عن سيّد الأوصياء وخير الأتقياء عليّ (عليه‌السلام ) , أنّه قال لاصحابه : (( الزموا بيوتكم واصبروا على البلاء ولا تتحرّكوا بأيديكم وسيوفكم وهواء ألسنتكم , ولا تستعجلوا بما لم يعجّله الله لكم ؛ فإنّه مَن مات منكم على فراشه وهو على معرفة حقّ ربّه وحقّ رسوله , كان كمن مات شهيداً ووقع أجره على الله , استوجب ثواب ما نوى من صالح عمله , وقامت النّيّة مقام صلاته وجهاده بسيفه ويده , وإنّ لكلّ شيء أجلاً وانتهاء )). وعلى مثل أهل بيت الرّسول فليبك الباكون , وإيّاهم فليندب النّادبون ولمثلهم تذرف الدّموع من العيون ، أو لا تكونون كبعض مادحيهم حيث عرته الأحزان , فنظم وقال فيهم :

القصيدة للشيخ الخليعي (رحمه‌الله )

ما لدمعي لم يطف حر غليلي

للقتيل الظامي وأي قتيل

لقتيل أبكى النّبي وأذكى

حرق الحزن في فؤاد البتول

٢٥٥

لقتيل بكت عليه السماوات

وأملاكها بدمع همول

لقتيل عزي به جدّه وهو

ربيب على يدي جبرائيل

كيف يلجأ على النازح الثاكل

أو يرعوي لعذل العذول

أين قلب الخلي من لوعة الحزن

وقلب المتيم المبتول

فضح الدمع من تلطع بالحب

وصحت شواهد المعلول

لست أنساه يسأل الركب

والسائل أوفى جزاء من المسؤول

مستدلاً مستخبراً ما أسم هذي

الأرض وهو الدليل وابن اليل

ناشفاً ترب كربلاء باكياً مستعيراً

مؤذناً لهم بالنزول

ثم قال اضربوا الخيام وقيلوا

ليس من حادث الردى من مقيل

ههنا تنحر النحور ولم يبق

لنا في الحياة غير القليل

ههنا يصبح العزيز من الأشراف

في قبضة الحقير الذليل

ههنا تهتك الكرائم من آل

عليّ بذلة وخمول

من دمي يبلل الثرى ههنا

واحر قلبي على القثرى المبلول

ورقا فوق منبر حامد الله

يثني على العزيز الجليل

ثم قال اربعوا فقتلي شفاء

لصدور مملوءة بالذحول

فأجابوه حاش لله بل يفديك

كل بالنفس يا بن البتول

فجزاهم خيرا وقال لقد

فزتم ونلتم نهاية المأمول

ومضى يقصد الخيام ويدعو

ودعيني يا أخت قبل الرحيل

ودعيني فما إلى جمع شملي

بكم بعد فرقة من سبيلي

ودعيني واستعملي الصبر إنا

من قبيل يفوق كل قبيل

شأننا إن طغت علينا خطوب

نتلقى الأذى بصبر جميل

لا تشقي جيباً ولا تلطمي خداً

فأنا أهل الأذى بصبر جميل

واخلفيني على بناتي وكوني

خير مستخلف لأكرم جيل

وأطيعي إمامك السيد السجاد

رب التحريم والتحليل

فإذا ما قضيت نحبي فقولي

في الإله خير سبيل

واذكريني إذا تنفلت بالليل

عقيب التكبير والتهليل

وغداً طالباً قتال بني الزرقاء

ببيض الظباء وزرق النصول

٢٥٦

فاتكا فيهم كفتك أمية

يوم بدر بالصارم المصقول

فأتاه سهم اللعين فأرداه

صريعاً يرض تحت الخيول

ومضى المهر ناعياً يقصد الفسطاط

في كسره وضعف صهيل

فبرزن النسوان من خلل السجف

حيارى في رنة وعويل

وأتت زينب إليه تنادي

وا أخي وا مؤملي وا كفيلي

يا بن أمي يا واحدي ي شقيقي

وا سبائي وا ذلتي وا غليلي

ثم تدعو بأمها أم يا أم

أدركيني وعجلي واندبي لي

واخرجي من ثرى القبور ونوحي

لي على غربتي وحزني الطويل

واسعديني وابكي على النازح

الدار الغريب المشرد المقتول

ثم تدمي الخد الأسيل من النحر

المدمى باللثم والتقبيل

وتنادي أيا أخي ما ترى الأيتام

يعثرن دهشة بالذيول

ما ترى نجلك المفدي بذل

وسقام باد وداء دخيل

يشتكي ثقل الحديد عليلا

لهف قلبي على الأسير العليل

ثم تبكي والسبط ملقى على الأرض

رميلا وا حسرتا للرميل

كلما أفحمت وملت من الندى

رنا نحوها وخطب جليل

يا لها من مصيبة أضعفت أركان

دين الهدى وخطب جليل

أيعلى رأس الحُسين على الرمح

ويهدى إلى الطغاة النغول

يا بن بنت النّبي جفني بتسكاب

دموعي عليك غير نجيلي

ما شجاني إلّا مصابك لا فقد

حبيب ولا فراق خليلي

عبدك النابع الخليعي محزون

بكم عارف لكم بالدليل

ما ثنته عنكم خطوب كما قيل

ولا قاس عالماً بجهول

حاش لله كيف يمضي مع الفاضل

دعوى إمامة المفضول

لكن الجاهل المقلد لا يفرق

بين الدليل والمدلول

أنتم الآمرون للناس بالتقوى

وأهل التنزيل والتأويل

حكمكم في العباد ماض فيهم بينٍ

ضلال مرد وضل ضليل

فأقسموني إذا قسمتم نعماً

وجحيماً إلى ثواب جزيل

٢٥٧

الباب الثّالث

يا إخواني , كيف لا ينهدّ ركني لمصابهم وأتجرّع بعض ما تجرّعوه من غصصهم وأوصابهم , وهُم شفعائي في يوم الدّين إلى ربّ العالمين ؟ حاش لله , بل طال ما شبّت نار أحزاني فأكتمها عن من ينظر إليّ ويراني ، وكم كادت مدامعي أن تظهر كتماني فأزيلها بإرادتي ؛ لئلا يظهر عليها جلسائي وخلاني ، ولِمَ لا أموت في هواهم وأتلف مهجتي في رضاهم ؛ لأفوز بالأجر العظيم والثّواب الجسيم ؟.

حُكي عن الشّعبي الحافظ لكتاب الله تعالى , أنّه قال : استدعاني الحجاج بن يوسف في يوم عيد الضّحية , فقال لي : أيّها الشّيخ , أيّ يوم هذا ؟ فقلت : هذا يوم الضّحية. قال : بِمَ يتقرّب النّاس في مثل هذا اليوم ؟ فقلت : بالأضحيّة والصّدقة وأفعال البرّ والتّقوى. فقال : اعلم إنّي قد عزمت أن أضّحي برجل حُسيني. قال الشّعبي : فبينما هو يخاطبني , إذ سمعت من خلفي صوت لسلسلة وحديد , فخشيت أن التفت فيستخفّني , وإذا قد مثل بين يديه رجل علوي وفي عنقه سلسلة وفي رجليه قيد من حديد ، فقال له الحجاج : ألست فلان بن فلان العلوي ؟ قال : نعم أنا ذلك الرّجل. فقال له : أنت القائل : إنّ الحسن والحُسين من ذرّيّة رسول الله ؟ قال : ما قلت ولا أقول , ولكن أقول : إنّ الحسن والحُسين ولدا رسول الله , وإنّهما دخلا في ظهره وخرجا من صلبه على رغم أنفك يا حجاج. قال : وكان متّكئاً على مسندة فاستوى جالساً , وقد اشتدّ غيظه وغضبه وانتفخت أوداجه حتّى تقطّعت أزرار بردته , فدعا ببردة غيرها فلبسها ، ثمّ قال للرجل : يا ويلك أن تأتيني بدليل من القرآن يدلّ أنّ الحسن والحُسين ولدا رسول الله , دخلا في ظهره وخرجا من صلبه , وإلّا قتلتك في هذا الحين أشرّ قتلة , وإن أتيتني بما يدلّ على ذلك , أعطيتك هذه البردة التي بيدي وخلّيت سبيلك.

قال : وكنت حافظاً كتاب الله تعالى كلّه وأعرف وعده ووعيده وناسخه ومنسوخه , فلم تخطر على بالي آية تدلّ على ذلك , فحزنت في نفسي يعزّ والله عليّ ذهاب هذا الرّجل العلوي ، قال : فابتدأ الرّجل يقرأ الآية فقال :( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) . فقطع عليه الحجاج قراءته , وقال : لعلّك تريد أن تحتجّ عليّ بآية المباهلة , وهي قوله تعالى :( فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا

٢٥٨

وَنِسَاءَكُمْ ) (١) ؟ فقال العلوي : هي والله حجّة مؤكّدة معتمدة , ولكنّي آتيك بغيرها. ثمّ ابتدأ يقرأ :( بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ * وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى ) (٢) . وسكت , فقال له الحجاج : فلِم لا قلت :( وَعِيسَى ) ؟ أنسيت عيسى ؟ فقال : نعم صدقت يا حجاج , فبأيّ شيء دخل عيسى في صلب نوح (عليه‌السلام ) وليس له أب ؟ فقال له الحجاج : إنّه دخل في صلب نوح من حيث اُمّه. فقال العلوي: وكذلك الحسن والحُسين دخلا في صلب رسول الله باُمّهما فاطمة الزّهراء. قال : فبقي الحجاج كأنّما اُلقم حجراً , فقال له الحجاج : ما الدّليل على أنّ الحسن والحُسين إمامان ؟ فقال العلوي : يا حجاج , لقد ثبتت لهما الإمامة بشهادة النّبي في حقّهما ؛ لأنّه قال في حقّهما : (( ولداي هذان إمامان فاضلان إن قاما وإن قعدا , تميل عليهما الأعداء فيسفكون دمهما ويسبون حرمهما )). ولقد شهد النّبي لهما بالإمامة أيضاً حيث قال : (( ابني هذا - يعني الحُسين - إمام ابن إمام أخو إمام أبو أئمة تسعة )). فقال الحجاج : وكم عمر الحُسين في دار الدُنيا ؟ فقال : ست وخمسون سنة. فقال له : وفي أيّ يوم قُتل؟ قال : يوم العاشر في شهر مُحرّم بين الظّهر والعصر. فقال له : ومَن قتله ؟ فقال : يا حجاج , لقد جنّد الجنود ابن زياد بأمر اللعين يزيد , فلمّا اصطفّت العساكر لقتاله , فقتلوا حماته وأنصاره وأطفاله وبقي فريداً , فبينما هو يستغيث فلا يُغاث ويستجير فلا يُجار يطلب جرعة من الماء ليطفىء بها حرّ الظّمأ , فبينما هو واقف يستغيث إلى ربّه , جاءه سنان فطعنه بسنانه , ورماه خولّى بسهم ميشوم فوقع في لبّته وسقط عن ظهر جواده إلى الأرض يجول في دمه , فجاءه الشّمر لعنه الله فاجتزّ رأسه بحسامه ورفعه فوق قناته , واخذ قميصه إسحاق الحضرمي , وأخذ سيفه قيس النّهشلي , وأخذ بلغته حارث الكندي , وأخذ خاتمه زيد بن ناجية الشّعبي , وأحاط القوم بخيامه وعاثوا في باقي أثاثه , وأسبوا حريمه ونساءه.

فقال الحجاج : هكذا جرى عليهم يا علوي ؟ والله , لو تأتيني بهذا الدّليل من القرآن وبصحة إمامتهما , لأخذت الذي فيه عيناك , ولقد نجاك الله تعالى مما عزمت عليه من قتلك , ولكن خذ هذه البردة لا بارك الله لك فيها. فأخذها العلوي وهو يقول : هذا من عطاء الله وفضله لا من عطائك يا حجاج. ثمّ إنّ العلوي بكى وجعل يقول :

____________________

(١) سورة آل عمران / ٦١.

(٢) سورة الأنعام /٨٤ - ٨٥.

٢٥٩

صلّى الإله ومن يحف بعرشه

والطيبون على النّبي الناصح

وعلى قرابته الذين نهضوا

بالنائبات وكل خطب فادح

طلبوا الحقوق فأبعدوا عن دارهم

وعوى عليهم كل كلب نائح

نُقل : أنّه لـمّا دعا اللعين يزيد بسبي الحُسين واعرضوا عليه , قالت له زينب بنت عليّ : يا يزيد , أما تخاف الله سبحانه من قتل الحُسين ؟ وما كفاك حتّى تستحث حرم رسول الله من العراق إلى الشّام ؟ وما كفاك انتهاك حرمتهنّ حتّى تسوقنا إليك كما تُساق الإماء على المطايا بغير وطاء من بلد إلى بلد ؟ فقال لها يزيد لعنه الله : إنّ أخاك الحُسين قال : (( أنا خير من يزيد , وأبي خير من أبيه , واُمّي خير من اُمّه , وجدّي خير من جدّه )). فقد صدق في بعض وألحن في بعض , أمّا جدّه رسول الله فهو خير البرية ، وأمّا أنّ اُمّه خير من اُمّي وأباه خير من أبي , كيف ذلك وقد حاكم أبوه أبي ؟ ثمّ قرأ :( قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (١) . قال : فقالت :( وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ) (٢) . ثمّ قالت : يا يزيد , ما قتل الحُسين غيرك , ولولاك لكان ابن مرجانة أقلّ وأذلّ ، أما خشيت من الله بقتله ؟ وقد قال رسول الله فيه وفي أخي : (( الحسن والحُسين سيّدا شباب أهل الجنّة )). فإن قُلت لا , فقد كذبت , وإن قُلت نعم ، فقد خصمت نفسك. فقال يزيد :( ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ ) (٣) . وبقي خجلاناً. وهو مع ذلك لم يرتدع عن غيّه وبيده قضيب ينكث ثنايا الحُسين(ع) ، فدخل عليه رجل من الصّحابة - ونُقل أنّه زيد بن أرقم - فقال له : يا يزيد , فوالله الذي لا إله إلّا هو , لقد رأيت رسول الله يقبّلهما مراراً كثيرة , ويقول له ولأخيه الحسن : (( اللّهمّ , إنّ هذان وديعتي عند الـمُسلمين )). وأنت يا يزيد هكذا تفعل بودائع رسول الله ؟! قال : ثمّ إنّ يزيد غضب عليه وأمر به فسجن , حتّى نُقل أنّه مات وهو في السّجن. ألا لعنة الله على القوم الظّالمين.

ونُقل : أنّ سكينة بنت الحُسين قالت : يا يزيد , رأيت البارحة رؤيا إن سمعتها منّي قصصتها عليك ؟ فقال يزيد : هاتي ما رأيت. قالت : بينما أنا ساهرة وقد كللت من البكاء بعد أن صلّيت ودعوت الله بدعوات , رقدت عيني , رأيت أبواب

____________________

(١) سورة آل عمران / ٢٦.

(٢) سورة آل عمران /١٦٩ - ١٧٠.

(٣) سورة آل عمران / ٣٤.

٢٦٠