المنتخب للطريحي المنتخب في جمع المراثي والخطب المشتهر بـ (الفخري) الجزء ٢

المنتخب للطريحي المنتخب في جمع المراثي والخطب المشتهر بـ (الفخري)0%

المنتخب للطريحي المنتخب في جمع المراثي والخطب المشتهر بـ (الفخري) مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 272

المنتخب للطريحي المنتخب في جمع المراثي والخطب المشتهر بـ (الفخري)

مؤلف: الإمام الكبير والـمُصنّف الشّهير الشّيخ فخر الدّين الطريحي النّجفي
تصنيف:

الصفحات: 272
المشاهدات: 27784
تحميل: 2472


توضيحات:

الـمُنتخب في جمع المراثي والخطب المشتهر بـ (الفخري) الجزء 1 الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 272 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 27784 / تحميل: 2472
الحجم الحجم الحجم
المنتخب للطريحي المنتخب في جمع المراثي والخطب المشتهر بـ (الفخري)

المنتخب للطريحي المنتخب في جمع المراثي والخطب المشتهر بـ (الفخري) الجزء 2

مؤلف:
العربية

لهفي له عند الشريعة يشتكي

عطشاً وليس إلى الورود بواصل

لهفي لأنصار له قد غودروا

في كربلاء بذوابل ومناضل

لهفي له يرنو مصارع أهله

كملا وإن صاروا لديه أفاضل

لهفي له يأتي الحريم مودعاً

توديع من لا للحياة بآمل

لهفي له يحمي الحريم بسيفه

من فارس يسطو هناك وراجل

لهفي له والقوم تنهب جسمه

عن ناقط بالذابلات وشاكل

لهفي له فوق الصعيد مجدلا

قد خر يهوي عن سراة الفاضل

لهفي وقد ذبح الحُسين بسيفه

والشيب مخضوب بقان سائل

لهفي وقد قطع الزنيم كريمه

كفراً وقد علاه فوق الذابل

لهفي وخيلهم ترض نعالها

لأبر حاف في الأنام وناعل

لهفي لفسطاط الحُسين وقد غدا

نهباً وفيه بنو النّبي الفاضل

لهفي لرأس ابن النّبي هدية

لابن الدعي على سنان الغامل

لهفي لزين العابدين مكتفاً

يكبو له يقتاد بين عقائل

لهفي على حرم الحُسين يسقن في

ذل السبا وما لها من كافل

لهفي لهن وقد برزن حواسراً

من بعد قصم أساور وخلاخل

لهفي لهن وقد سلبن معاجراً

شعثاً وقد ركبن فوق رواحل

فدعت بعمتها الزكية فاطم

بنت النّبي دعا حزين ثاكل

يا عمتاه ابن الحُسين وما بنا

بين العداة كأننا من كابل

قالت بصرت له على عفر الثرى

ومترب ما منه رجاء الآمل

متخضباً بدمائه متعفراً

في القاع بين جوامع وعواسل

قالت ألا يا عمتاه وا حسرتا

لشقاء أيتام له وأرامل

يا عمتا كان الحُسين يحوطنا

وبه نصول على الزمان الصائل

يا عمتا كان الحُسين وسيلة

ترجى وقد قطع الزمان وسائلي

يا عمتا ماذا نؤمل ومن

يعتادنا بعوارف وفواضل

يا عمتا ليس الصديق بزائر

أبداً وليس عدونا بمجامل

يا عمتا وا شقوتا من بعده

ضغناً فليس لكلنا من حامل

٦١

فبكت وقالت زينب لا تصدعي

قلبي فحزن أبيك غير مزائل

يا بنت مولاي الحُسين ترفقي

بحشاشة مسجورة ببلابل

فابوك فارقني ففارقه العزا

لكن حزني في أبيك مواصلي

حجب الحمام حمامه عن ناظري

وخياله طول الزمان مقابل

أسفاً على نور الإله وقد هوى

أسفاً على الليث الهمام الباسل

أأخي إن ذهل الحزين مصابه

يوماً فليس القلب عنك بذاهل

أأخي ما مدمعي عليك بجامد

كلا ولا حزني عليك بزائلي

فبكت ملائكة السّماء لبكائها

وبكى النّبي لها بدمع هائل

هذي الرزية للنبي وآله

جلت فما رزء لها بممائل

لم تفعل الأمم الأوائل مثلها

هيهات ما أحد لذاك بفاعل

فعلام يا شيعتي تذخر مدمعاً

تبكي به لمعالم ومنازل

فاحبس دموعك عن تذكر دمنة

درست معالمها بشعبي نائل

واسمع بها في رزء آل مُحمّد

فعساك تحضى بالنعيم الآجل

إني إذا هل المحرم هاج لي

حزن يذيب حشاشتي من داخل

يفنى الزمان ولا أرى لمصابهم

إلّا أخاً حرق وجسم ناحل

فلعل تعذيبي بهم ألقى به

غفران ذنب هدّ منه كاهل

يا أهل بيت مُحمّد يا سادة

حازوا الورى بمكارم وفواضل

أنتم أئمتنا الهداة وأنتم

في الدين أهل فضائل وفواضل

أنتم رعات المسلمين فمن يزغ

عنكم فليس له الإله بقابل

أنتم بنو المختار غير مدافع

لكم ولا أحد لكم بمشاكل

وإليكم منّي قصيدة شاعر

لهج بمدحكم إليكم مائل

منظومة جاءت تزف إليكم

بكمالها من لج بحر الكامل

قول ابن داغر والمحب مغامس

والقول برهان لعقل القائل

فتقبلوها وعجلوا بكرامتي

فالنفس مولعة بحب العاجل

صلّى الإله عليكم وسقاكم

صوب الغمام بمستهل الوابل

٦٢

الباب الثّالث

أيّها المؤمنون , أتدرون أيّ مزيّة تحصلون وفي أيّ مرتبة تحلّون ؟ أنتم والله المحبورون الفائزون المجاهدون الآمنون الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون , أليس في الكتاب الـمُبين بعد إثبات الولاية لأمير المؤمنين وأولاده الغرّ الميامين :( وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْغَالِبُونَ ) (١) ؟ وهذا الخطاب نصّ صريح في هذا الباب, واعلموا أنّ هذه الآية سرّاً عجيباً لا يتفطّن له إلّا الأريب , فلو تصوّر الـمُحبّ لآل الرّسول ما لاقوه من الخطب المهول وأخلص في ولائه , لاختار لمواساتهم في الموت على بقائه , أيُجندل الحُسين وبنو أبيه على الرّمال ويعلى كريمه الشّريف على القنا كالهلال , وتُسبى ذراريه محمولين حسراً على الجمال , يُطاف بهم في البلاد مقرنين في الأصفاد , هذا والدّموع جامدة والعيون راقدة ؟! لا والله , لا يحسن هذا من أهل الإيمان ولا ممّن يدّعي أنّه من حزب الرّحمان ، بل والله , قُل لهذا المصاب خروج الأرواح من شدّة الاكتئاب :

جار العدو عليهم حتّى غدوا

أيدي سبا في سوء حال منكر

ما بين مضروب بأبيض صارم

أو بين مطعون بلدن أسمر

أو بين مسحوب ليذبح بالعرى

أو بين مشهور وآخر موسر

أو بين من يكبو لثقل قيوده

أو بين مغلول اليدين معفر

كم من أذى متهضم قد مسهم

من ظالم باغ عليهم ومفتر

روي عن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) , أنّه قال لعليّ بن أبي طالب : (( يا عليّ , إنّ الله زوّجك ابنتي فاطمة الزّهراء وجعل صداقها الأرض , فمَن مشى عليها وكان مُبغضاً لها , كان مشيه على الأرض حراماً ولها في يوم القيامة شأن عظيم )).

وعن الصّادق (عليه‌السلام ) , أنّه قال : (( إذا كان يوم القيامة , جاءت فاطمة في لـمّة من نساء أهل الجنّة , فيُقال لها: يا فاطمة ادخلي الجنّة. فتقول : والله لا أدخل حتّى أنظر ما صُنع بولدي الحُسين من بعدي في دار الدُنيا. فيُقال لها : انظري في قلب القيامة. فتنظر يميناً وشمالاً فترى الحُسين (عليه‌السلام ) وهو واقف ليس عليه رأس , فتصرخ صرخة عالية من حرقة قلبها , فتصرخ الملائكة لصرختها , وتقول : وا ولداه ! وا مهجة قلباه ! وا حسيناه !

____________________

(١) سورة المائدة / ٥٦.

٦٣

قال : فلم يبق في ذلك الموقف ملك ولا نبيّ ولا وصي إلّا وبكى لأجلها وحزن لحزنها. قال : فعند ذلك يشتدّ غضب الله على أعداء الرّسول , فيأمر الله تعالى ناراً اسمها هبهب - قد أوقدوا عليها ألف عام حتّى اسودّت واظلمّت لا يدخلها روح - فيُقال لها : يا هبهب , التقطي قتلة الحُسين (عليه‌السلام ) ومَن أعان على قتله. فتلتقطهم جميعاً واحداً بعد واحد , فإذا صاروا في حوصلتها , صهلت بهم وصهلوا بها وشهقت بهم وشهقوا بها واشتدّ عليهم العذاب الأليم , فيقولون : ربّنا لِمَ اوجبت علينا حرق النّار قبل عبدة الأصنام ؟ فيأتيهم الجواب : يا أشقياء , إنّ مَن علم ليس كمن لا يعلم )). فذوقوا عذاب الهون بما كنتم تعملون :

لمصابهم تتزلزل الأطواد

ولقتلهم تتفتت الأكباد

كل الرزايا بعد وقت حلولها

تنسى ورزءهم الجليل يعاد

روي عن سهل بن سعيد الشّهرزوري , قال : خرجت من شهرزوري أريد بيت المقدس , فصار خروجي أيّام قتل الحُسين (عليه‌السلام ) , فدخلت الشّام فرأيت ؛ الأبواب مفتحة والدّكاكين مُغلقة , والخيل مُسرجة , والأعلام منشورة والرّايات مشهورة , والنّاس أفواجاً امتلأت منهم السّكك والأسواق , وهُم في أحسن زينة يفرحون ويضحكون , فقلت لبعضهم : أظنّ حدث لكم عيد لا نعرفه ؟ قالوا : لا. قُلت : فما بال النّاس كافّة فرحين مسرورين ؟ فقالوا : أغريب أنت أم لا عهد لك بالبلد ؟ قُلت : نعم ، فماذا ؟ قالوا : فُتح لأمير المُفسدين فتح عظيم. قُلت : وما هذا الفتح ؟ قالوا : خرج عليه في أرض العراق خارجي فقتله والمنّة لله وله الحمد. قُلت : ومَن هذا الخارجي ؟ قالوا : الحُسين بن عليّ بن أبي طالب. قُلت : الحُسين ابن فاطمة بنت رسول الله ؟ قالوا : نعم. قُلت : إنّا لله وإنّا إليه راجعون , وإنّ هذا الفرح والزّينة لقتل ابن بنت نبيّكم , وما كفاكم قتله حتّى سمّيتموه خارجياً ؟! فقالوا : يا هذا , أمسك عن هذا الكلام واحفظ نفسك ؛ فإنّه ما من أحد يذكر الحُسين بخير إلّا ضُربت عنقه. فسكتّ عنهم باكياً حزيناً ، فرأيت باباً عظيماً قد دخلت فيه الأعلام والطّبول , فقالوا : الرّأس يدخل من هذا الباب. فوقفت هُناك , وكلّما تقدّموا بالرّأس , كان أشدّ لفرحهم وارتفعت أصواتهم , وإذا برأس الحُسين والنّور يسطع من فيه كنور رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) , فلطمت على وجهي وقطعت أطماري

٦٤

وعلا بكائي ونحيبي , وقُلت : وا حزناه للأبدان السّليبة النّازحة عن الأوطان المدفونة بلا أكفان ! وا حزناه على الخدّ التّريب والشّيب الخضيب ! يا رسول الله ! ليت عينيك ترى رأس الحُسين في دمشق يُطاف به في الأسواق , وبناتك مشهورات على النّياق مشقّقات الذّيول والأرياق , ينظر إليهم شرار الفسّاق , أين عليّ بن أبي طالب يراكم على هذا الحال ! ثمّ بكيت وبكى لبكائي كلّ مَن سمع منهم صوتي , وأكثرهم لا يلتفتون بي ؛ لكثرتهم وشدّة فرحهم واشتغالهم بسرورهم وارتفاع أصواتهم , وإذا بنسوة على الأقتاب بغير وطاء ولا ستر , وقائلة منهنّ تقول : وا مُحمّداه ! وا عليّاه ! وا حسناه ! لو رأيتم ما حلّ بنا من الأعداء. يا رسول الله ! بناتك اُسارى كأنّهن بعض أسارى اليهود والنّصارى. وهي تنوح بصوت شجيّ يقرح القلوب على الرّضيع الصّغير , وعلى الشّيخ الكبير المذبوح من القفا ومهتوك الخبا العريان بلا رداء. وا حزناه لما نالنا أهل البيت ! فعند الله نحتسب مصيبتنا.

قال : فتعلّقت بقائمة المحمل وناديت بأعلى الصّوت : السّلام عليكم يا آل بيت مُحمّد ورحمة الله وبركاته. وقد عرفت أنّها اُمّ كلثوم بنت عليّ (عليه‌السلام ) , فقالت : مَن أنت أيّها الرّجل الذي لم يسلّم علينا أحد غيرك مُنذ قُتل أخي وسيّدي الحُسين (عليه‌السلام ) ؟ فقلت : يا سيّدتي ! أنا رجل من شهرزور اسمي سهل , رأيت جدّك مُحمّد الـمُصطفى (صلى‌الله‌عليه‌وآله ). قالت : يا سهل ! ألا ترى ما قد صُنع بنا ؟ أما والله لو عشنا في زمان لم يُر مُحمّد , ما صنع بنا أهله بعض هذا , قُتل والله أخي وسيّدي الحُسين , وسُبينا كما تُسبى العبيد والإماء , وحُملنا على الأقتاب بغير وطاء ولا ستر كما ترى. فقلت : يا سيّدتي , يعزّ والله على جدّك وأبيك واُمّك وأخيك سبط نبي الهُدى. فقالت : يا سهل ! اشفع لنا عند صاحب المحمل أن يتقدّم بالرّؤوس ؛ ليشتغل النّظّارة عنّا بها فقد خزينا من كثرة النّظر إلينا. فقلت : حُبّاً وكرامة.

ثمّ تقدّمت إليه وسألته بالله وبالغت معه , فانتهرني ولم يفعل ، قال سهل : وكان معي رفيق نصراني يُريد بيت المقدس وهو مُتقلد سيفاً تحت ثيابه , فكشف الله عن بصره , فسمع رأس الحُسين وهو يقرأ القُرآن ويقول :( وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ... ) (١) . فقد أدركته السّعادة , فقال : أشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له , وأنّ مُحمّداً عبده ورسوله. ثمّ انقضى سيفه وشدّ به على القوم وهو يبكي , وجعل يضرب فيهم فقتل منهم جماعة كثيرة , ثمّ تكاثروا عليه فقتلوه رحمه‌ الله ، فقالت اُمّ كلثوم : ما هذه

____________________

(١) سورة إبراهيم / ٤٢.

٦٥

الصّيحة ؟ فحكيت لها الحكاية , فقالت : وا عجباه ! النّصارى يحتشمون لدين الإسلام , واُمّة مُحمّد الذين يزعمون أنّهم على دين مُحمّد , يقتلون أولاده ويسبون حريمه , ولكن العاقبة للمتقين :( وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) (١) . ولقد عجبت لتلك الأطواد كيف لا تتزلزل , وكذلك النّادي كيف لا ينخسف ويتحوّل , ولكن أرتفع موجود اللطف من بين أظهرهم وهم لا يعلمون :( وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ ) (٢) :

يا أمة السوء لم تجازوا رسول الله

فيكم إذ لم يزل متعوبا

كل يوم تهتكون حريماً

من بنيه وتقتلون حبيبا

كيف تلقونه شفيعاً وترجون

غدا أن يزيل عنكم كروبا

لا وربي ينال وذاك سوى

من كان مولاهم موال منيبا

حُكي أنّ موسى بن عمران رآه إسرائيلي مستعجلاً , وقد كسته الصّفرة واعترى بدنه الضّعف وحكم بفرائصه الرّجف , وقد اقشعرّ جسمه وغارت عيناه ونحف ؛ لأنّه كان إذا دعاه ربّه للمُناجاة يصير عليه ذلك من خيفة الله تعالى , فعرفه إسرائيلي وهو ممّن آمن به , فقال له : يا نبي الله , أذنبت ذنباً عظيماً , فاسأل ربّك أن يعفو عنّي فأنعم. وسار , فلمّا ناجى ربّه , قال له : يا ربّ العالمين , أسألك وأنت العالم قبل نطقي به. فقال تعالى : (( يا موسى , ما تسألني أعطيك وما تريد أبلغك )). قال : ربّي , إنّ فلاناً عبدك إسرائيلي أذنب ذنباً ويسألك العفو. قال : (( يا موسى , اعفو عمّن استغفرني إلاّ قاتل الحُسين )). قال موسى : يا ربّ , مَن الحُسين ؟ قال له : (( الذي مرّ ذكره عليك بجانب الطّور )). قال : ربّ , ومَن يقتله ؟ قال : (( يقتله اُمّة جدّه الباغية الطّاغية في أرض كربلاء , وتنفر فرسه وتحمحم وتصهل وتقول في صهيلها : الظّليمة الظّليمة من اُمّة قتلت ابن بنت نبيّها , فيبقى مُلقى على الرّمال من غير غسل ولا كفن , ويُنهب رحله وتُسبى نساءه في البلدان , ويُقتل ناصروه وتُشهر رؤوسهم مع رأسه على أطراف الرّماح. يا موسى , صغيرهم يميته العطش وكبيرهم جلده منكمش , يستغيثون ولا ناصر , ويستجيرون ولا خافر )). قال : فبكى موسى وقال : يا ربّ , ما لقاتليه من العذاب ؟ قال : (( يا موسى , عذاب يستغيث منه أهل النّار بالنّار , لا تنالهم رحمتي ولا شفاعة جدّه , ولو لم تكن كرامة له لخسفت

____________________

(١) سورة البقرة / ٥٧.

(٢) سورة الشّعراء / ٢٢٧.

٦٦

بهم الأرض )). قال موسى : برئت إليك اللّهمّ منهم وممّن رضي بفعالهم. فقال سبحانه : (( يا موسى , كتبت رحمة لتابعيه من عبادي , واعلم أنّه من بكى عليه وأبكى أو تباكى , حرمت جسده على النّار )) :

بني أمية مات الدين عندكم

وأصبح الحق قد وارته أكفان

أضحت منازل آل السبط مقفرة

من الأنيس وما فيهن سكان

باهوا بمقتله ظلماً وقد هدمت

لفقده من ذوي الإسلام أركان

رزية عمت الدُنيا وساكنها

فالدمع في أعين الباكين هتان

قيل : افتخر إسرافيل على جبرائيل , فقال : إنّي من حملة العرش وصاحب الصّور والنّفخة , وأنا أقرب الملائكة إلى حضرة الجلال. فقال جبرائيل : أنا خير منك. قال : لماذا ؟ قال : أنا أمين الله على وحيه , وصاحب الكسوف والخسوف والزّلازل والرّسائل. فاختصما إلى الله تعالى , فأوحى إليهما : (( أن اسكتا , فوعزّتي وجلالي , لقد خلقت مَن هو خير منكما , انظرا إلى ساق العرش )). فنظروا وإذا على ساق العرش : لا إله إلّا الله مُحمّد رسول الله , عليّ وفاطمة والحسن والحُسين خير خلق الله. فقال جبرائيل : بحقّهم عليك , إلّا ما جعلتني خادماً لهم. فقال : (( لك ذلك )). فافتخر جبرائيل على الملائكة أجمع لمّا صار خادماً لهم. فقال : مَن مثلي وأنا خادم آل مُحمّد ؟ فانكسرت الملائكة أن يفاخروه.

فتفكّروا أيّها الأعلام وتأمّلوا في هذا الإمام , وانظروا إلى ما فعل به القوم اللئام , وإلى صبره على التّجرّع والغصص والآلام , وتجرّع كؤوس الحمام , ولقد فاق على جدّه إبراهيم في هذا المقام العظيم ؛ لأنّ إبراهيم (عليه‌السلام ) ابتلي في نفسه لا غير حين اُلقي في النّار , والحُسين (عليه‌السلام ) صُرع حوله بنوه وبنو أبيه الأطهار ، واغتصبوا نفسه أيضاً , فقابل الجميع بالإستغفار والرّضا والإصطبار , فهذا مرام لم يصل قبله ولا بعده أحداً إليه إلّا هو صلوات الله وسلامه عليه ، نعم قد زاد على هذا المقام أبوه عليّ (عليه‌السلام ) , وذلك أنّ النّبي (ص) لـمّا أدركته الوفاة وكان رأسه الشّريف في حجر عليّ (ع) , بكى , فقال له : (( ما يبكيك يا أخي ؟ )). فقال(ع) : (( يا سيّدي , كنت وقد وعدتني بالشّهادة وأنت مُعافى , وقد كنت أرجو أن اُقتل بين يديك )). فقال(ص) : (( ابشر فإنّها من ورائك , فكيف صبرك إذاً ؟ )). فقال : (( يا رسول الله , ليس ذاك موطن الصّبر , وإنّما هو موطن الشّكر )).

٦٧

فقد جعل الحُسين (عليه‌السلام ) موطن الشّهادة موطن الصّبر , وعليّ (عليه‌السلام ) جعلها موطن البُشرى والشّكر , والصّبر لا يكون إلّا عن أمر مكروه , والشّكر لا يكون إلّا عن أمر محبوب , والفرق بين هذين الموطنين العظيمين , كالفرق بين هذين الإمامين الكريمين ، فعلى الأطائب من أهل بيت الرّسول فليبك الباكون , وإيّاهم فليندب النّادبون , ولمثلهم تذرف الدّموع من العيون , أو لا تكونون كبعض مادحيهم حيث عرته الأحزان وتتابعت عليه الأشجان , فنظم وقال فيهم :

القصيدة للشيخ مغامس (رحمه ‌الله تعالى )

كيف السلو والخطوب تنوب

ومصائب الدُنيا عليك تصوب

إن البقاء على اختلاف طبائع

ورجاي أن ينجو الفتى لعجيب

والدهر أطوار وليس لأهله

إن فكروا في حالتيه نصيب

ليس اللبيب من استقر بعيشه

إن المفكر في الأمور لبيب

يا غافلاً والموت ليس بغافل

عش ما تشاء فإنك المطلوب

أبرزت لهوك إذ زمانك مقبل

زاه وإذ غصن الشباب رطيب

فمن النصير من الخطوب إذ أتت

وعلا على شرخ الشباب مشيب

عمل الفتى من علمه مكتوبة

حتّى الممات وعمره مكتوب

فتراه يكدح في المعاش ورزقه

في الكائنات مقدر محسوب

إن الليالي لا تزال مجدة

في الخلق أحداث لها وخطوب

من سر فيها ساءه من صرفها

ريب له طول الزمان قريب

عصفت بخير الخلق آل مُحمّد

صر شأمية لها وصبوب

أما النّبي فخانه من قومه

في أقربيه محاكم وصحيب

من بعدما ردوا عليه وصاله

حتّى كأن مقاله مكذوب

ونسوا رعاية أحمد في حيدر

في (خم) وهو وزيره المصحوب

فأقام فيهم برهة حتّى قضى

في الفرض وهو بغضبهم مغضوب

والطهر فاطمة زوى ميراثها

شر الأنام ودمعها مسكوب

من بعدما رمت الجنين بضربة

فقضت وحقها مغصوب

وسليلها الهادي سقته جعيدة

سما له سبط الفؤاد لهيب

٦٨

وجرى من الجفن الغريق بمائه

دمع على قتل الحُسين صبيب

يا يومه ما كان أقبح منظراً

وأمر طعماً أنه لعصيب

بأبي الإمام المستظام بكربلا

يدعو وليس لـمّا يقول مجيب

بأبي الوحيد وما له من راحم

يشكو الظمأ والماء منه قريب

بأبي الحبيب إلى النّبي مُحمّد

ومحمد عند الإله حبيب

يا كربلاء أفيك يقتل جهرة

سبط المطهر إن ذا لعجيب

ما أنت إلّا كربة وبلية

كل الأنام بهولها مكروب

هل لا انتصرت له من القوم الأولى

قتلوه ظلماً وهو فيك غريب

فتدكدكت فيهم رباك وغورت

منك المياه وضاق منك رحيب

لهفي وقد زحفت إليه جموعهم

فلهم رفيف نحوه ووثوب

لهفي له فرداً وحيداً بينهم

لـمّا قضت أنصاره وأصيب

لهفي وقد وافى إليه منهم

سهم لمقلته الشريف مصيب

لهفي عليه وقد هوى متعفراً

وبه أوام فادح ولغوب

لهفي عليه بالطفوف مجدلاً

تسفى عليه شمائل وجنوب

لهفي عليه والخيول ترضه

فلهم ركض حوله وخبيب

لهفي له والرأس منه مميز

والشيب من دمه الشريف خضيب

لهفي عليه ودرعه مسلوبة

لهفي عليه ورحله منهوب

لهفي على حرم الحُسين حواسراً

شعثاً وقد رعبت لهن قلوب

أبصرت شمراً فوقه فزجرته

عنه وقلن وللقلوب وجيب

يا شمر ويحك خله لبناته

ولك المهيمن إن فعلت يثبت

يا شمر ويحك من أبوه وأمه

فكر لعلك تهتدي وتثيب

حتى إذا قطع الكريم بسيفه

لم يثنه خوف ولا ترغيب

جددن ثمّ على الحُسين مأتماً

فحريمه تبكي له وحريب

لله كم لطمت خدود عنده

جزعاً وكم شقت عليه جيوب

ما أنس لا أنس الزكية زينباً

تبكي له وقناعها مسلوب

تدعو وتندب والمصاب يكضها

بين الطفوف ودمعها مسلوب

٦٩

وتقول أي شقوة أولى لها

صرف الزمن وحظنا المتعوب

أأخي بعدك ما صفى متكدر

ولخاطري عما يطيب نكوب

أأخي بعدك قد شقيت ورابني

دهر لأخبار الرجال مريب

أأخي بعدك لا حييت بغبطة

واغتالني خسف إلى قريب

أأخي بعدك من أطول به ومن

أسطو به والنائبات تنوب

أأخي بعدك من يدافع جاهلاً

عني ويسمع دعوتي ويجيب

لم يلق خلق ما لقيت ولا ابتلى

يوماً بمثل بليتي أيوب

حزني تذرف به الجبال وعنده

يسلو وينسى يوسفاً يعقوب

فأتت إليه أم كلثوم لها

ذبل على وجه الثرى مسحوب

قالت مصابك يا حسين أصابني

حزناً ونوري فاحم وغريب

ما كنت أحسب يابن أمي أنني

أشقي وإن الظن فيك يخيب

قد كنت دخراً لي ولكن الفتى

أبداً إليه حمامه مجلوب

فالآن بعدك ظل مجدي قالص

ولماء وجهي جفة وتصوب

ودعت سكينة بالصغيرة فاطم

قومي أخية فالمصاب يصوب

هذا أبوك معفراً ثاو له

خد على عفر الثراء تريب

فابكي أخية دائماً لمصابه

فمصابه منه الجبال تذوب

قتلت أحبائي وأهل مودتي

كملاً فليس لـمّا شكوت طبيب

ودعا ابن سعد برزوا نسوانه

فسليبة مكشوفة وسليب

قال أوقدوا النيران في أبياته

فسما لها بين البيوت لهيب

قال اقصدوا بأرض الشآم فقربت

أنقاض بزل للحريم ونيب

فركبن يندبن النّبي محمداً

وهم على حر الركاب ركوب

يا جدنا ساقوا علينا موثقاً

بالقيد وهو خائف المرعوب

يا جدنا ساقوا بناتك حسراً

حتّى تهتك سترها المحجوب

يا للرجال الأكرمين لـمّا جرى

والدهر فيه مصائب وخطوب

آل النّبي الـمُصطفى الهادي لهم

بالأرض في آفاقها تغريب

يحدوا بهم زجر ليرضى منهم

رجس لكأس مدامه شريب

٧٠

فالرأس بين يديه ينكت ثغره

ويرجع الألحان وهو طريب

يدعو بأشياخ له لا قدسوا

فهم الذين عليهم مغضوب

فعلى الذي ساس المضالم أولا

لعن مدى الأيام ليس يغيب

وعلى أمية أجمعين ومن لهم

يهوى من اللعن الشديد ضروب

يا أهل بيت مُحمّد دمعي لكم

جار وقلبي ما حييت كئيب

أنتم ولاة المسلمين وحبكم

فرض ونهج هديكم ملحوب

طبتم فحبكم النجاة وبغضكم

كفر برب العالمين وجوب

أولاكم الفضل الجسيم لأنه

أبداً يعاقب فيكم ويثيب

وإليكم منّي قصيدة شاعر

ذي مقول من طبعه التهذيب

أهداكم مدحاً لكي تمحي بها

عنه جرائم جمة وذنوب

فانظم مغامس ما تشاء منقحاً

بالرغم ممن يزدري ويعيب

ثم الصلاة على النّبي وآله

ما ماس من مر النسيم قضيب

٧١

المجلس الرّابع

من الجزء الثّاني في السّابع من عشر الـمُحرّم

وفيه أبواب ثلاثة

الباب الأوّل

أيّها المؤمنون , أيّ قُربة يتقرّب بها المتقرّبون , وأيّ سعادة يحضى بها الفائزون , أعظم من هذه القُربات التي يرضى بها ربّ السّماوات والأئمة الهُداة , حسدوهم الظّلمة الطُغاة على ما حصل لهم من الكمالات وعلو الدّرجات عند خالق الأرضين والسّماوات , واعتضد ذلك بحبّ الدُنيا الدّنيّة , فحملهم ذلك على ارتكاب هذه الرّزيّة. فقد نُقل عن عمر بن سعد لعنه الله عندما وبّخه الرّجل الهمداني على خروجه على الحُسين ومنعه الماء وأهل بيته , أنّه قال في جوابه : يا أخا همدان , والله إنّي أَعرف النّاس بحقّ الحُسين (عليه‌السلام ) وحرمته عند الله تعالى وعند رسوله , ولكنّي حائر في أمري ما أدري كيف أصنع في هذا الوقت , كنت أتفكّر في أمري وخطر ببالي أبيات من الشّعر , فقال :

دعاني عبيد الله من دون قومه

إلى بدعة فيها خرجت لحيني

فوالله ما أدري وإني لصادق

أفكر في أمري على خطرين

أأترك ملك الري والري منيتي

أم أرجع مأثوماً بقتل حسين

وفي قتله النّار ليس دونها

حجاب وملك الري قرة عيني

ثمّ قال : يا أخا همدان , إنّ نفسي لأمّارة بالسّوء ما تحسن لي ترك مُلك الرّي , وإنّي إذا قتلت حُسيناً أكون أميراً على سبعين ألف فارس.

فيا إخواني , اعلموا

٧٢

أنّ التّوفيق عزيز المثال , ومَن حقّت عليه كلمة العذاب لم يفد فيه عذل العذال , ومَن غلبته نفسه تورّط في أعظم الأمور ودخل في الضّلال ، وكما أنّ للجنّة رجالاً وفي النّار لها رجال , ومَن زُحزح عن النّار واُدخل الجنّة فقد فاز , وما الحياة الدُنيا إلّا لهو , فتعساً لِمَن ظلم تلك العصابة الكرام ! وسحقاً لِمَن نكّس أعلام أولئك الأعلام ! فويل لهم ماذا يقولون حين يُعرضون وبماذا يُجيبون حين يُسألون ! هُنالك تبلو كلّ نفس ما أسلفت وردّوا إلى الله مولاهم الحقّ وضلّ عنهم ما كانوا يفترون.

حُكي : أنّ الأشعث بن قيس وجويرة الجبلي قالا يوماً لعليّ (عليه‌السلام ) : يا أمير المؤمنين , حدّثنا عن بعض خلواتك مع فاطمة (عليها‌السلام ). فقال : (( نعم , بينما أنا وفاطمة في كساء واحد نائمان , إذ أقبل رسول الله إلينا نصف الليل , وكان (عليه‌السلام ) يأتيها بالتّمر واللبن ؛ ليعينها على تربية الحسن والحُسين (عليهما‌السلام ) , فدخل علينا ونحن نيام , فوضع رجلاً بحيالي ورجلاً بحيالها , فلمّا رأت فاطمة أباها واقفاً , همّت أن تجلس فلم تستطع , فبكت , فقال لها النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : وما يبكيك يا بنت مُحمّد الـمُصطفى ؟ فقالت : أما ترى حالنا ونحن في كساء واحد نصفه تحتنا ونصفه فوقنا ؟ فقال لها : يا بنيّة , أما تعلمين أنّ الله اطلع إطلاعة من سمائه إلى أرضه , فاختار منها بعلك عليّ بن أبي طالب , وأمرني أن أزوّجك به , وأنّ الله عزّ وجلّ اتخذه لي وصيّاً وخليفة من بعدي. يا فاطمة , أما أنّ العرش سأل ربّه أن يزيّنه بزينة لم يزيّن بها شيئاً من خلقه , فزيّنه بالحسن والحُسين (عليهما‌السلام ) , وجعلهما في ركنين من أركان العرش , فالعرش يفتخر بزينته على كلّ شيء )).

وفي رواية اُخرى , أنّ فاطمة (عليها‌السلام ) لـمّا شكت عند أبيها ضعف الحال وفقر بعلها عليّاً ، قال لها : (( يا بنيّة , أتعلمين ما منزلة عليّ عندي ؟ )). قالت : (( الله ورسوله أعلم )). قال : (( كفاني أمري وهو ابن اثني عشر سنة , وقاتل الأبطال ولاقى الأهوال وهو ابن ثمانية عشر سنة , وفرّج همّي وجلى غمّي وأزال كربي وهو ابن عشرين سنة , وقلع باب خيبر وهو ابن اثنين وعشرين سنة )). فاستبشرت فاطمة بذلك سروراً عظيماً.

وقد ورد فيه من الفضل ما لا يُعد ولا ينتهي إلى حد ، فمن ذلك ما روي عن النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) , أنّه قال : (( مررت ليلة المعراج بقوم تشرشر أشداقهم , فقلت : يا جبرائيل , مَن هؤلاء ؟ قال : هؤلاء الذين يقطعون على النّاس بالغيبة )). قال : (( ثمّ

٧٣

عدلنا عن ذلك الطّريق ، فلمّا انتهينا إلى السّماء الرّابعة , رأيت عليّاً يُصلّي ، فقلت : يا جبرائيل , هذا عليّ قد سبقنا ؟ فقال : ليس هذا عليّاً. قُلت : فمَن هو ؟ قال : إنّ الملائكة المكروبين لـمّا سمعت بفضائل عليّ (عليه‌السلام ) , وسمعت قولك فيه : أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبي من بعدي. اشتاقت إلى عليّ , فخلق الله ملكاً على صورة عليّ ، فكلّما اشتاقت إلى عليّ , جاءت إلى ذلك الملك فكأنّها قد رأت عليّاً )).

وعن ابن عبّاس , قال : رأيت أباذر وهو متعلّق بأستار الكعبة , وهو يقول : مَن عرفني فقد عرفني ومَن لم يعرفني فأنا أبوذر , لو صمتم حتّى تكونوا كالأوتاد ولو صلّيتم حتّى تكونوا كالحنايا , ما ينفعكم ذلك حتّى تحبّوا عليّاً.

وعن أبي شعيب الخراساني , قال : دخلت على الإمام أبي عبد الله , فقلت : فداك أبي واُمّي ! إنّي اشتقت إلى الغري. قال : (( وما يشوّقك إليه ؟ )). قُلت : جُعلت فداك ! أحبّ أن أزور أمير المؤمنين (عليه‌السلام ). فقال : (( هلى تعرف فضل زيارته ؟ )). فقلت : يابن رسول الله عرّفني ذلك. قال : (( إذا أردت زيارة أمير المؤمنين ، فاعلم أنّك زائر عظام آدم وبدن نوح وجسم أمير المؤمنين )). فقلت : جعلت فداك ! إنّ آدم بسرنديب بمطلع الشّمس , وزعموا أنّ عظامه في البيت الحرام , فكيف صارت عظامه بالكوفة ؟ فقال : (( إنّ الله أوحى إلى نوح (عليه‌السلام ) وهو في السّفينة أن يطوف بالبيت أسبوعاً , فطاف أسبوعاً , ثمّ نزل في الماء إلى ركبتيه فاستخرج تابوتاً فيه عظام آدم , فلم يزل معه التّابوت في جوف السّفينة حتّى طاف ما شاء الله أن يطوف , ثمّ ورد إلى الكوفة في مسجدها وفيه يقول الله للأرض : اقلعي ماءك. فقلعت ماءها وتفرّق الجمع الذي كانوا مع نوح في السّفينة ودفعها , فرجعت إلى بيت الله الحرام ، وأخذ نوح التّابوت فدفنه في الغري , وهو قطعة من الجبل الذي كلّم الله فيه موسى تكليماً , وقدّس الله عليه عيسى تقديساً , واتّخذ الله إبراهيم خليلاً ومُحمّداً (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) حبيبا , وجعله للمتنسّكين منسكاً , والله , ما سكن فيه بعد آبائه الطّاهرين آدم ونوح أكرم من أمير المؤمنين , وأنّك تزور الآباء الأوّلين ومُحّمداً خاتم النّبيين وعليّاً سيّد الوصيين ، وأنّ زائره يفتح له أبواب السّماء عند دعوته , فلا تكن عن الخير نوّاماً )).

وكان أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) يأتي هذه البُقعة الشّريفة ويصلّي فيها , فبينما هو ذات يوم يصلّي بالغري , إذ أقبل رجلان

٧٤

معهما تابوت على ناقة , فحطّا التّابوت وأقبلا إليه فسلّما عليه ، فقال(ع) : (( من أين أقبلتما ؟ )). قالا : من اليمن. قال : (( وما هذه الجنازة ؟ )). فقالا : كان لنا أب شيخ كبير , فلمّا أدركته الوفاة , أوصى إلينا أن نحمله وندفنه في الغري ، فقلنا : يا أبانا , إنّه موضع شاسع بعيد عن بلدنا , وما الذي تريد بذلك ؟ فقال : إنّه سيُدفن هُناك رجل يدخل في شفاعته مثل ربيعة ومضر. فقال أمير المؤمنين (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : (( الله أكبر الله أكبر , أنا والله ذلك الرّجل )). ثمّ قام فصلّى عليه ودفناه ومضيا حيث أقبلا.

فسبحان من جعلهم رحمة للعالمين وسبباً مودياً إلى الفوز باليقين ، وجودهم لطف في حقّ الأنام , وحط أجسادهم عصم لمن ثوي فيها وأقام , وبحبّهم تُمحى الآثام ، وبصحّة الإعتقاد فيهم تمحّص الذّنوب العظام , وباتباعهم يحصل الخلاص من أهوال يوم القيامة ودخول الجنّة بسلام :

طوبى لمن أضحى هواكم قصده

وإلى محبتكم إشارة رمزه

في قربكم نيل المسرة والمنى

وجنانكم مستنزه المتنزه

قلب يهيم بحبكم تفريطه

في مثلكم والله غاية عجزه

يضحى كدود القز يتعب نفسه

في نسجه وهلاكه في قزه

طرف رآكم ثمّ شاهد غيركم

تطهيره بسوى الدما لم يجزه

نزه فؤادك عن سواهم والقهم

فوصالهم حل لكل منزه

الصبر طلسم لكنز وصالهم

من حل ذا الطلسم فاز بكنزه

فوا عجباً من قوم استطاعوا على ساداتهم فقتلوهم , وخرجوا على أهل هدايتهم فقهروهم ! أتراهم ما علموا أو علموا وما رعوا فاعتدوا وظلموا ؟ فلا غرو إن بكت عليهم محاجري أو قرح السّهاد ناظري , أو تزايدت أوصابي أو أضرمت نار وجدي واكتئابي , فعلى الأطائب من أهل بيت الرّسول فليبك الباكون , وإيّاهم فليندب النّادبون , ولمثلهم تذرف الدّموع من العيون , أو لا تكونون كبعض مادحيهم حيث عرته الأحزان وتتابعت عليه الأشجان , فنظم وقال فيهم :

القصيدة للشيخ الجليل ابن مغام س (رحمه ‌الله ت عالى)

أتطلب دنيا بعد شيب قذال

وتذكر أياماً مضت وليال

٧٥

وتظهر عن بان الغوير تجلداً

وتصبو إلى نور له وضلال

إذا كنت تستحي من العار خالياً

فما لك تهوي قد كل غزال

فكم تركب الأخطار في تبع الهوى

ولا يخطر الذكر الجميل ببال

أما كان في شيب القذال هداية

فيهديك نور الشيب بعد ضلال

أتأمل في دار الغرور إقامة

لأنت حريص في طلاب محال

تيقض فأني قد رأيتك مقبلاً

عليها وللأخرى رأيتك قالي

تمسكت فيها بالغرور كمثل ما

تمسكت من نوم بطيف خيالي

فيا زلة أسرفت فيها تنغصت

لخيفتها نفسي بكل زلال

فيا سوأتاه إن حان بيني وهذه

سبيلي ولم أحذر قبيح فعالي

وكان جديراً أن يموت صبابة

فتى حاله في المذنبين كحالي

فيا قلب هل لا تستقيل من الخطا

وليس مصر في غد بمقال

تزود من الأيام خيراً فإنها

بلاغ لمشغوف بحسن مآل

اتخدعني الدُنيا وقد شاب مفرقي

وأصبحت معقولاً لها بعقالي

وانسي مساربها وما طال عهدها

وأسعى لها بالجهل سعي خيال

ولي أسرة فيها بآل مُحمّد

بني خير مبعوث وأكرم آل

تقسمهم ريب المنون فاصبحوا

عباديد أشتاتاً بكل محال

فبين شريد ترتمي غربة النوى

به بين غيطان وبين جبال

وبين صليب ماثل فوق جذعه

تهب عليه من صبي وشمال

وبين دفين وهو حي ومختف

يراقب خوفاً من وقوع نكال

وبين سميم قد سرى في عظامه

من السم قتال بغير قتال

فيا ليت شعري من أنوح ومن له

أروح وما قلبي عليه بسال

أأشجو علياً حين عمم رأسه

بمنصلت ذي رونق وصقال

له أم لبنت الـمُصطفى بعدما مضى

قضت لم تفز من إرثها بخلال

أم الحسن الزاكي سقته جعيدة

قضى بين أنصار له وموال

وإن حنيني للشهيد بكربلا

لباق فلا يقضى له بزوال

فديت إماماً بالطواف كإنما

ركائبه قد قيدت بحبال

٧٦

فأول لأنصار لديه وكلهم

ركوب على خيل لهم وجمال

أفيكم خبير باسمها قيل بكربلا

فقال انزلوا فيها ليوم نزال

ففي هذه حقاً محط رحالنا

وفلق رؤوس بيننا وقلال

وفي هذه حقاً ستسبي بذلة

لنا خير نسوان وخير رجال

وفي هذه حقاً ستغدوا رؤوسنا

تعلى على سمر لها وعوال

فديتك من ناع إلى الناس نفسه

ومؤذن أهليه بوشك وبال

كأن حياة النفس غير أحينة

فما لك لا ترو لها بوصال

لعمرك إن الموت مر مذاقه

فما بال طعم الموت عندك خالي

فديت وحيداً قد أحاط برحله

لآل أبي سفيان جيش ضلال

يقول لأنصار له قد ابحتكم

ذمامي وعهدي فاسمعوا لمقال

ألا فارحلوا فالليل مرخ سدوله

عليكم ومنهاج البسيطة خال

فما لهم من مطلب قد تألبوا

عليه سوى قتلي ونهب رحالي

فقالوا جميعاً ما يقال لنا وما

نقول جواباً عند رد سؤال

تقيك من الموت الشديد نفوسنا

ويرخص عند النفس ما هو غال

أمن فرق نبغي الفريق وكلنا

لأولاده والعيش بعدك قال

فطوبى لهم قد فاز والله سعيهم

فكلهم في روضة وظلال

فديت إماماً بعد قتل حماته

ينادي بصوت في البرية عال

يقول لهم إن تتقوا الله ربكم

فقتلي لكم والله غير حلال

فديت الذي يرنو الفرات بغلة

وما بلها من بردها ببلال

فديت فتى قد خر من سرج مهره

كما خر طود من منيف جبال

فديت صريعاً قد علا الشمر صدره

لقطع وريد أو لحز قذال

فديت طريحاً تركض الخيل فوقه

ترض جناجي صدره بنعال

فديت طريحاً أجمعوا بعد قتله

على نهب نسوان له وعيال

فديت قتيلاً رأسه فوق ذابل

كالبدر يزهو في أتم كمال

فديت علياً في آثاره يغتدي

به في قيود للعدو ثقال

فديت لنسوان الحُسين وأهله

أسارى حيارى في سبي ووبال

٧٧

فديت وقد قامت تناديه زينب

بصوت مبين عن فجيعة بال

أخي ليس دمعي ما حييت بجامد

عليك ولا قلبي عليك بسال

أخي أن تكن فارقت لا عن ملالة

فقد كنت قداماً زينتي وجمال

أخي كيف أرجو في زماني مسيرة

وقد فارقت كف اليمين شمال

أخي كيف أدعو لا تجيب كأنما

تركت وصالي أو صرمت حبالي

أخي كيف بعد القرب منك طردتني

وبعد دنوي يا أخي وجلالي

أخي لو رأت عيناك ما قد أصابني

أساءك فيما نالني وجرا لي

أخي إن وجهي قد تبدل حسنه

ومما جرى لي قد تغير حالي

أخي إن فدت نفس لنفس من الردى

فنفسي إذاً تفديك منه ومالي

أخي قد دهتني الحادثات وقد برت

نوائبها جسمي كبرى خلال

أخي كيف يفني الدهر عني خطوبه

وقد كنت فيه عدتي وثمالي

وسار ابن سعد بالسبايا حواسراً

على خلس انقاض لهم ورحال

ينادين بالمختار يا خير مرسل

وأكرم ماض في الزمان وتال

أيا جدنا ما عبد شمس فدورهم

جوار وأما دورنا فخوال

أيا جدنا عض الزمان بنانه

وصالت بنا الأيام أي مصال

أيا جدنا أما الرزايا فإننا

نقاسي لظى نيرانها بنصال

أيا جد ما أبقوا علينا بقية

ولا فتروا في أخذنا بنكال

أيا جد لم يربع بنا لاستراحة

على ما نلاقي من جوى وكلال

أيا جد لأردن تغطى رؤوسنا

ولا انتعلت أقدامنا بنعال

أيا جد جد الدهر من بعد هزله

على لاغبات في المصاب هزال

أيا جد هذا السبط في كنف كربلا

لقي بين دكداك وبين تلالي

دعوهم إليهم طالبين قدومه

لإرشاد غاو أو لبذل نوال

فلما أتاهم صار فرداً لديهم

قرين جلاد بينهم وجدال

شكا عطشاً والماء طام ودونه

رغال لهم قد اردفت برغال

يحاول منهم شربة فترده

بسمر لها قد أشرعت ونصال

فذاق الردى صبراً وما ذاق شربه

نزيل أواما مؤذناً بزوال

٧٨

بنوك أبيدوا والبنات بذلة

يسقن هدايا فوق نيب جمال

أيا جد لو شاهدت ما قد جرى لنا

لابصرتنا شعثاً بأسوء حال

وحسن وجوه قد تولى سعودها

توالي عليها الحزن أي نوال

بني الـمُصطفى يا صفوة الله إن لي

فؤاداً من الترنيح ليس بخال

حنيني إليكم لا يقاس بمثله

حنين حمام أم حنين فصال

ولو مر في تالي الزمان متيم

بشجو رثى فيكم لرثى لي

وهل أملك السلوان عن حُبّ سادة

إليهم إذا حل الحساب مآلي

فإن فاتني في عرصة الطف نصركم

وأجر به أن لا يفوت مقالي

ودونكم منّي عروساً زففتها

إليكم كما زفت عروس حجال

منظمة الألفاظ بكر كأنما

على جيدها يزهو عقود لآل

وما كلمت إلّا لأن كلامهما

جرى من معانيكم صفات كمال

فإن صح قبلان لها من مغامس

فلست بعقبى ما جنوت أبالي

عليكم سلام الله ما لاح بارق

وما لاح وسمى بصوت سجالي

الباب الثّاني

إنّ فضل أئمة الـمُسلمين لا يُحصى كثرة ولو اجتمع له كافّة العالمين , ولعمري , إنّ في فضيلة من فضائلهم عبرة للمعتبرين وذكرى للمتبصّرين , إلّا مَن أغواه الشّيطان فأصمّ سمعه وعميت منه العينان , فتصير عاصية عليه وإن كان ينظر بعينيه.

روي عن الإمام الصّادق (عليه‌السلام ) , قال : (( كان من بني مخزوم لهم خولة من عليّ (عليه‌السلام ) , فأتاه شابّ منهم فقال : يا خال , مات قريب لي فحزنت عليه حزناً شديداً. قال : أفتحبّ أن تراه ؟ قال : نعم. قال : فانطلق بنا إلى قبره. فلمّا وافى إليه , وقف عليه ودعى الله تعالى , وقال : يا فلان , قُم بإذن الله تعالى. فإذا الميت جالس على شفير القبر وهو يقول : زينة شالا - معناه : لبيك لبيك سيّدنا - فقال أمير المؤمنين : ما هذا اللسان , ألم تمت وأنت رجل من العرب ؟ قال : بلى ، ولكنّي متّ وأنا على ولاية غيرك , فاُدخلت النّار وانقلب لسانى إلى لسان أهل النّار ))

وعن

٧٩

صالح بن عقبة عن جعفر بن مُحمّد (عليه‌السلام ) , قال : (( لـمّا هلك أبو بكر [و](١) استخلف عمر , رجع [عمر] إلى المسجد فدخل عليه رجل , فقال : يا أمير المؤمنين , إنّي رجل من اليهود وأنا من ملّتهم , وقد أردت أن أسألك عن مسائل إن أجبتني فيها أسلمت ، قال : وما هي ؟ قال : ثلاث وثلاث وواحدة ، فإن سألتك وإن كان في قومك أحد أعلم منك فارشدني إليه. قال : عليك بذاك الشّاب - يعني : عليّ بن أبي طالب (عليه‌السلام ) - فأتى عليّاً فسأله، فقال له : [لِمَ] قُلت : ثلاثاً [و] ثلاثاً وواحدة ألا قُلت سبعاً ؟ قال : أنا إذاّ جاهل , إن لم تجبني في الثّلاث اكتفيت. قال : فإن أجبتك تسلم ؟. [ قال : نعم. قال : سل. ] قال : أسألك عن أوّل حجر وضع على وجه الأرض , وأوّل عين نبعت , وأوّل شجرة نبتت ؟ قال : يا يهودي , أنتم تقولون أوّل حجر وضع على وجه الأرض الحجر الذي في بيت المقدس , كذبتم هو الحجر الذي نزل به آدم من الجنّة. قال : صدقت والله , إنّه لبخطّ هارون وإملاء موسى (عليه‌السلام ). قال : وأنتم تقولون أوّل عين نبعت على وجه الأرض العين التي ببيت المقدس , كذبتم هي عين الحياة التي غسل فيها يوشع بن نون السّمكة , وهي العين التي شرب منها الخضر (عليه‌السلام ) , وليس يشرب منها أحد إلّا حي. قال : صدقت والله , إنّه لبخطّ هارون وإملاء موسى (عليه‌السلام ). قال : وأنتم تقولون إنّ أوّل شجرة نبتت على وجه الأرض الزّيتون , وكذبتم بل هي العجوة [التي] نزل بها [آدم](عليه‌السلام ) من الجنّة معه. قال: صدقت والله , إنّه لبخطّ هارون وإملاء موسى (عليه‌السلام ). قال : والثّلاث الاُخرى , كم لهذه الاُمّة من إمام هُدى لا يضرّهم مَن خذلهم ؟ قال : اثنا عشر إماماً. قال : صدقت والله , وإنّه لبخطّ هارون وإملاء موسى. قال: فأين يسكن نبيّكم من الجنّة ؟ قال : في أعلاها ذروة وأشرفها مكاناً في جنّات عدن. قال : صدقت والله , إنّه لبخطّ هارون وإملاء موسى (عليه‌السلام ). قال : فمَن ينزل معه في منزله ؟ قال : اثنا عشر إماماً. قال : صدقت [والله] , إنّه لبخطّ هارون وإملاء موسى (عليه‌السلام ). قال : السّابعة وأسلم , كم يعيش وصيّه بعده ؟ قال : ثلاثين سنة. قال : ثمّ يموت أو يُقتل ؟ قال : يُقتل , يُضرب على قرنه فيخضب لحيته. قال : صدقت والله , وإنّه لبخطّ هارون وإملاء موسى (عليه‌السلام ) )).

فانظروا يا إخواني , هل يوجد مثل هذا الشّخص الرّباني ؟

____________________

(١) كلّ ما هو موجود بين المعقوفتين في هذه الرّواية , هو منقول من كتاب الخصال للشيخ الصّدوق / ٤٧٦ - ٤٧٧. (معهد الإمامين الحسنين) .

٨٠