المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة الجزء ١

المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة0%

المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 167

المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة

مؤلف: السيد محسن بن عبد الكريم الأمين
تصنيف:

الصفحات: 167
المشاهدات: 57760
تحميل: 2286


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 167 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 57760 / تحميل: 2286
الحجم الحجم الحجم
المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة

المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة الجزء 1

مؤلف:
العربية

تلك الخدود التي تقلّبتْ على قبر أبي عبد الله الحسين ، وارحم تلك الأعين التي جرت دموعها رحمة لنا ، وارحم تلك القلوب التي حزنت لأجلنا واحترقت بالحزن ، وارحم تلك الصّرخة التي كانت لأجلنا. اللهمَّ ، إنّي استودعك تلك الأنفس وتلك الأبدان حتّى ترويهم من الحوض يوم العطش الأكبر ، وتدخلهم الجنّة وتسهّل عليهم الحساب ، إنّك أنت الكريم الوهّاب )).

قال : فما زال الإمام (عليه‌السلام ) يدعو لأهل الإيمان ولزوّار قبر الحسين (عليه‌السلام ) وهو ساجد في محرابه ، فلمّا رفع رأسه أتيت إليه وسلّمت عليه وتأمّلت وجهه ؛ فاذا هو كاسف اللون متغيّر الحال ظاهر الحزن ، ودموعه تنحدر على خدّيه كاللؤلؤ الرطب ، فقلت : يا سيّدي ، ممَّ بكاؤك؟ لا أبكى الله لك عيناً ، وما الذي حلّ بك ؟ فقال لي : (( أوَ في غفلة أنت عن هذا اليوم ؟! أما علمت أنّ جدّي الحسين قد قُتل في مثل هذا اليوم ؟ )). فبكيت لبكائه وحزنت لحزنه ، فقلت له : يا سيّدي ، فما الذي أفعل في مثل هذا اليوم ؟ فقال : (( يابن وهب ، زر الحسين (عليه‌السلام ) من بعيد أقصى ومن قريب أدنى ، وجدّد الحزن عليه ، وأكثر البكاء والشجو له )). فقلت له : يا سيّدي ، لو أنّ الدعاء الذي سمعته منك وأنت ساجد كان لمَن لا يعرف الله تعالى ، لظننت أنّ النّار لا تطعم منه شيئاً. والله ، لقد تمنّيت أنّي كنت زرته قبل أنْ أحجّ. فقال لي : (( فما يمنعك من زيارته يابن وهب ولم تدع ذلك ؟ )). فقلت : جعلت فداك ! لم أدر أنّ الأجر يبلغ هذا كلّه حتّى سمعت دعاءك لزوّاره. فقال لي : (( يابن وهب ، إنّ الذي يدعو لزوّاره في السّماء أكثر ممَّن يدعو لهم في الأرض ، فإيّاك أنْ تَدَع زيارته لخوفٍ من أحد ؛ فمَن تركها لخوف من أحد رأى الحسرة والندم. يابن وهب ، أما تُحب أنْ يرى الله شخصك ؟ أما تحب أنْ تكون غداً ممَّن يصافحه رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) يوم القيامة ؟ )). قلت : يا سيّدي ، فما قولك في صومه من غير تبييت ؟ فقال لي : (( لا تجعله صوم يوم كامل ، وليكن إفطارك بعد العصر بساعة على شربة من ماء ، فإنّه في ذلك الوقت انجلت الهيجاء عن آل الرسول وانكشفت الغمّة عنهم ، ومنهم في الأرض ثلاثون قتيلاً ، يعزّ على رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) مصرعهم. ولو كان حيّاً لكان هو المعزّى بهم )).

قال :

٤١

وبكى الصادق (عليه‌السلام ) حتّى اخضلّت لحيته بدموعه ، ولم يزل حزيناً كئيباً طول يومه ذلك وأنا معه أبكي لبكائه وأحزن لحزنه.

مصيبةٌ أسعَرَتْ في القلب نارَ جَوَى

يُزيدُها مُستمِرُ الذّكرِ تسعيرَا

يا آلَ أحمدَ كمْ حلّتْ فجائعُكُمْ

وكاءَ عيني بدمعٍ ليسَ مَنزُورَا

المجلس الواحد والعشرون

مرّ سليمان بن قتّة العدويرحمه‌الله بكربلاء بعد قتل الحسين (عليه‌السلام ) بثلاث ، فنظر إلى مصارعهم واتكأ على فرس له عربيّة ، وأنشأ يقول :

مَررتُ على أبياتِ آلِ محمّد

فلَمْ أرَها أمثالَها يومَ حُلّتِ

ألمْ ترَ أنَّ الشّمسَ أضحتْ مَريضةً

لفقدِ حُسينٍ والبلادَ اقشعرّتِ

وكانوا رجاءً ثمّ أضحَوا رزيّةً

لقدْ عَظُمتْ تلك الرّزايا وجلّتِ

وتسألُنَا قيسٌ فنُعطي فقيرَهَا

وتغتابُنا قيسٌ إذا النَّعلُ زلّتِ

وعندَ غنيٌّ قطرةٌ من دمائِنا

سَنطلِبُهُمْ يوماً بها حيثُ حلّتِ

فلا يُبعدُ اللهُ الدّيارَ وأهلَها

وإنْ أصبَحتْ منهُمْ برغمي تخلّتِ

وإنّ قتيلَ الطفِّ منْ آلِ هاشمٍ

أذلَّ رِقابَ الـمُسلمينَ فذلّتِ

وقدْ أعولتْ تبكي السّماءُ لفقدِهِ

وأنجُمُنا ناحتْ عليهِ وصلّتِ

ومرّ ابن الهباريّة الشاعر بكربلاء ، فجلس يبكي على الحسين (عليه‌السلام ) وأهله ، وقال بديهاً :

أحسينُ والمبعوثِ جدِّكَ بالهُدى

قَسماً يكون الحقُّ عنهُ مُسائلي

لو كنتُ شاهدَ كربلا لبذلتُ في

تَنْفيسِ كربِكَ جُهدَ بذلِ الباذلِ

وسَقيتُ حدَّ السّيفِ من أعدائكُمْ

عللاً وحدَّ السّمهَريِّ الذّابلِ

٤٢

لكنَّني اُخّرتُ عنكَ لشقْوَتي

فبلابِلي بينَ الغريِّ وبابلِ

هَبنيْ حُرمتُ النَّصرَ من أعدائكُمْ

فأقلّ منْ حُزنٍ ودمعٍ سائلِ

ويقال : أنّه نام في مكانه فرأى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ، فقال له : (( جزاك الله عنّي خيراً ، أبشر فإنّ الله قد كتبك ممَّن جاهد بين يدي الحسين (عليه‌السلام ) )).

يا آلَ أحمدَ لا يخيبُ مُوحدٌ

مُتمسكٌ منكُمْ بحبلِ ولاءِ

إنْ فاتَني منْ نَصركُمْ ما فاتَني

وأطالَ فيكُمْ لوعَتي وبُكائي

فَلأرثينّكُمُ على طولِ الـمَدَى

بقصائدٍ أعيتْ على الشّعراءِ

المجلس الثاني والعشرون

في الأغاني بسنده عن علي بن إسماعيل التميمي عن أبيه قال : كنتُ عند أبي عبد الله جعفر بن محمّد (عليه‌السلام ) إذ استأذن آذنه للسيّد الحميري - وهو إسماعيل بن محمّد ، والسيّد لقبه - فأمر بإيصاله ، وأقعد (عليه‌السلام ) حرمه خلف ستر ، ودخل فسلّم وجلس ، فاستنشده فأنشده قوله :

اُمرُرْ على جَدثِ الحُسيـ

ـنِ وقُلْ لأعظُمِهِ الزكيّهْ

يا أعظُماً لا زلتِ منْ

وطفاءَ ساكبةٍ رَويّهْ

وإذا مررتَ بقبرِهِ

فأطلْ بهِ وقفَ المطيّهْ

وابكِ الـمُطهْرَ للمُطهْـ

رِ والـمُطهْرةِ النقيّهْ

كبكاءِ معولةٍ أتتْ

يوماً لواحدها المنيّهْ

قال : فرأيت دموع جعفر بن محمّد (عليه‌السلام ) تتحدر على خديه ، وارتفع الصراخ من داره حتّى أمره بالإمساك ، فأمسك.

وقال الصادق (عليه‌السلام ) لأبي هارون المكفوف : (( يا أبا هارون ، أنشدني في الحسين (عليه‌السلام ) )). قال : فأنشدته ، فقال لي : (( أنشدني كما تُنشدون )).

٤٣

فأنشدته :

اُمرُرْ على جَدثِ الحسي

نِ وقلْ لأعظُمهِ الزكيّهْ

ما لذَّ عيشٌ بعد رضْ

ضِكِ بالجيادِ الأعوجيّهْ

المجلس الثالث والعشرون

لـمّا مات معاوية - وذلك في النصف من رجب سنة ستّين من الهجرة - وتخلّف بعده ولده يزيد ، كتب يزيد إلى ابن عمّه الوليد بن عتبة بن أبي سفيان - وكان والياً على المدينة - يأمره بأخذ البيعة على أهلها وخاصّة على الحسين (عليه‌السلام ) ، ولا يرخص له في التأخّر عن ذلك ، ويقول : إنْ أبى عليك فاضرب عنقه وابعث إليّ برأسه.

فأحضر الوليد مروان بن الحكم واستشاره في أمر الحسين (عليه‌السلام ) ، فقال : إنّه لا يقبل ولو كنت مكانك لضربت عنقه. فقال الوليد : ليتني لم أك شيئاً مذكوراً. ثمّ بعث إلى الحسين (عليه‌السلام ) في الليل فاستدعاه ، فعرف الحسين (عليه‌السلام ) الذي أراد ، فدعا بجماعة من أهل بيته ومواليه - وكانوا ثلاثين رجلاً - فأمرهم بحمل السلاح ، وقال لهم : (( إنّ الوليد قد استدعاني في هذا الوقت ، ولست آمن أنْ يكلّفني فيه أمراً لا اُجيبه ، وهو غير مأمون ، فكونوا معي ، فإذا دخلت إليه فاجلسوا على الباب ، فإنْ سمعتم صوتي قد علا ، فادخلوا عليه لتمنعوه عنّي )).

فصار الحسين (عليه‌السلام ) إلى الوليد ، فوجد عنده مروان بن الحكم ، فنعى إليه الوليد موت معاوية ، فاسترجع الحسين (عليه‌السلام ) ، ثمّ قرأ الوليد عليه كتاب يزيد وما أمره فيه من أخذ البيعة منه ليزيد. فقال الحسين (عليه‌السلام ) : (( إنّي أراك لا تقنع ببيعتي سرّاً حتّى اُبايعه جهراً فيعرف ذلك النّاس )). فقال له الوليد : أجل. فقال الحسين (عليه‌السلام ) : (( تصبح وترى رأيك في ذلك )). فقال له الوليد : انصرف على اسم الله حتّى تأتينا مع جماعة النّاس. فقال له مروان : والله ، لئن فارقك الحسين السّاعة ولم يبايع ، لا قدرت منه

٤٤

على مثلها أبداً حتّى تكثر القتلى بينكم وبينه ، ولكن احبس الرجل فلا يخرج من عندك حتّى يبايع أو تضرب عنقه. فوثب الحسين (عليه‌السلام ) عند ذلك ثمّ قال : (( ويلي عليك يابن الزرقاء ! أنت تأمر بضرب عنقي ؟! كذبت والله ولؤمت )). ثمّ أقبل على الوليد فقال : (( أيها الأمير ، إنّا أهل بيت النبوّة ومعدن الرّسالة ومختلف الملائكة ، بنا فتح الله وبنا ختم ، ويزيد رجل فاسق شارب الخمر قاتل النفس المحترمة معلن بالفسق ، ومثلي لا يبايع مثله. ولكن نصبح وتصبحون وننظر وتنظرون أيّنا أحقّ بالخلافة والبيعة )).

ثمّ خرج ومعه مواليه وهو يتهادى بينهم ، ويتمثّل بقول يزيد بن مفرّغ الحميري الشاعر المشهور:

لا ذَعرتُ السّوامَ في فَلقِ الصبـ

ـحِ مُغيراً ولا دُعيتُ يزيدا

يومَ اُعطيْ مخافةَ الموتِ ضَيماً

والمنايَا يَرصدْنَني أنْ أحيدَا

حتّى أتى منزله ، فقال مروان للوليد : عصيتني. فقال : ويحك ! إنّك أشرت علي بذهاب ديني ودنياي ، والله ، ما اُحبّ أنْ أملك الدّنيا بأسرها وأنّي قتلت حسيناً. والله ، ما أظنّ أحداً يلقى الله بدم الحسين إلّا وهو خفيف الميزان ، لا ينظر الله إليه يوم القيامة ولا يزكّيه.

كأنّي بالحسين (عليه‌السلام ) لـمّا خرج من عند الوليد ، أحدق به إخوته وأولاده ومواليه وسائر بني هاشم وهم شاكون في السّلاح ، وهو بينهم كالقمر ما بين النجوم ، يقدمهم أبو الفضل العبّاس قمر بني هاشم ، وهو كالأسد الغضبان حتّى أتوا به إلى منزله مكرّماً لم يصبه سوء ، فأين كان بنو هاشم عن سيّدهم الحسين (عليه‌السلام ) يوم عاشوراء حين بقي وحيداً فريداً بين الأعداء لا ناصر له ولا معين ؟! بلى ، كانوا مطرّحين على الرمضاء مرمّلين بالدماء ، مقطّعة أعضاؤهم مبددة أوصالهم.

گضَوا حگ العليهُمْ دونْ الخيامْ

ولا خلّوا خواتِ حسينْ تنضامْ

لـمَنْ خرّوا تفايضْ منهمُ الهامْ

تهاووا مثلْ مَهوى النّجمْ منْ خَرْ

گضَوا ما بين منْ گطعوا وريدهْ

وبين الطّار راسَه وطاحت ايدهْ

٤٥

وبين امْشبّح برميا شديدهْ

وبين الصّار للنشاب مكورْ

المجلس الرابع والعشرون

لـمّا تهيّأ الحسين (عليه‌السلام ) للخروج من المدينة ، مضى في جوف الليل إلى قبر اُمّه (عليها‌السلام ) فودّعها ، ثمّ مضى إلى قبر أخيه الحسن (عليه‌السلام ) ففعل كذلك ، ثمّ رجع إلى منزله وقت الصبح.

فأقبل إليه أخوه محمّد بن الحنفيّة فقال : يا أخي ، أنت أحبّ الخلق إليّ وأعزّهم عليّ ، ولستُ أدّخر النصيحة لأحد من الخلق ، وليس أحد أحقّ بها منك ؛ لأنّك مزاج مائي ونفسي وروحي وبشري ، وكبير أهل بيتي ، ومَن وجبت طاعته في عنقي ؛ لأنّ الله قد شرّفك عليّ وجعلك من سادات أهل الجنّة. تنحَ ببيعتك عن يزيد وعن الأمصار ما أستطعت ، ثمّ ابعث رسلك إلى النّاس ، فإنْ تابعك النّاس وبايعوا لك ، حمدت الله على ذلك ، وإنْ اجتمع النّاس على غيرك ، لم ينقص الله بذلك دينك ولا عقلك ولا تذهب به مروءتك ولا فضلك. إنّي أخاف عليك أنْ تدخل مصراً من هذه الأمصار فيختلف النّاس بينهم ، فتكون لأول الأسنّة غرضاً ، فإذا خير هذه الاُمّة كلّها نفساً وأباً واُمّاً أضيعها دماً وأذلّها أهلاً.

فقال له الحسين (عليه‌السلام ) : (( فأين أذهب يا أخي ؟ )). قال : تخرج إلى مكّة ، فإنْ اطمأنّت بك الدار بها فذاك ، وإنْ تكن الاُخرى جئت الى بلاد اليمن فإنّهم أنصار جدّك وأبيك ، وهم أرأف النّاس وأرقّهم قلوباً وأوسع النّاس بلاداً ، فإنْ اطمأنّت بك الدار وإلّا لحقت بالرمال وشعوب الجبال ، وجزت من بلد إلى بلد حتّى تنظر ما يؤول إليه أمر النّاس ويحكم الله بيننا وبين القوم الفاسقين.

فقال الحسين (عليه‌السلام ) : (( يا أخي ، والله لو لَمْ يكن في الدّنيا ملجأ ولا مأوى لما بايعت يزيد بن معاوية )). فقطع محمّد بن الحنفيّة عليه الكلام وبكى ، فبكى الحسين (عليه‌السلام ) معه ساعة ثمّ قال (عليه‌السلام ) : (( يا أخي جزاك الله خيراً ، فقد نصحت وأشرت بالصواب ، وأنا

٤٦

عازم على الخروج إلى مكّة وقد تهيأت لذلك أنا وإخوتي وبنو أخي وشيعتي ، أمرهم أمري ورأيهم رأيي. وأمّا أنت يا أخي ، فلا عليك أنْ تقيم بالمدينة فتكون لي عيناً عليهم ، لا تخفي عنّي شيئاً من اُمورهم )).

ثم دعا الحسين (عليه‌السلام ) بدواة وبياض وكتب هذه الوصية لأخيه محمّد بن الحنفيّة :

بسم الله الرحمن الرحيم

(( هذا ما أوصى به الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهما‌السلام ) إلى أخيه محمّد المعروف بابن الحنفيّة : إنّ الحسين (عليه‌السلام ) يشهد أنْ لا إله إلّا الله وحده لا شريك له وأنّ محمّداً عبده ورسوله جاء بالحقِّ من عند الحقّ ، وأنّ الجنّة والنّار حقّ ، وأنّ السّاعة آتية لا ريب فيها وأنّ الله يبعث مَن في القبور. وإنّي لمْ أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً ، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في اُمّة جدّي رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ؛ اُريد أنْ آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدّي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) وأبي علي (عليه‌السلام ). فمَن قبلني بقبول الحقّ فالله أولى بالحقّ ، ومَن ردّ عليّ هذا أصبر حتّى يقضي الله بيني وبين القوم بالحقّ وهو خير الحاكمين. وهذه وصيّتي يا أخي إليك ، وما توفيقي إلّا بالله عليه توكّلت وإليه اُنيب )).

ثم طوى الحسين (عليه‌السلام ) الكتاب وختمه بخاتمه ودفعه إلى أخيه محمّد بن الحنفيّة ، ثمّ ودّعه وخرج في جوف الليل وهو يقرأ( فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَبُ قَالَ رَبّ نَجّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ ) (١) . ولزم الطريق الأعظم ، فقال له أهل بيته : لو تنكبت الطريق ( أي سرت على غير الجادّة العظمى ) كما فعل ابن الزّبير ؛ كيلا يلحقك الطلب. فقال (عليه‌السلام ) : (( لا والله ، لا اُفارق الطريق الأعظم حتّى يقضي الله ما هو قاض )).

أفديْهِ منْ خائفٍ ضاقَ الفَضاءُ بهِ

وهو الأمانُ لمَنْ فوق الثّرى جُمَعَا

مُشرّداً لا يرى حِرزاً يلوذُ بهِ

إلّا حُساماً كلونِ الملحِ قد نصَعَا

مستقتلاً أنْ يحلَّ الضيمُ ساحتَهُ

ومسرعاً نحو داعي العزِّ حينَ دعا

______________________

(١) سورة القصص / ٢١.

٤٧

المجلس الخامس والعشرون

لـمّا وصل الحسين (عليه‌السلام ) إلى مكّة وذلك لثلاث مضين من شعبان سنة ستّين من الهجرة ، دخلها وهو يقرأ :( وَلَمّا تَوَجّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى‏ رَبّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السّبِيلِ ) (١) . وجاءه عبد الله بن عبّاس وعبد الله بن الزّبير فأشارا عليه بالإمساك ، فقال لهما : (( إنّ رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) أمرني بأمر وأنا ماض فيه )). فخرج ابن عبّاس وهو يقول : وآحسيناه ! ثم جاءه عبد الله بن عمر فأشار عليه بصلح أهل الضلال ، وحذّره من القتل والقتال ، فقال (عليه‌السلام ) له : (( يا أبا عبد الرحمن ، أما علمت أنّ من هوان الدّنيا على الله أنّ رأس يحيى بن زكريّا اُهدي إلى بغي من بغايا بني إسرائيل. أما تعلم أنّ بني إسرائيل كانوا يقتلون ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس سبعين نبياً ، ثمّ يجلسون في أسواقهم يبيعون ويشترون كأنْ لم يصنعوا شيئاً ، فلم يعجّل الله عليهم بل أخذهم أخذ عزيز ذي انتقام. اتقِّ الله يا أبا عبد الرحمن ، ولا تدعنّ نُصرتي )).

وبلغ أهل الكوفة امتناعُ الحسين (عليه‌السلام ) من بيعة يزيد وخروجه إلى مكّة ، فاجتمعوا في منزل سليمان بن صرد الخزاعي ، وكتبوا إليه بالقدوم عليهم ووعدوه النصرة. وتواترت عليه كتبهم حتّى اجتمع عنده في نوب متفرقة اثنا عشر ألف كتاب ، وفي بعضها : أنّ النّاس ينتظرونك لا رأي لهم غيرك فالعجل العجل ثمّ العجل العجل ، وفي بعضها : قد اخضرّ الجناب وأينعت الثمار ، وأعشبت الأرض وأورقت الأشجار ، فإذا شئت فأقبلْ على جند لك مجنّد. وفي رواية : أنّهم كتبوا إليه : إنّا معك مئة ألف سيف. وهو مع ذلك يتأنّى ولا يجيبهم. ثم أجابهم بالقبول ، وأرسل إليهم ابن عمّه مسلم بن عقيل رضوان الله عليه ، فكتب إليه مسلم يخبره ببيعة ثمانية عشر ألفاً ويأمره بالقدوم. وفي رواية : أنّه بايعه منهم أربعون ألفاً على أنْ يحاربوا مَن حارب ويسالموا مَن سالم.

فأقام الحسين (عليه‌السلام ) بمكّة باقي شعبان وشهر رمضان وشوالاً وذا القعدة

______________________

(١) سورة القصص / ٢٢.

٤٨

وسبعة أيام من ذي الحجّة وخرج في اليوم الثامن ؛ وذلك أنّ يزيد بن معاوية أنفذ عمرو بن سعيد بن العاص في عسكر عظيم ، وولاّه أمر الموسم وأمره على الحاجّ كلّهم ، وكان قد أوصاه بقبض الحسين (عليه‌السلام ) سرّاً ، وإنْ لمْ يتمكّن منه يقتله غيلة.

ثم إنّه دسّ مع الحاجّ في تلك السّنة ثلاثين رجلاً من شياطين بني اُميّة ، وأمرهم بقتل الحسين (عليه‌السلام ) على أيّ حال اتفق ، فلمّا علم الحسين (عليه‌السلام ) بذلك ، عزم على التوجّه إلى العراق ، وطاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة ، وأحلّ من إحرام الحجّ وجعلها عمرة مفردة ؛ لأنّه لم يتمكّن من إتمام الحجّ مخافة أنْ يقبض عليه. فخرج من مكّة يوم التّروية لثمان مضين من ذي الحجّة ، فكان النّاس يخرجون إلى منى ، والحسين (عليه‌السلام ) خارج إلى العراق. ولم يكن علم بقتل مسلم بن عقيلرحمه‌الله ؛ لأنّه خرج من مكّة في اليوم الذي قُتل فيه مسلم بن عقيل بالكوفة :

لا أضحكَ اللهُ سِنَّ الدّهرِ إنْ ضَحكتْ

وآلُ أحمدَ مظلُومُونَ قدْ قُهِرُوا

مُشرَّدُونَ نُفُوا عنْ عُقرِ دارِهِمُ

كأنّهمْ قدْ جَنَوا ما ليس يُغتفرُ

المجلس السادس والعشرون

لـمّا عزم الحسين (عليه‌السلام ) على الخروج من مكّة إلى العراق ، جاءه محمّد بن الحنفيّة رضوان الله عليه في الليلة التي أراد الحسين (عليه‌السلام ) الخروج في صبيحتها ، فقال له : يا أخي ، إنّ أهل الكوفة قد عرفت غدرهم بأبيك وأخيك ، وقد خفتُ أنْ يكون حالك كحال مَن مضى ، فإنْ رأيت أنْ تقيم فإنّك أعزّ مَن في الحرم وأمنعه. فقال (عليه‌السلام ) : (( يا أخي ، قد خفت أنْ يغتالني يزيد بن معاوية في الحرم ، فأكون الذي تُستباح به حرمة هذا البيت )). فقال له ابن الحنفيّة : فإنْ خفتَ ذلك فسرْ إلى أرض اليمن أو بعض نواحي البرّ فإنّك أمنع النّاس به ، ولا يقدر عليك أحد.

٤٩

فقال (عليه‌السلام ) : (( أنظر فيما قلت )). فلمّا كان السّحر ارتحل الحسين (عليه‌السلام ) ، فبلغ ذلك ابن الحنفيّة ، فأتاه فأخذ بزمام ناقته - وقد ركبها - فقال : يا أخي ، ألمْ تعدني النظر فيما سألتك ؟ قال (عليه‌السلام ) : (( بلى )). قال : فما حداك على الخروج عاجلاً ؟ قال (عليه‌السلام ) : (( أتاني رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) بعدما فارقتك فقال : يا حسين ، اخرج فإنّ الله شاء أنْ يراك قتيلاً )). فقال محمّد بن الحنفيّة : إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، فما معنى حملك هؤلاء معك وأنت تخرج على مثل هذا الحال ؟ فقال (عليه‌السلام ) : (( إنّ الله قد شاء أنْ يراهنّ سبايا )). فسلّم عليه ومضى.

وسمع عبد الله بن عمر بخروجه ، فقدّم راحلته وخرج خلفه مسرعاً ، فأدركه في بعض المنازل فقال : أين تريد يابن رسول الله ؟ قال (عليه‌السلام ) : (( العراق )). قال : مهلاً ، ارجع إلى حرم جدّك رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ). فأبى الحسين (عليه‌السلام ) ، فلما رأى ابن عمر إباءه قال : يا أبا عبد الله ، اكشف لي عن الموضع الذي كان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) يقبّله منك. فكشف الحسين (عليه‌السلام ) عن سرّته ، فقبّلها ابن عمر ثلاثاً وبكى وقال : أستودعك الله يا أبا عبد الله ، فإنّك مقتول في وجهك هذا.

إنْ يقتلُوكَ فلا عنْ فَقدِ معرفةٍ

الشّمسُ مَعْروفةٌ بالعينِ والأثرِ

قدْ كُنتَ في مشرِقِ الدّنيا ومغْربِها

كالحمدُ لمْ تُغنِ عنهَا سائرُ السّوَرِ

المجلس السّابع والعشرون

لـمّا مات معاوية وبلغ أهل البصرة مكاتبة أهل الكوفة للحسين (عليه‌السلام ) ، اجتمعت شيعة البصرة في دار مارية بنت منقذ العبدي - وكانت تتشيع - فتذاكروا أمر الاُمّة وما آل إليه الأمر ، فخرج بعضهم لنصرة الحسين (عليه‌السلام ) ، وكاتبه بعضهم يطلب قدومه.

قال السيّد ابن طاووس عليه الرحمة في كتاب الملهوف : إنّ الحسين (عليه‌السلام ) كتب إلى جماعة من أهل البصرة كتاباً مع مولى له اسمه سليمان ويكنّى أبا رزين ، يدعوهم إلى نصرته ولزوم

٥٠

طاعته ، منهم : يزيد بن مسعود النّهشلي ، والمنذر بن الجارود العبدي ، والأحنف بن قيس وغيرهم ؛ فأمّا الأحنف فكتب إلى الحسين (عليه‌السلام ) يصبّره ويرجّيه ، وقال في كتابه : أمّا بعد ، فاستقم كما اُمرت ولا يستخفّنك الذين لا يوقنون ؛ وأمّا المنذر فأتى بالرسول والكتاب إلى ابن زياد في الليلة التي كان ابن زياد يريد السفر صبيحتها إلى الكوفة ؛ لأنّ المنذر خاف أنْ يكون الكتاب دسيساً من عبيد الله ، وكان ابن زياد متزوّجاً ابنته ، فصلب الرسول.

وأمّا يزيد بن مسعود فجمع بني تميم وبني حنظلة وبني سعد وبني عامر ، فلمّا حضروا قال : يا بني تميم ، كيف ترون موضعي فيكم وحسبي منكم ؟ قالوا : بخ بخ ، أنت والله فقرة الظهر ورأس الفخر ، حللت في الشرف وسطاً وتقدّمت فيه فرطاً. قال : فإنّي قد جمعتكم لأمر اُريد أنْ اُشاوركم فيه وأستعين بكم عليه. قالوا : إنّا والله نمنحك النّصيحة ونجهد لك الرأي فقُلْ نسمع. فقال : إنّ معاوية قد مات فأهون به والله هالكاً ومفقوداً ، ألا وإنّه قد انكسر باب الجور والإثم وتضعضعت أركان الظلم ، وقد كان أحدث بيعة عقد بها أمراً أظنّ أنْ قد أحكمه ، وهيهات الذي أراد ؛ اجتهد والله ففشل ، وشاور فخذل ، وقد قام ابنه يزيد شارب الخمور ورأس الفجور يدّعي الخلافة على المسلمين ، ويتأمّر عليهم بغير رضاً منهم مع قصر حلم وقلّة علم ، لا يعرف من الحقّ موطئ قدمه. فاُقسم بالله قسماً مبروراً ، لَجهاده على الدّين أفضل من جهاد المشركين. وهذا الحسين بن علي ، ابن بنت رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ذو الشّرف الأصيل والرأى الأثيل ، له فضل لا يوصف وعلم لا ينزف ، وهو أولى بهذا الأمر ؛ لسابقته وسنّه وقِدمه وقرابته ، يعطف على الصغير ويحنو على الكبير ، فأكرم به راعي رعيّة وإمام قوم وجبت لله به الحجّة وبلغت به الموعظة. فلا تعشوا عن نور الحقّ ولا تسكّعوا(١) في وهد الباطل ، فقد كان صخر بن قيس - وهو الأحنف - انخذل بكم يوم الجمل ، فاغسلوها بخروجكم إلى ابن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ونصرته. والله ، لا يقصّر أحد عن نصرته إلّا

______________________

(١) التسكّع : التمادي في الباطل.

٥١

أورثه الله الذلّ في ولده والقلّة في عشيرته ، وها أنا ذا قد لبست للحرب لامتها ، وأدرعت لها بدرعها. مَن لَمْ يُقتَل يمت ، ومَن يهرب لَمْ يفت ، فأحسنوا رحمكم الله ردّ الجواب.

فتكلّمت بنو حنظلة فقالوا : أبا خالد ، نحن نُبل كنانتك وفرسان عشيرتك ، إنْ رميت بنا أصبت ، وإنْ غزوت بنا فتحت ، لا تخوض والله غمرة إلّا خضناها ، ولا تلقى والله شدّة إلّا لقيناها ؛ ننصرك بأسيافنا ونقيك بأبداننا ، إذا شئت فقم. وتكلّمت بنو سعد بن زيد فقالوا : أبا خالد ، إنّ أبغض الأشياء إلينا خلافك والخروج من رأيك ، وقد كان صخر بن قيس أمرنا بترك القتال فحمدنا أمرنا وبقي عزّنا فينا ، فأمهلنا نراجع المشورة ويأتيك رأينا. وتكلّمت بنو عامر بن تميم فقالوا : يا أبا خالد ، نحن بنو أبيك وحلفاؤك ، لا نرضى إنْ غضبت ولا نقطن إنْ ظعنت والأمر إليك ، فادعنا نجبك ومُرنا نطعك والأمر لك إذا شئت.

فالتفت إلى بني سعد وقال : والله يا بني سعد ، لئن فعلتموها لا رفع الله السّيف عنكم أبداً ولا زال سيفكم فيكم. ثم كتب إلى الحسين (عليه‌السلام ) مع الحجّاج بن بدر السعدي - وكان متهيّئاً للمسير إلى الحسين (عليه‌السلام ) بعد ما سار إليه جماعة من العبديين من أهل البصرة - :

بسم الله الرحمن الرحيم

أمّا بعد ، فقد وصل إليّ كتابك ، وفهمتُ ما ندبتني له ودعوتني إليه من الأخذ بحظّي من طاعتك والفوز بنصيبي من نصرتك ، وإنّ الله لم يخلُ الأرض من عامل عليها بخير أو دليل على سبيل نجاة ، وأنتم حجّة الله على خلقه ووديعته في أرضه ، تفرّعتم من زيتونة أحمديّة هو أصلها وأنتم فرعها. فاقدم سعدت بأسعد طائر ، فقد ذلّلتُ لك أعناق بني تميم وتركتهم أشدّ تتابعاً في طاعتك من الإبل الظماء لورود الماء يوم خمسها ، وقد ذلّلتُ لك رقاب بني سعد وغسلتُ درن صدورها بماء سحابة مزن حين استهلّ برقها فلمع.

فلمّا قرأ الحسين (عليه‌السلام ) الكتاب ، قال : (( ما لك ، آمنك الله يوم الخوف وأعزّك وأرواك يوم العطش الأكبر )).

فلمّا تجهّز المشار إليه للخروج إلى الحسين (عليه‌السلام ) ، بلغه قتله قبل أنْ يسير ، فجزع من انقطاعه عنه ، وبقي الحجّاج معه حتّى قُتل بين يديه.

أسفاً وهلْ يُجدي الكَئيبَ تأسّفٌ

إنْ لمْ أكُنْ يومَ الطّفوفِ لكَ الفِدا

٥٢

المجلس الثامن والعشرون

لـمّا كتب أهل الكوفة إلى الحسين (عليه‌السلام ) بالقدوم عليهم وألحّوا عليه ، أجابهم بـ : (( إنّي باعث إليكم أخي وابن عمّي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل )). وإنّه إنْ كتب إليه باجتماع رأيهم على مثل ما كتبوا به ، قدم إليهم عن قريب. ودعا بمسلم فأرسله مع قيس بن مسهّر الصيداوي ورجلين آخرين ، وأمره بالتقوى وكتمان أمره واللطف ، فإنْ رأى النّاس مجتمعين مستقيمين ، عجّل إليه بذلك.

فأتى مسلم المدينة فصلّى في مسجد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ، وودّع مَن أحبّ من أهله ، واستأجر دليلين فسارا به على غير الطريق ، فضلّ الدليلان وأصابهما عطش شديد فماتا بعد أنْ أشارا له إلى الطريق. وانتهى مسلم إلى الماء في موضع يُعرف بالمضيق ، وكتب إلى الحسين (عليه‌السلام ) : أمّا بعد ، فإنّي أقبلت من المدينة مع دليلين لي فجازا عن الطريق فضلاّ واشتدّ عليهما العطش فلم يلبثا أنْ ماتا ، وأقبلنا حتّى انتهينا إلى الماء فلم ننجُ إلّا بحشاشة أنفسنا ، وذلك الماء بمكان يُدعى المضيق من بطن الخبت ، وقد تطيّرت من توجّهي هذا ، فإنْ رأيت أعفيتني وبعثت غيري ، والسّلام.

فأجابه الحسين (عليه‌السلام ) : (( أمّا بعد ، فقد خشيت أنْ لا يكون حملك على الكتابة إليّ في الاستعفاء إلّا الجبن ، فامض لوجهك الذي وجّهتك فيه ، والسّلام )). فقال مسلم : أمّا هذا (يعني الجُبن) فلست أتخوّفه على نفسي. ثم أقبل حتّى دخل الكوفة فنزل في دار المختار ، وأقبل النّاس يختلفون إليه ، فكلمّا اجتمع منهم جماعة ، قرأ عليهم كتاب الحسين (عليه‌السلام ) وهم يبكون حتّى بايعه منهم ثمانية عشر ألفاً ، فكتب إلى الحسين (عليه‌السلام ) يخبره بذلك ويأمره بالقدوم.

وبلغ ذلك النّعمان بن بشير الأنصاري - وكان والياً على الكوفة - فصعد المنبر وخطب النّاس وحذّرهم ، فقال له عبد الله بن مسلم الحضرمي - حليف بني اُميّة - : إنّه لا يصلح ما ترى أيّها الأمير إلّا الغشم ، وإنّ هذا الذي أنت عليه رأي المستضعفين. فقال : أنْ أكون من المستضعفين في طاعة الله أحبّ إليّ من

٥٣

أنْ أكون من الأعزّين في معصية الله.

فكتب عبد الله بن مسلم هذا وعمارة بن عقبة وعمر بن سعد بن أبي وقّاص إلى يزيد يخبرونه بأمر مسلم ، ويشيرون عليه بعزل النّعمان وتولية غيره. فدعا يزيد سرجون الرومي مولى معاوية - وكان مستولياً على معاوية في حياته - فاستشاره يزيد ، فقال : لو نشر لك معاوية ما كنت آخذاً برأيه ؟ قال : بلى. فأخرج عهد عبيد الله بن زياد على الكوفة ، وقال : هذا رأي معاوية. فدعا يزيد مسلم بن عمرو الباهلي وأرسله إلى عبيد الله بن زياد - وكان والياً على البصرة - فضمّ إليه البصرة والكوفة ، وأمره أنْ يسير إلى الكوفة.

فتجهّز عبيد الله من وقته وسار إلى الكوفة من الغد ومعه مسلم بن عمرو الباهلي رسول يزيد، والحصين بن تميم التميمي صاحب شرطته ، وشريك بن الحارث الأعور الهمداني وهو من الشيعة ، فتمارض شريك رجاء أنْ يتأخّر ابن زياد في السّير فيدخل الحسين (عليه‌السلام ) الكوفة قبله ، فتركه ابن زياد في الطريق وتقدّم فدخل الكوفة ليلاً. وكان النّاس قد بلغهم إقبال الحسين (عليه‌السلام ) فظنّوا حين رأوا عبيد الله أنّه الحسين (عليه‌السلام ) ، فكلمّا مرّ على جماعة سلّموا عليه وقالوا : مرحباً بك يابن رسول الله ، قدمت خير مقدم. فرأى من تباشرهم بالحسين (عليه‌السلام ) ما ساءه ، فقال بعض مَن معه لـمّا كثروا : تأخروا ، هذا الأمير عبيد الله بن زياد.

و أصبح ابن زياد فنادى الصّلاة جامعة فاجتمع النّاس ، فخرج إليهم وخطبهم ووعد المحسن بالإحسان وتوعّد المسيء بأشدّ العقاب ، فبلغ ذلك مسلم بن عقيل فانتقل من دار المختار إلى دار هاني بن عروة ، وجعلت أصحابه تختلف إليه على تستّر واستخفاء. فدعا ابن زياد مولى له اسمه معقل وأعطاه ثلاثة آلاف درهم ، وأوصاه أنْ يلتمس مسلم بن عقيل وأصحابه ويظهر لهم أنّه منهم ويدفع إليهم المال ، فجاء معقل إلى مسلم بن عوسجة وهو يصلّي في المسجد ، فقال له: أنا رجل من أهل الشام أنعم الله عليّ بحبّ أهل هذا البيت ، وتباكى له ، وقال : معي ثلاثة آلاف درهم أحبّ دفعها للذي يبايع لابن بنت رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ). فاغترّ مسلم بن عوسجة بذلك وأدخله على مسلم بن عقيل بعد أنْ أخذ عليه المواثيق المغلّظة ، فجعل معقل يختلف إليهم ويخبر ابن زياد بما

٥٤

يريده.

وبلغ الذين بايعوا مسلم بن عقيل خمسة وعشرين ألف رجل ، فعزم على الخروج ، فقال هاني : لا تعجل.

هُمْ بايَعُوكَ وخانوا العهْدَ وانخَذلُوا

منْ بعدِ ما أوثَقوا عَهداً وأيمانَا

ما يومُكُمْ منْ بني كوفانَ إذْ نَكثوا

بواحدٍ لا سقَى الرحمنُ كُوفانَا

المجلس التاسع والعشرون

لـمّا جاء ابن زياد إلى الكوفة وتهدد النّاس وتوعّدهم ، خاف هاني على نفسه من ابن زياد فانقطع عنه وتمارض ، فسأل عنه ابن زياد جلساءه ، فقيل : إنّه مريض. فقال : لو علمت بمرضه لعدته. ودعا بجماعة فقال لهم : ما يمنع هاني من اتياننا ؟ قالوا : ما ندري ، وقد قيل إنّه مريض. قال : بلغني أنّه قد برئ ، فألقوه ومروه أنْ لا يدع ما عليه من حقّنا. فأتوا إلى هاني وأخبروه أنّ ابن زياد قد سأل عنه ، وأقسموا عليه أنْ يذهب معهم.

فلبس هاني ثيابه وركب بغلته وأقبل معهم ، فلمّا رآه ابن زياد ، قال : أتتك بخائن رجلاه تسعى. ثمّ قال : إيه يا هاني ، جئت بمسلم بن عقيل فأدخلته دارك ، وجمعت له الجموع والسّلاح في الدور حولك ، وظننت أنّ ذلك يخفى عليّ. فأنكر هاني ذلك ، فدعا ابن زياد معقلاً ، فلمّا رآه هاني أسقط في يده ساعة ( أي : بُهت وتحيّر) ثمّ راجعته نفسه ، وجعل يعتذر إلى ابن زياد بأنّه ما دعا مسلماً إلى داره لكن جاءه يطلب منه النّزول فاستحيا من ردّه ، وقال : إنْ شئت أنْ أنطلق إليه فآمره أنْ يخرج من داري. فقال له ابن زياد : والله ، لا تفارقني أبداً حتّى تأتيني به. قال : لا والله ، لا أجيئك به أبداً ، أجيئك بضيفي تقتله ؟! فلمّا كثر الكلام بينهما ، قام مسلم بن عمرو الباهلي فخلا بهاني وجعل يناشده أنْ يدفع مسلم بن عقيل إلى ابن زياد ويقول : إنّه ابن عمّ القوم وليسوا بقاتليه ولا ضائريه ، وليس عليك بذلك مخزاة ولا منقصة ؛ إنّما تدفعه إلى السّلطان.

فقال هاني : إنّ عليّ

٥٥

في ذلك الخزي والعار أنْ أدفع جاري و ضيفي وأنا حيّ صحيح شديد السّاعدين كثير الأعوان. والله ، لو لم يكن لي ناصر لم أدفعه حتّى أموت دونه. فسمع ابن زياد ذلك فقال : ادنوه مني. فأدنوه منه ، فقال : والله ، لتأتينّي به أو لأضربنّ عنقك. فقال هاني : إذاً والله ، تكثر البارقة ( يعني السّيوف ) حول دارك. فقال ابن زياد : وآ لهفاه عليك ! أبالبارقة تخوفني ؟! - وهاني يظنّ أنّ عشيرته سيمنعونه - ثمّ قال : ادنوه منّي. فاُدني منه ، فاستعرض وجهه بالقضيب ، فلم يزل يضرب به أنفه وجبينه وخدّه حتّى كسر أنفه وسالت الدماء على ثيابه ووجهه ولحيته ، ونثر لحم جبينه وخدّه على لحيته حتّى كسر القضيب ، وضرب هاني يده على قائم سيف شرطي ، وجاذبه الشرطي ومنعه ، فقال عبيد الله : أحروري سائر اليوم ؟!(١) قد حلّ دمك ، جرّوه. فجرّوه فألقوه في بيت من بيوت الدار وجعلوا عليه حرساً.

وبلغ الخبر إلى مذحج عشيرة هاني ، فأقبلوا مع ابن الحجّاج حتّى أحاطوا بالقصر ، فأمر ابن زياد شريحاً القاضي أنْ يدخل على هاني فينظر إليه ثمّ يخبر عشيرته بأنّه حيّ ، ففعل ذلك ، فقال له عمرو بن الحجّاج وأصحابه : أمّا إذا لم يُقتل فالحمد لله ، ثمّ انصرفوا.

إذا ما سَقَى اللهُ البلادَ فلا سَقَى

معاهدَ كوفانٍ بنوِّ المرازمِ

أتتْ كتبهُمْ في طيِّهنَّ كتائبٌ

وما رُقِّمتْ إلّا بسُمِّ الأراقمِ

المجلس الثلاثون

لما بلغ مسلم بن عقيل ما فعله عبيد الله بن زياد بهاني بن عروة ، نادى في

______________________

(١) أي : أأنت تفعل فعل الخوارج في هذا اليوم ؟! والحروري : الخارجي ؛ لأنّ الخوارج اجتمعوا في أول أمرهم في موضع يقال له : حروراء ، فسمّوا الحروريّة. - المؤلّف -

٥٦

أصحابه - وكانوا أربعة آلاف رجل - فاجتمعوا عليه ، فخرج بهم لحرب ابن زياد ، وتداعى النّاس واجتمعوا حتّى امتلأ المسجد والسّوق ، ودخل عبيد الله القصر وأغلق أبوابه فضاق به أمره ، وأقام النّاس مع مسلم يكثرون حتّى المساء وأمرهم شديد.

وبعث عبيد الله إلى أشراف النّاس فجمعهم عنده ، ثمّ أشرفوا على النّاس يُرغّبونهم ويُرهبونهم ويُخوّفونهم بأجناد الشام ، فأخذوا يتفرّقون ، وكانت المرأة تأتي ابنها وأخاها فتقول : انصرف ، النّاس يكفونك. ويجيء الرجل إلى ابنه وأخيه ويقول : غداً يأتيك أهل الشام ، فما تصنع بالحرب والشرّ ؟ انصرف. فما زالوا يتفرّقون حتّى أمسى ابن عقيل وصلّى المغرب وما معه إلّا ثلاثون نفساً في المسجد ، فخرج متوجّهاً إلى أبواب كندة فلم يبلغها إلّا ومعه عشرة ، ثمّ خرج من الباب فإذا ليس معه أحد.

فمضى على وجهه لا يدري أين يذهب حتّى أتى إلى باب امرأة يقال لها طوعة ، فسلّم عليها فردّتعليه‌السلام ، وطلب منها ماء فسقته وجلس ، ودخلت ثمّ خرجت فقالت : يا عبد الله ، ألم تشرب ؟ قال : بلى. قالت : فاذهب إلى أهلك. فسكت ، ثمّ أعادت القول فسكت ، ثمّ أعادت القول فسكت ، فقالت في الثالثة : سبحان الله ! يا عبد الله ، قم عافاك الله إلى أهلك فإنّه لا يصحّ لك الجلوس على بابي ولا أحلّه لك. فقام وقال : يا أمة الله ، ما لي في هذا المصر أهل ولا عشيرة ، فهل لك في أجر معروف ولعلّي مكافيك بعد هذا اليوم ؟ قالت : وما ذاك ؟ قال : أنا مسلم بن عقيل ، كذّبني هؤلاء القوم وغرّوني وأخرجوني. قالت : أنت مسلم ؟! قال : نعم. قالت : ادخل. فدخل إلى بيت في دارها غير الذي تكون فيه ، وفرشت له وعرضت عليه العشاء فلم يتعشَّ.

وجاء ابنها فرآها تكثر الدخول في البيت والخروج منه ، فقال : والله ، إنّه ليريبني كثرة دخولك إلى هذا البيت وخروجك منه منذ الليلة ، إنّ لك لشأناً ! قالت له : يا بُني ، إلْه عن هذا. فقال: والله لتخبريني. قالت له : أقبل على شأنك ولا تسألني عن شيء. فألحّ عليها ، فقالت : يا بُني، لا تخبرنّ أحداً من النّاس بشيء ممّا اُخبرك به. قال: نعم. فأخذت عليه الأيمان فحلف لها فأخبرته ، فاضطجع وسكت ، فلمّا أصبح غدا إلى عبد الرحمن بن محمّد

٥٧

ابن الأشعث فأخبره ، فأقبل عبد الرحمن حتّى أتى أباه - وهو عند ابن زياد - فسارّه ، فعرف ابن زياد سراره فقال : قم فأتي به السّاعة. وبعث معه عبيد الله بن العبّاس السّلمي في سبعين رجلاً من قيس حتّى أتوا الدار التي فيها مسلم ، فلّما سمع مسلم وقع حوافر الخيل وأصوات الرجال ، علم أنّه قد اُتي فخرج إليهم بسيفه ، واقتحموا عليه الدار ، فشدّ عليهم يضربهم بسيفه حتّى أخرجهم من الدار ، ثمّ عادوا إليه فشدّ عليهم كذلك ، فاختلف هو وبكر بن حمران الأحمري ضربتين ؛ فضرب بكر فم مسلم فقطع شفته العليا وأسرع السّيف في السفلى وفصلت له ثنيتاه ، وضربه مسلم في رأسه ضربة منكرة وثنّاه باُخرى على حبل العاتق كادت تطلع إلى جوفه. فلمّا رأوا ذلك ، أشرفوا عليه من فوق البيت وأخذوا يرمونه بالحجارة ، ويلهبون النّار في أطناب القصب ثمّ يرمونها عليه من فوق البيت ، فلمّا رأى ذلك خرج مصلتا سيفه في السكّة ، فقال محمّد بن الأشعث : لك الأمان ، لا تقتل نفسك. فقال مسلم : وأيّ أمان للغدرة ؟! ثمّ أقبل يقاتلهم وهو يرتجز ويقول :

أقسمت لا اُقتلُ إلّا حُرّا

وإنْ رأيتُ الموتَ شيئاً نُكرا

أكرهُ أنْ اُخدعَ أو اُغرّا

أو أخلطَ الباردَ سخناً مُرّا

ردَّ شُعاعُ النَّفسِ فاسْتَقرّا

كلُّ امرئٍ يوماً يُلاقي شَرّا

أضربُكُمْ ولا أخافُ ضَرّا

فنادوه : إنّك لا تُكذب ولا تُغر. فلمْ يلتفت إلى ذلك إلى أنْ قتل منهم واحداً وأربعين رجلاً - على ما رواه ابن شهر آشوب - ، وتكاثروا عليه بعد أنْ اُثخن بالجراح ، فطعنه رجل من خلفه فخرّ إلى الأرض ، فاُخذ أسيراً.

وفي رواية المفيد : أنّه أخذ بالأمان بعد أنْ عجز عن القتال. فاُتي ببغلة فحُمل عليها واجتمعوا حوله وانتزعوا سيفه ، فكأنّه عند ذلك يئس من نفسه ، فدمعت عيناه ثمّ قال : هذا أول الغدر. فقال له محمّد بن الأشعث : أرجو أنْ لا يكون عليك بأس. فقال : وما هو إلّا الرجاء ، أين أمانكم ؟ إنّا لله وإنّا إليه راجعون. وبكى ، فقال له عبيد الله بن العبّاس السلمي : إنّ مَن يطلب مثل الذي تطلب ، إذا نزل به مثل ما نزل بك لم يبكِ. فقال : والله ،

٥٨

ما لنفسي بكيت ولا لها من القتل أرثي ، وإنْ كنت لم اُحبّ لها طرفة عين تلفاً ، ولكنّي أبكي لأهلي المقبلين ؛ أبكي الحسين وآل الحسين (عليهم‌السلام ). ثمّ أقبل على محمّد بن الأشعث فقال : يا عبد الله ، إنّي أراك والله ستعجز عن أماني ، فهل عندك خير ؟ تستطيع أنْ تبعث من عندك رجلاً على لساني أنْ يبلّغ حسيناً ، فإنّي لا أراه إلّا وقد خرج اليوم أو هو خارج غداً وأهل بيته ، ويقول له أنّ ابن عقيل بعثني إليك وهو أسير في أيدي القوم ، لا يرى أنّه يمسي حتّى يُقتل ، وهو يقول لك ارجع - فداك أبي واُمّي - بأهل بيتك ، ولا يغررك أهل الكوفة ؛ فإنّهم أصحاب أبيك الذي كان يتمنّى فراقهم بالموت أو القتل. إنّ أهل الكوفة قد كذّبوك وليس لمكذوب رأي ؟ فقال ابن الأشعث : والله ، لأفعلن ولأعلمنّ ابن زياد أنّي قد آمنتك.

لاقاكَ جمعُهُمُ في الدّارِ مُنفرداً

كما تُلاقي بُغاثُ الطَّيرِ عُقبانَا

فَعُدتَ تنثرُ بالهنديِّ هامَهُمُ

والرّمحُ ينظمهُمْ مثنىً ووحدانَا

حتّى غدوتَ أسيراً في أكفِهمُ

وكان منْ نُوَبِ الأيّامِ ما كانَا

المجلس الواحد والثلاثون

لـمّا أسّر محمّد بن الأشعث مسلم بن عقيل ، أقبل به حتّى انتهى إلى باب قصر الأمارة وقد اشتد بمسلم العطش ، وعلى باب القصر ناس جلوس ينتظرون الإذن فيهم عمرو بن حريث ومسلم بن عمرو الباهلي ، وإذا قلّة ماء باردة موضوعة على الباب ، فقال مسلم : اسقوني من هذا الماء. فقال له مسلم بن عمرو الباهلي : أتراها ما أبردها ؟ لا والله ، لا تذوق منها قطرة حتّى تذوق الحميم في نار جهنّم. فقال له ابن عقيل : لاُمّك الثكل ! ما أجفاك وأفظّك وأقسى قلبك ! أنت يابن باهلة أولى بالحميم والخلود في نار جهنّم منّي.

ثم جلس فتساند إلى الحائط ، وبعث عمرو بن حريث غلاماً له فأتاه بقلّة عليها منديل وقدح، فصبّ فيه ماء ، فقال له : اشرب. فأخذ كلّما شرب امتلأ القدح دماً من فمه ولا يقدر أنْ يشرب ، ففعل ذلك مرّة أو مرّتين ، فلمّا ذهب في الثالثة

٥٩

ليشرب ، سقطت ثناياه في القدح ، فقال : الحمد لله ، لو كان لي من الرزق المقسوم لشربته.

كأنّما نفسُك اختارتْ لهَا عَطشاً

لـمّا دَرتْ أنْ سيقضي السّبطُ عَطشانَا

فلمْ تُطقْ أنْ تسيغَ الماءَ عنْ ظمأٍ

منْ ضربةٍ ساقَها بكرُ بنُ حمرانَا

وخرج رسول ابن زياد وأمر بإدخاله إليه ، فلمّا دخل لمْ يسلّم عليه بالإمرة ، فقال له الحرسي : لِم لا تسلّم على الأمير ? قال : اسكت ويحك ! والله ، ما هو لي بأمير. فقال ابن زياد : لا عليك ، سلّمت أم لمْ تسلّم فإنّك مقتول. فقال له مسلم : إنْ قتلتني ، فلقد قتل مَن هو شرّ منك مَن هو خيرٌ منّي. فقال له ابن زياد : قتلني الله إنْ لمْ أقتلك قتلة لم يقتلها أحد في الإسلام. فقال مسلم : أما إنّك أحقّ مَن أحدث في الإسلام ما لمْ يكن ، وإنّك لا تدع سوء القتلة وقبح المثلة ، وخبث السّريرة ولؤم الغلبة لأحد أولى بها منك. فقال ابن زياد : يا عاق يا شاق ، خرجت على إمامك وشققت عصا المسلمين وألقحت الفتنة. فقال مسلم : كذبت إنّما شقّ عصا المسلمين معاوية وابنه يزيد ، وأمّا الفتنة فإنّما ألقحتها أنت وأبوك زياد بن عبيد ، عبد بني علاّج من ثقيف ، وأنا أرجو أنْ يرزقني الله الشهادة على يدي شرّ بريّته. فقال له ابن زياد : منّتك نفسك أمراً حال الله دونه وجعله لأهله. فقال له مسلم : ومَن أهله يابن مرجانة إذا لم نكن نحن أهله ؟! فقال له ابن زياد : أهله أمير المؤمنين يزيد. فقال مسلم : الحمد لله على كلّ حال ، رضينا بالله حكماً بيننا وبينكم. فقال له ابن زياد : أتظنّ أنّ لك في الأمر شيئاً ؟ فقال له مسلم : والله ، ما هو الظنّ ولكنّه اليقين.

وقال له ابن زياد : إيه ابن عقيل ، أتيت النّاس وهم جميع أمرهم ملتئم ، فشتتّ أمرهم بينهم وفرّقت كلمتهم وحملت بعضهم على بعض. قال : كلاّ لست لذلك أتيت ، ولكنّكم أظهرتم المنكر ودفنتم المعروف ، وتأمّرتم على النّاس بغير رضىً منهم ، وحملتموهم على غير ما أمركم الله به ، وعملتم فيهم بأعمال كسرى وقيصر ؛ فأتيناهم لنأمر فيهم بالمعروف وننهى عن المنكر ، وندعوهم إلى حكم الكتاب والسنّة ، وكنّا أهل ذلك. فقال له ابن زياد : وما أنت وذاك يا فاسق ؟ لِم لمْ تعمل بذلك إذ أنت بالمدينة تشرب الخمر ؟ قال مسلم : أنا أشرب الخمر ؟! أما والله ، إنّ الله

٦٠