المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة الجزء ١

المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة0%

المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 167

المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة

مؤلف: السيد محسن بن عبد الكريم الأمين
تصنيف:

الصفحات: 167
المشاهدات: 57757
تحميل: 2286


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 167 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 57757 / تحميل: 2286
الحجم الحجم الحجم
المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة

المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة الجزء 1

مؤلف:
العربية

ليعلم أنّك تعلم أنّك غير صادق ، وأنّك أحقّ بشرب الخمر منّي ، وأولى مَن يلغ في دماء المسلمين ولغاً فيقتل النّفس التي حرّم الله قتلها ، ويسفك الدم الذي حرّم الله على الغضب والعداوة وسوء الظن ، وهو يلهو ويلعب كأنْ لمْ يصنع شيئاً. فأخذ ابن زياد يشتمه ويشتم عليّاً وعقيلاً والحسن والحسين (عليهم‌السلام ) ، وأخذ مسلم لا يكلّمه. وفي رواية : أنه قال له : أنت وأبوك أحقّ بالشتيمة ، فاقضِ ما أنت قاضٍ يا عدو الله.

ثم قال ابن زياد : اصعدوا به فوق القصر فاضربوا عنقه ، ثمّ اتبعوه جسده. ثمّ قال : أين هذا الذي ضرب ابن عقيل رأسه بالسّيف ؟ فدعي بكر بن حمران فقال له : اصعد فلتكن أنت الذي تضرب عنقه. فصعد بمسلم وهو يكبّر ويستغفر الله ويصلّي على رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ويقول : اللهمَّ ، احكم بيننا وبين قوم غرّونا وكذّبونا وخذلونا. وأشرفوا به على موضع من القصر فضُربت عنقه واُتبع رأسه جثّته.

يا مُسلمُ بنَ عقيلٍ لا أغبّ ثرَى

ضريحِكَ الـمُزنُ هطّالاً وهتّانا

نصرتَ سبطَ رسولِ اللهِ مُجتَهداً

وذقْتَ في نصرِهِ للضُّرِّ ألوانا

ورامَ تقريعَكَ الرّجسُ الدّعيُّ بما

قدْ كان لفَّقهُ زُوراً وبُهتانا

ألقمتَهُ بجوابٍ قاطعٍ حَجراً

وللجهولِ بهِ أوضحتَ بُرهانا

المجلس الثاني والثلاثون

لـمّا قُتل ابن عقيل ، قام محمّد بن الأشعث إلى عبيد الله بن زياد فكلّمه في هاني بن عروة - وكان محمّد بن الأشعث وأسماء بن خارجة هما اللذان أتيا بهاني إلى ابن زياد وقالا له : أنّه قد ذكرك ، وأقسما عليه أنْ يركب معهما ، ولمْ يكن أسماء يعلم بشيء ممّا كان ، وكان ابن الأشعث عالماً به - فقال ابن الأشعث لابن زياد : إنّك قد عرفت منزلة هاني في المصر وبيته في العشيرة ، وقد علم قومه أنّي وصاحبي أتينا به إليك ، وأنشدك الله لما وهبته لي ، فإنّي أكره عداوة المصر وأهله.

٦١

فوعده أنْ يفعل ، ثمّ بدا له وأمر بهاني في الحال فقال : اخرجوه إلى السّوق فاضربوا عنقه.

فاُتي به إلى مكان من السّوق كان يباع فيه الغنم وهو مكتوف ، فجعل يقول : وآ مذحجاه ! ولا مذحج لي اليوم. يا مذحجاه ! أين مذحج ؟ فلمّا رأى أنّ أحداً لا ينصره ، جذب يده فنزعها من الكتف ثمّ قال : أما من عصا أو سكّين أو حجارة أو عظم يحاجز بها رجل عن نفسه؟ ووثبوا إليه فشدّوه وثاقاً ثمّ قيل له : امدد عنقك. فقال : ما أنا بها سخي ، وما أنا بمعينكم على نفسي. فضربه مولى لعبيد الله اسمه رشيد ، فلم يصنع شيئاً ، فقال له هاني : إلى الله المعاد ، اللهمَّ إلى رحمتك ورضوانك. ثمّ ضربه اُخرى فقتله. وأمر ابن زياد بجثّتي مسلم وهاني فصلبتا في الكناسة(١) وبعث برأسيهما إلى يزيد بن معاوية.

قال سبط ابن الجوزي : كان رأس مسلم أول رأس حمل من رؤوس بني هاشم ، وجثّته أول جثّة صُلبت.

فإنْ كنتِ ما تدرينَ ما الموتُ فانظُري

إلى هانئٍ في السّوق وابنِ عقيلِ

إلى بطلٍ قدْ هشَّمَ السّيفُ وجهَهُ

وآخرَ يهوي منْ طمارِ قتيلِ

أصابهُما فرخُ البغيِّ فأصبحَا

أحاديثَ مَن يسري بكلِّ سبيلِ

تَرَي جسداً قدْ غيّر الموتُ لونَهُ

ونضحَ دمٍ قدْ سال كلَّ مسيلِ

فتىً كان أحْيا منْ فتاةٍ حَييَّةٍ

وأقطعَ من ذي شَفرتينِ صقيلِ

المجلس الثالث والثلاثون

لـمّا قُتل مسلم بن عقيل وهاني بن عروة رضوان الله عليهما ، أمر ابن زياد كاتبه عمرو بن نافع أن يكتب إلى يزيد ما كان من أمر مسلم وهاني ، فكتب الكاتب فأطال - وكان أول مَن أطال في الكتب - فلمّا نظر فيه عبيد الله ، كرهه وقال : ما هذا التطويل ؟ وما هذا الفضول ؟ اكتب : أمّا بعد ، فالحمد لله الذي أخذ لأمير

______________________

(١) موضع بالكوفة ، يظهر أنّه كان محلّ اجتماع النّاس. - المؤلّف -

٦٢

المؤمنين حقّه وكفاه مؤونة عدوّه. أخبر أمير المؤمنين أنّ مسلم بن عقيل لجأ إلى دار هاني بن عروة المرادي ، وإنّي جعلت عليهما المراصد والعيون ودسست إليهما الرجال وكدتهما حتّى أخرجتهما وأمكن الله منهما ، فقدّمتهما وضربت أعناقهما ، وقد بعثت إليك برأسيهما مع هانئ بن أبي حيّة الوداعي والزبير بن الأروح التميمي وهما من أهل السّمع والطاعة والنّصيحة ، فليسألهما أمير المؤمنين عمّا أحب من أمرهما ؛ فإنّ عندهما علماً وصدقاً وورعاً ، والسّلام.

فكتب إليه يزيد : أمّا بعد ، فإنّك لمْ تعد إنْ كنت كما اُحب ، عملت عمل الحازم وصلت صولة الشجاع الرابط الجأش ، وقد أغنيت وكفيت ، وصدّقت ظنّي بك ورأيي فيك ، وقد دعوت رسولَيك فسألتهما وناجيتهما فوجدتهما في رأيهما وفضلهما كما ذكرت فاستوص بهما خيراً ، وأنّه قد بلغني أنّ حسيناً قد توجّه إلى العراق ، فضع المناظر والمسالح واحترس ، واحبس على الظنّة واقتل على التهمة ، واكتب إليّ فيما يحدث من خير إنْ شاء الله.

ولـمّا بلغ الحسين (عليه‌السلام ) مقتل مسلم وهاني ، قال : (( إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، رحمة الله عليهما )) ، يردّد ذلك مراراً. ولقيه الفرزدق الشاعر فسلّم عليه وقال : يابن رسول الله ، كيف تركن إلى أهل الكوفة وهم الذين قتلوا ابن عمّك مسلم بن عقيل وشيعته ؟! فاستعبر الحسين (عليه‌السلام ) ثمّ قال : (( رحم الله مسلماً ، فلقد صار إلى رَوح الله وريحانه ، وتحيّاته ورضوانه ، أما أنّه قد قضى ما عليه وبقي ما علينا )) ، ثمّ أنشأ يقول :

فإنْ تكُنْ الدُّنيا تعدُّ نفيسةً

فإنّ ثوابَ اللهِ أعلى وأنبلُ

وإنْ تكُنْ الأبدانُ للموتِ اُنشئتْ

فقتلُ امرئٍ بالسّيفِ في اللهِ أفضلُ

وإنْ تكُنْ الأرزاقُ قِسْماً مُقدّراً

فقلّةُ حِرصِ المرءِ في السَّعي أجملُ

وإنْ تكُنْ الأموالُ للتّركِ جَمعُها

فما بالُ متروكٍ به المرءُ يبخلُ

* * *

٦٣

المجلس الرابع والثلاثون

لـمّا عزم الحسين (عليه‌السلام ) على الخروج من مكّة إلى العراق ، قام خطيباً في أصحابه فقال : (( الحمدُ لله وما شاء الله ولا قوّة إلّا بالله ، وصلّى الله على رسوله ، خُطَّ الموتُ على وُلد آدمَ مَخَطَّ القَلادةِ على جيد الفتاةِ ، وما أولهني إلى أسلافي اشتياقُ يعقوبَ إلى يوسفَ ، وخُيّر لي مصرعٌ أنا لاقيه ، كأنّي بأوصالي تُقطّعها عَسْلانُ(١) الفلوات بين النّواويس وكربلاء ، فيملأنَّ منّي أكراشاً جوفاً وأجربةً سغباً ، لا مَحيصَ عن يومٍ خُطّ بالقَلَمْ ، رِضَى اللهُ رضانا أهلَ البيتِ ، نصبرُ على بلائِهِ ويُوفّينا أجورَ الصّابرين ، لنْ تَشُذَّ عن رسول اللهِ لَحمتُهُ ، بل هي مجموعةٌ لهُ في حظيرةِ القُدْسِ ، تُقرُّ بِهمْ عينُه ويُنجزُ بهم وعدَه.

مَنْ كان باذلاً فينا مُهجَتَه ، ومُوَطِّناً على لقاءِ اللهِ نفسَه فليرحل معنا ، فإنّني راحلٌ مُصبحاً إنْشاءَ اللهُ تعالى )). ثمّ ارتحل.

وألحقه عبد الله بن جعفر بابنيه عون ومحمّد ، وكتب على أيديهما إليه كتاباً يقول فيه : أمّا بعد ، فإنّي أسألك بالله لما انصرفت حين تنظر في كتابي ، فإنّي مشفق عليك من الوجه الذي توجّهت له أنْ يكون فيه هلاكك واستئصال أهل بيتك ، وإنْ هلكت اليوم اُطفئ نور الأرض ، فإنّك علم المهتدين ورجاء المؤمنين ، فلا تعجل بالمسير فإنّي في أثر كتابي ، والسّلام.

وصار عبد الله إلى عمرو بن

______________________

(١) في إبصار العين : عسلان ، بضمّ العين وسكون السين : جمع عاسل ، وهو المهتزّ المضطرب. ويُقال للرمح والذئب ، والمراد الثاني اهـ.

أقول : لم يذكر أحد من أهل اللغة أنّ عاسلاً يجمع على عسلان ، والظاهر أنّ عسلان بالتحريك ، مصدر عسل الذئب إذا اضطرب في عدوه وهزّ رأسه ؛ ونسبة التقطيع إلى العسلان مجاز عقلي من باب الإسناد إلى السبب على حذف المضاف : أي يقطعها عسلان ذئاب الفلوات. - المؤلّف -

٦٤

سعيد فسأله أنْ يكتب للحسين (عليه‌السلام ) أماناً ويمنّيه البِر والصلة ، فكتب له وأنفذه مع أخيه يحيى بن سعيد ، فلحقه يحيى وعبدالله بن جعفر - بعد نفوذ ابنيه - وجهدا به في الرجوع ، فقال (عليه‌السلام ) : (( إنّي رأيت رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) في المنام وأمرني بما أنا ماض له )). فقالا له : فما تلك الرؤيا ؟ فقال (عليه‌السلام ) : (( ما حدّثت بها أحداً حتّى ألقى ربّي عزّ وجلّ )). فلمّا آيس منه عبد الله بن جعفر ، أمر ابنيه عوناً ومحمّداً بلزومه والمسير معه والجهاد دونه ورجع هو إلى مكّة.

قال علي بن الحسين (عليهما‌السلام ) : (( خرجنا مع أبي ، فما نزل منزلاً ولا ارتحل منه إلّا ذكر يحيى بن زكريّا )). وقال يوماً : (( من هوان الدّنيا على الله أنّ رأس يحيى بن زكريّا اُهدي إلى بغي من بغايا بني اسرائيل )).

ركبوا إلى العزِّ المنوْ

نَ وجانَبُوا عيشَ الذَّليلِ

وردُوا الوغَى فقضَوا وليـ

س تُعاب شمسٌ بالاُفولِ

المجلس الخامس والثلاثون

لـمّا بلغ الحسين (عليه‌السلام ) إلى الحاجر(١) من بطن الرّمة(٢) ، كتب كتاباً إلى جماعة من أهل الكوفة ، منهم : سليمان بن صرد الخزاعي ، والمسيّب بن نجبة ، ورفاعة بن شداد وغيرهم ، وأرسله مع قيس بن مسهّر الصيداوي - وذلك قبل أنْ يعلم بقتل مسلم - يقول فيه : (( بسم الله الرحمن الرحيم ، من الحسين بن علي إلى إخوانه من المؤمنين والمسلمين ، سلام عليكم ، فإنّي أحمد إليكم الله الذي لا إله إلّا هو. أمّا بعد ، فإنّ كتاب مسلم بن عقيل جاءني يخبرني فيه بحسن رأيكم ، واجتماع

______________________

(١) بحاء مهملة وجيم وراء مهملة : اسم مكان بطريق الحاج العراقي.

(٢) الرُمّة ، بضمّ الراء المهملة وتشديد الميم ، وقد تُخفف : قاع عظيم بنجد. - المؤلّف -

٦٥

ملئكم على نصرنا والطلب بحقّنا ، فسألت الله أنْ يحسن لنا الصّنيع وأنْ يثيبكم على ذلك أعظم الأجر ، وقد شخصت إليكم من مكّة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجّة يوم التّروية ، فإذا قدم عليكم رسولي ، فانكمشوا في أمركم وجدّوا ، فإنّي قادم عليكم في أيامي هذه إنْ شاء الله تعالى ، والسّلام عليكم ورحمة الله وبركاته )). وكان مسلم بن عقيل قد كتب إليه قبل أنْ يُقتل بسبع وعشرين ليلة.

فأقبل قيس بكتاب الحسين (عليه‌السلام ) إلى الكوفة ، وكان ابن زياد لمّا بلغه مسير الحسين (عليه‌السلام ) من مكّة إلى الكوفة ، بعث الحُصين بن تميم صاحب شرطته حتّى نزل القادسيّة ، فلمّا انتهى قيس إلى القادسيّة ، اعترضه الحُصين بن تميم ليفتّشه فأخرج قيس الكتاب وخرّقه ، فحمله الحُصين إلى ابن زياد فلمّا مثُل بين يديه ، قال له : مَن أنت ؟ قال : أنا رجل من شيعة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وابنه الحسين (عليهما‌السلام ). قال : فلماذا خرّقت الكتاب ؟ قال : لئلاّ تعلم ما فيه. قال: وممَّن الكتاب ، وإلى مَن ؟ قال : من الحسين (عليه‌السلام ) إلى جماعة من أهل الكوفة لا أعرف اسماءهم. فغضب ابن زياد وقال : والله ، لا تفارقني حتّى تخبرني بأسماء هؤلاء القوم أو تصعد المنبر فتسبّ الحسين بن علي وأباه وأخاه ، وإلّا قطّعتك إرباً إرباً. فقال قيس : أمّا القوم فلا اُخبرك بأسمائهم ، وأمّا السبّ فأفعل.

فصعد قيس ، فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ، وأكثر من الترحّم على عليّ والحسن والحسين (عليهم‌السلام ) ، ولعن عبيد الله بن زياد وأباه ولعن عتاة بني اُميّة ، ثمّ قال : أيّها النّاس، إنّ هذا الحسين بن علي خير خلق الله ، ابن فاطمة بنت رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ، وأنا رسوله إليكم وقد خلّفته بالحاجر فأجيبوه. فأمر به ابن زياد فرُمي من أعلى القصر فتكسّرت عظامه وبقي به رمق ، فأتاه رجل يقال له عبد الملك بن عُمير اللخمي فذبحه ، فعيب عليه ، فقال : أردت أنْ اُريحه.

ويقال : أنّ عبد الملك هذا كان قاضي الكوفة وفقيهها ، وما ينفعه فقهه مع شنيع فعله !

فبلغ الحسين (عليه‌السلام ) قتله ، فاسترجع واستعبر ولمْ يملك دمعته ثمّ قرأ :( فَمِنْهُم مّن قَضَى‏ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدّلُوا تَبْدِيلاً ) (١) . ثمّ قال (عليه‌السلام ) : (( جعل الله له الجنّة ثوابا ً. اللهمَّ ، اجعل لنا ولشيعتنا منزلاً كريماً ،

______________________

(١) سورة الأحزاب / ٢٣.

٦٦

واجمع بيننا وبينهم في مستقرٍ من رحمتك ورغائب مدخور ثوابك ، إنّك على كلّ شيء قدير )).

يَستنْجعُون الرَّدى شوقاً لغايتِهِ

كأنّما الضَّربُ في أفواهها الضَّربُ

واستأثَرُوا بالرَّدى من دونِ سيِّدهمْ

قصداً وما كُلّ إيثارٍ به الأربُ

المجلس السّادس والثلاثون

لـمّا سار الحسين (عليه‌السلام ) من الحاجر ، انتهى إلى ماء من مياه العرب ، فإذا عليه عبد الله بن مطيع العدوي وهو نازل به ، فلمّا رأى الحسين (عليه‌السلام ) ، قام إليه فقال : بأبي أنت واُمّي يابن رسول الله ، ما أقدمك ؟ واحتمله فأنزله ، فقال له الحسين (عليه‌السلام ) : (( كان من موت معاوية ما قد بلغك ، فكتب إليّ أهل العراق يدعونني إلى أنفسهم )). فقال له عبد الله : اُذكّرك الله يابن رسول الله وحرمة الإسلام أنْ تنتهك ، أنشدك الله في حرمة قريش ، أنشدك الله في حرمة العرب. فوالله ، لئن طلبت ما في أيدي بني اُميّة ليقتلنّك ، ولئن قتلوك لا يهابوا بعدك أحداً أبداً. والله ، إنّها لحرمة الإسلام تنتهك ، وحرمة قريش وحرمة العرب ، فلا تفعل ولا تأت الكوفة ولا تعرض نفسك لبني اُميّة.

وكان زهير بن القَين البجلي قد حجّ في تلك السّنة من الكوفة - وكان عثمانياً - فلمّا رجع من الحجّ ، جمعه الطريق مع الحسين (عليه‌السلام ).

فحدّث جماعة من فزارة وبجيلة قالوا : كنّا مع زهير بن القَين حين أقبلنا من مكّة فكنّا نساير الحسين (عليه‌السلام ) ، فلم يكن شيء أبغض إلينا من أنْ نسير معه في مكان واحد أو ننزل معه في منزل واحد ، فإذا سار الحسين تخلّف زهير بن القَين ، وإذا نزل الحسين تقدّم زهير. فنزلنا يوماً في منزل لم نجد بدّاً من أنْ ننزل معه فيه ، فنزل هو في جانب ونزلنا في جانب آخر ، فبينا نحن جلوس نتغدّى من طعام لنا إذ أقبل رسول الحسين (عليه‌السلام ) حتّى سلّم ثمّ دخل ، فقال : يا زهير ، إنّ أبا عبد الله بعثني إليك لتأتيه. فطرح كلّ

٦٧

إنسان منّا ما في يده كأنّ على رؤوسنا الطير ؛ كراهيّة أنْ يذهب زهير إلى الحسين (عليه‌السلام ) ، فقالت له امرأته - وهي دلهم بنت عمرو - : سبحان الله ! أيبعث إليك ابن رسول الله ثمّ لا تأتيه ؟! فلو أتيته فسمعت من كلامه ثمّ انصرفت.

فأتاه زهير على كره ، فما لبث أنْ جاء مستبشراً قد أشرق وجهه ، فأمر بفسطاطه وثقله ورحله فحوّل إلى الحسين (عليه‌السلام ) ، ثمّ قال لامرأته : أنت طالق ، الحقي بأهلك فإنّي لا اُحبّ أنْ يصيبك بسببي إلّا خير ، وقد عزمت على صحبة الحسين (عليه‌السلام ) لأفديه بروحي وأقيه بنفسي. ثم أعطاها ما لها وسلّمها إلى بعض بني عمّها ليوصلها إلى أهلها ، فقامت إليه وبكت وودّعته وقالت: خار الله لك ، أسألك أنْ تذكرني في القيامة عند جدّ الحسين (عليه‌السلام ).

وقال لأصحابه : مَن أحبّ منكم أنْ يتبعني وإلّا فهو آخر العهد منّي ، إنّي ساُحدّثكم حديثاً: إنّا غزونا بلنجر - وهي بلدة ببلاد الخزر - ففتح الله علينا وأصبنا غنائم ففرحنا ، فقال لنا سلمان الفارسي : إذا أدركتم قتال شباب آل محمّد (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ، فكونوا أشدّ فرحاً بقتالكم معهم ممّا أصبتم من المغانم. فأمّا أنا فأستودعكم الله. ولزم الحسين (عليه‌السلام ) حتّى قُتل معه.

ومعشرٍ راودتهُمْ عنْ نفوسِهمُ

بيضُ الظُّبا غير بيضِ الخُرّد العُرُبِ

فأنعمُوا بنفوسٍ لا عديلَ لها

حتّى اُسيلتْ على الخُرصانِ والقُضُبِ

المجلس السّابع والثلاثون

روى عبد الله بن سليمان والمنذر بن المشمعل الأسديّان قالا : لـمّا قضينا حجّنا لم تكن لنا همّة إلّا اللحاق بالحسين (عليه‌السلام ) لننظر ما يكون من أمره ، فأقبلنا ترقل بنا ناقتانا مسرعين حتّى لحقناه بـ ( زرود ) ، فلمّا دنونا منه ، إذا نحن برجل من أهل الكوفة قد عدل عن الطريق حين رأى الحسين (عليه‌السلام ) ، فوقف الحسين (عليه‌السلام ) كأنّه يريده ثمّ تركه ومضى ، ومضينا نحوه فقال أحدنا لصاحبه : اذهب بنا إلى هذا

٦٨

لنسأله فإنّ عنده خبر الكوفة. فمضينا إليه فقلنا : السّلام عليكم. فقال : وعليكما السّلام. قلنا : ممَّن الرجل ؟ قال : أسدي. قلنا له : ونحن أسديّان ، فمَن أنت ؟ قال : أنا بكر بن فلان، وانتسبنا له ، ثمّ قلنا : أخبرنا عن النّاس من ورائك. قال : لم أخرج من الكوفة حتّى قُتل مسلم بن عقيل وهاني بن عروة ، ورأيتهما يُجرّان بأرجلهما في السّوق.

فاقبلنا حتّى لحقنا الحسين (عليه‌السلام ) فسايرناه حتّى نزل الثعلبيّة ممسياً ، فجئنا حين نزل فسلّمنا عليه ، فردّ علينا السّلام ، فقلنا : رحمك الله ، إنّ عندنا خبراً إنْ شئت حدّثناك علانية وإنْ شئت سرّاً. فنظر إلينا وإلى أصحابه ثمّ قال (عليه‌السلام ) : (( ما دون هؤلاء سرّ )). فقلنا له : رأيتَ الراكب الذي استقبلته عشيّة أمس ؟ قال (عليه‌السلام ) : (( نعم ، وقد أردتُ مسألته )). فقلنا : قد والله استبرأنا لك خبره وكفيناك مسألته ، وهو امرؤ منّا ذو رأي وصدق وعقل ، وإنّه حدّثنا أنّه لم يخرج من الكوفة حتّى قُتل مسلم وهاني ، ورآهما يُجرّان في السّوق بأرجلهما. فقال (عليه‌السلام ) : (( إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، رحمة الله عليهما )). يردّد ذلك مراراً. فقلنا له : ننشدك الله في نفسك وأهل بيتك إلّا انصرفت من مكانك هذا ، فإنّه ليس لك بالكوفة ناصر ولا شيعة ، بل نتخوّف أنْ يكونوا عليك.

فنظر (عليه‌السلام ) إلى بني عقيل فقال : (( ما ترون ؟ فقد قُتل مسلم )). فقالوا : والله ، لا نرجع حتّى نصيب ثأرنا أو نذوق ما ذاق. فأقبل علينا الحسين (عليه‌السلام ) وقال : (( لا خير في العيش بعد هؤلاء )). فعلمنا أنّه قد عزم رأيه على المسير ، فقلنا له : خار الله لك. فقال (عليه‌السلام ) : (( رحمكما الله )). فقال له أصحابه : إنّك والله ما أنت مثل مسلم ، ولو قدمت الكوفة لكان النّاس إليك أسرع. فسكت ، وارتجّ الموضع بالبكاء لقتل مسلم بن عقيل ، وسالت الدموع عليه كلّ مسيل.

ولا بأس أنْ يرتجّ هذا الموضع بالبكاء حزناً لقتل مسلم بن عقيل ، فمسلم هو الذي وصفه الحسين (عليه‌السلام ) في كتابه إلى أهل الكوفة بقوله : (( إنّي باعث إليكم أخي وابن عمّي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل )). وكفى بهذه الشهادة من الحسين (عليه‌السلام ) في جلالة قدر مسلم أنْ يكون ثقة الحسين (عليه‌السلام ) من أهل بيته ، ومسلم رضوان الله عليه أول قتيل من أهل البيت في نصرة الحسين (عليه‌السلام ) ، وجثّته أول جثّة صُلبت ، ورأسه أول رأس حُمل منهم ،

٦٩

وأول رجل قُتل عطشان منهم.

يا مسلمُ بنَ عقيلٍ لا أغبَّ ثرَى

ضريحِكَ الـمُزنُ هطّالاً وهتَّانَا

ولو تكونُ بسقياهُ السَّما بَخلتْ

سقيتُهُ من دموعِ العينِ غُدْرانَا

بذلتَ نفسَكَ في مرضاةِ خالِقِها

حتّى قضيتَ بسيفِ البغْي ظمْآنَا

المجلس الثامن والثلاثون

لـمّا نزل الحسين (عليه‌السلام ) ( زُبالة ) وهو متوجّه إلى الكوفة ، أتاه بها مقتل عبد الله بن يقطر ، وهو أخو الحسين (عليه‌السلام ) من الرضاعة ، وقيل : كانت اُمّ عبد الله هذا مربيّة للحسين (عليه‌السلام ) فكان عبد الله من لدات الحسين (عليه‌السلام ) وأقرانه في السنّ ؛ ولذلك اُطلق عليه أنّه أخوه من الرضاعة ، وإنّ الحسين (عليه‌السلام ) لم يرضع من غير ثدي اُمّه فاطمة (عليها‌السلام ) ، وكان الحسين (عليه‌السلام ) أرسله مع مسلم بن عقيل إلى الكوفة ، فلمّا رأى مسلم الخذلان ، بعث عبد الله بن يقطر إلى الحسين (عليه‌السلام ) يخبره بذلك.

وكان ابن زياد قد نظم الخيل مع الحُصين بن تميم صاحب شرطته على الطرقات بين البصرة والقادسيّة ، فلا يدعون أحداً يلج ولا أحداً يخرج ، فقبض الحُصين على عبد الله بن يقطر وأرسله إلى ابن زياد ، فقال له ابن زياد : اصعد فوق القصر والعن الكذّاب ابن الكذّاب ثمّ انزل حتّى أرى فيك رأيي. فصعد فوق القصر ، فلمّا أشرف على النّاس ، لعن عبيد الله بن زياد وأباه ودعا إلى نصرة الحسين (عليه‌السلام ) ، فألقاه بن زياد من أعلى القصر فمات(١) .

وكان قتل مسلم بن عقيل

______________________

(١) وقع اشتباه هنا من بعض المؤرّخين بين قصّة قيس بن مسهّر الصيداوي رسول الحسين (عليه‌السلام ) إلى أهل الكوفة الذي قبَضَ عليه الحُصين بن تميم وأرسله إلى ابن زياد ، فأمره أنْ يسبّ الحسين وأباه ففعل ضدّ ذلك ، فألقاه من أعلى القصر، وبين قصّة عبد الله بن يقطر الذي أرسله ابن عقيل إلى الحسين (عليه‌السلام ) فقَبضَ عليه الحُصين أيضاً ، وجرى له نظير ما جرى لقيس. - المؤلّف -

٧٠

وهاني بن عروة بلغ الحسين (عليه‌السلام ) وهو بـ ( زرود ) ، وقيل : بلغه أيضاً بـ ( زُبالة ) ، فلمّا بلغ الحسين (عليه‌السلام ) خبر عبد الله بن يقطر ، أخرج إلى النّاس كتاباً فقرأه عليهم ، وفيه : (( بسم الله الرحمن الرحيم ، أمّا بعد ، فإنّه قد أتاني خبر فظيع ؛ قتل مسلم بن عقيل وهاني بن عروة وعبد الله بن يقطر ، وقد خذلَنا شيعتُنا ، فمَن أحبّ منكم الانصراف فلينصرف في غير حرج ، ليس عليه ذمام )). فتفرّق النّاس عنه وأخذوا يميناً وشمالاً حتّى بقي في أصحابه الذين جاؤوا معه من المدينة، ونفر يسير ممَّن انضمّوا إليه من أهل البصائر والنيّات الصادقة ، وإنّما فعل ذلك ؛ لئلاّ يتبعه مَن ليس له بصيرة نافذة ولا نيّة صادقة ولا يريد مواساته والقتال معه ، فإنّ هؤلاء لا فائدة في صحبتهم.

ولقيه الفرزدق الشاعر عائداً من الحجّ فقال : يابن رسول الله ، كيف تركن إلى أهل الكوفة وهم الذين قتلوا ابن عمّك مسلم بن عقيل وشيعته ؟! فاستعبر الحسين (عليه‌السلام ) ثمّ قال : (( رحم الله مسلماً ، فلقد صار إلى رَوح الله وريحانه ، وتحيّاته ورضوانه ، أما أنّه قد قضى ما عليه وبقي ما علينا )) ، ثمّ أنشأ يقول :

فإنْ تكُنْ الدُّنيا تعدُّ نفيسةً

فإنّ ثوابَ اللهِ أعلى وأنبلُ

وإنْ تكُنْ الأبدانُ للموتِ اُنشئتْ

فقتلُ امرئٍ بالسّيفِ في اللهِ أفضلُ

وإنْ تكُنْ الأرزاقُ قِسْماً مُقدّراً

فقلّةُ حِرصِ المرءِ في السَّعي أجملُ

وإنْ تكُنْ الأموالُ للتّركِ جَمعُها

فما بالُ متروكٍ به المرءُ يبخلُ

* * *

يابنَ النّبيِّ كَمْ احتَملْتَ فجائعاً

منْ هولِها شُمُّ الجبالِ تصدَّعُ

المجلس التاسع والثلاثون

لـمّا نزل الحسين (عليه‌السلام ) ببطن العقبة ، لقيه شيخ من بني عكرمة يقال له عمرو بن

٧١

يؤذان ، فسأله : أين تريد ؟ فقال الحسين (عليه‌السلام ) : (( الكوفة )). فقال الشيخ : أنشدك الله لـمّا انصرفت ، فوالله ما تقدم إلّا على الأسنّة وحدّ السّيوف ، وإنّ هؤلاء الذين بعثوا إليك لو كانوا كفوك مؤونة القتال ، ووطّؤوا لك الأشياء فقدمت عليهم كان ذلك رأياً ، فأمّا على هذه الحال التي تذكر ، فإنّي لا أرى لك أنْ تفعل. فقال له الحسين (عليه‌السلام ) : (( يا عبد الله ، ليس يخفى عليّ الرأي ، ولكنّ الله تعالى لا يُغلب على أمره )). ثمّ قال (عليه‌السلام ) : (( والله ، لا يدعوني حتّى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي ، فاذا فعلوا سلّط الله عليهم مَن يذلّهم حتّى يكونوا أذلّ فِرق الاُمم)).

ثم سار (عليه‌السلام ) من بطن العقبة حتّى نزل ( شراف ) ، فلمّا كان في السّحر أمر فتيانه فاستقوا من الماء فأكثروا ، ثمّ سار منها حتّى انتصف النّهار ، فبينا هو يسير إذ كبّر رجل من أصحابه ، فقال الحسين (عليه‌السلام ) : (( الله أكبر ، لِم كبّرت ؟ )). قال : رأيت النّخل. فقال له جماعة من أصحابه : والله ، إنّ هذا المكان ما رأينا به نخلة قط ! فقال لهم الحسين (عليه‌السلام ) : (( فما ترونه ؟ )). قالوا : نراه والله أسنّة الرماح وآذان الخيل. قال (عليه‌السلام ) : (( وأنا والله أرى ذلك )). ثمّ قال (عليه‌السلام ) : (( ما لنا ملجأ نلجأ إليه فنجعله في ظهورنا ، ونستقبل القوم بوجه واحد ؟ )). فقالوا له : بلى ، هذا هو ذو حُسُم(١) إلى جنبك فمل إليه عن يسارك ، فإنْ سبقتَ إليه فهو كما تريد. فأخذ إليه ذات اليسار ومِلنا معه ، فما كان بأسرع من أنْ طلعت علينا هوادي(٢) الخيل فتبينّاها وعدلنا ، فلمّا رأونا عدلنا عن الطريق ، عدلوا إلينا كأنّ أسنّتهم اليعاسيب(٣) ، وكأنّ راياتهم

______________________

(١) بحاء وسين مهملتين مضمومتين وميم : جبل كان النّعمان يصطاد فيه ، وفيه يقول مهلهل :

ألَيْلتَنَا بذِي حُسُمٍ أنيري

إذا أنتِ انقضيتِ فلا تَحُوري

(٢) جمع هادي : وهو العنق.

(٣) جمع يعسوب : وهو أمير النّحل وذكرها ، وضرب من الحجلان ، وطائر صغير. - المؤلّف -

٧٢

أجنحة الطير ، فاستبقنا إلى ذي حُسُم فسبقناهم إليه ، وأمر الحسين (عليه‌السلام ) بأبنيته فضُربت.

وجاء القوم زهاء(١) ألف فارس مع الحرّ بن يزيد التميمي حتّى وقف هو وخيله مقابل الحسين (عليه‌السلام ) في حَرّ الظهيرة ، والحسين (عليه‌السلام ) وأصحابه معتمّون متقلّدو أسيافهم ، فقال الحسين (عليه‌السلام ) لفتيانه : (( اسقوا القوم وأرووهم من الماء ، وارشفوا الخيل ترشيفاً )) : أي اسقوها قليلاً. فأقبلوا يملؤون القصاع والطساس من الماء ثمّ يدنونها من الفرس ، فإذا عبّ فيها ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً عُزلت عنه وسقوا آخر حتّى سقوها عن آخرها.

قال علي بن الطعّان المحاربي : كنت مع الحرّ يؤمئذ فجئت في آخر مَن جاء من أصحابه ، فلمّا رأى الحسين (عليه‌السلام ) ما بي وبفرسي من العطش ، قال : (( أنخ الراوية )) : والراوية عندي السّقاء. ثمّ قال (عليه‌السلام ) : (( يابن الأخ ، أنخ الجمل )). فأنخته(٢) ، فقال (عليه‌السلام ) : (( اشرب )). فجعلت كلمّا شربت سال الماء من السّقاء ، فقال الحسين (عليه‌السلام ) : (( اخنث السّقاء )) : أي اعطفه. فلم أدر كيف أفعل ، فقام (عليه‌السلام ) فخنثه بيده فشربت وسقيت فرسي.

أقول : إنّ هذا لهو غاية الجود ونهاية الكرم ؛ أنْ يسقي الحسين (عليه‌السلام ) أعداءه الذين جاؤوا لمحاربته وهم مقدار ألف فارس ، فسقاهم الماء مع خيولهم في تلك الأرض القفراء التي لا ماء فيها ولا كلأ ! ولا عجب إذا صدر مثل هذا الجود من الحسين (عليه‌السلام ) ، وهو معدن الجود والكرم.

هو البحرُ منْ أيِّ النّواحي أتيتُهُ

فلجَّتُهُ المعروفُ والجودُ ساحلُهْ

ولَو لَمْ يكنْ في كفِّهِ غيرُ نفسِهِ

لجادَ بها فليتَّقِ اللهَ سائلُهْ

ولكن بئسما جزى هؤلاء القوم الحسين (عليه‌السلام ) عن سقيه إياهم الماء وإيثارهم على نفسه ! فقد كان جزاؤهم منهم أنْ حالوا بينه وبين الماء ، ووضعوا أربعة

______________________

(١) أي قدر.

(٢) الراوية في لسان أهل الحجاز : اسم للجمل الذي يستقى عليه ، وفي لسان العراق : اسم للسقاء الذي فيه الماء ؛ لذلك لَمْ يفهم مراد الحسين (عليه‌السلام ) حتّى قال (عليه‌السلام ) : (( أنخ الجمل )). - المؤلّف -

٧٣

آلاف على المشرعة ، ومنعوه وأصحابه وعياله وأطفاله أنْ يستقوا من الماء قطرة واحدة ، وذلك قبل قتله (عليه‌السلام ) بثلاثة أيّام.

بأبي وغيرِ أبي أميراً ظامياً

منعتْهُ حربٌ منْ ورودِ فُراتِها

حتّى قضى عَطشاً قتيلَ أراذلٍ

تستحقرُ الشفتانِ ذمَّ صفاتِها

المجلس الأربعون

لـمّا التقى الحُرّ مع الحسين (عليه‌السلام ) ، قال له الحسين (عليه‌السلام ) : (( ألَنا أم علينا ؟ )). فقال : بل عليك يا أبا عبد الله. فقال الحسين (عليه‌السلام ) : (( لا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم )). فلم يزل الحُرّ مواقفاً للحسين (عليه‌السلام ) حتّى حضرت صلاة الظهر ، فأمر الحسين (عليه‌السلام ) الحجّاج بن مسروق أنْ يؤذّن ، فلمّا حضرت الإقامة ، خرج الحسين (عليه‌السلام ) في إزار ورداء ونعلين ، فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : (( أيّها النّاس ، إنّها معذرة إلى الله وإليكم ، إنّي لمْ آتكم حتّى أتتني كتبكم وقدمتْ عليّ رسلُكم : أنْ اقدم علينا فإنّه ليس لنا إمام ، لعلّ الله يجمعنا بك على الهدى والحقّ. فإنْ كنتم على ذلك فقد جئتكم ، فاعطوني ما أطمئنّ إليه من عهودكم ومواثيقكم ، وإنْ لمْ تفعلوا ، وكنتم لقدومي كارهين ، انصرفت عنكم إلى المكان الذي جئت منه إليكم )). فسكتوا، فقال (عليه‌السلام ) للمؤذّن : (( أقمْ )). فأقام الصّلاة ، فقال (عليه‌السلام ) للحُرّ : (( أتريد أنْ تصلّي بأصحابك ؟ )). قال : لا ، بل تُصلّي أنت ونصلّي بصلاتك. فصلّى بهم الحسين (عليه‌السلام ).

فلمّا كان وقت العصر ، أمر الحسين (عليه‌السلام ) أنْ يتهيّؤوا للرحيل ففعلوا ، ثمّ أمر مناديه فنادى بالعصر وأقام ، فاستقدم الحسين(عليه‌السلام ) وقام فصلّى ثمّ سلّم وانصرف إليهم بوجهه ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ قال : (( أمّا بعد ، أيّها النّاس ، فإنّكم إنْ تتّقوا وتعرفوا الحقّ لأهله ، يكن أرضى لله عنكم ، ونحن أهل بيت محمّد أولى بولاية هذا الأمر عليكم من هؤلاء المدّعين ما ليس لهم ، والسّائرين فيكم بالجور والعدوان ، وإنْ أبيتم إلّا الكراهيّة لنا والجهل بحقّنا ، وكان رأيكم

٧٤

الآن غير ما أتتني به كتبكم وقدمتْ عليّ رُسُلكم ، انصرفت عنكم )). فقال له الحُرّ : أنا والله ، ما أدري ما هذه الكتب والرسل التي تذكر. فقال الحسين (عليه‌السلام ) لبعض أصحابه : (( يا عقبة بن سمعان(١) ، اخرج الخرجين اللذين فيهما كتبهم إليّ )). فأخرج خرجين مملوءين صحفاً فنثرت بين يديه ، فقال له الحُرّ : إنّا لسنا من هؤلاء الذين كتبوا إليك ، وقد اُمرنا إذا نحن لقيناك ، لا نفارقك حتّى نقدمك الكوفة على عبيد الله. فقال له الحسين (عليه‌السلام ) : (( الموت أدنى إليك من ذلك )). ثمّ قال لأصحابه : (( قوموا فاركبوا )). فركبوا وانتظر هو حتّى ركبت نساؤه.

بأبي أنت وأمي يا أبا عبد الله ! لمْ ترضَ أنْ تركب ولا أنْ تسير قدماً واحداً قبل ركوب النّساء، مع أنّ الذين يركبونهنّ مثل علي الأكبر والعبّاس بن أمير المؤمنين وسائر بني هاشم ! فياليتك لا غبت عن نسائك وأخواتك وبناتك يوم الحادي عشر من المحرّم حين جاؤوا إليهنّ بالجمال ، وليس معهنّ ولي ولا كافل غير ولدك زين العابدين (عليه‌السلام ) - وهو مريض لا يستطيع النّهوض - وابن أخيك الحسن بن الحسن الذي كان مثخناً بالجراح وأطفال صغار ، وأظنّ أنّ المتولّية لذلك كانت اُختك زينب ، فهي التي ركّبت العليل والجريح والنّساء والأطفال ، وقامت في ذلك مقام الرجال حتّى لم يبقَ مَن يُركبها ، فركبت بنفسها.

لـمَنْ السّبايا الـمُعْجلاتُ ضَجرنّ منْ

إدلاجِ عجفٍ تشتكي عثراتِها

اللهُ أكبرُ يا لهَا منْ وقْعَةٍ

ذابتْ لها الأحشاءُ في حُرُقاتِها

______________________

(١) هو مولى الرباب ابنة امرئ القيس الكلبيّة زوجة الحسين (عليه‌السلام ) ، ولـمّا قُتل الحسين (عليه‌السلام ) أخذه عمر بن سعد فقال : مَن أنت ؟ فقال : أنا عبد مملوك. فخلّى سبيله. ولم ينجُ من أصحاب الحسين (عليه‌السلام ) غيره ، وغير رجل آخر ؛ ولذلك كان كثير من روايات الطفّ منقولاً عنه. - المؤلّف -

٧٥

المجلس الواحد والأربعون

لـمّا التقى الحسين (عليه‌السلام ) مع الحُرّ وأصحابه ، ومنعه الحُرّ من الرجوع ، قال الحُرّ : إنّي لمْ اُؤمر بقتالك ، إنّما اُمرت أنْ لا اُفارقك حتّى اُقدمك الكوفة ، فإذا أبيت فخذ طريقاً لا يدخلك الكوفة ولا يردّك إلى المدينة حتّى أكتب إلى الأمير عبيد الله بن زياد.

فتياسر الحسين (عليه‌السلام ) وسار والحُرّ يسايره ، فقال له الحُرّ : إنّي اُذكّرك الله في نفسك ، فإنّي أشهد لئن قاتلت لتُقتلن. فقال الحسين (عليه‌السلام ) : (( أفبالموت تخوفني ؟! وهل يعدو بكم الخطب أنْ تقتلوني ؟ وسأقول كما قال أخو الأوس لابن عمّه ، وهو يريد نصرة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) فخوّفه ابن عمّه وقال : أين تذهب ؟ فإنّك مقتول. فقال :

سأمضي وما بالموتِ عارٌ على الفتَى

إذا ما نوى حقّاً وجاهدَ مُسلمَا

وواسى الرّجالَ الصّالحينَ بنفسِهِ

وفارقَ مثبوراً وودّعَ مجرمَا

اُقدّمُ نفسي لا اُريدُ بقاءَها

لتلقَى خَميساً في الوغَى وعرمْرَمَا

فإنْ عشتُ لمْ أندمْ وإنْ متُّ لمْ اُلَمْ

كفَى بكَ ذلاّ ً أنْ تعيشَ وتُرغمَا

ولم يزل الحسين (عليه‌السلام ) سائراً حتّى انتهوا إلى العذيب ، فإذا هم بأربعة نفر قد أقبلوا من الكوفة لنصرة الحسين (عليه‌السلام ) على رواحلهم ، وهم : عمرو بن خالد الصيداوي ، ومجمع العائذي ، وابنه عبد الله ، وجنادة بن الحارث السّلماني ، ويجنبون فرساً لنافع بن هلال الجملي يقال له : الكامل، قد اُرسل معهم. وقيل : أنّ نافعاً كان معهم ومعه فرسه ، ومعهم موليان لعمرو ، والحارث ، ودليل يقال له الطرمّاح بن عدي كان قد جاء إلى الكوفة يمتار لأهله طعاماً فسار بهم على غير الجادّة ، فأراد الحُرّ أنْ يعارضهم ، فمنعه الحسين (عليه‌السلام ) من ذلك ، وقال لهم الحسين (عليه‌السلام ) : (( هل لكم علم برسولي قيس بن مسهّر ؟ )). قالوا : نعم ، قتله ابن زياد. فترقرقت عينا الحسين (عليه‌السلام ) ولم يملك دمعته ، ثمّ قال :( مِنْهُم مّن قَضَى‏ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدّلُوا تَبْدِيلاً ) (١) .

______________________

(١) سورة الأحزاب / ٢٣.

٧٦

اللهمَّ ، اجعل لنا ولهم الجنّة نُزلاً ، واجمع بيننا وبينهم في مستقرّ من رحمتك ، ورغائب مذخور ثوابك )). وقال الحسين (عليه‌السلام ) لأصحابه : (( هل فيكم أحد يعرف الطريق على غير الجادّة ؟ )). فقال الطرمّاح : نعم يابن رسول الله ، أنا أخبر الطريق. قال (عليه‌السلام ) : (( سر بين أيدينا )). فسار الطرمّاح أمامهم ، وجعل يرتجز ويقول(١) :

يا ناقَتِي لا تَذعَريْ منْ زجْري

وامضِي بنا قبلَ طُلوعِ الفجْرِ

بخيرِ فتيانٍ وخيرِ سَفْرِ

آلِ رسولِ الله آلِ الفخْرِ

السَّادةِ البيضِ الوجوهِ الزُّهرِ

الطَّاعنينَ بالرّماحِ السُّمْرِ

الضَّاربينَ بالسُّيوفِ البُترِ

حتّى تحلِّي بكريمِ النَّجْرِ

الماجدِ الجدِّ الرحيبِ الصَّدرِ

أصابهُ اللهُ بخيرِ أمْرِ

عمَّرهُ اللهُ بقاءَ الدَّهرِ

يا مالكَ النَّفعِ معاً والضُّرِّ

أيدْ حسيناً سيّدي بالنَّصرِ

على الطُّغاةِ من بقايا الكفْرِ

ولم يزل الحسين (عليه‌السلام ) سائراً حتّى انتهى إلى قصر بني مقاتل فنزل به ، ثمّ

______________________

(١) في بعض الروايات : إنّه لـمّا قارب الحسين (عليه‌السلام ) مع أصحابه الأربعة جعل يحدو بهم ويقول :

يا ناقَتي لا تَذعَري منْ زَجْري

وشمِّري قبلَ طُلوعِ الفجْرِ

بخيرِ رُكبانٍ وخيرِ سَفْرِ

حتّى تحلِّي بكريمِ النَّجْرِ

الماجدِ الحُرِّ الرّحيبِ الصَّدرِ

أتى به اللهُ لخيرِ أمرِ

ثمَّةَ أبقاهُ بقاءَالدَّهرِ

وقوله : ( حتّى تحلِّي بكريم النَّجْرِ ) يدلّ على أنّه قالها قبل ملاقاة الحسين (عليه‌السلام ) ، فيمكن أنْ يكون أعادها ثانياً ، أو أعاد بعضها وزاد عليها ، ووقع اشتباه من الرواة فيها. ويمكن أنْ يكون قد زيد فيها من غيره ، والله أعلم. - المؤلّف -

٧٧

ارتحل منه ليلاً.

قال عقبة بن سمعان : فخفق (عليه‌السلام ) وهو على ظهر فرسه خفقة ، ثمّ انتبه وهو يقول : (( إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، والحمد لله رب العالمين )). ففعل ذلك مرتين أو ثلاثاً. فأقبل إليه ابنه علي الأكبر (عليهما‌السلام ) فقال : يا أبة ، جُعلت فداك ! مِمَّ حمدت واسترجعت ؟ قال (عليه‌السلام ) : (( يا بُني، إنّي خفقت خفقة فعنّ لي فارس على فرس وهو يقول : القوم يسيرون والمنايا تسير إليهم. فعلمتُ أنّها أنفسنا نُعيت إلينا )). فقال له : يا أبة ، لا أراك الله سوأً ، ألسنا على الحقّ ؟ قال (عليه‌السلام ) : (( بلى ، والذي إليه مرجع العباد )). قال : إذاً لا نُبالي أنْ نموت محقّين. فقال له الحسين (عليه‌السلام ) : (( جزاك الله من ولد خير ما جزى ولداً عن والده )).

أفدي القرومَ الاُولَى سارتْ ركائبُهُمْ

والموتُ خلفَهُمُ يسري على الأثرِ

سلْ كرْبلا كَمْ حَوتْ منهُمْ بدورَ دُجىً

كأنها فَلَكٌ للأنْجُمِ الزُّهرِ

المجلس الثاني والأربعون

لـمّا كان الحُرّ يساير الحسين (عليه‌السلام ) ، لم يزل يسايره حتّى انتهوا إلى نينوى ، فجاء كتاب عبيد الله بن زياد إلى الحُرّ : أمّا بعد ، فجعجع بالحسين ( أي : ضيّق عليه ) ولا تنزله إلّا بالعراء في غير حصن وعلى غير ماء. فمنعهم الحُرّ وأصحابه من المسير ، وأخذهم بالنّزول في ذلك المكان على غير ماء ولا قرية. فقال الحسين (عليه‌السلام ) : (( ألمْ تأمرْنا بالعدول عن الطريق ؟ )). قال : بلى ، ولكن كتاب الأمير عبيد الله قد وصل يأمرني فيه بالتضييق عليك ، وقد جعل عليّ عيناً يطالبني بذلك. فقال له الحسين (عليه‌السلام ) : (( دعنا - ويحك - ننزل في هذه القرية أو هذه )) : يعني نينوى والغاضرية. فقال : لا أستطيع ، هذا رجل قد بعث عليّ عيناً. فقال زهير بن القَين للحسين (عليه‌السلام ) : إنّي والله ، لا أرى أنْ يكون بعد الذي ترون إلّا أشدّ ممّا ترون يابن رسول الله. إنّ قتال هؤلاء السّاعة أهون علينا من قتال مَن يأتينا بعدهم ، فلعمري ليأتينا من

٧٨

بعدهم ما لا قِبَل لنا به. فقال الحسين (عليه‌السلام ) : (( ما كنتُ لأبدأهم بالقتال )). فقال له زهير: فسرْ بنا يابن رسول الله حتّى ننزل كربلاء ، فإنّها على شاطئ الفرات فنكون هناك ؛ فإنْ قاتلونا قاتلناهم واستعنّا الله عليهم.

قال : فدمعت عينا الحسين (عليه‌السلام ) ، ثمّ قال : (( اللهمَّ ، إنّي أعوذ بك من الكرب والبلاء )). ثم قام الحسين (عليه‌السلام ) خطيباً في أصحابه ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ قال : (( إنّه قد نزل بنا من الأمر ما قد ترون ، وأنّ الدّنيا تغيّرت وتنكّرت وأدبر معروفها ، واستمرّت حذّاءَ(١) ولم يبقَ منها إلّا صُبابة كصبابة الإناء ، وخسيس عيش كالمرعى الوبيل. ألا ترون إلى الحقّ لا يُعمل به ، وإلى الباطل لا يُتناهى عنه ؟! ليرغب المؤمن في لقاء ربّه مُحقّاً ؛ فإنّي لا أرى الموت إلّا سعادة والحياة مع الظالمين إلّا برما )).

فقام زهير بن القَين فقال : قد سمعنا - هداك الله يابن رسول الله - مقالتك ، ولو كانت الدّنيا لنا باقية ، وكنّا فيها مخلّدين ، لآثرنا النّهوض معك على الإقامة فيها. ووثب نافع بن الهلال الجملي ، فقال : مَن نكث عهده وخلع بيعته فلنْ يضرّ إلّا نفسه ، والله مغنٍ عنه. فسر بنا راشداً معافىً ، مشرّقاً إنْ شئتَ وإنْ شئتَ مغرّباً ، فوالله ، ما أشفقنا من قَدر الله ، ولا كرهنا لقاء ربّنا ، وإنّا على نيّاتنا وبصائرنا نوالي مَن والاك ونعادي من عاداك. وقام برير بن خضير ، فقال : والله ، يابن رسول الله ، لقد مَنّ الله بك علينا ؛ أنْ نُقاتل بين يديك وتُقطّع فيك أعضاؤنا ، ثمّ يكون جدّك شفيعنا يوم القيامة.

ثم إنّ الحسين (عليه‌السلام ) قام وركب ، وكلمّا أراد المسير ، يمنعونه تارة ويسايرونه اُخرى حتّى بلغ كربلاء في اليوم الثاني من المحرّم ، فلمّا وصلها ، قال : (( ما اسم هذه الأرض ؟ )). فقيل : كربلاء. فقال : (( اللهمَّ ، إنّي أعوذ بك من الكرب والبلاء )). ثمّ أقبل على أصحابه

______________________

(١) الحذّاء ، بالحاء المهملة والذال المعجمة المشدّدة : النّاقة الخفيفة الذنب ، أو السّريعة الخفيفة ، أو السّريعة الماضية التي لا يتعلّق بها شيء ، أو الرحم التي لمْ تُوصل. فمعنى استمرّت حذّاء : أي لم يبقَ منها إلاّ مثل ذنب الأحذ ، أو حذّاء : سريعة الإدبار ، أو سريعة خفيفة ، أو قد انقطع آخرها كالرحم المقطوعة. - المؤلّف -

٧٩

فقال : (( النّاس عبيد الدّنيا ، والدين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درّت معايشهم ، فإذا مُحّصوا بالبلاء ، قلّ الديّانون )). ثمّ قال : (( أهذه كربلاء ؟ )). قالوا : نعم ، يابن رسول الله. فقال: (( هذا موضع كرب وبلاء. انزلوا ، هاهنا مناخ ركابنا ، ومحطّ رحالنا ، ومقتل رجالنا ، ومسفك دمائنا )). فنزلوا جميعاً ، ونزل الحُرّ وأصحابه ناحية.

ثم إنّ الحسين (عليه‌السلام ) جمع ولده وإخوته وأهل بيته ، فنظر إليهم ساعة ثمّ قال : (( اللهمَّ ، إنّا عترة نبيّك محمّد (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ، وقد اُزعجنا وطُردنا واُخرجنا عن حرم جدّنا ، وتعدت بنو اُميّة علينا. اللهمَّ ، فخُذ لنا بحقّنا وانصرنا على القوم الظالمين )).

هي كربلاءُ فقفْ على عرَصاتِها

ودَعْ الجفونَ تسحُّ في عَبراتِها

سلْها بأيِّ قِرىً تعاجلتْ الاُولَى

نزلُوا ضُيوفاً عند قفرِ فلاتِها

ما بالُها لمْ تَروِهمْ من مائِها

حتّى تروَّتْ منْ دِما رَقَباتِها

المجلس الثالث والأربعون

لـمّا نزل الحسين بأرض كربلاء ، دعا جوناً مولى أبي ذر الغفاري ، فجعل جون يصلح له سيفه استعداداً للحرب ، والحسين (عليه‌السلام ) يقول(١) :

يا دهرُ اُفٍّ لك منْ خليلِ

كمْ لك بالإشراقِ والأصيلِ

مِن طالبٍ وصاحبٍ قتيلِ

والدَّهرُ لا يقنعُ بالبديلِ

______________________

(١) في بعض الروايات : أنّ الحسين (عليه‌السلام ) جلس يصلح سيفه ويقول هذه الأبيات ، وفي رواية اُخرى : أنّ الـمُصلح للسيف هو جون ، وهو الأقرب إلى الاعتبار ؛ فإنّ موالي الحسين (عليه‌السلام ) وخدمه لم يكونوا ليدعوه يصلح سيفه ويعالجه بيده وهم ينظرون ، والرواية الاُولى اشتباه من قول الراوي : وعنده جون وهو يصلح سيفه ؛ فلذاك اعتمدنا على الرواية الثانية. - المؤلّف -

٨٠