المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة الجزء ٣

المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة0%

المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 202

المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة

مؤلف: السيد محسن بن عبد الكريم الأمين
تصنيف:

الصفحات: 202
المشاهدات: 41625
تحميل: 2345


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 202 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 41625 / تحميل: 2345
الحجم الحجم الحجم
المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة

المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة الجزء 3

مؤلف:
العربية

المجالس السَّنيّة

في

مناقب ومصائب العترة النبويّة

تأليف :

المجتهد الأكبر السيّد محسن الأمين رضوان الله عليه

- الجزء الثالث -

الطبعة الخامسة

١٣٩٤ ه - ١٩٧٤ م

١

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين.

وبعد : فهذا هو الجزء الثالث من كتاب : ( المجالس السَّنيّة ) في ذكرى مصائب ومناقب العترة النبويّة ، تأليف أفقر العباد إلى عفو ربّه الغني ، محسن ابن المرحوم السيّد عبد الكريم الأمين الحسيني العاملي نزيل دمشق ، عفا الله عن جرائمه ، وحشره مع محمّد وآله الطاهرين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

٢

المجلس الرابع والأربعون بعد المئة

روى المسعودي في مروج الذهب ، بسنده عن المنذر بن الجارود قال : لـمّا قدم علي (عليه‌السلام ) البصرة خرجت أنظر إليه ، فورد موكب نحو ألف فارس يقدمهم فارس على فرس أشهب ، عليه قلنسوة وثياب بيض متقلّد سيفاً ومعه راية ، وإذا تيجان القوم الأغلب عليها البياض والصُّفرة ، مدجّجين في الحديد والسّلاح ، فقلت : مَن هذا ؟ فقيل : أبو أيوب الأنصاري صاحب رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ، وهؤلاء الأنصار وغيرهم. ثمّ تلاهم فارس آخر عليه عمامة صفراء وثياب بيض ، متقلّد سيفاً متنكّب قوساً ، معه راية على فرس أشقر في نحو ألف فارس ، فقلت : مَن هذا ؟ فقيل : هذا خُزيمة بن ثابت الأنصاري ذو الشهادتين. ثمّ مرّ بنا فارس آخر على فرس كميت ، معمّم بعمامة صفراء من تحتها قلنسوة بيضاء ، وعليه قباء أبيض مصقول ، متقلّد سيفاً متنكّب قوساً في نحو ألف فارس من النّاس ومعه راية ، فقلت : مَن هذا ؟ فقيل لي : أبو قتادة بن ربعي الأنصاري.

ثمّ مرّ بنا فارس آخر على فرس أشهب ، عليه ثياب بيض وعمامة سوداء قد سدلها بين يديه ومن خلفه ، شديد الأدمة ، عليه سكينة ووقار ، رافع صوته بقراءة القرآن ، متقلّد سيفاً متنكّب قوساً ، معه راية بيضاء في ألف من النّاس مختلفي التيجان ، حوله مشيخة وكهول وشباب كأنّ قد اُوقفوا للحساب ، أثر السّجود قد أثّر في جباههم ، فقلت : مَن هذا ؟ فقيل : عمّار بن ياسر في عدّة من الصحابة ؛ من المهاجرين والأنصار وأبنائهم. ثمّ مرّ بنا فارس على فرس أشقر ، عليه ثياب بيض وقلنسوة بيضاء وعمامة صفراء ، متنكّب قوساً متقلّد سيفاً ، تخطّ رجلاه في الأرض في ألف من النّاس ، الغالب على تيجانهم الصُّفرة والبياض ، معه راية خضراء ، فقلت : مَن

٣

هذا ؟ قيل : هذا قيس بن سعد بن عبادة في الأنصار وأبنائهم وغيرهم من قحطان. ثمّ مرّ بنا فارس على فرس أشهل ما رأينا أحسن منه ، عليه ثياب بيض وعمامة سوداء قد سدلها بين يديه بلواء ، قلت : مَن هذا ؟ قيل : هو عبد الله بن العبّاس في عدة من أصحاب رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ). ثمّ تلاه موكب آخر فيه فارس أشبه النّاس بالأوّلين ، قلت : مَن هذا ؟ قيل : قثم بن العبّاس. ثمّ أقبلت المواكب والرايات يقدم بعضها بعضاً واشتبكت الرماح ، ثمّ ورد موكب فيه خلق من النّاس عليهم السّلاح والحديد ، مختلفو الرايات ، كأنّما على رؤوسهم الطير ، يقدمهم رجل كأنّما كُسر وجُبر - قال : وهذه صفة رجل شديد الساعدين ، كذلك تخبر العرب في وصفها إذا أخبرت عن الرجل أنّه : كُسر وجُبر - نظره إلى الأرض أكثر من نظره إلى فوق ، وعن يمينه شاب حسن الوجه ، وعن شماله شاب حسن الوجه ، قلت مَن هؤلاء ؟ قيل : هذا علي بن أبي طالب (عليه‌السلام ) ، وهذان الحسن والحسين (عليهما‌السلام ) عن يمينه وشماله ، وهذا محمّد بن الحنفيّة بين يديه معه الراية العظمى ، وهذا الذي خلفه عبد الله بن جعفر بن أبي طالب (عليه‌السلام ) ، وهؤلاء ولد عقيل وغيرهم من فتيان بني هاشم ، وهؤلاء المشايخ أهل بدر من المهاجرين والأنصار.

فساروا حتّى نزلوا الموضع المعروف بـ ( الزاوية ) ، فصلّى علي (عليه‌السلام ) أربع ركعات وعفّر خديه على التربة - وقد خالط ذلك دموعه - ثمّ رفع يديه يدعو ، فقال : (( اللهمّ ، ربّ السّماوات وما أظلّت ، والأرضين وما أقلّت ، وربّ العرش العظيم ، هذه البصرة أسألك من خيرها ، وأعوذ بك من شرّها )).

هذا دخول علي (عليه‌السلام ) البصرة من أرض العراق كما وصفه المنذر بن الجارود ، بما فيه من الجلالة والعظمة ، ولا يقتصر عنه في الجلالة والعظمة ، دخول ولده الحسين بن علي (عليه‌السلام ) أرض العراق بأنصاره وأهل بيته (عليهم‌السلام ) ، وهم نجوم الأرض من آل عبد مناف ، من ولد علي والحسن والحسين وجعفر وعقيل (عليهم‌السلام ) ، الذين ليس لهم على وجه الأرض شبيه. ولكن دخول

٤

علي (عليه‌السلام ) البصرة انتهى بنصره على أعدائه ، أمّا دخول ولده الحسين (عليه‌السلام ) أرض العراق ، فابتدأ بملاقاة الحُرّ بن يزيد له في ألف فارس ومنعه عن الرجوع ، ثمّ أخذه طريقاً لا يدخله الكوفة ولا يردّه إلى المدينة حتّى جاء أمر بن مرجانة إلى الحُرّ بأن يُجعجع بالحسين (عليه‌السلام ) ويضيّق عليه ، ولا يُنزله إلّا بالعراء في غير حصن وعلى غير ماء. وجعل كلّما أراد المسير يمنعونه تارة ويسايرونه اُخرى حتّى ورد كربلاء ، فقال : (( أهذه كربلاء ؟ )). قالوا : نعم يابن رسول الله. قال : (( انزلوا، فههنا مَحطُّ رحالنا ، وسفك دمائنا ، ومقتل رجالنا )).

وكما دعا أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) عند نزوله ( الزاوية ) دعا الحسين (عليه‌السلام ) لـمّا صبّحته الخيل يوم عاشوراء ، فقال : (( اللهمّ ، أنت ثقتي في كلّ كرب ، وأنت رجائي في كلّ شدّة ، وأنت لي في كلّ أمر نزل بي ثقةٌ وعدةٌ. كم من كرب يضعف عنه الفؤاد وتقلّ فيه الحيلة ، ويخذل فيه الصديق ويشمت فيه العدو أنزلته بك وشكوته إليك ؛ رغبة منّي إليك عمّن سواك ، ففرّجته عنّي وكشفته ، فأنت وليُّ كلّ نعمة ، وصاحب كلّ حسنة ، ومنتهى كلّ رغبة )). ثمّ انتهى الأمر بقتل الحسين (عليه‌السلام ) وقتل أنصاره وأبنائه وإخوته وأبناء عمومته.

فليتك يا أمير المؤمنين الذي قتل الأبطال وأفنى الرجال يوم البصرة ، لا غبت عن ولدك الحسين (عليه‌السلام ) يوم كربلاء ، وقد بقي وحيداً فريداً ، لا ناصر له ولا معين :

خِلوٌ من الأنصارِ غير مُهنَّدٍ

صافي الغِرارِ وصعْدةٍ سمْراءِ

منعُوهُ من ماءِ الفُراتِ ووردِهِ

وأبوُهُ ساقي الحوضِ يومَ جزاءِ

حتّى قضَى عَطشاً كما اشْتَهتْ العِدى

بأكفِّ لا صِيدٍ ولا أكفاءِ

٥

المجلس الخامس والأربعون بعد المئة

روى نصر بن مزاحم في كتاب صفّين : عن عبد الرحمن بن عوف الأحمر ، قال : لـمّا قدمنا على معاوية وأهل الشام بـ ( صفّين ) ، وجدناهم قد نزلوا منزلاً اختاروه بساطاً واسعاً ، وأخذوا الشريعة(١) فهي في أيديهم ، وقد صفّ أبو الأعور عليها الخيل والرجّالة ، وقد أجمعوا أنْ يمنعونا الماء. ففزعنا إلى أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) فأخبرناه بذلك ، فدعا صعصعة بن صوحان ، فقال: (( ائت معاوية ، فقل إنّا سرنا مسيرنا هذا ، وأنا أكره قتالكم قبل الإعذار إليكم ، وإنّك قد قدمت بخيلك فقاتلتنا قبل أنْ نقاتلك ، وبدأتنا بالقتال ونحن من رأينا الكفّ حتّى ندعوك ونحتّج عليك ، وهذه اُخرى قد فعلتموها ؛ حلتم بين النّاس وبين الماء ، فخلِّ بينهم وبينه حتّى تنظر فيما قدمنا له، وإنْ كان أحبّ إليك أنْ ندع ما جئنا له ، و ندع النّاس يقتتلون على الماء حتّى يكون الغالب هو الشارب فعلنا )).

فقال معاوية لأصحابه : ما ترَون ؟ قال الوليد بن عقبة : امنعهم الماء كما منعوه ابن عفّان ، اقتلهم عطشاً قتلهم الله. قال عمرو بن العاص : خلِّ بين القوم وبين الماء ؛ فإنّهم لن يعطشوا وأنت ريّان ، ولكن لغير الماء فانظر. فأعاد الوليد مقالته وقال لعبد الله بن أبي سرح : امنعهم الماء إلى الليل ؛ فإنّهم إنْ لمْ يقدروا عليه رجعوا وكان رجوعهم هزيمتهم ، امنعهم الماء منعهم الله إيّاه يوم القيامة. فقال صعصعة : إنّما يمنعه اللهُ يوم القيامة الكفرةَ الفجرة شَرَبة الخمر مثلك ومثل هذا الفاسق - يعني : الوليد بن عقبة -. فوثبوا إليه يشتمونه ويتهدّدون. فقال معاوية : كفّوا عن الرجل ؛ فإنّه رسول. فقال صعصة لمعاوية : ما تردّ عليّ ؟ قال : سيأتيكم رأيي.

قال الراوي : فوالله ، ما راعنا إلّا تسوية الرجال والخيل والصفوف ، وأرسل إلى أبي

____________________

(١) الشريعة : منحدر الماء.

٦

الأعور امنعهم الماء. فقام رجل من أهل الشام من همدان إلى معاوية ، وكان ناسكاً ، فقال : سبحان الله ! إنْ سبقتم القوم إلى الفرات تمنعوهم عنه ، أما والله ، لو سبقوكم إليه لسقوكم منه ، أما تعلمون أنّ فيهم العبد والأجير والضعيف ؟! هذا والله ، أوّل الجور. فأغلظ له معاوية ، فسار الهمداني في سواد الليل فلحق بعلي (عليه‌السلام ).

ومكث علي (عليه‌السلام ) يوماً وليلة بغير ماء ، فخرج نحو رايات مذحج وإذا رجل ينادي في سواد الليل :

أيَمنَعُنا القومُ ماءَ الفُراتْ

وفينا الرِّماحُ وفيناالحَجَفْ

وفينا عليٌّ له سَورةٌ

إذا خوَّفوهُ الرَّدى لمْ يَخَفْ

فنحنُ الذينَ غَداةَ الزّبير

وطلحةَ خضْنا غمارَ التَّلفْ

فما بالُنا أمسُ اُسدُ لعرينْ

وما بالُنا اليومَ شاءُ النَّجفْ

وجاء الأشعث إلى أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) فقال : يا أمير المؤمنين ، أيمنعنا القوم ماء الفرات وأنت فينا ومعنا السّيوف ؟ خلِّ عنّا وعن القوم ، فوالله ، لا نرجع حتّى نردّه أو نموت. فقال (عليه‌السلام ) : (( ذلك إليك )). فنادى الأشعث : مَن كان يريد الماء أو الموت فميعاده الصبح. فأتاه اثنا عشر ألفا ً، فلمّا أصبح حمل هو والأشتر ، وجعل الأشتر يُلقي رمحه ويقول : بأبي أنتم واُمّي ! تقدّموا قاب رمحي هذا. فلم يزل كذلك حتّى خالط القوم ، وبعث إلى الأشعث : أنْ أقحم الخيل. فأقحمها حتّى وضعت سنابكها في الفرات ، وأخذت أهل الشام السّيوف فولّوا مدبرين.

وقال معاوية لعمرو : ما ظنّك بعلي ؟ قال : ظنّي به أنّه لا يستحلّ منك ما استحلّك منه ، وإنّ الذي جاء لَغير الماء. فقال أهل العراق : والله ، لا نُسقيهم. فأرسل إليهم علي (عليه‌السلام ) : (( خذوا من الماء حاجتكم ، وخلّوا بينهم وبين الماء ؛ فإنّ الله قد نصركم ببغيهم وظلمهم )).

وعلى هذه السُنّة جرى ابن زياد وأصحابه - أتباع يزيد بن معاوية - يوم كربلاء ، فكما منع معاوية وأتباعه أمير المؤمنين (عليه‌السلام )

٧

وأصحابه يوم صفّين ماء الفرات ، منع الحسين (عليه‌السلام ) وأصحابه ماء الفرات يوم كربلاء ، وكتب ابن زياد إلى ابن سعد : أنْ حِل بين الحسين وأصحابه وبين الماء ، فلا يذوقوا منه قطرة كما صُنع بالتقيِّ الزكيِّ عثمان. فبعث عمر بن سعد في الوقت عمرو بن الحجّاج في خمسمئة فارس ، فنزلوا على الشريعة وحالوا بين الحسين (عليه‌السلام ) وأصحابه وبين الماء ، ومنعوهم أن يستقوا منه قطرة ، وذلك قبل قتل الحسين (عليه‌السلام ) بثلاثة أيام.

لكنّ منع علي (عليه‌السلام ) وأصحابه الماء يوم صفّين انتهى بانتصار أميرالمؤمنين (عليه‌السلام ) واستيلائهم على الشريعة ؛ ومنع الحسين (عليه‌السلام ) الماء يوم كربلاء انتهى بقتل الحسين (عليه‌السلام ) عطشان ظاميا ً، وقُتل أهل بيته وأصحابه ، وسبي نسائه وذراريه :

منعوهُمُ ماءَ الفُراتِ ودونَهُ

بسيوفِهمْ دمُهمْ يُطلُّ مُحلّلا

* * *

المجلس السّادس والأربعون بعد المئة

لـمّا كان يوم صفّين صلّى علي (عليه‌السلام ) صلاة الغَداة ، ثمّ زحف إلى أهل الشام ، فلمّا أبصروه قد خرج ، استقبلوه بزحوفهم فاقتتلوا قتالاً شديداً ، ثمّ إنّ خيل أهل الشام حملت على خيل أهل العراق فاقتطعوا من أصحاب علي ألف رجل أو أكثر ، فأحاطوا بهم وحالوا بينهم وبين أصحابهم فلمْ يروهم ، فنادى علي (عليه‌السلام ) يومئذ : (( ألا رجل يشري نفسه لله ويبيع دنياه بآخرته ؟ )). فأتاه رجل من جُعف يقال له : عبد العزيز بن الحارث على فرس أدهم ، كأنّه غراب مقنّعاً في الحديد لا يُرى منه إلّا عيناه ، فقال : يا أمير المؤمنين ، مُرني بأمرك ، فوالله ، ما تأمرني بشيء إلّا صنعته.

٨

فقال علي (عليه‌السلام ) :

سمحْتَ بأمرٍ لا يُطاقُ حفيظةً

وصِدقاً وإخوانُ الحفاظِ قليلُ

جزاك إلهُ النّاسِ خيراً فقدْ وفَتْ

يداكَ بفضلٍ ما هناكَ جزيلِ(١)

(( أبا الحارث ، شدّ الله ركنك ، احمل على أهل الشام حتّى تأتي أصحابك فتقول لهم : أمير المؤمنين يقرأ عليكم السّلام ، ويقول لكم : هلّلوا وكبّروا من ناحيتكم ، ونُهلّل نحن ونكبّر من ناحيتنا ، واحملوا من جانبكم ، ونحمل نحن من جانبنا على أهل الشام )).

فضرب الجُعفي فرسه حتّى إذا قام على السنابك حمل على أهل الشام المحيطين بأصحاب علي (عليه‌السلام ) ، فطاعنهم ساعة وقاتلهم ، فانفرجوا له حتّى أتى أصحابه. فلمّا رأوه استبشروا به وفرحوا، وقالوا : ما فعل أمير المؤمنين ؟ قال : صالح يقرؤكم السّلام ويقول لكم : هلّلوا وكبّروا واحملوا حملة رجل واحد من ذلك الجانب ، ونهلّل نحن من جانبنا ونكبّر ونحمل من خلفكم. فهلّلوا وكبّروا وحملوا ، وهلّل علي (عليه‌السلام ) وأصحابه وكبّروا وحملوا على أهل الشام ، فانفرج أهل الشام عنهم ، فخرجوا وما اُصيب منهم رجل واحد ، ولقد قُتل من فرسان أهل الشام يومئذ زهاء سبعمئة رجل. فقال علي (عليه‌السلام ) : (( مَن أعظم النّاس غناءً ؟ )). فقالوا : أنت يا أمير المؤمنين. قال : (( كلاّ ، ولكنّه الجُعفي )).

إنّ مقام هذا الجُعفي بصفّين لمقامٌ عظيمٌ ، وكفاه شهادة أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) له بأنّه أعظم النّاس غناءً ، وما أشبه مقامه بمقام أبي الفضل العبّاس يوم كربلاء حين برز عمرو بن خالد الصيداوي ، فقال : له الحسين (عليه‌السلام ) : (( تقدّمْ فإنّا لاحقون بك عن ساعة )). فحمل هو وسعد مولاه ، وجنادة بن الحارث السلماني ، ومجمع بن عبد الله العائذي ، فشدّوا مقدمين بأسيافهم على النّاس ، فلمّا وغلوا في أصحاب ابن سعد قطعوهم عن أصحابهم وأحاطوا بهم ، فندب الحسين (عليه‌السلام ) لهم أخاه العبّاس

____________________

(١) في البيت إقواء بيّن. (موقع معهد الإمامَين الحسنَين)

٩

فحمل على القوم وحده ، فضرب فيهم بسيفه حتّى فرّقهم عن أصحابه وخلص إليهم ، فسلّموا عليه واستنقذهم وجاء بهم ولكنّهم كانوا جرحى ، فأبوا عليه أنْ يستنقذهم سالمين ، فعاودوا القتال وحملوا فقاتلوا وهو يدفع عنهم حتّى قُتلوا في مكان واحد ، فعاد العبّاس إلى أخيه وأخبره بخبرهم.

ولكنّ شتّان بين المقامين ؛ فالجُعفي حمل على أهل الشام مستعيناً بأمير المؤمنين (عليه‌السلام ) وأصحابه حتّى استنقذوه ومَن معه ، وأبو الفضل العبّاس حمل وحده على ثلاثين ألفاً من أهل الكوفة ، وضاربهم حتّى وصل إلى أصحابه وأنصار أخيه الحسين (عليه‌السلام ) ، واستنقذهم وحده لم يساعده أحد.

قرّت عينك يا أمير المؤمنين بولدك أبي الفضل العبّاس الذي ورث منك الشجاعة والفروسية ، وقاتل بين يدي أخيه الحسين (عليه‌السلام ) قتال الأبطال ، فلو ترآه وهو مقطوع اليدين ، مرضوخ الجبين ، مشكوك العين بسهم ، مثخناً بالجراح ، وولدك أبو عبد الله الحسين (عليه‌السلام ) واقف عنده منحنياً ، ثمّ جلس عند رأسه يبكي حتّى فاضت نفسه الطاهرة :

أبا حسَنٍ أبناؤُكَ اليومَ حلَّقتْ

بقادمةِ الأسيافِ عنْ خطَّةِ الخسفِ

سلْ الطَّفَّ عنهُمْ أين بالأمسِ طنَّبُوا

وأين استقلُّوا اليومَ عن عرْصةِ الطَّفِّ

* * *

ولـمّا رأوا بعضَ الحياةِ مذلَّةً

عليهمْ وعِزَّ الموتِ غيرَ مُحرَّمِ

أبَوا أنْ يذوقُوا العيشَ والذاقعٌ

عليهِ وماتُوا ميتةً لم ذمَّمِ

ولا عجبٌ للاُسْدِ إنْ ظفرَتْ بها

كلابُ الأعادِي منْ فصيحٍ أعجَمِ

فحربةُ وحشيٍّ سَقتْ حمزةَ الرَّدى

وحتفُ عليٍّ من حسامِ ابنِ مُلجَمِ

١٠

المجلس السّابع والأربعون بعد المئة

لـمّا كان يوم صفّين برز رجل من أهل الشام اسمه كريب بن الصبّاح الحِميري من آل ذي يزن ، ليس في أهل الشام يومئذ رجل أشهر منه بشدّة البأس ، ثمّ نادى : مَن يبارز ؟ فبرز إليه المرتفع بن الوضّاع الزبيدي فقتل المرتفع ، ثمّ نادى : مَن يبارز ؟ فبرز إليه الحارث بن الجلاّح فقتله ، ثمّ نادى مَن يبارز ؟ فبرز إليه عائذ بن مسروق الهمداني فقتل عائذاً ، ثمّ رمى بأجسادهم بعضها فوق بعض ، ثمّ قام عليها بغياً واعتداءً ، ثمّ نادى : هل بقي من مبارز ؟ فبدر إليه علي (عليه‌السلام ) ، ثمّ ناداه : (( ويحك يا كريب ! إنّي اُحذّرك وأدعوك إلى سنّة الله وسنّة رسوله. ويحك ! لا يدخلنّك ابن آكلة الأكباد النّار )). فكان جوابه أن قال : ما أكثر ما قد سمعنا هذه المقالة منك فلا حاجة لنا فيها ، أقدم إذا شئت. مَن يشتري سيفي وهذا أثره ؟ فقال علي (عليه‌السلام ) : (( لا حول ولا قوة إلّا بالله )). ثمّ مشى إليه فلمْ يمهله أن ضربه ضربة خرّ منها قتيلاً يتشحّط في دمه.

ثمّ نادى علي (عليه‌السلام ) : (( مَن يبارز ؟ )). فبرز إليه الحارث بن وداعة الحميري فقتل الحارث، ثمّ نادى : (( مَن يبارز ؟ )). فلم يبرز إليه أحد ، ثمّ إنّ عليّاً (عليه‌السلام ) نادى : (( يا معشر المسلمين ،( الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ) (١) . ويحك يا معاوية ! هلُمّ إليّ فبارزني ، ولا يقتتلن النّاس فيما بيننا )). فقال عمرو : اغتنمه منتهزاً ، قد قتل ثلاثة من أبطال العرب ، وإنّي أطمع أن يظفرك الله به. فقال معاوية : ويحك يا عمرو ! والله ، إنْ تريد إلّا أنْ اُقتل فتصيب الخلافة بعدي ، اذهب إليك عنّي ، فليس مثلي يُخدع.

قال زياد بن النّصر الحارثي :

____________________

(١) سورة البقرة / ١٩٤.

١١

شهدت مع علي (عليه‌السلام ) بصفّين ، فاقتتلنا ثلاثة أيام وثلاث ليال حتّى تكسرت الرماح ونفدت السّهام ، ثمّ صرنا إلى المسايفة ، فاجتلدنا بالسيوف إلى نصف الليل حتّى صرنا نحن وأهل الشام في اليوم الثالث يعانق بعضنا بعضاً ، وقد قاتلت تلك الليلة بجميع السّلاح فلمْ يبقَ شيء من السّلاح إلّا قاتلت به حتّى تحاثينا بالتراب ، وتكادمنا بالأفواه حتّى صرنا قياماً ينظر بعضنا إلى بعض ، ما يستطيع أحد من الفريقين أنْ ينهض إلى صاحبه ولا يقاتل. فلمّا كان نصف الليل من الليلة الثالثة انحاز معاوية وخيله من الصف ، وغلب علي (عليه‌السلام ) على القتلى تلك الليلة ، وأقبل على أصحاب محمّد (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) وأصحابه فدفنهم.

فأين كان أميرالمؤمنين (عليه‌السلام ) عن ولده الحسين (عليه‌السلام ) وأصحابه يوم طفّ كربلاء ، فيصلّي عليهم ويدفنهم حتّى لا يبقوا ثلاثة أيام بلياليها على وجه الصعيد كالأضاحي جثثاً بلا رؤوس ، تسفي عليهم الرياح ، زوارهم الوحوش والطيور، وأكفانهم السّواقي من الرمال ؟!

مُطرَّحينَ على الرَّمْضاءِ قد لبسُوا

من الـمَهابةِ أبراداً لها قُشُبَا

مضرَّجينَ بمحمرِّ النَّجيعِ بنَى

نبلُ العِدى والقَنا من فوقِهمْ قُببَا

منْ كلِّ جسمٍ بوجهِ الأرضِ مطَّرحٍ

وكلِّ رأسٍ برأسِ الرُّمحِ قدْ نُصبَا

وأين كان أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) عن ولده الحسين (عليه‌السلام ) حين نادى عمر بن سعد : مَن يبتدر للحسين فيدوس صدره بحوافر فرسه ؟!

ما شفَى داءَ ضغْنِها القتلُ حتّى

بالعوادي عادتْ ترضُّ قُراهَا

١٢

المجلس الثامن والأربعون بعد المئة

لـمّا كان يوم صفّين خرج رجل من أهل الشام يسأل المبارزة ، فخرج إليه رجل من أهل العراق، فاقتتلا بين الصفّين قتالاً شديداً ، ثمّ إنّ العراقي اعتنق الشامي فوقعا جميعاً تحت قوائم فرسيهما ، فجلس العراقي على صدره وكشف المغفر عنه يريد ذبحه ، فلمّا رآه عرفه فاذا هو أخوه. فصاح به أصحاب علي (عليه‌السلام ) : أجهز على الرجل. فقال : إنّه أخي. قالوا : فاتركه. فقال : حتّى يأذن لي أمير المؤمنين (عليه‌السلام ). فاُخبر علي (عليه‌السلام ) بذلك ، فأرسل إليه : (( دعْهُ )). فتركه.

وكان لمعاوية مولىً يُقال له : حريث ، وكان فارس معاوية الذي يعدّه لكلّ مبارز ولكلّ عظيم. وكان حريث يلبس سلاح معاوية متشبّهاً به ، فإذا قاتل قال النّاس : ذاك معاوية. وإنّ معاوية دعاه وقال له : يا حريث ، اتّقِ عليّاً وضع رمحك حيث شئت. فأتاه عمرو بن العاص ، فقال : يا حريث ، لو كنت قرشيّاً لأحبَّ معاوية أنْ تقتل عليّاً ، ولكن كره أنْ يكون لك حظَّها ، فإنْ رأيت فرصة لعلي فأقحم عليه وقاتله.

قال : وخرج أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) أمام الخيل ، فحمل عليه حريث مولى معاوية ، وكان شديداً ذا بأس ، ونادى : يا علي ، هل لك في المبارزة ؟ فأقدم أبا حسن إذا شئت. فأقبل أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) ، وهو يقول :

أنا عليٌّ و ابنُ عبدِ الـمُطَّلبْ

نحنُ لَعمرُ اللهِ أولى بالكُتُبْ

منّا النّبيُّ الـمُصطفَى غيرُ كذبْ

أهلُ اللواءِ والمقامِ والحُجُبْ

يا أيُّها العبدُ الغريبُالـمُنتدِبْ

اثبتْ لنا يا أيُّها الكلبُ الكَلِبْ

ثم ضربه علي (عليه‌السلام ) فقتله ، فجزع عليه معاوية جزعاً شديداً ،

١٣

وعاتب عمرو بن العاص في ذلك ، ثمّ أنشأ معاوية يقول :

حُريثُ ألَمْ تعلمْ وجهلُك ضائرُ

بأنّ عليّاً للفوارسِ قاهرُ

وأنّ عليّاً لمْ يبارزه فارسٌ

من النّاس إلّا أقصدتهُ الأظافرُ

أمرتُك أمراً حازماً فعصيتَني

فجدّك إذْ لمْ تقبل النُّصحَ عاثرُ

ودلاّك عمروٌ والحوادثُ جمَّةٌ

غرُوراً وما جرَّتْ عليك المقادرُ

وظنَّ حُريثٌ إنّ عمْراً نصيحُهُ

وقد يُهلِكُ الإنسانَ مَن لا يحاذرُ

ولـمّا قتل أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) حريثاً ، برز عمرو بن الحصين السكسكي - وهو من أهل الشام - ، فنادى بأعلى صوته : يا أبا حسن ، هلمّ إلىّ المبارزة. فأنشأ علي (عليه‌السلام ) يقول :

ما علَّتي وأنا جلدٌ حازمْ(١)

وعن يميني مَذحِجُ القماقمْ

وعن يساري وائلُ الخضارِمْ

والقلبُ حولي مُضرُ الجماجمْ

أقسمتُ بالله العليِّ العالِمْ

لا أنثني إلّا بردِّ الرّاغمْ

ثمّ حمل عمرو بن الحصين على أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) ليضربه ، فبادر إليه سعيد بن قيس الهمداني ففلق صلبه ، فقال أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) :

دعوتُ فلبّاني منَ القومِ عُصبةٌ

فوارِسُ من هَمْدانَ غيرُ لئامِ

فوارسُ منْ همْدانَ ليسُوا بعزَّلٍ

غَداةَ الوغَى من شاكرٍ وشِبامِ(٢)

بكلِّ رُدينيٍّ وعَضْبٍ تخالُهُ

إذا اختلفَ الأقوامُ شَعْلَ ضِرامِ

لهمدانَ أخلاقٌ ودينٌ يَزينهُمْ

وبأسٌ إذا لاقوْا وحدُّ خصامِ

وجِدٌّ وصدقٌ في الحروبِ ونجدةٌ

وقولٌ إذا قالوا بغيرِ أثامِ

متى تأتِهمْ في دارهِمْ تستَضفهُمْ

تبِتْ ناعماً في خِدمةٍ وطعامِ

_____________________

(١) في الشطر خلل عروضي ، وربما كان صوابه بهذا النّحو : ( ما علّتي إذْ أنا جلد حازمْ ). (موقع معهد الإمامَين الحسنَين)

(٢) شاكر وشبام : بطنان من همدان.

١٤

جَزى اللهُ همْدانَ الجنانَ فإنّها

سِمامُ العِدى في كلِّ يوم زحامِ

فلو كنتُ بوّابا على باب جنَّةٍ

لقلتُ لهمْدانَ ادخلوا بسلامِ

وكانت قبيلة همدان من القبائل الموالية لأمير المؤمنين (عليه‌السلام ) والمتفانية في حبّه ، وكفاهم قوله (عليه‌السلام ) :

فلو كنتُ بوّابا على باب جنَّةٍ

لقلتُ لهمْدانَ ادخلوا بسلامِ

و كان منهم مع ولده الحسين (عليه‌السلام ) عدد غير قليل ، منهم : أبو ثمامة الصائدي الذي قال للحسين (عليه‌السلام ) يوم عاشوراء : يا أبا عبدالله ، نفسي لنفسك الفداء ! هؤلاء اقتربوا منك ، لا والله ، لا تُقتل حتّى اُقتل دونك ، وأحبّ أنْ ألقى الله وقد صلّيت هذه الصلاة معك. فرفع الحسين (عليه‌السلام ) طرفه إلى السّماء ، وقال : (( ذكرتَ الصلاة جعلك الله من المصلّين الذاكرين ، نعم هذا أوّل وقتها )). ثمّ قال (عليه‌السلام ) : (( سلوهم أنْ يكفّوا عنّا حتّى نصلّي )). ثمّ إنّ أبا ثمامة قال للحسين (عليه‌السلام ) : يا أبا عبد الله ، إنّي قد هممت أنْ ألحق بأصحابي وكرهت أنْ اتخلّف وأراك وحيداً من أهلك قتيلاً. فقال له الحسين (عليه‌السلام ) : (( تقدّم فإنّا لاحقون بك عن ساعة )). فتقدّم فقاتل حتّى اُثخن بالجراحات ، ولمْ يزل يقاتل حتّى قُتل.

ومنهم : بُرير بن خضير الهمداني الذي جلس هو وعبد الرحمن بن عبد ربّه الأنصاري على باب الفسطاط الذي دخله الحسين (عليه‌السلام ) يوم عاشوراء ليصلّي ، فجعل برير يضاحك عبد الرحمن ، فقال له عبد الرحمن : يا برير ، ما هذه ساعة باطل ! فقال برير : لقد علم قومي أنّي ما أحببت الباطل كهلاً ولا شاباً ؛ وإنّما أفعل ذلك استبشاراً بما نصير إليه ، فوالله ، ما هو إلّا أنْ نلقى هؤلاء القوم بأسيافنا نعالجهم بها ساعة ، ثمّ نعانق الحور العين :

فوارسُ اتخَذوا سُمرَ القنَا سَمَراً

فكلَّما سجَعَتْ ورقُ القنَا طَربُوا

١٥

يسْتنجِعونَ الرَّدى شَوقاً لغايتِهِ

كأنّما الضربُ في أفوهِها الضَرَبُ(١)

واستأثَرُوا بالرَّدى منْ دونِ سيِّدهِمْ

قصْداً وما كلُّ إيثارٍ به الأربُ

* * *

المجلس التاسع والأربعون بعد المئة

لـمّا كان يوم صفّين قام علي (عليه‌السلام ) بين الصفّين ، ونادى : (( يا معاوية )) ، يكررها. فقال معاوية : اسألوه ما شأنه ؟ قال (عليه‌السلام ) : (( أحبّ أن يظهر لي فاُكلّمه كلمة واحدة )). فبرز معاوية ومعه عمرو بن العاص ، فلمْ يلتفت إلى عمرو. وقال (عليه‌السلام ) لمعاوية : (( ويحك ! علامَ يُقتتل النّاس بيني وبينك ؟! ابرز إليّ فأيُّنا قتل صاحبه فالأمر له )). فالتفت معاوية إلى عمرو ، فقال : ما ترى يا أبا عبد الله ، اُبارزه ؟ فقال عمرو : لقد أنصفك الرجل ، واعلم أنّك إنْ نكلت عنه لمْ تزل سُبّة عليك وعلى عقبك ما بقي عربي. فقال معاوية : يا عمرو ، ليس مثلي يُخدع عن نفسه ، والله ، ما بارز ابن أبي طالب رجلاً قطّ إلّا سقى الأرض من دمه.

ثمّ انصرفا راجعين حتّى انتهيا إلى آخر الصفوف ، وحقَدها معاوية على عمرو ، وقال : ما أظنّك إلّا مازحاً ! فلمّا جلس معاوية مجلسه دخل عليه عمرو ، فقال معاوية :

يا عمروُ إنّكَ قدْ قشرتَ ليَ العَصا

برضاكَ في وسَطِ العجاجِ بِرازي

ولقدْ أعدْتَ فقُلتُ مَزْحَةُ مازحٍ

والـمَزْحُ يحملُهُ مقالُ الهازي

____________________

(١) الضرب : العسل وزناً ومعنىً.

١٦

فإذا الذي منَّتكَ نفسُكَ خالياً

قتلِي جزاكَ بما نويتَ الجازي

فقال له عمرو : أتجبن عن خصمك وتتهم نصيحك ؟ وقال مجيباً له :

معاويَ إنْ نكلتَ عن البِرازِ

لك الويلاتُ فانظُرْ في المخازي

وما ذنبي بإنْ نادَى عليٌّ

وكبشُ القومِ يدعَى للبِرازِ

فلَو بارزْتهُ بارزتَ ليثاً

حديدَ النَّابِ ينفذُ كلَّ بازِ

وتزْعمُ أنّني أضمرتُ غِشاً

جزاني بالذي أضمرتُ جازِ

وبرز عمرو بن العاص في بعض أيام صفّين ، فاعترضه علي (عليه‌السلام ) ثمّ طعنه فصرعه ، واتّقاه عمرو برجله فبدت عورته ، فصرف علي (عليه‌السلام ) وجهه عنه ، فقال القوم : أفلت الرجل يا أمير المؤمنين. قال (عليه‌السلام ) : (( وهل تدرون مَن هو ؟ )). قالوا : لا. قال (عليه‌السلام ) : (( فإنّه عمرو بن العاص تلقّاني بعورته فصرفت وجهي عنه )). وإلى ذلك أشار أبو فراس الحمداني بقوله :

ولا خيرَ في دفعِ الرَّدى بمذلّةٍ

كما ردَّها يوماً بسوأتهِ عَمرو

ورجع عمرو إلى معاوية ، فقال له : ما صنعت ؟ قال : لقيني علي فصرعني فاتّقيته بعورتي. قال : احمد الله وعورتك ، أمّا والله ، لو عرفته ما أقحمت عليه. وقال معاوية في ذلك :

ألا لله منْ هفواتِ عَمرٍو

يعاتبُني على تركِي بِرازي

فقدْ لاقى أبا حسنٍ عليّاً

فآبَ الوائليُّ مآبَ خازِ

فلَو لمْ يُبدِ عورتَهُ للاقَى

بهِ ليثاً يذللُ كلَّ نازِ

له كفٌّ كأنَّ براحتيْها

منايا القومِ يخطِفُ خطفَ بازِ

فإنْ تكُنْ المنيَّةُ أخطأتْهُ

فقدْ غنَّى بها أهلُ الحجازِ

١٧

فغضب عمرو ، وقال : هل هو إلّا رجل لقيه ابن عمّه فصرعه ، أفترى السّماء قاطرةً لذلك دماً ؟! قال معاوية : ولكنّها تعقبك جبناً.

وبرز عُروة بن داود الدمشقي ، فقال : إنْ كان معاوية كره مبارزتك يا أبا الحسن فهلمّ. فتقدّم إليه علي (عليه‌السلام ) فقال له أصحابه : ذَر هذا الكلب ؛ فإنّه ليس لك بخطر. فقال (عليه‌السلام ) : (( والله ، ما معاوية اليوم بأغيظ لي منه ، دعوني وإيّاه )). ثمّ حمل عليه فضربه فقطعه قطعتين ، سقطت إحداهما يمنة والاُخرى يسرة ، فارتجّ العسكران لهول الضربة ، ثمّ قال (عليه‌السلام ) : (( يا عُروة، اذهب فأخبر قومك ، أما والذي بعث محمّداً بالحقِّ لقد عاينت النّار وأصبحت من النّادمين )).

وحمل ابن عمّ لعُروة على علي (عليه‌السلام ) فطعنه ، فضرب علي (عليه‌السلام ) الرمح فبراه ، ثمّ قنّعه ضربة فألحقه بابن عمّه ، ومعاوية ينظر. فقال معاوية : تبّاً لهذه الرجال وقبحاً ! أما فيهم مَن يقتل هذا - يعني : أميرالمؤمنين (عليه‌السلام ) - مبارزةً أو غيلة ، أو في اختلاط الفيلق وثَوَران النّقع(١) ؟ فقال الوليد بن عقبة : ابرز إليه أنت ؛ فإنّك أولى النّاس بمبارزته. فقال : والله ، لقد دعاني إلى البراز حتّى استحييت من قريش ، وإنّي والله ، لا أبرز إليه ؛ ما جُعل العسكر بين يدي الرئيس إلّا وقاية له. فقال عتبة بن أبي سفيان : الهوا عن هذا ، كأنّكم لم تسمعوا نداءه ، فقد علمتم أنّه قتل حريثاً وفضح عمراً ، ولا يتحكّك به أحد إلّا قتله. فقال معاوية لبُسر بن أرطاة : أتقوم لمبارزته ؟ فقال : ما أحد أحقّ بها منك ، وإذا أبيتموه فأنا له.

وكان عند بُسر ابنُ عمّ له قدم من الحجاز يخطب ابنته ، فقال لبُسر : ما يدعوك إلى ذلك ؟ قال : الحياء. فضحك الغلام ، وقال :

تنازلُهُ يا بُسْرُ إنْ كُنتَ ثلَهُ

وإلّا فإنَّ الليثَ للضبعِ آكلُ

كأنّك يا بُسْرُ بنَ أرطاةَ جاهلٌ

بآثارِهِ في الحربِ أو متجاهلُ

متَى تلْقِهِ فالموتُ في رأسِ رُمحِهِ

وفي سيفهِ شغلٌ لنفسك شاغلُ

____________________

(١) النّقع : الغبار.

١٨

فقال بُسر : هل هو إلّا الموت ! فغدا علي (عليه‌السلام ) منقطعاً من خيله ومعه الأشتر ، فناداه بُسر : ابرز إليّ أبا حسن. فجاءه علي (عليه‌السلام ) بتؤدة(١) غير مكترث ، فلمّا قاربه طعنه وهو دارع فألقاه على الأرض ، ومنع الدرعُ السّنان أنْ يصل إليه فاتّقاه بُسر ، وقصد أنْ يكشف سوأته ليستدفع بأسه فانصرف علي (عليه‌السلام ) عنه مستدبراً له ، فقال له الأشتر : إنّه بُسر بن أرطاة ! عدو الله وعدوك يا أمير المؤمنين. فقال (عليه‌السلام ) : (( دَعْه عليه لعنة الله ، أبَعد أنْ فعلها ! )).

ورجع بُسر ، فقال له معاوية : ارفع طرفك قد أدال الله عمراً منك. فقال في ذلك النّضر بن الحارث :

أفي كلِّ يومٍ فارسٌ تندبُونهُ

لهُ عورةٌ وسطَ العَجاجةِ باديهْ

يكفُّ بها عنهُ عليٌّ سِنانَهُ

ويضحكُ منها في الخلاءِ مُعاويهْ

بدتْ أمسِ من عمرٍو فقنَّع رأسَهُ

وعورةُ بُسرٍ مثلُها حَذْوَ حاذِيهْ

فقولا لعمرٍو وابنِ أرطأةَ أبصِرا

سبيلَكُما لا تَلقَيا اللَّيثَ ثانيهْ

ولا تَحمدا إلّا الحيا وخُصاكُما

هُما كانتا واللهِ للَّنفس واقيهْ

فلولاهما لم تَنجُوَا منْ سنانهِ

وتلك بما فيها عنْ العَودِ ناهيهْ

متَى تلقيا الخيلَ الـمُشيحةَ صُبْحةً

وفيها عليٌّ فاتْرُكا الخيلَ ناحيهْ

وكونا بعيداً حيثُ لا يبلغ القَنا

نحورَكُما إنّ التجاربَ كافيهْ

وإنْ كان منهُ بعدُ في النَّفسِ حاجةٌ

فعُودا إلى ما شئتُما هي ما هِيهْ

وعمرو هذا هو الذي دبّر الحيلة على مولانا أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) برفع المصاحف على رؤوس الرماح حتّى اغترّ بذلك أهل العراق ، واضطرّ أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) إلى القبول بالتحاكم إلى القرآن وهو يقول لهم : (( أنا كتاب الله النّاطق ، وهذا كتاب الله الصامت )). فلمْ يسمعوا.

ولولا رفع تلك المصاحف على رؤوس الرماح ، لم يُرفع رأس الحسين (عليه‌السلام ) ورؤوس أصحابه على رؤوس الرماح يوم كربلاء ، يسار بها من بلد إلى بلد ، فمن كربلاء إلى الكوفة ،

___________________

(١) أي : مشى مشياً وئيداً.

١٩

ومن الكوفة إلى الشام أمام عينَي زين العابدين (عليه‌السلام ) ، وأمام عينَي زينب وسائر النّساء.

ولـمّا قربوا من دمشق دنت اُمّ كلثوم من شمر ، فقالت له : لي إليك حاجة. فقال : ما حاجتك ؟ قالت : إذا دخلت بنا البلد فاحملنا في درب قليل النظّارة ، وتقدّم إليهم أنْ يخرجوا هذه الرؤوس من بين المحامل وينحّونا عنها ؛ فقد خزينا من كثرة النّظر إلينا ونحن في هذه الحال. فأمر في جواب سؤالها ، أنْ تجعل الرؤوس على الرماح في أوساط المحامل بغيّاً منه وكفراً ، وسلك بهم بين النظّارة على تلك الصفة :

ليتَ المواكبَ والوصيُّ زعيمُها

وقفوا كموقِفكُمْ على صفّين

بالطفِّ كي يرَوا الاُولى فوق القنَا

رُفعتْ مصاحفُها اتّقاءَ منونِ

جعلتْ رؤوسَ بني النّبيِّ مكانَها

وشفَتْ قديمَ لواعجٍ وضغونِ

المجلس الخمسون بعد المئة

اجتمع عند معاوية بصفّين ليلةً عتبة بن أبي سفيان والوليد بن عقبة ومروان بن الحكم وغيرهم، فقال عتبة : إنّ أمرنا وأمر علي لعجب ! ليس منّا إلّا موتور ؛ أمّا أنا فقتل جدّي وشرك في دم عمومتي يوم بدر ؛ وأمّا أنت يا وليد ، فقتل أبوك يوم الجمل وأيتم إخوتك ؛ وأمّا أنت يا مروان ، فكما قال الشاعر :

وأفَلتَهُنَّ(١) عِلباءٌ(٢) جَريضاً(٣)

ولو أدرَكْنَهُ صَفِرَ الوِطابُ(٤)

_____________________

(١) انفلت منهن.

(٢) اسم رجل.

(٣) الجريض : المغموم.

(٤) الوطاب : جمع وطب ، وهو سقاء اللبن. وصفرت الوطاب : أي خلت من اللبن ، ويكنّى به عن الموت. يقال : صفرت وطابه : أي مات أو قُتل. وهذا البيت ضربه كالمثل لمروان ، أي : أنّه أفلت يوم الجمل بآخر رمق ، ولو أدركه علي (عليه‌السلام ) لقتله. - المؤلّف -

٢٠