المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة الجزء ٣

المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة0%

المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 202

المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة

مؤلف: السيد محسن بن عبد الكريم الأمين
تصنيف:

الصفحات: 202
المشاهدات: 40713
تحميل: 2230


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 202 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 40713 / تحميل: 2230
الحجم الحجم الحجم
المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة

المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة الجزء 3

مؤلف:
العربية

صدقتُهُ وجميعُ النّاسِ في بُهَمٍ

من الضَّلالةِ والإشراكِ والنكَدِ

فالحمدُ للهِ شُكراً لا شريكَ لهُ

البَرّ بالعبدِ والباقِي بلا أمدِ

ولـمّا بات علي (عليه‌السلام ) على فراش رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ليلة الغار ، أوحى الله عزّ وجل إلى جبرائيل وميكائيل : (( إنّي قد آخيت بينكما ، وجعلتُ عُمرَ أحدكما أطول من عُمرِ صاحبه ، فأيّكما يُؤثر أخاه ؟ )). فكلاهما كره الموت ، فأوحى الله إليهما : (( عبديَّ ، ألا كُنتما مثلَ وليي علي بن أبي طالب ؛ آخيتُ بينه وبين نبيي فآثره بالحياة على نفسه ، ثمّ رقَد على فراشه يُفديهِ بمهجته ؟ اهبطا إلى الأرض فاحفظاه منْ عدوّه )). فهبط جبرائيل فجلس عند راسه ، وميكائيل عند رجليه ، وجعل جبرائيل يقول : بخٍ بخٍ ، مَنْ مثلك يابنَ أبي طالب والله عزّ وجل يُباهي بك الملائكة !

ودرجة الإخوّة درجة عظيمة ومنزلتها منزلة رفيعة ؛ ولهذا لـمّا بعث الحسين (عليه‌السلام ) ابن عمّه مسلم بن عقيل إلى أهل الكوفة ، كتب إليهم معه : (( وأنا باعثٌ إليكم أخي وابن عمّي ، وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل )). وقد قام مسلم بأعباء هذه الإخوّة وحقّق ظنّ الحسين (عليه‌السلام ) فيه ، ولـمّا خذله أهل الكوفة وتفرّقوا عنه ، وأرسل إليه ابن زياد سبعين رجلاً مع محمّد بن الأشعث ، وسمع مسلم وقع حوافر الخيل وأصوات الرجال ، علم أنّه قد اُتي في طلبه فخرج إليهم بسيفه ، واقتحموا عليه الدار ، فشدّ عليهم يضربهم بسيفه حتّى أخرجهم من الدار ، ثمّ عادوا إليه، فشدّ عليهم كذلك ، فأخرجهم مراراً وقتل منهم جماعة ، فلَمّا رأوا ذلك ، أشرفوا عليه من فوق البيت يرمونه بالحجارة ، ويُلهبون النّار في القصب ويرمونها عليه ، فخرج عليهم مُصلتاً سيفه في السّكة ، وهو يقول :

أقسمتُ لا اُقتلُ إلّا حُرّا

وإنْ رأيتُ الموتَ شيئاً نُكْرَا

وتكاثروا عليه بعدما اُثخن بالجراح ، فطعنه رجل من خلفه فخرّ إلى

١٤١

الأرض فاُخذ أسيراً. فقال ابن زياد : اصعدوا به فوق القصر فاضربوا عنقه ، ثمّ اتبعوه جسده. ففُعل به ذلك ، فلمّا بلغ خبره الحسين (عليه‌السلام ) ، استعبر باكياً ، ثمّ قال : (( رحم الله مُسلماً ، فلقد صار إلى رَوح الله وريحانه ، وتحيّاته ورضوانه ، أما أنّه قد قضى ما عليه وبقي ما علينا ))

يا مُسلمُ بنَ عقيلٍ لا أغبَّ ثرَى

ضريحِكَ الـمُزنُ هطّالاً وهتّانا

بذلتَ نفْسكَ في مرضاةِ خالِقِها

حتّى قضيتَ بسيفِ البغْي ظمْآنا

* * *

المجلس السّابع والتسعون بعد المئة

لـمّا بُويع أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) بالخلافة ، خرج إلى المسجد مُتعمّماً بعمامة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، لابساً بُردة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ، مُنتعلاً نعل رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ، مُتقلّداً سيف رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ، فصعد المنبر فجلس عليه متمكّناً ، ثمّ شبك بين أصابعه فوضعها أسفل بطنه ، ثمّ قال: (( يا معشر النّاس ، سلوني قبل أنْ تفقدوني ، هذا سفطُ العلم ، هذا لعاب رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ، هذا ما زقّني رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) زقاًّ. سلوني فإنّ عندي علم الأوّلين والآخرين. أمَا والله ، لو ثُنيت لي الوسادة(١) وجلست عليها ، لأفتيتُ أهلَ التَّوراة بتوراتهم ، وأهلَ الإنجيل بإنجيلهم ، وأهلَ القُرآن بقرآنهم حتّى ينطق كلُّ واحدٍ من هذه الكتب ، فيقول : صدقَ عليٌّ ما كذب ، لقد أفتاكم بما أنزل الله فيَّ. وأنتم تتلون القرآن ليلاً ونهاراً ، فهل فيكم أحدٌ يعلم ما أنزل الله فيه ؟ ولولا آيةٌ في كتاب الله عزّ وجل ، لأخبرتُكم بما كان وبما يكون وبما هو كائن إلى يوم القيامة )). وهي هذه الآية :( يَمْحُوا اللّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ

____________________

(١) أو : لو ثُنيت لي وسادة. - المولف -

١٤٢

اُمّ الْكِتَابِ ) (١) . ثمّ قال : (( سلوني قبل أنْ تفقدوني ، فوالذي فَلَقَ الحبّة وبرأ النّسمة ، لو سألتموني عن أيّةِ آية ، في ليلٍ نزلت أو في نهار ، مكِّيِّها ومدنيِّها ، سفريِّها وحضريِّها ، ناسخها ومنسوخها ، محكمها ومتشابهها ، وتأويلها وتنزيلها ، لأخبرتكم )). فقام إليه رجل يُقال له : ذعلب ، وكان ذرب اللسان بليغاً في الخطب شجاع القلب ، فقال : لقد ارتقى ابن أبي طالب مرقاة صعبة ، لاُخجِّلنّه اليوم لكم في مسألتي إيّاه ، فقال : يا أمير المؤمنين ، هل رأيت ربّك ؟ فقال : (( ويلك يا ذعلب ! لمْ أكنْ بالذي أعبدُ ربّاً لَمْ أره )). قال : كيف رأيته ؟ صفه لنا ؟ قال : (( ويلك ! لمْ ترَه العيون بمشاهدة الأبصار ، ولكنْ رأته القلوب بحقائق الإيمان. ويلك يا ذعلب ! إنّ ربّي لا يُوصف بالبُعد ولا بالقُرب ، ولا بالحركة ولا بالسّكون ، ولا بقيام قيام انتصابٍ ولا بجيئة وذهاب. لطيفُ اللّطافة لا يُوصف باللّطف ، عظيمُ العظمة لا يُوصف بالعظم ، كبيرُ الكبر لا يُوصف بالكبر ، جليلُ الجلالة لا يُوصف بالغلظ ، رؤوفُ الرحمة لا يُوصف بالرّقة. مؤمنٌ لا بعبادة ، مدركٌ لا بمحسّة ، قائلٌ لا بلفظ ، هو في الأشياء على غير ممازجة ، خارجٌ عنها على غير مباينة ، فوق كلِّ شي ولا يُقال له فوق ، أمام كلّ شيء ولا يُقال له أمام ، داخلٌ في الأشياء لا كشيء في شيء داخل ، وخارج منها لا كشيء من شيء خارج )).

فخرّ ذعلب مغشيّاً عليه ، ثُمّ قال : تَاللهِ ، ما سمعت بمثل هذا الجواب ، والله ، لا عُدت إلى مثلها أبداً. ثُمّ قال (عليه‌السلام ) : (( سلوني قبل أنْ تفقدوني )). فقام إليه رجل من أقصى المسجد متوكّئاً على عكّازه ، فلمْ يزلْ يتخطّى النّاس حتّى دنا منه ، فقال : يا أمير المؤمنين ، دلّني على عمل إذا أنا عملته نجّاني الله من النّار ؟ فقال (عليه‌السلام ) له : (( اسمع يا هذا ، ثمّ افهم ثمّ استيقن ، قامت الدنيا بثلاثة : بعالمٍ ناطق مستعملٍ لعلمه ، وبغنيٍّ لا يبخل بماله عن أهل دين الله عزّ وجل، وبفقير صابر ؛ فإذا كتم العالمُ علمه ، وبخل الغنيُّ ، ولمْ يصبرْ الفقير ، فعندها الويل والثبور! وعندها

_____________________

(١) سورة الرعد / ٣٩.

١٤٣

يعرف العارفون بالله أنّ الدار قد رجعت إلى بدئها. أيّها السّائل ، لا تغترنّ بكثرة المساجد ، وجماعة أقوام أجسادُهم مجتمعة وقلوبهم شتّى. أيّها السّائل ، إنّما النّاس ثلاثة : زاهد ، وراغب ، وصابر ؛ فأمّا الزاهد فلا يفرح بشيء من الدنيا أدركه ، ولا يحزن على شيء منها فاته ؛ وأمّا الصابر فيتمنّاها بقلبه ، فإنْ أدرك منها شيئاً صرف عنها نفسه ؛ لِمَا يعلم من سوء عاقبتها ؛ وأمّا الراغب فلا يُبالي مِن حلٍّ أصابها ، أمْ من حرام )). قال : يا أمير المؤمنين ، فما علامة المؤمن في ذلك الزمان ؟ قال (عليه‌السلام ) : (( ينظر إلى ما أوجب الله عليه من حقٍّ فيتولاّه ، وينظر إلى ما خالفه فيتبرّأ منه وإنْ كان حبيباً قريباً )). قال : صدقت والله ، يا أمير المؤمنين.

* * *

المجلس الثامن والتسعون بعد المئة

وقال الأصبغ بن نباتة : أتى أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) ومعه قنبر البزّازين(١) ، فساوم غلاماً بثوبين ، فماكسه الغلام حتّى اتّفقا على سبعة دراهم ؛ ثوباً بأربعة دراهم ، وثوباً بثلاثة دراهم. وقال لقنبر: (( اختر أحد الثوبين )). فاختار الذي بأربعة ولبس هو الذي بثلاثة ، وقال (عليه‌السلام ) : (( الحمد لله الذي رزقني ما اُواري به عورتي ، واتجمّل به في خلقه )). ثمّ أتى المسجد فكوّم كومةً من حصىً فاستلقى عليها ، فجاء أبو الغلام فقال : إنّ ابني لَمْ يعرفك ، وهذان الدرهمان ربحهما فخذهما. فقال (عليه‌السلام ) : (( ما كنتُ لأفعل ، فقد ماكسته وماكسني واتّفقنا على رضا )).

وروي : أنّ أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) أتى

____________________

(١) الذين يبيعون البز ، أي : القماش. - المؤلّف -

١٤٤

سوق الكرابيس(١) فإذا هو برجل وسيم(٢) ، فقال (عليه‌السلام ) : (( يا هذا ، عندك ثوبان بخمسة دراهم؟ )). فوثب الرجل فقال : يا أمير المؤمنين ، عندي حاجتك. فلمّا عرفه مضى عنه ، فوقف على غلام ، فقال (عليه‌السلام ) : (( يا غلام ، عندك ثوبان بخمسة دراهم ؟ )). قال : نعم ، عندي ثوبان. فأخذ ثوبين أحدهما بثلاثة دراهم والآخر بدرهمين ، فقال (عليه‌السلام ) : (( يا قنبر ، خُذ الذي بثلاثة دراهم )). فقال : أنت أولى به ؛ تصعد المنبر وتخطب النّاس. قال (عليه‌السلام ) : (( وأنت شابٌّ ولك شره الشباب ، وأنا أستحي من ربّي أنْ أتفضّل عليك. سمعت رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) يقول : البسوهُم ممّا تلبسون ، وأطعموهُم ممّا تأكلون )).

وقال المفيد - عليه الرحمة - في الإرشاد : من آيات الله الخارقة للعادة في أمير المؤمنين (عليه‌السلام )، أنّه لمْ يعهد لأحد من مبارزة الأقران ومنازلة الأبطال ما عُرف له على مَرّ الزمان ، ولمْ يُوجد في ممارسي الحروب إلّا مَن أصابته بشرٍّ أو جراحة أو شين إلّا أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) ؛ فإنّه لمْ ينلْه مع طول زمان حروبه جراحٌ من عدو ، ولا شينٌ ، ولا وصل إليه بسوء حتّى كان من اغتيال ابن ملجم له ما كان ، وهذه اُعجوبة أفرده الله في الآية فيها ، ودلّ بذلك على مكانه منه ، وتخصّصه بكرامته التي بان بفضلها من كافّة الأنام.

قال : ومن آيات الله تعالى فيه ، أنّه لا يوجد ممارس للحروب إلّا وهو ظافر بعدوه مرّة ، وغير ظافر به اُخرى ، ومَن جرح منهم خصمه ؛ فمرّة يموت من جرحه ، ومرّة يُعافى ، ولمْ يعهدْ شخص لمْ يفلتْ منه قَرنٌ ، ولا نجا من ضربته أحدٌ إلّا أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) ؛ فإنّه لا مرية في ظفره بكلِّ قَرن بارزه ، وإهلاكه كلَّ بطلٍ نازله ، وهذا ما انفرد

____________________

(١) الكرابيس : جمع كرباس ، بوزن مصباح ، وهو الخام الغليظ.

(٢) جميل الصورة. - المؤلّف -

١٤٥

به من كافّة الأنام ، وخرق الله - عزّ وجل - به العادة في كلّ حين وزمان ، وهو من دلائله الواضحة.

قال : ومِن آيات الله تعالى فيه ، أنّه مع طول ممارسته للحروب ، وكثرة مَن حاربه من الشجعان واحتيالهم عليه ، وبذلهم الجُهد في الفتك به ، ما ولّى أحداً منهم ظهره ، ولا تزحزح عن مكانه ، ولا هاب أحداً من أقرانه ، ولمْ يلقَ أحدٌ سواه خصماً له في حربٍ إلّا كان مرّة يثبت له ومرّة ينحرف عنه ، وتارة يقدم عليه وتارة يحجم عنه.

قال : ومِن آياته التي انفرد بها ، ظهور مناقبه في الخاصّة والعامّة مع كثرة المنحرفين عنه ، وتوفر الأسباب إلى كتمان فضله ، وكون الدُّنيا في يد خصومه. وقد استفاض عن الشعبي أنّه كان يقول: لقد كنتُ أسمع خطباء بني اُميّة يسبّون أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه‌السلام ) على منابرهم وكإنّما يُشال إلى السّماء ؛ ويمدحون أسلافهم على منابرهم وكأنّهم يكشفون عن جيفة.

وقال الوليد بن عبد الملك لبنيه : عليكم بالدِّين ؛ فإنّي لمْ أرَ الدِّينَ بَنى شيئاً فهدمته الدنيا ، ورأيت الدُّنيا قد بنت بُنياناً فهدمه الدين. مازلتُ أسمع أهلنا يسبّون علي بن أبي طالب ويدفنون فضائله ، ويحملون النّاس على شنآنه ، فلا يزيده ذلك في القلوب إلّا قُرباً ، ويجتهدون في تقريبهم من نفوس الخلق ، فلا يزيدهم ذلك من القلوب إلّا بُعداً.

قال المفيد : وفيما انتهى إليه الأمر من دفن فضائل أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) ، والحيلولة بين العلماء ونشرها ، ما لا شبهة فيه على عاقل ، حتّى كان الرجل إذا أراد الرواية عنه لمْ يستطع أن يذكر اسمه ، فيقول : حدّثني رجلٌ من أصحاب رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ، أو رجل من قريش ، ومنهم مَن يقول : حدّثني أبو زينب.

وروى عكرمة عن بعض اُمّهات المؤمنين حديثاً فيه : فخرج رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) متوكّئاً على رَجُلين من أهل بيته ؛ أحدهما الفضل بن العبّاس. فحكى ذلك عكرمة لابن عبّاس ، فقال له : أتعرف

١٤٦

الرجل الآخر ؟ قال : لا ، لمْ تُسمّه لي. قال : ذاك علي بن أبي طالب (عليه‌السلام ) ، وما كانت اُمّناً تذكره بخير وهي تستطيع.

وكانت ولاة الجور تضرب بالسّياط مَنْ ذكره ، بل تضرب الرقاب على ذلك وتحرّض النّاس على البراءة منه. والعادة جارية ، أنّ مَن يُتّفق له ذلك لا يُذكر بخير فضلاً عن أنْ تُذكر له مناقب.

قال : ومِن آيات الله تعالى فيه ، أنّه لمْ يبتلِ أحدٌ في ولده وذرّيّته بمثل ما ابتُلي به (عليه‌السلام ) في ذرّيّته ؛ وذلك أنّه لمْ يُعرف خوفٌ شمل جماعة من ولد نبيٍّ ولا إمام ، ولا ملكٍ ولا برٍّ ولا فاجر ، كالخوف الذي شمل ذرّيّة أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) ، ولا لحق أحداً من القتل والطرد عن الأوطان والإخافة ما لحق ذرّيّته وولده ، ولم يجرِ على طائفة من النّاس من ضروب النِّكال ما جرى عليهم ؛ فقُتلوا بالفتك والغيلة والاحتيال ، وبُني على بشرٍ منهم من البنيان وهم أحياء ، وعُذّبوا بالجوع والعطش حتّى ماتوا ، وأحوجهم ذلك إلى مفارقة الأوطان والتغرّب في البلدان ، وكتمان نسبهم والاستخفاء حتّى عن أحبّائهم ، وجانبهم النّاس مخافة على أنفسهم وذراريهم من جبابرة الزمان ؛ وكلُّ ذلك يُوجب قلّة عددهم وانقطاع نسلهم ، وهم مع ذلك أكثر ذرّيّة أحد من الأنبياء والأولياء وسائر النّاس ، وفي ذلك خرق للعادة.

أقول : وكفى في ذلك أنّ بني اُميّة قد قتلوا في يوم كربلاء من آل الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) مع الحسين (عليه‌السلام ) سبعة عشر رجلاً ، وقتلوا جماعة من الأطفال ، وقتلوا مسلم بن عقيل بالكوفة ، ولمْ يبقَ منهم غيرُ العليل زين العابدين (عليه‌السلام ) وثلاثة أو أربعة من الصبيان ، وسمّوا الحسن (عليه‌السلام ) ، وقتلوا زيد بن علي ، ويحيى بن زيد وغيرهم من بني هاشم.

وقتل بنو العبّاس الكثيرين منهم ، وبنَوا على بعضهم الحيطان وهدموا عليهم الحبوس ، وما زادهم الله بذلك إلّا بركةً ونموّاً.

١٤٧

تَتبْعوكُمْ ورامُوا محْوَ فضلِكمُ

وخيّبَ اللهُ مَنْ في ذلكُمْ طمِعا

أنّى وفي الصلواتِ الخمسِ ذكْركُمُ

لدى التَّشهُّدِ للتوحيدِ قدْ شَفعا

* * *

المجلس التاسع والتسعون بعد المئة

قال الإمام علي لابنه الحسن (عليهما‌السلام ) : (( لا تدعونَّ إلى مبارزةٍ ، فإنْ دُعيت إليها فأجبْ ؛ فإنّ الداعي إليها باغٍ مقتول )). قيل : أنّه (عليه‌السلام ) ما دعا إلى مبارزة قط ، وإنّما كان يُدعى هو بعينه ، أو يُدعى : مَن يبارز ؟ فيخرج إليه فيقتله.

دعا بنو ربيعة بن عبد شمس بني هاشم إلى البراز يوم بدر ، فخرج علي (عليه‌السلام ) فقتل الوليد ، واشترك هو وحمزة في قتل عتبة بن ربيعة. ودعا طلحة إلى البراز يوم اُحد ، فخرج (عليه‌السلام ) إليه فقتله. ودعا مرحب إلى البراز يوم خيبر ، فخرج (عليه‌السلام ) إليه فقتله. ودعا عمرو بن عبد ود يوم الخندق إلى البراز ، فخرج (عليه‌السلام ) إليه فقتله.

قال ابن أبي الحديد : وإنّ خروجه إلى عمرو يوم الخندق أجلُّ من أنْ يُقال جليلة ، وأعظم من أنْ يُقال عظيمة ، وما هي إلّا كما قال أبو الهذيل ، وقد سأله سائل : أيّما أعظم منزلة عند الله علي أمْ غيره ؟ فقال : يا ابن أخي ، والله ، لَمبارزة علي عمراً يوم الخندق تعِدل أعمال المهاجرين والأنصار وطاعتهم ، وتُربي عليها ، فضلاً عن رجل واحد.

وروي عن ربيعة بن مالك ، قال : أتيت حذيفة بن اليمان ، فقلت : يا أبا عبد الله ، إنّ النّاس يتحدّثون عن علي بن أبي طالب ومناقبه ، فيقول لهم أهل البصرة : إنّكم لتفرّطون في تقريض هذا الرجل ، فهل أنت مُحدّثي بحديث عنه

١٤٨

أذكره للناس ؟ فقال : يا ربيعة ، ما الذي تسألني عن علي ؟ وما الذي اُحدثك عنه ؟ والذي نفس حذيفة بيده ، لو وُضع جميع أعمال اُمّة محمّد (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) في كفّة ، منذ بعث الله محمّداً (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) إلى يوم النّاس هذا ، ووُضع عمل واحد من أعمال علي في الكفّة الاُخرى ، لرجح على أعمالهم كلِّها. فقال ربيعة : ما هذا المدح الذي لا يُقام له ولا يُقعد ولا يُحمل ؟! إنّي لأظنّه إسرافاً يا أبا عبد الله. فقال حذيفة : يا لُكَع(١) ! وكيف لا يُحمل ؟! وأين كان المسلمون يوم الخندق وقد عبر إليهم عمرو وأصحابه فملكهم الهلع والجزع ، ودعا إلى المبارزة فأحجموا عنه حتّى برز إليه عليٌّ فقتله ؟! والذي نفس حذيفة بيده ، لَعملُه ذلك اليوم أعظمُ أجراً من أعمال اُمّة محمّد (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) إلى هذا اليوم ، وإلى أنْ تقوم القيامة.

وقال جابر بن عبد الله الأنصاري -رضي‌الله‌عنه - : والله ، ما شبهت يوم الأحزاب قتل علي عمراً، وتخاذل المشركين بعده إلّا بما قصّه الله تعالى من قصة طالوت وجالوت في قوله تعالى :( فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ ) (٢) . وقال أبو بكر بن عيّاش : لقد ضرب عليُّ بن أبي طالب (عليه‌السلام ) ضربةً ما كان في الإسلام أيمن منها ، ولقد ضُرب عليٌّ (عليه‌السلام ) ضربة ما كان في الإسلام أشأم منها ؛ وهي ضربة عبد الرحمن بن ملجم.

أقول : وهي الضربة التي شقّت رأس أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) إلى موضع سجوده ، وهو في صلاته، فنادى (عليه‌السلام ) : (( قتلني اللعين ابن اليهوديّة. فُزتُ وربّ الكعبة )). أجل والله ، لمْ يكنْ في الإسلام أشأم من تلك الضربة ، فهي التي هدّمت أركان الهُدى وفصمت العُروة الوثقى ، وسدّت باب مدينة علم المصطفى.

وهناك ضربات اُخرى في الإسلام مشؤومة ؛ وهي ضربة مالك بن النّسر الكندي للحسين بن علي (عليه‌السلام )

__________________

(١) لكع : لئيم أو ذليل. - المؤلّف -

(٢) سورة البقرة / ٢٥١.

١٤٩

بالسّيف على رأسه ، وكان على رأسه برنس فقطع البرنس ووصل السّيف إلى رأسه ، فامتلأ البرنس دماً ، فقال له الحسين (عليه‌السلام ) : (( لا أكلت بيمينك ولا شربت بها ، وحشرك الله مع القوم الظالمين )).

وضربة زرعة بن شريك له على كتفه الأيسر ، وضربة رجل له بالسّيف على عاتقه الـمُقدّس ضربةً كبا بها لوجهه ، وكان قد أعيا فجعل يقوم ويكبو ، وضربة شمر بن ذي الجوشن حين جاء إليه فاحتزّ رأسه الشريف ، وهو يقول : والله ، إنّي لأحتزّ رأسك وأعلم أنّك السيّد الـمُقدّم ، وابن رسول الله ، وخير النّاس أباً و اُمّاً.

قتلُوهُ بعدَ علمٍ منهُمُ

أنّهُ خامسُ أصحابِ العَبا

* * *

يابنَ الذينَ توارَثُوا الـ

ـعلْيَا قَبيلاً عنْ قبيلِ

والسّابقينَ بمجدهمْ

في كلِّ جيلٍ كلَّ جيلِ

إنْ تُمسَّ مُنكسِرَ اللّوا

ملقىً على وجهِ الرُّمولِ

فلقدْ قُتلتَ مُهذَّباً

منْ كلِّ عيبٍ في القتيلِ

جمُّ الـمِناقبِ لمْ تكُنْ

تُعطي العِدا كفَّ الذليلِ

يُهدَى لك الذِّكرُ الجميـ

ـلُ على الزَّمانِ الـمُستطيلِ

* * *

١٥٠

المجلس المئتين

في كتاب روضة الواعظين بإسناد ذكره : أنّ قريشاً أصابتهم أزمة(١) شديدة ، وكان أبو طالب ذا عيال كثير ، فقال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) للعبّاس عمّه - وكان من أيسر بني هاشم - : (( يا عبّاس ، إنّ أخاك أبا طالب كثير العيال ، وقد أصاب النّاس ما ترى من هذه الأزمة ، فانطلق بنا نخفّف عنه من عياله ؛ آخذ من بنيه رجلاً ، وتأخذ من بنيه رجلاً ، فنكفهما عنه )). قال العبّاس : نعم. فانطلقا حتّى أتيا أبا طالب ، فقالا : إنّا نُريد أنْ نخففّ عنك عيالك حتّى ينكشف عن النّاس ما هم فيه. فقال أبو طالب : إنْ تركتما لي عقيلاً ، فاصنعا ما شئتما. فأخذ رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) عليّاً (عليه‌السلام ) فضمّه إليه ، وأخذ العبّاس جعفراً فضمّه إليه. فلَمْ يزل علي بن أبي طالب (عليه‌السلام ) مع رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) حتّى بعثه الله نبيّاً ، واتّبعه عليٌّ وآمن به وصدّقه، ولَمْ يزل جعفر مع العبّاس حتّى أسلم واستغنى عنه.

قال الصادق (عليه‌السلام ) : (( أوّل جماعة كانت ، أنّ رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) كان يُصلّي وأمير المؤمنين معه ، إذ مرّ أبو طالب به وجعفر معه ، قال : يا بُني ، صِلْ جناحَ ابن عمِّك. فلمّا أحسّه رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) تقدَّمَهما ، وانصرف أبو طالب مسروراً ، وهو يقول :

إنّ عليّاً وجعفراً ثِقتِي

عندَ مُلمِ الزَّمانِ والكُرَبِ

لا تخْذُلا وانْصُرا ابنَ عمِّكُما

أخي لاُمِّي منْ بينهمْ وأبي

__________________

(١) الأزْمَة ، بالفتح فالسكون : الشِّدَّة ، ويجوز : أزَمَة بفتحتين. - المؤلّف -

١٥١

واللهِ لا أخذلُ النّبيَّ ولا

يخذلُهُ منْ بنيَّ ذو حسبِ

قال أبو الحسن المدائني : كتب معاوية إلى أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) : يا أبا الحسن ، إنّ لي فضائل كثيرة ؛ كان أبي سيّداً في الجاهليّة ، وصُيّرت ملكاً في الإسلام ، وأنا صهر رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) وخال المؤمنين ، وكاتب الوحي. فلمّا قرأ أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) كتابه ، قال : (( أبالفضائلِ يفخر عليّ ابنُ آكلة الأكباد ؟! يا غُلام اكتب )). وأملى عليه :

محمّدٌ النّبيُّ أخي وصنوي

وحمزةُ سيّدُ الشُّهداءِ عمِّي

وجعفرٌ الذي يُضحي ويُمسي

يَطيرُ معَ الملائكةِ ابنُ اُمِّي

وبنتُ مُحمّدٍ سَكنِي وعُرسي

مَنوطٌ لحمُها بدَمِي ولحمي

وسِبطا أحمدٍ إبْنايَ منٍها

فمَنْ منكُمْ له سهمٌ كسهْمِي

سبقتُكمُ إلى الإسلامِ طُرَّاً

غُلاماً ما بلغُتُ أوانَ حِلْمي

وأوجبَ ليْ ولايتَهُ عليكُمْ

رسولُ اللهِ يومَ غديرِ خُمِّ

فويلٌ ثمّ ويلٌ ثمّ ويلٌ

لـمَنْ يلقَى الإلهَ غداً بظُلمي

فلمّا قرأه معاوية ، قال : مزّقه يا غلام ، لا يقرأه أهل الشام فيميلون نحو ابن أبي طالب.

قال عامر الشعبي : تكلّم أمير المؤمنين علي (عليه‌السلام ) بتسع كلمات ارتجلهنَّ ارتجالاً ، فقأن عيون البلاغة ، وأيتمن جواهر الحكمة ، وقطعن جميع الأنام عن اللحاق بواحدة منهنّ ؛ ثلاث منها في المناجاة ، وثلاث منها في الحكمة ، وثلاث منها في الأدب : فأمّا اللائي في المناجاة ، فقال (عليه‌السلام ) : (( إلهي ، كفى بي عزّاً أنْ أكون لك عبداً ، وكفى بي فخراً أنْ تكون لي ربّاً. أنت كما اُحبّ فاجعلني كما تُحب )) ؛ وأمّا اللائي في الحكمة ، فقال (عليه‌السلام ) : (( قيمةُ كلِّ امرئٍ ما يُحسنه ، وما هلك امرؤٌ عرف قدره ، والمرء مخبوء تحت لسانه )) ؛ وأمّا اللائي في الأدب ، فقال (عليه‌السلام ) : (( امنُنْ على مَن شئتَ

١٥٢

تكُنْ أميرَه ، واحتج إلى مَن شئتَ تكُنْ أسيرَه ، واستغنِ عمَّنْ شئتَ تكُنْ نظيرَه )). وعلي وأولاده (عليهم‌السلام ) هُم معادن الحكمة ، ومنابع الفصاحة والبلاغة ، كما أنّهم ليوث الشجاعة.

ولـمّا كان يوم كربلاء ، خطب ولده الحسين (عليه‌السلام ) في أهل الكوفة خُطباً كثيرةً ، ووعظهم بمواعظ جمّة ، فلمْ يُسمع متكلّمٌ قطّ قبله ولا بعده أبلغ في منطقٍ منه.

لهُ منْ عليٍّ في الحُروبِ شجاعةٌ

ومِنْ أحمدٍ عندَ التّكلمِ قيلُ

* * *

للسانهِ وسنانهِ

صدقانِ من طعنٍ وقيلِ

خلطَ البَراعةَ بالشَّجا

عةِ فالصَّليلُ عنْ الدليلِ

وتقدّم في بعض المواقف حتّى وقف بإزاء القوم ، فجعل ينظر إلى صفوفهم كأنّهم السّيل ، ونظر إلى ابن سعد واقفاً في صناديد الكوفة ، فخطب فيهم فقال :

(( الحمد لله الذي خلق الدّنيا فجعلها دار فناء وزوال ، متصرّفة بأهلها حالاً بعد حال ، فالمغرور مَنْ غرّته والشقيّ مَنْ فتنته ، فلا تغرّنكم هذه الدّنيا ؛ فإنّها تقطع رجاء مَنْ ركن إليها وتخيب طمع مَنْ طمع فيها. وأراكم قد اجتمعتم على أمر قد أسخطتم الله فيه عليكم ، وأعرض بوجهه الكريم عنكم ، وأحلّ بكم نقمتة وجنّبكم رحمته ، فنعم الربّ ربّنا وبئس العبيد أنتم ! أقررتم بالطّاعة وآمنتم بالرسول محمّد (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ، ثمّ إنّكم زحفتم إلى ذريّته وعترته تريدون قتلهم ، لقد استحوذ عليكم الشيطان فأنساكم ذكر الله ، فتبّاً لكم ولِما تُريدون ! إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، هؤلاء قوم كفروا بعد إيمانهم ، فبُعداً للقوم الظالمين )). فقال ابن سعد : ويلكم كلّموه ! فإنّه ابن أبيه. فوالله ، لَو وقف فيكم هكذا يوماً جديداً ، لما انقطع ولما حصر.

فتقدّم شمر فقال : يا حسين ، ما هذا الذي تقول ؟ أفهمنا حتّى

١٥٣

نفهم. فقال : (( أقول : اتّقوا الله ربّكم ولا تقتلوني ؛ فإنّه لا يحلّ لكم قتلي ولا انتهاك حرمتي ؛ فإنّي ابن بنت نبيّكم ، وجدّتي خديجة زوجة نبيّكم ، ولعلّه قد بلغكم قول نبيّكم : الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة )). ثمّ قال : (( فإنْ كنتم في شكّ من هذا ، أفتشكّون في أنّي ابن بنت نبيّكم ؟ فوالله ، ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبيّ غيري فيكم ولا في غيركم. ويحكم! أتطلبونني بقتيل منكم قتلتُه أو مال لكم استهلكتُه أو بقصاص من جراحة ؟! )). فأخذوا لا يكلّمونه ، فنادى : (( يا شبث بن ربعي ، ويا حجّار بن أبجر ، ويا قيس بن الأشعث، ويا يزيد بن الحارث ، ألم تكتبوا إليّ : أنْ قد أينعت الثّمار واخضرّت الجنان ، وإنّما تقدم على جند لك مجنّدة ؟ )). فقال له قيس بن الأشعث : ما ندري ما تقول ، ولكن انزل على حكم بني عمّك فإنّهم لنْ يرَوك إلّا ما تُحب. فقال الحسين (عليه‌السلام ) : (( لا والله ، لا اُعطيكم بيدي إعطاء الذّليل ، ولا أقرّ لكم إقرار العبيد )).

بأبي أبيّ الضّيمِ لا يُعطيْ العِدى

حذَرَ المنيّةِ منه فضلَ قيادِ

* * *

فأبَى أنْ يعيشَ إلّا عزيزاً

أو تَجلَّى الكفاحُ وهو صريعُ

رُمْحُهُ من بَنانِهِ وكأنّ منْ

عزمهِ حدُّ سيفهِ مطبوعُ

* * *

المجلس الحادي بعد المئتين

ذكر ابن أبي الحديد : إنّ القول بتفضيل علي (عليه‌السلام ) قول قديم قد قال به كثير من الصحابة والتابعين ، وعُدّ من الصحابة خمسة عشر رجلاً ،

١٥٤

ثُمّ قال : وكان من بني اُميّة قوم يقولون بذلك ، منهم : خالد بن سعيد بن العاص ، وعمر بن عبد العزيز. قال : وأنا أذكر هنا الخبر المروي المشهور عن عمر بن عبد العزيز ، وهو من رواية ابن الكلبي ، قال : بينا عمر بن عبد العزيز جالساً دخل حاجبه ، ومعه امرأة ورجلان متعلّقان بها ، ومعهم كتاب من ميمون بن مهران إلى عمر فيه :

أمّا بعد ، فإنّه ورد علينا أمر ضاقت به الصدور ، وعجزت عنه الأوساع ، وهربنا بأنفسنا عنه ووكّلناه إلى عالمه ، لقوله تعالى :( وَلَوْ رَدّوهُ إِلَى الرّسُولِ وَإِلَى‏ اُولِي الأَمْرِ ) (١) ، وهذه المرأة والرجلان أحدهما زوجها والآخر أبوها ، وإنّ أباها زعم أنّ زوجها حلف بطلاقها أنْ علي بن أبي طالب (عليه‌السلام ) خير هذه الاُمّة ، وأولاها برسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ، ويزعم أنّ ابنته طُلقت منه. والزوج يقول له : كذبت وأثمت ، لقد برّ قسمي وصدقت مقالتي ، وإنّها امرأتي على رغم أنفك وغيظ قلبك. فاجتمعوا إليّ يختصمون ، وتسامع النّاس فاجتمعوا ، وقد علمت يا أميرالمؤمنين ، اختلاف النّاس في أهوائهم وتسرّعهم إلى ما فيه الفتنة ، فأحجمنا عن الحكم لتحكم فيما أراك الله.

وكتب في أسفل الكتاب :

إذا ما المشكلاتُ وردنَ يوماً

فحارتْ في تأمّلها العيونُ

وضاقَ القومُ ذَرْعاً من نباهَا

فأنتَ لها أبا حفصٍ أمينُ

لأنّك قدْ حويتَ العِلمَ طُرّاً

وأحكَمكَ التَّجاربُ والشؤونُ

وخلَّفكَ الإلهُ على الرَّعايا

فحظُّكَ فيهمُ الحظُّ الثَّمينُ

فجمع عمر بن عبد العزيز بني هاشم وبني اُميّة وأفخاذ قريش ، ثمّ قال لأبي المرأة : ما تقول ؟ فقال : هذا الرجل حلف بطلاق ابنتي كاذباً ، ثمّ أراد الإقامة معها. فقال له عمر : لعلّه لَمْ يطلّق امرأته ، فكيف حلف ؟ قال الشيخ : الذي حلف عليه أبين كذباً من أنْ يختلج في صدري منه شكّ ؛ لأنّه زعم أنّ

_________________

(١) سورة النّساء / ٨٣.

١٥٥

عليّاً خير هذه الاُمّة ، وإلّا فامرأته طالق ثلاثاً. فقال للزوج : أهكذا حلفت ؟ قال : نعم. فلمّا قال نعم ، كاد المجلس يرتجّ بأهله ، وبنو اُميّة ينظرون إليه شزراً إلّا أنّهم لمْ ينطقوا بشيء ، كلّ ينظر إلى وجه عمر ، فأكبّ عمر مليّاً ينكت الأرض بيده ، والقوم صامتون ينظرون ما يقوله ، ثمّ رفع رأسه وقال :

إذا وليَ الحكومةَ بينَ قومٍ

أصابَ الحقَّ والتمسَ السَّدادا

وما خيرُ الأنامِ إذا تعدَّى

خلافَ الحقِّ واجتنبَ الرَّشادا

ثُمّ قال : ما تقولون في يمين هذا الرجل ؟ فسكتوا. فقال : سبحان الله ! قولوا ؟ فقال رجل من بني اُميّة : هذا حكمٌ في فرج ، ولسنا نجترئ على القول فيه. قال : قلْ ما عندك ؛ فإنّ القول ما لم يحقّ باطلاً أو يبطل حقّاً جائز عليّ في مجلسي. قال : لا أقول شيئاً. فالتفت إلى رجل من ولد عقيل بن أبي طالب ، فقال : ما تقول يا عُقيلي ؟ فاغتنمها ، فقال : يا أمير المؤمنين ، إنْ جعلت قولي حكماً وحكمي جائزاً قلت ، وإلّا فالسكوت أوسع لي وأبقى للمودّة. قال : قلْ وقولك حكم وحكمك ماضٍ. فقال بنو اُميّة : ما أنصفتنا يا أمير المؤمنين ، إذ جعلت الحكم إلى غيرنا ، ونحن من لحمتك واُولي رحمك. فقال عمر : اسكتوا عجزاً ولؤماً ، عرضت ذلك عليكم آنفاً فما انتدبتم له. قالوا : لأنّك لم تعطنا ما أعطيت العقيلي. فقال : إنْ كان أصاب وأخطاتم ، وحزم وعجزتم ، وأبصر وعميتم فما ذنب عمر ؟ لا أباً لكم ، أتدرون ما مثلكم ؟ قالوا: لا. قال : لكن العقيلي يدري ، ثمّ قال : ما تقول ؟ قال : مثلهم كما قال الأوّل :

دُعيتمْ إلى أمرٍ فلمّا عجزتُمُ

تناولَهُ مَن لا يُداخله عجزُ

فلمّا رايتم ذاك أبدت نفوسكم

نداماً وهل يغني من الحذر الحرزُ

فقال عمر : أحسنت وأصبت ، فقل ما سألتك عنه. قال : يا أمير المؤمنين ،

١٥٦

برّ قسمه ، ولم تُطلّق امرأته. قال : وأنّى علمت ذلك ؟ قال : نشدتك الله يا أمير المؤمنين ، ألم تعلم أنّ رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) قال لفاطمة (عليها‌السلام ) ، وهو عندها في بيتها عائد لها : (( يا بُنيّة ، ما علّتُك ؟ )). قالت (عليها‌السلام ) : (( الوعك يا أبتاه )). - وكان علي (عليه‌السلام ) غائباً في بعض حوائج النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) - فقال لها (( أتشتهين شيئاً ؟ )). قالت (عليها‌السلام ) : (( نعم ، أشتهي عِنباً، وأنا أعلم أنّه عزيز وليس وقت عنب )). فقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : (( إنّ الله قادر على أنْ يجيئنا به )). ثُمّ قال (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : (( اللهمّ ، ائتنا به مع أفضل اُمّتي عندك منزلة )). فطرق علي (عليه‌السلام ) الباب ودخل ، ومعه مكتل قد ألقى عليه طرف ردائه ، فقال له النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : (( ما هذا يا علي ؟ )). قال : (( عنب التمسته لفاطمة )). فقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : (( الله أكبر الله أكبر ! اللهمّ ، كما سررتني بأنْ خصصت عليّاً بدعوتي ، فاجعل فيه شفاءَ بُنيّتي )). ثُمّ قال (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : (( كُلي على اسم الله يا بُنيّة )). فأكلت ، وما أنْ خرج رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) حتّى استلقت وبرئت.

فقال عمر : صدقت وبررت ، أشهد لقد سمعته ووعيته. يا رجل ، خُذ بيد امرأتك ؛ فإنْ عرض لك أبوها فاهشم أنفه. ثمّ قال : يا بني عبد مناف ، والله ، ما نجهل ما يعلم غيرنا ، ولا بنا عمىً في ديننا ، ولكن كما قال الأوّل :

تصيَّدتْ الدُّنيا رجالاً بفخِّها

فلمْ يُدركوا خيراً بل استحْقَبوا شَرّا

وأعماهُمُ حبُّ الغِنى وأصمَّهُمْ

فلمْ يُدركوا إلّا الخسارةَ والوزْرا

قال : فكأنّما اُلقم بني اُميّة حجراً ، ومضى الرجل بامرأته.

وعمر بن عبد العزيز هو الذي رفع السّب عن مولانا أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) ، وردّ فدكاً إلى أولاد فاطمة (عليها‌السلام ) ، وقد كان بنو اُميّة جعلوا سبّه فرضاً من الفروض الواجبة ، فكان يُسبّ على جميع منابر الإسلام في أقطار الأرض ، في الأعياد والجماعات حتّى رفعه عمر بن عبد العزيز في زمن خلافته. وفي ذلك يقول الشريف الرضي -رضي‌الله‌عنه - :

١٥٧

يابنَ عبدِ العزْيزِ لو بكتْ العيْـ

ـنُ فتىً من اُميّةَ لبكيتكْ

أنتَ نزْهتَنا عن السّبِّ والشّتـ

ـمِ فلو أمكنَ الجزاءُ جزيتُكْ

وبنو اُميّة قد دخلوا في الإسلام كرهاً ، وبقيت في نفوسهم أحقاد بدر ويوم الفتح ، بما قتله منهم بنو هاشم حين كان جدّهم أبو سفيان يحارب رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) بكلِّ جهد ويكيد الإسلام ما استطاع ، فلمّا كان يوم الفتح ، أظهر الإسلام ليحقن دمه ، وأسرّ النّفاق ، وبقيت أحقاد بدر في نفسه ، ونفوس أبنائه وذرّيّته حتّى أظهرها يزيد يوم جيء إليه باُسارى أهل بيت النّبوّة ، ومعهم رأس الحسين (عليه‌السلام ) ورؤوس أصحابه ، وكان يزيد في منظرة على جيرون ، فأنشأ يقول :

لـمّا بَدتْ تلكَ الحمولُ وأشرقَتْ

تلكَ الشّموسُ على رُبى جيرونِ

نَعبَ الغُرابُ فقلتُ صحْ أو لا تَصحْ

فلقدْ قضيْتُ من الغريمِ دُيوني

وغريمه هو رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ، فقضى ديونه منه بقتل أولاده وذرّيّته وسبي نسائه ، وأخذ بذلك ثأره في يوم بدر ، ولـمّا اُدخلت عليه الرؤوس والأسرى ، ووُضع رأس الحسين (عليه‌السلام ) بين يديه ، جعل يقول مظهراً للفرح والشماتة ، ومجاهراً بالكفر :

ليتَ أشياخي ببدرٍ شَهدوا

جَزعَ الخزْرجِ منْ وقْعِ الأسلْ

لأهلّوا واسْتهلّوا فرحاً

ثمّ قالوا يا يزيدُ لا تشلْ

قدْ قتلْنا القَرمَ منْ ساداتِهمْ

وعَدلْناهُ ببدْرٍ فاعتَدَلْ

لعبتْ هاشمُ بالـمُلكِ فلا

خبرٌ جاء ولا وحيٌ نَزلْ

* * *

١٥٨

ألَا يابنَ هندٍ لا سقَى اللهُ تُربةً

ثويتَ بمثْواها ولا اخضرَّ عُودُها

أتسلبُ أثوابَ الخلافةِ هاشماً

وتطرِدُها عنها وأنتَ طريدُها

المجلس الثاني بعد المئتين(١)

قال الله تعالى في سورة الأحزاب :( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً * إِذْ جَآءُوكُمْ من فَوْقِكُمْ وَمن أَسْفَلَ منكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنّونَ بِاللّهِ الظّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمنونَ وَ زُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً * وَ إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَ الّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مّرَضٌ مّا وَعَدَنَا اللّهُ وَرَسُولُهُ إِلّا غُرُوراً ) (٢) إلى قوله تعالى :( وَلَمّا رَأَى الْمُؤْمنونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هذَا مَا وَعَدَنَا اللّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً * من الْمُؤْمنينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللّهَ عَلَيْهِ فَمنهُم مّن قَضَى‏ نَحْبَهُ وَمنهُم مّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدّلُوا تَبْدِيلاً * لّيَجْزِيَ اللّهُ الصّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنّ اللّهِ كَانَ غَفُوراً رّحِيماً * وَرَدّ اللّهُ الّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللّهُ الْمُؤْمنينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً ) (٣) .

نزلت هذه الآية في وقعة الأحزاب ، وتُسمّى : وقعة الخندق ، وكانت سنة خمس من الهجرة ، وسببها أنّه كان بنواحي المدينة ثلاثة بطون من اليهود ، وأصلهم من يهود فلسطين

_____________________

(١) تقدّمت وقعة الأحزاب في الجزء الثاني ، وأعدناها لزيادات لمْ تُذكر هناك.

(٢) سورة الأحزاب / ٩ - ١٢.

(٣) سورة الأحزاب / ٢٢ - ٢٥.

١٥٩

الذين جاؤوا إلى الحجاز ، وهم : بنو قينقاع وبنو النّضير وبنو قُريظة ، وكان بينهم وبين النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) معاهدة ومهادنة ، فنقصوا العهد جميعهم ، وأوّل مَن نقضه بنو قينقاع فنفاهم إلى أذرعات ، ثُمّ نقضه بنو النّضير ، أرادوا أنْ يلقوا صخرة على النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) من فوق سطح ، فأخبره جبرائيل بذلك فقام ، ثمّ قال لهم : (( اخرجوا من بلادي ولا تُساكنوني )). فامتنعوا فحاصرهم.

وجاء رجل من شجعانهم ليلاً ليغتال النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ، ومعه تسعة أنفس ، فقتله علي (عليه‌السلام ) وهربت التسعة ، فأخذ علي (عليه‌السلام ) معه جماعة ولحقوهم فقتلوهم ، فعند ذلك استولى الخوف على بني النّضير ، فطلبوا من النّبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) أنْ يسمح لهم بالخروج ، فسمح لهم على أنْ يأخذوا من أموالهم ما أمكنهم حمله عدا السّلاح ، وخرجوا إلى خيبر.

وبعد وقعة اُحد جاء جماعة من رؤساء بني النّضير ، منهم حُيَي بن أخطب إلى مكّة ، فهيّجوا قريشاً على محاربة النّبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ، فقال لهم أبو سفيان : مرحباً وأهلاً ، أحبّ النّاس إلينا مَن أعاننا على عداوة محمّد. وأرسلوا إلى قبائل من العرب فوافقتهم على ذلك ، وأرسل أبو سفيان حُيَي بن أخطب رئيس بني النّضير إلى كعب بن أسد رئيس بني قُريظة لينقض العهد ، فأبى وقال : ما رأيت من محمّد إلّا صدقاً ووفاءً. فراوده حُيَي كثيراً حتّى قَبِل ومزّق العهد ، وبلغ ذلك النّبيَّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله ).

فجاء نعيم بن مسعود ، وهو من غَطْفان ، إلى النّبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) فقال : إنّي أسلمت ولمْ يعلم بيّ قومي ، فمرني بما تريد ؟ فقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : (( خذّل عنّا ؛ فإنّ الحرب خُدعة )). فجاء إلى بني قُريظة ، وكانوا ندماءه في الجاهليّة ، فقال : قد عرفتم حُبّي لكم ؟ قالوا : لست عندنا بمتّهم. قال: قد ضاهرتم قريشاً على حرب محمّد ولستم مثلهم ، أنتم أهل هذه البلاد وهم غرباء ، فإنْ غلبهم محمّد ذهبوا إلى بلادهم وتركوكم ، فلا تحاربوا معهم حتّى يُعطوكم رهينة. وجاء إلى قريش ، وقال : بلغني أنّ قُريظة ندموا وبعثوا إلى محمّد : هل يُرضيك أنْ نأخذ

١٦٠