المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة الجزء ٤

المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة0%

المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 142

المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة

مؤلف: السيد محسن بن عبد الكريم الأمين
تصنيف:

الصفحات: 142
المشاهدات: 30786
تحميل: 2148


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 142 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 30786 / تحميل: 2148
الحجم الحجم الحجم
المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة

المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة الجزء 4

مؤلف:
العربية

جعفر الطيّار مع ملائكة السّماء , وعمُّ أبيه حمزة سيّد الشّهداء , وجدّته خديجة بنت خويلد أوّل نساء هذه الاُمّة إسلاماً , وعمّته اُم هانيء , وخاله إبراهيم ابن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) , وخالته زينب بنت رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ).

وقد جاهد لنيل أسمى المقاصد وأنبل الغايات , وقام بما لم يقم بمثله أحد قبله ولا بعده ؛ فبذل نفسه وماله وآله في سبيل إحياء الدّين وإظهار فضائح المنافقين , واختار المنية على الدّنية , وميتة العزّ على حياة الذّل , ومصارع الكرام على طاعة اللئام. وأظهر من إباء الضّيم وعزّة النّفس , والشّجاعة والبسالة ، والصّبر والثّبات ما بهر العقول وحيّر الألباب , واقتدى به في ذلك كلُّ مَن جاء بعده حتّى قال القائل :

وإنَّ الاُلى بالطفِّ من آلِ هاشمٍ

تآسَوا فسنُّوا للكرامِ التآسيَا

وحتّى قال آخر : كأن أبيات أبي تمّام ما قيلت إلّا في الحسين (عليه‌السلام ) :

وَقَد كانَ فَوتُ الـمَوتِ سَهلاً فَرَدَّهُ

إِلَيهِ الحِفاظُ الـمُرُّ وَالخُلُقُ الوَعرُ

وَنَفسٌ تَعافُ العارَ حَتّى كَأَنَّهُ

هُوَ الكُفرُ يَومَ الرَوعِ أَو دونَهُ الكُفرُ

فَأَثبَتَ في مُستَنقَعِ الـمَوتِ رِجلَهُ

وَقالَ لَها مِن تَحتِ أَخمُصِكِ الحَشرُ

تَرَدّى ثِيابَ الـمَوتِ حُمراً فَما أَتى

لَها اللَيلُ إِلّا وَهيَ مِن سُندُسٍ خُضرُ

وحقيق بمَن كان كذلك أنْ تُقام له الذّكرى في كلِّ عام , وتبكي له العيون دماً بدل الدّموع ؛ وأيُّ رجُل في الكون قام بما قام به الحسين (عليه‌السلام ) ؟!

الحسين قدّم نفسه للقتل ، وقدّم أبناءه حتّى ولده الرّضيع وإخوته ، وأبناء أخيه وأبناء عمّه للقتل , وأمواله للنّهب وعياله للأسر ؛ ليفدي دين جدّه بنفسه وبهم , ويستنقذه من أنْ يقضي عليه يزيد ، المـُجاهر بالكفر والفجور وشرب الخمور ، والقائل :

٦١

ليتَ أشياخي ببدرٍ شَهدوا

جزعَ الخزْرجِ منْ وقعِ الأسلْ

لأهلُّوا واستهلُّوا فَرحاً

ثُمَّ قالوا يا يزيدُ لا تشلْ

لعبتْ هاشمُ بالمـُلكِ فلا

خبرٌ جاءَ ولا وحيٌ نزل

الحسين مُعظَّم حتّى عند الخوارج أعداء أبيه وأخيه , فهم يُقيمون له مراسم الذّكرى والحزن يوم عاشوراء في كلّ عام. وليس أعجب ممّن يتخذ يوم عاشوراء يوم فرح وسرور ، واكتحال وتوسعة على العيال ؛ لأخبارٍ اُفتريت في زمن المـُلك العضوض اعترف بكذبها النّقاد , وسُنّةٍ سنّها الحجّاج بن يوسف عدوُّ الله وعدوُّ رسوله.

وأيُّ مُسلم تُطاوعه نفسه أو يُساعده قلبه على إظهار الفرح في يومٍ قُتل ابن بنت نبيه وريحانته، وابن وصيه ؟! وبماذا يواجه رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ، وبماذا يعتذر إليه ؟ وهو مع ذلك يدّعي محبّة الرّسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) , ومن شروط المحبّة الفرح لفرح المحبوب ، والحزن لحزنه. ولو أنصف باقي المسلمين ما عادَوا طريقة الشّيعة في إقامة الذّكرى للحسين (عليه‌السلام ) كلّ عام , وإقامة مراسم الحزن يوم عاشوراء , فهل كان الحسين (عليه‌السلام ) دون امرأةٍ يُقيم لها الفرنسيون الذكرى كلّ عام ؟ وهل عمِلتْ لاُمّتها ما عمله الحسين (عليه‌السلام ) لاُمّته أو دونه ؟

الحسين (عليه‌السلام ) سنّ للناس درساً نافعاً , ونهج لهم سبيلاً مهيعاً في تعلّم الإباء والشّمم , وطلبِ الحُرّية والاستقلال , ومقاومة الظّلم ومعاندة الجور , وطلب العزّ ونبذ الذّل , وعدم المبالاة بالموت في سبيل نيل الغايات السّامية والمقاصد الغالية ، وأبان فضائح المنافقين , ونبّه الأفكار إلى التّحلي بمحاسن الصّفات ، وسلوك طريق الاُباة والاقتداء بهم , وعدم الخنوع للظلم والجور والاستعباد.

وبكى زين العابدين (عليه‌السلام ) على مصيبة أبيه الحسين (عليه‌السلام ) أربعين سنة , وكان الصّادق (عليه‌السلام ) يبكي لتذكّر مصيبة الحسين (عليه‌السلام ) , ويستنشد الشّعر في رثائه ويبكي ، وكان الكاظم (عليه‌السلام ) إذا دخل شهر الـمُحرّم لا يُرى ضاحكاً , وتغلب عليه الكآبة حتّى تمضي عشرة أيّام منه , فإذا كان اليوم العاشر كان يوم مصيبته وحزنه.

وقال الرّضا (عليه‌السلام )

٦٢

: (( إنّ يوم الحسين أقرح جفوننا وأسال دموعنا ، وأورثنا الكرب والبلاء إلى يوم الانقضاء )).

وقد حثّوا شيعتهم وأتباعهم على البكاء ، وإقامة الذّكرى لهذه الفاجعة الأليمة في كلّ عام , وهم نعم القدوة وخير مَن اتُّبع , وأفضل مَن اُقتفي أثره واُخذت منه سنّة الرّسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ؛ فهم أحد الثّقلين الذّين اُمرنا باتِّباعهما والتّمسك بهما , ومثل باب حطّة الذي مَن دخله كان آمناً , ومفاتيح باب مدينة العلم الذي لا تًؤتى إلّا منه.

هُمُ السَّفينةُ فاز الرَّاكبونَ بها

ومَنْ تخلَّف عنها ضلَّ في تيهِ

المجلس الثّاني والثّلاثون بعد المئتين(١)

وفد على يزيد بن معاوية وفدٌ من أهل المدينة , فلمّا رجعوا قالوا : قدمنا من عند رجل ليس له دين ؛ يشرب الخمر ويضرب بالطّنابير , وتعزف عنده القيان ، ويلعب بالكلاب. فخلعوه وأخرجوا عامله على المدينة ، وحصروا بني اُميّة في دار مروان وكانوا ألف رجل ، فكتبوا إلى يزيد يستغيثون به ، ثمّ أخرجوهم من المدينة بعدما أخذوا علهيم العهود أنْ لا يعينوا عليهم ، ولا يدلّوا على عوراتهم.

فبعث يزيد إلى عمرو بن سعيد بن العاص ليرسله في جيش إلى المدينة ، فلم يقبل , فبعث إلى عبيد الله بن زياد يأمره بالمسير إلى المدينة

____________________

(١) تُنقل هذه الوقعة عن تاريخ الطبري ، والكامل في التاريخ لابن الأثير ، والفخري ، والإمامة والسّياسة ، والأخبار الطّوال ، والعقد الفريد ، والأغاني وغيرها. - المؤلّف -

٦٣

وإلى ابن الزّبير بمكّة , فقال : والله , لا جمعتُها للفاسق ؛ قتل ابن رسول الله وغزو المدينة والكعبة! واعتذر إليه.

وكان معاوية قال ليزيد : إنّ لك من أهل المدينة يوماً , فإنْ فعلوا فارمهم بأعور بني مُرّة ( يعني مسلم بن عقبة الـمُرّي ) ، وكان أعور ، وكان أحد جبابرة العرب وشياطينهم. فأمره يزيد بالمسير إلى المدينة , وكان مريضاً وهو شيخ كبير ، ثمّ أراد يزيد إعفاءه لمرضه , فقال : يا أمير المؤمنين , أنشدك الله لا تحرمني أجراً ساقه الله لي. فلم يطِقْ أنْ يركب مع الوجع ، فحُمل على سرير على أعناق الرّجال , وبعث يزيد معه اثني عشر ألفاً ، فسار مسلم بالجيش ، فلقيه بنو اُميّة في الطّريق فدلّوه على عورات أهل المدينة ورجعوا معه.

وجعل أهل المدينة في كلّ منهلٍ بينهم وبين أهل الشّام زقّاً من قطران , فكان من قدر الله تعالى أنْ مطرت السّماء , فلم يستقوا بدلوٍ حتّى وردوا المدينة. وأوصى يزيد مسلم بن عقبة , فقال: إذا ظهرت على أهل المدينة فأبحها ثلاثاً ، وكلُّ ما فيها من مال أو دابة ، أو سلاح أو طعام فهو للجُند ، وانظر علي بن الحسين فاكفف عنه واستوص به خيراً ؛ فإنّه لم يدخل مع النّاس وقد أتاني كتابه.

وكان مروان ، لـمّا أخرج أهل المدينة بني اُميّة منها , طلب من عبد الله بن عمر أنْ يُغيّب أهله عنده فلم يقبل , فقال لعلي بن الحسين (عليهما‌السلام ) : إنّ لي رحماً ، وحرمي تكون مع حرمك. فقال: (( افعل )). فبعث بامرأته وحرمه إلى علي بن الحسين (عليهما‌السلام ) ، فخرج علي (عليه‌السلام ) بحرمه وحرم مروان إلى ينبع , وقيل بل أرسل حرم مروان إلى الطّائف , وأرسل معهم ابنه عبد الله.

هكذا كانت عادة أهل البيت (عليهم‌السلام ) في الحلم والصّفح ، والمجازاة على الإساءة بالإحسان , وعلى ذلك جرى علي بن الحسين (عليهما‌السلام ) مع مروان ؛ فمروان هو الذي عادى أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) وحاربه يوم الجمل , فلمّا ظفر به أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) عفا عنه ، وهو الذي أشار على الوليد - أمير

٦٤

المدينة - بقتل الحسين (عليه‌السلام ) حين طلب منه الوليد البيعة ليزيد , فقال مروان : والله , لئن فارقك الحسين السّاعة ولم يُبايع , لا قدرت منه على مثلها أبداً حتّى تكثر القتلى بينكم وبينه , ولكن احبس الرّجل فلا يخرج من عندك حتّى يُبايع أو تضرب عنقه ، وهو الذي أخذ رأس الحسين (عليه‌السلام ) بعد قتله فوضعه بين يديه ، وقال :

يا حبَّذا بُردُكَ في اليَدَيْنِ

ولونُك الأحمرُ في الخدَّينِ

كأنّما حُفَّ بوردتينِ

شفيتُ نفسي من دمِ الحُسينِ

والله , لكأنّي أنظر إلى أيّام عثمان. فجازاه على ذلك علي بن الحسين (عليهما‌السلام ) بأنْ حفظ حرمه ونساءه ، وحماهم بعدما عرض ذلك على ابن عمر فلم يقبل.

ولم ينس زين العابدين (عليه‌السلام ) ما فعله بنو اُميّة معه من قتلهم أباه الحسين (عليه‌السلام ) , وسبيهم نساء أهل بيته , وأخذه معهم أسيراً والغلُّ في عنقه حتّى اُدخلوا على مجلس يزيد بتلك الحالة ، ولكن أبت له أعراقُه الكريمة , وهو ابنُ رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) وابنُ وصيه ، وإمامُ أهل البيت الطّاهر, إلّا أنْ يُجازي عن الإساءة بالإحسان , فحامى عن نساء مَن سبوا نساءه ، وحفظهنَّ.

وما مَثَلُ بني هاشم وبني اُميّة في ذلك ، إلّا كما قال الشاعر :

ملكنَا فكان العفوُ منَّا سجيَّةً

فلمّا ملكتُمْ سال بالدَّمِ أبطحُ

فحسْبُكُمُ هذا التَّفاوتُ بيْنَنا

وكلُّ إِناءٍ بالذي فيهِ يَنْضَحُ

المجلس الثّالث والثّلاثون بعد المئتين

لـمّا خلع أهل المدينة يزيد بن معاوية حين بلغهم أنّه يشرب الخمر ،

٦٥

ويضرب بالطّنابير ، وتغني عنده الـمُغنّيات ويلعب بالكلاب , أرسل إليهم مسلم بن عقبة الـمُرّي في اثني عشر ألفاً , فسار بهم حتّى وصل إلى المدينة , وكان أهلها قد أمّروا عليهم عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة ؛ وذلك أنّ أباه حنظلة قُتل يوم اُحد , فرأى النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) الملائكة تُغسّله؛ لأنّه كان جُنباً فسُمّي غسيل الملائكة.

ووضع لمسلم بن عقبة كرسي بين الصفّين , فجلس عليه وهو مريض , وقال : يا أهل الشّام , قاتلوا عن أميركم. وجعل يحرّضهم , واشتدّ القتال , فجعل عبد الله بن حنظلة يُقدّم أولاده واحداً بعد واحد حتّى قُتلوا بين يديه ، وكانوا ثمانية , ثمّ كُسر غمد سيفه وقاتل حتّى قُتل ، وانهزم أهل المدينة. فقُتل بضعة وسبعون رجلاً من قريش ، وبضع وسبعون رجلاً من الأنصار , وقُتل من النّاس نحو من أربعة آلاف ، وسُمّي مسلم بعد تلك الوقعة مُسرفاً , وتُسمّى وقعة الحرّة(١) .

وأباح مسرف المدينة ثلاثاً ؛ يقتلون النّاس وينهبون الأموال ، ويفتضّون النّساء حتّى وُلد في تلك السّنة ألف مولود لا يُعرف لهم أب , وكان الرّجل من أهل المدينة بعد ذلك إذا أراد أنْ يُزوّج ابنته لا يضمن بكارتها , ويقول : لعله أصابها شيءٌ في وقعة الحرَّة.

وكما أرسل يزيد الجيوش لمحاصرة مدينة الرّسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) , ومحاربة أصحاب رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) من المهاجرين والأنصار , فقد قاد جدّه أبو سفيان الجيوش لحرب رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) وأصحابه من المهاجرين والأنصار , ومحاصرة المدينة يوم اُحد والأحزاب ، وكما قتلت جدّتُه هندٌ أسد الله حمزة - عمّ رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) - على يد وحشي يوم اُحد , وبقرت بطنه ، وأكلت من كبده ومثّلت به ، قتل يزيد سبطَ رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) على يد عمر بن سعد , وقطع رأسه ، وأوطأ الخيل جسده ومثّل به

____________________

(١) الحُرّة : أرضٌ ذات حجارة سود خشنة , وكانت الوقعة في أرض بتلك الصِّفة. - المؤلّف -

٦٦

وبأصحابه ، وعلى نهج الآباء مشت الأبناء , وإنّ العصا من العُصيّة(١) , ولا تلد الحيّةُ إلّا حيَّة.

بَنى لَهُمُ الماضونَ آساسَ هَذِهِ

فَعَلّوا عَلى آساسِ تِلكَ القَواعِدِ

ودعا مسرف النّاس إلى البيعة ليزيد على أنّهم عبيد له ، يحكم في دمائهم وأموالهم وأهليهم ما شاء ؛ إنْ شاء وهب ، وإنْ شاء أعتق ، وإن ْشاء استرقّ , ومَن امتنع من ذلك قتَله ، فامتنع جماعةٌ فقُتلوا.

وجاء مروان بعليِّ بن الحسين (عليه‌السلام ) يمشي بينه وبين ابنه عبد الملك حتّى جلس بينهما , فدعا مروان بشراب ليتحرّم بذلك فشرب منه ، ثمّ ناوله عليَّ بن الحسين (عليه‌السلام ) , فقال له مسلم: لا تشرب من شرابنا. فامتنع , فقال مسلم : جئتَ تمشي بينهما لتأمن عندي ؟ والله , لو كان إليهما أمر لقتلتُك ، ولكن أمير المؤمنين أوصاني بك وأخبرني أنّك كاتبته , فإنْ شئت فاشرب. فشرب , ثمّ أجلسه معه على السّرير , ثمّ قال له : لعلّ أهلك فزعوا ؟ قال (عليه‌السلام ) : (( إي والله )). فأمر بدابة فاُسرجت له وردَّهُ ، ولم يلزمه بالبيعة ليزيد كما شرط على أهل المدينة , بل بايعه على أنّه أخوه وابنُ عمّه.

هذا مسلم بن عقبة مع كفره وطغيانه وتجبره ، قال لعلي بن الحسين (عليه‌السلام ) : لعلّ أهلك فزعوا. وشمر بن ذي الجوشن حمل يوم كربلاء حتّى بلغ فسطاط الحسين (عليه‌السلام ) ، فطعنه بالرّمح ، ونادى : عليّ بالنّار حتّى أحرق هذا البيت على أهله. فأفزع مُخدَّرات بيت النّبوّة وأخافهن ، فصاحت النّساء وخرجن , وصاح به الحسين (عليه‌السلام ) : (( أنت تحرق بيتي على أهلي ؟! أحرقك الله بالنّار )). فقال حميد بن مسلم : أتقتل الولدان

____________________

(١) العصا : فرس جُذيمة الأبرش. والعُصيّة ، بصيغة التّصغير : اُمّها. مثل يُضرب للشيء يُشبه أصله.

٦٧

والنّساء ؟! والله , إنّ في قتل الرّجال لَما يرضى به أميرك. فلم يقبل , فأتاه شبث بن ربعي ، فقال: أفزعنا النّساء ثكلتك اُمّك ! فاستحيا وانصرف.

يا اُمّةً وليَ الشَّيطانُ رايتَها

ومكَّنَ البغيّ منها كلَّ تمكينِ

ما الـمُرتضى وبنُوه منْ مُعاويةٍ

ولا الفواطمُ منْ هندٍ وميسونِ

ولـمّا فرغ مسرف من وقعة الحرّة , بعث برؤوس أهل المدينة إلى يزيد ، وكتب إليه يخبره بما صنع , فلمّا اُلقيت الرؤوس بين يديه , قال :

ليتَ أشياخي ببدرٍ شَهدوا

جزعَ الخزْرجِ منْ وقعِ الأسلْ

لأهلُّوا واستهلُّوا فَرحاً

ثُمَّ قالوا يا يزيدُ لا تشلْ

وقد تمثّل بهذا الشّعر أيضاً لـمّا جيء إليه برأس الحسين بن علي (عليهما‌السلام ) ، وبسبايا أهل البيت (عليهم‌السلام ) , وزاد فيه :

لعبتْ هاشمُ بالمـُلكِ فلا

خبرٌ جاء ولا وحيٌ نزلْ

قدْ قتلنَا القَرمَ من ساداتِهمْ

وعدلنَا ميلَ بدرٍ فاعتَدلْ

فقامت زينب بنت علي (عليهما‌السلام ) ، وخطبت خطبتها الشّهيرة التي قالت من جملتها : تهتف بأشياخك تزعم أنّك تُناديهم ؟! فلترِدنَّ وشيكاً موردَهم , ولتودّنَّ أنّك شُللت وبُكمت , ولم تكُن قلتَ ما قُلتْ ، وفعلتَ ما فعلتْ.

يا آلَ أحمدَ كمْ يُكابدُ فيكُمُ

كبدي خُطوباً للقلوبِ نواكي

كبَدي بكُمْ مقروحةٌ ومدامعي

مسفوحةٌ وجوى فؤادِي ذاكي

* * *

٦٨

المجلس الرابع والثّلاثون بعد المئتين

كان الحضين(١) بن المنذر الرّقاشي من ربيعة البصرة , وكان مع علي أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) بصفّين , ولـمّا نافس شقيق بن ثور خالد بن معمر السّدوسي على راية ربيعة - وكانت مع خالد - , اصطلحا على أنْ يولّياها الحضين - وكان يومئذ شاباً حدث السّن - ، فأقبل وهو غلام يزحف بها وكانت حمراء , فأعجب علياً (عليه‌السلام ) زحفه وثباته , فقال :

لمـَنْ رايةٌ حمراءُ يخْفقُ ظلُّها

إذا قِيل قدِّمهَا حُضينُ تَقدَّما

ويدنُو بها في الصَّفِّ حتّى يَديرها

حِمامُ المنايا تَقطُر الموتَ والدَّما

تراهُ إذا مَا كان يومُ عظيمةٍ

أبَى فيهِ إلّا عِزَّةً وتكرُّما

جزى اللهُ قوماً صابَرُوا في لقائِهمْ

لَدَى البأسِ حُرّاً ما أعفّ وأكرَما

وأحزمَ صبْراً حِينَ تُدعَى إلى الوغَى

إذا كانَ أصواتُ الكُماةِ تغمْغُما

وكفى الحضين فخراً مدح علي (عليه‌السلام ) له بهذا الشّعر , وكفى قبيلة ربيعة فخراً مدح علي (عليه‌السلام ) لها بما سمعت.

وروي عن الحضين أنّه قال : أعطاني علي (عليه‌السلام ) راية ربيعة , وقال : (( بسم الله سر يا حُضين , واعلم أنّه لا يخفق على رأسك راية مثلها أبداً ؛ هذه راية رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) )).

وذكر الـمُبرّد في

____________________

(١) بالضاد المعجمة , وليس للعرب حُضين بالمعجمة غيره. - المؤلّف -

٦٩

الكامل : إنّه لـمّا فتح قتيبة بن مسلم سمرقند , أفضى إلى أثاثٍ وآلات لم يُرَ مثلها , فأراد أنْ يُري النّاس عظيم ما أنعم به الله عليه , فأمر بدار ففُرشت ، وفي صحنها قدور يُرتقى إليها بالسّلالم , فإذا بالحضين بن المنذر الرّقاشي قد أقبل - وهو شيخ كبير - والنّاس جلوس على مراتبهم , فلمّا رآه عبد الله بن مسلم - أخو قتيبة - قال لقتيبة : ائذن لي في معاتبته. قال له : لا تفعل ؛ لأنّه خبيث الجواب. فألحّ عليه , فأذن له - وكان عبد الله ضعيف العقل - فأقبل على الحضين ، فقال: أمنَ الباب دخلت يا أبا ساسان ؟ ( وهي كُنية الحضين ) قال : أجل ، أسنَّ عمّك عن تسوّر الحيطان ( وكان عبد الله تسوّر حائطاً إلى امرأة ). قال : أرأيت هذه القدور ؟ قال : هي أعظم من أنْ تُرى. قال : ما أحسب بكر بن وائل ( وهو جدّ قبيلة الحضين ) رأى مثلها ؟ قال : أجل ، ولا عيلان ( وهو جدّ قبيلة عبد الله ) ، ولو رآها لسُمّي شبعان ولم يُسمّ عيلان. قال عبد الله : أتعرف الذي يقول :

كأنَ فقاحَ الأزدِ حولَ ابنِ مسْمعٍ

إذا عُرفتْ أفواهُ بكرِ بنِ وائلِ ؟

قال : نعم أعرفه ، وأعرف الذي يقول :

قومٌ قتيبةُ اُمُّهمْ وأبوهُمُ

لولا قتيبةُ أصبحُوا في مجهلِ

قال : أمّا الشّعر فأراك ترويه , فهل تقرأ من القرآن شيئاً ؟ قال : أقرأ منه الأكثر الأطيب :( هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا ) (١) . ( يشير إلى خمولهم قِبل قتيبة )، فغضب عبد الله , وقال : والله , لقد بلغني أنّ امرأة الحضين حُملت إليه وهي حامل من غيره. قال: فما تحرّك الشّيخ عن هيئته الاُولى , ثمّ قال على رسله : وما يكون تلد غلاماً على فراشي , فيُقال فلان بن الحضين كما يُقال عبد الله بن مسلم. فأقبل قتيبة على أخيه عبد الله ، وقال : لا يبعد الله غيرك.

وكانت باهلة من أخسِّ قبائل العرب

____________________

(١) سورة الإنسان / ١.

٧٠

وأوضعها نسباً , وكانت العرب تُعيِّر مَن ينتسب إلى باهلة , ولهم في ذلك أشعار كثيرة ، قال بعضهم :

إِذا باهِلِيٌّ تَحتَهُ حَنظَلِيَّةٌ

لَهُ وَلَدٌ مِنها فَذاكَ الـمُذَرَّعُ

والـمُذرّع : الذي اُمّه أشرف من أبيه.

وقال الآخر :

وما ينفعُ الأصلُ منْ هاشمٍ

إذا كانتْ النّفسُ منْ باهلهْ

وقال الآخر :

ولو قيلَ للكلبِ يا باهليْ

عوى الكلبُ منْ لؤمِ هذا النَّسبِ

وروي : أنّ الأشعث بن قيس قال للنّبيِّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : أتتكافأ دماؤنا ؟ قال : (( نعم , ولو قتلتَ رجُلاً من باهلة , لقتلتُك )). وقيل لرجل : أيسرّك أنْ تدخل الجنّة وأنت باهلي ؟ قال : بشرط أنْ لا يعلم أهلُها بذلك. وكانت باهلة مع ذلك منحرفة عن أهل البيت (عليهم‌السلام ) , مواليه لبني اُميّة ، كما كانت ربيعة مع شرفها من القبائل الموالية لأمير المؤمنين (عليه‌السلام ) , وأبلت معه بصفّين بلاءً حسناً.

ومسلم بن عمرو الباهلي أبو قتيبة هو الذي قال لمسلم بن عقيل ما قال , حين اُتي بابن عقيل أسيراً إلى ابن زياد بالكوفة ؛ وذلك أنّ مسلماً لـمّا اُسر بالكوفة بعد محاربته مع ابن الأشعث , حُمل إلى ابن زياد , فلمّا وصل إلى باب القصر وقد اشتدَّ به العطش ، وعلى باب القصر ناس جلوس فيهم عمرو بن حريث ، ومسلم بن عمرو الباهلي , وإذا قلّةٌ فيها ماء بارد , قال مسلم بن عقيل : اسقوني من هذا الماء. فقال له مسلم بن عمرو الباهلي : أتراها ما أبردها ؟ لا والله , لا تذوق منها قطرة حتّى تذوق الحميم في نار جهنّم. فقال له مسلم بن عقيل : ويلك ! مَن أنت؟ قال : أنا الذي عرف الحقّ إذ أنكرته , ونصح لإمامه إذ غششته , وأطاعه إذ خالفته ؛ أنا مسلم بن

٧١

عمرو الباهلي. فقال له ابن عقيل : لاُمّك الثّكل ! ما أجفاك وأفظّك وأقسى قلبك ! أنت يابن باهلة أولى بالحميم والخلود في نار جهنم منّي.

ثمّ جلس فتساند إلى الحائط ، وبعث عمرو بن حريث غلامه فأتاه بقلّة عليها منديل وقدح , فصب فيه ماءً فقال له : اشرب. فأخذ كلمّا شرب امتلأ القدح دماً من فمه ، فلا يقدر أنْ يشرب - وكان قد ضربه بكر بن حمران بالسّيف على فمه فقطع شفته العليا ، وأسرع السّيف في السّفلى ، وفُصلت لها ثنيّتان - ففعل ذلك مرّة أو مرّتين , فلمّا ذهب في الثّالثة ليشرب , سقطت ثناياه في القدح , فقال : الحمد لله ، لو كان لي من الرّزق المقسوم لشربته.

يا مُسلمُ بنَ عقيلٍ لا أغبَّ ثرَى

ضريحِكَ الـمُزنُ هطّالاً وهتّانا

بذلتَ نفْسكَ في مرضاةِ خالِقِها

حتّى قضيتَ بسيفِ البغْي ظمْآنا

كأنَّما نفسُك اختارتْ لها عَطشاً

لـمّا دَرتْ أنْ سيقضِي السِّبطُ عطْشَانا

فلَمْ تُطقْ أنْ تسيغَ الماءَ عن ظمأٍ

منْ ضربةٍ ساقها بكرُ بنُ حمرانا

المجلس الخامس والثّلاثون بعد المئتين

روى الطّبرسي في الاحتجاج عن ثابت البناني ، قال : كنتُ حاجّاً وجماعة عبّاد البصرة , فلمّا أنْ دخلنا مكّة رأينا الماء ضيّقاً وقد اشتد بالنّاس العطش لقلّة الغيث , ففزع إلينا أهل مكّة والحجّاج يسألوننا أنْ نستسقي لهم , فأتينا الكعبة وطفنا بها ، ثمّ سألنا الله خاضعين متضرّعين بها, فمنعنا الإجابة , فبينا نحن كذلك إذا نحن بفتى قد أقبل ، قد أكبرته أحزانه وأقلقته أشجانه , فطاف بالكعبة أشوطاً ثمّ أقبل علينا , فقال : (( يا مالك بن

٧٢

دينار ، ويا ثابت البناني ، ويا أيوب السّجستاني ، ويا صالح الـمُرّي ، ويا عُتبة الغلام ، ويا حبيب الفارسي ، ويا عمر ، ويا صالح ، ويا رابعة ، ويا سعدانة ، ويا جعفر بن سُليمان )). فقلنا : لبّيك وسعديك يا فتى. فقال : (( أما فيكم أحدٌ يُحبُّه الرَّحمن ؟ )). فقلنا : يا فتى , علينا الدُّعاء وعليه الإجابة. فقال : (( ابعدوا عن الكعبة , فلو كان فيكم أحدٌ يُحبُّه الرّحمنُ , لأجابه )). ثمّ أتى الكعبة فخرَّ ساجداً , فسمعته يقول في سجوده : (( سيّدي ، بحبِّك إلّا سقيتهم الغيث )). قال : فما استتم الكلام حتّى أتاهم الغيث كأفواه القرب ، فقلت : يا فتى , منْ أين علمت أنّه يُحبُّك ؟ فقال : (( لو لم يُحبني لم يستزرني , فلمّا استزارني , علمتُ أنّه يُحبُّني , فسألتُه بحبِّه لي فأجابني )). ثمّ ولّى عنّا ، وأنشأ يقول :

مَنْ عَرفَ الرَّبَّ فلمْ تُغنهِ

معرفةُ الرَّبِّ فذاكَ الشَّقي

ما ضرَّ ذا الطَّاعةِ ما نالهُ

في طاعةِ اللهِ وماذا لقي

ما يصنعُ العبدُ بغيرِ التُّقَى

والعزُّ كلُّ العزِّ للمُتّقي

فقلت : يا أهل مكّة , مَن هذا الفتى ؟ فقالوا : هذا علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم‌السلام ).

أقول : مثل هذا الإمام في علمه وفضله ، ومناقبه وكرامته ، وزُهده وعبادته واستجابة دعائه يُحمل أسيراً مغلولاً ، تارة إلى ابن مرجانة بالكوفة ، واُخرى إلى ابن هند بالشّام ! ولـمّا اُدخل على ابن زياد مع عمّاته وأخواته, قال له: مَن أنت ؟ فقال : (( أنا عليُّ بن الحسين )). فقال : أليس قد قتل الله عليَّ بن الحسين ؟ فقال عليٌّ (عليه‌السلام ) : (( قد كان لي أخٌ يُسمّى عليّاً , قتله النّاس)). فقال : بل الله قتله. فقال علي بن الحسين (عليه‌السلام ) :( اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا ) (١) .

فغضب ابن زياد ، وقال : وبك جرأة لجوابي , وفيك بقيّة للردِّ عليَّ ! اذهبوا به فاضربوا عنقه. فتعلّقت به عمّته زينب , وقالت : يابن زياد ,

____________________

(١) سورة الزُّمر / ٤٢.

٧٣

حسبُك من دمائنا. واعتنقته ، وقالت : لا والله لا اُفارقه ، فإنْ قتلته فاقتلني معه. فنظر ابن زياد إليها وإليه ساعة ، ثمّ قال : عجباً للرحم ! والله ، إنّي لأظنُّها ودّت أنْ قتلتُها معه ، دعوه فإنّي أراه لـمَا به ( أي : إنّه شديد المرض ).

وفي رواية : أنّ علي بن الحسين (عليه‌السلام ) قال لعمّته : (( اسكتي يا عمّة حتّى اُكلّمه )). ثمّ أقبل عليه ، فقال : (( أبالقتل تُهدّدُني يابن زياد ؟! أمَا علمت أنّ القتل لنا عادة ، وكرامتَنا الشّهادة ؟ )).

فيا وقعةً لمْ يُوقعِ الدَّهرُ مثْلُها

وفادحةً تُنْسَى لديها فوادحُهْ

متَى ذُكرتْ أذكَتْ حشَى كلِّ مُؤمنٍ

بزندِ جوىً أوراهُ للحشرِ قادحُهْ

المجلس السادس والثّلاثون بعد المئتين

عن عبد الله بن الـمُبارك قال : حججت في بعض السّنين , فبينما أنا أسير في عرض الحاجّ , إذا أنا بشاب وسيم الوجه يسير ناحية عن الحاجّ بلا زاد ولا راحلة , فتقدمتُ إليه وسلمت عليه, فردَّ عليَّ السّلام , فقلتُ : مع مَن قطعت البر ؟ قال : (( مع الباري )). فعظم في عيني , فقلتُ له : أين زادك وراحلتك ؟ قال : (( زادي تقواي ، وراحلتي رجلاي ، وقصدي مولاي )). فكبر في نفسي , فقلتُ له : ممّن تكون أيّها الشّاب ؟ قال : (( هاشمي )). قلتُ : أفصح ؟ قال : (( طالبي )). قلتُ : أوضح ؟ قال : (( فاطمي )). قلتُ له : يا سيّدي , هل قلتَ شيئاً من الشّعر؟ قال : (( نعم )). قلتُ : أنشدني من شعرك. فأنشأ يقول :

نحنُ على الحوضِ ذوَّادُهُ

وتُسقَى بنا منهُ ورّادُهُ

وما فازَ مَنْ فاز إلّا بنا

وما خاب مَن حُبُّنا زادُه

٧٤

ومَنْ سرَّنا نالَ منّا لسّرورَ

ومَنْ ساءَنا ساءَ ميلادُهُ

ومَنْ كانَ غاصبُنا حقّنا

فيومُ القيامةِ ميعادُهُ

ثمّ غاب عن عيني , فلم أره حتّى أتيت مكّة المكرمة وقضيت الحجّ وأتيت الأبطح , فإذا أنا بحلقة مستديرة , فاطّلعت لأنظر مَن فيها , فإذا أنا بصاحبي الشّاب الهاشمي , فسمعته يقول :

نحنُ بنُو الـمُصطفَى ذوُو غُصصٍ

يجرعُها في الأنامِ كاظمُنا

عظيمةٌ في الأنامِ مِحنتُنا

أوّلُنا مُبْتلىً وآخرُنا

يفرحُ هذا الورَى بعيدِهم

ونحنُ أعيادُنا مآتِمُنا

والنّاسُ بالأمنِ والسُّرورِ ولا

يأمنُ طولَ الزَّمانِ خائفُنا

يحكمُ فينا والحُكمُ فيه لنَا

جاحدُنا حقَّنا وغاصبُن

فسألت عنه فقيل لي : هو زين العابدين علي بن الحسين (عليهما‌السلام ). ولم يزل سلام الله عليه في الحزنِ على أبيه مُدّة حياته حتّى لحق بربه.

وعن جابر الجعفي قال : لـمّا جرّد مولاي محمَّدٌ الباقر مولاي عليَّ بنَ الحسين (عليهم‌السلام ) ثيابه ووضعه على الـمُغتسل , وكان قد ضرب دونه حجاباً , سمعتُه ينشج ويبكي حتّى أطال ذلك , فأمهلته عن السّؤال حتّى إذا فرغ من غسله ودفنه , فأتيت إليه وسلّمت عليه ، وقلتُ له : جُعلت فداك ! ممّ كان بكاؤك وأنت تُغسّل أباك ؟ أكان ذلك حُزناً عليه ؟ قال : (( لا يا جابر , لكن لـمّا جرّدت أبي ثيابه ووضعته على المُغتسل , رأيت آثار الجامعة في عُنقه , وآثارَ جُرحِ القيد في ساقيه وفخذيه , فأخذتني الرّقة لذلك وبكيت )).

مالي أراكَ ودمعُ عينِكَ جامدٌ

أوَ ما سمعتَ بمحْنةِ السَّجّادِ

* * *

٧٥

المجلس السابع والثلاثون بعد المئتين

حجّ هشام بن عبد الملك في خلافة أخيه الوليد ومعه رؤساء أهل الشّام , فجهد أنْ يستلم الحجر فلم يقدر من ازدحام النّاس , فنصب له منبر فجلس عليه ينظر إلى النّاس , وأقبل علي بن الحسين (عليهما‌السلام ) , وهو أحسن النّاس وجهاً وأنظفهم ثوباً وأطيبهم رائحة ، فطاف بالبيت ، فلمّا بلغ الحجر الأسود , تنحَّى النّاس كلّهم وأخلوا له الحجر ليستلمه ؛ هيبة وإجلالاً له , فغاظ ذلك هشاماً وبلغ منه , فقال رجل لهشام : مَن هذا ؟ أصلح الله الأمير. قال : لا أعرفه. وكان به عارفاً؛ ولكنّه خاف أنْ يرغب فيه أهل الشّام ويسمعوا منه. فقال الفرزدق - وكان حاضراً - : أنا أعرفه ، فسلني يا شامي. قال : ومَن هو ؟ قال :

هَذا الَّذي تَعرِفُ البَطحاءُ وَطأَتَهُ

وَالبَيتُ يَعرِفُهُ وَالحِلُّ وَالحَرَمُ

هَذا اِبنُ خَيرِ عِبادِ اللَهِ كُلِّهِمُ

هَذا التَّقِيُّ النَّقِيُّ الطاهِرُ العَلَمُ

هَذا اِبنُ فاطِمَةٍ إِنْ كُنتَ جاهِلَهُ

بِجَدِّهِ أَنبِياءُ اللَهِ قَد خُتِموا

وَلَيسَ قَولُكَ مَن هَذا بِضائِرِهِ

العُربُ تَعرِفُ مَن أَنكَرتَ وَالعَجَمُ

إِذا رَأَتهُ قُرَيشٌ قالَ قائِلُها

إِلى مَكارِمِ هَذا يَنتَهي الكَرَمُ

يَكادُ يُمسِكُهُ عِرفانُ راحَتِهِ

رُكنَ الحَطيمِ إِذا ما جاءَ يَستَلِمُ

اللَهُ شَرَّفَهُ قِدماً وَعَظَّمَهُ

جَرى بِذاكَ لَهُ في لَوحِهِ القَلَمُ

أَيُّ الخَلائِقِ لَيسَت في رِقابِهِمُ

لأَوَّلِيَّةِ هَذا أَو لَهُ نِعَمُ

مَنْ يَشكُرِ اللَهَ يَشكُر أَوَّلِيَّةَ ذا

فَالدّينُ مِن بَيتِ هَذا نالَهُ الأُمَمُ

يُنمى إِلى ذُروَةِ الدينِ الَّتي قَصُرَتْ

عَنها الأَكُفُّ وَعَنْ إِدراكِها القَدَمُ

٧٦

مَن جَدُّهُ دانَ فَضلُ الأَنبِياءِ لَهُ

وَفَضلُ أُمَّتِهِ دانَت لَهُ الأُمَمُ

مُشتَقَّةٌ مِن رَسولِ اللَهِ نَبعَتُهُ

طابتْ مغارسُهُ والخيمُ والشِّيمُ

يَنشَقُّ ثَوبُ الدُجى عَن نورِ غُرَّتِهِ

كَالشَمسِ تَنجابُ عَن إِشراقِها الظُلَمُ

مِن مَعشَرٍ حُبُّهُمْ دينٌ وَبُغضُهُمُ

كُفرٌ وَقُربُهُمُ منجىً وَمُعتَصَمُ

مُقَدَّمٌ بَعدَ ذِكرِ اللَهِ ذِكرُهُمُ

في كُلِّ بِدءٍ وَمَختومٌ بِهِ الكَلِمُ

إِنْ عُدَّ أَهلُ التُّقى كانوا أَئمَّتَهُم

أَو قيلَ مَن شَيرُ أَهلِ الأَرضِ قيلَ هُمُ

لا يَستَطيعُ جَوادٌ بَعدَ جودِهِمُ

وَلا يُدانيهِمُ قَومٌ وَإِنْ كَرُموا

يُستَدفَعُ الشَرُّ وَالبَلوى بِحُبِّهِمُ

وَيُستَرَبُّ بِهِ الإِحسانُ وَالنِّعَمُ

قال : فغضب هشام , فحبسه بعسفان بين مكّة والمدينة , فقال :

أيحبسُني بينَ المدينةِ والتي

إليها قلوبُ النَّاسِ يهوي مُنيبُها

يُقلِّبُ رأساً لمْ يكنْ رأسَ سيّدٍ

وعيناً له حولاءَ بادٍ عُيوبُها

فبعث إليه هشام فأخرجه , ووجّه إليه عليُّ بن الحسين (عليه‌السلام ) عشرة آلاف درهم , وقال : (( أعذِر يا أبا فراس , فلو كان عندنا في هذا الوقت أكثر من هذا , لوصلناك به )). فردّها وقال: ما قلتُ ذلك إلّا لله , وما كنتُ لأرزأ عليه شيئاً. فقال له علي (عليه‌السلام ) : (( قد رأى الله مكانك فشكرك , ولكنّا أهل بيتٍ إذا أنفذنا شيئاً ما نرجع فيه )). فأقسم عليه , فقبلها.

هذه فضائل علي بن الحسين زين العابدين (عليه‌السلام ) ، وهذه صفاته وأحواله , فمثل هذا الإمام في عظم شأنه وجلالة قدره , يُصبح أسيراً تارة لعبيد الله بن زياد وابن مرجانة ، وتارة ليزيد بن معاوية , وهو إمام أهل البيت الطّاهر الذين أذهب الله عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيراً , والذي جعل الله ودّهم أجر الرسالة ؟!

ولـمّا أرسله ابن زياد مع السّبايا إلى يزيد بالشّام , أمر به فغُلّ بغلٍّ إلى عُنقه حتّى اُدخل على يزيد بن معاوية بتلك الحال.

٧٧

يا غَيرَةَ اللَهِ اِغضَبي لِنَبِيِّهِ

وَتَزَحزَحي بِالبيضِ عَن أَغمادِها

مِن عُصبَةٍ ضاعَت دِماءُ مُحَمَّدٍ

وَبَنيهِ بَينَ يَزيدِها وَزِيادِها

صَفَداتُ مالِ اللَهِ مِلءُ أَكُفِّها

وَأَكُفُّ آلِ اللَهِ في أَصفادِها

المجلس الثّامن والثّلاثون بعد المئتين

روي عن الصّادق (عليه‌السلام ) أنّه قال : (( كان علي بن الحسين (عليهما‌السلام ) إذا دخل شهر رمضان لا يضرب عبداً له ولا أمة , وكان إذا أذنبَ العبدُ والأمةُ يكتب عنده : أذنبَ فلان ، أذنبت فلانة يوم كذا وكذا , ولا يعاقبه حتّى إذا كان آخر ليلة من شهر رمضان دعاهم وجمعهم حوله , ثمّ أظهر الكتاب ، ثمّ قال : يا فلان ، فعلت كذا وكذا ولم اُؤدّبك ، أتذكر ذلك ؟ فيقول : بلى يابن رسول الله. حتّى يأتي على آخرهم ويُقررهم جميعاً , ثمّ يقوم وسطهم ، ويقول لهم : ارفعوا أصواتكم وقولوا : يا علي بن الحسين , إنّ ربك قد أحصى عليك كلَّما عملتَ كما أحصيتَ علينا كلّما عملنا ، ولديه كتابٌ ينطق عليك بالحقِّ لا يُغادر صغيرةً ولا كبيرة ممّا أتيت إلّا أحصاها, كما لديك كتاب ينطق بالحقِّ علينا ، لا يُغادر صغيرة ولا كبيرة ممّا أتيناها إلّا أحصاها, وتجد كلَّما عملت لديه حاضراً كما وجدنا كلّما عملنا لديك حاضراً.

فاذكر يا علي بن الحسين , ذلَّ مقامِك بين يدي ربّك الحكم العدل ، الذي لا يظلمُ مثقالَ حبّةٍ من خردل ويأتي بها يوم القيامة ، وكفى بالله حسيباً وشهيداً. فاعفُ واصفح ، يعفُ عنك المليكُ ويصفح ؛ فإنّه يقول :( وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ) (١) .

وهو يُنادي بذلك على نفسه ويُلقِّنهم وهم ينادون معه , وهو

____________________

(١) سورة النّور / ٢٢.

٧٨

واقف بينهم يبكي وينوح , ويقول : ربِّ ، إنّك أمرتنا أنْ نعفو عمّن ظَلَمنا ، وقد ظلمنا أنفسَنا , فنحن قد عفونا عمّن ظلَمنا كما أمرتَ , فاعفُ عنّا فإنّك أولى بذلك منّا ومن المأمورين. وأمرتنا أنْ لا نردَّ سائلاً عن أبوابنا , وقد أتيناك سؤآلاً ومساكين , وقد أنخْنا بفنائك وببابك نطلب نائلك ومعروفك وعطاءك , فامنُنْ بذلك علينا ولا تُخيّبنا ؛ فإنّك أولى بذلك منّا ومن المأمورين.

إلهي ، كرمتَ فأكرمني إذ كنتُ من سؤآلك ، وجدتَ بالمعروف فاخلطني بأهل نوالك يا كريم.

ثمّ يُقبل عليهم ، ويقول : قد عفوت عنكم , فهل عفوتم عنّي ما كان منّي إليكم من سوء مَلكة ؛ فإنّي مليكُ سوءٍ ، لئيمٌ ظالمٌ ، مملوكٌ لملك كريمٍ ، جوادٍ عادلٍ ، مُحسنٍ مُتفضّل ؟ فيقولون: قد عفونا عنك يا سيّدنا , وما أسأت. فيقول (عليه‌السلام ) لهم : قولوا : اللهمّ , اعفُ عن علي بن الحسين كما عفا عنّا , فأعتقه من النّار كما أعتق رقابنا من الرّق. فيقولون ذلك ، فيقول (عليه‌السلام ): اللهمّ ، آمينَ رب العالمين , اذهبوا فقد عفوت عنكم وأعتقتُ رقابكم ؛ رجاء للعفو عنّي وعتقِ رقبتي. فيعتقهم , فإذا كان يوم الفطر أجازهم بجوائز تصونهم وتُغنيهم عمّا في أيدي النّاس )).

أمثل هذا الإمام الذي هذه صفاته ، وهذا ورعه وكرمه وخوفه وهو لم يهم بمعصية , وكان سيّد أهل زمانه في علمه وفضله ، وعبادته وزهده , يُحمل أسيراً مع عمّاته وأخواته ، ومَن تخلف من أهل بيته إلى الدّعي ابن الدّعي ، عبيد الله بن زياد وابن مرجانة بالكوفة , ويُحمل مغلولاً بغلٍّ من الكوفة إلى يزيد بن معاوية بالشّام ، ومعه عمّاته وأخواته ، حتّى اُدخل على يزيد مع عمّاته وأخواته وأهل بيته وهم مُقرَّنون في الحبال ، فلمّا وقفوا بين يديه وهم على تلك الحال ، قال له علي بن الحسين (عليه‌السلام ) : (( أنشدك الله يا يزيد ، ما ظنّك برسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ، لو رآنا على هذه الصّفة ؟! )). فلمْ يبقَ في القوم أحد إلّا وبكى ، فأمر يزيد بالحبال فقُطعت ، وأمر بفكّ الغُلّ عن زين العابدين (عليه‌السلام )

٧٩

لَيسَ هَذا لِرَسولِ اللَهِ يا

اُمَّةَ الطُغيانِ وَالبغيِ جَزا

جَزَروا جَزرَ الأَضاحي نَسلَهُ

ثُمَّ ساقوا أَهلَهُ سَوقَ الإِما

المجلس التاسع والثّلاثون بعد المئتين

قال ابن الأثير في تاريخه ، قال الشّافعي : بلغني أنّ عبد الملك بن مروان قال للحجّاج : ما من أحد إلّا وهو عارف بعيوب نفسه , فعب نفسك ولا تُخبّأ منها شيئاً. قال : يا أمير المؤمنين , أنا لجوجٌ حقود. فقال له عبد الملك : إذاً بينك وبين إبليس نسب. فقال : إنّ الشّيطان إذا رآني سالمني.

قال حبيب بن أبي ثابت : قال علي (عليه‌السلام ) [ لرجل ] : (( لا تموتَ حتّى تُدرك فتى ثقيف)). قيل له : يا أمير المؤمنين , ما فتى ثقيف ؟ قال : (( ليُقالنَّ له يوم القيامة : أكفنا زاوية من زوايا جهنم. رجلٌ يملك عشرين أو بضعاً وعشرين سنة , لا يدع لله معصية إلّا ارتكبها ، حتّى لو لم تبقَ إلّا معصيةٌ واحدةٌ وبينه وبينها بابٌ مغلق لكسره حتّى يرتكبها , يقتل بمَن أطاعه مَن عصاه )). وقيل : اُحصي مَن قتله الحجّاج صبراً بغير حرب , فكانوا مئة ألف وعشرين ألفاً.

قال عمر بن عبد العزيز : لو جاءت كلّ اُمّة بخبيثها ، وجئنا بالحجّاج لغلبناهم.

قال عاصم : سمعت الحجّاج يقول للناس : والله , لو أمرتكم أنْ تخرجوا من هذا الباب فخرجتم من هذا , حلّت لي دماؤكم , ولا أجد أحداً يقرأ على قراءة ابن مسعود ( وهو أحد القرّاء السّبعة من الصّحابة ) إلّا ضربت عنقه , ولأحكّنّها من المصحف ولو بضلع خنزير.

وقال ابن أبي الحديد : كان أهل النّسك والصّلاح والدّين يتقربون إلى الحجّاج ببغض علي (عليه‌السلام ) ، وموالاة

٨٠