المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة الجزء ٥

المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة0%

المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 767

المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة

مؤلف: السيد محسن بن عبد الكريم الأمين
تصنيف:

الصفحات: 767
المشاهدات: 73522
تحميل: 2547


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 767 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 73522 / تحميل: 2547
الحجم الحجم الحجم
المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة

المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة الجزء 5

مؤلف:
العربية

المؤمن أخاه فقد فارقه )) ، فكان الذين ينظرون منه الاصطناع والارضاء يخطئون ما انتظروه ، ولا سيما اذا هم انتظروه من ارزاق رعاياه وحقوقهم التي اؤتمن عليها ، فيحسبون انها الجفوة البينة وانه الزهو المقصود وما هو بهذا ولا بتلك. انما هي شجاعة الفارس بلوازمها التي لا تنفصل منها ، وانما هو امتعاض المغموط امسيء ضناً بمن حوله يتراءى على سجيته في غير مدارات ولا رياء. فما كان يتكلف اظهار تلك الخلائق زهواً كما يسمونه أو جفوة كما يحسبونها ، بل كان قصاراه ان لا يتكلف الاخفاء.

نعم كان ملاك الأمر في أخلاق علي ، انه كان لا يتكلف اظهار شيء ولا يتكلف اخفاء شيء ولا يقبل التكلف حتى من مادحيه ، فربما أفرط الرجل في الثناء عليه وهو متهم عنده حتى يعلن له طويته ويقول له : (( انا دون ما تقول وفوق ما في نفسك )).

وكانت قلة التكلف هذه توافق منه خليقته الكبرى الشجاعة والبأس والامتلاء باثقة والمنعة. وكانت تسلك معه مسلك الحقيقة والمجاز على السواء. كأنه يعني ما يصنع وهو لا يعنيه وانما يجيء منه على البديهة كما تجيء الاشياء من معادنها : كان مثلا يخرج إلى مبارزيه حاسر الرأس ومبارزوه مقنعون بالحديد. افعجيب منه ان يخرج اليهم حاسر النفس وهم مقنعون بالحيلة والرياء ؟ وكان يغفل الخضاب احيانا ويرسل الشيب ناصعاً

٢٠١

وهو لا يحرم خضابه في غير ذلك من الاحيان. افعجيب منه ، مع هذا ، أن يقل اكتراثه لكل خضاب ساترا ما ستر ، أو كاشفاً ما كشف من رأي و خليقة.

بل كانت قلة التكلف هذه توافق منه خليقة اخرى كالشجاعة في وقتها ورسوخها. وهي قريبة للشجاعة في نفس الفارس وقلما تفارقها ، ونعني بها خليقة الصدق الصراح الذي يجترىء الرجل به على الضر والبلاء كما يجترىء به على المنفعة والنعماء. فما استطاع أحد قط أن يحصي عليه كلمة خالف فيها الحق الصراح في سلمه وحربه ، وبين صحبه أو بين أعدائه ، ولعله كان أحوج إلى المصانعة بين النصراء مما كان بين الأعداء ، لأنهم أرهقوه باللجاجة واعنتوه بالخلاف. فما عدا معهم قول الصدق في شدة ولا رخاء وكان ابدا عند قوله : (( علامة الايمان ان تؤثر الصدق حيث يضرك ، على الكذب حيث ينفعك )).

وصدق في تقواه وايمانه كما صدق في عمل يمينه ومقالة لسانه.فلم يعرف أحد من الخلفاء أزهد منه في لذة الدنيا أو سيب الدولة وكان وهو أمير للمؤمنين يأكل الشعير وتطحنه امرأته بيديها ، قال عمر بن العزيز وهو من اسرة أمية التي تبغض علياً وتخلق له السيئات وتخفي ما توافر له من الحسنات : (( أزهد الناس في الدنيا علي بن ابي طالب )). وقال سفيان ((ان علياً لم يبن آجرة على آجرة ولا لبنة على لبنة ولا قصبة على قصبة)) وقد ابي ان ينزل القصر الأبيض بالكوفة ايثاراً للخصائص التي يسكنها الفقراء.

٢٠٢

وعلى هذا الزهد كان علي أبعد الناس من كزازة طبع وضيق حظيرة وجفاء عشرة ، بل كانت فيه سماحة يتبسط فيها حتى يقال دعابة ، وروي عن عمر بن الخطاب انه قال له : لله ابوك لو لا دعابة فيك )) وانه قال لمن سألوه في الاستخلاف (( وان ولي علي ففيه دعابة )).

وأغرق عمرو بن العاص في وصف الدعابة فسماها (( دعابة شديدة )) وطفق يرددها بين أهل الشام ليقدح بها في صلاح علي للخلافة ، وانما نقول ان عمرو بن العاص أغرق في هذا الوصف ، وان الدعابة المعيبة لم تكن قط من صفات علي لأن تاريخ علي وأقواله ونوادره مع صحبه وأعدائه محفوظة لدنيا لا نرى فيها دليلا على خلق الدعابة فضلا عن الدليل على الافراط فيه. فان كان هذا الوصف أثر فربما كان مرجع ذلك ان علياً خلا من الشغل الشاغل سنين عدة ، فأعفاه الشغل الشاغل من صارمته واسلمه حينا إلى سماحته وأحاديث صحبه ومريديه فحسب هذه الدعة من الدعابة البريئة ثم بالغ فيها المبالغون ، ولم يثبتوها بقصة واحدة أو شاردة واحدة تجيز لهم ما تقولوه.

وقد كانت لعلي صفات ومزايا فكرية تناصي المشهور المتفق عليه من صفاته النفسية ومزياه الخلقية ، فاتفق خصومه وأنصاره على بلاغته واتفقوا على علمه وفطنته ، وتفرقوا فيها عدا ذلك من رأيه في علاج الأمور ودهائه في سياسة الرجال.

٢٠٣

والحق الذي لا مراء فيه ان علياً كان صاحب الفطنة النافذة وانه أشار على عمر وعثمان احسن المشورة في مشكلات الحكم والقضاء ، وكان يفهم أخلاق الناس فهم العالم المراقب لخفايا الصدور ويشرحها في عظاته وخطبه شرح الأريب اللبيب.

الى هنا متفق عليه لا يكثر فيه الخلاف ، ثم يفترق الناس في رأية رأيين ، فيقول اناس انه كان على قسط وافر من الفهم والمشورة ، ولكنه عند العمل لا يرى ما تقضي به الساعة الحازبة ولا ينتفع بما يراه. ويقول أناس بل هو الاضطرار والتحرج يقيدانه ولا يقيدان أعداءه وانهم لدونه في الفطنة والسداد. وهو قد اعتذر لنفسه بما شابه من هذا العذر حين قال : (( والله ما معاوية بادهى مني ، ولكنه يغدر ويفجر ، ولو لا كراهية الغدر لكنت من ادهى الناس)).

ولكننا نستطيع ان نجزم هنا بحقيقتين لا نحسبهما تتسعان لجدال طويل ، وهما ان أحداً لم يثبت قط ان العمل بالآراء الخرى كان أجدى وانجع في فض المشكلات من العمل برأي الأمور خيراً من تصريفه ، لو وضعوا في موضعه واصطلحت عليهم المتاعب التي اصطلحت عليه.

هذه صفات تنتظم في نسق موصول : رجل شجاع لأنه قوي. وصادق لأنه شجاع ، وزاهد مستقيم لأنه صادق ، ومثار

٢٠٤

للخلاف لأن الصدق لا يدور بصاحبه مه الرضا والسخط والقبول والنفور ، وأصدق الشهادات لهذا الرجل الصادق ان الناس قد أثبتوا له في حياته أجمل صفاته المثلى ، فلم يختلفوا على شيء منها الا الذي اصطدم بالمطامع وتفرقت حوله الشبهاب ، وما من رجل تتعسف المطامع أسباب الطعن فيه ثم تنفذ منه إلى صميم.

المجلس التاسع

مفتاح شخصيته

(( آداب الفروسية )) هي مفتاح هذه الشخصية النبيلة الذي يفضي منها كل مغلق ويفسر منها كل ما احتاج الى تفسير.

وآداب الفروسية هي تلك الآداب التي نلخصها في كلمة واحدة ((النخوة)).

وقد كانت النخوة طبعاً في علي فطر عليه ، وادبا من آداب الاسرة الهاشمية نشأ فيه ، وعادة من عادات الفروسية العملية التي يتعودها كل فارس شجاع متغلب على الأقران ، وان لم يطبع عليها وينشأ في حجرها لأن الغلبة في الشجاع أنفة تابي عليه ان يسف الى ما يخجله ويشينه ولا تزال به حتى تعلمه النخوة تعلماً ،

٢٠٥

وتمنعه ان يعمل في السر ما يزرى به في العلانية. وهكذا كان علي في جميع أحواله واعماله : بلغت به نخوته الفرسية غايتها المثلى ، ولا سيما في معاملة الضعفاء من الرجال والنساء. فلم ينس الشرف قط ليغتنم الفرصة ، ولم يساوره الريب قط في الشرف والحق أنهما قائمان دائمان كانهما مودعان في طبائع الأشياء. فاذا صنع ما وجب عليه ، فلينس من شاء ما وجب عليهم ، وان أفادوا كثيراً وباء هو بالخسار.

أصاب المقتل من عدوه مرات فلم يهتبل الفرصة السانحة بين يديه ، لأنه أراد أن يغلب عدوه غلبة الرجل الشجاع الشريف ، ولم يرد ان يغلبه او يقتنص منه كيفما كان سبيل الغلب والقصاص.

قال بعض من شهدوا معركة صفين : لما قدمنا على معاوية وأهل الشام بصفين وجدناهم قد نزلوا منزلاً اختاروه مستويا بساطاَ واسعاً واخذوا الشريعة - اي مورد الماء - فهي في أيديهم ، وقد أجمعوا على ان يمنعونا الماء. ففزعنا الى أمير المؤمنين فخبرناه بذلك فدعى صعصعة بن صوحان فقال له : ائت معاوية وقل له انا سرنا مسيرنا اليكم ونحن نكره قتالكم قبل الاعذار اليكم ، وانك قدمت الينا خيلك ورجالك فقاتلتنا قبل ان نقاتلك ، ونحن من رأينا الكف عنك ندعوك ونحتج ندعوك ونحتج عليك وهذه اخرى قد فعلتموها اذ حلتم بين الناس وبين الماء. والناس غير منتهين أو يشربوا فابعث الى أصحابك فليخلوا بين الناس وبين الماء ويكفوا

٢٠٦

ثم ننظر فيما بيننا وبينكم وفيما قدمنا له وقدمتم له.

ثم قال راوي الخبر ما معناه ان معاوية سال أصحابه فأشاروا عليه ان يحول بين علي وبين الورود غير حافل بدعوته الى السلم ولا بدعوته الى المفاوضة في أمر الخلاف ، فأرسل معاوية مدداً الى حراس المورد يحمونه ويصدون من يقترب منه ، ثم كان بين العسكرين تراشق بالنبل فطعن بالرماح فضرب بالسيوف حتى اقتحم اصحاب علي طريق الماء وملكوه.

وهنا الفرصة الكبرى لو شاء علي ان يهتبلها ، وان يغلب اعداءه بالظمأ كما أرادوا ان يغلبوه قبل ساعة. وقد جاء اصحابه يقولون : والله لا نسقيهم. فكانما كان هو سفير معاوية وجنده اليهم يتشفع لهم ويستلين قلوبهم من أجلهم. وصاح بهم : (( خذوا من الماء حاجتكم وارجعوا الى عسكركم وخلوا عنهم ، فان الله عز وجل قد نصركم عليهم بظلمهم وبغيهم )).

ولاحت له فرصة قبل هذه الفرصة في حرب أهل البصرة ، فأبي ان يهتبلها وأغضب أعوانه انصافاً لأعدائه ، لأنه نهاهم ان يسلبوا المال ويستبيحوا السبي وهو في رأيهم حلال. وقالوا اتراه يحل لنا دماءهم ويحرم علينا اموالهم ؟ فقال : (( انما القوم امثالكم من صفح عنا فهو منا ونحن منه، ومن لج حتى يصاب فقتاله مني على الصدر والنحر )). وسن لهم سنة الفروسية أو سنة النخوة حين اوصاهم ان لا يقتلوا مدبراً ولا يجهزوا على جريح ولا يكشفوا ستراً ولا يمدوا يداً الى مال.

٢٠٧

ومن الفرص التي أبت عليه النخوة ان يهتبلها فرصة عمرو بن العاص وهو ملقى على الارض مكشوف السوأة لا يبالي ان يدفع عنه الموت بما حضره من وقاء ، فصدف بوجهه عنه آنفاً ان يصرع رجلا يخاف الموت هذه المخافة التي لا يرضاها من منازله في مجال صراع. ولوم غير علي اتيح له ان يقضي على عمرو لعلم انه قاض على جرثومة عداء ودهاء فلم يبال ان يصيبه حيث ظفر به.

لقد كان رضاه من الآداب في الحرب والسلم رضا الفروسية العزيزة من جميع آدابها ومأثوراتها ، فكان يعرف العدو عدواً حيثما رفع السيف لقتاله. ولكنه لا يعادي امرأة ولا رجل مولياً ولا جريحاً عاجزاً عن نضال ولا ميتاً ذهبت حياته ولو ذهبت في سبيل حربه. بل لعله يذكر ماضيه يومئذ فيقف على قبره ليبكيه ويرثيه ويصلي عليه. وهذه الروسية هي التي بغضت اليه ان ينال اعداءه بالسباب وليس من دأب الفارس ان ينال اعداءه بغير الحسام.

فلما سمع قوماً من أصحابه يسبون أهل الشام أيام حروبهم بصفين قال لهم : (( اني اكره ان تكونوا سبابين ، ولكنكم لو وصفتم اعمالهم وذكرتم حالهم كان أصوب الى القول ، وابلغ في العذر ، وقلتم مكان سبكم اياهم : اللهم احقن دماءنا ودماءهم ، واصلح ذات بيننا وبينهم ، واهدهم من ضلالهم حتى يعرف الحق من جهله ، ويرعوي عن الغي والعدوان من لج به )).

٢٠٨

ولد علي في داخل الكعبة ، وكرم الله وجهه عن السجود لأصنامها ، فكأنما كان ميلاده ثمة ايذانا بعهد جديد للكعبة وللعبادة فيها.

وكاد علي ان يولد مسلماً. بل لقد ولد مسلماً على التحقيق اذا نحن نظرنا الى ميلاد العقيدة والروح ، لأنه فتح عينيه على الاسلام ، ولم يعرف قط عبادة الأصنام ، فهو تربى في البيت الذي خرجت منه الدعوة الاسلامية وعرف العبادة من صلاة النبي وزوجته الطاهرة قبل ان يعرفها من صلاة أبيه وأمه ، وجمعت بينه وبين صاحب الدعوة قرابة مضاعفة ومحبة أوثق من محبة القرابة ، فكان ابن عم محمد وربيبه الذي نشأ في بيته ونعم بعطفه وبره. وقد رأينا الغرباء يحبون محمداً ويؤثرونه على آبائهم وذويهم فلا جرم يحبه هذا الحب من يجمعه به جد ويجمعه به بيت ويجمعه به جميل معروف : جميل ابي طالب يؤديه محمد وجميل محمد يحسه ابن ابي طالب وياوي اليه.

وملأ الدين قلبا لم ينازعه فيه منازع من عقيدة سابقة ولم يخالطه شوب يكدر صفاءه ويرجع به الى بقاياه. فبحق ما يقال ان علياً كان المسلم الخالص على سجيته المثلى ، وان الدين الجديد لم يعرف قط أصدق اسلاماً منه ولا أعمق نفاذاً فيه.

كان المسلم حتى المسلم في عبادته ، وفي علمه وعمله ، وفي قلبه

٢٠٩

وعقله ، حتى ليصح ان يقال انه طبع على الاسلام فلم تزده المعرفة الا ما يزيده التعليم على الطباع.

كان عابداً يشتهي العبادة كانها رياضة تريحه وليست أمراً مكتوبا عليه.

وكان علي محجة في الاسلام لا يحيد عنها لبغية ولا لخشية. وآثر الخير كما يراه على الخير كما يراه الناس.

وكان دينه له ولعدو دينه فما كان الحق عنده لمن يرضاه دون من يقلاه ، ولكنه كان الحق لكل من استحقه وان بهته وآذاه.

وجد درعه عند رجل نصراني فاقبل به الى شريح - قاضيه - يخاصمه مخاصمة رجل من عامة رعاياه ، وقال : انها درعي ولم ابع ولم أهب ، فسأل شريح النصراني : ما تقول فيما يقول أمير المؤمنين قال النصراني : ما الدرع الا درعي وما أمير المؤمنين عندي بكاذب فالتفت شريح الى علي يسأله. يا أمير المؤمنين هل من بينة ؟.

فضحك علي وقال : أصاب شريح. ما لي بينة. فقضى بالدرع للنصراني فأخذها ومشى وأمير المؤمنين ينظر اليه. الا ان النصراني لم يخط خطوات حتى عاد يقول : اما انا فأشهد ان هذه أحكام أنبياء. امير المؤمنين يدينني الى قاضيه فيقضي عليه.

اشهد ان لا الله الا الله وان محمداً رسول الله ، الدرع والله درعك يا أمير المؤمنين. اتبعت الجيش وأنت منطلق الى صفين فخرجت من بعيرك الأوراق. فقال : اما اذا اسلمت فهي لك. وشهد الناس

٢١٠

هذ الرجل بعد ذلك وهو من اصدق الجند بلاء في قتال الخوارج يوم النهروان.

واحسن الاسلام علماً وفقهاً كما أحسنه عبادة وعملاً. فكانت فتاواه مرجعاً للخلفاء والصحابة في عهود الي بكر وعثمان وعمر. وندرت مسألة من مسائل الشريعة لم يكن له رأي فيها يؤخذ به أو تنهض له الحجة بين أفضل الآراء.

الا ان المزية التي امتاز بها علي بين فقهاء الاسلام في عصره انه جعل الدين موضوعاً من موضوعات التفكير والتأمل ولم يقصره على العبادة واجراء الاحكام ، فاذا عرف في عصره أناس تفقهوا في الدين ليصححوا عبادته ويستنبطوا منه أقضيته واحكامه فقد امتاز علي بالفقه الذي يراد به الفكر المحض والدراسة الخالصة ، وامعن فيه ليغوص في اعماقه على الحقيقة العلمية ، او الحقيقة الفلسفية كما نسميها هذه الأيام.

المجلس العاشر

تسري في صفحات التاريخ احكام مرتجلة يتلقفها من فم الى فم ، ويتوارثها جيل عن جيل ويتخذها السامعون قضية مسلمة مفروغاً

٢١١

من بحثها الاستدلال عليها ، وهي في الواقع لم تعرض قط على البحث والاستدلال ولم تتجاوز ان تكون شبهة وافقت ظواهر الأحوال ، ثم صقلتها الألسنة فعز عليها بعد صقلها ان تردها الى الهجر والاهمال. من تلك الأحكام المرتجلة قولهم ان علياً بن ابي طالب رجل شجاع ، ولكن لا علم له بخدع الحرب والسياسة.

وقد يكون كذلك أو لا يكون فسنرى بعد البحث في ارائه وآراء المشيرين عليه أي هذين القولين أدنى الى الصواب.

ولكن هل خطر لأحد من ناقديه ، في عصره او بعد عصره أن يسأل نفسه : أكان في رسع علي أن يصنع غير ما صنع ؟

وهل خطر لأحد منهم ان يسأل بعد ذلك : هبه استطاع ان يصنع غير ما صنع فما هي العاقبة ؟. وهل من المحقق انه كان يفضي بصنيعه الى عاقبة أسلم من العاقبة التي صار اليها. ؟

لم نعرف أحداً من ناقديه ، خطر له ان يسأل عن هذا او ذاك ان السؤال عن هذا او ذاك هو السبيل الوحيد الى تحقيق الصواب والخطأ في رأيه ورأي مخالفيه ، سواء كانوا من الدهاة او غير الدهاة.

والذي يبدو لنا نحن من تقدير العواقب على وجوهها المختلفة ان العمل بغير الرأي الذي سيق اليه لم يكن مضمون النجاح ولا كان مأمون الخطر ، بل وربما كان الأمل في نجاحه أضعف والخطر في اتباعه أعظم ، لو أنه وضع في موضع العمل والانجاز وخرج

٢١٢

من حين النصح والمشورة.

وهذه هي المسائل التي خالفه فيها الدهاة ، او خالفه فيها نقدة التاريخ الذين نظروا اليها من الشاطىء ، ولم ينظروا اليها نظرة الربان في غمرة العواصف والامواج.

فالمآخذ التي من هذا القبيل ، يمكن ان تنحصر في المسائل التالية وهي :

١_ عزل معاوية.

٢_ معاملة طلحة والزبير.

٣_ عزل قيس بن سعد من ولاية مصر.

٤_ تسليم قتلة عثمان.

٥_ قبول التحكيم.

وهي كلها على الأقل للخلاف والاحتجاج من كلا الطرفين فان لم يكن خلاف وكان جزم قاطع. فهو على ما نعتقد أقرب الى رأي علي وابعد من آراء مخالفيه وناقديه.

قيل في مسألة معاوية ان علياً خالف فيها رأي المغيرة وابن عباس وزياد بن حنظلة التميمي وهم جميعاً من المشهورين بالحنكة وحسن التدبير.

تلك آراء المشيرين من ذوي الحنكة ، وذلك ما عمل به الامام وارتضاه ، فأيهما على خطأ وايهما على صواب ؟.

٢١٣

سبيل العلم بذلكان نعلم أولا : هل كان الامام مستطيعاً ان يقر معاوية في عمله بالشام ؟

وان نعلم بعد هذا : هل كان اقراره ادنى الى السلامة والوفاق لو انه استطاع ؟.

وعندنا ان الامام لم يكن مستطيعاً ان يقر معاوية في عمله لسببين : اولهما انه اشار على عثمان بعزله اكثر من مرة ، وكان اقراره واقرار امثاله من الولاة المستغلين اهم المآخذ على حكومة عثمان.

فاذا اقره وقد ولي الخلافة ، فكيف يقع هذا الاقرار عند اشياعه ؟ الا يقولون انه طالب حكم لا يعنيه اذا وصل الى بغيته ما كان يقول وما سيقوله الناس ؟

واذا هو اعرض عن رأيه الاول ، فهل في وسعه ان يعرض عن آراء الثائرين الذين بايعوه بالخلافة لتغيير الحال والخروج من حكم عثمان الى حكم جديد؟

فكيف تراهم يهدأون ويطيعون اذا علموا ان الولايات باقية على حالها ، وان الاستغلال الذي شكوا منه وسخطوا عليه لا تبديل فيه ؟

وندع هذا ونزعم ان اقرار معاوية بحيلة من الحيل مستطاع. فهل هو هذا الزعم اسلم وادنى الى الوفاق ؟

كلا على الارجح ، بل على الرجحان ، الذي هو في حكم

٢١٤

التحقيق. لأن معاوية لم يعمل في الشام عمل وال طوال حايته ، ويقنع بهذا النصيب ثم لا يتطاول الى ما وراءه ، لكنه عمل فيها عمل صاحب الدولة التي يؤسسها ويدعمها له ولأبنائه من بعده.

فجمع الاقطاب من حوله ، واشترى الانصار بكل ثمن في يديه واحاط نفسه بالقوة والثروة ، واستعد للبقاء الطويل ، واغتنام الفرصة في حينها ، فأي فرصة هو واجدها خير من مقتل عثمان والمطالبة بثأره ؟

وانما كان مقتل عثمان فرصة لا يضيعها ، والا ضاع منه الملك وتعرض يوما من الأيام لضياع الولاية. وما كان مثل معاوية بالذي يفوته الخطر من عزله بعد استقرار الأمور ، ولو على احتمال بعيد فماذا تراه صانعاً اذا هو عزل بعد عام من مبايعته لعلي وتبرئته اياه من دم عثمان.

انما كان مثتل عثمان فرصة لغرض لا يقبل التأخير.

واذا كان هذا موقف علي ومعاوية عند مقتل عثمان ، فماذا كان علي مستفيداً من اقراره في عمله وتعريض نفسه لغضب أنصاره.

لقد كان معاوية أحرى ان يستفيد بهذا من علي ، لأنه كان يغنم به حسن الشهادة له وتزكية عمله في الولاية ، وكان يغنم ان يفسد الأمر على علي بين أنصاره ، فتعلو حجته من حيث تسقط حجة علي. وأصدق ما يقال بعد عرض الموقف على هذا الوجه من ناحيتيه ان صواب علي في مسألة معاوية كان ارجح من صواب

٢١٥

مخالفيه. فان لم تؤمن بها على التقدير والترجيح ، فاقل ما يقال ان الصواب عنده وعندهم سواء.

والتقدير في مسألة طلحة والزبير أيسر من التقدير في مسألة معاوية ، لأن الرأي الذي عمل به على معروف ، والآراء التي تخالفه لا تعدو واحداً من ثلاثة ، كلها أغمض عاقبة ، واقل سلامة واضعف ضمانا من رأيه الذي ارتضاه.

فالرأي الأول ان يوليهما العراق واليمن او البصرة والكوفة وكان عبد الله بن عباس على هذا الرأي فانكره الامام لأن البصرة والكوفة بهما الرجال والأموال ومتى تملكا رقاب الناس يستميلان السفيه بالطمع ويضربان الضعيف بالبلاء ، ويقويان على القوي بالسلطان ، ثم ينقلبان عليه أقدى مما كانا بغير ولاية وقد استفادا من اقامة الامام لهما في الولاية تزكية يلزمانه بها الحجة ، ويثيران بها انصاره عليه.

والرأي الثاني ان يوقع بهما ليفترقا ولا يتفقا على عمل ، وهو لا ينجح في الوقيعة بينهما الا باعطاء أحدهما وحرمان الآخر ، فمن أعطاه لا يضمن انقلابه مع الغرة السانحة ، ومن حرمه لا يأمن ان يهرب إلى الاثرة كما هرب غيره ، فيذهب إلى الشام ليساوم معاوية ، أو يبقى في المدينة على ضغينة مستورة.

على انهما لم يكونا قط متفقين حتى في مسيرهما من مكة إلى البصرة ، فوقع الخلاف في عسكرهما على من يصلي بالناس ، ولو لا

٢١٦

سعي السيدة عائشة بالتوفيق بين المختلفين لافترقا من الطريق خصمين متناقضين.

ولم تطل المحنة بهما متفقين أو مختلفين ، فانهزما بعد أيام قليلة وخرج علي من حربهما أقوى وأمنع مما كان قبل هذه الفتنة ، ولو بقيا على السلم المدخول لما انتفع بهما بعض انتفاعه بهذه الهزيمة العاجلة.

والرأي الثالث أن يعتقلهما اسيرين ، ولا يبيح لهما الخروج من المدينة إلى مكة حين سألاه الاذن بالمسير اليها ، ثم خرجا منها الى البصرة ليشنا الغارة عليه.

والواقع ان علياً قد استراب بما نوياه حين سألاه الاذن بالسفر الى مكة. فقال لهما ( ما العمرة تريدان ، وانما تريدان الغدرة ).

ولكنه لم يحبسهما ، لأن حبسهما لن يغنيه عن حبس غيرهما من المشكوك فيهم ، وقد تركه عبد الله بن عمرو ولم يستأذنه في السفر ، وسلل إلى الشام أناس من مكة ومن المدينة ولا عائق لهم أن يتسللوا حيث شاءوا ، ولو انه حبسهم جميعاً لما تسنى له ذلك بغير سلطان قاهر ، وهو في ابتداء حكمه لما يظفر بشيء من ذلك السلطان ، وأغلب الظن ان سواء الناس كانوا يعطفون عليهم وينقمون حبسهم قبل ان تثبت له البينة بوزرهم. وما أكثر المتحرجين في معسكر الامام علي من حبس الأبرياء بغير برهان ؟ لقد كان هؤلاء خلقاء ان ينصروهم عليه وقد كانوا

٢١٧

ينصرونه عليهم ، وخير له مع طلحة والزبير ان يعلنوا عصيانهم فيغلبهم من ان يكتموه فيغلبوه ويشككوا بعض انصاره في عدله وحسن مجاملته معهم.وعلى هذا كله ، حاسنوه ولم يصارحوه بعداء.

لم يكن الجيش الذي خرج من مكة الى البصرة بيائس من الخروج اليها إذا لم يصحبه طلحة والزبير فقد كانت (( العثمانية )) في مكة حزبا موفور العدد والمال. فهي مسألة تلتبس فيها الطرائق ، ولا يسعنا ان نجزم بطريقة منها أسلم ولا أضمن عاقبة من الطريقة التي سلكها علي وخرج منها غالباً عل الحجاز والعراق ، وما كان وشيكا ان يغلب عليهما لو بقي معه طلحة والزبير على فرض من جميع الفروض التي قدمناها.

أما عزل قيس بن سعد من ولاية مصر مع ان قيساً بن سعد كان أقدر أصحابه على ولاية مصر وحمايتها ، وكان كفؤا لمعاوية وعمرو بن العاص في الدهاء والمداورة ، فعزله علي لأنه شك فيه ، وشك فيه لأن معاوية أشاع مدحه بين أهل الشام ، وزعم انه من حزبه والمؤتمرين في السر بأمره.

وكان أصحاب علي يحرضونه على عزله ، وهو يستمهلهم ويراجع رأيه فيه حتى اجتمعت الشبهات لديه. فعزله وهو غير واثق من التهمة ولكنه كذلك غير واثق من البراءة. وشبهاته مع ذلك لم تكن بالقليلة ولا بالضعيفة ، فان قيساً

٢١٨

ابن سعد لم يدخل مصر الا بعد ان مر بجماعة من حزب معاوية ، فأجازوه ولم يحاربوه وهو في سبعة رجال لا يحمونه من بطشهم ، فحسبوه حي أجازوه منه العثمانية الهاربين الى مصر من دولة علي في الحجاز.

ولما بايع المصريون علياً علي يديه ، بقي العثمانيون لا يبايعون ولا يثورون ، وقالوا له : (( أمهلنا حتى يتبين لنا الأمر )) فامهلهم وتركهم وادعين حيث طاب لهم المقام بجوار الاسكندرية.

ثم أغراه معاوية بمناصرته والخروج على علي ، فكتب اليه قيس كلاماً لا الى الرفض ولا الى القبول ، ويصح لمن سمع بهذا الكلام ان يحسبه مراوغاً لمعاوية أو يحسبه مترقباً لساعة الفصل بين الخصمين اذ كان ختام كتابه إلى معاوية : (( أما متابعتك فانظر فيها ، وليس هذا مما يسرع اليه وأنا كاف عنك فلا يأتيك شيء من قبلي تكرهه ، حتى نرى وترى )).

وأراد عل ان يستيقن من الخصومة بين قيس ومعاوية فأمر قيساً ان يحارب المتخلفين عن البيعة. فلم يفعل وكتب اليه :(( متى قاتلناهم ساعدوا عليك عدوك ، وهم الآن معتزلون والرأي تركهم)).

فتعاظم شك علي وأصحابه ، وكثر المشيرون عليه بعزل قيس واستقدامه إلى المدينة. فعزله واستقدمه ، وتبين بعد ذلك انه أشار بالرأي والصواب ، وان ترك المتخلفين عن البيعة

٢١٩

في عزلتهم خير من التعجيل بحربهم ، لأنهم هزموا محمداً بن أبي بكر والي مصر الجديد ، وجرؤوا عليه من كان يصانعه ويواليه.

ولكننا نبالغ على كل حال ، اذا علقنا على هذا التصرف الجرائر التي أصابت علياً من بعدها.

ومن عجائب هذه القصة ان معاوية ندم على تقريب قيس من جوار علي ، وقال :(( لو أمددته بمائة الف لكانوا أهون علي من قيس )) لأنه ينفعه وهو قريب منه في عامة أموره ولا ينحصر نفعه له في سياسة مصر وحدها.

ثم تأني مسألة القصاص من قتلة عثمان التي كانت أطول المسائل جدلا بين علي وخصومه ، فاذا هي أقصرها جدلا مع براءة المقصد من الهوى وخلوص الرغبة في الحقيقة.

فقد طالبوه بالعقوبة ولم يبايعوه ، مع ان العقوبة لا تكون الا من ولي الأمر المعترف له باقامة الحدود.

وطالبوه به ولم يعرفوا من القتلة ، ومن هو الذي يؤخذ بدم عثمان من القبائل أو الأفراد.

واعنتوه بهذا الطلب لأنهم علموا انه لا يستطاع قبل ان تثوب السكينة إلى عاصمة الدولة ، واعفوا أنفسهم منه - وهم ولاة الدم كما يقولون - يوم قبضوا على عنان الحكم وثابت السكينة الى جميع الأمصار.

٢٢٠