يوم الحسين (عليه‌السلام)

يوم الحسين (عليه‌السلام)0%

يوم الحسين (عليه‌السلام) مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 206

  • البداية
  • السابق
  • 206 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 24207 / تحميل: 1903
الحجم الحجم الحجم
يوم الحسين (عليه‌السلام)

يوم الحسين (عليه‌السلام)

مؤلف:
العربية

من وحي الذكرى(١)

السيّد محمّد تقي الحكيم

عضو المجمع الثقافي لمنتدى النشر

ليس المهم فيما اعتقد أن أعرض في حديثي هذا فصلاً من مأساة الحسين (عليه‌السلام ) أستدرُّ فيه الدموع من مآقي الحاضرين ، وإلّا فما أيسر البكاء وما أقل جدواه إذا كانت الغاية من إقامة احتفال هذه الذكريات ! فالحسين لم ينهض نهضته الجبّارة ليخلق اُمَّة تكتفي بالبكاء عن النظر في ملابسات القضايا الَّتي حفَّزته للنهوض وتجعل ذلك جزاءه الوحيد. ولو اعتبرنا ذلك وحده الجزاء فما أضيع حقوق تلكم النهضة , وما أبسط الجزاء !

أنا لا اُنكر على الباكين والنادبين ما يفعلونه ولو انتهى بهم الحال إلى أفجع الصور وأمضَّها ، فهذا وأمثاله قد اُعدُّه من ضروريات التنفيس عن الانفعالات المزدحمة الَّتي تصاحب عادة كلَّ من يعرف قيمة الحسين (عليه‌السلام ) ، ويضمر ما يستحقُّه من ولاء , على أنّ فصول المأساة وحدها كافية لإيحاء أعمق الانفعالات.

ولكن الَّذي أنكره وأودُّ أن اُصرَّح به في هذا الحفل الكريم أن نكتفي بهذا المقدار عن التعمُّق في فهم أسرار نهضته، وعن العمل على خلق الجوَّ الملائم لتعميم الرسالة الإصلاحيَّة المقدَّسة الَّتي قام بتأديتها من هذه الطريق ، مع أننا ونحن في هذا العصر أحوج ما نكون إلى ذلك.

وفي عقيدتي أن الناهض المصلح لا يتوخّى من نهضته أكثر من تعميم رسالته

____________________

(١) ألقاها السيد عبد الرزّاق العائش.

٤١

ونشرها بين سائر الطبقات.

أقول هذا وأنا أعلم أن في الأعلام الذين يشاركون في هذا الحفل من سيعرض بيانه الأخّاذ إلى أسرار نهضة الحسين (عليه‌السلام ) فيجلوها بما فيها من مغاز تنبض بالحياة ، ويضعها بين أيدي السامعين ليأخذوها بلسماً لجراحات المبدأ المقدَّس قبل أن تأتي على البقيَّة الباقية من حناياه.

ولكن مع ذلك أعلم أنّ أحاديثهم سوف لا تصل إلى الأعماق شأنَ سائر الأحاديث الإصلاحية الَّتي ارتفع صداها مراراً في مجتمعنا الَّذي انعدمت فيه أو كادت جميع القيم الأخلاقيَّة المثالية ، وإلّا فمَن منا لا يعرف أن الحسين (عليه‌السلام ) نهض من أجل المثل العليا عندما رآها تتلاشى على أعتاب الخليفة الأموي يزيد فاستنقذها بما قدّم من تضحيات ؟ ومَن منا لا يعرف أن المثل تتلاشى على أعتاب المادِّيَّة الطاغية الَّتي استحوذت عليها من جميع الجهات ؟

كلُّنا نعرف ذلك ، ولكن حدَّثوني أين مَن وضع أو فكّر أن يضع على الأقل سيرة الإمام (عليه‌السلام ) أمامه ليستخرج منها طرقاً لاستنقاذ هذه المثل من براثن المستحوذين ؟

على أن القضيَّة اليوم غيرها بالأمس , فهي لا تحتاج إلى تضحية الحسين (عليه‌السلام ) ، ولا إلى جهاد الحسين ، وكلُّ ما تحتاج إليه شيء من جهاد النفس وحملها على اتَّباع المثل ، ثمّ فرض ذلك على من يمت إلينا. ولا أقلَّ من تغذيتها للناشئة الجديدة من أبنائها الَّذين سنحاسب غداً من قِبل الله والتأريخ الوطني على كيفيَّة تربيتهم وتغذيتهم.

ومَن منّا لا يعرف القيم الأخلاقية الَّتي قوَّضها معول الخليفة الاُموي ، وأقام على أطلالها بنفسه جلَّ منافياتها التي حاربها الإسلام من شتّى الموبقات ، وكانت من محفزات الإمام (عليه‌السلام ) للنهوض ، وهذه القيم اليوم عينها بالأمس قد تواثبت عليها معاول الماديين فكادت أن تقوضها من الأساس ؟

أيُّها السادة ، أنا لا اُعدُّ هذه المحافل وأمثالها فوزاً لمبدئنا المقدَّس ما لم نستغل فرصها لاستئصال أدوائنا الاجتماعية في ضوء سيرة الحسين (عليه‌السلام ) ؛ فهو لم يقدّم نفسه وأشبال هاشم وليوث الأنصار ضحايا للعقيدة إلّا ليعطي الأجيال درساً بليغاً من دروس التضحية في سبيل الإصلاح. فانظروا أيها السادة روح الإمام السبط (عليه‌السلام ) كيف تُطلُّ على حفلكم هذا من فجوات القرون وهي تستنهضكم إلى اتّباع مبادئه (عليه‌السلام ) , وتدعوكم إلى تعميم مُثله العليا. فليكن هتافنا في جوابه مثله :

لبّيك يا داعي الله لبّيك

لبّيك يا داعي الله لبّيك

محمّد تقي الحكيم - النجف

* * *

٤٢

أنا الحسين بن علي(١)

السيد طالب الحيدري

نزلْتُ حومة الوغى

بسابقٍ محجَّلِ

فيا سماءُ كبَري

لطلعتي وهلَّلي

فإنَّ فيَّ جحفلاً

يفوق كلَّ جحفلِ

وإنَّ فيَّ موئلاً

للحق أيَّ موئلِ

فهل علمتِ مَن أنا

أنا الحسينُ بنُ علي

فيا عساكر العدى

تراجعي في فشلِ

فنحن لا نعطي يداً

وإن نمت أو نُقتلِ

ونحن لا نرضى بأن

نعيش في تذلّلِ

فالموت بالعزَّة أحـ

ـرى بالكمي البطلِ

فيا رحى الحرب استديـ

ـري فوق كلَّ كلكلِ

ويا سيوف صرِّعي

ويا رماح جندلي

ويا خيول حمحمي

ويا سهام ولولي

ويا بنود رفرفي

ويا رواة سجّلي

وأنت يا جوُّ فكن

كقطعةٍ من قسطلِ

وابتلعي الدماء يا

أرض ومنها فامتلي

ويا لدجالي(٢) أقدمي

وجرّحي وقتَّلي

لا ترهبي جموعهمْ

فإن رهبت تفشلي

____________________

(١) ألقاها الاستاذ السيد كاظم الجزائري.

(٢) كذا.

٤٣

وأقدمي على العدى

وبالميادين انزلي

وشيّدي للمجد والـ

ـرفعة أعلى منزلِ

وبعد هذا فاشربي

(بالعزِّ كأس الحنظلِ)

ألا فقل لاُمَّتي

هبَّي وللمجد اعملي

كوني أجلَّ اُمَّةٍ

بالعمل المتَّصلِ

مالي أراك في قيو

دٍ كالأسير الأعزلِ

مالي أراك ليت شع

ري في المحل الأسفلِ

ألا فكوني حرَّةً

من الطراز الأوَّلِ

لا تقبلي الحياة في

مذلَّةٍ لا تقبلي

فإنْ نزلت للوغى

والعزُّ في أن تنزلي

ففاضلي صابرة

وبالمنايا دلّلي

وأقبلي باسمةً

على المنون أقبلي

لا تغمدي السيوف حتّـ

ـى تَقتُلي أو تُقتَلي

* * *

السيد طالب الحيدري - الكاظمين

٤٤

المثل الأعلى

صالح فاضل المحامي

يحقُّ للمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها أن يمجَّدوا هذا اليوم التاريخيَّ الَّذي وقف به السيّد الشباب وقفته المشهودة يصارع الباطل حتّى النفس الأخير ، وصمد صمود الطود يهزأ بأفاعيل الطبيعة ، وصاح صيحته الَّتي دوَّت لها الآفاق , مدجّجاً بسلاح العقيدة الراسخة والإيمان المبين.

أجل ، يحقُّ للمسلمين من أقصى الأرض إلى أقصاها ان يبجَّلوا هذا اليوم الذي مهما كرَّت الأيام ومرّت الأعوام سيبقى مثلاً خالداً للتضحية والإقدام ، تستوحي منه الأجيال تلو الأجيال القوَّة والعزم والتفاني في سبيل العقيدة والمبدأ.

إنّه يوم يحفل بالذكر والعبر والآيات الغرر ، سجّلها عبقريٌّ فذٌّ من بني طالب ما ذكره التأريخ إلّا بالإكبار والإجلال ، وما حدثت العصور أحاديثها عن هذه النبعة الفواحة من أرومة محمّد (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ، وعن هذا الكوكب الشعشاع الَّذي لاح في سماء النبوة خافقاً بالعزم والإيمان. إنه نشيد بارع لم توقعه يد الزمن ، يتردَّد على شفة الدنيا ويثير في الأجيال أسمى وأنبل ما في النفس الإنسانية من المعاني والشعور.

لقد كان الحسين (عليه‌السلام ) مثلاً أعلى في المكارم والشمائل ، فكان ملء العين والقلب خَلقاً وخُلقاً , يكفية أن يعترف له أعداؤه بذلك فيقولوا : لا ترى للعيب فيه موضعاً. والفضلُ ما شهدت به الأعداءُ.

واشتهر فوق كلَّ هذا بالشجاعة والوفاء ، فوفاؤه أبى عليه أن يرى الدين نهب الرعاديد الجبناء ، وشجاعته حتمت عليه إلا أن يكون أباً للشهداء. لم يكن نزاع الحسين حلقة مستقلة بذاتها ، بل كان مكمَّلاً لسلسلة من المنازعات الماضية استحكمت حلقاتها بين الطالبيِّين والاُمويَّين.

ويدور الفلك دورته فإذا الحسين (عليه‌السلام ) ويزيد وجهاً لوجه يتنازلان ، فصراعهما لم يكن صراعاً بين رجلين ، وإنّما كان حرباً سجالاً بين المطامح الدينيَّة والعقائد الروحيَّة ، وبين المطامح الدنيويَّة والجشع السياسي.

فيزيد يريد الدنيا والسيادة والسلطان ؛ فهو لا يتردد في بذل الكرامة وانتهاك الشرف والإباء ، والحسين (عليه‌السلام ) يريد ألّا يغمض عينيه والدين الإسلامي لا يزال في مهده مهدَّداً ، فهو لا يتردّد في بذل النفس والنفيس ، والغالي والرخيص من أجل سلامة هذا الدين الأغر الَّذي بزغت أنواره في سماء العرب ليضيء للعالم أجمع ؛ فلبّى النداء ، وشدَّ رحاله إلى العراق ، ولم يعبأ بالأخطار والأهوال التي تحدق به من كل جانب.

٤٥

لقد كانت القلوب تنتظره بالعراق بلهفة وظمأ ، والناس يرتقبون قدومه وملء جوانحهم النصرة له والعطف على قضيَّته العادلة ؛ فهو من الاُسرة التي اصطفاها الله للنبوة والملك ، وأبى الناس أن يروا قيادتهم في يد صعلوك من صعاليك العرب يقضي أيّامه ولياليه بين الغواني والكؤوس ، فلا يفكّر إلاّ بفاتنة هيفاء أو بكأس يصفق بالصهباء. ولكنَّ السلطة الغاشمة والاستبداد الأعمى سلَّطا على الناس الخوف والرعب ، فإذا هم بجانب يزيد يقاتلون رسول الحقَّ والسلم.

وفطن إلى ذلك الفرزدق الشاعر فقال ينصح الحسين (عليه‌السلام ) : (قلوب الناس معك وسيوفهم مع بني اُميَّة). ولكن الحسين (عليه‌السلام ) بإرادته التي لا تكِلُّ ولا تلين ، وبعقيدته التي لا تفلُّها الشدائد سار قُدُماً في طريقه التي وضعت فيها المصاعب والأشواك , وكيف ينكص أو يعود وهو يؤمن بأنه ما سار إلّا لنصرة الحقَّ وإزهاق الباطل ؟

وهاله أن يقعد وهو على حقَّ ويقوم بنو اُميَّة وهم على باطل ؛ فتحرَّك في صدره ذلك الجبّار الّذي سكن صدر جدّه وأبيه ، وغضبت نفسه الأبية فأقسم ألّا يغمد سيفه حتّى ينتصر أو يتغمده الله.

والتفت يمنة ويسرة فلم يجد من أعوانه وأنصاره إلّا النزر القليل ، ورأى نفسه محاطاً بالأعداء من كلِّ صوب وقد أطبقوا عليه عدة وعديداً ، مندفعين بدافع الشعور بالآثام , وبقوة الإحساس بالإجرام ، ومنهم مَن طمع بالجاه والسلطان ، ومنهم من خطف بصره المال الوفير أو خضع للوعيد والتهديد ؛ فقاتلوا في الحسين الدينَ والشرفَ والشهامةَ ، وارتكبوا من الفظائع والمآثم ما تقشعرُّ له الأبدان وتندى له الجباه.

والحرب تدور رحاها ، والحسين (عليه‌السلام ) وأهله ورجاله يتلظّون على قطرة من الماء فيدفعه حنان الأب إلى أنّه يطلع إلى القوم يناشدهم الرحمة , وعلى يديه ابنه عبد الله يتلوّى من الألم والعطش , فيطلب منهم جرعة من الماء ، فيصيح بهم : (( ياقوم , اتقوا الله في الطفل إن لم تتقوا الله فينا )).

ولكنهم يرمون الطفل بالسهام فيخرّ من بين يدي أبيه إلى الأرض مخضّباً بالدماء ، فيهتف الأعداء : خذ ، اسقه هذا. وكانوا يصحيون بالحسين (عليه‌السلام ) : والله لن تذوق الماء حتّى تموت ومن معك عطشاً.

ويشتدُّ بالحسين (عليه‌السلام ) العطش ، فيدنو من نهر الفرات فيتصدّون له بسهم يقع في فمه , فينتزعه الحسين (عليه‌السلام )، ويتلقى الدماء بيديه حتّى تمتلي راحتاه من دمائه ، وهو مع كلِّ هذا ثابت الجنان يزداد عزماً وصلابة.

وتشابكت الصوارم والرماح , وكان كلَّما سقط فارس من فرسان الحسين (عليه‌السلام ) حمله إلى جانب إخوانه الصرعى الّذين فعل بهم العطش أكثر مما فعلته السيوف والسهام ، ويسألون الحسين (عليه‌السلام ) الماء , وليس لسؤالهم هذا من جواب.

٤٦

ويفنى أنصاره واحداً بعد واحد ، ويبقى منفرداً يشقُّ الصفوف ويصارع الفرسان ؛ فتُقطع يده اليسرى , ويُطعن طعنات جعلت الدماء تنزف منه ، وخرَّ إلى الأرض صريعاً ، وحزّوا رأسه الكريم , ورضّوا عظامه الطاهره بأقدام الخيول. ويتنادى القوم بمصرع الحسين (عليه‌السلام ) ، ذلك الأسد الذي أدخل الرعب والفزع في قلوب الاُسود ، وذلك البطل الذي تعبت من أجله الأبطال.

وهكذا انتصر الحسين (عليه‌السلام ) لا بالعدَّة والعدد ، بل بالسمعة والمجد والذكر ، وانكسر يزيد لا بالجيش والرجال ، بل بالكرامة والخصال ؛ فالحقُّ لا ينخذل ، وإن انخذل يوماً فسينتصر في النهاية ولا ريب ، والباطل لا ينتصر , وإن انتصر فصولة ستخفت وتترك رماداً.

وها هي الأجيال تذكر يزيد باللعنة واللؤم والجبن ، وتذكر الحسين (عليه‌السلام ) بالشهامة والشرف , وتضفر له أكاليل الحمد والمجد. وها أنتم اليوم اجتمعتم لإحياء ذكراه التي لا تبلى ، ولتمجيد دنياه التي يحفّها الخلود ، وإكبار شخصه الّذي سيبقى رمزاً يستنهض الهمم والعزائم للتفاني في سبيل الحقّ والمبدأ.

لم يمت الحسين (عليه‌السلام ) , بل لا يزال حيّاً يوحي إلينا بالقوّة والإقدام ، ولئن غضب بالأمس للحقَّ فهو أشدُّ غضباً اليوم. وعدوُّنا يطالبنا وينازعنا على باطل ونحن ساكتون عن الحقَّ , فلنردَّ كيد من يكيد بنحره ، ولنفهمه أن الحسين (عليه‌السلام ) لا يزال حياً بيننا. وكأني بروحه المقدّسة تخفق علينا وتستصرخنا للجهاد ، ومثلكم من يُرضي روح الحسين (عليه‌السلام ) ويلبّي النداء.

صالح فاضل المحامي - البصرة

* * *

٤٧

يوم الدماء(١)

كاظم محمود الصائب

خطبٌ تواتر موصولاً به الألمُ

فيه النحيب أسىً فيه البكاءُ دمُ

فيه الفضيلةُ ثكلى وهي نادبةٌ

فيه الكرامة لم يحفظ لها ذممُ

قد جلّ بين رعاة الحقَّ منصدعاً

به الفؤادُ وندّابٌ عليه فمُ

جرحٌ نمت عن صديد الوخزِ طعنتُه

فأزمنت من قديم العهد تلتهمُ

له الإعادةُ أنّى جاء محتدماً

بمظهرٍ لم يضارع قبله الضرمُ

فكلَّما فاض حزناً عن جوانبِه

تعلّقت بمبادي قدسه الهممُ

وكلّما قدّم العهد المقدس من

قرآنه رسخت منه له قدمُ

سرٌّ تقمّص تحليلَ الحقيقة في

سموَّه عجبت من آيه الاُممُ

لم يغنِ أعداءه ما قد رموه من الـ

ـسجف السميك على الحقَّ الذي علموا

شمسُ الحقيقة تبدو في محاسنِها

مهما تلبَّدت الأجواء والديمُ

* * *

يابنَ النبيِّ فكم كافحت في شرفٍ

يا بن الوصي لقد جاهدت يا علمُ

يابن الصفيِّ فكم ناضلتهم ولك الـ

ـحقُّ الجليُّ بها والحقُّ مُهتضمُ

أعظم بها نهضةً قد أنزلت علماً

نفاقُه الركن من إرهابه الدعمُ

____________________

(١) ألقاها الاُستاذ محمّد هاشم الجواهري.

٤٨

قد استبدّوا فخالوا العدل مهزلةً

فطاش سهمٌ له(١) زلّت بهم قدمُ

يأبى الهوانَ همامٌ عزّ مطلبُهُ

يزينه اثنان قلبٌ باسل وفمُ

حرَّية الفكر اُسُّ الاجتماع فإن

أودى بها الحُكم زال الحُكْم والحَكَمُ

وما السياسة إلّا العدل قائمة

صروحه بذرا الجوزاء تصطدمُ

وما الدعائم في اُسَّ البلاد سوى

حرَّيةٍ حدَّ في توطيدها القلمُ

ما إن طغت موجةُ الإرهاب في وطنٍ

إلا تردّى وساد الظلمُ والظُلَمُ

* * *

زأرت في يدك البتارُ ملتمعاً

فخضب الأرض ذاك الصارم الخذمُ

كرٌّ وصول وإثخان وهول وغى

عواصف زلزلوا فيها وقد وجموا

حتى تنكَّست الأعلام طاوية

جموعها وكماة الروع تزدحمُ

وآب كل فتًى والرعب يلحقه

وأنت بين قراع الطعن تبتسمُ

لا غرو أن شيم دور كان يعهده

عِداك في صولة (الكرار) متّسمُ

فرع رعته سجايا الأصل وهي به

جديرة إن وفى أولم يفِ الحكمُ

* * *

نفس تقمصت العلياء بغيتها

فالعيش عند اعتساف ظالم عدمُ

وما التحرُّر إلا للصلاح قوًى

وللتقدُّم ضوء ملؤه نظمُ

وذاك نهج إلى العلياء لاحبه

يشوق كلَّ فتًى في أنفه شممُ

وفتية دلفوا لـمّا الوغى استعرت

فأضرموا هولها لما همُ هجموا

قد كافحوا عن حياض الحق جهدهمُ

فلم يملْ بهمُ الإرهاب إذ صدموا

أبدى أبو الفضل في الميدان معجزة

مادت لها الأرض وارتاعت لها النسمُ

* * *

هزّ اللواء فصال الحق منتصراً

وجال فيهم فولّوا عنه وانهزموا

هو ابن هازم جيش الشرك منفرداً

لا غرو أن ماس في كفَّ له علمُ

____________________

(١) زيادة اقتضاها الوزن.

٤٩

من الذمام صدوف القوم عن رشف

من الزلال لطفل وهو يضطرمُ

ذبحُ الرضيع من الإسلام مبدؤه

حاشا فقد شرعوا بدءاً وقد ظلموا

سلبُ العقائل من بيت النبي هدًى

وذاك ما يزدريه العرب والعجمُ

وأخذُهن سبايا فوق أظهرها

مرحلات وهن البيت والحرمُ

* * *

شرّ الفعال فعال لا مناط له

من الفضيلة فهو الدهر ما يصمُ

جاؤوا بما ابتدعوا شنعاء صارخةً

بها قد ابتدؤوا الإسفاف واختتموا

أبا الأئمة باسم الحق تضحية

جاءت لتسمع اُذناً دأبها الصممُ

أبا الأئمة باسم الله تضحية

جاءت لتدعم صرحاً كاد ينهدمُ

أبا الأئمة باسم العدل تضحية

قامت لتهدم عسفاً كاد ينسجمُ

* * *

أكربلا بك أبطال الهدى رقدوا

تيهي علا فقد امتاروك واحترموا

سموت في شرف القوم الذين همُ

قد شرَّف الملأَ الأعلى مقامُهمُ

إني اُبارك في يوم الدماء ثرىً

مازال منسكباً منها عليه دمُ

مضَوا فسنوا طريق المجد واضحةً

أكرم بما خلفوا أعظم بما ارتسموا

* * *

كاظم محمود الصائب - البصرة

٥٠

هب الدين حصناً(١)

عبد الكريم الندواني

يحقُّ لنا والخطب جلّت مصائبُهْ

نجدد ذكراً أكرم الناس صاحبُهْ

ولا غرو أن قمنا بتأبين سيّدٍ

تسنمن أوج المكرمات مناقبُهْ

زهت بربوع الدين أزهارُ هديه

نجوماً وأزهى النجم في الاُفق ثاقبُهْ

هَبِ الدين حصناً فالحسين أساسُه

وأبناؤه أبوابُه وجوانبُهْ

يكلُّ لسان المرء عن سرد حادثٍ

أتاه الاُلى عادت عليهم عواقبُهْ

دعوا خير خلق الله ذاتاً ومحتداً

أن اقدم فسفح الربع أينع جانبُهْ

وطاب الهوى فالريح لا تمنع السرى

سحيراً وماء النهر راقت مشاربُهْ

إذن كيف يختار التردّد معرضاً

عن السير والإسلام للحكم ناخبُهْ

وما موقف الشهم الغيور على الهدى

إذا للهدى أهل البلاء تكاتبُهْ

رأى أن يلبّي دعوة الدين طائعاً

فسار وبسم الله تُحدى ركائبُهْ

ولم يبلغ الوادي الَّذي قال أهلُهُ

ألا اقدم إذا بالجيش تترى كتائبُهْ

وقال لهم ما بالكم قال كلُّهم

خدعناك كيما يدرك الثار طالبُهْ

ولـمّا رأى أن لا مناص من الوغى

ونهج الهدى للرشد سدَّت مذاهبُهْ

تألَّق بدراً في رحى الحرب ساطعاً

فلم تبدُ في ليل الكفاحِ كواكبُهْ

وصاح بهم صيحاتِ حيدر في الوغى

هزبرٍ وصيحات الهزبر تناسبُهْ

يصول فيثنيه العويل من النسا

فمن ثاكل تنعى واُخرى تعاتبُهْ

واُخرى تُسيل الدمعَ صوباً من الحيا

إذ انهلَّ هتّاناً ودرَّت سحائبُهْ

يسيل فيروي عاطش البيد فيضه

ويزري بمنهلَّ السحائب ساكبُهْ

____________________

(١) ألقاها الفاضل حاتم جريء السامر.

٥١

أخي عد بنا من حيث جئنا فمَن لنا

سواكم على حفظ الذمار نطالبُهْ

فقال لربّاتِ الخدور وطفلُه

رضيعُ المنايا كالح الوجه شاحبُهْ

أيقوى على مرّ الحياة سميدعٌ

أبيٌّ قضى أصحابه وأقاربُهْ

وصال فكان الموت رهنَ حسامِه

يُجانبُ مَن سيفُ الحسين يُجانبُهْ

وما اختطفت أيدي الردى نفس أروعٍ

بسوح الوغى إلا ابن حيدر ضاربُهْ

ولو كان عزرائيل شخصاً مبرَّزاً

لما كان في قبض النفوس يغالبُهْ

تفيض يداه بالعطاء وفي اللقا

تعدّ قتير الدرع وشياً مناكبُهْ

سلام عليه كلّما حنّ ثاكلٌ

وما آلمت قلب الأديب مصائبُهْ

* * *

عبد الكريم الندواني – العمارة

٥٢

يا مَن رأى واحداً قد قاوم الاُمماً

الشيخ علي البازي

الحقُّ في كربلا والباطلُ اصطدما

كلُّ يحاول أن يحظى بما رسما

فالحقُّ بين طغاة البغي منفردٌ

والبغيُ هذا له أنصاره العظما

وأوحدُ الحقَّ إما عزَّ ناصرُه

على مناوئه إن جار أو ظلما

ولا محامٍ به تمسو حفيظتُه

يحمي حماه ويوليه يداً وفما

كيلا تبيحُ ذوو الأطماح حرمته

وفيه لا شرعةً تُرعى ولا ذمما

بمن وفيمن تراه يستغيث سوى الـ

ـصيد الاُباة الاُلى للخائفين حمى

هم أظهروه على الطغيان حين طغى

وركّزوا باسمه فوق السها علما

وقوّموه على أشلاء قادة من

قد استفزّت إلى تحطيمه الهمما

سامته ضيماً ولولا أهلُه لقضى

عليه غيهبها وانهدَّ وانهدما

ولم يُشيَّد له صرحٌ ولا وطنٌ

يأوي إليه ولا شملٌ له انتظما

يدُ المشيئةِ أولته عنايتها

فعزّزته بآل المصطفى الحُكما

غوث الصريخ إذا ما أزمة أزمتْ

أو عمَّ جدبٌ وبحرُ النائبات طمى

قد جاهدوا دونه بالطفَّ حين رأوا

وجودهم بعده بين الملا عدما

جادوا بأرواحهم للحقَّ واعتصموا

بنهضةٍ فاز مَن في حبلها اعتصما

وأضرموا نارَ هيجاء بها اضطرمت

قلوبُ أعدائهم من وقدها ضرما

بها شهيدُ الإبا سبطُ الرسول نضا

من عزمه مرهفاً مذ بأسها احتدما

فجبَّ غاربها واجتاح فيلقها

وقال يا صارمي كن حاكما حلما

تذكّرت فيه (صفّيناً) وموقفه

وكيف للجيش فرداً صال واقتحما

تراجعت وعلى أعقابها دمها

يجري وشبلُ عليٍّ ثغره ابتسما

٥٣

وعاد يسمعهم من وعظه حكماً

يدعو أما تنصفوني(١) ياطغام أما

يا آل حربٍ لماذا يُستباح دمي

وتستحلّون منّي كل ما حرما

أليس جدّي أبا الزهراء فاطمةٍ

ولحمُ جسميَ من لحم الرسول نما

داعي الجهالة أعماكم وداهمكمْ

داعي الضلال وإنّ العلتين هما

هنالك انعطفوا نحو ابن فاطمةٍ

والحقُّ والبغي في سوح الوغى ازدحما

نفسي الفداء لمن ضحّى باُسرتهِ

والصحب دون الهدى من قادةٍ كرما

اثارها في عراص الطفِّ ثائرة

بها استعاد إباء الحق والشمما

قد قاوم القوم ضمآناً على سغب

يا من رأى واحداً قد قاوم الاُمما

لله فرداً أعزَّ الدين ساعده

وقد أذلّ طغاة تعبد الصنما

شهم أقام بني الدنيا وأقعدها

والإنس والجنُّ حزناً دمعها انسجما

لـمّا أتى مفرداً ينعى أحبَّته

وطرفه لذويه والوغى انقسما

وأحدقوا فيه والطفل الرضيع قضى

في حجره حينما بالسهم قد فطما

وفوجئ العالم العلويُّ في جلل

أبكى السمواتِ والكرسيَّ والقلما

غداة نادى حسين وهو منجدلٌ

هيا اقصدوني بنفسي واتركوا الحُرما

به استدارت بأبكن أعيناً كرمن

عن البكاء على من أوجدوا الكرما

أبكى السماء دماً لما قضى عطشاً

لما قضى عطشاً أبكى السماء دما

والفاطميات فرَّت من مخيَّمها

لـمّا أصات ابنُ سعد أحرقوا الخيما

فابصرت جسمه فوق الثرى قطعاً

ورأسه فوق رأس السمهري سما

وعاينت حوله الصيد الأشاوس في

حرِّ الهجيرة صرعى جثَّما رمما

نادته بنتُ عليٍّ يا بن فاطمةٍ

ياليت عيني اُصيبت قبل ذا بعمى

ولا أراك على الرمضاء منعفراً

ومنك صدرُ الهدى بالخيل قد هشما

____________________

(١) لا وجه لجزم الفعل أو نصبه , وهكذا جاء بالأصل.

٥٤

وليت عينيك ترنو حال نسوتكمْ

لـمّا على خدرها جيش العدى هجما

وسيَّروها على الأقتاب حاسرةً

بين العدى وأبوها حيدر شُتما

ولم تجد كافلاً غير العليل لها

بعد الحماة ولا ملجاً ومعتصما

عليٌّ البازيُّ - الكوفة

* * *

٥٥

التضحية

أو شهداء الطفِّ

عبد الرزاق العائش

لا يخلو إنسان مهما تكن ماهيته من هدف يبذل في سبيل تحقيقه ما عزّ وغلا , أو غاية يسعى إلى نيلها بما اُوتيه من حول وقوة. ولـمّا كان الإنسان مجبولاً على حبِّ البقاء , وإنما يكدُّ ويكدح ليحيا الحياة الّتي ينشدها فمن المستحيل أن يقدم على أمر يُفقده هذه الحياة.

غير أن الحياة حياتان : حياة مادَّيَّة , وهي الَّتي يحياها الأنانيُّ الّذي يضحَّي باُلوف من البشر في سبيل مصلحته الخاصّة , وحياة معنويَّة , وهي التي يحياها الاجتماعيُّ الّذي يضحّي بنفسه ونفيسه في سبيل إنقاذ طفل صغير أو شيخ هرم.

والفرق بين الحياتين من حيث الزوال والخلود , كالفرق بين المادة والمعنى ؛ لذا نرى بعضاً من الناس تنتهي حياتهم وتنطمس أعلامهم بموتهم , وهؤلاء العجزة الخاملون الذين قصرت بوعهم عن إدراك اللباب فرضوا بالقشور الخاوية , وبعضاً يذيع صيتهم وتطير شهرتهم بعد وفاتهم , وهؤلاء هم الأبطال الخالدون الَّذين أدركوا سموَّ المعنى فسمت نفوسهم كسموِّ أهدافهم حتّى غدوا يتحدَّون العاقل أن ينساهم , أو أن يشتغل عنهم بسواهم.

وهكذا سلك الأقدمون سبل حياتهم وهم واثقون بما رسموا من خطط أنها توصلهم إلى غاياتهم حتّى غدوا بين مادَّيٍّ زائل ومعنويًّ خالد. ومن اُولئك الأبطال الخالدين الذين ينسى الإنسان نفسه ولا ينساهم شهداء الطف , اُولئك الذين يُخيَّل لي في موقفي هذا أن أرواحهم الطاهرة ترفرف في أجواء كربلاء , تلك المدينة الَّتي كتب لها بدمائهم أن أصبحت كعبة للإسلام ثانية يحجون إليها من كل فجٍّ عميق. ترفرف أرواحهم مطمئنة شاكرة لله جميل صنيعه.

ولا ريب أنها ترفرف فوق هذا الحفل الكريم وأمثاله , بل وفوق كلَّ مجتمع أو نادٍ يلتئم باسم الفضيلة فتحييه باشَّةً مستبشرة لإحياء ذكراها بما يليق بمنزلتها الرفيعة , مناشدة ضمائر هذه الاُمَّة الَّتي ذهبت ضحيتها أن تكون يداً واحدةً في مجابهة الشدائد , ومكافحة المصائب , وتبرهن على القول بالعمل ؛ إذ لا خير في عبرات متدفقة وزفرات محرقة بدون تبصٌّر وإمعان.

٥٦

إذاً يجدر بنا أيُّها الاُخوان أن ننزل عند رغبتهم , وأن نكون في جنب الحقّ كالبنيان المرصوص يشدُّ بعضنا أزر بعض , كما ويجدر بنا أن نجعلهم خير قدوة لنا في الحياة وفي الممات ؛ فلا نفني أعمارنا بما لا يمتُّ إلى المصلحة العامة بصلة , وحينئذ يحق لنا أن نقول : فياليتنا كنا معكم فنفوز فوزاً عظيماً ؛ إذ ليس من الحكمة أن نُحيي ذكراهم بالبكاء والعويل , بل الحكمة كلُّ الحكمة أن نحييها بالدرس والتحليل ؛ لنستوحيَ من تفانيهم في سبيل العقيدة والمبدأ شعور التضحية في سبيل الواجب المقدَّس بأصدق معانيه.

فإذا نحن لم نستوحِ من حادث الطفَّ غير هذا الشعور السامي لكفى به دليلاً يثبت لنا أن نظام العالم لا يقوم على مبدأ تنازع البقاء فقط , بل إلى مبدأ آخر هو أقرب إلى مقتضيات الإنسانيَّة , أعني به مبدأ التضحية الّذي نكاد نلمسه في كلَّ مظهر من مظاهر الحياة العمرانيَّة والاجتماعيَّة.

أوليست البذرة تسقط إلى الأرض وتموت لكي تنمو منها الشجرة ؟ أوليس الأب والاُمُّ يضحَّيان براحتهما في سبيل راحة أولادهما ؟ أوليس العلماء يجازفون بأنفسهم ويضحون براحتهم وهنائهم في سبيل مكافحة الأمراض وإنقاذ الإنسانيَّة من الآلام والأوجاع ؟

انظروا أيّها السادة إلى الحروب منذ فجر التاريخ إلى يومنا هذا , ألا ترون الجنود يضحُّون بأرواحهم في سبيل أوطانهم ؟ ألا ترونهم يسفكون دماءهم في سبيل الدفاع عن فكرة سامية أو مبدأ شريف ؟ ولكم وقفت فئة في وجه فئة كبيرة معرَّضة للهلاك على أمل أن تشغل عدوها القويَّ وتفسد عليه خططه.

فمبدأ التضحية إذاً من مستلزمات العمران , وهو من أقوم دعائم الحضارة الصحيحة , فإذا قُضي عليه واندثرت معالمه أصبحت الحضارة عرجاء هوجاء مجرَّدة من العواطف الإنسانية , وأصبح الاجتماع مزعزع الأركان. وأيُّ خطر أعظم من أن يعمَّ ناموس تنازع البقاء كلَّ مظهر من مظاهر المدنيَّة ؟ وأية مصيبة أعظم من أن يبتلي هذا الاجتماع بناموس الجهاد في سبيل الحياة المادَّيَّة , وما ينطوي عليها من أنانيَّة وجشع وأثرة وحبَّ النفس ؟!

ولما كان الموت لا بدَّ منه ولا محيد عنه فخير لنا أن نقايض بهذا الأجل المحدد نفعاً عاماً لا حد له , ونكسب مجداً خالداً لا نهاية له. وأفضل الأضاحي من أمات هليكة في سبيل نفع عام. كذلك الشهداء في سبيل إصلاح الاُمة وبناء كيانها.

لقد أطلقنا التأريخ على سير قادتنا المشاهير ومواقف شهدائنا المغاوير , ولدى البحث والتدقيق ثبت لدى كلَّ عاقل منصف أن سيد هؤلاء الشهداء الحسين (عليه‌السلام ) الَّذي أحيا هو ومَن معه مجد العرب , وسؤدد هاشم , ودين محمّد في وَثَباتهم وثَباتهم ؛ فلم تختلف لهجتهم , ولا وهنت عزيمتهم , ولا ضعفت إرادتهم , حتّى اُهرقت في جنب الحقَّ آخر قطرة من دمائهم , وحتّى إنه (عليه‌السلام ) يوم أحسَّ بالحصار والتضييق بكربلاء , ورأى أنه مقتول لا محالة عزَّ عليه أن يُقتل بسببه غيره , حيث إن القوم لايطلبون سواه.

٥٧

[فـ] أذِنَ لمن كان معه من أهل بيته وأنصاره بالتخلي عنه , فخطب فيهم قائلاً بعد أن حمد الله وأثنى عليه : (( أمّا بعد , فإني لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي , ولا أهل بيت أبرّ وأوصل من أهل بيتي , فجزاكم الله عنّي خيراً. ألا وإني قد أذنت لكم فانطلقوا جميعاً في حلٍّ من بيعتي , ليس عليكم مني حرج ولا ذمام , هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً ))(١) .

ليس من الفطنة أن نمرَّ على هذا الموقف الرهيب مرَّ الكرام دون أن نشبعه درساً وتحليلاً. كيف لا وقد تجلّت فيه خلة التضحية تجلَّي الشهاب في الليلة الداجية.

لقد ضرب الحسين (عليه‌السلام ) في هذا الموقف وأمثاله الرقم القياسيَّ للإيثار مع الحاجة , والصبر مع الشدَّة , وصدق العزيمة مع حراجة الموقف. ولـمّا كان معنى الشجاعة ضبط النفس مع أي مؤثر من المؤثرات بالغاً [مبالغ](٢) من الشدة, فهذا وأيم الحق منتهى الشجاعة.

واذ كان الولد سرَّ أبيه في الطباع والأخلاق والمظاهر , فالحسين (عليه‌السلام ) من حيث ضبط النفس ورباطة الجأش في غنىً عن التعريف , فهو حفيد محمّد المصطفى (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) صاحب الغار الذي خرج من مكة ثاني اثنين لا ثالث لهما يوم أنزل الله تعالى آية :( إِذ هُمَا في الغَارِ إِذ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحزَن إِنَّ اللهَ مَعَنَا ) (٣) , ونجل عليٍّ المرتضى صاحب ليلة المبيت وكفى.

وقديماً قال الشاعر العربي:

بأبه اقتدى عديٌّ في الكرمْ

ومَن يُشابه أبه فما ظلمْ(٤)

____________________

(١) الإرشاد ١١ / ٢ / ٩١ , (ضمن سلسلة مؤلفات الشيخ المفيد) , اللهوف على قتلى الطفوف / ٥٥ باختلاف فيها يسير.

(٢) في الأصل : (مبالغة).

(٣) سورة التوبة / ٤٠.

(٤) ينسب لرؤبة بن العجّاج , شرح ابن عقيل ١ / ٥٠ , همع الهوامع ١ / ٣٩.

٥٨

ونفس أبيه قوية مثل نفس الحسين (عليه‌السلام ) تجذب إليها أمثالها ومن على شاكلتها في الإخلاص والتضحية ,وشبه الشيء منجذب إليه.

فكما تجلَّت عظمة الحسين (عليه‌السلام ) في هذا الموقف تجلَّت عظمة أنصاره , وتجسَّم إخلاصهم ووفاؤهم ؛ إذ علموا أنَّ ما هم مقدمون عليه هو الخلود السرمدي , والنكوص عنه هو الفناء الأبديُّ.

فأجابه إخوانه وأبناؤه وبنو أخيه بلسان واحد : لِمَ نفعل ذلك ؟ ألنبقى بعدك ؟! لا أرانا الله ذلك أبداً.

وتقدّم إليه من أصحابه شيخ مسنٌّ وهو مسلم بن عوسجة , فقال : أنحن نخلَّي عنك ؟! وبما نعتذر إلى الله في أداء حقَّك ؟! لا والله حتّى أطعن في صدورهم برمحي , وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي , ولو لم يكن معي سلاح اُقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة , والله لا نخلي عنك حتّى يعلم الله أنا حفظنا غيبة رسوله فيك.

أما والله , لو قد علمت أني اُقتل ثمَّ اُحيا ثمَّ اُحرق ثمَّ اُحيا ثمَّ اُذرى , يفعل ذلك بي سبعين مرة ما فارقتك حتّى ألقى حمامي دونك , وكيف أفعل ذلك وإنما هي قتلة واحدة ثمَّ بعدها الكرامة التي لا نفاد لها(١) .

وهكذا تلاه زهير بن القين وبقية أصحابه , والكلُّ يعبر عن شعور التضحية أصدق تعبير. وهذا وأيم الحقَّ لمنتهى الإخلاص والوفاء بتدبُّر وإمعان , أخلصوا لله حيث آمنوا بقوله :( وَلَا تَحسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا في سَبِيلِ اللهِ أَموَاتاً بَل أَحيَاءٌ عِندَ رَبِهِم يُرزَقُونَ ) (٢) ، وأخلصوا لنبيهم حيث حفظوا أمانته , وتفانوا في سبيل نصرة سيّدهم مع أنه أذن لهم بالتخلَّي عنه , وحلّ بيعته من أعناقهم , وأخلصوا لاُمتّهم حيث أرادوا لها العزَّ في حين تألَّب

____________________

(١) اللهوف على قتلى الطفوف / ٥٦.

(٢) سورة آل عمران / ١٦٩.

٥٩

أبناؤها على مذلَّتهم , وأخلصوا لأنفسهم حيث لم يوردوها مورد الخزي والعار , ووفوا بعهد الله ففازوا بشهادته :( وَ الـمُوفُونَ بِعَهدِهِم إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرينَ في البَأسآءِ والضَّرَّآءِ وَحِين البَأِس اُولئك الَّذِينَ صَدقُوا وَاُولئك هُمُ الـمُتَّقونَ ) (١) .

إنّ هذا العمل الباهر كان ولم يزل اُحدوثة المجد , واُنشودة الشرف ما دام للمجد والشرف ذكر يذكر ؛ فهذا يومهم تبزغ شمسه في مستهلَّ كلَِّ عام , وهذه ذكراهم تبلى الأيام وتفنى السنون وهي باقية على جدتها.

إذاً لا بدَّ لي من تقرير هذه الحقيقة , وهي : ما من اُمَّة من اُمم التأريخ بلغت شيئاً من رفعة المنزلة إلّا كانت التضحية من أقوى مبادئها , فاذا ما ضعفت روح التضحية فيها تضعضعت وصارت إلى الزوال :( سُنَّةَ اللهِ الَّتي قَد خَلَت مِن قَبلُ وَلَن تَجِد لِسُنَّةِ اللهِ تَبديلاً ) (٢) .

صدق الله العلي العظيم

عبد الرزّاق العائش - البصرة

* * *

____________________

(١) سورة البقرة / ١٧٧.

(٢) سورة الفتح / ٢٣.

٦٠