يوم الحسين (عليه‌السلام)

يوم الحسين (عليه‌السلام)0%

يوم الحسين (عليه‌السلام) مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 206

  • البداية
  • السابق
  • 206 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 24738 / تحميل: 2060
الحجم الحجم الحجم
يوم الحسين (عليه‌السلام)

يوم الحسين (عليه‌السلام)

مؤلف:
العربية

الإمام الحسين (عليه‌السلام ) :( وَاصبِروا فَإنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجرَ المُحسِنِينَ ) (١) , عسى أن نكشف بين سطور حادث الطفَّ أبلغ الدروس , وأنفع العبر والذكريات , عن طريق الاستنباط من سيرة أبطال آل هاشم.

وتلبية لنداء الحق , وأداء الواجب المقدّس يجدر بنا أن نحيي هذه الذكرى بما يتّفق وأهمَّيَّتها في جميع أنحاء العالم الإسلامي :( نِعمَ أَجرُ العَامِلِينَ * الَّذِينَ صَبَرُوا ) (٢) .

وفي يوم السبت أو يوم الجمعة [من] يوم عاشوراء سنة (٦٠) ه دعا الحسين أصحابه , وصلّى بهم صلاة الغداة؛ عملاً بقوله تعالى :( واستَعِينُوا بِالصَّبرِ والصَّلاةِ ) (٣) , وكان معه اثنان وثلاثون فارساً , وأربعون راجلاً على قول بعض الروايات , وأعطى رايته إلى أخيه العباس , واحتاطوا لئلاّ يؤتوا من خلفهم.

ثم ركب (عليه‌السلام ) ودعا بمصحف فوضع بين يديه , امتثل أصحابه نصب عينه , وكأن الشاعر يقصدهم بقوله :

رجال تواصوا حيث طابت اُصولهمْ

وأنفسهم بالصبر حتّى قضوا صبرا

وحمل شمر اللعين حتّى بلغ فسطاط الحسين (عليه‌السلام ) , وأراد أن يحرقه على مَن فيه مِن أهله , فنهاه بعضهم فانتهى.

واشتدَّ عطش الحسين (عليه‌السلام ) , فدنا من الفرات ليشرب , فرماه حصين بن نمير بسهم فوقع في فمه. ثمَّ إنّ شمراً أقبل في نفر نحو عشرة إلى منزل الحسين (عليه‌السلام ) , فحالوا بينه وبين رحله , وجعل شمر يحرَّضهم على الحسين حتّى أحاطوا به , وقام غلام من أهله إلى جنبه , فضربوه بالسيف فقطعوا يده.

____________________

(١) سورة هود / ١١٥.

(٢) سورة العنكبوت / ٥٨ - ٥٩.

(٣) سورة البقرة / ٤٥.

٨١

بعد أن وقع الحسين من على جواده أخذ يقتل بهم وهو في تلك الحالة , فنادى شمر اللعين في الناس : ماذا تنتظرون بالرجل ؟ اقتلوه ثكلتكم اُمَّهاتكم ! فحملوا عليه من كلَّ جانب بالسيوف والرماح وهو يقوم ويكبو حتّى وقع , فأتى شمر وحزَّ رأسه من قفاه , فسلام عليك يا أبا عبد الله وعلى آلك الطاهرين.

فؤاد الراويُّ - البصرة

* * *

٨٢

نضال الحسين (عليه‌السلام )

محمد هاشم الجواهري

هتفت به عزماته فأجابا

والموتُ يخطر جيئة وذهابا

لم يثنهِ عن عزمه للقا العدى

جيشٌ يضيق به الفضاء رحابا

لبّى نداءَ الحقَّ سبطُ محمّدٍ

حتّى غدا دمه له جلبابا

وأتى بعزمِ الله خيرُ مجاهدٍ

كانت له حدُّ السيوف جوابا

ولحقَّه المغدور جاد بنفسه

بطل تدَّرع للصعاب صعابا

مستبسلاً كالليث إلّا إنه

أضرى وأقطع في النوائب نابا

* * *

نفسي الفداء لسيّدٍ في كربلا

لبس الدماء من الطعان ثيابا

في حومةٍ شاب الوليد لهولها

وغدا (زهير) هوىً لها يتصابى

ومعرِّس من آل هاشم في الوغى

كانت له حمرُ الدماء خضابا

تلقاه ما بين الصفوف مصاولاً

ليثاً يذود عن الفرات ذئابا

سهمٌ أصاب من الفضيلة قلبها

يوم الطفوف وصنوها الغلاّبا

ودمٌ اُريق على الأديم فسجّلتْ

منه البطولة للخلود كتابا

سهمُ النفاق أصاب قلباً طاهراً

أدمى لهول مصابه الألبابا

سهمُ النفاق أصاب قلباً طاهراً

لم يتّخذ غير العُلا أسبابا

* * *

٨٣

ظنّت اُميَّةُ لا خلود لغيرها

فرأت أمانيها العذاب سرابا

وبنت على اُسَّ المظالم دولةً

فبدا بقتلك ما بنته خرابا

الطاعنون الدين حقداً طعنةً

نجلاء بات بها الزمان مصابا

شرفٌ ليومك ياحسين فإنه

يوم يفاخر بالسموِّ شهابا

[و] بذمة التأريخ خيرُ عصابة

أفدت لتحرير النفوس رقابا

* * *

محمد هاشم الجواهري

٨٤

من أعماق التاريخ

محمد جمال الهاشمي

محمد جمال الهاشمي ١٩١٣م - ١٩٧٧م

* ولد ونشأ في النجف فقيه وشاعر وكاتب , بلغت مؤلفاته أكثر من [مئة] مؤلف , طبع منها :

١ - الأدب الجديد في العراق ١٩٣٨م.

٢ - مشكلة الإمام الغائب وحلها ١٩٥٨م.

٣ - الإسلام في صلاته وزكاته ١٩٦١م.

٤ - اُصول الدين الإسلامي ١٩٦٢م. وله كتب أُخرى مطبوعة.

٨٥

من أعماق التاريخ

السيّد محمّد جمال الهاشمي

على ذكرك التأريخ يصحو ويسكرُ

وفي ظلّك الأجيال تُطوى وتُنشرُ

وباسمك تستوحي السماء عواطفاً

تحاول أن تسمو إليك فتقصرُ

فما أنت إلّا النور سيرك ظاهرٌ

وسرُّك في دنيا ظهورك مضمرُ

وما أنت إلّا الروح كنهك غامضٌ

وفيضك مثل الشمس بل هو أظهرُ

نهضت فهبَّ الحقُّ والخلد خلفَه

يهلَّلُ ذا شكراً وذاك يكبَّرُ

وقال الإبا تحيا العروبة إنها

سماءٌ بها الأمجاد تزهو وتزهرُ

نهضت بوجه البغي وهو بزهوهِ

مدلٌّ على الأيام ينهى ويأمرُ

فماهي إلّا جولة وتقهقرتْ

كتائبُه في خزيها تتعثّرُ

وما الفجر إل ّ ا ثورةٌ فلكيةٌ

بها الكون من سجن الدجى يتحرَّرُ

ولولا صراعُ البذر والأرض لم يقمْ

من اليابس المنخوب ريانُ أخضرُ

* * *

مضى ابنُ أبي سفيان للقبر واثقاً

بأن الذي أبقاه هيهات يُقبرُ

فهذي بلادُ المسلمين بعهده

تشيد وفي آثاره الغر تفخرُ

وهذا يزيد والنفوس تخافه

وترجوه فهو البحر يرجى ويحذرُ

وتبلغ أحلام القرون اُميَّة

ويعرف منها الدهر ما كان ينكرُ

ولم يخش بأس الهاشميِّين بعدما

قضى الصلح فيهم أن يسادوا ويقهروا

نعم ربما طافت عليه وساوسٌ

فتذعره باليأس واليأس يذعرُ

ففي يثرب (لو ساعد الدهر) عصبةً

ترى أنها بالأمر أولى وأجدرُ

لها في نفوسِ المسلمين جلالةٌ

تهاب وشأنٌ في البلاد مقدّرُ

ويا ربما يقوى على كيد بعضها

فيدحره والكيد بالكيد يُدحرُ

فيزعم أنّ (ابن الزبير) مراوغٌ

بفطرته حتّى على الدين يمكرُ

٨٦

وخطوة عبد الله وهي قصيرةٌ

يخاف عليها بالمزالق تعثرُ

ولكن بماذا يسترُ الشمس إن بدت

وما كان ضوءُ الشمس بالكيد يُسترُ

فهذا حسينٌ والعناصر باسمه

إذا ما جرى ذكرُ الخلافة تجهرُ

يؤهّله للعرش مجدٌ مؤثل

يؤسّسه طه ويعليه حيدرُ

وفضل إليه الفجر ينهب نوره

ودين به الإيمان يزكو ويطهرُ

وروح هي الآماد حدّاً وإنّها

لأعظم منها في الجلال وأكبرُ

أيمكن أن يدنو يزيد لمجده

وتاريخه من بؤرة العهر أقذرُ

وهب أنه بالجبر حاول بيعةً

من الناس كيف ابن البتولة يُجبرُ

وحيّره الأمر الرهيب وطالما

بموقفه أندادُه قد تحيَّروا

وغامر في فرض النظام ولم يكن

إذا ما وعى صوت الحجى يتهوّرُ

وقام يزيد ساخراً بسلوكه

على كلِّ ما سن الشيوخ وقرّروا

* * *

تنمَّر حتّى حطَّم القيد داعياً

لحرَّية فيها الهوى يتنمَّرُ

وأطلق دنياه من الدين ساخراً

بقوم بهم اُسطورة الدين تسخرُ

فما شأن بيت الله وهو بنيَّة

مقاصره منها ألذ وأنضرُ

وهل كان غير الجهل قائد اُمَّة

إلى (حجة) راحت تخبُّ وتنفرُ

سينسفه لو ساعد الدهر عابثاً

بأحلام قوم حوله قد تجمهروا

ويهتك أستار العقائد إنها

ضلال بأبراد الهدى تتسترُ

وراح يناجي الكأس بالسرَّ قائلاً

لمثلك مَن بالسرَّ جاهر يعذرُ

وودَّعه مذ صاح داعي السما به

إلى الله يامغرور فالله أكبرُ

وعاد إليه ناقماً من شريعةٍ

بها الصوم معروف بها الخمر منكرُ

فهاجمها بالشعر والشعر لوحة

عليها تعابير النفوس تُصوَّرُ

صحا ساعة من سكره فاسترابه

مقامٌ على دنياه أمسى يسيطرُ

وأضحكه أن يغتدي قائدُ الورى

إلى الدين عقل بالشرائع يكفرُ

٨٧

ولكنَّه شيء جرى فليقم به

كما يقتضي ناموسه ويقدَّرُ

سيصبر حتّى ساعة النصر والفتى

إذا رام نصراً في الجهاد سيصبرُ

فطالع أسرار البلاد فلم يجد

سوى نفر من حكمه قد تأخَّروا

وما كان لولا السبط يهتمُّ فيهمُ

لأنّ مقاييس الهوى تتطوَّرُ

ولكنه روح تسامى وجوهرٌ

تجرَّد بالأعراض لا يتغيَّرُ

لذاك قضى تفكيرُه أن يزيله

وإنْ عابه قومٌ وعاداه معشرُ

فقرر أن يغتاله بعصابةٍ

ضمائرُها بالمال تُشرى وتؤجرُ

* * *

إلى البيت سار ابنُ البتولة ناقماً

على حالةٍ منها الشريعة تضجرُ

وما كان يبغي الحجَّ في عامه الذي

يغصُّ بآلاف الحجيج ويزخرُ

ولكنَّها الروح التي ثار حقدها

على الوضع فاهتاجت به تتذمرُ

فهاجر قبل الحج عنها بليلةٍ

بها النجم غافٍ والكوارث تسهرُ

وساءله عن سيره البعض فانثنى

يجيب بأنّ السير أمر مقدَّرُ

وفي قوله سرٌّ يضيق بشرحه

بياني ويعيا الشعر لو كان يشعرُ

وكان احتجاجٌ صامت وتأهّبٌ

لثورة فكر باللظى يتفجرُ

وفي كربلا حيث البلاء مخيمٌ

بأجوائه راح الحسين يعسكرُ

وكان قتالاً لاتزال دماؤه

تسيل دموعاً في القرون وتمطرُ

* * *

٨٨

فقل للَّذي يعزي إلى ابن سميةٍ

مصارع أبطال مدى الدهر تذكرُ

أعد نظراً في الحادثات فإنها

رموز بها الأسرار تخفى وتظهرُ

أكان ابن ميسون بريئاً وباسمه

يهمهم شمر سيفه ويزمجرُ

أيقوى عبيد الله نغلُ سميةٍ

على الفتك بابن الطاهرات ويجسرُ

وتعلى على الأرماح أرؤسُ فتيةٍ

يشعُّ بها الليل البهيم ويقمرُ

وتُسبى بناتُ الوحي وهي حواسرٌ

تُسبُّ بأفواه اللئام وتزجرُ

ويؤسر زينُ العابدين مقيَّداً

ومثلُ ابن سبط المصطفى كيف يؤسرُ

ويهدى سبايا الطفَّ للشام ذلةً

على عُجُفٍ إن قُدّمت تتأخَّرُ

ويحضرها في مجلس الخمر هاتفاً

يزيدُ على نخب انتصاريَ أسكرُ

فيضرب ثغرَ ابن البتول وثغرُه

يدمدمُ بالكفر الصريح ويهذرُ

نوائب يعيا العدُّ عن حصرها وهل

تحدُّ رمال البيد عدّاً وتحصرُ

محمّد جمال الهاشمي - النجف

* * *

٨٩

الذكرى الثانية

لسنة (١٣٦٨ ه ١٩٤٨) م

في قاعة الثانويَّة مساء يوم العاشر من شهر محرم (١٣٦٨) ه , إذ ابتدأت الحفلة في تمام الساعة (٣) بعد الظهر, وانتهت في تمام الساعة (٥) بعد الظهر.

عدد الكراسي ١٥٠٠.

٩٠

منهج الحفلة الكبرى للذكرى الثانية

مساء يوم العاشر من محرم (١٣٦٨) ه , الموافق (١٢ / ١١ / ١٩٤٨) م

تحت رعاية سعادة متصرّف اللواء السيد فخري الطبقجلي

١ - القرآن الكريم … المقرئ الشيخ عبد الكريم الحمداني

٢ - خطب جلل … عبد الرزّاق العائش

٣ - مرآة الحقيقة … سعادة الاُستاذ فخري الطبقجلي

٤ - كلمة ارتجاليَّة … الاُستاذ محمّد جواد جلال

٥ - (قصيدة) …العلامة المرحوم السيد عبد الصاحب شبر(١)

٦ - الجهاد الخالد … الاُستاذ أحمد حمد آل صالح

٧ - ذكرى شهيد الطف (قصيدة) … الاُستاذ كاظم مكي حسن

٨ - كلمة … الاُستاذ عبُّود شبَّر(٢)

٩ - عظة وعبرة … الاُستاذ فيصل جريء السامر

١٠ - شعلة الطفَّ الَّتي لا تنطفئ … الاُستاذ أحمد بدران

١١ - كلمة الختام … عبد الرزاق العائش

١٢ - القرآن الكريم … الشيخ علي السبيعي

* * *

____________________

(١) ألقاها السيد بنفسه , ولكنَّ الهيئة لم تحتفظ بنسخة منها.

(٢) ألقاها الكاتب بنفسه , ولكنَّ الهيئة لم تحتفظ بنسخة منها.

٩١

خطب جلل

عبد الرزاق العائش

أيَّها الحفل الكريم , لقد عبرت قافلة أسلافنا الماضين خضمَّ هذه الحياة الصاخبة بمختلف الحوادث والخطوب , وتوارت عن الأبصار , إلّا أنها تركت وراءها لكل حادث جسيم أو خطب جلل أثراً يتفاوت من حيث الشدة والعنف , يتفاوت تأثيره على شاطئ السلام.

فمن الحوادث ما يزول أثره زوال يومه , ويتلاشى أثره بتلاشي ذكره ؛ وذلك لكونه منبثّاً عن غرض شخصيًّ دنيء ينافي المثل العليا , فيكفهر حينئذ جو الطمأنينة والهدوء , ويتبدد شمل الوحدة والوئام. فاذا ما حدث حادث من هذا القبيل , وطرأ ذكره ذكرت معه المساوئ والمثالب , وبدت صورته كأبشع ما تكون خزياً وعاراً , فلا يزدنَ صاحبهن إلّا فناء إلى فنائه.

ومن الخطوب الجليلة ما يخلد به ذكر صاحبه على مر العصور , فإذا ذكر أو مرَّت ذكراه تمثَّلت صورته كأروع ما تكون جدَّة وعنفواناً , يضوع منها عطر الحياة الحرَّة المحبَّبة لدى كلِّ شهم أبيًّ , وهكذا حتّى يخالج كلَّ شعور حيًّ , ويمازج كلَّ نفس سامية.

وليست العبر بما يستغرقه وقع الخطب من الوقت , بل العبرة كل العبرة بما يتركه من أثر ؛ فالخطب الذي نحن اليوم بصدده لم يستغرق وقعه أكثر من بضع ساعات , ولكنَّه مع ذلك ترك أثراً عميقاً , بل ويزداد عمقاً في النفوس الشاعرة كلما تعمق بالقدم.

والغريب من أمر هذا الخطب هو أن الاختلاف إنما يحصل عادة بين علماء الدرس والتحليل على معرفة كنه الاُمور وجوهرها أكثر ممّا يحصل على معرفة شكلها ومظهرها , وخطبنا هذا جاء بالعكس ؛ إذ إنه على الرغم من تضارب الآراء وتطاحن النزعات على تحديد شكله ومظهره لم يختلف اثنان في إدراك كنهه وجوهره.

٩٢

فلقد أجمع المؤرَّخون ومَن جاء بعدهم من علماء النقد والتحليل على أن الحسين (عليه‌السلام ) لم يستهدف من وراء نهضته الجبّارة سوى المثل الإنساني الأعلى. ومما لا شكَّ فيه إنّ أسمى وأعلى مثل إنسانيًّ يستهدفه ذو العقل السليم هو الحقُّ الصريح أينما وجد , ومهما عزَّ أو غلا.

فلا بدّ إذاً للحسين (عليه‌السلام ) وهو المعروف بشممه وإبائه من أن يدفع ثمن هذا الهدف السامي غالياً , ثمن كان من بعضه إسالة النفوس الطاهرة الزكية على مذبح الغايات والأطماع. وهكذا ترك الحسين للإنسانية درساً قيماً تُستوحى منه روح التضحية والإقدام. روح الذود عن الكرامة بأسمى معانيها.

إذن يجدر بنا أيُّها السادة أن نحيي هذه الذكرى الخالدة بما يتَّفق وقدسيَّتها لنستوحي منها روح الإيمان بالله والتصديق بقوله :( وَلَا تَحسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا في سَبِيِل اللهِ أَموَاتاً بَل أَحيَآء عِندَ رَبِّهِم يُرزَقُونَ ) (١) .

والسلام عليكم.

عبد الرزَاق العائش

____________________

(١) سورة آل عمران / ١٦٩.

٩٣

مرآة الحقيقة

السيد فخري الطبقجلي

(متصرَّف لواء البصرة)

أيُّها السادة , نجتمع اليوم وفي القلوب لوعة وقد أدمتها ذكريات الحادث الجلل , نجتمع اليوم لنحيي الشهامة والبطولة والإباء. وفي هذا المحفل المهيب الذي تتجلّى فيه روعة الموقف وقدسيَّة الذكرى وجلال الحادث نعيد للأذهان ما دوَّنه التأريخ في بطونه من إباء شهيد الطفَّ وشهامة سبط الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله ).

وفي هذا اليوم من كلَّ عام هجري نقف بخشوع أمام مرآة التأريخ فينعكس صدق الذكرى في نفوسنا إثر الوقفة الجبّارة التي كان بطلها سيّد شباب أهل الجنة أبا عبد الله الإمام الحسين بن علي (رضوان الله عليهما). إنها وأيم الحق موعظة بليغة ودرس خالد في الكرامة وعزة النفس والإباء والشهامة.

أيّها السادة , كانت الجاهليّة تقدَّس هذا الشهر الذي وقع فيه الحادث لحرمته , وتقيم له وزنه , حتّى جاء الحادث الجلل الذي أدمى قلب المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها , فزاد في يوم عاشوراء قيمة ومكانة وقدسيَّة.

سيّدي أبا عبد الله , بقلب واجم ونفس كئيبة وفؤاد متصدَّع مجروح أقف أمام ذكراك أستعرض في كبدي وقفتك التأريخيَّة الخالدة , تلك الوقفة التي غيَّرت مجرى التأريخ فكان ما كان. وهكذا ستتجدد الذكرى كلَّما مرَّت الأعوام وامتدَّ بالإسلام الدهر , فجدّد العهد الذي قطعته على نفسك وأبيت إلا أن تذود عن كيان جدَّك المصطفى (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) بالنفس والنفيس , فنلت اُمنيتك بإبائك ومروءتك.

أيّها السادة , في العالم كثير من الحوادث الجسام الَّتي تهلع لها القلوب , وفي العالم كثير من المجازر التي تشيب لهولها الولدان , لكنَّها كلَّها تتلاشى وتذوب عند حادثة الطفَّ الّتي تبلى السنون والأعوام وهي عامرة بالعبر والموعظات , وكأنها وقعت قبل هنيهة.

٩٤

هي المثل الأعلى أيُّها السادة في التضحية الصادقة من أجل المبدأ الصحيح والإيمان القويم , فيها دروس كثيرة على الإنسان أن يضعها أمام عينيه إذا ما أراد القيام بالواجب والتمسك بالمبادئ الوطنية الصحيحة , ومعرفة كيفيَّة التضحية بالنفس والنفيس من أجل الدين والوطن.

فعلينا أن نتَّخذ منها العبرة للاتَّفاق والاتحاد , وترك الضغائن والأحقاد , والتضحية والتفاني في سبيل حفظ كياننا ووطننا. وحسبي ما قاله الشاعر العربي عبد الغني الخضري في هذا الباب , حيث قال :

خذي يا بني قحطان ذكراه منهجاً

فإن بها للطالب المجدَ والفخرا

ومن وحيها مايرفع الشعب عالياً

ومن بعد طول الرقَّ يطلقه حرا

عن المبدأ السامي عن الدين لم يزل

يناضل لا عن عرش قيصر أو كسرى

فلو أننا سرنا على ضوء نهجه

لعادت يد الباغي على أرضنا صِفرا

وعاد الَّذي غلَّت يداه بحسرة

وما كان يوماً بالمواعيد مغترّا

تذبُّ عن الأوطان من أرض يعربٍ

وما وهبت يوماً لأعدائها شبرا

* * *

ولا يفوتني قبل أن أختم الكلام أن أستطرد موقف البلاد العربيَّة(١) وما

____________________

(١) وردت هذه الكلمة على لسان صاحبها في زمن كان التوجُّه فيه قومياً بحتاً ؛ نتيجة للظروف السياسيَّة الملمَّة بالعالم العربي آنذاك , وبعض الأحداث الهامَّة كالثورة المصريّة , ونشأة بعض الأحزاب القوميَّة. ولا ننسى أنَّ كاتبها هو محافظ البصرة , وكان الأولى أن يطلق محلَّها تسمية البلاد الإسلاميّة مثلاً.

٩٥

يُنتظر لتحقيق أهدافها من كفاح يتوقَّف على سواعد الشباب الذين هم الركن المهمُّ في كيان الدول , والعنصر الفعّال في مجرى الحياة الصحيحة.

فإلى الشباب اُوجَّه كلمتي , وأرجو منهم أن يضعوا نصب أعينهم ما تنتظره البلاد منهم من آمال وأمان متَّخذين من حادثة الطفَّ الاُسوة والقدوة. والله أسأل أن يحفظ البلاد العربيَّة للعرب , ويدفع عن فلسطين العربيَّة الشقيقة الظلم والعدوان.

وبعد , فلا أستطيع أن أصوغ الكلم واُحسن التعبير في هذا الموقف الرهيب أكثر من هذا , وحسبي أن أترك لخطبائكم وشعرائكم إلقاء ما تجود به قرائحهم تكريماً لصاحب هذه الذكرى , والسلام عليكم.

فخري الطبقجلي - البصرة

* * *

٩٦

الجهاد الخالد

أحمد آل صالح

حضرات السادة , تصاب الاُمم أحياناً بنكسات ترتدُّ على أعقابها , وتفقدها كثيراً من مميزاتها ومبادئها , وتنسيها واجباتها , وتذهلها عن القيام بتلافي أمرها. ومثل هذه النكسات تأتي على فترات تتفاوت في الطول والقصر , يأتي بعدها رجال ألهمهم الله كيف يردُّون اُممهم إلى جادَّة الصواب , ويعيدون إليها ما فقدته , ويسبغون عليها نعمة الاتَّحاد , وينفخون فيها روح القوَّة والإيمان.

ومن هؤلاء الرجال الأنبياءُ والرسلُ والمصلحون من الزعماء والقادة. ولقد جاء الرسول محمّد (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) على فترة من الرسل , كان العالم يسدر في ظلمات الجهالة , وكان العرب على الأخصَّ في حال لا توصف من الانحلال والفوضى؛ فبدَّد تلك الظلمات , ورفع من قيمة الفرد , وأباد الطبقيَّة , ونشر لواء الحرَّيَّة بمعناها الصحيح , وبدأ بالعرب عشيرته الأقربين فوحَّدها وجعلها خير اُمَّة اُخرجت للناس , أئمَّة يهدون إلى الخير وبه يعدلون , وفارق الدنيا وهو راضٍ مرضيٌّ. كيف لا , وقد قال له ربه :( اليَومَ أَكمَلتُ لَكُم دِينَكُم وَأَتمَمتُ عَلَيكُم نِعمَتِي وَرَضِيتُ لَكُم الإِسلامَ دِيناً ) (١) ؟

لم تكد تنقضي ثلاثة عقود من السنين على تلك الاُمة الموحَّدة التي فارقها

____________________

(١) سورة المائدة / ٣.

٩٧

منقذها الأعظم وهو عنها راضٍ , حتّى لاحت فيها بوادر الانتكاس من شقاق وفساد في الحكم , وإذا بها تصاب برجَّة عنيفة روَّعتها وأذهلتها , وهي لـمّا تزل بعد فيها مَن جالس محمّد (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) , وروى عن محمَّد (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) , وكان هذا ولا ريب نذير سوء , وبدء شرٍّ مستطير جعل الناس في حيرة من أمرهم لا يدرون ماذا يفعلون.

وتتَّسع الهوَّة وتحلُّ النكسة , ويبدأ الصراع من جديد بين الحق والباطل , وتأبى حكمة الله الأزليَّة إلا أن تُرسل للعرب والإسلام من يجود بنفسه ليذود عن بيضة الدين , ويحامي عن بني العروبة , ويوقف سير هذه النكسة حتّى لا يرتدَّ المسلمون كفاراً يعبدون أشخاصاً وأوثاناً , ولينتصر للحق والحرية والعدل , وليعيد إلى الأذهان صورة الجهاد الحقَّ, وكيف تكون التضحية في سبيل الحقَّ والمجموع.

وهكذا كان , وقع اختيار الله على [ابن] بنت رسوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ليجدد عهد نبيه , ويعيد مبادئه السامية وتعاليمه السمحة الَّتي أوشك أن يأتي عليها الاندثار.

سادتي , لننظر الآن ماذا حول الحسين (عليه‌السلام ) ؟ شريعة مهجورة , وحكم ونظام جائر , ومنكر شائع , وحقوق مهدورة , وأخلاق يعصف بها الهوى , ونفوس أمرضها الغرض وتسلَّط عليها البغي , وانحلال وتضارب في الآراء تزجيهما نفعيَّة خسيسة , وتذكيهما أنانيَّة وضيعة , بهرها حبُّ العنف والسيطرة , ويشعل اُوارهما زناد قبليَّة جاهليّة يمدُّها شياطين الإنس , ويملي لها موتورون يتربّصون بالاُمَّة الدوائر عن يمين وشمال.

ونتيجة لذلك كلَّه فقد أمست الحالة النفسيَّة العامَّة في المحيط الَّذي امتدَّت الحياة بالحسين ليراه على أشدَّ ما تكون من الاضطراب والارتباك والتقلقل. وكانت قلوب الأكثريَّة هلعة جازعة تغلي بالحقد والغضب والانتقاد لأعمال الفئة التي بيدها الأمر , لانصرافها عن الاُمور الأساسيَّة , وانحرافها عن سبيل الرشد , وانغماسها إلى الأذقان في الشهوات.

٩٨

ولا غرابة في ذلك , فقد كان رأس تلك الفئة لا يملك واحدة من كفاءات الحكم , وما هو إلّا مجموعة من مركّبات النقص والضعف وحب الذات اجتمع بعضها إلى بعض , فتكوَّن منها ذلك الرأس [المأفون](١) , والخليع الماجن الَّذي لوَّث وجه التأريخ العربي بكثير من تصرُّفاته الطائشة الهوجاء , والتي منها استباحة المدينة مثوى الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) وأصحابه وسبيها , وضرب اُم القرى وتهديمها. هذا إلى جانب فعلته الشنعاء بقتله أفضل من كان يمشي على الأرض ؛ ممّا أفقده حبَّ الناس , وأكسبه لعنة التأريخ , وبئس ما كسب.

أيُّها السادة , لقد كان الناس يحسُّون ويشعرون بنقائص الحكم ونقص الحاكم , وما يكتنفها من المخازي , ولكنهم ليسوا بمستطيعين إزالة هذه المنكرات الَّتي فشت , والمفاسد التي شاعت إما رغباً وإما رهباً ؛ فقد راحت الدنانير تكمّ الأفواه , والدعاية العريضة المبطلة تُصمُّ الآذان , والقوة الغاشمة تحصد الرؤوس أو تشتدُّ بها تضييقاً وإعناتاً , والترضيات تبذل لهذا وذاك ممَّن أعماهم بريق الذهب ولمعان الفضة فاستخذوا وهان عليهم دينهم , ورخصت نفوسهم فباعوها بثمن بخس , ومع ذلك فقد ظلَّ السواد يرقب الحال , ويرسل الصيحة تلو الصيحة , ويستغيث ويستصرخ , ويرقب ساعة الخلاص , وينتظر وثبة البطل.

ومضى البطل وقد هاله ما وصل إليه أمر الاُمَّة من التبذُّل والإسفاف , وما آل إليه من التدنَّي والانحطاط , يجهر برأيه, وينكر المنكر , ويندَّد بتصرُّفات أشقى اُميَّة , ويطلب أن يتولى الأمر كفء يرضاه الناس.

وكيف لا

____________________

(١) في المطبوع : (الآفن).

٩٩

وهو يرى تلك الفئة تخرج على تعاليم مدرسته وتهجرها , وقد استخفَّها الغرور ؛ فزاغت أبصارها , وعميت بصائرها , وركبت رأسها , وسدرت في غيها ممعنة في مهاوي الضلال وظلمات الباطل.

وقامت الدعاية تلوح للبطل وتستميله , وتبذل له وتستهويه , فازورَّ عنها ساخراً , وترفّع محتقراً ؛ إذ لا مطمع له في دنياً , ولا رغبة له في عرض , ولكنَّه يريد إصلاح أمر الناس. ومن ذا الَّذي يقوم بأعباء هذا العمل الجسيم إذا لم يقم هو ؟ لأنه يرى نفسه مسؤولاً أمام الله إذا لم ينهض لدرء خطر يهدَّد رسالة جدَّه المنقذ التي جاء بها رحمة للناس كافة.

وقد كان , ورفع الحسين لواء الجهاد , وهبَّ لنصرة الحق , فكان مثلاً رائعاً أعلى في جهاده , ورسوخ إيمانه , وشدَّة ثباته على عقيدته ومبدئه :

قف دون رأيك في الحياة مجاهداً

إن الحياة عقيدةٌ وجهادُ

وهكذا وهب نفسه صابراً راضياً , يرى مصارع إخوته وبنيه وأصحابه حواليه وبين يديه , ثمَّ هو الآخر يختم المطاف فإذا البطل يهوي من عليائه , وإذا هو بقصة الخلود هذه يُلقي بها دروساً في الجهاد ستبقى حروفها وضَّاءة تشعُّ على شعب يريد الخلاص من ربقة الذل نوراً وهاجاً , وتبعث فيه عزماً وإيمانا بحقَّه وحريَّته في الانطلاق من الآسار والتحرُّر من النير , والحرَّيَّة بنت التضحية :

قد خاب من طلب الحقو

ق بغير ألسنة الحرابِ

أيُّها السادة , لقد جاهد الحسين (عليه‌السلام ) في الله حقَّ جهاده , وقضى نحبه في هذا الجهاد الخالد هو ونخبة صالحة وقفت موقفه المشرف. وهو وإن كان قد قضى لكنه انتصر نصراً عزيزاً , وكسب المعركة بهذه الميتة النبيلة التي لم تكن في الحقيقة إلّا حياة خالدة سرمديَّة له ولمبادئه وتعاليمه , بل هو الطريق الواضحة لانتصار الحق وظهوره :

لا يموت الحقُّ مهما لطمت

عارضيه قوةُ المغتصبِ

حضرات السادة , ها هي ذكرى جهاد بطلنا الأكبر تطلُّ علينا , وقد تعاقبت عليها القرون الطويلة وكأنها بمعانيها السامية وبما ضربته للناس من أمثال قد وقعت أمس. أمّا تلك الفئة الباغية فقد أفنتها جريرتها هذه , وأهلكها بغيها وما كسبت أيديها , وأضحت كالأطلال البالية بعد حفنة من السنين , وتلك والله آية الجهاد , وهذا سرُّ التضحية.

١٠٠