وهو يرى تلك الفئة تخرج على تعاليم مدرسته وتهجرها , وقد استخفَّها الغرور ؛ فزاغت أبصارها , وعميت بصائرها , وركبت رأسها , وسدرت في غيها ممعنة في مهاوي الضلال وظلمات الباطل.
وقامت الدعاية تلوح للبطل وتستميله , وتبذل له وتستهويه , فازورَّ عنها ساخراً , وترفّع محتقراً ؛ إذ لا مطمع له في دنياً , ولا رغبة له في عرض , ولكنَّه يريد إصلاح أمر الناس. ومن ذا الَّذي يقوم بأعباء هذا العمل الجسيم إذا لم يقم هو ؟ لأنه يرى نفسه مسؤولاً أمام الله إذا لم ينهض لدرء خطر يهدَّد رسالة جدَّه المنقذ التي جاء بها رحمة للناس كافة.
وقد كان , ورفع الحسين لواء الجهاد , وهبَّ لنصرة الحق , فكان مثلاً رائعاً أعلى في جهاده , ورسوخ إيمانه , وشدَّة ثباته على عقيدته ومبدئه :
قف دون رأيك في الحياة مجاهداً
|
|
إن الحياة عقيدةٌ وجهادُ
|
وهكذا وهب نفسه صابراً راضياً , يرى مصارع إخوته وبنيه وأصحابه حواليه وبين يديه , ثمَّ هو الآخر يختم المطاف فإذا البطل يهوي من عليائه , وإذا هو بقصة الخلود هذه يُلقي بها دروساً في الجهاد ستبقى حروفها وضَّاءة تشعُّ على شعب يريد الخلاص من ربقة الذل نوراً وهاجاً , وتبعث فيه عزماً وإيمانا بحقَّه وحريَّته في الانطلاق من الآسار والتحرُّر من النير , والحرَّيَّة بنت التضحية :
قد خاب من طلب الحقو
|
|
ق بغير ألسنة الحرابِ
|
أيُّها السادة , لقد جاهد الحسين (عليهالسلام
) في الله حقَّ جهاده , وقضى نحبه في هذا الجهاد الخالد هو ونخبة صالحة وقفت موقفه المشرف. وهو وإن كان قد قضى لكنه انتصر نصراً عزيزاً , وكسب المعركة بهذه الميتة النبيلة التي لم تكن في الحقيقة إلّا حياة خالدة سرمديَّة له ولمبادئه وتعاليمه , بل هو الطريق الواضحة لانتصار الحق وظهوره :
لا يموت الحقُّ مهما لطمت
|
|
عارضيه قوةُ المغتصبِ
|
حضرات السادة , ها هي ذكرى جهاد بطلنا الأكبر تطلُّ علينا , وقد تعاقبت عليها القرون الطويلة وكأنها بمعانيها السامية وبما ضربته للناس من أمثال قد وقعت أمس. أمّا تلك الفئة الباغية فقد أفنتها جريرتها هذه , وأهلكها بغيها وما كسبت أيديها , وأضحت كالأطلال البالية بعد حفنة من السنين , وتلك والله آية الجهاد , وهذا سرُّ التضحية.