مقتل الحسين للخوارزمى الجزء ٢

مقتل الحسين للخوارزمى0%

مقتل الحسين للخوارزمى مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 311

  • البداية
  • السابق
  • 311 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 13724 / تحميل: 2320
الحجم الحجم الحجم
مقتل الحسين للخوارزمى

مقتل الحسين للخوارزمى الجزء 2

مؤلف:
العربية

يا قدامة بن مالك! فناد في الناس : يا لثارات الحسين بن علي! ثم قال : يا غلام! عليّ بدرعي وسلاحي ، فصب الدرع على بدنه وهو يتمثل بقول مروان بن الحكم :

قد علمت بيضاء حسناء الكلل

واضحة الخدين عجزاء الكفل

إني غداة الروع مقدام بطل

لا عاجز فيها ولا وغد فشل

ثم خرج المختار من منزله على فرس له أدهم أغرّ محجّل ومعه إبراهيم على كميت له أرثم(١) وقد رفعت بين أيديهم النيران في هراوي القصب ، والناس ينادون من كل ناحية وجانب : يا لثارات الحسين! فاجتمع الناس الى المختار من كل جهة ، وجاءه عبيد الله بن الحر في قومه وعشيرته ، وجعل إبراهيم بن مالك يدخل السكك التي فيها الامراء والقواد والجند الكثير ، فيهجم عليهم هو والمختار وعبيد الله بن الحر ، فيكشفونهم مرّة بعد اخرى ، والمختار يقول : اللهم! إنّك تعلم أنا إنما غضبنا لأهل بيت نبيك فانصرنا على من قتلهم وظلمهم ، وتمم لنا دعوتنا إنّك على كل شيء قدير.

فبينا هم كذلك وإذا بسويد بن عبد الرحمن من أصحاب عبد الله بن مطيع قد أقبل في خيل عظيمة وجحفل لجب ، فنظر إليهم إبراهيم ، وقال للمختار : مكانك أيها الأمير! ذرني وهؤلاء ، ثم نادى إبراهيم في أصحابه : يا شرطة الله! إليّ إليّ ، فأحاط به قومه من قبائل مذحج والنخع ، فقال لهم : انزلوا عن دوابكم فأنتم أولى بالنصر والظفر من هؤلاء الفساق الذين خاضوا في دماء آل محمّدعليهم‌السلام ، فنزل القوم ونزل معهم إبراهيم ، ثم دنوا من القوم فطاعنوهم وضاربوهم فهزموهم حتى بلغوا بهم الى الكناسة ، فاستوى إبراهيم وأصحابه على دوابهم ، وجاءوا إلى المختار على مسجد

__________________

(١) الأرثم : الفرس الذي في طرف أنفه بياض.

٢٤١

الأشعث بن قيس ، ثم على مسجد جهينة ، ثم بلغوه فرأوا شبث بن ربعي وحجار بن أبجر قد أقبلا بأصحابهما نحو المختار ، فكبر إبراهيم وأصحابه تكبيرة واحدة وحملوا عليهم ، فاشتدّ القتال وكثرت القتلى من أصحابهما ثم انهزما بجنديهما حتى تفرقوا بالأزقة والسكك ، ثم أقبل أبو عثمان النهدي في بني نهد ، وبيده راية صفراء ، وهو ينادي : يا لثارات الحسين بن علي! إليّ إليّ أيها المهتدون! فثاب إليه الناس من كلّ ناحية ، فحمل على أصحاب عبد الله بن مطيع فاشتدّ القتال ، ولم يزل الناس في تلك الليلة الداجية المسدولة أطرافها في قتال شديد وحرب وطعن ، حتى لقد نسوا والله فيها ليلة الهرير بصفين إلى أن أصبحوا ، فنظر المختار إلى عمود الفجر قد طلع ، فنادى في اصحابه وخرج بهم عن الكوفة حتى نزل في ظهر دير هند مما يلي بستان زائدة في السبخة.

٨ ـ وروى أبو مخنف : عن الوالبي ؛ وحميد بن مسلم ؛ والنعمان بن أبي الجند ، أنهم قالوا : أتينا المختار في معسكره فصلّى بنا الفجر بغلس فقرأ بنا :( وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً ) ، و( عَبَسَ وَتَوَلَّى ) فما سمعنا والله إماما قط أمّ قوما بأفصح لهجة منه ، والتأم قومه هنالك وجاءوا أفواجا إليه من النواحي والجوانب على كل صعب وذلول ، وعبد الله بن مطيع يوجه إلى نحوه الزحوف كردوسا كردوسا ، فأولهم زحف شبث بن ربعي في أربعة آلاف ؛ ثم راشد بن إياس بن مضارب العجلي في ثلاثة آلاف ؛ ثم حجار بن أبجر في ثلاثة آلاف ؛ ثم الغضبان بن القبعثري في ثلاثة آلاف ؛ ثم شمر بن ذي الجوشن في ثلاثة آلاف ؛ ثم عكرمة بن ربعي في الف ؛ ثم شداد بن المنذر في ألف ؛ ثم عبد الرحمن بن سويد في ألف ، واجتمع أصحاب المختار فكانوا عشرين ألفا أو يزيدون ، وأشرف رجل من أصحاب المختار على حائط

٢٤٢

من حيطان الكوفة ، فجعل ينظر في هذه العساكر ، فقوم صلوا وقوم لم يصلوا بعد ، وإذا إمام القوم يقرأ بهم سورة :( إِذا زُلْزِلَتِ ) ، فقال : أرجوا أن يزلزل الله بكم الأرض سريعا. ثم قرأ :( وَالْعادِياتِ ) ، فقال : أرجو أن تكون الغارة عليكم سريعا.

قال : وأقبل مسعر بن أبي مسعر الحنفي إلى المختار فقال : أيها الأمير! وافتك العساكر يتلو بعضها بعضا مستعدين للحرب عازمين على الموت فاصنع ما أنت صانع.

فقال له المختار : لا تخف يا أخا حنيفة! فإن الله تعالى كاسر شوكتهم وهازمهم الساعة ، وأصحرت العساكر إلى المختار ، فكان كلما نظر إلى قائد من قواد ابن مطيع وجه إليه قائدا من قواده بمثل قوته وعدده ، فاشتدّ القتال وعلت الأصوات وارتفع الغبار ، فجعل إبراهيم يحمل من ناحية ؛ وعبيد الله بن الحر من ناحية اخرى ، والمختار تارة يحرض على القتال ويشجع الأبطال ، وتارة يحمل بنفسه على الرجال ، حتى إذا كان وقت الضحى انهزم أصحاب ابن مطيع هزيمة شنيعة ، وقتل منهم جماعة فصاح شبث بن ربعي : ويلكم يا حماة السوء! أتنهزمون من عبيدكم وأراذلكم؟ فتراجع الناس واقتتلوا ساعة ، ثم انهزموا ثانيا حتى دخلوا أزقّة الكوفة ، فوقف المختار على أفواه السكك ، وأمر أصحابه بالنزال والقتال ، فاقتتلوا هناك قتالا لم يسمع بمثله ، وجعل السائب بن مالك الأشتر أخو إبراهيم يصيح : يا شيعة آل محمد! إنكم كنتم قبل اليوم تقطع أيديكم وأرجلكم من خلاف وتسمل أعينكم ، وتصلبون أحياء على جذوع النخل ، وأنتم إذ ذلك في منازلكم لا تقاتلون أحدا من هؤلاء ، فما ظنكم بهم اليوم بعد هذا القتل ، فهم لو ظهروا عليكم ما ذا يفعلون بكم؟ فالله الله ، في أنفسكم وأولادكم وأهاليكم ،

٢٤٣

قاتلوا أعداء الله المحلّين فلا ينجيكم اليوم إلّا الصدق واليقين والطعن الشزر ، والضرب الهبر ، ولا يهولنكم ما ترون من عساكرهم فإنّ النصر مع الصبر.

فلما سمع أصحابه ذلك رموا بأنفسهم عن دوابّهم وجثوا على الركب ، وأشرعوا الرماح وجرّدوا الصفاح وفوّقوا السهام ، فثار القتال ، واصطفقوا بالسيوف اصطفاقا ، وتشابكوا مع الأعداء اعتناقا ، وصبر بعضهم لبعض ، فقتل من الفريقين جماعة ، ثم انهزم أصحاب ابن مطيع ، فاقتحم المختار الكوفة ، فتصايحت النسوان وعلت الأصوات بطلب الأمان ، من العجائز والصبيان ، من فوق السطوح وكل مكان ، ونادوا : يا أبا إسحاق! الله الله في الحرم ، فصاح المختار : لا بأس عليكم الزموا منازلكم ، فأنا المسلط على المحلين. وجعل عبد الله بن مطيع يصيح : إنّ من العجب عندي عجزكم عن عصبة منكم قليل عددها ، خبيث دينها ، ضالة مظلّة ، يقاتلون على غير الحقّ ، جرأة على هذا الخلق ، كرّوا عليهم وامنعوا حريمكم ومصركم.

فبينا هو يحرض أصحابه ويشجعهم إذ بإبراهيم وعبيد الله بن الحرقد أقبلا في نحو أربعة آلاف فارس لا يرى منه إلّا الحدق ، فلما نظر إبراهيم إلى ابن مطيع صاح : أنا ابن الأشتر ، أنا الأفعى الذكر ، ثم قال لأصحابه : شدّوا عليهم ، فداكم أبي وخالي ، ولا يهولنكم أسماء قوادهم شبث وحجار وسويد وفلان وفلان فو الله ، لو أذقتموهم شبا الرماح ؛ وحد الصفاح ؛ لما وقفوا لكم أبدا ، احملوا عليهم فداكم أبي وأمي. وحمل فتبعه ابن الحر وتبعه المختار وتبعه أصحابه معهم ، حملة واحدة فانهزم أصحاب عبد الله بن مطيع الى باب المسجد الجامع ، ودخل عبد الله وغلمانه وحشمه وخواص أصحابه قصر الامارة وأغلقوا بابه.

٢٤٤

قال أبو مخنف : إنّ رؤساء أهل الكوفة والقواد دخلوا معه القصر ، غير عمرو بن حريث فإنه فرّ إلى البادية فما عرف له أثر ، ولما اغلق باب القصر تفرق الناس إلى منازلهم هاربين ، وأقبلت أهل الخيل الى القصر فأحاطت به ، فقال عبد الله بن مطيع : أيها الناس ربما غلب أهل الباطل على أهل الحق ، فقد ترون غلبة المختار علينا فأشيروا برأيكم.

فقال له شبث بن ربعي : الرأي أن تأخذ لنفسك من هذا الرّجل أمانا ثم تخرج ونخرج معك بأمانك ، وإلّا دام الحصار علينا في القصر ولم يشعر بنا أحد ، فقال ابن مطيع : ويل لك ولرأيك السخيف! أآخذ لنفسي أمانا وامور أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير مستقيمة بالحجاز وأرض البصرة والشرق عن آخرها؟ فقال شبث : أيها الأمير! فاخرج من القصر ولا يشعر بك أحد ، وصر إلى من تثق به من أهل هذا المصر فتنزل عنده أياما حتى يسكن شرّ المختار وشر أصحابه فتخرج أنت وتلحق بصاحبك ، ووافقه على هذا الرأي عامة من كان عنده من الرؤساء.

فعزم ابن مطيع على ذلك ، فلما جاء الليل جمع ابن مطيع أصحابه وقال لهم : إني رأيت أن أخرج من هذا القصر ، فلا يتبعني أحد ، ثم خرج متنكرا في زي امرأة ، فأخذ على درب الروميين حتى صار إلى دار أبي موسى الأشعري فدخلها ، وعلم به آل أبي موسى فآووه وكتموا عليه أمره ، وأصبح من كان في القصر من أصحابه يضجون ويطلبون الأمان ، فأعطاهم إبراهيم الأمان فخرجوا بالأمان إلى المختار فبايعوه وأخبروه بخروج ابن مطيع ، فقال المختار : وما علينا من ابن مطيع؟ ذاك رجل كان بالكوفة أميرا فلم يجد بدا من القتال. ثم نادى المختار في الناس ، فأعطاهم الأمان وبايعه الناس أجمعون ، ثم فتح بيت مال الكوفة فوجد فيه تسعة آلاف درهم

٢٤٥

ففرقها على النّاس وحبس عنده ألف ألف درهم.

وذكر أيضا أبو مخنف : أنّ المختار سمع صوتا عاليا يناديه ويقول :

أمنن عليّ اليوم يا خير معد

وخير من حلّ بشحر والجند

وخير من زكى وصلّى وسجد

بعد الرّسول والوصي المعتمد

فسأل عنه ، فقالوا : من السجن ، فأحضره فإذا هو سراقة بن مرداس وكان قاتل قتالا شديدا فحبس ، فلما مثل بين يديه قال :

ألا أبلغ أبا إسحاق إنا

نزونا نزوة كانت علينا

خرجنا لا نرى الضعفاء شيئا

فكان خروجنا بطرا وحينا

لقينا منهم ضربا طلحفي(١)

وطعنا مكبدا حتى انثنينا

نصرت على عدوك كل يوم

بكل كتيبة تنعى حسينا

كنصر محمّد في يوم بدر

ويوم الشعب إذ وافى حنينا

فأسجح إذ ملكت فلو ملكنا

لجرنا في الحكومة واعتدينا

تقبّل توبة مني فإني

سأشكر إذ جعلت النقد دينا

قال : فعفا عنه ، وهذا سراقة هو الذي قال للمختار : رأيت الملائكة يقاتلون معك ، فقال له المختار : كذبت يا عدو الله! اخرج من الكوفة إلى أي بلد شئت ولا تساكني في الكوفة ، فخرج إلى البصرة.

قال : ثمّ نادى المختار : الصلاة جامعة ، فاجتمع الناس في المسجد ، وخرج المختار من قصر الامارة إلى المسجد فصعد المنبر ، وقال :

الحمد لله الذي وعد وليّه بالنصر والظفر ، وكتب لعدوه الخسر والخذل والختر ، وجعل ذلك إلى آخر الدهر قضاء مقضيا. ووعدا مأتيا ، وقولا

__________________

(١) الطلحفي : الضرب الشديد.

٢٤٦

مقبولا ، وأمرا مفعولا ، وقد خاب من افترى ، أيها الناس! إنّه قد مدت لنا غاية ، ورفعت لنا راية ، فقيل لنا في الراية : أن ارفعوها ولا تضعوها ؛ وفي الغاية : أن خذوها ولا تدعوها ، فسمعنا دعوة الداعي ، وقبلنا قول الراعي ، فكم من باغ وباغية ، قتل في الواغية ، ألا بعدا لمن طغى ، وجحد وبغى ، وأدبر وعصى وكذب وتولّى ، ألا فهلمّوا عباد الله إلى بيعة الهدى ، ومجاهدة الأعدا ، والذبّ عن السعدا ، من آل محمّد المصطفى.

فأنا المسلّط على المحلّين ، والطالب بدم ابن بنت الرسول الأمين ، أما ومنشئ السحاب ، شديد العقاب ، سريع الحساب ، منزل الكتاب ، العزيز الوهاب ، القدير الغلاب ، لأنبشنّ قبر ابن شهاب ، المجتري الكذاب ، المفتري المرتاب ، ولأنفين الأحزاب ، إلى بلد الأعراب.

أما والذي جعلني بصيرا ، ونور قلبي تنويرا ، لأحرقن بالبصرة دورا ، ولأنبشنّ بها قبورا ، ولأشفين بها صدورا ، ولأقتلن بها جبارا كفورا ، ملعونا غدورا ، وكفى بالله نصيرا. أما ورب الحرم ، والبيت المحرم ، والركن المستلم ، والمسجد المعظم ، ونون والقلم ليرفعن عن قريب لي علم ، من الكوفة إلى ذي سلم ، من العرب والعجم ولأتخذنّ من تميم أكثر الاماء والخدم.

ثمّ نزل عن المنبر فصلّى بالناس ودخل قصر الامارة فدخل إليه الناس يبايعونه على كتاب الله وسنّة رسوله ، والطلب بدماء آل محمّد (صلّى الله عليه وعليهم وسلّم) ، وهو يقول : تقاتلون من قاتلنا ، وتسالمون من سالمنا ، والوفاء عليكم ببيعتنا ، لا نقيلكم ولا نستقيلكم ، حتى بايعه العرب والموالي على ذلك ، واتصل المختار : أنّ عبد الله بن مطيع في دار آل أبي موسى الأشعري ، فدعا عبد الله بن كامل ليلا ودفع إليه عشرة آلاف درهم وقال

٢٤٧

له : ادخل على عبد الله بن مطيع فاقرأه مني السلام ، وقل له : يقول المختار : قد علمت بمكانك وليس مثلي يسيء إلى مثلك ، وقد وجهت إليك بما تستعين به على سفرك فخذه والحق بصاحبك ، فخرج عبد الله بن مطيع في جوف اللّيل. واستحى أن يصير إلى مكة من حيث عبد الله بن الزبير ، فصار إلى البصرة وبها يومئذ مصعب بن الزبير من قبل أخيه ، وخرج عمرو بن الحجاج الزبيدي هاربا إلى البادية لأنه كان ممن شهد قتال الحسين فلا يدري أخسفت به الأرض أم حصبته السماء ، ثم نادى المختار : من أغلق بابه فهو آمن إلا من شرك بدم الحسينعليه‌السلام وأهل بيته وأصحابه ، واحتوى المختار على الكوفة ، فعقد لأصحابه ، وولاهم البلاد من : أرمينية ؛ وآذربيجان ؛ وأران ؛ وماهان إلى الري ؛ وأصفهان ؛ وجعل يجبي خراج البلاد ، وكان محمد بن الأشعث الكندي عاملا على الموصل من قبل ابن الزبير ، فلما قدم عامل المختار عليه لم تكن لابن الأشعث طاقة ، فخرج عن الموصل هاربا إلى تكريت ونزلها وكتب إلى عبد الله بن الزبير بذلك ، فكتب إليه يعيره بهربه عن الموصل.

وبلغ المختار أنّ محمد بن الأشعث بتكريت ، فدعا ابنه عبد الرحمن ابن محمد وقال له: أنت في طاعتي ، وأبوك في طاعة ابن الزبير ، ما الذي يمنعه من المصير إليّ والدخول في طاعتي؟ أما والله ، لقد هممت أن اوجه إليه من يأتيني به قبل ثلاث فافعل به ما اضمره له في قلبي ، أو ليس هو من قتلة الحسين؟ أو ليس هو الذي قال للحسين يوم كربلاء : وأي قرابة بينك وبين محمد؟ فقال له عبد الرحمن : أعزّ الله الأمير أنا أخرج إليه بإذنك ، فآتيك به شاء أو لم يشأ ، ولا قوّة إلّا بالله.

فأذن له المختار فخرج حتى قدم تكريت ودخل على أبيه فقال له :

٢٤٨

ما وراءك يا بني؟ فقال له : ورائي إنّ هذا الرجل ظهر على الكوفة وسائر البلاد ، وقد استوسق له الأمر وأطاعه الناس جميعا ، وقد سأل عنك وذكرك وأخاف أن يبطش بقتلة الحسين ، فلم يغادر منهم أحدا ، وأنت ممن أساء الى الحسين ، وليس جلوسك هنا بشيء ، لأنه ليس معك جيش تمتنع به ، وأنت بالكوفة أعزّ منك هنا.

فتبسم محمد وقال : يا بني! إني قد علمت بأنك لم تأتني وتعرض عليّ هذا الرأي إلّا خوفا من المختار ، ثمّ التفت إلى من كان عنده فقال : إنّ ابني هذا له نخل بالكوفة على شاطئ الفرات ، وإنما يريد أن أكون بالكوفة حتى يأمن هو في نخله وماله ، ولا يضره ما يفعل بأبيه ، وأنا لست ابالي بذلك النخل ، كان أو لم يكن ، ولم يزل عبد الرحمن يلين لأبيه تارة ويشتدّ تارة ، ويرغبه تارة ويخوفه اخرى حتى أجابه إلى ما أراد ، وقدم معه الكوفة ، ودخل على المختار وسلّم عليه ؛ فقربه وأدناه ومنّاه. وجعل المختار يجلس غدوة وعشية فيقضي بين الخصمين بنفسه فإذا أعاقه عائق أمر شريحا أن يجلس فيقضي ، فقال له الناس : إنه عثماني الرأي ، وأنه شهد على حجر بن عدي ، وأنه لم يبلغ عن هاني بن عروة ما أرسله به إلى قومه ، وأنه كان عليّعليه‌السلام قد عزله عن القضاء ، فخافهم شريح فتمارض ، فجعل المختار مكانه عبد الله بن عتبة بن مسعود فمرض ، فجعل مكانه عبد الله بن مالك الطائي وأحب الناس المختار حبا شديدا ودر له حلب البلاد وحمل إليه الخراج من جميع عماله.

ثم إن المختار أرسل الى وجوه أصحابه فجمعهم عنده وقال : إنه والله ، إني ليس يسوغ لي الطعام ولا احبّ أن اروى من الماء وقتلة الحسين بن علي أحياء يمشون في الأرض ، وقد استوسق لي الأمر ؛ وأطاعني الناس بسببهم ،

٢٤٩

ولست والله بالناصر لآل محمد إن لم أطلب بدمائهم ، وأقتل من قتلهم ، وأذلّ من جهل حقهم ، وانتهك حرمتهم ، فسمّوهم لي ؛ لعليّ أن اطهر البلاد منهم ، فجعل أصحابه يسمونهم رجلا رجلا ، ويذكرون ما فعلوا ، وجعل يؤتى بهم فمنهم من يقطع يديه ، ومنهم من يقطع رجليه ، ومنهم من يقطع رجله ويده ، ومنهم من يسمل عينيه أو يقلعهما ، ومنهم من يجدع أنفه ، ومنهم من يقطع لسانه وشفتيه ، ومنهم من يضربه بالسياط حتى يموت ، ومنهم من يقطعه بالسيوف إربا إربا ، ومنهم من يضرب عنقه صبرا ، ومنهم من يحرقه بالنار ، ومنهم من يسلخ جلده ، فلم يزل كذلك حتى قتل منهم مقتلة عظيمة.

وروى أبو مخنف : أنّ سعد الحنفي دله على زياد بن مالك ؛ وعمران ابن خالد ؛ وعبد الرحمن البجلي ؛ وعبد الله بن قيس الخولاني ؛ وكانوا من المحلّين ، ومن جملة قتلة الحسين ، فبعث إليهم عبد الله بن كامل فجاء بهم إليه ، فقال لهم المختار : يا قتلة سيد شباب أهل الجنّة! ألا ترون الله قد أقاد منكم؟ فقد أصاركم الورس ، إلى يوم نحس ، وكانوا قد نهبوا الورس الذي مع الحسين ، ثم أمر بهم أن يخرجوا إلى السوق ، وتضرب أعناقهم ، وأتى قوم من أعوان المختار إلى دار خولي بن يزيد الأصبحي فاقتحموها ودخلوا وكان خولي هو الذي احتزّ رأس الحسينعليه‌السلام ، وكانت له امرأة يقال لها : العيوف بنت مالك الحضرمي ، وهي التي خاصمته إذ أدخل رأس الحسين عليها ، فلما نظرت إلى أصحاب المختار قد دخلوا دارها قالت : ما شأنكم وما تريدون؟ فقال أبو عمرة صاحب شرطة المختار : لا بأس عليك نريد زوجك أين هو؟ قالت : لا أدري! وأشارت بيدها إلى المخرج فدخلوا عليه فإذا هو جالس وعلى رأسه قوصرة ، فأخذوه وأتوا به إلى المختار فقالوا له : أيها

٢٥٠

الأمير! هذا خولي الذي احتزّ رأس الحسين.

فأمر به المختار فذبح بين يديه ، ثم أمر بجسده فاحرق بالنار ، ثم اتي برجل يقال له : بجدل بن سليم الكلبي وادخل على المختار فقيل له : أيها الأمير! هذا بجدل الذي أخذ خاتم الحسين وقطع أصبعه ، فقال المختار : اقطعوا يديه ورجليه وذروه يتشحط بدمه ففعل به ذلك ، وجيء ذلك اليوم بستة نفر وهم الذي نهبوا مال الحسين ، فأمر بهم فسلخت جلودهم وهم أحياء.

وذكر أبو مخنف : أنّ المختار بعث إلى الحكيم بن الطفيل الطائي وهو الذي أصاب سلب العباس بن علي ورمى الحسين بسهم فتعلّق بسرباله ، فكان يقول : إنّ السهم تعلق بسرباله وما ضرّه ، فقال له المختار : لنرمينك بنبال تتعلق بثوبك ، فانظر هل يضرّك ما تعلّق؟ فرموه بنبال حتى سقط ميتا.

٢٥١

مقتل عمر بن سعد بن أبي وقاص

٩ ـ وذكر السيد أبو طالب ، والامام محمد بن إسحاق ، والإمام أحمد بن أعثم الكوفي ، والإمام عبد الكريم ، وكلّ واحد منهم ذكر زيادة على صاحبه ، فدخل حديث بعضهم على بعض ، قالوا : إنّ المختار كان قد أمن عمر بن سعد بشفاعة عبد الله بن جعدة بن هبيرة المخزومي ، لأنه كان أكرم خلق الله على المختار ، لصهره وقرابته من أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام .

قال محمد بن إسحاق : كان عمر ختن المختار على ابنته ، وقال الباقون : كان ختنه على اخته ، فكتب محمد بن الحنفية للمختار : إنّك ذكرت أنك قتلت قتلتنا ، وطلبت بثأرنا ، وقمت بأمرنا كيف ذاك؟ وقاتل الحسين عندك يغدو ويروح وهو عمر بن سعد؟

فقال المختار حين قرأ الكتاب : صدق والله ، ثمّ إنّ المختار تحدّث فقال : لأقطعنّ والله ، غدا رجلا عظيم القدمين ، غائر العينين ، مشرف الحاجبين ، من قتلة الحسين ، يسرّ بقتله المؤمنون والملائكة المقرّبون ، وكان الهيثم بن الأسود عنده ، فلما سمع هذا الكلام ، علم أنه أراد عمر بن سعد فخرج وبعث بابنه إليه وقال له : قل له خذ حذرك فإنّ المختار اليوم قال : كذا وكذا ، وهو والله ، لا يريد غيرك.

فقال له عمر : جزى الله أباك خيرا ، كيف يريدني بهذا وقد أعطاني من العهود ما أعطاني؟ فلم يبرح من منزله ، فدخل حفص بن عمر بن سعد على المختار فأجلسه إلى جنبه ودعا أبا عمرة فأسرّ إليه : أن سر إلى عمر بن

٢٥٢

سعد وقل له : أجب الأمير! فإن أتى معك فجيء به ، وإن قال : يا جارية! هاتي ردائي ، ويا غلام! هات طيلساني ، فاعلم أنه يدعو لك بالسيف ، فاقتله وأتني برأسه ، فلم يشعر عمر بن سعد إلّا وأبو عمرة رئيس شرطة المختار قد وافاه في أعوانه ، فبقي متحيرا ، ثم قال : ما شأنكم؟ فقالوا : أجب الأمير! قال : إن الأمير قد علم بمكاني وقد أعطاني بالأمان ، وهذا أمانه عندي قد أخذه منه لي ابن جعدة ، وقد كتبه الأمير لي. فاتي به وفيه :

بسم الله الرّحمن الرّحيم هذا أمان المختار بن أبي عبيد الثقفي لعمر بن سعد بن أبي وقاص ، إنك آمن بأمان الله على نفسك وأهلك ومالك وولدك وأهل بيتك لا تؤاخذ بحدث كان منك قديما ، ما سمعت وأطعت ولزمت منزلك ، إلّا أن تحدث حدثا جديدا ، فمن لقي عمر بن سعد من شرطة الله وشيعة آل محمد فلا يعرض له إلا بسبيل خير ، وشهد السائب بن مالك الأشتر ؛ وأحمد بن شميط البجلي ؛ وعبد الله بن كامل الهمداني ؛ وعبد الله ابن شداد اليحصبي ؛ ويزيد بن أنس الأسدي ؛ وفلان ؛ وفلان ؛ وفلان ؛ كلّهم شهدوا بالعهد والميثاق والأمان لعمر ابن سعد وولده إلا أن يحدث حدثا جديدا وكفى بالله شهيدا.

فقال له أبو عمرة : صدقت والله ، يا أبا حفص! قد كنا حضورا عند الأمير يوم كتب لك الأمان ، غير أنه يقول إلّا أن يحدث حدثا ، ولعمري ، لقد دخلت المخرج مرارا ، وأحدثت أحداثا كثيرة ، وليس مثل المختار من يغدر ، ولكن عنى هذه الأحداث وليس ينبغي أن يعفو عنك بعد قتلك ابن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأجبه لعلّه يدعوك لغير هذا.

قال : فإني أفعل ، يا غلام! هات طيلساني واعجل ، فقال له أبو عمرة : يا عدو الله! ألمثلي يقال هذا؟ واستلّ سيفه فضربه ضربة على رأسه فسقط على

٢٥٣

قفاه فقال لأعوانه : خذوا رأس عدو الله ، فأخذوا رأسه فجاء به حتى وضعه بين يدي المختار ، وابنه حفص واقف بين يدي المختار ، وهو ابن اخته في رواية الجماعة أو سبطه في رواية محمد بن إسحاق ، فقال المختار : أتعرف هذا الرأس يا حفص؟ قال : نعم ، هذا رأس أبي ولا خير لي في العيش بعده.

وفي رواية عبد الكريم بن حمدان : أنّ أبا عمرة لما قتل عمر أسرّ ابنه حفصا ، وجاء به إلى المختار مع الرأس فقال : الحقوا حفصا بأبيه ، فقال : أيها الأمير! ما شهدت كربلاء؟ قال : لا ، ولكنك تفتخر بأنّ أباك قتل الحسين ، فو الله ، لا تعيش بعده ، فضربت عنقه صبرا ، ثمّ وضع الرأسين بين يديه وقال : هذا بالحسين وهذا بعليّ ، ولا سواء وربّ الكعبة ، ثم صلب جسديهما منكسين ، وصبّ عليهما النفط فاحرقا ، ووجّه بالرأسين إلى المدينة ، ومعهما ثلاثون ألف دينار ، وكتب إلى محمد ابن الحنفية :

بسم الله الرّحمن الرّحيم ـ للمهدي محمد بن علي من المختار بن أبي عبيد الثقفي ، سلام عليك ، أما بعد : فإن الله تبارك وتعالى جعلني نعمة لأوليائكم ونقمة على قاتليكم وأعدائكم ، فهم من فضل الله العزيز الحكيم بين قتيل وأسير وشريد وطريد ، فنحمد الله على ذلك أيها المهدي حمدا يستوجب منه المزيد في العاجلة ، والمغفرة والرحمة في الآجلة ؛ وقد وجهت إليك برأسي عمر بن سعد وحفص بن عمر وقد قتلت ممن شرك في دم الحسين وأهل بيته من قدرت عليه ولن يعجز الله من بقي منهم ، ولست ألتذّ بالمنام ، ولا يسوغ لي الطعام ، ولا يطيب لي الشراب ولا يبقى أحد ممن شرك في دماء أهل بيتك ، وأنا أرجو أن يقتل الله عبيد الله بن زياد واصحابه المحلّين على يدي ، وقد وجهت إليك بثلاثين ألف دينار ، لتفرقها على من أحببت من أهل بيتك ، واكتب إلي برأيك فيما أحببت حتى أتبعه ، والسلام.

٢٥٤

ثم دفع الكتاب والرأسين والمال الى مسافر بن سعيد الهمداني ؛ وابن عمارة التميمي ؛ وضمّ إليهما عشرين رجلا ووجّه بهما إلى محمد بن الحنفية وهو يومئذ بمكة ، فبينا هو جالس في نفر من شيعته يتحدث ويقول : ألا ترون إلى المختار يزعم : أنّه من شيعتنا وأنه يطلب بدم الحسين! وقتلة الحسين عن يمينه وشماله على الكراسي يحدثونه؟ وقد بلغني عن عمر بن سعد وابنه حفص يروحان ويغدوان عليه ، فما أتم كلامه إلا وكتاب المختار مع الرأسين والمال قد وافاه ووضع بين يديه ، فقرأ الكتاب وحوّل وجهه إلى القبلة وخرّ ساجدا ، ثم رفع رأسه وبسط كفيه وقال : اللهم! لا تنس هذا للمختار ، وأجزه عن أهل بيت نبيك أفضل الجزاء.

ثم أخذ بعض المال وفرّقه في مكة ، وأرسل الباقي إلى المدينة ففرق في أهل البيت وغيرهم من المهاجرين والأنصار ، ولما أحرق المختار الجسدين وبعث بالرأسين أمر بإحراق داري عمر بن سعد وابنه حفص فاحرقا جميعا.

١٠ ـ وذكر أبو مخنف في تاريخه الكبير : أنّ عبد الله بن دباس جاء إلى المختار فأخبره : أنّ في القادسية فرسانا من قتلة الحسينعليه‌السلام فبعث إليهم المختار مالك بن عمرو النهدي وكان من رؤساء أصحابه فأتاهم وقبض عليهم وجاء بهم عشاء إلى المختار ، وهم : عبد الله بن النزال الجهني ؛ ومالك بن بشير البدي ؛ وحمل بن مالك المحاربي ؛ وكانوا فرسان عبيد الله بن زياد ، فقال لهم المختار : يا أعداء الله وأعداء رسول الله وأعداء آل الله! أين الحسين بن علي؟ أدوا إليّ الحسين ، قتلتم من أمركم الله بالصلاة عليه في صلواتكم؟ قالوا : رحمك الله ، بعثنا عبيد الله بن زياد ونحن كارهون قتاله ، فامنن علينا واستبقنا ، فقال لهم المختار : فهلا مننتم على الحسين واستبقيتموه؟ ثم قال لمالك بن بشير البدي : أنت صاحب برنسه؟ فقال عبد الله بن كامل :

٢٥٥

نعم ، هو صاحب البرنس ، فقال المختار : اقطعوا يديه ورجليه ، ودعوه فليضطرب حتى يموت ، ففعل به ذلك فلم يزل يضطرب حتى مات ، وأمر عبد الله بن كامل فقتل عبد الله بن النزال الجهني ، وأمر مسعر بن أبي مسعر الحنفي فقتل حمل بن مالك المحاربي.

ثم عزم المختار على هدم دار أسماء بن خارجة الفزاري وإحراقها لأنه عمل في قتل مسلم بن عقيل ، فجعل يقول : أما وربّ السماء والماء ، وربّ الضياء والظلماء ، لتنزلن نار من السماء حمراء دهماء سحماء ، ولتحرقن دار أسماء ، فبلغ ذلك أسماء فقال : قد سجع أبو إسحاق بداري فليس لي مقام هنا بعد هذا ، فخرج أسماء الى البادية هاربا وأرسل المختار إلى داره ودور بني عمه ، فهدّمها عن آخرها ، ثمّ دعا برجل من أصحابه يقال له : حوشب بن يعلى الهمداني فقال له : ويحك يا حوشب! أنت تعلم أن محمد ابن الأشعث من قتلة الحسين بن علي وهو الذي قال له بكربلاء ما قال ، والله ، لا يهنيني النوم ولا القرار ، ورجل من قتلة الحسين يمشي على الأرض ، وقد بلغني أنه في قريته التي هي جنب القادسية فسر إليه في مائة رجل من أصحابك فإنك تجده لاهيا متصيدا ، أو قائما متبلدا ؛ أو خائفا متلددا ؛ أو حائرا مترددا ؛ فاقتله وجئني برأسه.

فخرج حوشب في مائة رجل من أصحابه وفرسانه حتى صار إلى قرية محمد بن الأشعث ، وعلم محمد بن الأشعث أنه لا طاقة له بحوشب بن يعلى ، فخرج من باب له آخر في جوف الليل هاربا ومضى نحو البصرة إلى مصعب بن الزبير فكتب حوشب إلى المختار بذلك ، فكتب إليه المختار : إنك قد ضيعت الحزم والفرصة ولم تأخذ بالوثيق ، فإذا فاتك الرّجل فاهدم قصره وبيته ، وخرب قريته وائتني بأمواله جميعا ، ففعل ذلك كله.

٢٥٦

وبلغ محمد البصرة فقال له مصعب : ما وراءك يا ابن الأشعث؟ قال : ورائي الترك والديلم ، هذا المختار قد غلب على الأرض جميعا ، وهو يقتل الناس كيف شاء ، وقد قتل والله الى ساعته هذه ممن يتهم بقتل الحسين بن علي أكثر من ثلاثة آلاف رجل من فرسان العرب وشجعانهم وساداتهم وكبرائهم ، وقد أراد قتلي فهربت إليك خوفا منه ، فهذا ما ورائي.

وكان عبد الله بن همام سمع أبا عمرة صاحب الشرطة ينال من عثمان ابن عفان قبل مجيء المختار ؛ فضربه بسوطه ، فلما ظهر المختار خاف واستر حتى استأمن له عبد الله بن شرار ، فجاء إلى المختار ذات يوم فمدحه بقصيدة طويلة منها قوله :

وفي ليلة المختار ما يذهل الفتى

ويلهيه عن رود الشباب شموع

دعا يا لثارات الحسين! فأقبلت

كتائب من همدان بعد هزيع

ومن مذحج جاء الرئيس ابن مالك

يقود جموعا عقبت بجموع

ومن أسد وافى يزيد لنصره

بكل فتى حامي الذمار منيع

وسار أبو النعمان لله سعيه

الى ابن إياس مصحرا لوقوع

بخيل عليها يوم هيجا دروعها

واخرى حسور غير ذات دروع

فكرت خيول كرة أثقفتهم

وشد بأولاها على ابن مطيع

فآب الهدى حقا الى مستقرّه

بخير إياب آبه ورجوع

إلى الهاشمي المهتدي المهتدى به

فنحن له من سامع ومطيع

فقال المختار لأصحابه : أحسنوا جائزته فوصلوه ، وأحسنوا إليه ، ذكر الأبيات أبو مخنف.

رجعنا الى أخبار ما تقدم وكيفية قتل عبيد الله بن زياد قال : ثمّ دعا

٢٥٧

عبد الملك بن مروان بعبيد الله بن زياد بعد قتل سليمان بن صرد الخزاعي وأصحابه فضم إليه ثمانين ألف رجل من أجناد أهل الشام وشجعانهم ، وقال له : يا ابن زياد! أنت تعلم أن أبي مروان قد أمرك بالمسير إلى العراق فتقتل أهلها حتى يستقيموا ، ثم إن الموت عاجله وأدركه فمضى لسبيله ، وقد وليتك أنا هذا الجيش الكثيف ، فسر نحو الجزيرة والعراق ، فإذا فرغت من أمر المختار فصر إلى مصعب بن الزبير بالبصرة فاكفني أمره وشرّه ، ثم صر إلى أخيه عبد الله بن الزبير بالحجاز ، فاكفني أيضا أمره وشره ، فإذا فرغت من ذلك فلك جميع ما غلبت عليه بسيفك من أرض الشام إلى مطلع الشمس.

فسار عبيد الله ومعه ثمانون ألفا ما بين فارس وراجل حتى نزل الجزيرة ، ثمّ أرض نصيبين ، فبلغ ذلك عبد الرحمن بن سعيد الهمداني وهو عامل المختار على الموصل وما والاها ، فكتب بذلك الى المختار يخبره ، وخرجت مقدمة ابن زياد في عشرين ألفا نحو الموصل فخرج عامل المختار إلى تكريت ، فكتب إليه المختار :

بلغني كتابك وما ذكرت فيه من أمر عدو الله ورسوله عبيد الله بن زياد ، ولقد أصبت في تنحيك من بين يديه إذ كنت لا تقوم لجيشه ، فانظر لا تبرح من مكانك حتى يأتيك أمري ، ثم دعا المختار برجل من سادات الكوفة وشجعانها وهو يزيد بن أنس الأسدي ، وقال له : يا يزيد! إنّ هذا عبيد الله بن زياد قد أقبل في المحلين وأبناء القاسطين ، فسر إليه أنت في المؤمنين ، وأطلب بدم ابن بنت الرسول الأمين. فقال له يزيد بن أنس : أيها الأمير! ضم إليّ ثلاثة آلاف رجل ممن انتخبهم أنا وخلني والوجه الذي يوجهني الله تبارك وتعالى إليه ، فإن احتجت إلى مدد فأنا سأكتب لك بذلك ولا قوة

٢٥٨

إلّا بالله.

فقال له : اخرج إذن وانتخب رحمك الله من شئت وأحببت على بركة الله وعونه ، فخرج يزيد بن أنس وجعل ينتخب القائد بعد القائد والرجل بعد الرجل ، حتى انتخب ثلاثة آلاف من سادات فرسان العراق وشجعانهم ، وانفصل من الكوفة ؛ وخرج المختار يشيعه حتى إذا صار إلى دير أبي موسى التفت إليه المختار ، وقال له يوصيه : يا يزيد! انظر إذا لقيت عدوك نهارا فلا تنظرهم إلى الليل ، وإن أمكنتك الفرصة فلا تؤخرها البتة ، وليكن خبرك عندي كلّ يوم ، فإن احتجت إلى مدد فأكتب إليّ بذلك سريعا. فقال يزيد له : أيها الأمير! إني ما اريد منك أن تمدني إلّا بالدعاء الصالح ، فكفى به لي مددا إن شاء الله.

وكتب المختار إلى عبد الرحمن بن سعيد الهمداني بتكريت :

أما بعد : فقد وجهت إلى ما قبلك يزيد بن أنس الأسدي وهو من قد علمت في البأس والشدّة ، فإذا قدم عليك فخل بينه وبين البلاد ، وكن تحت رايته مطيعا له ، والسلام.

فسار يزيد بن أنس حتى صار إلى تكريت ، فصار إليه عبد الرحمن بن سعيد في ألف رجل مقاتل ، فصار يزيد في أربعة آلاف فارس ، وأقبل حتى نزل على خمسة فراسخ من الموصل ، وبلغ ذلك عبيد الله بن زياد فوجّه إليه بقائد من قواد أهل الشام وهو ربيعة بن مخارق في ثلاثة آلاف فارس ، واتبعه بقائد آخر وهو حملة بن عبد الله الخثعمي في ثلاثة آلاف فارس ، وأقبل القوم حتى نزلوا بحذاء يزيد بن أنس ، واعتلّ يزيد بن أنس في تلك الليلة علّة شديدة ، وأصبح موعوكا لما به من المرض ، فدعا بحمار له أسود مقطوع الذنب والاذنين بصري ، فاستوى عليه وجعل يجول في عسكره

٢٥٩

وغلمانه يمسكونه من ضعفه كيلا يسقط ، وهو يوصيهم ، ويقول لهم : يا شرطة الله! اصبروا تؤجروا ، وصابروا عدوكم تظفروا ، وقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا ، وبعد فقد ترون ما بي من العلّة ، فإن هلكت فأميركم ابن عمي ورقاء بن عازب الأسدي ، فإن اصيب فعبد الله بن ضمرة الغنوي ، فإن اصيب فمسعر بن أبي مسعر الحنفي ، ثم نزل عن الحمار وجلس على كرسي ، وقال للناس : يا أهل العراق! إن شئتم قاتلوا عن دينكم ، وجدّوا في طلب دم ابن بنت نبيكم ، وإن شئتم قاتلوا عن أنفسكم وعن أميركم.

فدنا القوم بعضهم من بعض واقتتلوا ساعة ثم حمل ورقاء بن عازب على رجل من أهل الشام فضربه ضربة منكرة فسقط عن فرسه قتيلا وصاح : يا أهل العراق! احملوا معي ، فحملوا فانهزم أهل الشام هزيمة قبيحة ووضع أهل العراق السيف في أكتافهم نحوا من خمسة فراسخ ، وأسروا منهم زهاء ثلاثمائة رجل ، واتي بهم ليزيد بن أنس ، فأمر بضرب أعناقهم فاوقفوا بين يديه وهو لما به ، فضربت أعناقهم ، وهو يومئ بيده : أن لا تتركوا منهم أحدا فاستوفوهم.

واشتدّت العلّة بيزيد فتوفي في بعض الليل ، فجهز وصلّى عليه ورقاء ابن عازب ، وأقبره ليلا وأصبحوا في حزن على صاحبهم ، فقال لهم ورقاء : يا أهل العراق! ذروا هذا الجزع فكلّ حيّ ميت ، فلا تشربوا قلوبكم الكدر فتهنوا ، وهذا عدو الله وعدوكم عبيد الله قد التأم إليه عسكره ؛ وعسكر آخر من الجزيرة وغيرها ولا اظنّ ان لكم به طاقة ؛ فإني أعلم أنا ان قاتلناهم خاطرنا على أنفسنا لكثرتهم ، وإن هزمنا ما جاءنا لم ينفعنا ، لكثرة مددهم.

٢٦٠