العبّاس ابوالفضل ابن أمير المؤمنين عليه السلام سماته وسيرته

العبّاس ابوالفضل ابن أمير المؤمنين عليه السلام سماته وسيرته6%

العبّاس ابوالفضل ابن أمير المؤمنين عليه السلام سماته وسيرته مؤلف:
تصنيف: شخصيات إسلامية
الصفحات: 607

العبّاس ابوالفضل ابن أمير المؤمنين عليه السلام سماته وسيرته
  • البداية
  • السابق
  • 607 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 67598 / تحميل: 5471
الحجم الحجم الحجم
العبّاس ابوالفضل ابن أمير المؤمنين عليه السلام سماته وسيرته

العبّاس ابوالفضل ابن أمير المؤمنين عليه السلام سماته وسيرته

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

ـ كلام الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام في العَبّاس عليه السلام :

وعن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام قوله في عمّه العَبّاس :

«كان عمّي العَبّاسُ : نافِذَ البصيرَةِ ، صلبَ الإيمان ، جاهَدَ مَعَ أبي عَبْد الله عليه السلام فأبْلَى بَلاءً حَسَناً ، ومَضى شَهِيداً »(١) .

وقال الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السلام لابن شبيب :

«يابن شبيبٍ ، إنْ كُنتَ باكياً لِشيءٍ فابْكِ الحُسينَ بنَ عليّ بن أبي طالب عليهم السلام فإنّهُ ذُبحَ كَما يُذْبَحَ كَما يُذْبَحُ الكَبْشُ.

وقُتِلَ مَعَهُ مِن أهلِ بيتهِ ثمانيةَ عَشَرَ رَجُلاً مَا لَهُمْ في الأرضِ شَبِيْهٌ»(٢) .

وفي نصوص الزيارات :

تلك النصوص الّتي يُزارُ بها العبّاس عليه السلام وهي مأثورةٌ عن الأئمّة ، وفيها ذكر الفضائل والمآثر العَبّاسيّة ، ما يرسّخ قُدسَهُ في نفوس الزائرين بتلاوتها عند مرقده الشريف(٣) .

نختار منها :

قول الإمام الصادق عليه السلام في زيارته العامّة :

«السلامُ عليكَ أيّها الوليُّ الناصحُ ، الصِدّيقُ (٤) أشهدُ أنّكَ آمنتَ

__________________

(١) سرّ السلسلة (ص ٨٩) معالم أنساب (ص ٢٥٦) عمدة الطالب (ص ٣٥٦).

(٢) عيون أخبار الرضا عليه السلام للشيخ الصدوق (١ / ٢٣٣) لاحظ (٢ / ٢٦٨) ونقله في بحار الأنوار (٤٤ / ٢٨٥) وعوالم البحراني (١٧ / ٥٣٩) وفيه : شبيهون.

(٣) سنقرأ نصوص بعض الزيارات ومصادرها في الملحق الأوّل لهذا الكتاب.

(٤) موسوعة الزيارات (٣ / ٥٣٣).

١٤١

بِالله ، ونصرتَ ابنَ رسول الله صلى الله عليه وآله ودعوتَ إلى سبيل الله ، وواسيتَ بِنفسكَ وبذلتَ مُهجَتكَ ، فعليكَ من اللهِ السلامُ التامُّ »(١) .

وفي زيارة عن الإمام الباقر عليه السلام

خصّ العَبّاس فيها بالذكر ـ بعد الإمام الحسين وابنه عليّ الأكبر ـ قال : «السلامُ على العبّاس بن أَمِيْر المُؤْمِنِيْنَ ، الشهيد »(٢) .

وفي الزيارة الصادرة من الناحية المقدّسة :

«السلام على أبي الفَضْلِ العَبّاس ابن أَمِيْر المُؤْمِنِيْنَ ، المُواسي أخاهُ بنفسهِ ، الآخِذِ لِغدِهِ من أمْسِهِ ، الفادِي لَهُ ، الواقِي ، الساعِي إليهِ بِمائِهِ ، المَقطوعَةِ يداه »(٣) .

وفي الزيارة المرويّة ليوم الأربعين :

وهي المرويّة عن جابر بن عَبْد الله الأنصاريّ الصحابيّ الجليل رضوان الله عليه :

«أشهدُ لقدْ بالغتَ في النصيحة ، وأدّيتَ الأمانةَ وجاهدتَ عدوّكَ وعدوَّ أخيك ، فصلواتُ اللهِ عليكَ وعلى رُحِكَ الطيّبةِ وجزاكَ اللهُ عن أخٍ خيراً »(٤) .

__________________

(١) موسوعة الزيارات (٣ / ٥٣٣).

(٢) موسوعة الزيارات (٣ / ٤٠١).

(٣) موسوعة الزيارات (٣ / ٥١٦) لاحظ بحار الأنوار (٤٥ / ١٦٦) و(١٠١ / ٢٧٠).

(٤) موسوعة الزيارات (٣ / ٥٣٧) هـ (٢).

١٤٢

وبما أنّ جابراً من ثِقاتِ الصحابةِ ومؤمِنيهم ، والزِيارةُ مِمّا يُتعبَّدُ بِها ويُتقَرَّبُ بِها ، فلا يبعدُ الالتزامُ بكون مضامين زيارتِهِ هذِهِ مرفوعةً مُسندةً ، كما عليه المُحدِّثُون في ما أرسله الصحابة فحكموا عليه بالرفع.

١٤٣
١٤٤

القسم الثاني

سيرةُ العبّاس عليه السلام

البابُ الرابع : سيرة العَبّاس عليه السلام في رحاب الأئمّة عليهم السلام

البابُ الخامس : سيرة العَبّاس عليه السلام في كربلاء

البابُ السادس : قتال العَبّاس عليه السلام ومقتلُهُ ومرقدهُ

١٤٥
١٤٦

البابُ الرابع :

سيرة العَبّاس عليه السلام في رحاب الأئمّة عليهم السلام

١ ـ في ظلّ أبيه أَمِيْر المُؤْمِنِيْنَ عليه السلام

٢ ـ في ظلّ أخيه الحَسَن السِبط المُجتبى عليه السلام

٣ ـ في ظلّ أخيه الحُسَين السِبط الشَهيد عليه السلام

٤ ـ في آثار سائر الأئمّة عليهم السلام

١٤٧
١٤٨

أوّلاً : في ظلّ أبيه أَمِيْر المُؤْمِنِينَ عليه السلام

أوّلاً : روايته عن أبيه عليه السلام ومصادر رواياته

ثانياً : معه في صفّين

ثالثاً : عند مقتل أبيه عليه السلام :

١ ـ وصيّة أبيه عليه السلام

٢ ـ ذكره في المُعَزّيْن

٣ ـ عند الاقتصاص من ابن ملجم

٤ ـ حقّ العبّاس من إرث فدك

رابعاً : العبّاس يمثّل أباه في كربلاء :

النبي وأهل البيت عليهم السلام ممثّلون في كربلاء

الراية

السقاية

١٤٩

تنعّم أبو الفَضْلِ العَبّاس بظلّ والده الإمام عليه السلام طيلة(١٤) سنة ، منذ ولادته في سنة (٢٦ هـ) وحتّى شهادة أبيه في سنة (٤٠ هـ).

ومثل هذه المدّة كافية لمثل العَبّاس عليه السلام في بيت شريف مثل بيت الإمام أَمِيْر المُؤْمِنِيْنَ عليه السلام كي يمتار من مزاياه العِلميّة والعَمَليّة معارف وآداباً تؤهّله لنيل المراتب السامية في الفضل والدين والكمال.

أولاً : روايته عن أبيه عليهما السلام :

ذكر الشيخ الطوسي في كتاب رجاله المسمّى : «تسمية من روى عن النَبيّ صلى الله عليه وآله والأئمّة عليهم السلام» في باب «من روى عن أَمِيْر المُؤْمِنِيْنَ عليه السلام» ما نصّه :

عمر بن علي بن أبي طالب ابنه عليه السلام.

العَبّاس بن علي بن أبي طالب عليه السلام ابنه(١) .

كما ذكره ابن حجر العسقلاني في ترجمة أبيه أَمِيْر المُؤْمِنِيْنَ عليه السلام مع الرواة عنه من أجلّ التابعين ، فقال : ومن بقيّة التابعين عددٌ كثيرٌ ، ومن

__________________

(١) لم يجىء هذا في مطبوعة الرجال في النجف ، ولا في مطبوعته في قمّ ، ولكن أورده سماحة السيّد الشبيريّ الزنجانيّ في نسخته ، بعد اسم عمّار بن ياسر برقم (٥٩٨) وكان معلّقاً على اسم (عمر بن عليّ) : نقله ابن داود فقط (أقول انظر رجال ابن داود : ص ١٤٥ رقم ١١٢٨) وقال : معروفٌ.

وعلّق السيّد الزنجانيّ على اسم العَبّاس عليه السلام فقال : «لم يذكر في كتب الرجال».

ويعني كتب الرجال عند الإماميّة ، وإلاّ فإنّ العامّة قد ذكروه كما ستقرأ.

١٥٠

أجلّهم أولاده ، محمّد ، وعمر ، والعَبّاس(١) .

وذكره العجليّ في (الثقات) وقال : العَبّاس بن عليّ بن أبي طالب : ثقةٌ(٢) . والعجلي إنّما ألّف كتابه لأسماء الثقات من رواة الحديث خاصّة ، فلابدّ من وقوفه على روايةٍ للعبّاس عليه السلام وبقرينة ما ذكره ابن حجر والشيخ الطوسي من عدّهماله في الرواة عن أبيه ، فلابدّ أن تكون له الرواية عنه عليه السلام.

ولكنّا ـ حتّى الآن ـ لم نقف على مرويّ له عن أبيه ، فهذا يقع على عهدة البحث والتنقيب في كتب التراث ، ولعلّ الأيّام توقفنا على ذلك ، وفي التراث الزيديّ العظيم خاصّة ، حيث تبدو من ترجمة صاحب الطبقات وجودها ، وإليك نصّ كلامه في عنوان ترجمة العَبّاس عليه السلام قال :

(هـ ، ع ، س)(٣) العَبّاس بن عليّ بن أبي طالب : ذكره محمّد بن منصور ، والهادي إلى الحقّ ، في أولاد عليّ عليه السلام حين كتب وصيّته لأولاده.

(ثمّ نقل هنا كلام ابن عِنَبة الناسب في (عمدة الطالب) بكامله وأضاف)(٤) : خرّج له محمّد ، والمرشد ، وذكره الهادي للحقّ(٥) .

فهذا صريحٌ في وجود الرواية للعبّاس عن أبيه عليهما السلام في تُراث الزيديّة.

__________________

(١) الإصابة في معرفة الصحابة (٢ / ٥٠١).

(٢) الثقات للعجلي رقم (٥٤٨).

(٣) هذه رموز صاحب الطبقات عن مصادر الترجمة عنده.

(٤) يلاحظ أنّ النُسخة المُعتَمَدة رديئة الخطّ وفيها تصحيف في ما نقله من عبارات عمدة الطالب ، مثل تصحيف كلمة (إخوته) إلى (أخويه).

(٥) نسمات الأسحار وهو المجلّد الأوّل من : طبقات الزيدية ، مخطوط في مكتبتنا.

١٥١

ثانياً : مع والده في صفّين؟!

قال السيّد الأمين في ترجمة العَبّاس عليه السلام : وعمره أربع وثلاثون سنة ، عاش منها مع أبيه أَمِيْر المُؤْمِنِيْنَ عليه السلام أربع عشرة سنة ، وحضر بعض الحروب ، فلم يأذن له أبوه في النزال(١) .

وقال السماوي : وعاش العَبّاس مع أبيه أربع عشرة سنةً ؛ حضر بعض الحروب ؛ فلم يأذن له أبوهُ في النزال(٢) .

لكن قال المظفّر في عنوان (حضوره صفّين) : قد شهد قبل كربلاء صفّين ويشهد له ما ذكره الخطيب الخوارزميّ الحنفيّ في (كتاب المناقب) : أنّ أَمِيْر المُؤْمِنِيْنَ عليّب أبي طالب عليه السلام لبسَ ثِيابَ ابنه العَبّاس في بعض صِفّين لَمّا برز لقتال «كريب» فارس أهل الشام(٣) . وأضاف وهذا صريح أنّ العَبّاس الأكبر كان فارساً بصفّين ، كامل الأهبّة والعدّة ، يقفُ في صفّ المجالدين ، فيستعيرُ أَمِيْر المُؤْمِنِيْنَ عليه السلام آلَتَهُ ولِباسَهُ(٤) .

ونصّ الخوارزمي هو هكذا : فدعا عليّ عليه السلام ابنَه العَبّاس ـ وكان تامّاً كاملاً من الرجال ـ فأمره أن ينزل عن فرسه ، وينزع ثيابه ، فلبس عليّ عليه السلام ثيابه وركب فرسه(٥) .

__________________

(١) أعيان الشيعة (٣٧ / ٢٨) رقم ٧٤٤٠ ، والطبعة الحديثة (٧ / ٤٢٩).

(٢) إبصار العين (ص ٢٦).

(٣) بطل العلقمي (٢ / ٢٣٧) ونقل عن الطريحي مثل ذلك.

(٤) بطل العلقمي (٢ / ٢٤٠).

(٥) المناقب للخوارزمي (ص ٢٢٧).

١٥٢

ثمّ إنّ الخوارزمي نقل في المناقب موقفاً للعبّاس بن ربيعة وقال : برز اليوم التاسع عشر من حرب صفّين من أصحاب معاوية رجلٌ(١) وذكر فيه ما يشبه ما ذكر سابقاً من استعارة أَمِيْر المُؤْمِنِيْنَ عليه السلام منه ثيابه وسلاحه وتنكّره للعدوّ(٢) .

وقد روى موقف العَبّاس بن ربيعة كلٌّ من ابن قتيبة ، وابن أبي الحديد بصورة أُخرى ، وليس فيه استعارة الإمام لثيابه وسلاحه ، ولا تنكّرهُ عليه السلام لمحاربة العدوّ ، بل المحارب فيه هو العَبّاس نفسه ، وبدون إذن الإمام ، فلذا عاتبه الإمام عليه السلام ـ كما جاء في نهاية المنقول ـ على مخالفته لأمره ، إذْ كان قد نهاهُ عن ترك مركزِهِ ، ففي نهاية المنقول : يا عبّاسُ ، ألَمْ أنْهك وابنَ عبّاس أن تُخلّا بمركزكما أو تُباشرا حرباً؟

قال : إنّ ذلك.

قال : فما عدا ممّا بدا؟!

قال : فأُدعى إلى البراز فلا أُجيب؟!

قال : نعم ، طاعة إمامك أولى بك من إجابة عدوّك.

قال الراوي : ثمّ تغيّظ واستشاط حتّى قلتُ : الساعة الساعة ،

ثمّ تطامَنَ وسَكَنَ ، ثمّ رفعَ يديه مُبتهلاً فقال : اللهمّ اشكر للعبّاس مقامه ، واغفر له ذنبه ، اللهمّ إنّي قد غفرتُ لهُ فاغفرْ لهُ.

__________________

(١) الخوارزمي سمّى ذلك الرجل باسم (عثمان بن وائل الحميري) وسمّاه المسعودي (عرار ابن أدهم) لاحظ المصادر التالية.

(٢) لاحظ المناقب للخوارزمي (ص ٢٣٠) وبطل العلقمي (٢ / ٢٣٩).

١٥٣

وقد روى نصرُ بن مُزاحم حديث «كريب بن الصباح» وقتل الإمام أَمِيْر المُؤْمِنِيْنَ له ، بما يشبه بعض هذه القصص(١) .

ونقل الموقفين بعض المؤلّفين للمقاتل من العجم(٢) فخلطوا بين العَبّاس الأكبر ابن أَمِيْر المُؤْمِنِيْنَ عليه السلام والعَبّاس بن ربيعة.

ونقل موقفاً ثالثاً فيه : أنّ العَبّاس عليه السلام خرج وهو شابٌّ ، فواجَهَ أولادَ ابن شعثاء فقتلهم وقتل أباهم فعجب الحاضرون من شجاعته ؛ فعند ذلك صاح أَمِيْر المُؤْمِنِيْنَ عليه السلام وأرخى اللثام عنه وقَبّلَ بينَ عينيهِ ، فنظر وا إليه فإذا هو «قمر بني هاشم العَبّاس بن علي عليهما السلام»(٣) .

وقد سبّب هذا تشكيك البعض في صحّة ما نُسب إلى العَبّاس ابن أَمِيْر المُؤْمِنِيْنَ عليه السلام نظراً إلى صِغَر سنِّ العَبّاس عليه السلام يومئذٍ!

قال الأُردوبادي : يكون عليه السلام أيّام صفّين ـ الّتي هي من وقائع سنة (٣٦) وامتدّتْ في أُخرياتها إلى (٣٧) ـ ابن (تسع سنين) لا رجلاً كاملاً ـ كما ذكره الخوارزمي في المناقب ـ لمخالفة ذلك النصوص السابقة في عمره يوم الطف ، ، فما يُعزَى إليه أيّام تلك الغزوة ممّا لا يكاد يصحّ(٤) .

__________________

(١) عيون الأخبار (١ / ١٨٠) وشرح النهج (٥ / ٢١٩) ووقعة صفّين (ص ٣١٥).

(٢) نقل ذلك الشيخ المازندراني الحائري في معالي السبطين (١ / ٢٦٧) عن بعض المقاتل ، ومنها عن (الكبريت الأحمر في شرائط أهل المنبر) (٢ / ٢٤).

(٣) نقله في بطل العلقمي (٢ / ٢٤٠ ـ ٢٤١).

(٤) فصول من حياة أبي الفَضْلِ عليه السلام (ص ٤٣).

١٥٤

وقد دافع الشيخ المظفّر بقوّة عن المصادر المُثبتة لحضور العَبّاس عليه السلام في صفّين ، مؤكّداً أنّ التواريخ المؤلّفة يكمل بعضها بعضاً ممّا يدلّ على عدم جمع كلّ واحد جميع ما حدث في الوقائع ، وكم ترك الأوّل للآخر(١) .

أقولُ : وليس من المستبعَد أن يحضر العَبّاس على صغر سنّة بعض تلك الحروب أو كلّها ، كما تدلّ عليه هذه المنقولات ، لكن لم تدلّ ـ هي ولا دليلٌ من غيرها ـ على أنّه زاوَلَ الحربَ فيها ، وإنّما اشتملتْ على مجرّد حضوره وارتدائه لِلَاْمَةِ الحرب ، وليس ذلك على مثله بعزيزٍ ، خصوصاً لو لُوحظ ما حَظِيَ به من البسطة في الجسم وطول القامة ، مع الشهامَة العلويّة.

ثالثاً : عند مقتل أَمِيْر المُؤْمِنِيْنَ عليه السلام :

وللعبّاس عليه السلام ذكرٌ بارزٌ في مقتل أبيه أَمِيْر المُؤْمِنِيْنَ عليه السلام :

١ ـ في حديث وصيّة أبيه عليه السلام :

ذكر السيّد صارم الدين في (طبقات الزيديّة) في ترجمة العَبّاس عليه السلام : أنّ محمّد بن منصور [المراديّ] والهادي إلى الحقّ [يحيى بن الحسين] ذكرا العَبّاس عليه السلام من أولاده حين كتب وصيّته لأولاده(٢) .

أقولُ : فلعلّ العَبّاس عليه السلام هو من رواة هذه الوصيّة عن أبيه عليه السلام أيضاً.

__________________

(١) لاحظ بطل العلقمي (٢ / ١ ـ ٢٤٤).

(٢) الطبقات (١ / ٤٥٥).

١٥٥

وفي متونن الروايات :

قد جاء ذكر العَبّاس عليه السلام في موارد الأحاديث ـ غير ما ورد في فضله ، وما جاء في سيرته في المقاتل ـ يدلّ على كونه ممّن يذكر مع الكبار من أولاد أَمِيْر المُؤْمِنِيْنَ عليه السلام :

إحداها : ما رواه العيّاشي في (تفسيره) في قوله تعالى :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ) (سورة النساء الآية ٥٩) قال : عن أبي بصير ، عن أبي جعفر عليه السلام قال : نزلت في عليّ بن أبي طالب عليه السلام.

قلت له : إنّ الناس يقولون لنا : فما منعه أن يُسمّيَ علياً في كتابه؟

فقال أبو جعفر عليه السلام : فقولوا لهم : فلمّا حُضِرَ عليٌّ عليه السلام لم يستطع ، ولم يكن ليفعل ، أن يدخل محمّد بن عليّ ، والعَبّاس بن عليّ ، ولا أحداً من ولده! إذن ؛ لقال الحسنُ والحسينُ : أنزل الله فينا كما أنزل فيك(١) .

ونقل مثله الكليني عن أبي بصير ، عن الصادق عليه السلام(٢) .

فهذا الحديث يدلّ على أنّ العَبّاس عليه السلام كان ـ حينئذٍ ـ ممّن له قابليّة أن يذكر مع محمّد ابن الحنفية ـ في مثل هذا المقام ، في الإشارة إلى تولّي أمر الإمامة ، لو لا النصّ. والمفروض أنّ هذا إنّما قيل في حال احتضار الإمام أَمِيْر المُؤْمِنِيْنَ عليه السلام.

__________________

(١) تفسير العيّاشي (١ / ٤٠٩) وانظر : تفسير فرات الكوفي (ص ١١٠ ح ٢٧).

(٢) الكافي (١ / ٢٥٦).

١٥٦

وأخرى :

ما ذكره صاحب (الطبقات) في وصيّة الإمام أَمِيْر المُؤْمِنِيْنَ عليه السلام.

فإنّ تخصيص ذكر اسم العَبّاس من بين أولاد الإمام فيه دلالة واضحة على كونه في عداد الكبار كالحسنين عليهما السلام ومحمّد ابن الحنفية الّذين ذكروا في الوصيّة صريحاً ، بينما بقيّة الأولاد ذكروا بالإجمال(١) .

٢ ـ ذكره في المُعَزَّيْن :

واسم العَبّاس عليه السلام في عداد مَنْ عزّاهم صَعْصَعَةُ بن صوحان ومن كان معه ، عندما ألحدوا أَمِيْر المُؤْمِنِيْنَ عليه السلام فإنّه وقف على القبر ، ووضع إحدى يديه على فؤاده ، والأُخرى قد أخذ بها التُرابَ يضربُ به رأسه ، ثمّ قال :

بأبي أنت وأُمّي يا أَمِيْر المُؤْمِنِيْنَ ثمّ قال : هنيئاً لك ، يا أبا الحسن ، فلقد طاب مولدك ، وقوي صبرك ، وعظم جهادك.

ثمّ بكى بكاءً شديداً ، وأبكى كلّ من كان معه ، وعدلُوا إلى : الحسن ، والحسين ، ومحمّد ، وجعفر ، والعَبّاس ، ويحيى ، وعون ، وعَبْد الله ؛ فعزَّوْهُم في أبيهم صلوات الله عليه(٢) .

٣ ـ عند الاقتصاص من ابن ملجم لعنه الله :

ذكر مؤرّخُوا العامّة أنّ العَبّاس كان عند قتل أبيه صغيراً! «لم يُستأنَ به

__________________

(١) طبقات الزيدية المخطوط. لكن الموجود في أمالي الشيخ الطوسي (ص ٥٩٥ رقم ١٢٣٢) مانصه : جمع بنيه حسناً وحسيناً وابن الحنفية والأصاغر من ولده. ونقله في بحار الأنوار (٤٢ / ٢٤٧).

(٢) بحار الأنوار (٤٢ / ٥ ـ ٢٩٦).

١٥٧

بُلوغه»(١) .

فمن هو العَبّاس هذا؟

قد يقال إنّ المراد هو العَبّاس الأصغر!

لكنّ أولاد أَمِيْر المُؤْمِنِيْنَ عليه السلام الصغار ـ الّذين بقوا بعده ـ كانوا أكثر من واحد ، ويكفي ذكر إخوة العَبّاس عليه السلام الثلاثة!

فتخصيص اسم العَبّاس من بينهم في هذه المسألة ، له دلالةٌ أُخرى.

ثمّ إنّ الانصراف يقتضي إرادة العَبّاس الأكبر عليه السلام عندما يُطلق هذا الاسم في أولاد الإمام عليه السلام.

فالصواب أنّ المراد هو العَبّاس الأكبر عليه السلام وإنّما ذكروه بذلك ؛ لكونه في سِنّ الرابعة عشرة ، وهم يختلفون في بلوغ صاحبها ، ولذا أراد القائلون بعدم التأنّي في تنفيذ القصاص من قاتل المقتول ـ إذا كان له أولادٌ صغارٌ غيرُ بالِغين ـ أنْ يَستدلّوا بذلك على كون العبّاس صغيراً ، وأنّه لصغرهِ لم يسـتأنَ به بلوغُهُ.

٤ ـ حقّ العَبّاس عليه السلام من إرث فَدَكٍ :

ورد في الحديث عن معاوية بن عمّار الدُهْنيّ ، قال : قلت للصادق عليه السلام : كيفَ قَسّمتُمْ غَلّةَ فَدَكٍ ، بعدَ ما رجَعَتْ إليكُمْ؟

__________________

(١) طبقات ابن سعد (٣ ـ ١ / ٢٩) وأنساب الأشراف (٢ / ٤ ـ ٥٥) وجمل من أنساب الأشراف (٣ / ٢٦٣) وأُسد الغابة (٤ / ٣٧ ـ ٣٨) والبداية والنهاية لابن كثير (٧ / ٦١٢) ونقله في تذكرة الخواص لابن الجوزي (٢ / ٦٤٣) ونقله ابن عساكر عن ابن سعد في تاريخ دمشق (٤٢ / ٥٦٠) ومختصره لابن منظور (١٨ / ٩٢ ـ ٩٣).

١٥٨

فقال : أَعْطينا وُلدَ العَبّاس بن عليّ الرُبْعَ ، والباقي لوُلْد فاطمة عليها السلام فأصابَ بني العَبّاس بن عليّ أربعةُ أسهمٍ ، لحصّة أربعة نَفَرٍ ورثوا عليّاً عليه السلام(١) .

إنّ حديث فَدَك ـ بتاريخه المليء بِالأسى والحسرة ـ يتجدّد مدى الدهر ؛ لأهميّته ، ـ لا التاريخيّة فحسب ـ بل العقيديّة والعاطفيّة والرُوحيّة.

وهذه المرّة تُفتّحُ أبوابه ليَحويَ العَبّاسَ وإخوتَه وبنيه ، الّذين أصبحوا عناصر عضويّةً في صميم مأساته ، كما أنّهم صاروا ـ باشتراكهم في مذبحة عاشوراء ـ قرابينَ مقدّسةً لأهداف فَدَك ، مع الحسين ابن فاطمة صاحبة فَدَك ـ تلك المغصُوب حقُّها المكسورِ ضلعُها ـ في سبيل الحقّ والحقيقة.

__________________

(١) سرّ السلسلة (ص ٨٩) معالم أنساب (ص ٢٥٦) وقد فصل الشيخ الأُردوبادي الكلام عن حساب (الرُبْع) المذكور في هذا الحديث وكيفية تحصيص الأسهم فيه.

١٥٩

رابعاً : العبّاس يمثّل أباه في كربلاء :

ولم ينتهِ ارتباطُ العَبّاس عليه السلام بأهل البيت عليهم السلام عند وفاة أبيه ، بل استمرّ حتّى كان يمثّلُ أباهُ في قضيّة كربلاء تمثيلاً رائعاً ، فإنّه كان قد أعدّهُ لمثل هذا اليوم ، فقد تحقّقت أغراضُهُ وصدقتْ نبوءتُهُ.

النبي وأهل البيت عليهم السلام ممثّلون في كربلاء

ومن العِبَر الّتي لابُدّ أن يعتبر بها المسلمون أنّ محمّداً رسول الله وأهل بيته كان لكلٍّ منهم تمثيلٌ في كربلاء ، أُولئك الّذين نزلتْ فيهم آية التطهير ، وجمعهم الكساءُ في حديثه الشهير ، وهم خمسةٌ كما أعلنَ النَبِيُّ البشيرُ ، حيثُ صرّح في نزول الآية :( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) (الأحزاب ٣٣ / ٣٣).

فقال صلى الله عليه وآله : «نزلتْ في خمسةٍ : فيَّ ، وفي عليٍّ ، وفاطمة ، والحسن ، والحسين »(١) .

فكان الحسينُ عليه السلام آخرَ الخمسة يومَ ذاكَ ، وأصغرَهم سِنّاً ، قد حَضَرَ في كربلاء بِشخصه الشريف.

__________________

(١) تفسير الحِبَري (ص ٦٥٦) عن مجمع الزوائد (٩ / ١٦٧ ـ ١٦٨).

١٦٠

وأمّا النَبِيُّ صلى الله عليه وآله :

فقد حضر بمَنْ أشبهَهُ ، وهو عليّ بنُ الحسين الأكبر. وقد أعلنَ والدُهُ الإمامُ عن ذلك عندَ شُخوص الأكبر إلى المعركة ، فلمّا استأذَنَ أَباهُ ؛ أَرخى الإمامُ عينيه بِالدُموع وأَطْرَقَ ، ثُمّ قال :

«اللّهمّ اشهدْ أنّه قد بَرَزَ إليهم غُلامٌ أَشْبَهُ الناس خَلقاً وخُلقاً ومنطقاً بِرَسُولك ، وكُنّا إذا اشْتَقْنا إلى نبيّكَ نَظَرْنا إليه ». ثمّ صاحَ الإمامُ :يابن سعدٍ! قَطَعَ اللهُ رَحِمَكَ كَما قَطَعْتَ رَحِمِي ولم تَحْفَظْني في رسول الله ».

مع أنّ الرسول كان شاهداً بوجود بعض الأوفياء من الصحابة في ساحة المعركة ، وفازوا بالشهادة هُناك ، وهم خمسةٌ(١) :

عابسُ بنُ الحارث الکاهلیّ.

حبيبُ بنُ مُظاهر الأسديّ.

مُسلمُ بنُ عَوسَجَة الأسديّ.

هانئُ بنُ عُروَة المُراديّ.

عَبْد الله بنُ يَقْطُر الحِمْيَريّ.

ومن الصحابيّات الّلاتي أسرهنّ الجيشُ الأمَوِيّ :

فِضّةُ النوبيّة خادم الزهراء فاطمة عليها السلام.

زينب العقيلة أخت الحسين عليهما السلام(٢) .

__________________

(١) راجع إبصار العين للسماوي (١٢٨).

(٢) راجع إبصار العين للسماوي (١٢٨).

١٦١

وأمّا الزَهراءُ فاطمة عليها السلام :

فقد حضرت بمَنْ وَرِثَتْ مصائِبَها وتعلّمتْ منها الصبرَ والجهادَ في سبيل الولاية ، تلك زينبُ عليها السلام عقيلةُ بني هاشم.

وحضرت بفاطمة بنت الحسين ؛ فقد كانتْ تُشبّه بجدّتها.

وأمّا الحسنُ المجتبى عليه السلام :

فقد مثله أولاده الثلاثة ، وهم : القاسم ، وعَبْد الله ، وأبو بكرٍ.

ومثّلَ العَبّاسُ أباهُ :

فقد كان يمثله بأكثر من دور وفي أكثر من موقع :

قام بحمل لواء الحسين عليه السلام كما كان أبوهُ حامل لواء الرسول في المغازي كلّها ، وهو حاملُ لواء الحمد يوم القيامة.

وقام العَبّاسُ عليه السلام في كربلاء بِمُهمّة السقي فهو الساقي لِعطاشى ذلك الموقف الحَرِج ، كما أنّ أباهُ عليّ هو الساقي على حوض الكوثر في غدٍ ، يسقي أولياءَهُ ، ويذودُ عنه أعداءه :

أبوهُ هُو الساقي على الحوضِ في غَدٍ وساقي عطاشى كربلاءَ أبُو الفَضْلِ مضافاً إلى الإخاء والوفاء والنصيحة والفداء بشجاعة ذكّرتْ شجاعة أبيه.

١٦٢

ثانياً : في ظلّ أخيه الحسن السِبط المُجتبى عليه السلام :

وإذا كان العَبّاسُ عليه السلام في عصر والده أَمِيْر المُؤْمِنِيْنَ عليه السلام على ما عرفَ من الشأن والمقام ، فهو أنْ يكونَ له دورٌ أكبرُ في عصر أخيه الإمام السِبط المُجتبى عليه السلام أجدرُ ؛ إذْ كان له من العمر (٢٤) سنةً.

لكنّ التاريخ يَضَنُّ بأخباره في ذلك العصر من سنة (٤٠) إلى (٥٠) مدّة إمامة الحَسَن عليه السلام.

ومن المُحرَزِ المُتيقّن أنْ يكونَ المؤمن مُطيعاً لأمر إمامه ، يسيرُ في رِكابه ، مُخلصاً في طاعته وولائه ، كما هو شأنُ كلّ مؤمنٍ ، فكيفَ بالعَبّاس عليه السلام العارف بدخيلة أخيه والواقف من كَثَبٍ على أخباره وأسراره ، والناظر المطّلع عليها لكونه يعيشها؟

وقد جاء في الحديث الّذي أسنده المحدّث الدولابيّ ، ورواه المحدّث ابن الأخضر الجنابذيّ ، في تاريخ الإمام الحَسَن عليه السلام عند ذكر صفته :

توفّي وهو ابن خمس وأربعين سنةً ، وولي غسلَهُ الحسينُ ، ومحمّدٌ ، والعَبّاسُ ، إخوتُه من عليّ بن أبي طالب(١) .

__________________

(١) الذرّية الطاهرة للدولابي (ص ١١٨ رقم ١٣٤) ط الأعلمي ، ونقله الإربلي في كشف الغمّة (٢ / ٤١٦) عن ابن الأخضر الجنابذي في (معالم العترة النبوية) ورواه الطبري المحبّ في ذخائر العقبى (ص ٢٤٢ والديار بكري في تاريخ الخميس (٢ / ٢٩٣).

١٦٣

ولم نجد مزيداً من الحديث عن العَبّاس في عصر أخيه المجتبى عليه السلام ولعلّ البحث يُوقفنا على ما يُفيدُ ، بعون الله العزيز المجيد.

١٦٤

ثالثاً : في ظلّ الإمام الحُسين السِبط الشهيد عليه السلام :

ويدخل العَبّاس عليه السلام (الرابعة والعشرين) من سنيّ عمره في بداية إمامة أخيه السِبط أبي عَبْدالله الحسين عليه السلام ويعيش في ظلّه (عشر) سنوات.

وهُنا أيضاً يَضَنّ التاريخُ بِالحديث عنه ، وعن دورِهِ وأثرِهِ طيلةَ هذه المدّة ، ولا بدَّ أن يكونَ كما كان في عهد الإمام الحسن عليه السلام مُطيعاً لإمامه ، مُخلصاً له ، كما هو شأن كلّ مؤمنٍ ؛ بلهَ العارف الواقف على الأُمور عن كَثَبٍ ، كما كان العباس.

لكن الأحداثَ الّتي جرتْ في آخر أيّام الإمامة الحُسينية من (رجب سنة ٦٠ ـ حتّى عاشوراء سنة ٦١ هـ) احتوتْ على مجرياتٍ مهمّةٍ كانَ للعبّاس فيها الدورُ الكبير ، ممّا يكشفُ عن أبعادٍ واسعةٍ من سيرة العَبّاس عليه السلام ومواقفه الإيمانيّة والعمليّة وما كان عليه من إيمانٍ صلبٍ ، وبصيرةٍ نافذةٍ ، وعملٍ صالحٍ مُستميتٍ ، وإخلاصٍ ووفاءٍ وشجاعةٍ.

ونستعرض هُنا أهمّ العناصر الّتي رصدناها التي تكشفُ عن مدى ما أدّاهُ عليه السلام في ظلّ الإمام عليه السلام وهو معهُ في مسيره العسير ، وفي الزمن القصير ، على أثر الحضور في مدرسة الإمام واستلهام المعرفة منه ، فقد اتّفق الرجاليّون على أنّه عليه السلام روى الحديث الشريف عن أخيه الإمام عليه السلام :

١٦٥

رواية العبّاس عن الإمام الحسين عليه السلام :

قال الشيخ الطوسيّ في (تسمية من روى عن النبيّ والأئمّة عليهم السلام) في «باب أصحاب الإمام أبي عَبْد الله الحُسين بن عليّ عليهما السلام» ما نصّه :

العَبّاسُ بنُ عليّ بن أبي طالب عليه السلام قُتِلَ معهُ عليه السلام وهو السقّاء. قتله حُكيم ابن الطُفيل. أُمّهُ أُمُّ البَنِيْنَ بنت حرام (١) بن خالد بن ربيعة بن الوحيد ، من بني عامر (٢) .

وقد كرّر هذا النصّ كلُّ من تأخّر عن الشيخ الطوسيّ من علماء رجال الحديث في كتبهم الكثيرة.

والكلام عن نصوص رواية العَبّاس عليه السلام عن أخيه الإمام الحُسين عليه السلام هو بعينه كما مرّ في روايته عن أبيه أَمِيْر المُؤْمِنِيْنَ عليه السلام يحمل على ذمّة البحث والتنقيب في كتب التراث ، والحديثيّ منه خاصّة.

مع أنّ كثيراً من الحوار الواقع في النهضة الحسينية ، والحديث عن المواقف الواقعة في السيرة الحسينيّة الّتي تناقلتها كُتُبُ المقاتل والتواريخ عن الإمام الحسين ، يُمكن اعتبارُهُ من رواية العَبّاس عليه السلام نفسه لكونه من أقرب الناس إلى صاحبها الإمام الحسين عليه السلام.

ومهما يكن ، فإنّ أهمّ ما يمكن عرضه من سيرة العَبّاس عليه السلام في عهد

__________________

(١) التزمنا في ضبط هذه الكلمة على ما اختاره الحجّة السيّد الشبيري الزنجاني في تعليقه على رجال الطوسي ، كما ذكرنا ذلك في عنوان والدة العَبّاس عليه السلام في هذا الكتاب.

(٢) رجال الطوسي (بعد الرقم ٥٩٨) من النسخة المخطوطة الّتي كتبها الحجّة المحقّق الشبيري الزنجانيّ دام ظلّه.

١٦٦

أخيه الإمام الحسين عليه السلام ممّا يدخل في عنوان (آثار المعرفة) هو ما يلي :

١ ـ خروجه مع الإمام عليه السلام :

كان العَبّاس عليه السلام في مَنْ رافق الإمام الحسين عليه السلام عند خروجه من المدينة ، وقد نصّ على ذلك خصوصاً ، وعموماً في ذكر مَنْ خرجَ مَعَهُ من أهل البيت عليهم السلام.

قال الدينوري : فلمّا أمسوا واظلمَّ الليل مضى الحسين رضي الله عنه ـ أيضاً ـ نحو مكّة ومعه أُختاه أُمّ كلثوم وزينب ، وولد أخيه ، وإخوته أبو بكر ، وجعفر ، والعَبّاس ، وعامّة من كان بالمدينة من أهل بيته عليهم السلام إلاّ أخاه محمّد ابن الحنفيّة فإنّه أقام(١) .

وذكر الصدوق في من خرج مع الحسين عليه السلام فقال : ثمّ سارَ في أحد وعشرين رجلاً من أصحابه وأهل بيته ، منهم أبو بكر بن عليّ ، ومحمّد بن عليّ ، وعثمان بن عليّ ، والعَبّاس بن عليّ ، وعَبْد الله بن مسلم بن عقيل ، وعليّ بن الحسين الأكبر ، وعليّ بن الحسين الأصغر(٢) .

وقال الشيخ المفيد : فخرج عليه السلام من تحت ليلته ـ وهي ليلة الأحد ليومين بقيتا من رجب ـ متوجّهين نحو مكّة ، ومعه بنوه وإخوته وبنو أخيه ، وجلّ أهل بيته ، إلاّ محمّد ابن الحنفية(٣) .

__________________

(١) الأخبار الطوال (ص ٢٢٨).

(٢) أمالي الصدوق (ص ٢١٧) المجلس الثلاثون / الحديث رقم (٢٣٩) وعنه البحار (٤٤ / ٢ ـ ٣١٣).

(٣) الإرشاد للمفيد (٢ / ٣٢).

١٦٧

إنّ الخروج مع الإمام الحسين عليه السلام والتزام ركبه المقدّس في مثل هذه السفرة الّتي هي هجرة مقدّسة ، في ظلّ إمام عصره ، يعتبر من مفاخر العَبّاس عليه السلام ، ولا بُدّ أن يكون عمله نابعاً عن عزمٍ وإرادة بعيدة عن مجرّد العواطف البشرية أو الرغبات والنزوات الدنيوية ، ويشهد لكلّ هذا ما صدر منه من المواقف المشرّفة على أرض المعركة في كربلاء.

فهذا الخروج مع الحسين عليه السلام شارة مجدٍ وكرامةٍ للعبّاس عليه السلام في سيرته المُثْلى.

٢ ـ الانقياد والطاعة :

إنّ العَبّاس عليه السلام وهو في ركب الحسين عليه السلام من المدينة إلى مكّة ، ثمّ من مكّة إلى كربلاء ، ثمّ يقوم في كربلاء ذلك المقام المشرِّف ، لم يسمع عنه ما يدلّ على التقاعد عن طاعة إمامه ، على طول المسير ، ولا التقاعس عن تلبية ندائه واستجابة طلباته.

ثمّ حضوره في المعركة وأيّامها الحرجة إلى جانب الحسين ، وقائماً برسم أوامره وخدمته ، حتّى الشهادة في سبيله ، فكلّ ذلك دليلٌ على الانقياد المُطلق ، والطاعة المُطلقة له.

ثمّ المشاهد المنقولة في سيرته أيّام كربلاء كلّها تُنادي بهذه الحقيقة ، حيث اختاره الإمامُ عليه السلام للقيام بأصعب المُهمّات وأخطرها ، وقد أدّاها العبّاسُ أفضل أداءٍ.

١٦٨

٣ ـ الوفاء :

إذا كان الوفاء هو : ملازمة طريق المواساة ومعاهدة عهود الخلطاء(١) فإنّ العَبّاس عليه السلام قد طبّق ذلك حرفيّاً ، وبأفضل ما يمكن من التطبيق.

وسنعرفُ على عدد الفُرَص الّتي أُتيحتْ لهُ للخُروج من المعركة ، ولكنّه عليه السلام وقف منها موقفَ الرفض ، بل كان فيها يعلنُ عن التزامه بواجب الحفاظ على الحسين سيّده وإمامه قبل وبعد أن يكون أخاه وابن أبيه.

وبذلك كانت الأُسرة الحسينيّة من رجال ونساء وأطفال تستقرّ وتركن إلى الطمأنينة ما دام العَبّاسُ لا زال على العهد ، والوفاء والمواساة. وهكذا كان «الوفاءُ» من الأوصاف الّتي لهجتْ به نصوصُ زياراته الّتي سنتلوها في الملاحق.

٤ ـ اعتماد الحسين عليه السلام عليه في المهمّات :

تقرأ في السيرة الحسينية ، وفي ساحة كربلاء بالخصوص ـ منذ ورود الإمام عليه السلام وحتّى مقتل جميع الشهداء ، وانفراد العَبّاس بالمثول بين يديه ـ مواقع حسّاسة كان الإمام عليه السلام يدعو العّبّاس فيها بالقيام بالمهمّات اللازمة والخاصّة ، فشأنه في ذلك هو شأن الوزير المعتمَد.

ولا ريب أنّ مثل ذلك الإمام عليه السلام على خصوص العَبّاس دون من حولَه من أبنائه وأصحابه الكثيرين ، والكبار عُمراً ، لهوَ الدليلُ على تقدّم العَبّاس عنده عليه السلام واللياقة لهذا المقام الرفيع.

__________________

(١) التعريفات للجرجاني (ص ١٧٤).

١٦٩

٥ ـ اصطحابه في الجلسات الخاصّة :

ومن تلك المواقف : أنّ الإمام عليه السلام إتماماً للحجّة على الأعداء ، وعلى أمير جيش الكوفة ، صمّم قبل احتدام المعركة وشدّة الأزمة على اللقاء بعمر بن سعد ، فاصطحب إلى محلّ الاجتماع أخاه العَبّاسَ وابنَه عليّاً الشهيد(١) ولمّا التقيا أمر الحُسين أصحابه ، فتنحُوا عنه وبقي معه أخوه العَبّاس وابنُه عليّ الأكبر(٢) .

وقد حدّد المؤرّخون ذلك قبل اليوم السابع من المحرّم ، أي قبل منع الماء عن الحسين عليه السلام وأصحابه. وفي تنحية الأصحاب وبقاء العَبّاس معه دلالةٌ واضحةٌ على العناية الخاصّة الّتي عنونّاها هُنا.

٦ ـ القيام بِشُؤون الأسرة :

إنّ من أهمّ جوانب السيرة الحسينيّة هو وجود الأُسرة الشريفة العلويّة الحسينيّة الفاطميّة ، مع الحسين عليه السلام في ساحة الوغى ، فمن أصعب الأثقال على قلب البطل المقدام الغيور ، وجود مجموعةٍ من النساء والأطفال في مثل موقف كربلاء ، وفي ساحة الحرب بحيث تتطلّع الأسرةُ إلى ما يُقال ، وتنظر إلى ما يقعُ من مشاهد صغيرةٍ وكبيرةٍ ، فذلك أثقلُ على قلب صاحب المعركة الّذي يُواجه العدوّ ، وهو ممّا يكبّل يديه ، ويزيد من تقيُّده ، ويمنعُه من الانطلاق نحو عدوّه ، وهذا أمرٌ واضحٌ لمن يتأمّل مثل

__________________

(١) الفتوح لابن أعثم الكوفي (٥ / ٤ ـ ١٦٦) ومقتل الخوارزمي (١ / ٢٤٧).

(٢) الخوارزمي مقتل الحسين عليه السلام (١ / ٢٤٥).

١٧٠

ذلك الموقف.

وكان هذا أمراً واقعاً على قلب الحسين عليه السلام ويستقطب مساحة كبيرة من اهتمامه ، وهو القائدُ لمعركةٍ مصيريّة إلهيّة كانت على عاتقه ، لأنّ الإسلام ـ بكلّه ـ ينتظر نتائجها. فنقرأ في السيرة : لمّا دنا القومُ من الحسين عليه السلام يوم عاشوراء ؛ خطبَ خطبته الأُولى ـ ذلك اليوم ـ وقال فيها :

«أيّها الناسُ ، اسمعوا قولي ، ولا تعجلوني ، حتّى أعظكم بما يحقّ لكم عليَّ ، وحتّى أعتذرَ إليكم من مقدمي إليكم ، فإنْ قبلتُم عُذري وصدّقتُم قولي وأعطيتُموني النَصَفَ كُنتُم بذلك أسْعَدَ ، ولم يكن لكم عليَّ سبيلٌ ، وإنْ لم تقبلُوا منّي العُذرَ ، ولم تُعطوا النَصَفَ من أنفسكم :( فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنظِرُونِ ) يونس ٨١( إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ) الأعراف : ١٩٦».

فلمّا سمعنَ أخواتُه كلامه هذا ـ وهو لم يُتمّ بعدُ خطبته ـ صِحْنَ وبكينَ ، وبكتْ بناتُه ، فارتفعت أصواتهنّ! فلمّا بلغهُ بُكاؤهنَّ وأصواتُهنَّ : أرسلَ إليهنّ أخاهُ العَبّاسَ بن عليّ ، وعليّاً ابنه ، وقال لهما : أَسْكِتاهُنَّ ، فلَعَمْري لَيَكْثُرنَّ بُكاؤُهنَّ(١) .

إنّه لمن أصعب المواقف وأكثرها حساسيّةً ، أنْ يقع مثل هذا لشخصٍ عظيمٍ مثل الإمام عليه السلام وفي موقفٍ خطيرٍ مثل هذا ، حيثُ هو في خطابٍ

__________________

(١) تاريخ الطبري : (٥ / ٤٢٤).

١٧١

مهمٍّ ، يُتمّ فيه الحُجّة على الأعداء ، وإنّه لممّا يُوهن عزمَ صاحب الموقف ويفُتّ في عضد الخطيب!

ولكنَّ الحسين عليه السلام وقيامه ومجريات عاشوراء كلّها أُمورٌ خارقةٌ للعادة ، وقد تمكّن الإمام عليه السلام أن يُحقّقَ أهدافه ، ويُعلنَ مظلوميّته حتّى في هذا الجانب الفريدِ في نوعه في تاريخ الإسلام وبعد انتشار الرسالة ، بل هذا الأمر إنّما هو جزءٌ من مكوّنات عظمة الحركة الحسينيّة وركائزها العميقة لإحياء الإسلام الّذي أماته الخلفاء بتدابيرهم المُعادية ، وقد بلغ تنفيذه على يد معاوية أبلغ مداه ، وانتهى بمثل هذا الموقف الرهيب الفجيع على يد ابنه يزيد.

والحسين عليه السلام لم يخضع للضغوط العسكريّة ولا النفسيّة وإنّما استمرَّ على ما أُمرَ به ، فأخذ أسرتَه معه ، ولمّا التَمَسَهُ ابن عبّاس أن لا يُخرجهنَّ معه ، قال الإمام في جوابه : «شاءَ اللهُ أن يراهُنَّ سبايا».

إنّه الإمام عليه السلام الّذي يسير وفق المشيئة الإلهيّة ، فلا يمنعه شيءٌ عن الاستمرار في تحقيق أهدافه.

لكنّ الإمام عليه السلام استعان بالعَبّاس وابنه عليّ ، ليُسْكتا الأُسرةَ ، فإنّ الرسالة الّتي أخذهنَّ معه لأجلها ، يتوقّف تبليغها ، وستُبَلَّغُ بعد عاشوراء ، بإعلانِهِنَّ عن ظُلامة أهل البيت ومظلوميّة الحُسين بخاصّة.

وهذه المهمّةُ الداخليّة لم يكن ليؤدِّيَ وظيفَتَها غيرُ من هو من محارم الأُسرة ، فلم يكن غير العَبّاس وعليّ.

١٧٢

وأمّا الحُسين عليه السلام فكانت عليه المهمّة الاكبر ، وهي إتمام الحجّة في خطبته ، فلمّا سكتن ، استمرّ في خطبته العظيمة تلك(١) .

ويعرف الملاحظُ ما في مثل هذه المهمّة الّتي قام بها العَبّاس من الصعوبة ، كما فيها من الحرج والقلق ما هو معلوم.

٧ ـ رسولُ الإمام عليه السلام إلى القوم :

قال الشيخُ المُفيدُ : ونهضَ عمرُ بن سعد إلى الحُسين عشيّة الخميس لِتسعٍ مضينَ من المُحرّم ، ، ثمّ نادى : يا خيلَ الله اركبي ، وأبشري ...!.

فركبَ الناسُ ، ثمّ زحف نحوَهم بعدَ العصر ، وحسينٌ جالسٌ أمامَ بيته ، مُحْتَبٍ بسيفِهِ ، إذْ خفقَ برأسهِ ، وسمعتْ أُختُه الصَيحَةَ ، فَدَنَتْ من أخيها فقالتْ : يا أخي ، أما تسمع الأصوات قد اقتربت!؟

وقال لهُ العَبّاسُ بن علي رحمة الله عليه : يا أخي ، أتاك القومُ!

فنهضَ وقال َ :

«يا عبّاسُ ، اركبْ ـ بِنَفسي أَنْتَ يا أخي ـ حتّى تلقاهُم ، وتقول لهم : ما لَكُمْ؟ وما بدا لكم؟ وتسألهم عمّا جاء بهم؟ ».

فأتاهُمُ العَبّاسُ في نحوٍ من عشرين فارساً ، منهم زُهير بن القَيْن ، وحبيبُ بن مُظاهِر. فقال لهم العَبّاسُ : ما بدا لكم؟ وما تُريدون!؟

قالوا :جاءَ أمرُ الأمير أنْ نعرضَ عليكم أنْ تنزِلُوا على حُكمه ، أو نُناجِزكم !

__________________

(١) تاريخ الطبري (٥ / ٤٢٤ ـ ٤٢٦) وانظر الكامل لابن الأثير (٤ / ٦١).

١٧٣

قال :فلا تعجلُوا ، حتّى أرجعَ إلى أبي عَبْد الله ، فأعرضَ عليه ما ذكرتُم .

فوقفوا وقالوا :إلقَهْ وأَعْلِمْهُ ، ثُمَّ الْقِنا بِما يقولُ لك .

فانصرفَ العَبّاسُ راجعاً يركُضُ إلى الحُسين عليه السلام يُخبرُهُ الخَبَرَ ، ووقفَ أصحابُه يُخاطِبُون القومَ ويَعِظُونَهم ويَكُفّونَهُم عن قتال الحسين.

فجاء العَبّاسُ إلى الحسين عليه السلام فأخبره بما قال القوم. فقال :

«ارجعْ إليهم ، فإن استطعتَ أنْ تُؤخّرَهُم إلى الغُدْوة ، وتدفَعَهم عَنّا العشيّةَ ، لَعَلّنا نُصلّي لِربّنا الليلةَ وندعُوَه ونستغفِرَهُ ، فهوَ يعلمُ أنّي قد أُحبُّ الصلاةَ لهُ وتلاوَةَ كِتابه والدُعاءَ والاستغفارَ ».

فمضى العَبّاسُ إلى القوم(١) وقال الطبري : فعاد العَبّاس يُركض فرسه حتّى انتهى إليهم فقال لهم :

يا هؤلاء ، إنّ أبا عَبْد اللله يسألكم أن تنصرفوا هذه العشيّة حتّى ينظر في هذا الأمر ، فإنّ هذا أمر لم يجرِ بينكم وبينه فيه منطق (٢) .

ورجع من عندهم ومعه رسولٌ من عمر بن سعد يقول :

إنّا قد أجّلناكم إلى غدٍ ، فإن استسلمتم سرّحناكم إلى أميرنا عُبَيْد الله بن زياد ، وإنْ أبيتُم فَلَسنا بِتاركيكم .

وانصرفَ.

__________________

(١) الإرشاد للشيخ المفيد (٢ / ٨٩ ـ ٩١) وفيه : فركب العبّاس في إخوته رضي الله عنهم ومعه أيضاً عشرة فوارس حتّى دنا من القوم. ومقتل الخوارزمي (١ / ٤ ـ ٣٥٤) والفتوح لابن الأعثم (٥ / ١٧٦).

(٢) تاريخ الطبري (٥ / ٤١٧).

١٧٤

إنّ اختيار العَبّاس لهذه المهمّة الخطيرة ، فيه الدلالةُ الكبيرةُ على الاعتماد والركون ، لما هو معلومٌ من شأن الرسول أن يكون من أفاضل الأصحاب وأعقلهم وأوفاهم ، ومهما كان الرسولُ أقربَ نَسَباً إلى المُرْسِل كانَ لهُ ولرسالتهِ الوقعُ الأقوى والأتمّ في الثِقة ، وتحقيق المقصود.

وما نقل عن العَبّاس من الكلام مع جيش الكوفة ، حيثُ عبّر عن أخيه مهما ذكره بأبي عَبْد الله ، بالكُنية الّتي إنّما تستعمل في الثقافة العربيّة وعرف العرب للتعظيم والتكريم فيه ـ في ذلك الموقف ـ دلالةٌ على مُنتهى رعاية العَبّاس عليه السلام للآداب مع أخيه وسيّده وإمامه ، وهذا في تلك الظروف يكشفُ عن ثُبوت هذه الرعاية في ضمي العَبّاس لا يغفل عنها رغم الظروف تلك.

٨ ـ الاستنجادُ به لإنقاذ الأصحاب :

وفي يوم عاشوراء لمّا نَشَبَت الحربُ ، تقدّم أربعةٌ من أصحاب الحسين عليه السلام من الّذين التحقوا بركب الحسين من الكوفة ، لمّا كان محاصَراً من قبل الحرّ بن يزيد الرِياحي في كربلاء ، ففي وقت الحرب شدّ هؤلاء ـ وهم جابر بن الحارث السلمانيّ ، ومجمّع بن عَبْد الله العائذيّ ، وعمرو بن خالد الصيداويّ الأسديّ ، وسعد مولى عمرو ـ فشدّوا على عسكر ابن سعد بأسيافهم ، وأوغلُوا فيهم ، فعطفَ عليهم العسكرُ حتّى قطعوهم عن أصحاب الحسين(١) .

__________________

(١) تاريخ الطبري (٥ / ٤٤٦).

١٧٥

فَنَدَبَ الإمامُ عليه السلام لهم أخاهُ العَبّاسَ ، فحملَ على القوم وَحْدَهُ ، فضربَ فيهم بسيفه حتّى فرّقهم ، وخَلَصَ إليهم ، فسلّموا عليه ، (فاستنقذَهم وقد جُرِحُوا)(١) فأتى بهم لكنّهم عاوَدُوا القتالَ وهو يدفعُ عنهم ، حتّى قُتِلُوا في مكانٍ واحدٍ.

فعادَ العَبّاسُ إلى أخيه وأخبرهُ خَبَرَهم(٢) .

إنّ انتخابَ العبّاس لهذِهِ المهمّةِ وقيامَه وحدَهُ بِها ، إنّما يَنُمُّ عن الاعتماد الكامل بهمّتِه وشجاعتِه وقدرتِه عليها.

٩ ـ حمل الراية :

إنّ للراية شأناً في الحروب ، لأنّها شارة الجيش ، وقيامها دليل على استقامته واستمرار نضاله ، ولذلك فإنّما تُوضع في يَدِ مَنْ ينوءُ بحملها من أُولي الأيْدِ والقُوّة والنجدة والشهامة والإقدام والحميّة.

ولم يجد الحُسين عليه السلام في مَن حوله أولى من أخيه العَبّاس مَنْ يستحِقُّ حملَها ؛ فلمّا قام عليه السلام بتعبئة جيشه «أعطى رايتَهُ العَبّاسَ بن عليّ أخاهُ»(٣) . ولذلك لُقِّبَ العَبّاسُ عليه السلام بـ «صاحب الراية» و«صاحب اللواء»(٤) .

١٠ ـ بعثه لطلب الماء :

لعلّ من أهمّ الحوادث وأمضّها أَلَمَاً وفجيعةً في وقعة الطفّ المؤلمة هو

__________________

(١) هذه الجملة وردت في رواية الكامل لابن الأثير (٤ / ٧٤).

(٢) تاريخ الطبري (٥ / ٤٤٦).

(٣) تاريخ الطبري (٥ / ٤٢٢) وأنساب الأشراف (٣ / ١٨٧).

(٤) وقد مضى في بحث (ألقابه عليه السلام) ما يتعلّق بذلك.

١٧٦

قضيّة العَطَش وقد منع جيش الكوفة الماءَ عن الحُسين وأهله وأصحابه عليهم السلام وبينهم الشيوخُ والنساء ، والصغار والرُضّع والمُرضِعات ، حتّى تلظّوا من العَطَش في لظى هجير ذلك الوادي ، وفي حرّ أيّام ذلك الفصل الحارق المُلتهبة ، وفي حصار الفزع والخوف ، وحيث كان الماء يُساوي الحياة الّتي جعلها الله في الماء لكلّ شيء حيّ.

فاختيار العَبّاس عليه السلام لِطَلَب الماء ، والجيش الأموي قد شدّد المنع من الورود ، دليل على مقامه الرفيع عند الحسين عليه السلام وقد قام العَبّاس عليه السلام بهذا الواجب الإنسانيّ والإلهيّ ، فسمّي «السقّاء» و«أبا قربة»(١) .

وأخيراً :

فإنّ قيام العَبّاس عليه السلام بأداء هذه المُهمّات الصعبة ، بأفضل ما حصل ، فيه الدلالةُ الواضحةُ على الكفاية الكاملة لديه ، مع ما تقتضيه من خاصيّات الشجاعة للإقدام على مخاطرها ، حيث لا يُقدمُ على مثلها سوى الأفذاذ من الرجال. وكذلك الطاعة المُطلقة الّتي لا توجد إلاّ عند الأوحدي من المخلصين بل كُمّليهم. والوفاء والنصيحة الّتي قلّ أن تحصل عند أحدٍ من غير المؤمنين الصُلْبي الإيمان ، والنافذي البصيرة.

ولاجتماع هذه كلّها عند العَبّاس عليه السلام كان الحقّ في أن يَختاره الإمام الحسين عليه السلام للاعتماد عليه والركون إليه.

__________________

(١) كما شرحنا في «ألقابه عليه السلام» وذكرنا مواقفه العديدة ، وفصّلناها في الباب الثالث من هذا الكتاب.

١٧٧

فهذه شارةٌ كبيرةٌ في سجلّ مكارم أبي الفَضْلِ العَبّاس عليه السلام.

كما ظلّ الأئمّة المعصومون عليهم السلام يكرّرون ذكرها ويُعلنونها ويتلونها في ما يَتْلُونَ من زيارات أبي الفَضْلِ العَبّاس عليه السلام.

ولقد انتشر الذكرُ الخالدُ للعبّاس عليه السلام في ضمير المسلمين كافّة ، وفي تراثهم ، ومنهم الطائفة الزيديّة ، فنجدُ عندهم ـ وعلى مدى القُرون من تاريخهم المجيد ـ للعبّاس عليه السلام وُجوداً مُستمرّاً بالأُسَر العلويّة الشريفة من ذرّيته العبّاسيّة الكريمة ، وفيهم من الأعلام عددٌ كبيرٌ ، سنذكرهم في الملحق الثاني الخاصّ بذريّته.

كما أنّ أئمّتهم قَدَّسوا العبّاسَ عليه السلام فهذا المنصور بالله ، عبد الله بن حمزة (ت ٦١٠ هـ) أنشأ للعبّاس عليه السلام زيارةً خاصّةً ملؤُها الثناءُ العاطر ، والإشادةُ بالأمجاد الأثيلة ، والمآثر العظيمة الّتي ازدانَ بها الشهيدُ أبو الفضل عليه السلام سنوردها في عنوان : «زياراته عليه السلام».

١٧٨

رابعاً : في حديث سائر الأئمّة عليهم السلام

إنّ أبا الفَضْلِ العَبّاسَ عليه السلام بمآثره الجسيمة تلك ، وأمجاده وبُطولاته ومواقفه المجيدة الّتي سجّلها له التاريخُ ، قد خَلَدَ في خَلَدَ أهل البيت عليهم السلام.

فها هي النصوصُ المأثورةُ عن الأئمّة المعصومين عليهم السلام تزدهرُ بذكر فضل أبي الفضل ، وتزدهي بذكر مكانته السامية.

وقد تلونا ما ورد عن الإمام السجّاد زين العابدين عليه السلام وهو شاهَدَ مواقفَ عمّه العَبّاس عليه السلام وبطولاته عن كَثَبٍ ، حيث عاصرهُ ، وعاشرهُ في عاشوراء ، فكان أصدقَ شاهد عيانٍ على كلّ ذلك.

وما ورد عن الإمام الصادق جعفر بن محمّدٍ عليهما السلام وفيه الوصفُ البليغُ عن صلابة إيمان العَبّاس عليه السلام ونفاذ بصيرته ، ومواساته ، وفدائه.

وتلك نصوص الزيارات الواردة عنهم عليهم السلام المليئة بأبلغ الأوصاف وأزهى المحاسن وأشرف المآثر والمكارم.

حتّى قرأنا أنّ أهل البيت عليهم السلام خصّصوا للعبّاس وبنيه ، حصّةً من تراثهم في «فَدَكٍ» ذلك الميراثُ النبويُّ الفاطميُّ العلويُّ ، كي يُوثقوا روابط العُلقة بينهم وبين إخوتهم من فاطمة الزهراء وأولادها ، فأشركوهم في هذا الميراث الّذي ما زالت ظُلامتُه تُدوّي في أذن التاريخ ، والّذي يعتبرُ كلّ ذرّةٍ من تُرابه صَرخةً على الظالمين لبضعة رسول الله وأُمّ عترته وأهل بيته.

١٧٩

ونقرأ في أخبار المهدي عليه السلام ، وفي الإرهاصات الّتي تسبقُ ظهورهُ ، ما عن المحدّث محمّد بن سليمان الكوفي (عن محمّد بن عُبَيْد الله)(١) قال :

«وجدتُ في كُتُب جدّي عُبَيْد الله بن العَبّاس بن عليّ بن أبي طالب عليهم السلام : أنّ القائمَ(٢) ـ من وُلد الحَسَن ـ يبدأُ بالمسير من (نَجْدٍ)(٣) فيمُرُّ ببطْنٍ من عقيلٍ يُقالُ لهم : «بنو معاوية بن حرب» فيسيرُ إلى اليمن ؛ فيسوقُ يَمَنَها إلى تهامَتِها إلى مَكّة ؛ كَسَوْقِ الراعي غَنَمَهُ إلى مَراحِها. يقدمُهُ بينَ يَدَيهِ رَجُلٌ من وُلد العبّاس بن عليّ»(٤) .

فوجود الرجل من ذريّة العبّاس مع الحَسَنيّ الَيمانيّ ، وفي مقدّمة جيشه ، فيه الدلالةُ الوافيةُ على تمثيل العبّاس في حركة المهديّ المُنْتَظَر عليه السلام.

فكلّ هذا يدلّ على أنّ للعبّاس عليه السلام وُجوداً مُستمرّاً في ضمير الأئمّة عليهم السلام وفي وجدان أهل البيت عليهم السلام وتاريخهم ؛ لا يمكن أن يُنسى.

هذا ، وقد ورد في الحديث الشريف ما رواه البرقيّ بسنده عن العبّاس ابن موسى بن جعفر عليه السلام قال : سألتُ ابي عن المأتَم؟ فقال : إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله

__________________

(١) ما بين القوسين من طبعة مؤسسة زيد.

(٢) هذا الاسم يُطلق على كلّ من يقومُ بطلب الحقّ والنضال في سبيله ، لكنّ ذلك عند الشيعة خاصٌّ بمن يكون من أهل البيت عليهم السلام والمُراد منهُ في العبارة المذكورة في الحديث هو خُصوص الحَسَنيّ الّذي يخرجُ في آخر الزمان يُمَهّدُ للمهديّ الّذي بشّرَ الرسولُ صلى الله عليه وآله بظهوره ، والمتّفق عليه بن المسلمين أنّه من وُلد فاطمة الزهراء بنت الرسول صلى الله عليه وآله. والمهمّ هُنا هو ذكرُ الرجل من وُلد العبّاس بن عليّ عليهما السلام في مقدّمة جيش هذا القائم الحَسَنيّ نصرهُ اللهُ.

(٣) المراد هنا : نجْدُ اليمن وهو في شرقي تهامة ، لاحظ معجم البلدان (٥ / ٢٦٥).

(٤) درر الأحاديث اليحيوية ، في الخاتمة التي ذكر فيها ترجمة الهادي صاحب الأحاديث (ص ١٧٣) من طبعة مؤسسة زيد ، و(ص ١٩٤) من طبعة الأعلمي.

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607