المجالس الحسنة في مناسبات السَّنَة

المجالس الحسنة في مناسبات السَّنَة0%

المجالس الحسنة في مناسبات السَّنَة مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 343

المجالس الحسنة في مناسبات السَّنَة

مؤلف: السيد أحمد الحكيم
تصنيف:

الصفحات: 343
المشاهدات: 39636
تحميل: 2559

توضيحات:

المجالس الحسنة في مناسبات السَّنَة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 343 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 39636 / تحميل: 2559
الحجم الحجم الحجم
المجالس الحسنة في مناسبات السَّنَة

المجالس الحسنة في مناسبات السَّنَة

مؤلف:
العربية

كيف ترى الفجّارُ ضربَ الأسود

بالمشرفيِّ والقنا المسدَّد

يذبُّ عن آلِ النبيّ أحمد

ثمّ قاتل حتى قُتل، وقيل أنّه قتل خمساً وعشرين رجلاً، فوقف عليه الإمام الحسين(ع) وقال: (اللهمّ بيّض وجههُ، وطيّب ريحهُ، واحشره مع الأبرار وعرّف بينه وبين محمدٍ وآل محمد(ص) )، وروي عن الإمام الباقر(ع) عن أبيه زين العابدين(ع) أنّ بني أسد الذين حضروا المعركة ليدفنوا القتلى وجدوا جوناً بعد أيّام (من شهادته) تفوح منه رائحةُ المسك، وفي ذلك يقول المرحوم الشيخ محمّد السماوي:

خليليَّ ماذا في ثرى الطفِّ فانظُرا

أَجونةُ طيبٍ تبعثُ المسكَ أم جونُ

ومن ذا الذي يدعو الحسينُ لأجلهِ

أذلك جونُ أم قرابتُهُ عونُ

لَئن كانَ عبداً قبلها فلقد زكا

النِّجارُ(١) وطابَ‏ الرّيحُ وازدهرَ اللونُ(٢)

وهذا بُرير بن خُضير الهمْداني الذي كان شيخاً ناسكاً قارئاً للقرآن من شيوخ القُرّاء في الكوفة، ومن أصحاب أمير المؤمنين(ع)، وعندما خطب الإمام الحسين(ع) أصحابه حيث قال: (ألا ترون إلى الحقّ لا يُعمل به وإلى الباطل لا يُتناهى عنه... الخ) قام إليه أصحابه الكرام وأجابوه بما اقتضى خالص الدّين ثمّ قام برير بن خضير وقال: واللَّهِ ياابن رسول اللَّه(ص) لقد

____________________

(١) قال في المصباح المنير: النِّجار بالكسر: الأصل والحسب.

(٢) إبصار العين: ص١٠٥.

١٠١

منّ اللَّهُ بك علينا ان نُقاتل بين يديك تقطّع فيك أعضاؤنا حتى يكون جدّك يوم القيامة بين أيدينا شفيعاً لنا، فلا أفلح قومٌ ضيّعوا ابن بنت نبيّهم، وويلٌ لهم ماذا يلقون به اللَّه، وأُف لهم يوم ينادون بالويل والثبور في نار جهنّم.

وروى أبو مخنف عن عفيف بن زهير قال: خرج يزيد بن معقل فقال يابرير بن خضير كيف ترى صنعَ اللَّه بك؟ -وكان هذا بعد أن خطبهم برير ووعظهم- قال: صنع واللَّه بي خيراً وصنع بك شرّاً فقال: كذبت وقبل اليوم ما كنت كذّاباً، أتذكر وأنا أُماشيك في سكة بني دودان وأنت تقول: إنّ عثمان كان كذا، وإنّ معاوية ضالّ مضلّ، وإنّ عليّ بن أبي طالب إمامُ الحقّ والهدى قال برير: أشهدُ أنّ هذا رأيي وقولي، فقال يزيد: فإنّي أشهدُ أنّكَ من الضّالين، قال برير: فهل لك أن أباهلك؟ ولندعُ اللَّهَ أن يلعنَ الكاذب، وأن يقتلَ الُمحِقُّ المبطل، ثمّ قال: اخرج لأبارزك، قال: فخرجا فرفعا أيديهما بالمباهلة إلى اللَّه يدعوانه أن يلعن الكاذب وأن يقتلَ المحقُّ المبطلَ، ثمّ برز كلُّ واحدٍ منهما لصاحبه فاختلفا ضربتين، فضرب يزيدُ بريراً ضربةً خفيفة لم تضرُّه شيئا وضرب برير يزيد ضربةً قدّت المغفر وبلغت الدّماغ فخرّ كأنّما هوى من حالق وانّ سيف برير لثابتٌ في رأسه حتى أخرجه وهو يقول:

أنا بريرٌ وأبي خضيرُ

وكلُّ خيرٍ فله بريرُ

ثمّ طلب المـُبارزة من القوم فحمل عليه رضي بن منقذ العبدي فاعتنق بريراً فاعتركا ساعة ثمّ أنّ بريراً صرعه وجلس على صدره فجعل رضي بن منقذ يصيح بأصحابه أين أهل المصاع(١) والدّفاع، فذهب كعب بن جابر الأزدي

____________________

(١) أهل المصاع: أهل القتال.

١٠٢

ليحمل عليه فقال له عفيف بن زهير: انّ هذا برير بن خضير القاري‏ء الذي كان يقرئنا القرآن في المسجد؟ فلم يلتفت وحمل عليه بالرّمح حتى طعنه في ظهره، فلمّا وجد برير مسّ الرّمح بركَ على رضي فعضّ أنفه حتى قطعه، وأنفذ الطعنة كعب حتى ألقاه عنه وقد غيّب الرّمح في ظهره ثمّ أقبل يضربه بسيفه حتى مات شهيداً رضوان اللَّه تعالى عليه، فلمّا رجع كعب بن جابر قالت له أُخته النوّار: أعنت على ابن فاطمة وقتلت سيّد القُرّاء؟! لقد أتيت عظيماً من الأمر، واللَّه لا أكلّمك من رأسي كلمة أبداً(١) .

وهذا مسلم بن عوسجة الأسدي كان رجلاً شريفاً سرّياً عابداً متنسّكاً قال ابن سعد في الطبقات: وكان صحابياً ممّن رأى رسول اللَّه(ص) وروى عنه الشعبي، وكان فارساً شجاعاً له ذكرٌ في المغازي والفتوح الإسلامية(٢) .

روى أبو مخنف عن الضحّاك بن عبداللَّه الهمداني أنّ الحسين(ع) خطب أصحابه فقال في خطبته: (إنّ القوم يطلبوني ولو أصابوني لهوا عن طلب غيري وهذا الليل قد غشيكم فاتّخذوه جملاً ثمّ ليأخذ كلُّ رجلٍ منكم بيد رجلٍ من أهل بيتي) فقام له أهله وتقدّمهم العباس بالكلام لِمَ نفعل ذلك لنبقى بعدكِ لا أرانا اللَّه ذلك أبداً ثمّ قام مسلم بن عوسجة فقال: أنحن نخلّي عنك ولَمْ نُعذر إلى اللَّه في أداء حقّك أمَ واللَّهِ لا أبرح حتى أكسر في صدورهم رمحي وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه بيدي ولا أُفارقك، ولو لم

____________________

(١) إبصار العين: ص٧٢ - ٧٣.

(٢) إبصار العين: ص٦١.

١٠٣

يكن معي سلاح أُقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة دونك حتى أموت معك، قال أبو مخنف: ولما التحم القتال حملت ميمنةُ ابن سعد على ميسرة الحسين(ع) وفي ميمنة ابن سعد عمرو بن الحجّاج الزبيدي وفي ميسرة الحسين(ع) زهير بن القين وكانت حملتهم من نحو الفرات فاضطربوا ساعة وكان مسلم بن عوسجة في الميسرة فقاتل قتالاً شديداً لم يُسمع بمثله فكان يحمل على القوم وسيفه مصلت بيمينه فيقول:

إن تسألوا عنّي فإنّي ذو لُبَدْ

وإنّ بيتي في ذرى بني أسد

فمن بغاني حائدٌ عن الرّشد

وكافرٌ بدين جبّارٍ صمد

فلم يزل يضرب فيهم بسيفه حتى عطف عليه مسلم بن عبداللَّه الضبابي وعبدالرحمن بن أبي حَكارة البجلي فاشتركا في قتله، فما انجلت الغبرة إذا هم بمسلم بن عوسجة صريعاً فمشى إليه الحسين(ع) فإذا به رمق فقال له: رحمك اللَّه يامسلم (مِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) ثمّ دنا منه فقال له حبيب عزّ عليّ مصرعُك يا مسلم أبشر بالجنّة فقال له مسلم بصوت ضعيف: بشّرك اللَّه بخير فقال حبيب: لولا أعلم أني في الأثر لاحقٌ بك من ساعتي هذه لأحببت أن توصي إليّ بكلّ ما أهمّك، قال بلى أوصيك بهذا رحمك اللَّه (وأومى بيديه إلى الحسين(ع) ) أن تموت دونه فقال حبيب: أفعل وربّ الكعبة(١) :

____________________

(١) إبصار العين: ص٥٩.

١٠٤

وصلت يابن ظاهر منيتي

ما اوصيك بعيالي وبيتي

وان كان نيتك مثل نيتي

أريدنك تجاهد سويتي

بالحسين واولاده وصيتي

يهل تعرف عظم شاني وصيتي

هتافي مولجل اهلي وصيتي

ببو السجّاد وعياله وصيتي

واريدك تحفظ حقوق الوصيّة

* * *

نصروه أحياءاً وعند مماتهم

يوصي بنصرته الشفيقُ شفيقا

أوصى ابن عوسجةٍ حبيب قائلاً

قاتلهُمُ حتّى الحِمامَ تذوقا

لاحول ولا قوة إلّا باللَّه العليّ العظيم

وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلبٍ ينقلبون والعاقبة للمتقين

١٠٥

الليلة الخامسة المجلس العاشر

مواقف أنصار الإمام الحسين(ع)

أرى العمرَ في صرفِ الزّمانِ يبيدُ

ويذهبُ لكن ما نراهُ يعودُ

فكن رجلاً إن تُنْضَ أثوابُ عيشِهِ

رَثاثاً فثوبُ الفخرِ منهُ جديدُ

وإيّاكَ أن تشري الحياةَ بذلّةٍ

هي الموتُ والموتُ المريحُ وجودُ

وغيرُ فقيدٍ مَن يموتُ بعزّةٍ

وكلُّ فتىً بالذلِّ عاش فقيدُ

لذاكَ نضى ثوبَ الحياة ابنُ فاطمٍ

وخاضَ عبابَ الموتِ وهو فريدُ

ولاقى خميساً(١) يملأُ الأرضَ زحفُهُ

بعزمٍ له السبعُ الطّباقُ تميدُ

وليس له من ناصرٍ غيرُ نيِّفٍ

وسبعينَ ليثاً ما هناك مزيدُ

سطت وأنابيبُ الرّماحِ كأنّها

أجامٌ(٢) وهم تحت الرّماح أسودُ

وما برحوا عن نصرةِ الدّين والهدى

إلى أن تفانى جمعُهُم وأُبيدوا(٣)

قال الشيخ محمد علي اليعقوبي في الجزء الأول من كتابه (البابليّات):

ولد في النجف الأشرف عام ١١٤١ه ونشأ فيها، وأخذ العلم عن علمائها يومئذٍ حتى ذاع صيتُهُ واشتهر ذكرُه بعلمي الأديان والأبدان، وبعد استكمال الفضيلة غادر النجف إلى الحلة وسكنها سنة ١١٧٥ه فكان أشهر أعلامها علماً وأدباً وتقوى وكرماً.

____________________

(١) الخميس: هو الجيش لأنّه خمسُ فرق وهي المقدّمة والقلب والميمنة والميسرة والسّاقة.

(٢) آجام: هو الحصن، ومعنى البيت هو أن الرماح لكثرتها صارت كأنّها حصن وهم تحت هذا الحصن كالأسود.

(٣) القصيدة من نظم المرحوم السيد سلمان بن السيد داود الحلي (رحمهما اللَّه تعالى) الدرّ النضيد: ص١٣٥.

قال الشيخ محمد علي اليعقوبي في الجزء الأول من كتابه (البابليّات):

ولد في النجف الأشرف عام ١١٤١ه ونشأ فيها، وأخذ العلم عن علمائها يومئذٍ حتى ذاع صيتُهُ واشتهر ذكرُه بعلمي الأديان والأبدان، وبعد استكمال الفضيلة غادر النجف إلى الحلة وسكنها سنة ١١٧٥ه فكان أشهر أعلامها علماً وأدباً وتقوى وكرماً.

١٠٦

بالطف من لهيب الشّمس والحر

ذاب اوسال دم العبد والحر

وهلال وحبيب الليث والحر

هوو مثل النجوم اعله الوطيّه

* * *

(من زيارة وارث الشريفة: السلامُ عليكم يا أنصارَ أبي عبداللَّه بأبي أنتم وأمّي طِبتُمْ وطابتِ الأرضُ التي فيها دُفنتم وفُزتم فوزاً عظيماً فياليتني كنتُ معكم فأفوز معكم)(١) .

هذه الكلمات الخالدة السامية، ذات المعاني الطيّبة العالية هي من

____________________

وكان متعدّد المواهب والملكات إضافة إلى الشّعر منها جمال الخط وسرعته حتى أنه كتب كتاب (فرحة الغري) لابن طاووس في يوم واحد، ومنها الطب حتى لقّب بالحكيم وذلك لاشتهارهِ فيه، واتقانِهِ له، حتى أنه ألّف في علم الطب، كما كان سريع البديهة حاضرَ الجواب، وهو جدّ الأسرة الحِليّة المعروفة بآل السيد سليمان، وقد نبغ منهم عددٌ ليس بالقليل في الفضل والأدب ومن مشاهيرهم ولده السيد حسين، وحفيداه السيد مهدي والسيد سليمان وولده السيد حيدر الشاعر الشّهير وغيرهم.

توفي يوم الأحد ال ٢٤ من جمادي الثانية سنة ١٢١١ه بالسكتة القلبيّة، وحمل جثمانه إلى النجف الأشرف في موكبٍ مهيب مشى فيه مئات الرّجال من أشراف الحلة، وصلّى عليه إمام الطائفة يومئذٍ السيد مهدي بحر العلوم، ودفن عند إيوان العلماء مقابل مسجد عمران، وكان لنعيه صدى في الأوساط العلمية والأدبيّة ورثاه عامة أدباء النجف والحلة منهم العلامة الشهير الشيخ محمد علي الأعسم بقصيدتين مطلع الأولى:

خطوبٌ دهتني أضرمت نارَ أشجاني

وأغرت بإرسالِ المدامعِ أجفاني

ويقول في آخرها مؤرخاً عام وفاته:

وإذ عُطّلت منه المدارسُ أرّخوا

تعطّل درسُ العلمِ بعد سليمان

١٢١١

(١) المصباح للكفعمي: ص٥٠٣.

١٠٧

انشاء الإمام أبي عبداللَّه جعفر بن محمد الصادق(ع)، ومعلومٌ أنّ الإمام(ع) ما زار أصحاب جدّه الإمام الحسين(ع) بهذه الزيارة -ويعلمُ اللَّه تعالى ماذا يقول الإمام الصادق(ع) لو أراد الوقوف على شهداء الطف وزيارتهم- ولكنّه علّمَ واحداً من أصحابه وهو صفوان الجمّالرحمه‌الله تعالى هذه الزيارة الشريفة، ومن هنا يندفع الإشكال القائل كيف يفدّي الإمام المعصوم أصحاب جدّه الحسين(ع) بأبيه الإمام المعصوم خامس أئمة الحق والخلق أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين الباقر(ع).

قال المحقّق المقرّم (ره): إنّ الإمام(ع) لم يكن هو المخاطِب لهم -أي‏الأصحاب- وانّما هو(ع) في مقام تعليم صفوان الجمّال عند زيارتهم‏أن يخاطبهم بذلك فإنّ الرواية تنصّ كما في (مصباح المتهجّد) للمرحوم الشيخ الطوسي أنّ صفوان استأذن الإمام الصادق(ع) في زيارةالحسين(ع) وأن يُعرّفه ما يقوله ويعمل عليه فقال له: (يا صفوان صم‏قبل خروجك ثلاثة أيام إلى أن قال: ثمّ إذا أتيت الحائر فقل: اللَّهُ أكبر ثمّ‏ساق الزيارة إلى أن قال: ثمّ اخرج من الباب الذي يلي رجلي عليّ بن الحسين‏وتوجّه إلى الشهداء وقل: السلام عليكم يا أولياء اللَّه) إلى آخر الزيارة(١) .

يقول(ع): (طبتم وطابت الأرض التي فيها دفنتم).

أجل واللَّه لقد طابت أرواحهم كما طابت أبدانهم، وطابت نيّاتهم مثلما قويت عزائمهم، وطابت أوصافهم ونعوتهم كما طاب بعد ذلك ذكرهم والتوسّل بهم

____________________

(١) مقتل المقرّم: ص٢٥٥ الحاشية.

١٠٨

وطيّبوا الأرض التي دفنوا فيها، والتراب الذي ألقي عليهم، وشرّفت كربلاء بهم، وبأبدانهم ودمائهم، ورحم اللَّه الشاعر حيث يقول:

فيا كربلا طُلتِ السماءَ وربّما

تناول عفواً حظَّ ذي السّعيِ قاعدُ

لأنتِ وإن كنتِ الوضيعةَ نِلْتِ مِن

جوارِهُمُ ما لَمْ تنلهُ الفراقِدُ

سُرِرْتِ بهم مذا آنسوكِ وساءَني

محاريبُ منهم أوحشتْ ومساجدُ

بذا قضتِ الأيّامُ ما بين أهلِها

مصائبُ قومٍ عند قومٍ فوائدُ(١)

ومن الثابت الذي لا ريب فيه هو أنّ الصفوة الطيّبة ما كانت لتنال من الحظوة والقرب لولا ملازمتها لسيّد الشهداء وأبي الأحرار الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب:، ولقد أجاد من قال فيهم:

وذوو المروّةِ والوفا أنصارُهُ

لَهُمُ على الجيشِ العظيم زئيرُ

طَهُرت نفوسُهُمُ بطيبِ أصولها

فعناصرٌ طابت لَهم وحجورُ

فتمثّلت لَهُمُ القصورُ وما بهم

لولا تمثّلتِ القصورُ قصورُ

ما شاقهُمْ للموتِ إلّا دعوةُ ال

رحمنِ لا ولدانُها والحورُ(٢)

فهذا زهير بن القين البجلي وهو رجلٌ شريفٌ في قومه شجاعٌ له مواقف مشهورة ومواطن مشهودة كان أولاً عثمانياً فحجّ سنة ستين في أهله

____________________

(١) هذه الأبيات من قصيدة عصماء للمرحوم الشيخ جعفر الخطّي البحراني(ره) - الدرّ النضيد: ص١٣١.

(٢) نفسُ المهموم: ص٦٢٩.

١٠٩

ثمّ عاد فوافق الحسين(ع) في الطريق، فهداه اللَّه تعالى وانتقل علويّاً، روى أبو مخنف عن بعض الفزاريين قال كنّا مع زهير بن القين حين أقبلنا من مكّة (إلى الكوفة) فساير الحسين(ع) فلم يكن شي‏ء أبغض إلينا من أن نسايره في منزل، فإذا سار الحسين(ع) تخلّف زهير، وإذا نزل الحسين(ع) تقدّم وسار زهير، حتى نزلنا يوماً في منزل لم نجد بُداً من أن ننازله فيه، فنزل الحسين(ع) في جانب ونزلنا في جانب، فبينا نحن نتغدّى من طعامٍ لنا إذ أقبل رسول الحسين(ع) فسلّم ودخل فقال: يا زهير بن القين إنّ أبا عبداللَّه الحسين بن علي بعثني إليك لتأتيه، فطرح كلُّ إنسان منّا ما في يده حتى كأنّ على رؤوسنا الطير، قال أبو مخنف: فحدّثتني دلهم بنت عمرو زوجة زهير قالت: فقلت له: أيبعثُ إليك ابنُ رسول اللَّه(ص) ثمّ لا تأتيه سبحان اللَّه، لو أتيته فسمعت من كلامه ثمّ انصرفت قالت: فذهب زهير إلى الإمام الحسين(ع)، فما لبث أن عاد مستبشراً قد أسفر وجهه، فأمر بفسطاطه وثقله ومتاعِهِ فقوّض وحُمِلَ إلى الحسين(ع) ثمّ قال لي: أنت طالق إلحقي بأهلك فإنّي لا أحبُّ أن يصيبك بسببي إلّا خير ثمّ قال لأصحابه: مَن أحبّ منكم أن يتبعني وإلّا فإنّه آخر العهد اني سأحدّثكم حديثاً غزونا (بلنجر)(١) ففتح اللَّهُ علينا وأصبنا غنائم فقال لنا سلمان: أفرحتم بما فتح اللَّه عليكم وأصبتم من المغانم فقلنا نعم فقال لنا: إذا أدركتم سيّد شباب آل ‏محمد(ص) الحسين(ع) فكونوا أشدّ فرحاً بقتالكم معه بما أَصبتم من المغانم.

____________________

(١) بَلَنْجَرْ: قال ياقوت الحموى في (معجم البلدان) ج١ ص٤٨٩: هي مدينة ببلاد الخزر خلف باب الأبواب قال البلاذري: فتحها سلمان بن ربيعة الباهلي.

١١٠

فأمّا أنا فإني أستودعكم اللَّه ثمّ قال واللَّه ما زال أوّل القوم حتى قتل بين يديه.

روى أبو مخنف عن الضحّاك بن عبداللَّه المشرقي قال: لما كانت الليلة العاشرة خطب الحسين(ع) أصحابه وأهل بيته فقال في كلامه: (هذا الليل قد غشيكم فاتّخذوه جملاً وليأخذ كلّ رجلٍ منكم بيد رجل من أهل بيتي فإنّ القوم انّما يطلبوني) فقام زهير بن القين فقال: واللَّه لوددتُ أني قتلتُ ثمّ نشرت ثمّ قُتلت حتى أُقتل كذا ألف قتلة وأنّ اللَّه يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن أنفسِ هؤلاء الفتية من أهل بيتك، وما زال زهير مأنوساً بحضرة وخدمة الإمام الحسين(ع) حتى صار يوم العاشر وقُتِلَ جمعٌ من الأصحاب الأوفياء وصلّى الإمام(ع) بأصحابه صلاة الخوف فلمّا فرغ منها تقدّم زهير فجعل يُقاتل قتالاً لم يُرَ مثلُهُ، ولم يُسمع بشبهِهِ وأخذ يحمل على القوم وهو يقول:

أنا زهيرٌ وأنا ابنُ القين

أذودكم بالسيفِ عن حسينِ

ثمّ رجع فوقف أمام الحسين(ع) وقال له:

فدتك نفسي هادياً مهديا

اليوم ألقى جدّكَ النبيّا

وحسناً والمرتضى عليّا

وذا الجناحينِ الشهيدَ الحيّا

فكأنّه ودّع الإمام(ع) بهذه الكلمات وعاد إلى القتال، فشدّ عليه كثير ابن عبداللَّه الشعبي ومهاجر بن أوس التميمي فقتلاه، قال السّروي في المناقب: لما صرع وقف عليه الإمام الحسين(ع) فقال: (لا يبعدنّك اللَّه

١١١

يازهير، ولعن اللَّهُ قاتليكَ لعنَ الذين مسخوا قردةً وخنازير)(١) .

وهذا سعيد بن مرّة التميمي ممّن رزق الشهادة بين يدي الإمام الحسين(ع) مع نفرٍ من أهل البصرة، وكان سعيدُ شاباً له من العمر تسعة عشر سنة فإنّه لما سمع بأنّ الحسين(ع) استنصر أشراف أهل البصرة في كتبه أقبل إلى أمّه صبيحة عرسه وصاح: أُمّاه عليّ بلامة حربي وفرسي قالت: وما تصنع بها قال: أُمّاه لقد ضاق صدري وأُريد أن أمضي إلى خارج البساتين فقالت له: ولدي انطلق إلى زوجتك ولاطفها فقال: أُمّاه لا يسعني ذلك فبينما هم كذلك إذ أقبلت زوجتُه وقالت: إلى أين تريد ياابن العمّ؟ قال: أنا ذاهبٌ إلى من هو خيرٌ منّي ومنك فقالت: ومن هو خيرٌ منك ومنّي؟ فقال لها: ذاك سيدي ومولاي الحسين بن علي(ع)، فلمّا سمعت أُمّه بذلك بكت وقالت: ولدي جزاك اللَّه عن الحسين خيراً، ولكن ولدي أما حملتك في بطني تسعة أشهر؟ قال: بلى، قالت: أما سهرت الليالي في تربيتك؟ قال: بلى، وأنا لست منكراً لحقّك عليّ، قالت: إذاً عندي وصيّة، قال: وما هي يااُمّاه؟ قالت: ولدي إذا أدركت سيّد شباب أهل الجنّة اقرأه عنّي السلام وقل له: فليشفع لي يوم القيامة فقال لها: يا اُمّاه وأنا اُوصيك بوصيّة قالت: وما هي ولدي؟ قال: إذا رأيت شاباً لم يتهنّأ بشبابه وعرّيساً لم يتهنّأ بعرسه فاذكري عرسي وشبابي.

قال الراوي: ثمّ ودّعها وودّع زوجته وخرج من البصرة، وأقبل يجدّ السير في الليل والنهار وسمع في الطريق أنّ الإمام الحسين(ع) نزل كربلاء، فجعل يجدّ

____________________

(١) ابصار العين: ص٩٨ - ٩٩.

١١٢

السير حتى وافى كربلاء وكان ذلك في يوم العاشر من المحرّم والإمام الحسين(ع) وحيداً فريداً قد قُتل أهلُه وأصحابُه فلمّا رآه الإمام الحسين(ع) قال: (سعيدٌ هذه)؟ قال: نعم سيّدي قال: (ما قالت لك أُمّك ياسعيد)؟ قال: سيدي تقرؤك السلام قال الإمام(ع): (عليك وعليها السلام ياسعيد انّ امّك مع أمّي في الجنة)، ثمّ قال سعيد: سيدي أتأذن لي أن أسلّم على بنات رسول اللَّه(ص)؟ قال: نعم، فأقبل سعيد حتى وقف بإزاء الخيام ونادى: السلام عليكم يا آل بيت رسول اللَّه فصاحت امرأة وعليك السلام فمن أنت؟ قال: سيّدتي أن خادمكم سعيد بن مرّة التميمي جئت لنصرة سيدي الحسين، فقالت: يا سعيد أما تسمع الحسين ينادي هل من ناصر؟ هل من معين؟ قال: ثمّ رجع إلى الإمام الحسين(ع) ووقف يستأذن للبراز فأذن له الإمام فحمل على القوم وجعل يُقاتل حتى قتلَ جمعاً كثيراً فعطفوا عليه حتى قتلوه، و لما قتل سعيد مشى إليه الإمام فجلس عنده وأخذ رأسه ووضعه في حجره وجعل يمسح الدم والتراب عن وجههِ وهو يقول: (أنت سعيد كما سمّتك أُمّك سعيدٌ في الدنيا وسعيدٌ في الآخرة)(١) .

وهذا وهب بن حبّاب الكلبي وكان نصرانياً فأسلم على يدي الإمام الحسين(ع) وكانت معه أمّه وزوجتُه فقالت أُمّه: قم يا بنيّ فانصر ابن بنت رسول اللَّه(ص)، فقال: أفعل يا اُمّاه ولا أقصّر، فبرز وهو يقول:

إن تنكروني فأنا ابنُ الكلبي

سوف تروني وترونَ ضربي

وحملتي وصولتي في الحربِ

أدركُ ثاري بعد ثار صحبي

____________________

(١) ثمرات الأعواد للمرحوم السيد علي الهاشمي: ج١ ص١٧٠.

١١٣

وأدفع الكربَ أمامَ الكربِ

ليسَ جهادي في الوغى باللّعْبِ

ثمّ حمل ولم يزل يُقاتل حتى قتل جماعةً ثمّ رجع إلى اُمّه وزوجته وقال: يا أُمّاه أرضيت؟ قالت: ما رضيت حتى تُقتل بين يدي الحسين(ع)، فقالت امرأته: باللَّه عليك لا تفجعني بنفسك فقالت أُمّه: يا بُني اُعزب عن قولها وارجع فقاتل بين يدي ابن بنت نبيّك تنل شفاعة جدّه يوم القيامة، فرجع إلى الميدان ولم يزل يُقاتل حتى قطعت يداه، وأخذت امرأته عموداً وأقبلت نحوه وهي تقول: فداك أبي وأُمّي يا وهب قاتل دون الطيّبين عترة المصطفى(ص)، فقال لها: كنت تنهينني عن القتال والآن جئت تقاتلين معي، قالت: يا وهب لا تلمني إنّ واعية(١) الحسين كسرت قلبي، فقال: ما الذي سمعتي منه؟ قالت: رأيته جالساً بباب الخيمة وهو ينادي واقلّة ناصراه، فبكى وهب بكاءاً كثيراً وقال لزوجته: ارجعي إلى النساء رحمك اللَّه فأبت فصاح وهب: سيّدي أبا عبداللَّه ردّها إلى الخيمة، فردّها الإمام إلى الخيمة، ثمّ اجتمع القوم على وهب وأردوه قتيلاً رضوان اللَّه تعالى عليه(٢) .

وهكذا قُتل الواحد بعد الآخر حتى تفانوا عن آخرهم وبقي الإمام(ع) بعدهم وحيداً فريداً لا ناصر له ولا معين وجعل ينظر يميناً وشمالاً فلم يرَ أحداً من أصحابه إلّا مَن صافح الترابُ جبينَه وقطع الحِمامُ أنينَه فنادى: (يامسلمَ بنَ عوسجة ويا حبيبَ بنَ مظاهر ويا زهير بن القين ويا عباس بن علي ويا علي الأكبر ويا فلان ويا فلان يا أبطال الصّفا ويا فرسانَ الهيجا مالي أُناديكم لا

____________________

(١) الواعية: هي الصّوت.

(٢) مقتل المرحوم الشيخ عبدالزهراء الكعبي: ص٣٩.

١١٤

تجيبون وأدعوكم فلا تسمعون أنيامٌ أرجوكم تنتبهون أم حالت بينكم وبين سيّدكم منيّتكم وهذه بنات الرسول لفقدكم قد علاهنّ النحول فقوموا عن نومتكم أيّها الكرام وادفعوا عن حرم الرسول الطغاة اللئام).

لما رأى السبطُ أصحابَ الوفا قُتلوا

نادى أبا الفضلِ أين الفارسُ البطلُ

وأين مَن دوني الأرواحَ قد بذلوا

بالأمس كانوا معي واليوم قد رحلوا

وخلّفوا بسويدا القلبِ نيرانا

ما بالهم لا يجيبوني أما سمعوا

ولو رأوني وحيداً ما الذي صنعوا

بل‏ هم ‏سُكارى‏ بكاساتِ ‏الرّدى كرعوا

نذرٌ عليّ لئن عادوا وإن رجعوا

لأزرعنّ طريق الطفِّ ريحانا

* * *

ليش انادي وما تجيبون النده

رحتوا عنّي ودارت عليّه العده

أدري بيني وبينكم حال الرّده

وعلي صالت بالغضب عدوانها

ياعلي الأكبر يقاسم ياحبيب

ياهلال الوغه وانوه اعله المغيب

ليش انادي وما حصل منكم مجيب

صاح من يحمي الحرم وخدورها

* * *

أحبّتنا مَن للضعائن بعدكم

فليت فدتكم ياكرامُ الضعائنُ

لاحول ولا قوة إلّا باللَّه العليّ العظيم

وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلبٍ ينقلبون والعاقبة للمتقين

١١٥

الليلة السادسة المجلس الحادي عشر

الصحابي الجليل حبيب بن مظاهر الأسدي

كلّما تعذلانِ زدتُ نحيبا

يا خليليَّ إنْ ذكرتُ حبيبا

ياحبيبَ القلوبِ رزؤُكَ مهما

ذكرتهُ الرّاثونَ شقّ القلوبا

ياوحيداً حاميتَ دون وحيدٍ

حيثُ لا ناصراً يُرى أو مجيبا

بعتَ نفساً نفيسةً فاشتراها

باريُ النّفس منك والرّبحُ طوبى

إنْ نصرتَ الحسينَ غيرُ عجيبٍ

إنْ تخلّفتَ عنه كان عجيبا

ياوزيرَ الحسينِ حزتَ مقاماً

كلُّ آنٍ يزدادُ عَرفاً وطيبا

كم عن السبطِ قد كشفت كروباً

بعد ما قد لقيتَ منهم كروبا

إنّ يوماً أُصِبْتَ فيه ليومٌ

أيُّ قلبٍ لذكره لن يذوبا

إنْ هجرتَ الدّيارَ صرتَ بدارٍ

فيه جاورتَ حيدراً والحبيبا

الغريبُ الذي يموتُ ذليلاً

ليس من ماتَ في الإباءِ غريبا

قدّسَ اللَّهُ تربةً قد حوتهُ

سِرُّ قدسٍ حوت وليثاً مَهيبا(١)

* * *

أحبيبُ أنت إلى الحسينِ حبيبُ

إن لم ينط نسبٌ فأنت نسيبُ

يامرحباً بابنِ المظاهرِ بالوَلا

لو كان ينهضُ بالوَلا الترحيبُ

شأنٌ يشقُّ على الضَّراح(٢) مرامُهُ

بعدٌ وقبرُك والضّريحُ قريبُ

بأبي المفدّي نفسَهُ عن رَغبةٍ

لم يرعَها التّرهيبُ والتّرغيبُ

____________________

(١) القصيدة من نظم المرحوم السيد صالح الحلي. وقد مرّت ترجمتُهُ ص٧٤.

(٢) الضَّراح: هو العالي الشاهق.

١١٦

هو سيّدُ أصحاب الإمام الحسين(ع) الذي كان لواؤهم بيده يوم كربلاء، وهو العالم العارف المتفاني في حبّ أهل بيت نبيّه(ص)، والحافظ المحافظ على وصيّة رسول اللَّه(ص) لأمّته حيث قال: إني تارك فيكم الثّقلين كتابَ اللَّه وعترتي أهلَ بيتي، ما إن تمسكّتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً، وكان صحابياً(١) أدرك النبي(ص) وسمع حديثه، ثمّ انقطع حبيب رضوان اللَّه عليه بعد رحيل رسول اللَّه(ص) إلى أمير المؤمنين(ع) وشارك في حروبه الثلاثة الجمل، وصفّين، والنهروان، وكان موضع عناية الإمام أمير المؤمنين(ع) حيث تفضّل عليه وعلّمه العلم النافع، وكرّمه ببعض أسراره، وذلك لما عَلِمَ الإمامُ(ع) طيبَ ذاتِه، وصلاح سريرته، وسلامة نيّته.

قال السيّد الأمين؛ في (أعيان الشيعة): كان حبيب من الرجال السبعين الذين نصروا الحسين(ع) ولقوا جبال الحديد واستقبلوا الرّماح بصدورهم، والسيوف بوجوههم، وهم يعرض عليهم الأمان والأموال فيأبون ويقولون لا عذر لنا عند رسول اللَّه(ص) إنْ قُتلَ الحسين ومنا عين تطرف حتى قُتّلوا حوله رحمهم اللَّه تعالى(٢) .

____________________

(١) لم يكن حبيب بن مظهّر الأسدي الصحابي الوحيد الذي نال الشهادة مع الإمام الحسين(ع) في واقعة الطّف بل كان مع أربعة آخرين، يقول المحقّق الشيخ السماوي في (ابصار العين): قتل من أصحاب رسول اللَّه(ص) مع الإمام الحسين(ع) خمسةُ نفر في الطّف، أنس بن الحرث الكاهلي، ذكره جميع المؤرّخين، وحبيب بن مظّهر الأسدي، ذكره ابن حجر، ومسلم بن عوسجة الأسدي ذكره ابن سعد في الطبقات، وفي الكوفة هاني بن عروة المرادي، فقد ذكره الجميع انه قارب الثمانين من العمر، وعبداللَّه بن يقطر الحميري، ذكره ابن حجر، وكان لدة الحسين(ع) أي ولد في نفس سنة ميلاد الحسين(ع).

(٢) أعيان الشيعة - المجلد الرابع: ص٥٥٣.

١١٧

وفي مجالس المؤمنين عن روضة الشهداء أنّه قال: حبيب بن مظاهر رجلٌ ذو جمال وكمال، وفي يوم وقعة كربلاء كان عمره ٧٥ سنة وكان يحفظ القرآن كلّه، ويختمُهُ في كلّ ليلة من بعد صلاة العِشاء إلى طلوع الفجر(١) .

وقال الشيخ السماوي في (ابصار العين): قال أهلُ السيَر أنّ حبيباً نزل الكوفة وصحب أمير المؤمنين(ع) في حروبه كلّها، وكان من خاصّته وحملة علومه.

ومن جملة العلوم التي تعلّمها حبيب رضوان اللَّه عليه من أمير المؤمنين(ع) هو علم البلايا والمنايا، وهو علم شريف يعرف فيه آجال الناس والحوادث والفتن والوقائع، قال الشيخ السماوي في (ابصار العين): روى الكشّي عن فضيل بن الزبير قال مرّ ميثم التمّار على فرسٍ له فاستقبله حبيب بن مظاهر الأسدي فتحادثا ثمّ قال حبيب: لكأني بشيخ أصلع ضخم البطن يبيع البطيخ عند دار الرزق -في الكوفة- قد صلبَ في حبّ أهل بيت نبيّه، فتبقر بطنُهُ على الخشبة، فقال ميثم: واني لأعرفُ رجلاً أحمر له ضفيرتان يخرج لنصرةِ ابن بنت نبيّه فيقتل ويجالُ برأسه في الكوفة ثمّ افترقا فقال أهل المجلس ما رأينا أكذبَ من هذين، فلم يفترق المجلس -لم يتفرّق الناس- حتى أقبل رُشَيدُ الهَجَري فطلبهما فقالوا افترقا وسمعناهما يقولان كذا وكذا فقال رشيد رحمَ اللَّه ميثماً نسيَ شيئاً

____________________

(١) اعيان الشيعة - المجلد الرابع: ص٥٥٤.

١١٨

وهو أنّه يزاد في عطاء الذي يجي‏ء بالرأس مائة درهم ثمّ ذهب فقال القوم هذا واللَّهِ أكذبُهم، فما ذهبت الأيام والليالي حتى رأينا ميثماً مصلوباً على باب عمرو ابن حريث وجي‏ء برأس حبيب وقد قتل مع الإمام الحسين(ع)، ورأينا كلّ ما قالوا(١) .

وروى الشيخ المجلسي(ره) في (البحار) عن عليّ بن الحكم قال: من أصفياء أصحاب عليّ أمير المؤمنين(ع) عمرو بن الحَمقْ الخزاعي، وميثم التمّار، ورُشَيْد الهَجَري وحبيب بن مظاهر، ومحمّد بن أبي بكر(٢) .

ومّما زاد في شرفه وعلوِّ رتبته دفنُهُ بعد شهادته عند رأس الإمام الحسين(ع) متميّزاً عن بقية الشهداء، وكان ذلك بأمر الإمام زين العابدين(ع)، فصارَ وكأنّه بوّاب الحسين(ع) بعد شهادته يبدأ به الدّاخل وينتهي به الخارج من الحائر الحسيني الشريف.

حكى أحد العُلماء أنّ رجلاً صالحاً رأى حبيب بن مظاهر الأسدي في الرؤيا فقال له: سيدي يا حبيب لقد حزت الخير من جوانبه كلّها فأنت صحابيّ أدركت رسول اللَّه(ص) وسمعت حديثه ثمّ جئت إلى الكوفة ولازمت أمير المؤمنين(ع) وشاركت في حروبه كلّها، ثمّ صاحبت الإمام الحسين(ع) ونلت الشهادة بين يديه فأنتم سادات الشهداء لا يسبقكم سابق ولا يلحقكم لاحق، وهذا قبرك بعد الموت -الشهادة- فأنت باب

____________________

(١) ابصار العين: ص٥٧.

(٢) اعيان الشيعة - المجلد الرابع: ص٥٥٤.

١١٩

الحسين(ع) يدخل الزائر فيسلّم عليك أولاً ولا يخرج حتى يسلّم عليك ثانياً، ومكانك في اعلا عليّين مع الأنبياء والصدّيقين وحسن أولئك رفيقا، فهل بقي في قلبك شي‏ء؟ أم هل بقيت لك أمنية تتمنّاها بعد هذا الإكرام؟ قال حبيب: نعم أتمنى أن أعود إلى الدنيا وأحضر مع المؤمنين في مجلس الحسين وأبكي مع الباكين وأندب مع النادبين.

وروى الطبري في تأريخه وتبعهُ ابنُ الأثير أنّ حبيب بن مظاهر كان من جملة الذين كتبوا إلى الإمام الحسين(ع) لما امتنع من بيعة يزيد وخرج إلى مكّة، وكانت صورة الكتاب: بسم اللَّه الرحمن الرحيم لحسين بن علي(ع) من سليمان بن صُرد والمـُسيّب بن نجبة ورفاعة بن شداد وحبيب ابن مظاهر وشيعته من المؤمنين والمسلمين من أهل الكوفة. سلامٌ عليك(١) فإنّما نحمد إليك اللَّه الذي لا إله إلّا هو، أمّا بعد: فالحمدُ للَّه الذي قصمَ عدوّك الجبّار العنيد الذي انتزى على هذه الاُمّة فابتزّها وغصبها فيأها، وتأمّر عليها بغير رضىً منها، ثمّ قتل خيارها واستبقى شرارَها وجعل مال اللَّه دُوْلةً بين جبابرتها وأغنيائها فبعداً له كما بعُدت ثمود، إنّه ليس علينا إمامٌ فأقبل لعلّ اللَّه يجمعنا بك على الحق، والنعمان(٢) بن بشير في قصر الإمارة لسنا نجتمع معه في جمعةٍ ولا نخرج معه إلى عيد ولو قد بلغنا أنّك قد أقبلت إلينا أخرجناه حتى نلحقه بالشام ان شاء اللَّه والسلام ورحمة اللَّه وبركاته عليك(٣) .

____________________

(١) المقصود من العدو هنا هو معاوية بن أبي سفيان.

(٢) النعمان بن بشير الأنصاري كان والياً على الكوفة أيام معاوية، فأقرّه عليها يزيد بعد هلاك معاوية.

(٣) أعيان الشيعة - المجلد الرابع: ص٥٥٤.

١٢٠