المجالس الحسنة في مناسبات السَّنَة

المجالس الحسنة في مناسبات السَّنَة0%

المجالس الحسنة في مناسبات السَّنَة مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 343

المجالس الحسنة في مناسبات السَّنَة

مؤلف: السيد أحمد الحكيم
تصنيف:

الصفحات: 343
المشاهدات: 39567
تحميل: 2549

توضيحات:

المجالس الحسنة في مناسبات السَّنَة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 343 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 39567 / تحميل: 2549
الحجم الحجم الحجم
المجالس الحسنة في مناسبات السَّنَة

المجالس الحسنة في مناسبات السَّنَة

مؤلف:
العربية

المؤرّخين منهم: ابن جرير الطّبري وابن قتيبة الدينوري واليعقوبي وغيرهم(١) .

وأمّا كنيتُهُ فهي (أبو الحسن) كما جاء في زيارته المرويّة عن أبي حمزة الثمالي أنّ الإمام أبا عبداللَّه الصّادق(ع) قال له: ضع خدّك على القبر وقل:

صلّى اللَّه عليك ياأبا الحسن ثلاثاً، بأبي أنت وأمّي أتيتُك زائراً... الخ(٢) .

وأمّا أمُّه النّجيبة فهي السيّدة ليلى بنت أبي مرّة بن مسعود الثقفي.

وكان عليّ الأكبر(ع) أشبه النّاس برسول اللَّه(ص)، ولم ينصّ المؤرّخون على مشابهة آل النبيّ(ص) له في جميع الصّفات إلّا ولده عليّ الأكبر(ع)، فعلى سبيل المثال يحدّث السّروي عن جابر بن عبداللَّه الأنصاري أن السيّدة فاطمة الزهراء(ع) تشبه أباها في المِشية فإنها تميل على الجانب الأيمن مرّةً وعلى الأيسر أخرى.

وفي رواية الشيخ الصّدوق(ره) في الخصال تشهد بأنّ الحسن(ع) شابهَ جدّه رسول اللَّه(ص) في الهيبة والسؤدد والحسين(ع) شابهَهه في الجود والشجاعة.

وأخرج الحاكم النيسابوري عن أمير المؤمنين(ع) انه قال: إنّ رسول اللَّه(ص) قال لجعفر الطيّار أشبهت خَلقي وخُلقي.

____________________

(١) وللمزيد راجع كتاب (علي الأكبر) للمحقّق المقرّم: ص١٦ - ١٩.

(٢) كامل الزيارات لابن قولويه القمّي(ره) باب ٩٧: ص٢٤٠.

٢٠١

ويحدّث الشيخ الجليل الشيخ فخر الدين الطّريحي في (المنتخب) إنّ الإمام الحسين(ع) قال في حقّ الرّضيع: (اللهمّ أنت الشاهدُ على قومٍ قتلوا أشبهَ النّاس برسولك محمّد(ص)).

وهذه الشواهد كلّها لا تدلّ على مشابهة العترة الطاهرة للرسول(ص) في جميع الصفات الكريمة، لكنّ كلمة الإمام الحسين(ع) الذّهبيّة في حق ولده علي الأكبر(ع): اللهمّ اشهد أنه برز إليهم أشبهُ النّاس خَلقاً وخُلقاً ومنطقاً برسولِك وكنّا إذا اشتقنا إلى نبيّك نظرنا إليه.

ترشدُنا هذه الكلمةُ الشريفة إلى أن فقيد البيت الهاشمي كان في وقته‏مرآة الجمال النبوي(ص)، ومثالَ كماله الأسمى، وأنموذجاً من منطقه البليغ‏الرائع حتى أنّ أباه الإمام الحسين(ع) إذا اشتاق إلى رؤية جدّه المفدّى(ص)نظر إليه، والحق أنّ عليّ الأكبر(ع) شابه جدّه في أخلاقه أجمع‏كالاخلاص والشجاعة والحلم والبشاشة في العشرة ودماثة في الخُلق،ولين‏الجانب، والخشونة في ذات اللَّه تعالى، والابتعاد عن الدنايا والرّذائل(١) .

وممّا يشهد بذلك أن معاوية مع ما كان عليه من المباينة مع الهاشميين لم يسعهُ إلّا الإعتراف أمام قومه باجتماع الفضائل في (علي الأكبر(ع)) وأنه جديرٌ بالخلافة، وقابل للزّعامة الدينيّة يوم قال لمن حضر عنده من أهل الشام وغيرهم: مَن أحقُّ بهذا الأمر؟ قالوا: أنت.

فقال معاوية: لا، أولى الناس بهذا الأمر عليّ بن الحسين بن علي،

____________________

(١) علي الأكبر للمقرّم: ص٤٢.

٢٠٢

جدّهُ رسول اللَّه(ص)، وفيه شجاعة بني هاشم، وسخاء بني أميّة(١) ، وزهو ثقيف.

وهذه الكلمة الصّادرة من معاوية ترشدنا إلى أنّ عليّ الأكبر(ع) يومئذ معروف عند أهل الشام وغيرهم بأنه الجامع للقداسة الإلهية ومكارم الأخلاق بأجلى مظاهرها وإلّا فلا يعقل أن يشير معاوية بأهلية الخلافة إلى رجلٍ غير مرموق عند الناس من جميع الفضائل(٢) .

وفي الطريق إلى كربلاء بدت من الأكبر معرفةٌ وشجاعة عالية يشهد لهذا حديثُ عقبة بن سمعان حيث قال: لما كان السّحر من الليلة التي بات الإمام الحسين(ع) فيها بقصر بني مقاتل أمرنا بالإستقاء ثمّ ارتحلنا فبينا هو يسير إذ خفقَ برأسه خفقةً وانتبه يقول: إنّا للَّه وإنّا إليه راجعون والحمدُ للَّه ربّ العالمين، وكرّر ذلك ثلاثاً.

فأقبل إليه ابنُهُ عليُّ الأكبر وكان على فرسٍ وقال له: جعلت فداك مِمَّ استرجعت وحمدَت اللَّه؟ قال(ع): خفقت برأسي خفقةً فعنّ لي فارسٌ يقول: القوم يسيرون والمنايا تسري إليهم، فعلمتُ أنّها أنفسُنا نُعيت إلينا. فقال عليّ الأكبر(ع): ياأبتِ ألسنا على الحق؟

فقال الحسين(ع): بلى والذي إليه مرجعُ العباد.

____________________

(١) قوله: سخاء بني أمية هو مدحٌ لقومه بما ليس فيهم حيث لم يُعرف بنو أميّة لا بشجاعة ولا كرم، وأما لماذا ذكر معاوية بني أمية هنا. فالجواب: هو لأنّ السيّدة ليلى أم علي الأكبر بنت ميمونة بنت أبي سفيان، فمعاوية بهذا خالٌ لليلى أُمّ علي الأكبر(ع).

(٢) علي الأكبر للمقرّم: ص٤٦.

٢٠٣

قال الأكبر(ع): إذاً لا نبالي أن نموت محقّين فقال له الإمام: جزاك اللَّهُ من ولدٍ خير ما جزى ولداً عن والده(١) ، وللَّه درُّ الشاعر حيث يقول:

في بأسِ حمزةَ في شجاعةِ حيدر

بإبا الحسين وفي مهابةِ أحمدِ

وتراهُ في خَلقٍ وطيبِ خلائقٍ

وجميلِ نُطقٍ كالنّبيِّ محمّدِ(٢)

قال أبو الفرج الأصفهاني وغيرُهُ: وكان أوّلُ من قُتِلَ بالطفّ من بني هاشم بعد أنصار الحسين(ع) عليَّ الأكبر بن الحسين(ع)، فإنه لما نظر إلى وحدةِ أبيه تقدّم إليه وهو على فرسٍ له يدعى ذا الجناح فاستأذنه في البراز، وكان من أصبحِ الناس وجهاً، وأحسنهم خلقاً، فأرخى الإمام عينيه بالدّموع وأطرق ثمّ قال:

اللّهمّ اشهد أنه قد برز إليهم غلامٌ أشبهُ النّاس خَلقاً وخُلقاً ومنطقاً برسولك وكنّا إذا اشتقنا إلى نبيّك نظرنا إليه ثمّ صاح ياابن سعد قطع اللَّه رحمك كما قطعت رحمي ولم تحفظني في رسول اللَّه(ص) فلمّا فهم الإذن من أبيه شدّ على القوم وهو يقول:

أنا عليُّ بنُ الحسين بن علي

نحنُ وبيتِ اللَّهِ أولى بالنّبي

واللَّهِ لا يحكُمُ فينا ابنُ الدّعي

فقاتلَ قتالاً شديداً ثمّ عاد إلى أبيه وهو يقول: ياأبتِ العطش قد

____________________

(١) علي الأكبر: ص٦٨.

(٢) من قصيدة المرحوم الفقيه الشيخ عبدالحسين آل صادق(ره).

٢٠٤

قتلني، وثقل الحديد قد أجهدني، فبكى الإمام(ع) وهو يقول: واغوثاه وأنى لي بالماء قاتل يابني قليلاً واصبر فما أسرع الملتقى بجدّك محمّد(ص) فيسقيك بكأسه الأوفى شربةً لا تظمأ بعدها أبداً، فكرّ على الأعداء يفعل بهم فعل أبيه وجدّه.

قال حميد بن مسلم الأزدي كنت واقفاً وبجنبي مرّة بن منقذ وعليّ بن الحسين يشدّ على القوم يمنةً ويسرة فيهزمهم فقال مُرّة: عليّ آثام العرب إن مرّ بي هذا الغلام لأثكلنّ أباه فقلت له: يكفيك هؤلاء الذين احتوشوه فقال: لأفعلن ومرّ بنا عليّ وهو يطرد كتيبة فطعنه برمحِهِ فانقلب على قربوس فرسه فاعتنقه فذهب به إلى جهة الأعداء فقطّعوه بالسيوف فصاح قبل أن يفارق الدنيا: السلامُ عليك ياأبتي هذا جدّي المصطفى قد سقاني بكأسه الأوفى، فشدّ الحسين(ع) حتى وقف عليه وهو مقطّعٌ بالسيوف إرْباً إرْباً فقال: قتل اللَّهُ قوماً قتلوك يابنيّ فما أجرأهم على اللَّه وعلى انتهاك حرمة الرسول ثمّ بكى وقال: على الدّنيا بعدك العفاء:

گعد عنده وشافه مغمّض العين

بدمّه سابح مترّب الخدّين

متواصل طبر والرّاس نصّين

حنه ظهره على بنيّه وتحسّر

* * *

يبويه من سمع يمّك ونينك

او من شبحت لعند الموت عينك

لثلاثين ما وصلن سنينك

وحاتفني عليك الدّهر الأكشر

____________________

(١) ابصار العين في أنصار الحسين: ص٢٢.

٢٠٥

وروى أبو مخنف: عن حميد بن مسلم أنه قال: وكأني أنظر إلى امرأةٍ خرجت من المخيّم - الفسطاط - وهي تنادي ياحبيباه ياابن أخيّاه فسألت عنها فقالوا: هذه زينب بنت علي فجاءت حتى انكبت عليه فجاء الحسين إليها وأخذ بيدها إلى الفسطاط ولسان الحال:

شافه والنبل شابك علي راح

هوه فوگه وصفگ راحٍ علي راح

صاح بصوت يازينب علي راح

يخويه ظلمّت الدنيا عليّه

ولسان حال الإمام الحسين(ع):

صدّعت قلبي يابنيَّ تأسفا

وتركتني أدعو أسىً وتلهُّفا

أنا لاحقٌ بك ياشبيهَ المصطفى

فلتذهب الدّنيا على الدّنيا العفى

ما بعد يومِكَ من زمانٍ أرغدِ

* * *

أنا لم أخَل قبلي سيرديك الرّدى

فلك الفدى نفسي لو أنّك تفتدى

أتركتني شجواً أنوحُ مردّداً

يانجعةَ الحيّينِ هاشمَ والنّدى

وحمى الذّمارين العلى والسؤدَدِ(١)

لاحول ولا قوة إلّا باللَّه العليّ العظيم

وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلبٍ ينقلبون والعاقبة للمتقين

____________________

(١) التخميس للمرحوم السيّد عبدالرّسول الكفائي.

٢٠٦

الليلة العاشرة المجلس العشرون

شهادة عبداللَّه الرّضيع

ومرضعةٍ هبّت بها لرضيعها

عواطفُ أُمٍّ أثكلتْ طفلها صبرا

رأت مهدَهُ بالحزن يطفحُ بعدَه

وقد كان فيه قبلُ يطفحُ بالبُشرى

وأثقلَ ثدييها من الدرِّ خالصٌ

على طفلها فيه تعوّدت الدرّا

فخفّت إلى مثوى الرّضيع لعلّها

ترى رمقاً فيه يُغذّى بما درّا

فلم ترَ إلّا جثّةً فوق مذبحٍ

بها عَلُقَ السّهمُ الذي ذبح النحرا

فحنّت وأحنت فوقَهُ من تعطّفٍ

أضالعَها ظِلّاً تقيه به الحرّا

وضمّتهُ مذبوحَ الوريد لصدرها

ومن دمِهِ المسفوحِ خضّبت الصّدرا

وودّت ومن أوداجِهِ تَنفَحُ الدّما

لو أنّ بذاك السهم أوداجُها تُفرا

وأضحت على مثواهُ تُفْرِغُ قلبَها

حنيناً فترثيه بما يفضلُ الشّعرا

فطوراً تناغيه وطوراً بلهفةٍ

تعانقُ جِيداً منه قد زيّن الدّرا

وتعطفُ طوراً فوقَهُ فتشمُّهُ

بمنحَرِهِ الدّامي وتلثمُهُ أخرى(١)

ولسان حال أمّه الرّباب:

يبني يعبد اللَّه اعله فرگاك

صبري انفنه ودرّن ثداياك

يادين يبني الحرملة وياك

للماي حين شبحت عيناك

گدّر بسهمه عليك وارماك

وخيّب رجاي الكان برباك

* * *

____________________

(١) القصيدة من نظم المرحوم الشيخ عبدالمنعم الفرطوسي(ره).

٢٠٧

مياتم للحزن ننصب ونبني

رماني حرملة بسهمه ونبني

الطفل عاده يفطمونه ونبني

انفطم ياناس بسهام المنيه

* * *

قال اللَّه تعالى في القرآن الكريم:( إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ) (١) .

قال الشيخ الطبرسي(ره) في (مجمع البيان):( إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ ) أي محنة وابتلاء وشدّة للتكليف عليكم، وشغل عن أمر الآخرة، فإنّ الإنسان بسبب المال والولد يقع في الجرائم - المعاصي -(٢) .

وقال السيد الطباطبائي(ره) في (الميزان): وكون الأموال والأولاد فتنة انما هو لكونهما زينة تنجذب إليهما النفس انجذاباً فتفتتن وتلهو بهما عمّا يهمّها من أمر آخرتها وطاعةِ ربّها قال اللَّه تعالى:( الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) (٣) ، والجملةُ - إنما أموالكم وأولادكم فتنة - كناية عن النّهي عن التلهّي بهما والتفريط في جنب اللَّه ويؤكّدهُ قوله تعالى:( وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ) (٤) .

قال الشيخ الطبرسي(ره):( وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ) أي ثوابٌ جزيل وهو الجنّة يعني فلا تعصوه بسبب الأموال والأولاد، ولا تؤثروهم على ما عند اللَّه من الأجر والذّخر.

____________________

(١) سورة التغابن: الآية ١٥.

(٢) مجمع البيان للطبرسي: المجلد الخامس ص٣٠١.

(٣) سورة الكهف: الآية ٤٦.

(٤) الميزان للعلّامة الطباطبائي: ج ١٩ ص٣٠٨.

٢٠٨

وفي مجمع البيان عن عبداللَّه بن مسعود قال: ولا يقولنّ أحدُكُمْ أللهمّ إني أعوذ بك من الفتنة فإنه ليس أحدٌ منكم يرجع إلى مالٍ وأهل وولدٍ إلّا وهو مشتملٌ على فتنة ولكن ليقل اللهمّ إنّي أعوذُ بك من مضلّات الفتن، قال الشاعر:

وما المالُ والأولادُ إلّا ودائعٌ

ولابُدّ يوماً أن تُردّ الودائعُ

بعد أن فهمنا - ولو على الإجمال - تفسير هذه الآية الكريمة - تعالَ معي إلى تفصيل هاتين الفتنتين - كما عبّر القرآن الكريم - :

أمّا الأموال: ففتنةٌ واضحة يعلمها الجميع، وهي كلّما ازدادت ازداد الإنسان لها حبّاً وبها تعلّقاً، وهذا الأمر وجدانيّ لا سبيل إلى إنكاره، ففي الحديث الشريف: أتى النبيَّ(ص) رجلٌ فقال: ما لي لا أُحبُّ الموت؟ فقال له: ألك مالٌ؟ قال: نعم. قال: فقدّمتَهُ؟ قال: لا. قال: فمِن ثَمّ لا تُحبّ الموت(١) .

وفي رواية أخرى قال له: قدّم مالك فإنّ قلب الرّجل مع مالِهِ إن قدّمَه أحبَّ أن يلحقَهُ وإن خلّفه أحبّ أن يتخلّف.

قال المرحوم السيّد عبداللَّه شبّر(ره) في كتابه (الأخلاق): وفي المال آفاتٌ دينيّة وهي ثلاثة أنواع:

الأول: إنّ المال يجرّ إلى المعاصي فإن الشهوات متقاضية - أي انّ الطريق إليها يكون ببذل المال - والعجز - يحولُ بين المرء والمعصية.

____________________

(١) بحار الأنوار: ج ٦ ص١٢٧.

٢٠٩

الثاني: إنّ المال يجرّ إلى التنعّم في المباحات، أقول: التنعّم بالمباحات كالأسفار لأجل السياحة والنّزهة، والبناء للدور الكبيرة، وشراء المراكب الفارهة، وخياطة الملابس المتنوّعة من الأقمشة الفاخرة وما شابه ذلك فإنّ أقلّ ما يمكن أن يقال في هذه المباحات أنها تلفٌ للوقت الثمين، والعمر الغالي وقد جاء في الحديث الشريف: أنفاسُ المرءِ مهرُ سعادته.

وفي الديوان المنسوب لأمير المؤمنين(ع):

حياتُكَ أنفاسٌ تُعدّ فكلّما

مضى نفسٌ منها انتقصت به جُزءا

ويُحييكَ ما يُفنيكَ في كلِّ حالةٍ

ويحدوك حادٍ ما يريدُ بك الهزءا(١)

الثالث: وهو الذي لا ينفكّ عنه أحد، وهو أنّه يلهيه إصلاحُ مالِهِ عن ذكرِ اللَّه تعالى، وكلُّ ما يشغل العبد عن اللَّهِ فهو خسران، قال تعالى:( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ) (٢) .

ولذلك قال عيسى(ع): في المالِ ثلاثُ آفاتٍ: أن يأخُذَهُ من غير حلِّه فقيل له: فإن أخذه من حلِّه؟ قال: يضعُهُ في غير حقّه فقيل له: إن وضعَهُ في حقّه؟ قال: يشغَلُهُ اصلاحُهُ عن اللَّه تعالى(٣) .

وأمّا الأولاد: فمحنةٌ وابتلاء وشدّة في التكليف، فإنّ الإنسان مسؤولٌ

____________________

(١) من الديوان المنسوب: ص١١.

(٢) سورة المنافقون: الآية ٩.

(٣) الأخلاق للسيّد عبداللَّه شبر(ره): ص١٨٧.

٢١٠

عن صالح أولاده وطالحهم، فإنه في صالح الأولاد مثابٌ ومأجور، وفي طالحهم فإن قصّر في تربيتهم وتغذيتهم بالمعارف الدينيّة الحقّةِ كان مسؤولاً عن ذلك التقصير.

قال الشيخ القرشي حفظه اللَّه تعالى في كتابه (النظام التربوي في الإسلام): إنّ الأب مسؤولٌ عن تربيةِ أبنائه تربيةً صالحة ليكونوا قرّةَ عينٍ له في مستقبله، وكان أئمةُ أهلِ البيت: يعنون بهذه الجهة ويولونها المزيد من الاهتمام يقول الإمام أمير المؤمنين(ع) المربّي الأوّل في الإسلام لولده الإمام الحسن(ع): (وجدتُكَ بعضي بل وجدتكَ كلّي حتى كأنّ شيئاً لو أصابك أصابني وكأنّ الموتَ لو أتاك أتاني، فعناني من أمرك ما يعنيني من أمر نفسي)(١) .

وفي رسالة الحقوق المرويّة عن الإمام زين العابدين(ع) قال: (وأمّا حقَّ ولدك فأن تعلم أنّه منك ومضاف إليك في عاجل الدّنيا بخيره وشرّه، وأنك مسؤولٌ عمّا وليتَهُ من حُسنِ الأدبِ والدَّلالةِ على ربِّه عزّوجلّ، والمعونة له على طاعته، فاعمل في أمره عملَ مَن يعلم أنّه مثابٌ على الإحسانِ إليه معاقب على الإساءةِ إليه)(٢) .

إنّ الأساس الأول الذي يجب تعليمه للطّفل في سبيل التربية الصحيحة إشعارُهُ بوجود اللَّه‏والإيمان به بلسان متيسّر الفهم، فإنّ الحاجة للإيمان باللَّه تعالى موجودةٌ في باطن كلّ إنسان بفطرته الطّبيعيّة وعلى القائم بالتربية أن

____________________

(١) النّظام التربوي في الإسلام للشيخ باقر شريف القرشي: ص٨٩.

(٢) الخصال للشيخ الصّدوق(ره): ج ٢ ص٥٦٨.

٢١١

يستفيد من هذه الثروة الفطريّة، ويفهمُهُ أنّ الذي خلقنا والذي يرزقنا، والذي خلق جميع النباتات والحيوانات والجمادات، والذي خلق العالم، وأوجد الليلَ والنّهار هو اللَّهُ تعالى، انّهُ يراقب أعمالنا في جميع اللحظات فيثيبنا على الحسنات، ويعاقبنا على السيّئات.

هذا الحديث سهلٌ جداً وقابلٌ للإذعان بالنسبةِ إلى الطفل ونفسِهِ فنراه يؤمنُ بوجود اللَّه في مدّة قصيرة ويعتقد به، بهذا الأسلوب نستطيع أن نخلق في نفس الطّفل حبّ النظام والإلتزام ونحثّه على الإستقامة في السلوك وتعلّم الفضائل الخلقيّة والملكات العليا بالتّدريج(١) .

واعلم أنّ مراقبتَهُ في سنّه المبكّر، وتعويده العادات الطيّبة، وابعاده عن النزعات الشريرة تؤدي إلى سعادته ونجاحه في الدنيا والآخرة، كما أنّ اهماله وعدم مراقبته يؤدي إلى شقائه وهلاكه(٢) .

يحكى أنّ ملكاً ووزيره خرجا ذات يوم في مهمّة عسكرية، فاجتازا بصبيةٍ في طريقهم إلى الدّرس فأحبّ الملك أن يسمع منهم شيئاً يسرّه وهو في طريقه إلى تلك المهمّة، فاستوقفَ أحد الصّبيان وقال له: ما اسمُك؟ قال: فتّاح قال الملك: إلى أين تذهب؟ قال: إلى المعلّم قال: وأين تقرأ؟ قال: في قوله تعالى:( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا ) في سورة الفتح، فاستبشر الملك بذلك وتوقّع النجاح في مهمّته ووجهته وفعلاً حصل ذلك حيث تمكن الملك من عدوّه وعاد منتصراً سالماً فقال لوزيره: مرّ بنا على المعلّم لنكرّم ذلك الطّفل

____________________

(١) الطفل بين الوراثة والتربية للمرحوم الشيخ محمد تقي فلسفي: ج١ ص٣٥٣ - ٣٥٤.

(٢) النظام التربوي في الإسلام: ص٩٦.

٢١٢

الذي تفألنا خيراً باسمه ودرسه، فمرّا على المعلّم ودخل الملك حتى إذا استقرّ به الجلوس قال للمعلّم: ادعو لنا ذاك الصّبي فناداه المعلّم قم ياعباس وقف بين يدي الملك، فجاء حتى وقف بين يديه فقال له: ما اسمك؟ قال: عباس قال: أين تقرأ؟ قال: في قوله تعالى:( عَبَسَ وَتَوَلَّى ) سورة عبس قال الملك: سألتك آنفاً فقلت: فتّاح أقرأ في سورة( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا ) قال: أيّها الملك عندما استوقفتني وسألتني تنبّهتُ إلى ما تريد لأنّ مثلك لا يكلّم مثلي إلّا لأمرٍ معقول فأجبتك بما يسرّك قال له الملك: أحسنت ثمّ أمر أن يعطوه ديناراً فامتنع الصّبيّ عن أخذه فقال له الملك: تمتنع عن أخذ هدية الملك؟ فقال: إن أخذت الدينار سألني أبي عن مصدره فإن قلت له: أنّه منك لم يصدّقني لأنّ الملوك لا يعطون القليل، فأمر الملك بإعطائه مائة دينار ثمّ ذهب الملك وهو مأنوس من ذكاء الصبيّ ونباهته فمرّ بطريق ضيّق وإذا برجلٍ نائم في الطريق فقال له الحرّاس ابتعد عن الطريق فلم يقبل فنزلوا إليه وطلبوا منه التنحّي عن طريق الملك فأسمعهم كلاماً خشناً وبلغ ذلك الكلام إلى أذن الملك نفسه فأمرَ بتأدبيه أمام الملأ ليكون عبرةً لغيره، فنودي: إنّ الملك يأمركم أن تحضروا تأديب فلان بن فلان، فحضر الناس وإذا بالصّبي عباس حضر أيضاً وطلب مقابلةَ الملك فأذن له فعندما دخل عليه وضعَ كيس الدنانير بين يدي الملك فقال له: ما هذا؟ قال: إنّ الشخص الذي أمرتم بتأديبه هو أبي وهذه الدنانير فداءٌ لأبي فقال الملك: الدنانير لك وبارك اللَّه فيك وأبعد أباك قال إن أذن لي الملك تكلّمت قال له قل ما تريد قال: بارك اللَّه بأبي وأبعد أباه قال الملك متعجّباً: وما معنى هذا؟ قال: لأنَّ أبي أدّبني

٢١٣

فقرّبتني تربيتُهُ من الملوك وتركَهُ أبوه ولم يؤدّبه فتعرض لسخط الملوك فأكرمه الملك ثانيةً وعفا عن أبيه.

وما أحسن ما في الديوان المنسوب:

حرِّض بنيكَ على ‏الآدابِ في‏الصّغَرِ

كيما تقرَّ بهم عيناكَ في الكِبَر

وإنّما مثلُ الآدابِ تجمَعُها

في عنفوانِ‏ الصِّبا كالنّقشِ في ‏الحَجَرِ

هي الكنوزُ التي تنمو ذخائرُها

ولا يُخافُ عليها حادثُ الغِيَرِ(١)

وبعد هذا فلا يخفى أنّ الولد ريحانة بها يأنس الأبوان، وبشمّها يتمتّعان، وهو موضع شفقتهما ورحمتهما.

روي أنّ رجلاً جاء إلى رسول اللَّه(ص) فقال: ما لنا نجدُ بأولادنا ما لا يجدون بنا؟ قال: لأنّهم منكم ولستم منهم، وروي هذا المعنى عن الإمام الحسن المجتبى(ع):

وإنّما أولادُنا بيننا

أكبادُنا تمشي على الأرضِ

لو هبّتِ الرّيحُ على بعضهم

لامتنعت عيني عن الغمض

أقول: إذن ما حال الإمام أبي عبداللَّه الحسين(ع) عندما رأى طفلَه عبدَاللَّه غائرَ العينين خاوي البطن ذابل الشفتين وذلك بعد أن جفّ حليب أمّه من شدّة عطشها فأخذه الإمام(ع) وأخرجه ليطلب له قليلاً من الماء ولسان الحال:

____________________

(١) من الديوان المنسوب لأمير المؤمنين(ع): ص٦٢.

٢١٤

أختُ هاتيلي رضيعي‏ أرَهُ قبلَ ‏الفراق

فأتت بالطّفلِ لا يهدأُ والدّمعُ مراق

يتلظّى ظمأً والقلبُ‏ منه ‏في ‏احتراق

غائرَ العينينِ ‏طاوي ‏البطنِ ‏ذاوي ‏الشفتين

* * *

فبكى لما رآهُ‏ يتلظّى بأوام(١)

بدموعٍ‏ من ‏أماقٍ ‏تخجلُ ‏السُّحبَ ‏السجامِ

فأتى القومَ وفي كفّيهِ ذيّاك الغلام

وهما من ظمأٍ قلباهما كالجمرتين

* * *

فدعا في القوم ياللَّهِ من خطبٍ فظيع

نبّئوني أأنا المذنبُ أم هذا الرّضيع

لاحظوهُ‏ فعليه ‏شبهُ‏ الهادي‏ الشّفيع

لا يكن ‏شافعُكُمْ‏ خصماًلكم ‏في ‏النشأتين

* * *

عجّلوا نحوي بماءٍ أَسقِهِ هذا الغلام

فحشاهُ‏ من‏ أوامٍ ‏في ‏اضطرابٍ‏ وكِلام(٢)

فاكتفى ‏القومُ ‏عن‏ القولِ ‏بتكليمِ السهام

وإذا بالطّفلِ قد خرّ صريعاً لليدين(٣)

ويقال: إنّ المختاررحمه‌الله تعالى عندما جي‏ء له بحرملة بن كاهل قال له: أنت الذي ذبحت عبداللَّه الرّضيع؟ كيف تمكّنت من ذلك!! أو ما رقّ قلبُك له؟ قال: كانت العادة الجارية أنّ الإمام الحسين(ع) إذا أراد الحملةَ على الجيش ركب فرساً، وإذا أراد الوعظ والتحذير والتذكير ركب ناقةً له، وفي هذه المرّة جاءنا ماشياً ومعه شي‏ء يظلّلُ له من حرارة الشّمس فتكلّم

____________________

(١) الأوام: هو العطش.

(٢) الكِلام: بالكسر هو الجرح.

(٣) أبيات من نظم شريف لمقتل الإمام الحسين(ع) للمرحوم الشيخ حسن الدّمستاني البحراني(ره) رياض المدح والرثاء: ص٤٥٩.

٢١٥

مع ميمنة الجيش فلم يستمعوا له، فمال إلى ميسرةِ الجيش فلم يستمعوا له، فعاد إلى قلب المعسكر فقال: ياقوم لقد قتلتم أصحابي وإخوتي وأهل بيتي إن كان ذنبٌ للكبار فما ذنبُ الصّغار ثمّ أخرج ولداً ورفعه وقال: هذا عبداللَّه اسقوه شربة من الماء فإنّه إن عاش لا يضرّكم وإن مات طولبتم بدمه، فاختلف العسكر وانقسم ثلاثاً قسماً قال: اسقوه فإنه طفلٌ رضيع، وقسماً اكتفى بالبكاء لحال الرّضيع، وقسماً قال: لا تبقوا لهذا البيت صغيراً ولا كبيراً فقال لي عمر بن سعد: ياحرملة اقطع نزاع القوم قلت: أرمي الوالد أم الولد قال: بل الولد، فتنحيت جانباً ووضعت سهماً في كبد القوس ولم يرقّ قلبي له، فنظرت أين أرميه لصغره وإذا بالهواء تكشف رقبته فحكّمت السهم ورميته فذبحتُهُ من الوريد إلى الوريد وما رقّ قلبي له، فعندما أحسّ بحرارةِ السهم أخرج يديه واعتنق والده الحسين هنا رقّ قلبي له ولسان حال الحسين(ع) بعد ذبح ولده:

تلگه حسين دم الطفل بيده

شحال اليذبح بحجره وليده

سال وترس كفّه من وريده

وذبّه للسّمه وللأرض ما خرّ

* * *

عليك انفتح جفن العين وافتاك

وسهم نحرك بگلبي‏وگع وافتاك

بقتل الطفل من آمرك وافتاك

يابن كاهل شله ويَّاك أذيّه

رجع به إلى المخيّم يقولون: استقبلتهُ ابنتُهُ سكينة وما كانت تتصوّر أن تبلغ بهم القسوة إلى هذا الحدّ بحيث يقتلون الطفل الرّضيع ولسان الحال:

٢١٦

بويه الطفل للماي أخذته

بسهم العده مذبوح جبته

شنهو الذّنب خويه العملته

مذبوح ولسانك دلعته

والماي حاضر ما شربته

ولسان حال أُمّه الرباب عندما رأته مذبوحاً من الوريد إلى الوريد:

ماني أُمّك يعبد اللَّه ويبعد أمك

ما أنساك وألهج يالولد باسمك

شعب گلبي السّهم من فجّره الدمّك

ياسلواي بعدك من يسليني

* * *

ست اِشهر بعد يلما وصل عمرك

شذنب اللي جنيته او ينگطع نحرك

يابني سهم المثلث خسف بدرك

ياريت الرماك بسهم راميني

لا ضيرَ في قتل الرجال وإنما

قتلُ الرّضيع به الضميرُ يُضامُ

طلب الحسينُ الماءَ يسقي طفله

فاستقبلته من العداة سهامُ

لاحول ولا قوة إلّا باللَّه العليّ العظيم

وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلبٍ ينقلبون والعاقبة للمتقين

٢١٧

الليلة العاشرة المجلس الحادي والعشرون

الإمام(ع) وأصحابه ليلة العاشر

لا خبت مرهفاتُ آلِ عليٍّ

فهي النّارُ والأعادي وَقودُ

عقدوا بينها وبين المنايا

ودعوا ههنا توفّى العقودُ

ملأوا بالعدى جهنّمَ حتّى

قَنِعَتْ ما تقولُ هل لي مزيدُ

ومذِ اللَّهُ جلّ نادى هلمّوا

وهُمُ المسرعون مهما نودوا

نزلوا عن خيولهم للمنايا

وقصارى هذا النزولِ صعودُ

فقَضَوْا والصّدورُ منهم تلظّى

بضَرامٍ وما أُبيحَ الورودُ

سلبوهم برودَهم وعليهم

يومَ ماتوا من الحُفاظ برودُ

تركوهم على الصّعيدِ ثلاثاً

يابنفسي ماذا يُقلُّ الصّعيدُ

فوقَه لو درى هياكلُ قدسٍ

هو للحشرِ فيهُمُ محسودُ

تربةُ تعكفُ الملائكُ فيها

فركوعٌ لهم بها وسجودُ

وعلى العيسِ من بناتِ عليٍّ

نُوَّحٌ كلُّ لفظها تعديدُ

سلبتها أيدي الجُفاةِ حُلاها

فخلى معصَمٌ وعطّلَ جيدُ

وعليها السياطُ لما تلوّت

خلفتها أساورٌ وعقودُ(١)

* * *

يحيدر گوم لسيوفك وسلها

يوم الطف شعب روحي وسلها

____________________

(١) القصيدة من نظم المرحوم السيّد جعفر الحلّي(ره) الدرّ النّضيد: ص١٢١. وقد مرّت ترجمته ص٤٣.

٢١٨

گوم أنظر متن زينب وسلها

تگول سياط زجر أثرت بيّه

* * *

والسّبطُ والصَّحْبُ اولو الوفاءِ

باتوا بتلكَ الليلةِ اللّيلاءِ

لَهم دوىُّ كدويِّ النّحلِ

من ذاكرٍ للَّهِ أو مصلِّ

صلاةَ عبدٍ خاشعٍ مودّعِ

يدعوهُ بالخضوعِ والتضرّعِ

أحيَوا جميعَ الليل بالعبادة

فأدركوا سعادةَ الشّهادة(١)

قال السيد ابن طاووس(ره) في (الملهوف): ثمّ جاء الليل - ليلة العاشر فجمع الحسين(ع) أصحابَهُ، فحمد اللَّه وأثنى عليه وقال: أمّا بعدُ فإني لا أعلمُ أصحاباً خيراً منكم، ولا أهلَ بيتٍ أفضلَ وأبرَّ من أهل بيتي، فجزاكم اللَّه عنّي جميعاً خيراً، وهذا الليل قد غشيكم فاتّخذوه جملاً، وليأخذ كلُّ رجلٍ منكم بيد رجلٍ من أهل بيتي وتفرّقوا في سوادِ هذا الليل وذروني وهؤلاء القوم فإنّهم لا يريدونَ غيري.

فقال له أخوتُهُ وأبناؤه وأبناء عبداللَّه بن جعفر: ولِمَ نفعل ذلك لنبقى بعدك لا أرانا اللَّه ذلك أبداً، وبدأهم بهذا القول العبّاس بن علي(ع) ثمّ تابعوه، ثمّ قام مسلمُ بن عوسجة وقال: نحن نخلّيك هكذا وننصرف عنك وقد أحاط بك هذا العدوّ، لا واللَّهِ لا يراني اللَّهُ أبداً وأنا أفعل ذلك حتى أكسر في صدورهم رمحي وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمُهُ بيدي، ولو لم يكن لي سلاح أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة ولم أفارقك أو أموت دونك.

قال الرّاوي: وقام سعيد بن عبداللَّه الحنفي فقال: لا واللَّهِ ياابن رسول اللَّه

____________________

(١) من المقبولة الحسينيّة لآية اللَّه الشيخ هادي كاشف الغطاء(ره): ص٧٤.

٢١٩

لا نخلّيك أبداً حتى يعلم اللَّهُ أنّا قد حفظنا فيك وصيّةَ رسولهِ محمّد(ص)، لو علمتُ أنّي أقتلُ فيك ثمّ أحيى ثمّ أحرق حيّاً ثمّ أذرّى يفعل بي ذلك سبعين مرّة ما فارقتك حتى ألقى حِمامي من دونك، فكيف وإنما هي قتلة واحدة ثمّ أنال الكرامة التي لا انقضاءَ لها أبداً.

ثمّ قام زهير بن القين وقال: واللَّهِ ياابن رسول اللَّه(ص) لوَدِدْتُ أني قتلتُ ثمّ نشرت ألف مرّة وأنّ اللَّهَ يدفعُ بذلك القتل عنك وعن هؤلاء الفتيةِ من أخوتك وولدك وأهل بيتك.

قال الراوي: وتكلّم جماعة من أصحابِهِ بمثل ذلك وقالوا: أنفُسُنا لك الفداء نقيك بأيدينا ووجوهِنا، فإذا نحنُ قتلنا بين يديك نكون قد وفينا لربّنا وقضينا ما علينا.

وقيل لمحمّد بن بشير الحضرمي في تلك الحال: قد أُسِرَ إبنُكَ بثَغر الرّي(١) فقال: عند اللَّه أحتسبُهُ ونفسي، وما كنتُ أُحِبُّ أن يؤسر وأن أبقى بعدَه فسمع الحسين(ع) قوله فقال: رحمكَ اللَّه أنت في حلٍّ من بيعتي، فاعمل في فكاكِ إبنك، فقال: أكلتني السّباعُ حيّاً إن فارقتُك فقال(ع): فأعطِ إبنك هذه البُرود(٢) يستعينُ بها في فكاكِ أخيه، فأعطاه خمسةَ أثوابٍ قيمتها ألف دينار(٣) .

____________________

(١) الثَّغْر: جمعُهُ ثُغور وهو المكان الذي يخاف منه هجوم العدوّ، وهو مأخوذ من ثغر الجدار.

والرّي: مدينة معروفة آنذاك تقع الآن جنوب طهران العاصمة.

(٢) البُرْد: ثوبٌ‏ مخطط، وقد يقال لغيرالمخطّط أيضاً، وجمعُهُ بُروْد. مجمع‏ البحرين: ج٣ص١٣.

(٣) الملهوف: ص١٥٣ - ١٥٤.

٢٢٠