المجالس الحسنة في مناسبات السَّنَة

المجالس الحسنة في مناسبات السَّنَة0%

المجالس الحسنة في مناسبات السَّنَة مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 343

المجالس الحسنة في مناسبات السَّنَة

مؤلف: السيد أحمد الحكيم
تصنيف:

الصفحات: 343
المشاهدات: 39448
تحميل: 2517

توضيحات:

المجالس الحسنة في مناسبات السَّنَة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 343 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 39448 / تحميل: 2517
الحجم الحجم الحجم
المجالس الحسنة في مناسبات السَّنَة

المجالس الحسنة في مناسبات السَّنَة

مؤلف:
العربية

عليّ السلام وهو يتصابُ عرقاً فقلت: أرأيت لو جاء أجلُك وانتَ على هذه الحال ما كنت تصنع؟ فقال(ع): لو جاءني الموت وأنا على هذه الحال جاءني وأنا في طاعةٍ من طاعات اللَّه عزّوجلّ، أكفّ بها نفسي وعيالي عنك وعن الناس، وانّما كنت أخاف أن لو جاءني الموت وأنا على معصيةٍ من معاصي اللَّه فقلت: صدقت يرحمك اللَّه أردت أن أعظك فوعظتني)(١) .

يحكى أنّ رجلاً صالحاً متقياً كان يعيش في إحدى المدن المهمّة اسمه (أبوالعلى)، ذهب في يوم من الأيّام لزيارة أحد العلماء فسأله قائلاً: أيّها العالم أخبرني عن أفضل أعمال الدنيا التي تنفعني في الآخرة فقال العالم: أفضل الأعمال تقوى اللَّه تعالى، فسأَلَ الرجل ثانياً فقال: أخبرني عن أحسن الطرق التي من خلالها أستطيع الحصول على لقمة حلال فقال العالم: اللقمة الحلال تأتي بها من خلال عمل اليدين وعرق الجبين، فعندما سمع الرجل ذلك من العالم قال: إذا كان كذلك فسأدرس العلم النافع نهاراً، واشتغل بصنعةٍ ما في بيتي ليلاً، وفعلاً دام على هذا مدّة طويلةً، وفي ليلةٍ من الليالي رأى في عالم الرؤيا نفسه واقفاً على متن جبل، وفي صفحة الجبل ثقوبٌ يخرج منها الماء، وهذه الثقوب فيها الواسع والأوسع، وفيها الضيّق والأضيق حتى رأيت بعضها يقطر قطرات متوالية والآخر يقطر بين كلّ فترةٍ واخرى قطرةً واحدة، فتعجّبت ممّا رايت ولم أفهم المقصود من ذلك، فرأيت جماعةً جالسين فسألتهم عن الماء الزلال وعن الثقوب التي يخرج منها الماء، ولماذا لم تكن متساوية؟ فقال لي أحدهم: هذه أرزاق العباد،

____________________

(١) الكافي ج٥ ص٧٣.

٢٤١

منهم من قدّر اللَّه تعالى له رزقاً وافراً، ومنهم من قدّر له رزقاً قليلاً، ومنهم الوسط بين هذا وذاك فقلتُ: ومن أيّ الثقوب قدّر اللَّه تعالى رزقي؟ قال لي: أعطني اسمك واسمَ أبيك ففعلت قال: فأخرج كتاباً نظر فيه ثمّ قام وقال: رزقك من هذا الثقب قال: فنظرت واذا هي قطرات تخرج من ذلك الثقب بين فترةٍ واُخرى، فاضطربت من ذلك وقمت من نومي وانا في حالة الإضطراب وقلت: سبحان اللَّه العظيم لقد قدّر اللَّه تعالى لي بحكمته رزقاً قليلاً فشكراً له على ذلك. وبقي أبو العلى مداوماً على عمله حيث كان يشتغل بتحصيل العلم النافع نهاراً، وفي الليل بصنعةٍ يؤمّنُ منها معاشه، وكان والي البلد يخرج من قصره في بعض الليالي متنكراً بلباس الفقراء ليطلع على أحوال رعيّته وأهل بلده. وفي ليلة من الليالي مرّ الوالي وهو متنكر على بيت (أبو العلى) فسمع صوته وهو في المناجاة، فأطال الوالي الوقوف وأعجبه ما سمع، وفي الليلة الثانية جاء الوالي أيضاً ووقف عند البيت وسمع أبا العلى وهو يناجي ربّه، وهكذا جاء في الليلة الثالثة فطرق عليه الباب فأسرع أبو العلى وفتح الباب وإذا بالوالي يقول: أنا رجلٌ غريب عن هذا البلد، وفقير ليس عندي من حطام الدنيا شي‏ء، فإن كنت تحبّ الضيف فأنا ضيفك هذه الليلة فقال له: ياأخي الضيف حبيب اللَّه وهو هديّة اللَّه لعباده فمرحباً بك تفضّل.

فدخل حتى إذا استقرّ به الجلوس جاء أبو العلى ومعه طبق فيه خبز وابريق من الماء وضعه أمامه وقال: الضيف يأتي ومعه رزقه، فأكل الوالي وتحادثا ساعة ثمّ قام أبو العلى ودلّ ضيفه على فراشه لينام، وفعلاً تمدّد الوالي على الفراش ولكنّهُ لم ينم، وعاد أبو العلى إلى عمله ومناجاته،

٢٤٢

لم تمض مدّة طويلة حتى قام الوالي من فراشه وقال: أخبرنى ما هذا الذي تعمل وما سرّ هذه المناجاة؟ فأخبره أبو العلى بحاله وطلبه العلم والمنام الذي رآه، فتعجب الوالي وقال في نفسه: الواجب عليّ أن أُخْرِجَ هذا الرجل الصالح من حال الفقر الذي هو فيه، وعندما أصبح الصباح ودّعه وخرج من بيته، وذهب إلى مقرّ الوالي في القصر، فأمر طبّاخه ان يعدّ طعاماً مهمّاً ويأتي به إليه قبل وقت الإفطار، وفعلاً حُمل الطعام إلى الوالي فعندما رفع الطبق واذا هو بطعامٍ من اطعمة الملوك والأمراء، فأخرج الوالي ما جادت به نفسه من نفيس الجواهر والدرر ودسّه في الطعام وأرجع الغطاء، وأمر أن يحمل إلى بيت الرجل الفقير (أبو العلى)، وفعلاً جاء به الخادم وطرق عليه الباب فلمّا فتح أبو العلى الباب ناولَه الخادم الطعام وانصرف، فدخل أبو العلى مع الطعام إلى داخل المنزل وكشف الغطاء واذا برائحة الطعام اللذيذ الذي لم يأكل مثله قط، فهشّت نفسه ومالت إلى الطعام، فالتفت إلى نفسه وقال: إذا أكلتُ هذا الطعام فسوف لن أجد للخبز الخالي الذي آكله كلّ يوم لذةً ولا طعماً، ولذا قف امام مشتهيات نفسك ولا تعطيها كلّ ما تريد وإلّا أخذتك يميناً وشمالاً حيث المشتهيات والمكروهات وما لا تحمد عاقبته، فأنزل هذا الطعام منزلة العدم ولا تأكل منه شيئاً ثم قال: سأذهب به إلى فلان التاجر حيث وصل منزله هذه الليلة ولم يأكل شيئاً إلى الآن، وفعلاً قام ومعه ذلك الطعام وذهب إلى بيت التاجر وطرق عليه الباب وسلّم وبارك له سلامة الوصول، وقدّم له الطعام وعاد إلى بيته، فرفع التاجر الطبق واذا بطعام حسن لذيذ مدّ يده فأكل حتى وصل إلى الجواهر والدّرر فأخرجها متعجباً

٢٤٣

وعرف قيمتها العالية فقال: هذا رزقٌ ساقه اللَّه لي وهو يكفيني إلى آخر عمري، وسوف لا احتاج بعد هذا المال إلى السفر والتجارة، بل سأتفرّغ لعبادة ربي تبارك وتعالى.

وعاد أبو العلى إلى عمله ومناجاته، ومرّ الوالي على بيته في تلك الليلة فرآه على حاله لم يتغيّر منه شي‏ء، فطرق عليه الباب وقال له: وصل اليك طعام حسن أكلت منه؟ قال: لا ولكني حملته إلى رجل تاجر وصل في هذه الليلة من السفر إلى أهله عملاً بهذه الآية الكريمة( وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ) (١) فعملت بهذه الآية وآثرته على نفسي، فكان من نصيبه لا من نصيبي، فتعجّب الوالي ممّا سمع وتيقّن أنّ الأرزاق بيد اللَّه تعالى، قدّرها بحكمته، وقسّمها بعدله، ثمّ قام وودعه وانصرف(٢) .

وفي الديوان المنسوب:

رضيتُ بما قَسَمَ اللَّهُ لي

وفوّضتُ أمري إلى خالقي

كما أحسنَ اللَّهُ فيما مضى

كذلك يُحسنُ فيما بقي(٣)

البيت الثالث: ذكر فيه الامامُ(ع) ثوابَ الآخرة وقال إنّها أعلى من ثواب الدّنيا وأنبل وأبقى.

لا شك أن الدنيا مزرعة الآخرة - كما في الحديث الشريف - فيحمل

____________________

(١) سورة الحشر: الآية ٩.

(٢) جامع التمثيل فارسي بتصرّف.

(٣) الديوان المنسوب للامام أمير المؤمنين(ع): ص٩٠.

٢٤٤

الإنسان منها ما يدّخره للآخرة، كما لا شك أنها العونُ بل نعم العون - كما في الحديث الشريف - للآخرة حيث منها يتزوّد المؤمن الأعمال الصالحة، والعبادات الرابحة، وهي - أي الدنيا - من جهة اُخرى بلاء ومحنة وفتنة، حيث حفّت بالمكاره والشهوات، فلا يعصي الإنسان ربّه إلّا فيها ففي الحديث الشريف: (من هوان الدنيا على اللَّه أنّه لا يُعصى إلّا فيها، ولا يُنال ما عنده إلّا بتركه).

ولكن ما هو المعيار الذي به نميّز الدنيا الممدوحة من المذمومة، يقول المرحوم السيد عبداللَّه شبر في كتابه (الأخلاق):

إنّ من كان مشغولاً بالعلم والعبادة والحج والصدقات وأداء الزكوات وقضاء الحوائج، وزيارة الأخوان، وعيادة المرضى، وتشييع الجنائز، وحضور الجمعة والجماعات والمواظبة على النوافل وسائر الطاعات قد يصدق عليه أنّه طالبُ الدنيا وأنّ أعماله مردودة غير مقبوله وذلك لأنه لم يَقْصُدْ بها وجه اللَّه تعالى، وربّ رجلٍ كثير المال والخدم والحشم، حسن الطعام والمشرب، وجيّد الزي والملبس ذي ديار وسيعة وعمارات عالية ونساء متعدّدة ومراكب حسنة، وهو من أهل الآخرة واعماله مقبولة وسعيه مشكور لأنه قصد بذلك وجه اللَّه تعالى، وأراد رضاه.

اذن صار بيدنا المعيار لمعرفة الدنيا الممدوحة والمذمومة وهو:

الدنيا - المذمومة - عبارة عن كلّ شي‏ءٍ يوجب البعد عن اللَّه وان كان صلاة وصوماً وحجاً وجهاداً وانفاقاً وزهداً وقناعة، والآخرة - الدنيا الممدوحة - كل شي‏ء يوجب القرب من اللَّه تعالى وان كان مالاً ونساءاً وخدماً وحشماً(١) .

____________________

(١) الأخلاق للمرحوم السيد عبداللَّه شبر: ص١٧٨ - ١٧٩ بتصرّف.

٢٤٥

وفي الرواية عن الامام محمد الباقر(ع) قال: (مَن طلب الرزقَ في الدنيا استعفافاً عن الناس وسعياً على أهله وتعطّفاً على جاره لقى اللَّه عزوجلّ ووجهُهُ مثلُ القمر ليلة البدر).

هذا الحديث الشريف يؤكد الحقيقة التالية: وهي أنّ طلب الدنيا - الرزق - لحفظ ماء الوجه أو التوسعة على العيال، وصلة الرحم والجيران، هو من أعمال الآخرة وصاحبها مأجور مثاب له عند اللَّه تعالى الأجر الجزيل، وفي هذا المعنى جاءت الرواية عن الامام الصادق(ع) حيث قال له رجل: واللَّه إنّا لنطلب الدنيا ونحبّ أن نؤتاها فقال له الامام(ع): (تحبّ ان تصنع بها ماذا؟) قال: أعود بها على نفسي وعيالي، وأصل بها وأتصدّق بها وأحجّ وأعتمر فقال(ع): (ليس هذا طلبُ الدنيا هذا طلب الآخرة)(١) .

ولنختم هذا الباب بحديث عن النبيّ(ص) حيث يذكر فيه ثواب الدنيا والآخرة فيقول: (ما الدنيا في الآخرة إلّا كَمِثْلِ ما يجعل أحدكم اصبعَهُ في اليم - البحر - فلينظر بم يرجع إليه من الأصل)(٢) .

يعني ان الدنيا هي قطرة والآخرة هي البحر العميق الغير متناهي، فليت شعري أي عاقل يترك هذا الثواب العظيم الدائم، ويأخذ بالحقير الزائل مع ما فيه من المحن والبلوى.

____________________

(١) الأخلاق للمرحوم السيد عبداللَّه شبّر: ص١٨٠.

(٢) المصدر السابق: ص١٨٤.

٢٤٦

البيت الرّابع:

وإن كانت الأموالُ للتّركِ جمعُها

فما بالُ متروكٍ به المرءُ يبخَلُ

ذكر فيه الامام(ع) الأموال وقال إنها تبقى ويموتُ صاحبُها، فاذا كان الحال كذلك، فلماذا يبخل الإنسان ببذل هذا المال الزائل في وجوه الخير الباقية!!

وما أشار له الامام الحسين(ع) هو عينُ الحق حيث ان المال بيد الإنسان الغني عارية يتصرّف به زماناً ثمّ يرحل عنه ويتركه فيذهب إلى غيره وهكذا قال الشاعر:

إنما الدّنيا عواري

والعواري مستَردَّة

شدّةٌ بعد رخاءٍ

ورخاءٌ بعد شدَّة

وباستطاعة المرء الغني ان يشتري الجنّة الباقية بالأموال الفانية، ويكسب رضا اللَّه القدير بالمال القليل الحقير، يحكى أنّ عبداللَّه بن المبارك كان ولعاً بالحجّ شديد المداومة عليه في كلّ عام قال: ففي بعض السنين لما قرب التأهّبُ للحجّ تأهّبتُ انا أيضاً، فقمتُ وشددتُ على وسطي كيساً فيه خمسمائة دينار وخرجتُ إلى سوق الإبل لأشتري جمالاً للحج فلم أرَ ما يصلح للطريق فرجعت إلى منزلي فرأيت امرأة جالسة على المزبلة وقد أخذت دجاجة ميّتة وهي تنتف ريشها من حيث لا يشعر بها أحد، فدنوت منها وقلت: لِمَ تفعلين هكذا يا أمةَ اللَّه؟ فقالت: امضِ لشأنك واتركني فقلت:

٢٤٧

سألتك باللَّه إلّا ما أعلمتيني بحالك، قالت: اذ ناشدتني باللَّه اعلم أني امرأة علوية من بنات الامام علي(ع) ولي ثلاث بنات علويات صغار وقد مات زوجي ولنا ثلاث ليال بأيّامهنّ لم نأكل شيئاً وليس عندنا شي‏ء، وقد خرجتُ عنهنّ وهنّ يتضوّرن جوعاً لألتمس لهنّ شيئاً فلم يقع في يدي غير هذه الدجاجة الميّتة فأردت اصلاحها لنأكلها فقد حلّت لنا الميتة، قال: فلمّا سمعتُ ما قالت وقف شعري واقشعرّ جلدي وقلت في نفسي: يابن المبارك وأيُّ حجِّ أعظمُ من هذا؟ فقلت: أيتها العلوية انّ هذه الدجاجة حُرّمت عليكم إفتحي حجرك حتى أعطيك شيئاً من النفقة ثمّ فتحت الكيس وصببتُ الدنانير في حجرها بأجمعها، فقامت مسرورة عجلة ثمّ دعت لي خيراً وانصرفت، فرجعتُ إلى منزلي وقد نزع اللَّه ارادة الحج من قلبي فلزمت منزلي واشتغلت بالعبادة حتى خرجت قوافلُ الحج متوجّهةً إلى مكة فودّعتهم مع الناس، فلمّا عاد الحجّاج خرجت أيضاً لإستقبالهم فصافحتهم، وكنت لا ألقى أحداً فأقول له: جعل اللَّه حجّك مبروراً، وسعيك مشكورا حتى يقول: يابن المبارك الم تكن معنا ألم أشاهدك في الطواف، وآخر يقول الم أشاهدك في منى، وآخر يقول: ألم أشاهدك في عرفات وهكذا فتعجّبت من ذلك غاية التعجّب، فلمّا رجعت إلى منزلي وبتّ تلك الليلة رأيت في منامي رسول اللَّه(ص) وهو يقول لي: يابن المبارك انّك لما أعطيت الدنانير لإبنتنا وفرّجت كربها واصلحت شأنها وشأن ايتامها بعث اللَّه ملكاً على صورتك فهو يحجّ في كلّ عام، ويجعل ثواب الحج لك إلى يوم القيامة، فما عليك ان حججتَ بعد أو لم تحج فإنّ ذلك الملك لا يترك الحج عنك إلى يوم القيامة(١) .

____________________

(١) كشكول البحراني ج٢ ص٢٨١.

٢٤٨

البيت الخامس:

وإن تكن الأبدانُ للموتِ اُنشئت

فقتلُ امرئٍ بالسيف في اللَّهِ أفضل

ذكر فيه(ع) الموت وقال إنّ النهاية الحتمية لكلّ انسان هي الموت، وخروج الإنسان من عالم الدنيا إلى البرزخ، إلّا انّ القتلَ في سبيل اللَّه تعالى هو أفضل أنواع الموت.

وفي حتمية الموت صرّح القرآن الكريم وذلك كقوله تعالى:( كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالإِكْرَامِ ) (١) وقوله تعالى:( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ) (٢) وقوله تعالى:( قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) (٣) .

وأمّا الأحاديث الشريفة الواردة عن النبي وآله المعصومين صلوات اللَّه وسلامه عليهم أجمعين فقد كان الكثيرُ منها يتحدث عن الموت وحتميته، فعن‏النبي(ص) قال: (إنّ روح القدس نفثَ في رُوْعي: أحبب ما أحببت فإنّك مفارقُه، وعِش ما شئت فإنك ميّت، واعمل ما شئت فإنّك مجزى به)(٤) .

____________________

(١) الرحمن: الآية ٢٦ - ٢٧.

(٢) العنكبوت: الآية ٥٧.

(٣) الجمعة: الآية ٨.

(٤) أعلام الدين في صفات المؤمنين للديلمي: ص٢٤٢.

٢٤٩

ومن خطبة الامام الحسين(ع) قبل خروجه من مكة إلى العراق قال: (خُطّ الموتُ على وُلد آدم مخطّ القلادة على جيد الفتاة).

وفي الديوان المنسوب لأمير المؤمنين(ع):

الموتُ لا والداً يُبقي ولا ولداً

هذا السّبيلُ إلى أن لا ترى أحداً

كان النبيُّ ولم يَخْلُد لأمّتِهِ

لو خلّدَ اللَّهُ خلقاً قبلَهُ خَلَدا

للموتِ فينا سهامٌ غيرُ خاطئةٍ

من فاتهُ اليومَ سهمٌ لم يفُتهُ غدا(١)

وكتب رجلُ لأحد الزهّاد هذا البيت وأراد منه الجواب عليه:

الموتُ بابٌ وكلُّ الناسِ يدخلُهُ

يا ليتَ شعري بعد الباب ما الدّارُ

فأجابه بهذين البيتين:

الدّارُ جنَّةُ عدنٍ إن عملت بما

يُرضي الإلهَ وأن خالفتَ فالنّارُ

هما محلّانِ ما للنّاسِ غيرُهما

فانظر لنفسِكَ أيَّ الدار تختارُ(٢)

أقول: إذا كان الموت حتماً في رقاب العباد المخلوقين، فإنّ أشرفه وأفضله القتلُ في سبيل اللَّه تعالى كما قال الامام الحسين(ع) وفعل حيث

____________________

(١) الديوان المنسوب: ص٤٨.

(٢) نور الحقيقة: ص٢٨٣.

٢٥٠

قتل في سبيل اللَّه شهيداً بل وسيداً للشهداء على الإطلاق، إلّا أنّ الذي يُقرح القلبَ، ويصدعُ الفؤادَ هو بقاؤُهُ مع أهل بيته وأصحابه ثلاثة أيام على أرض المعركة من غير دفن. قال السيد المقرّم في المقتل: وفي اليوم الثالث عشر من المحرّم أقبل زينُ العابدين(ع) لدفن أبيه الشهيد(ع) لأنّ الإمامَ لا يلي أمرَهُ إلّا امامٌ مثلُه(١) ، ولما اقبل الامام السجّاد(ع) وجد بني أسد مجتمعين عند القتلى متحيّرين لا يدرون ما يصنعون، ولم يهتدوا إلى معرفتهم وقد فرّق القومُ بين رؤوسهم وابدانهم، فأخبرهم(ع) عمّا جاء إليه من مواراة هذه الجسوم الطاهرة واوقفهم على اسمائهم كما عرّفهم بالهاشميين من الأصحاب فارتفع البكاء والعويل، وسالت الدّموعُ منهم كلّ مسيل ونشرت الأسديّات الشعور ولطمن الخدود، ثمّ مشى الامام زين العابدين(ع) إلى جسدِ أبيه واعتنقه وبكى بكاءاً عالياً وأتى إلى موضع القبر ورفع قليلاً من التراب فبان قبرٌ محفور وضريحٌ مشقوق فبسط يديه تحت ظهره وقال: (بسم اللَّه وباللَّه وفي سبيل اللَّه وعلى ملّة رسول اللَّه صدق اللَّهُ ورسوله ما شاء لا حول ولا قوّة إلّا باللَّه العظيم) وانزله وحده ولم يشاركه بنو أسد فيه وقال لهم: (إنّ معي من يعينني)، ولما اقرّه في لحدِهِ وضع خدّه على منحرِه الشريف قائلاً: (طوبى لأرضٍ تضمّنت جسدك الطاهر، فإنّ الدنيا بعدك مظلمة والآخرة بنورك مشرقة، أما الليلُ فمسهّد والحزنُ سرمد حتى يختار اللَّه لأهل بيتك دارَك التي انت بها مقيم وعليك مني السلام يابن رسول اللَّه ورحمة اللَّه وبركاته)(٢) .

____________________

(١) مقتل المقرّم: ص٤١٤ عن اثبات الوصيّة للمسعودي.

(٢) المصدر نفسه: ص٤١٦.

٢٥١

سمعتُ بعض الرّاثين يقول: عندما انزل الامام زين العابدين(ع) جسدَ أبيه في القبر خرج قبل ان يهيل عليه التراب منحني الظهر باكياً حزيناً حتى جلس على الأرض ورفع منها شيئاً قال بعض بني اسد: حققنا النظر واذا به رفع اصبع الحسين المقطوع ليرجعه إلى جسده الشريف:

يحفّار گبره زين وسعه

ولمّن تنزله لتضعضعة

من حيث كلّه عظام گطعة

يخفاك ضلع أمه البضعة

ضلعه الأصل وحسين فرعه

ودوّر على مگطوع اصبعه

باللَّه عليك الكفة رجعة

ثمّ مشى الامام زين العابدين(ع) إلى عمّه العباس(ع) فرآه بتلك الحالة التي أدهشت الملائكة بين اطباق السماء، وابكت الحور في الجنان، فوقع عليه يلثم نحره المقدّس قائلاً: (على الدنيا بعدك العفا يا قمر بني هاشم وعيك مني السلام من شهيد محتسب ورحمة اللَّه وبركاته)، ثم حمله وحده وقال: (إنّ معي من يعينني)(١) .

سمعت بعض الراثين يقول: بعد ان دفن الامام زين العابدين(ع) أباه سيّد الشهداء(ع) جاءه بعض بني اسد فقال: انّ على الشريعة جسداً كلّما رفعنا منه جانباً سقط منه جانب آخر فجاء مسرعاً إلى مصرع عمّه أبي ‏الفضل:

____________________

(١) مقتل المقرّم: ص٤١٧.

٢٥٢

إجة يبكي ويصيح بصوت يا عم

عگب عينك علينة تراكم الهم

شافة مگطعينة وسابح بدم

لا يسرة ولا يمنة ولا راس

* * *

هوه فوگه يشم نحره ويحاكيه

ويهل دموع عينة ويصفگ ايديه

(هذا الخفت منه طحت بيه)

على الدنيا العفا بعدك يعباس

* * *

يقولون: ثمّ انه(ع) أراد ان ينصرف بعد ان دفن الشهداء فقال له بعض بني أسد: بالذي أكرمك بهذه الكرامة من أنت؟ فأرخى لثامَه وبان وجهُهُ الكريم فوقع بنو أسد على أقدامه وهم يعزّونه بأبيه وأعمامه واخوانه وشيعته وهو يبكي ولسان الحال:

أبكيهُمُ بدموعٍ ليس تنقطعُ

مدى الزّمانِ ولا اذ ذاك أرتدِعُ

يا لائمي لا تلمني كيف أمتنعُ

نذرٌ عليَّ لئن عادوا وإن رجعوا

لأزرعنّ طريقَ الطفّ ريحانا

لاحول ولا قوة إلّا باللَّه العليّ العظيم

وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلبٍ ينقلبون والعاقبة للمتقين

٢٥٣

الخامس والعشرون من محرّم ‏المجلس الرابع والعشرون

شهادة الإمام زين العابدين(ع)

بأبي ابيَّ الضّيم لا يُعطي العدى

حذرَ المنية منهُ فضلَ قيادِ

بأبي فريداً أسلمَتهُ يدُ الرّدى

في دار غربته لجمع أعادي

حتى هوى ثبت الجنان إلى الثرى

من فوق مفتول الذّراع جوادِ

يا رأسَ مفترسِ الضياغم في الوغى

كيف انثنيتَ فريسةَ الأوغادِ

ما أن بقيتَ من الهوان على الثرى

ملقىً ثلاثاً في ربىً ووهادِ

إلّا لكي تقضي عليك صلاتَها

زمرُ الملائكِ فوقَ سبعِ شدادِ

لهفي لرأسك وهو يُرفعُ مشرقاً

كالبدر فوق الذّابل الميّادِ

يتلو الكتابَ وما سمعت بواعظٍ

اتخذَ القنا بدلاً عن الأعوادِ

والهفتاهُ على خُزانةِ علمك الـ

سجّادِ وهو يُقادُ في الأصفادِ

ما لي أراكَ ودمعُ عينك جامدٌ

أو ما سمعت بمحنةِ السجّادِ

ويصيحُ واذلاهُ أينَ عشيرتي

وسراةُ قومي أين أهل ودادِ

منهم خلت تلك الدّيارُ وبعدهم

نَعَبَ الغرابُ بفرقتي وبعادِ

أترى يعودُ لنا الزّمانُ بقربِهم

هيهاتَ ما للقربِ من ميعادِ(١)

____________________

(١) هذه القصيدة العصماء للمرحوم الشيخ أحمد النحوي.

قال السيد الأمين١ في (أعيان الشيعة) المجلد الثالث ص٤٦:

هو أبو المعالي أحمد بن علي بن قدامة قاضي الأنبار النحوي شيخٌ فاضل فقيه جليل يروي عن المفيد والمرتضى والرّضي، وهو من مشايخ الإجازة، وله من الكتب كتاب في علم القوافي، وكتاب في النحو، توفي في شهر شوال سنة ٤٨٦ه.

٢٥٤

سمعنه العليل يعالجونه

صبح ومسه يتفگدونه

وعن حاله دايم ينشدونه

مشفنه العليل يگيّدونه

وبحبال خشنه يربطونه

ومن فوگ ناگة يسيرونه

ذاك الإمام التّعرفونه

زين العباد التودّونه

* * *

ولد الامام أبوالحسن علي بن الحسين(ع) زين العابدين بالمدينة يوم الخميس الخامس من شعبان سنة ثمان وثلاثين من الهجرة في ايّام جده امير المؤمنين(ع)، وذلك قبل شهادته بسنتين(١) .

أمّه السيدة شاه زنان بنت كسرى يزدجرد بن شهريار بن كسرى ويقال إنَّ اسمها (شهربانو)، وكان اميرُ المؤمنين(ع) ولي حُريث بن جابر الحنفي جانباً من المشرق فبعث إليه ابنتي يزدجرد بن شهريار فنحلَ ابنه الحسين(ع) شاه زنان منهما فأولدها زين العابدين(ع)، ونحلَ الاُخرى محمّد بن أبي بكر فولدت له القاسم بن محمد بن أبي بكر، فهما ابنا خالة(٢) .

روي عن النبيّ(ص) قال: (للَّهِ من عباده خيرتان، فخيرته من العرب قريش، ومن العجم فارس) وكان الامام عليّ بن الحسين(ع) يقول: (أنا ابنُ الخيرتين) لأنّ جدّه رسول اللَّه(ص) وأمّه بنت يزدجرد الملك، وأنشأ أبوالأسود الدؤلي:

____________________

(١) كشف الغمة في معرفة الأئمة ج٢ ص٦١٩، والإرشاد للشيخ المفيد: ص٢٥٣.

(٢) الإرشاد للشيخ المفيد: ص٢٥٣.

٢٥٥

وإنّ غلاماً بين كسرى وهاشمٍ لأكرمُ من نيطت عليه التمائمُ(١)

كنيتُهُ: فالمشهور أبوالحسن، ويقال أبومحمد.

وامّا لقبه: فكان له القاب كثيرة كلّها تطلق عليه، أشهرُها زين العابدين، وسيّدُ العابدين، والزّكي، والأمين، وذو الثفنات(*) .

واما مناقبُهُ ومزاياه وصفاته فكثيرة جداً منها:

عن طاووس الفقيه اليماني قال: رأيتُه - اي الامام السّجاد(ع) - يطوف من العشاء إلى السّحر ويتعبّد، فلمّا لم يرَ أحداً رمقَ السماءَ بطرفِه وقال: إلهي غارت نجومُ سماواتك، وهجعت عيونُ أنامِك، وأبوابُكَ مفتّحاتٌ للسائلين، جئتك لتغفرَ لي وترحمني وتريني وجهَ جدّي محمّد(ص) في عرصات القيامة، ثم بكى وقال: وعزّتك وجلالك ما أردت بمعصيتي مخالفتك، وما عصيتُك اذ عصيتُك وانا بك شاكٌّ ولا بنكالِكَ جاهل، ولا لعقوبتك متعرّض ولكن سوّلت لي نفسي، وأعانني على ذلك سترُك المرخى عليَّ، فالآن من عذابك من يستنفذني؟ وبحبل مَن أعتصمُ ان قطعتَ حبلَك عنّي؟ فواسوأتاه غداً من الوقوف بين يديك اذ قيلَ للمخفّين جوزوا، وللمثقلين حطّوا، أمع المخفّين أجوز؟ أم مع المثقلين أحط؟ ويلي كلّما طال عمري كثرت خطاياي ولم أتب، أما آنَ لي أن أستحي من ربّي؟ ثمّ بكى(ع) وهو يقول:

___________________

(١) بحار الأنوار ج٤٦ ص٣.

(*) ذو الثّفنات: واحدها ثفنة، وهو ما يلامس الأرض من الأعضاء كالركبتين والجبهة، فأطلقوا هذا على الامام زين العابدين(ع) حتى صار لقباً له، وذلك لكثرةِ عبادتِه وسجودِه بحيث كان الموكّل يقصّ الجلد الغليظ من جبهتِه وركبتيه في السنة مرّتين.

٢٥٦

أتُحرقني بالنار يا غايةَ المنى

فأين رجائي ثمّ أين محبّتي

أتيتُ بأعمالٍ قباحٍ زريّةٍ وما

في الورى خلقٌ جنى كجنايتي

ثمّ بكى وقال: (سبحانك تُعصى كأنك لا تُرى، وتحلُم كأنك لم تُعصَ، تتودّد إلى خلقك بحسن الصنيع كأنّ بك الحاجة إليهم، وأنت يا سيّدي الغنيّ عنهم)، ثمّ خرّ إلى الأرض ساجداً.

قال طاووس: فدنوت منه، ورفعت رأسه ووضعتُه في حجري وبكيت حتى جرت دموعي على خدِّه، فاستوى جالساً وقال: (مَن ذا الذي أشغلني عن ذكر ربّي؟) فقلت: أنا طاووس يابن رسول اللَّه ما هذا الجزعُ والفزع؟ ونحن يلزمُنا أن نفعل مثلَ هذا ونحنُ عاصون جانون، أبوك الحسين بن علي وأمّك فاطمة الزهراء وجدّك رسول اللَّه(ص) قال: فالتفت إليَّ وقال: (هيهاتَ هيهات يا طاووس دع عنّي حديثَ أبي وأمّي وجدّي، خلق اللَّه الجنّة لمن أطاعَه وأحسن ولو كان عبداً حبشيّاً، وخلق النار لمن عصاهُ ولو كان ولداً قرشياً، أما سمعت قوله تعالى:( فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ ) (١) واللَّهِ لا ينفعُكَ غداً إلّا تقدمةٌ تقدّمها من عملٍ صالح)(٢) .

قال الشاعر:

____________________

(١) المؤمنون: الآية ١٠١.

(٢) بحار الأنوار ج٤٦ ص٨١.

٢٥٧

لعمرُكَ ما الإنسانُ إلّا ابنُ دينه

فلا تترك التّقوى اتكالاً على النسب

فقد رفع الإسلامُ سلمانَ فارسٍ

وقد وضعَ الشركُ النسيبَ أبا لهب

وفي سنةٍ حجّ هشام بن عبدالملك فلم يقدر على استلام الحجر الأسود لكثرة الزّحام، فنُصبَ له منبرٌ فجلس عليه وأطاف به أهلُ الشام، فبينما هو كذلك اذ اقبلَ عليّ بن الحسين(ع) وعليه إزارٌ ورداء، من أحسنِ الناس وجهاً، وأطيبهم رائحة، بين عينيه أثرُ السجود، فجعل يطوف فاذا بلغ إلى موضع الحجر الأسود تنحى الناس عنه هيبةً له ليستلمه، فقال رجلٌ شامي لهشام: مَن هذا يا امير؟ فقال لا أعرفُهُ، قال هذا لئلا يرغب أهل الشام فيه، وكان الفرزدقُ حاضراً فقال: لكني أنا أعرفُه فقال الشامي: من هو يا أبافراس؟ فقال مرتجلاً:

يا سائلي أين حلَّ الجودُ والكرمُ

عندي جوابٌ إذا طلّابُهُ قدّموا

هذا الذي تعرفُ البطحاءُ وطأتَهُ

والبيتُ يعرفُهُ والحِلُّ والحرَمُ

هذا ابنُ خيرِ عبادِ اللَّهِ كلِّهُمُ

هذا التقيُّ النقيُّ الطاهرُ العلَمُ

هذا عليٌّ رسولُ اللَّهِ والدُهُ

أمست بنورِ هداهُ تهتدي الأمَمُ

هذا ابنُ سيّدةِ النسوان فاطمةٍ

وابنُ الوصيِّ الذي في سيفه نَقَمُ

اذا رأتهُ قريشٌ قال قائلُها

الى مكارمِ هذا ينتهي =الكرمُ

وليس قولُك من هذا بضائرِهِ

العُربُ تعرفُ من أنكرتَ والعجَمُ

من معشرٍ حبُّهمُ دينٌ وبغضُهُمُ

كفرٌ وقربُهُمْ منجىً ومعتصَمُ

مقدّمٌ بعد ذكر اللَّهِ ذكرُهُمُ

في كلّ فرضٍ ومختومٌ به الكَلِمُ

إن عُدُّ أهلُ التّقى كانوا أَئمَّتَهُمْ

او قيل مَن خيرُ اهل الأرضِ قيل هُمُ

٢٥٨

يُستدفعُ السوءُ والبلوى بحبِّهِمُ

ويُستزادُ بهِ الإحسانُ والنِّعَمُ

ما قال (ل) قطُّ إلّا في تشهُّدِهِ

لولا التشهّدُ كانت لاؤُهُ نعَمُ

لو يعلمُ الرّكنُ من قد جاءَ يلثمُهُ

لخرَّ يلثِمُ منهُ ما وطى القدَمُ

إلى آخر القصيدة العصماء هذه، فغضب هشام ومنع جائزته وقال له: ألا قلت فينا مثلَها قال: هاتِ جدّاً كجدّه، وأباً كأبيه، وأمّاً كأمّه حتى أقول فيكم مثلَها، فحبسوه بعُسفان بين مكّة والمدينة، فبلغ ذلك الامام عليَّ بن الحسين(ع) فبعث إليه باثني عشر ألف درهم وقال: (اعذرنا ياأبافراس فلو كان عندنا أكثر من هذا لوصلناك به)، فردّها الفرزدق وقال: ياابن رسول اللَّه(ص) ما قلتُ الذي قلت إلّا غضباً للَّه ولرسول، وما كنت لأرزق عليه شيئاً، فردّها إليه الامام(ع) وقال: (بحقي عليك لما قبِلتَها فقد رأى اللَّه مكانك وعلِمَ نيّتك فقبله).

وجعل الفرزدق يهجو هشام بن عبدالملك وهو في الحبس، فكان ممّا هجاه به قوله:

أيحبسُني بين المدينةِ والتي

اليها قلوبُ الناسِ يهوى منيبُها

يقلّبُ رأساً لم يكن رأسَ سيّدٍ

وعيناً له حولاءَ بادٍ عيوبُها

فاُخبر هشام بذلك فأخرجه من الحبس(١) .

وممّا روي عن الإمام زين العابدين(ع) من الكلمات الشريفة:

(مَن كرُمت عليه نفسُهُ هانت عليه الدّنيا، وفي نسخة - هانت عليه شهواتُه)(٢) .

____________________

(١) بحار الأنوار ج٤٦ ص١٢٤.

(٢) البحار ج٧٨ ص١٣٥.

٢٥٩

وقال(ع): (لا يقلُّ عملٌ مع تقوى، وكيف يَقِلُّ ما يُتقبَّلُ)(١) .

وقال(ع): (المؤمنُ من دعائه على ثلاث، إمّا أن يُدّخرَ له، وإمّا أن يُعجّلَ له، وإمّا أن يُدفعَ عنه بلاءاً يُريدُ أن يصيبَهُ)(٢) .

وقال(ع): (ما استغنى أحُدٌ باللَّهِ إلا افتقرَ الناسُ إليه)(٣) .

وجاء رجلٌ إليه يشكو حالَه فقال(ع): (مسكينٌ ابنُ آدم له في كلّ يومٍ ثلاثُ مصائب لا يعتَبِرُ بواحدة منهنّ ولو اعتبر بواحدةٍ منهنّ لهانت عليه المصائبُ وأمرُ الدُّنيا، فأمّا المصيبةُ الأولى فاليومُ الذي ينقصُ من عمُرِهِ قال: وإن أصابَهُ نقصانٌ في مالِهِ اغتمَّ به، والدّرهَمُ يخلفُ عنه والعمرُ لا يردُّهُ شي‏ء، والثانية أنه يستوفي رزقَهُ فإن كان حلالاً حوسبَ عليه، وإن كان حراماً عوقب عليه، والثالثةُ أعظمُ من ذلك، قيل: وما هي؟ قال: ما من يومٍ يُمسي إلّا وقد دنا من القبرِ مرحله لا يدري أعلى الجنةِ أم على النار)(٤) .

وله (ع) كلمةٌ ذهبيّة خالدة قالها بعد ان حضرته المنية، وذلك بعد أن سمّه هشام بن عبدالملك وكان ذلك في ملكِ الوليد بن عبدالملك، عن الامام أبي جعفر الباقر(ع) قال: (لما حضرت أبي الوفاة ضمّني إلى صدره وقال: يابُنيّ أوصيك بما أوصاني به أبي حين حضرته الوفاة، وبما ذكر أنّ أباه أوصاه

____________________

(١) البحار ج٧٨ ص١٣٥.

(٢) البحار ج٧٨ ص١٣٨.

(٣) البحار ج٧٨ ص١٦١.

(٤) البحار ج٧٨ ص١٦٠.

٢٦٠