المجالس الحسنة في مناسبات السَّنَة

المجالس الحسنة في مناسبات السَّنَة0%

المجالس الحسنة في مناسبات السَّنَة مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 343

المجالس الحسنة في مناسبات السَّنَة

مؤلف: السيد أحمد الحكيم
تصنيف:

الصفحات: 343
المشاهدات: 39452
تحميل: 2517

توضيحات:

المجالس الحسنة في مناسبات السَّنَة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 343 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 39452 / تحميل: 2517
الحجم الحجم الحجم
المجالس الحسنة في مناسبات السَّنَة

المجالس الحسنة في مناسبات السَّنَة

مؤلف:
العربية

بسم اللَّه الرّحمن الرّحيم

هذا ما أوصى به الحسينُ بن عليّ بن أبي طالب(ع) لأخيه محمّد المعروف (بابن الحنفية):

____________________

السّريرة حسن السّيرٍة، له ديوان شعر مطبوع إسمه - سحرُ بابل وسجع البلابل - جمعه بعد وفاته أخوه السيد هاشم، وقد ضاع كثيرٌ من شعرِهِ الذي كان ينظمه على البديهة من الأبيات القليلة.

قال السيد الأمين: رأيته في النجف، وكان شريكنا في الدرس عند الفقيه الشيخ محمد طه نجف، وقرأ أيضاً على الشيخ ميرزا حسين بن ميرزا خليل، وتوفي ونحن في النجف ورثاه الشعراء منهم الشيخ محمد السماوي صاحب كتاب - الطليعة - بقوله من قصيدة:

أيُّ فؤادٍ عليك ما احترقا

وأيُّ دمعٍ عليك ما اندفقا

ياراحلاً والكمالُ يتبعُهُ

ما أنت إلا الهلالُ قد مُحِقا

بكى عليك القريض منفجعاً

وانفجع الفضلُ فيك محترقا

وقال السماوي: رأيت السيد جعفر بعد موته في الرؤيا وسألته عن حالِهِ فقال: أمّا نحنُ أصحاب السيد مهدي القزويني فكلّنا في الجنّة.

وكان المرحوم السيد جعفر الحلي كثير المطايبة، ومن ذلك قوله وهو يخاطب أستاذه الفاضل الملا محمد الشربياني وهو على المنبر بعد الفراغ من الدرس ارتجالاً:

أشيخَ الكلِّ قد أكثرتَ بحثاً

بأصلِ براءةٍ وبإحتياطِ

وهذا فصلُ زوّارِ وسَرْطِ

فباحثنا بتنقيحِ المناطِ

والسَّرط هو الأكل والإبتلاع.

وقال على سبيل المطايبة أيضاً:

للشربيانيِّ أصحابٌ وتلمذةٌ

تجمّعوا حولَه من هاهنا وهنا

ما فيهم مَن له بالعلمِ معرفةٌ

يكفيك أفضلُ كلِّ الحاضرين أنا

وقال في رئيسي النجف آنذاك: السيد محمّد الطباطبائي، والسيد محمد القزويني:

شتّانَ بينَ محمّدٍ ومحمّدِ

ذا طبطبائيٌّ وذا قزويني

أنا أعرفُ الرّجلَ المهذّبَ منهما

باللَّهِ لا تسأل عن التعيينِ

٤١

(إنَّ الحسينَ يشهدُ أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريكَ له، وأنَّ محمّداً عبدُهُ ورسوله، جاء بالحقّ من عند الحق، وانّ الجنّة والنّارَ حق، وأنّ الساعةَ آتيةٌ لا ريبَ فيها، وأنّ اللَّه يبعثُ مَن في القبور، وإنّي لم أخرج أشراً ولا بطِراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجتُ لطلب الإصلاح في اُمّةِ جدّي محمّد اُريدُ أن آمرَ بالمعروف وأنهى عن المُنكر، وأسيرَ بسيرة جدّي وأبي عليّ بن أبي‏طالب، فمن قَبِلَني بقَبولِ الحقّ فاللَّهُ أولى بالحق، ومَن ردَّ عليَّ هذا أصبرْ حتى يقضيَ اللَّهُ بيني وبينَ القوم بالحقّ وهو خيرُ الحاكمين.

وهذه وصيّتي يا أخي إليك، وما توفيقي إلا باللَّه عليه توكلتُ وإليه اُنيب). ثمّ طوى الكتاب وختمه بخاتمه، ودفعه إلى أخيه محمّد بن الحنفيّة ثمّ ودّعهُ وخرج(ع) من عنده(١) .

بهذه الكلمات النيّرة والمعاني العالية الواضحة أعلن الإمام الحسين(ع) سببَ النهضة وعيّنها ولم يجعلها عائمة وذلك بقوله: وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في اُمّة جدّي، اُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، واسيرَ بسيرةِ جدّي وأبي علي بن أبي طالب:، وعيّن ذلك ب-(إنّما) وهي أداة حصر عند النحويين فهو لم يطلب غير الإصلاح من جاهٍ أو سلطان أو سمعةٍ أو أموال كما يفعله غيرُهُ من ذوي الأطماع بعد أن يتستّروا وراءَ الشعارات اللطيفة والغايات الشريفة وإنَّما سعيهم وجهدهم لأغراضٍ دنيويّة، وغاياتٍ آنيّة، ومعلومٌ أنَّ الإمام الحسين(ع) لم يكن محتاجاً إلى جاه أو سلطان فهو سيّدُ شباب أهل الجنّة، وريحانة رسول اللَّه(ص)

____________________

(١) ثمرات الأعواد: ج١ ص١٠١.

٤٢

وابنه الذي خلّفه في اُمّته وقال في حقّه: حسينُ مني وأنا من حسين، أحبّ اللَّهُ من أحبّ حسيناً، حسينٌ سبطٌ من الأسباط(١) .

وإلى غير ذلك من أقوال النبيّ(ص) في حقّ الإمام الحسين وأخيه الإمام الحسن(ع)، وهي فضائل يعرفها المسلمون آنذاك كما يعرفون الصلوات اليوميّة وعدد ركعاتها.

يقول الشيخ أسد حيدر في كتابه (مع الحسين في نهضته): وهذه الفقرات - الوصيّة - هي تجسيدٌ لأوضاع العصر الّذي تعيشُهُ الاُمّة الإسلاميّة من جرّاء ما خلّفتهُ السياسة الاُمويّة في عهد معاوية من فسادٍ وانحطاط وضياع الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر، إنّ تلك الأوضاع السّائدة وليدة استهتارٍ، وبُعدٍ عن الإلتزام بنواميس الدّين، وتغييرٍ للخطط التي أوضحها الرسول(ص) لاُمّته لمسيرتهم في الحياة(٢) .

ومن جملة الموبقات التي خرج بها معاوية بن أبي سفيان عن نهج رسول اللَّه(ص) وطريقته هي أن جَعَلَ الخلافة الإسلاميّة وراثةً في أصلاب أبنائه، فقد هلك معاوية في النصف من رجب سنة ٦٠ هجرية، وكان قبل هلاكه قد كتب وصيّةً لإبنه يزيد وهي: يا بنيّ إنّي قد كفيتك الشدَّ والتّرحال، ووطّأتُ لكَ الاُمور، وذلّلتُ لك الأعداء، وأخضعتُ لك رقابَ العرب، وجمعتُ لك ما لم يجمعُهُ أحد، فانظر أهلَ الحجاز فإنّهم أصلُك أكرم مَن قدمَ عليك منهم، وتعاهد مَن غاب، وانظر أهلَ العراق فإن سألوك أن تعزل

____________________

(١) جلاء العيون: ج٢ ص١٢.

(٢) مع الحسين في نهضته: ص٦٨ - ٦٩.

٤٣

عنهم كلَّ يومٍ عاملاً فافعل، فإنّ عزلَ عامِلٍ أيسر من أن يُشهرَ عليكَ مائة ألف سيف، وانظر أهلَ الشام فليكونوا بطانتك وعيبتَك(١) ، فإن رابكَ من عدوِّكَ شي‏ءٌ فانتصر بهم، فإذا أصبتهم فاردد أهلَ الشام إلى بلادهم، فإنّهم إن أقاموا بغير بلادهم تغيّرت أخلاقهم، وإني لستُ أخاف عليك أن ينازعك في هذا الأمر إلّا أربعة نفر من قريش: الحسينُ بن علي(ع) وعبداللَّه بن عمر، وعبداللَّه بن الزبير، وعبدالرّحمن بن أبي بكر، فأمّا عبداللَّه بن عمر فإنّه قد وقذته العبادة فإذا لم يبق غيره بايعك، وأمّا الحسين بن علي(ع) فهو رجل لن يتركه أهل العراق حتى يخرجوه، فإن خرج وظفرت به فاصفح عنه فإنّ له رحماً ماسّةً وحقّاً عظيماً وقرابةً من محمّد(ص)(٢) ، واعلم يا بني أنّ أباه خيرٌ من أبيك، وأنّ اُمّه خيرٌ من اُمّك، وأنّ جدّه خيرٌ من جدّك(٣) ، وأمّا ابن أبي بكر فإن رأى أصحابهُ صنعوا شيئاً صنع مثلهُ ليس له همّةٌ إلّا في النساء واللهو، وأمّا الذي يجثم لك جُثومَ الأسد ويراوغك مراوغة الثعلب فإن أمكنته فرصةٌ وثب فذاك ابن الزبير، فإن هو فعلها بك فظفرت به فقطّعهُ إرْباً إرْبا، واحقن دماء قومك ما استطعت(٤) .

ثمّ هلك معاوية للنّصف من رجب سنة ستين هجرية كان ابنهُ يزيد في (حوران) فأخذ الضحّاك بن قيس

أكفانه ورقى المنبر فقال بعد الحمد للَّه والثناء عليه:

____________________

(١) العَيبة: ما تجعل فيه الثياب كالصندوق، وأراد معاوية أنّهم موضع سرّك.

(٢) الكامل في التأريخ لابن الأثير: ج٤ ص٦.

(٣) ثمرات الأعواد: ج١ ص٦٥.

(٤) الكامل في التأريخ لابن الأثير: ج٤ ص٧.

(٥) حَوْران : كورة واسعة من أعمال دمشق ذكرها الحموي في (معجم البلدان) : ج ٢ ص ٣١٧.

٤٤

كان معاوية سورَ العرب وعونهم قطع اللَّه به الفتنة، وملّكه على العباد وفتح به البلاد ألا إِنَّه قد مات وهذه أكفانُهُ فنحنُ مدرجوه فيها ومدخلوه قبره ومخلون بينه وبين عمله ثمّ هو البرزخ إلى يوم القيامة فمن كان منكم يريد أن يشهد فليحضر، ثمّ صلّى عليه الضحّاك ودفنه بمقابر باب الصغير، وأرسل إلى يزيد يعزّيه بأبيه والإسراع في القدوم ليأخذ بيعةً مجدّدة من الناس، وكتب في أسفل الكتاب:

مضى ابنُ سفيانَ فرداً لشأنه

وخُلّفتَ فانظر بعدَهُ كيف تصنعُ

أقِمنا على المنهاج واركبْ محجّةً

سَداداً فأنت المرتجى حين نفزعُ

فلمّا قرأ يزيدُ الكتاب أنشأ يقول:

جاء البريدُ بقرطاسٍ يخبّ به

فأوجسَ القلبُ من قرطاسِهِ فزعا

قلنا لك الويلُ ماذا في صحيفتكم

قال: الخليفةُ أمسى مثقلاً وجعا

مادت بنا الأرض أو كادت تميدُ بنا

كأنّ ما عزّ من أركانها انقلعا

وسار إلى دمشق فوصلها بعد ثلاثة أيّام من دفن معاوية(١) ، وكان الوالي على المدينة عند هلاك معاوية هو

الوليد بن عتبة بن أبي سفيان. وعلى مكّة عمرو بن سعيد بن العاص، وعلى الكوفة النعمان بن بشير، وعلى البصرة عبيداللَّه بن زياد فلم يكن ليزيدَ همٌ بعد موت أبيه إلّا بيعة النفر الذين سمّاهم أبوه، فكتب إلى الوليد بن عتبة - عامله على المدينة - فأمره بأخذ

____________________

(١) مقتل المقرّم: ص١٣٦ - ١٤٠ بتصرّف.

٤٥

البيعة عليهم أخذاً شديداً ليس فيه رخصة فلمّا وقف الوليد على الكتاب بعث إلى مروان بن الحكم فأحضره وأوقفه على كتاب يزيد واستشاره وقال كيف ترى أن نصنع بهؤلاء؟ قال: أرى أن تبعث إليهم الساعة فتدعوهم إلى البيعة والدخول في الطّاعة فإن لم يفعلوا ضربت أعناقهم قبل أن يعلموا بموت معاوية لأنّهم إن علموا وثب كلُّ واحدٍ منهم في جانب وأظهر الخلاف والمنابذة ودعا إلى نفسه، فأرسل الوليد عمر بن عثمان إلى الحسين وإلى عبداللَّه بن الزبير فوجدهما في المسجد فقال أجيبا الأمير فقالا انصرف فالآن نأتيه ثمّ قال ابن الزبير للإمام الحسين: فيما تراه بعث إلينا في هذه الساعة التي ليس له عادة بالجلوس فيها إلا لأمر؟!

فقال الحسين٧: (أظنّ طاغيتهم قد هلك فبعث إلينا ليأخذ البيعة علينا ليزيد قبل أن يفشو في الناس الخبر)(١) .

ثمّ ذهب الإمام الحسين(ع) إلى الوليد ومعهُ ثلاثون من أهل بيته ومواليه يحملون السلاح وأوقفهم على الباب وطلب منهم الدخول إلى المجلس إذا سمعوا صوته وقد علا ليمنعونه، فدخل وبيده قضيب رسول اللَّه٩ و لما استقرّ به المجلس نعى الوليد إليه معاوية ثمّ عرض عليه البيعة ليزيد فقال(ع): مثلي لا يبايع سرّاً فإذا دعوتَ الناس إلى البيعة دعوتنا معهم فكان أمراً واحداً.

فاقتنع الوليد منه ولكنّ مروان ابتدر قائلاً: إن فارقكَ الحسين الساعة ولم يبايع لم تقدر منه على مثلها حتى تكثر القتلى بينكم احبس الرّجل حتى يبايع أو

____________________

(١) تذكرة الخواص لسبط ابن الجوزي: ص١٣٥ - ١٣٦.

٤٦

تضرب عنقَهُ فقام إليه الحسين فقال: (ياابن الزرقاء أنت تقتلني أم هو؟ كذبت وأثمت ثمّ أقبل على الوليد وقال: أيّها الأمير إنّا أهلُ بيتِ النبوّة ومعدنُ الرّسالة ومختلفُ الملائكة بنا فتح اللَّه وبنا يختم، ويزيد رجلٌ شاربُ الخمور، وقاتل النّفس المحرّمة معلنٌ بالفسق، ومثلي لا يبايع مثلَه، ولكن نصبح وتصبحون، وننظر وتنظرون أيّنا أحقُّ بالخلافة) وارتفعت الأصوات فدخل المجلس بنو هاشم وموالوهم وأخرجوا الإمام(ع) إلى منزله قهراً، فقال مروان للوليد عصيتني فواللَّه لا يمكنك على مثلها، قال الوليد: يامروان اخترت لي ما فيه هلاك ديني أقتل حسيناً إن لم يبايع!! واللَّه لا أظنّ امرءاً يحاسب بدمِ الحسين إلّا خفيف الميزان يوم القيامة. ولا ينظر اللَّه إليه ولا يزكّيه وله عذابٌ أليم.

وفي هذه الليلة زار الإمام الحسين(ع) قبر جدّه رسول اللَّه(ص) فسطع له نورٌ من القبر فقال: (السلام عليك يا رسول اللَّه أنا الحسين بن فاطمة فرخك وابن فرختك وسبطك الذي خلّفتني في اُمّتك فاشهد عليهم يانبيّ اللَّه أنّهم خذلوني ولم يحفظوني وهذه شكواي إليك حتى ألقاك) ولم يزل راكعاً وساجداً حتى الصباح.

وعند الصباح لقي مروان أبا عبداللَّه الحسين(ع) فعرّفه النّصيحةَ التي يدّخرها لأمثاله وهي البيعة ليزيد فإنّ فيها خير الدين والدّنيا فاسترجع الحسين(ع) وقال: (على الإسلام السّلامُ إذا بليت الاُمّة براعٍ مثلِ يزيد، ولقد سمعت جدّي رسول اللَّه(ص) يقول: الخلافة محرّمةٌ على آلِ أبي سفيان فإذا رأيتم معاوية على منبري فابقروا بطنه وقد رآه أهلُ المدينة على المنبر فلم يبقروا بطنه فابتلاهم اللَّه بيزيد الفاسق)، وطال الحديث بينهما حتى انصرف مروان مغضباً.

٤٧

وفي الليلة الثانية جاء الإمام الحسين(ع) إلى قبر جدّه(ص) وصلّى ركعات ثمّ قال: (اللّهمَّ إنّ هذا قبرُ نبيّك محمّد٩ وأنا ابن بنت نبيّك وقد حضرني من الأمر ما قد علمت، اللّهمّ إنّي أحبُّ المعروف وأنكر المنكر، وأسألكُ ياذا الجلال والإكرام بحقّ القبر ومَن فيه إلّا اخترتَ لي ماهو لك رضى ولرسولك رضى) ثمّ بكى.

و لما كان قريباً من الصّبح وضع رأسَه الشريف على القبر فغفا فرأى رسول اللَّه(ص) في كتيبةٍ من الملائكة عن يمينه وشماله وبين يديه فضمّ الحسين إلى صدره وقبّلَ بين عينيه وقال: (حبيبي يا حسين كأنّي أراك عن قريب مرمّلاً بدمائك مذبوحاً بأرضِ كربلا بين عصابةٍ من اُمّتي وأنت مع ذلك عطشان لا تُسقى وظمآن لا تروى وهم بعد ذلك يرجون شفاعتي لاأنالهم اللَّه شفاعتي يوم القيامة.

حبيبي يا حسين إنَّ أباك واُمَّك وأخاك قدموا عليّ وهم مشتاقون إليك). فبكى الحسين وسأل جدّه أن يأخذه معه ويدخله في قبره:(١)

ضمّني عندكَ ياجدّاه في هذا الضريح

عَلَّني ياجَدُّ من بلوى زماني أستريح

ضاق بي ياجدُّ من فرطِ الأسى كلُّ فسيح

فعسى طودُ الأسى يندكُ بين الدكّتين

____________________

(١) مقتل المقرّم: ص١٤٤ - ١٤٧.

٤٨

جدُّ صفوُالعيشِ من بعدِكَ بالأكدارِ شيب

وأشابَ الهمُّ رأسي قبل إبّانِ المشيب

فَعَلَا من داخلِ القبرِ بكاءٌ ونحيب

ونداءٌ بافتجاعٍ ياحبيبي ياحسين

* * *

أنت ياريحانةَ القلبِ حقيقٌ بالبَلا

إنّما الدّنيا أُعدّت لبلاءِ النبلا

لكن الماضي قليلٌ بالذي قد أقبلا

فاتّخذ درعين من حزمٍ وعزمٍ سابغين

* * *

ستذوقُ الموتَ ظلماً ظامياً في كربلا

وستبقى في ثراها ثاوياً منجدلا

وكأنّي بلئيم الأصلِ شمرٍ قد على

صدرَكَ الطّاهرَ بالسيفِ يحزُّ الودَجين(١)

وكأنّي بالحسين(ع) وقد مرّ على قبور الأحبّة يودّعهم، فمرّ بقبر أخيه الحسن ثمّ مرّ بقبر اُمّه الشهيدة المظلومة فوقف وسلّم عليها وإذا بالجواب وعليك السلام يا غريب الاُم وعليك السلام يا حبيب الاُم وعليك السلام يا وحيد الاُم:

____________________

(١) من منظومة في واقعة الطف للعالم الشيخ حسن الدمستاني البحراني(ره) (ت/١١٨١ه).

٤٩

يحسين يابني هيّجت حزني عليّه

لأجلك بگبري لابسة ثياب العزية

أبكي عليكم ياضحايا الغاضريّه

اللَّه كاتب كربلا تحويك يحسين

* * *

يابني مصابك بالطفوف يشيّب الراس

گلي عليمن انتحب ياوافي‏الباس

لابنك علي يولا لبو فاضل العبّاس

يبگه اعله نهر العلگمي من غير كفين

* * *

حزني على البلغاضريّة تعرسونه

ياويل گلبي يوم عرسه يذبحونه

عرّيس ما شفنه بدَمّه يخضّبونه

واُمّه‏تنادي شلون هجمه‏ هجمة البين

* * *

أفاطمُ قومي ياابنة الخير واندبي

نجوم سماواتٍ بأرضِ فلاةِ

لاحول ولا قوة إلّا باللَّه العليّ العظيم

وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلبٍ ينقلبون والعاقبة للمتقين

٥٠

الليلة الثالثة المجلس الخامس

كرمُ الإمام الحسين(ع)

قد أوهنت جَلَدي الدّيارُ الخالية

من أهلها ما للدّيارِ وماليهْ

ومتى سألتُ الدّارَ عن أربابها

يُعِدُ الصّدى منها سؤالي ثانيه

كانت غياثاً للمنوب فأصبحت

لجميعِ أنواعِ النّوائبِ حاويه

ومعالمٌ أضحت مآتمَ لا تَرى

فيها سوى ناعٍ يجاوِبُ ناعيه

وردَ الحسينُ إلى العراقِ وظنّهم

تركوا النِّفاقَ إذا العراق كماهيه

ولقد دعَوهُ للعَنا فأجابهم

ودعاهُمُ لهدىً فردُّوا داعيه

قسَتِ القلوبُ فلم تَمِلْ لهدايةٍ

تبّاً لهاتيكَ القلوب القاسيه

ما ذاقَ طعمَ فراتِهِمْ حَتّى قضى

عطشاً فغُسِّلَ بالدّماءِ القانيه

يابنَ النبيّ المصطفى ووصيِّهِ

وأخا الزكيِّ ابنَ البتولِ الزاكيه

تبكيكَ عيني لا لأجلِ مثوبةٍ

لكنّما عيني لأجلِكَ باكيه

تبتلُّ منكم كربلا بدمٍ ولا

تبتلُّ منِّي بالدّموعِ الجاريه

أَنْسَتْ رزيتُكُم رزايانا التي

سلفت وهوّنت الرزايا الآتيه

وفجائعُ الأيامِ تبقى مدّةً

وتزولُ وهي إلى القيامةِ باقيه(١)

____________________

(١) هذه القصيدة العصماء من نظم العالم الكامل المرحوم الشيخ محمد علي الأعسم(ره).

قال السيد جواد شبر في (أدب الطف) ج٦ ص١٩٦:

الشيخ محمد علي الأعسم المتولد في النجف الأشرف عام ١١٥٤ه تقريباً.

٥١

ما لأجل الثواب بكيت واجره

لچن نار بصميم الگلب واجره

مصاب حسين أبد ما صار واجره

فرض كل يوم ننصبلة عزية

* * *

____________________

وهو ابن الشيخ حسين ابن الشيخ محمد الزبيدي النجفي.

وآل الأعسم أسرةٌ نجفيّةٌ كبيرة عريقة في العلم والفضل والأدب.

كان الشيخ الأعسم عالماً فاضلاً فقيهاً ناسكاً أديباً شاعراً له ديوان شعر وله مراثٍ كثيرة في الإمام الحسين(ع)، له منظومة في الرّضا، وأخرى في المواريث وثالثة في العدد ورابعة في تقدير دية القتل وخامسة في آداب الطعام والشراب المستفادة من أخبار وأحاديث أهل البيت:.

جاء في معارف الرجال أنه تتلمذ على الشيخ جعفر صاحب كشف الغطاء، وكان من أخلص أصحابه حتى أنه حجّ معه بيت اللَّه سنة ١١٩٩ه مع كوكبة من العلماء، وحضر الفقه على السيد مهدي بحر العلوم النجفي كما أجازه أن يروي.

وفي الطليعة قال: أخبرني السيد محسن الكاظمي الصائغ عن أبيه السيد هاشم قال: نظم المرحوم الشيخ محمد علي الأعسم قصيدته في الإمام الحسين(ع) والتي مطلعها:

قد أوهنت جلدي الديارُ الخالية

من أهلها ما للديارِ وماليه

ثمّ عرضها على ابنه الشيخ عبد الحسين فقال: أنظرها فنظرها ثمّ قال: هذه قافيةٌ قاسية فأخذها منه ثمّ صعد فصلى ووضعها تحت مصلاه فما كان إلّا أن طرق الباب سحراً وإذا بالخطيب الشيخ محمد علي القارئ وكان ممتازاً بإنشاد الشّعر الحسيني في محافل الحسين(ع) قال: إني رأيت البارحة كأني دخلت الرّوضة الحيدرية فرأيت أمير المؤمنين(ع) جالساً فسلمتُ عليه فأعطاني ورقة فيها قصيدة وقال: اقرأ لي هذه القصيدة في رثاء ولدي الحسين فقرأتها وهو يبكي فانتبهت وأنا أحفظ منها هذا البيت:

قست القلوب فلم تمِلْ لهدايةٍ

تبّاً لهاتيكَ القلوبِ القاسية

فتعجّب الشيخ وأخرج‏له الورقة التي تحت مصلّاه فدهش الشيخ محمد علي القارئ وقال: واللَّه إنها نفس الورقة بل هي هي التي أعطانيها أمير المؤمنين(ع).

توفي في النجف الأشرف سنة ١٢٣٣ ودفن في المقبرة التي هي لآل الأعسم في الصحن الشريف.

٥٢

ممّا نُسب إلى الإمام أبي عبداللَّه الحسين(ع):

إذا جادت الدّنيا عليك فجُدْ

بها على النّاسِ طُرّاً قبل أن تتفلّتِ

فلا الجودُ يُفنيها إذا هي أقبلت

ولا البُخلُ يُبقيها إذا ما تولّتِ(١)

* * *

السّخاء: هو بذل ما يُحتاج إليه عند الحاجة إلى مستحقّه بقدر الطّاقة، وهو من فعل شيم النفوس حيث تبذل ما تكسب به مدحَ العاجل والثوابَ الآجل، وتكسب به تألّف القلوب، وهو من أكبر أسباب المحبّة بين الناس.

قال رسول اللَّه(ص): (جُبِلَتْ(٢) القلوب على حبّ مَن أحسنَ إليها، وبغضِ من أساءَ إليها) وأوضح دليل على

صحّة هذا أنّا نرى الناس تذكر بثناء واحترام الأسخياء ذوي النفوس العالية الذين يُعرفون بالبذل وقضاء الحوائج وتنفيس الكربات والإحسان حيث جُبلت القلوب على حبّ مَن أحسن إليها كما قال(ص).

وفي حديث آخر عنه(ص): (السخيُّ قريبٌ من اللَّه، قريبٌ من الجنّة، قريبٌ من النّاس، بعيدٌ عن النار. والبخيلُ: بعيدٌ من اللَّه، بعيدٌ من الجنّة، بعيدٌ من النّاس، قريبٌ من النّار).

وعن ابن عبّاس: سادةُ النّاس في الدّنيا الأسخياء وفي الآخرة الأتقياء(٣) .

____________________

(١) المناقب: ج٤ ص٦٦.

(٢) الجِبِلّة: الخِلقة والطّبيعة.

(٣) نور الحقيقة لوالد الشيخ البهائي: ص٢٢٥ - ٢٢٦.

٥٣

وبيّن اللَّه تعالى ذلك في القرآن الكريم فقال في سورة الحشر:( وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) (١) .

وفي سورة الليل الآيات ٥ - ١١( فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى * وَمَا يُغْنِى عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدّىَ ) .

وكان الإمام أبو عبداللَّه الحسين بن علي بن أبي طالب(ع) أكرمَ أهل زمانه. قال ابن الصبّاغ المالكي في كتابه (الفصول المهمّة): قال الشيخ كمال الدّين بن طلحة قد اشتهر النّقلُ عنه(ع) بأنّه كان يُكرم الضيفَ ويمنحُ الطّالب ويَصِلُ الرّحم وينيلُ الفقراء ويكسو العريان ويُشبع الجوعان ويُعطي الغارم ويشفق على اليتيم ويعينُ ذا الحاجة، وإنّ الكرم ثابتٌ لهؤلاء القوم حقيقةٌ ولغيرهم مجاز، إذ كلُّ واحدٍ منهم ضربَ فيه بالقدح المـُعلّى فحاز منه ما حازَ فهم بحارٌ تجاوزت الغيوثَ سماحة ويبارون الليوث حماسة ويعدلون الجبال حلماً، فهم البحورُ الزاخرة والسُحُب الهامية الماطرة. يقول الشاعر:

فما كانَ من جودٍ أتوهُ فإنّما

توارثَهُ آباءُ آبائِهم قبلُ

وهل منبتُ الخطيِّ إلّا وشيجُهُ(٢)

وتُغرسُ إلّا في مغارسها النّخلُ(٣)

____________________

(١) سورة الحشر: الآية ٩.

(٢) الوَشيج: شجرٌ تُصنع منها الرّماح.

(٣) الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: ص١٧٦.

٥٤

وفي هذا المعنى رُوي أنَّ أعرابياً وفد المدينة فسأل عن أكرم النّاسِ فيها فُدلّ على الإمام الحسين(ع) فدخلَ المسجد فوجدَ الإمام يصلّي فوقف بإزائه وأنشأ:

لم يَخِبِ الآنَ مَن رجاكَ ومَن

حرَّكَ مِن دونِ بابِكَ الحَلقة

أنت جوادٌ وأنت معتَمَدٌ

أبوك قد كان قاتلَ الفسقَة

لولا الذي كان من أوائِلِكُم

كانت علينا الجحيمُ منطبقة

فسلّم الإمام(ع) وقال: (ياقنبر هل بقي من مال الحجاز شي‏ء؟ قال نعم أربعة آلاف دينار فقال: هاتها قد جاء من هو أحقُّ بها منّا، ثمّ لفّ الدنانير وأخرج يده من شقّ الباب حياءاً من الأعرابي وأنشأ:

خذها فإنّي إليكَ معتذرٌ

واعلم بأنّي عليك ذو شفقة

لو كان في سيرنا الغداةَ عصىً(١)

أمست(٢) سمانا عليك مُندَفِقة

لكنَّ ريبَ الزّمانِ ذو غِيَر

والكفُّ منّي قليلةُ النّفقة

فأخذها الأعرابي وبكى فقال له الإمام(ع): (لعلّك استقللتَ ما أعطيناك). قال: لا ولكن كيف يأكلُ الترابُ جودك(٣) .

ورواية اُخرى في نفس المعنى، أنّ أعرابياً جاء إلى الإمام الحسين(ع) فقال:

____________________

(١) الظاهر أنّ العصى كناية عن الأمر والحكم.

(٢) لعلّ المعنى لو كان في سيرنا هذه الغداة ولاية وحكم أو قوّة لأمست يدُ عطائنا عليك مندفقة وتكون السماء كناية عن يد الجود والعطاء.

(٣) جلاء العيون: ج٢ ص٢٤.

٥٥

ياابن رسول اللَّه ضمنت ديةً كاملة(١) وعجزتُ عن أدائِها فقلت في نفسي أسألُ أكرمَ الناس، وما رأيتُ أكرمَ من أهل بيتِ رسول اللَّه(ص) فقال الإمام(ع): (ياأخا العرب أسألك عن ثلاث مسائل، فإن أجبت عن واحدة أعطيتك ثلثَ المال، وإن أجبت عن اثنين أعطيتك ثلثي المال، وإن أجبتَ عن الكلّ أعطيتُكَ الكل).

فقال الأعرابي: ياابن رسول اللَّه أمثلُكَ يسألُ مثلي وأنت من أهلِ العلم والشرف؟! فقال الإمام(ع): (بلى سمعتُ جدّي رسول اللَّه(ص) يقول: المعروف بقدر المعرفة، فقال الاعرابي: سل عمّا بدالك، فإن أجبتُ وإلّا تعلّمتُ منك ولا قوّةَ إلّا باللَّه.

فقال الإمام(ع): أيُّ الأعمال أفضل؟ فقال الأعرابي: الإيمانُ باللَّه فقال الإمام(ع): فما النّجاةُ من الهلكة؟ قال الأعرابي: الثقةُ باللَّه، فقال الإمام(ع): فما يَزينُ الرّجل؟ قال: علمٌ معه حِلم قال: فإن أخطأه ذلك؟ قال الأعرابي: مالٌ معه مروءة قال الإمام(ع): فإن أخطأهُ ذلك؟ قال: فقرٌ معه صبر فقال الإمام(ع): فإن أخطأه ذلك؟ فقال الأعرابي: فصاعقةٌ تنزل عليه من السماء وتحرقهُ فإنّه أهلٌ لذلك.

فضحكَ الإمام(ع) ورمى بصرّةٍ إليه فيها ألفُ دينار، وأعطاه خاتمه وفيه فصٌّ قيمتُهُ مائتا درهم وقال: ياأعرابي أَعطِ الذّهبَ إلى غُرمائك، واصرف الخاتم في نفقتك)، فأخذ الاعرابي ذلك وقال:

____________________

(١) الدية الكاملة ألف دينار لقتل الخطأ.

٥٦

( اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ) .(١) .(٢) وفي بعض الروايات فأنشأ الأعرابي يقول:

طَرَبتُ وما هاجَ لي معبقُ

ولا لي مقامٌ ولا مَعْشقُ

ولكن طَرَبْتُ لآلِ الرّسول

فلذّ لي الشِّعرُ والمنطقُ

هُمُ الأكرمونَ هُمُ الأنجبون

نجومُ السماءِ بهم تُشرقُ

سبقتَ الأنامَ إلى الصّالحات

وأنت الجوادُ فلا تُلحقُ

أبوكَ الذي سادَ بالمَكْرُماتِ

فقصَّرَ عن سبقِهِ السُبَّقُ

به فتح اللَّهُ بابَ الرّشاد

وبابُ الفسادِ بكم يُغلَقُ(٣)

وفي مثل اليوم الثاني من شهر محرّم سنة ٦١ للهجرة نزل الإمام الحسين(ع) مع مَن كان معه من أهل بيته وأصحابه أرض كربلاء(٤) .

أقول: نزلوا كربلاء ورايات الهاشميين ترفرف على رؤوس الهاشميات فكلّما رفعت واحدةٌ منهنّ رأسها رأت راية أبي الفضل العباس هو واخوته وبقيّة آل أبي طالب يحوطون بالعائلة الكريمة ولكن حرّ قلبي لها كيف خرجت من كربلاء شمرٌ عن يمينها وزجرٌ عن شمالها، وكلّما رفعت واحدةٌ منهنّ رأسها رأت رؤوس حماتِها على الرّماحِ العالية:

هذي نساؤُكَ مَن يكون إذا سرت

في الأسرِ سائقُها ومَن حاديها

أيسوقُها زجرٌ بضربِ متونها

والشمرُ يحدوها بسَبِّ أبيها

____________________

(١) سورة الأنعام: الآية ١٢٤.

(٢) بحار الأنوار: ج٤٤، ص١٩٦.

(٣) ثمرات الأعواد: ج١ ص١٣.

(٤) الملهوف للسيّد ابن طاووس: ص١٣٩.

٥٧

عجباً لها بالأمسِ أنتَ تصونُها

واليومَ آلُ اُميّةٍ تبديها

* * *

مشينة والدمع يجري اعله الخدود

وهموم الگلب حملان وتزود

عگب هذا الولي المعروف بالجود

وعگب ذاك الأخو المگطوع الزنود

وعگب شبه النبي العترب ممدود

وعگب ذيك الأقمار الصيد الأسود

شمر يحدي بضعنة وناگتي يگود

* * *

فكم دعت زينبٌ والدّمعُ منهملُ

هذي الطفوفُ وفيها بالحشا شُعَلُ

أبكي على سادة بالطّف قد قُتلوا

بالأمس كانوا معي واليوم قد رحلوا

وخلَّفوا في سويدا القلبِ نيرانا

لاحول ولا قوة إلّا باللَّه العليّ العظيم

وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلبٍ ينقلبون والعاقبة للمتقين

٥٨

الليلة الثالثة المجلس السادس

الخروج من مكّة المـُكرّمة

فداءٌ لمثواكَ من مضجَعِ

تنوَّرَ بالأبلجِ(١) الأَرْوَعِ(٢)

بأعبقَ من نفحات الجنا

نِ رَوْحاً ومن مِسكها أضوَعِ

ورعياً ليومِكَ يومِ الطّفوفِ

وسَقياً لأرضِكَ من مصرعِ

وحزناً عليكَ بحبسِ النُّفوسِ

على نهجِكَ النيِّرِ المهيَعِ(٣)

وصوناً لمجدِكَ من أَن يُذالَ

بما أنت تأباه من مبدعِ

فيا أيّها الوَترُ في الخالدين

فذّاً إلى الآنَ لم يُشفَعِ

تعاليتَ من مُفزعٍ للحتوف

فبورِك قبرُكَ من مَفزعِ

تلوذُ الدُّهورُ فمن سجّدٍ

على جانبيه ومن ركّعِ

شمَمتُ ثراكَ فهبّ النّسيمُ

نسيمُ الكرامةِ من بلقعِ(٤)

وعفّرتُ خدّي بحيث استراح

خدٌّ تفرّى ولم يضرعِ

وحيثُ سنابِكُ خيلِ الطغاةِ

جالَت عليه ولم يخشعِ

وطفتُ بقبركَ طوفَ الخيالِ

بصومعةِ الملهَم المبدعِ

كأنّ يداً من وراءِ الضريحِ

حمراءَ مبتورةِ الإصبَعِ

____________________

(١) الأبلَج: هو الوضّاء.

(٢) الأروع: مَن يعجُبك بحسنهِ أو شجاعته.

(٣) الـمَهْيَع: البيّن الواضح.

(٤) البلقع: الأرض القفرة.

٥٩

تُمَدُّ إلى عالَم بالخنوع

والضيمِ ذي شَرقٍ(١) مترعِ

لتبدِلَ منه جديَبَ الضَّميرِ

بآخرَ معشوشِبٍ مُمرع

فيابنَ البتولِ وحسبي بها

ضماناً على كلِّ ما أدَّعي

ويابنَ التي لم يضَعْ مثلُها

كمثلِكَ حملاً ولم يُرضع

ويابنَ البطينِ بلا بطنةٍ

ويابنَ الفتى الحاسِرِ الأنزعِ

وياغصنَ هاشم لم ينفتح

بأزهرَ منكَ ولم يُفرعِ

وياواصلاً من نشيدِ الخلودِ

ختامَ القصيدةِ بالمطلعِ(٢)

* * *

____________________

(١) ذي شرق: ذي غصّة.

(٢) هذه الأبيات من قصيدةٍ عصماء للشاعر الكبير محمّد مهدي الجواهري.

قال السيد داخل السيد حسن في الجزء الأول من كتابه (من لا يحضره الخطيب):

ولد الشاعر محمد مهدي الجواهري فى حدود سنة ١٩٠٠م (في النجف الأشرف)، وهو ينتمي إلى أسرةٍ علميةٍ عريقة تعرف بأسرة آل صاحب الجواهر، وهو من أبرز شعراء العراق بل العرب المعاصرين قاطبةً.

له ديوان مطبوع في أربع مجلدات، وقصيدته العينية هذه هي من أروع ما قيل في الإمام الحسين(ع) وقد كتب منها خمسة عشر بيتاً على الباب الذّهبي في مشهد الإمام الحسين(ع)، ويقول الأستاذ الباحث محمد سعيد الطريحيّ في كتابه (أجراس كربلاء) إنّ الجواهري حدّثه عن اعتزازه الكبير بهذه القصيدة وقال له: إنها زادي إلى الآخرة.

توفي الجواهري في دمشق سنة ١٩٩٩م، ودفن في ضاحية السيدة زينب(ع).

٦٠