المجالس الحسنة في مناسبات السَّنَة

المجالس الحسنة في مناسبات السَّنَة0%

المجالس الحسنة في مناسبات السَّنَة مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 343

المجالس الحسنة في مناسبات السَّنَة

مؤلف: السيد أحمد الحكيم
تصنيف:

الصفحات: 343
المشاهدات: 39635
تحميل: 2559

توضيحات:

المجالس الحسنة في مناسبات السَّنَة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 343 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 39635 / تحميل: 2559
الحجم الحجم الحجم
المجالس الحسنة في مناسبات السَّنَة

المجالس الحسنة في مناسبات السَّنَة

مؤلف:
العربية

____________________

ولد في النجف الأشرف سنة ١٢٨٤ه ونشأ بها، وفي عام ١٢٩٨ه سافر بصحبة والدهِ إلى سامراء لتلقي العلم من الإمام الشيرازي ثمّ رجع مع أبيه سنة ١٣١١ه وعندما حلّ بسامراء أخذ الفقه والأصول من بعض الأساتذة هناك.

كان شديد الولاء لأهل البيت: عظيم التعلّق بمودّتهم، وقال يمدح الإمام أمير المؤمنين٧ من رائعة تتكون من ٩٠ بيتاً مطلعُها:

ليس يدري بكنه ذاتِكَ ما هو

يابن عمِّ النبيِّ إلا اللَّهُ

إلى أن يقول:

قلت للقائلين في أنك اللَّهُ

أفيقوا فاللَّهُ قد سوّاهُ

هو مشكاة نورِهِ والتجلّي

سرُّ قدسٍ جهلتُمُ معناهُ

قد براهُ من نوره قبل خلقِ ال

خلقِ طُرّاً وباسمِهِ سمّاهُ

وحباهُ بكلِّ فضلٍ عظيم

وبمقدارِ ما حباهُ ابتلاه

مرض في أواخر شهر ذي الحجّة الحرام من سنة ١٣٢٨ه، وانتقل إلى جوار ربّه في أول يوم من المحرّم من سنة ١٣٢٩ه ودفن بجوار والدِهِ في دارهم في النجف الأشرف.

ورثاه شقيقهُ العلامة الكبير شيخ الأدب السيّد رضا الهندي بقصيدةٍ أوّلها:

ما كان ضرَّ طوارقَ الحدثانِ

لو كان قبلكَ سهمُهُنَّ رماني

ياليت أخطاك الرّدى أو أنّه

لما أصابك لم يكن أخطاني

* * *

الشيخ قاسم الملا :

قال الشيخ محمد علي اليعقوبي في ج٤ من كتابه (البابليّات):

ولد في الحلة سنة ١٢٩٠ه كما أخبرني هو بذلك، وهو ثاني أنجال الشيخ محمّد الملّا، ولم يقم بعده من أولاده الأربع من ينوب عنه في الحِلة أدباً وخطابة سوى صاحب الترجمة فقد كان أشدّهم ملازمة له، وأوفرهم حظوةً لديه.

٨١

من اجت عد عمها حميده

گعدت تون ونّه شديده

تگله يعمي ابوي أريده

أشو سفرته صارت بعيده

يگلها وبگه يصفگ بإيده

بالكوفه أبيّك بگه وحيده

وأهل الغدر گطعوا وريده

صاحت وتجري الدّمع عل خد

يتيمة صرت اللَّه ولحّد

* * *

من كتابٍ لإمامِنا الحسين(ع) بعثه إلى أهلِ الكوفة: (إني باعثٌ إِليكم أخي وابنَ عمّي وثقتي من أهل بيتي مسلمَ بنَ عقيل)(١) .

بعد أن عرفت في المجلس السابق نسب الشهيد مسلم، ومكانتَهُ، وفضلَهُ وجهادَهُ تعال معي في هذا المجلس لنقف على قصّةِ إرساله من قبل الإمام الحسين(ع) سفيراً له لأهل الكوفة. لنأخذ الدروس والعِبر من هذا السّفير الحسيني، والمجاهد العقيلي. وننتفع من تفانيه في سبيل المبدأ والعقيدة.

قال الشيخ المفيد في (الإرشاد): ودعى الإمام الحسين(ع) مسلمَ بن عقيل فسرّحَهُ مع قيس بن مسهر الصيداوي وعمارة بن عبداللَّه السلولي

____________________

وقال السيد جواد شبر في (أدب الطف): الشيخ قاسم من خطباء الحلة ناظماً وناثراً وخطيباً محقّقاً له شهرته الخطابيّة، عاش ٨٤ سنة حيث ودّع الحياة ليلة الأربعاء رابع ربيع الثاني سنة ١٣٧٤ه، وحمل إلى النجف بموكبٍ من الحليين، ودفن بوادي السلام، وأقيمت له الفواتح، ورثي بكثير من القصائد.

(١) الإرشاد للشيخ المفيد: ص٢٠٤.

٨٢

وعبد اللَّه وعبد الرّحمن ابني شدّاد الأرحبي وأمره بالتقوى، وكتمان أمره، واللطف، فإن رأى النّاس مجتمعين مستوسقين عجّل إليه بذلك.

فأقبل مسلم حتى أتى المدينة فصلّى في مسجد رسول اللَّه(ص) وودّع من أحبّ من أهلِهِ واستأجرَ دليلين من قيس فأقبلا به يتنكبان الطريق فضلّا وأصابهما عطشٌ شديد فعجزا عن السّير فأومئا له إلى سنن الطريق بعد أن لاح لهما ذلك فسلك مسلم ذلك فنجا ومات الدليلان عطشاً. فكتب مسلم ابن عقيل من الموضع المعروف (بالمضيق) مع قيس ابن مسهر الصيداوي إلى الإمام الحسين(ع): أما بعد فإني أقبلتُ من المدينة مع دليلين فضلّا واشتدّ عليهما العطش فلم يلبثا أن ماتا فلم ننجُ إلّا بحشاشةِ أنفسِنا وذلك الماء بمكانٍ يُدعى المضيق من بطن الخبت وقد تطيّرت(١) من توجّهي هذا فإن رأيت أعفيتني وبعثت غيري والسلام.

والطيرةُ عادةٌ جاهليّة نهى عنها الإسلام. وملخّصها هو أن العربي إذا أراد سفراً يطلق طيراً في الهواء فإذا سار من اليمين إلى اليسار سُمّي البارح، وإذا سار من اليسار إلى اليمين سُمّي السّانح، وأهل الحجاز يتشاءمون بالسانح، وأهل نجد يتشاءمون بالبارح، وكانت العرب تتشاءم برؤية الأعور أو الشاة ذات القرن الواحد وما شابه ذلك، فعندما جاء الإسلام حارب هذه العادة أشدّ المحاربة حتى جاء في الحديث: (مَن أرجعتهُ الطِيرةُ عن حاجةٍ فقد أشرك) أو الحديث: (فإذا تطيّرت فامض)(٢) ، ولم يحكِ اللَّه تعالى التطيّر إلا عن أعداء الرّسل:

____________________

(١) قال الفيومي في (المصباح المنير): الطِيَرة وزن عِنَبة وهي التشاؤم. انتهى.

(٢) الشهيد مسلم للمحقّق المقرّم: ص٨٥.

٨٣

( إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَي’َمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ ) (١) .

وإلى هذه العادة أشار الكميت الأسدي في إحدى روائعه الخالدة:

ولا أنا ممّن يزجُرُ الطيرُ همَّهُ

أصاح غرابٌ أم تعرّض ثعلبُ

ولا السّانحاتُ البارحاتُ عشيّةً

أمرَّ سليمُ القرن أم مرَّ أعضَبُ(٢)

قال السيد المقرّم: لقّد تجلّى ممّا ذكرناه من رفع الطيرة في الشريعة الافتراء على مسلم بن عقيل في كتابه إلى الحسين(ع): إني تطيّرت من وجهتي هذه فإن رأيت أن تعفيني وتبعث غيري، فيكتب إليه الإمام: (أما بعد فقد خشيت ألا يكون الذي حملك على هذا إلّا الجبن فامض لوجهك الذي وجّهتك له)، فإنّ المتأمّل في صك الولاية الذي كتبه سيّد الشهداء لمسلم بن عقيل لا يفوته الإذعان بما يحملُهُ من الثبات والطمأنينة ورباطة الجأش إنّه لا يهاب الموت، فتلك الجملة التي جاء بها الرواة وسجّلها ابن جرير للحطِّ من مقام ابن عقيل الرفيع جاءت متفكّكة الأطراف واضحة الخلل كيف وأهل البيت ومن استضاء بأنوار تعاليمهم لا يعبأون بالطيرة ولا يقيمون لها وزناً، وليس العجب من ابن جرير إذ سجّلها ليشوّه بها مقام شهيد الكوفة كما هي

____________________

(١) سورة يس: ١٨ - ١٩.

(٢) يزجرُ الطير: أي ينهى، وسليم القرن: الذي له قرنان سالمان، والأعضب هو مكسور القرن.

٨٤

عادته في رجالات هذا البيت ولكنّ العجب كيف خفيت على بعض أهل النظر والتدقيق(١) .

ثمّ أقبل مسلم(ع) حتى دخل الكوفة فنزل في دار المختار بن أبي عبيدة، وأقبلت الشيعة تختلف إليه فكلّما اجتمع إليه منهم جماعة قرأ عليهم كتاب الحسين(ع) وهم يبكون حتى بايعه منهم ثمانية عشر ألفاً، فكتب مسلم إلى الإمام الحسين(ع) يخبره بذلك ويقول: أما بعد فإنّ الرّائدَ لا يَكْذِبُ أهلَهُ وقد بايعني من أهل الكوفة ثمانية عشر ألفاً فإذا وصلك كتابي هذا فالعجل العجل والسلام، وكان هذا الكتاب قبل مقتل مسلم بسبعٍ وعشرين يوماً(٢) .

ثمّ وصلت أخبار مسلم بن عقيل إلى والي الكوفة آنذاك وهو النعمان ابن بشير الذي كان والياً على الكوفة أيّام معاوية فأقرّه يزيد عليها فصعد المنبر فحمد اللَّه وأثنى عليه ثمّ قال: أما بعد فاتّقوا اللَّه عباد اللَّه ولا تسارعوا إلى الفتنة والفرقة فإنّ فيها تهلك الرّجال وتسفك الدماء، وتغصب الأموال وإنّي لا أقاتلُ مَن لا يقاتلني، ولا أتحرّش بكم، ولا آخذُ بالظّنةِ ولا التّهمة ولكنّكم إن أبديتم صفحتكم لي، ونكثتم بيعتكم، وخالفتم إمامكم فواللَّهِ الذي لا إِلهَ غيرُهُ لأضربنّكم بسيفي ما ثبت قائمُهُ بيدي... إلى آخر كلامه.

فقام إليه عبداللَّه بن مسلم بن ربيعة الحضرمي حليف بني أمية فقال له: إِنّه لا يُصلح ما ترى أيّها الأمير إلا الغشم، وإِنّ هذا الذي أنت عليه فيما بينك وبين

____________________

(١) الشهيد مسلم للمحقّق المقرّم: ص٩٧ - ٩٨.

(٢) المصدر السابق: ص١٠٥ عن تاريخ الطبري.

٨٥

عدوّك رأي المستضعفين. فقال له النعمان: لأن أكون من المستضعفين في طاعةِ اللَّه أحبّ إليّ من أن أكون من الأعزّين في معصية اللَّه ثمّ نزل، وخرج عبداللَّه بن مسلم وكتب إلى يزيد كتاباً قال فيه: أما بعد فإنّ مسلمَ بن عقيل قد قدمَ الكوفة وبايعتهُ الشيعة للحسين بن علي بن أبي طالب فإن يكن لك في الكوفة حاجة فابعث إليها رجلاً قويّاً ينفّذ أمرك ويعمل مثلَ عملك في عدوّك فإنّ النعمان بن بشير رجل ضعيف أو هو يتضعّف، ثمّ كتب إليه عمارةُ بن عقبة وعمر بن سعد بن أبي وقاص مثلَ ذلك، فلمّا وصلت الكتب إلى يزيد دعى سرجون مولى معاوية فقال له: ما رأيك إِنّ حسيناً قد أنفذ إلى الكوفة مسلمَ بن عقيل يبايع له وقد بلغني عن النعمان ضعفٌ وقول سيّ‏ء فمَن ترى أن أستعمل على الكوفة فقال له سرجون: أرأيت لو يشير لك معاوية حيّاً ما كنت أخذت برأيه؟ قال: بلى فأخرج سرجون كتاباً كتبه معاوية في حياته ولّى فيه عبيداللَّه بن زياد الكوفة، فقال سرجون ليزيد: ضمّ المصرين - الكوفة والبصرة - إلى عبيداللَّه فقال يزيد: أفعل ذلك وفعلاً كتب من ساعته كتاباً ولّى عبيداللَّه بن زياد الكوفة أيضاً وهذا نصّ الكتاب:

أما بعد، فإنه كتب إليّ شيعتي من أهل الكوفة يخبرونني أنّ ابنَ عقيل فيها يجمع الجموع ليشقّ عصا المسلمين، فسر حين تقرأ كتابي هذا حتى تأتي الكوفة فتطلب ابن عقيل طلب الخرزة حتى تقتله أو تنفيه والسلام، فلمّا وصله الكتاب أمر عبيداللَّه بن زياد بالتجهّز بسرعة وخرج من البصرة بعد أن خلّف أخاه عثمان على البصرة وأقبل يسير ومعه شريك ابن عبداللَّه الأعور الحارثي الهمداني البصري وحشمُه وأهلُ بيته حتى دخل الكوفة

٨٦

وعليه عمامة سوداء وهو متلثّم والناس قد بلغهم إقبال الحسين(ع) إليهم فهم ينتظرون قدومَه فظنّوا حين رأوا عبيداللَّه أنه الحسين(ع) فأخذ لا يمرّ على جماعةٍ من الناس إلّا سلّموا عليه وقالوا: مرحباً بك ياابن رسول اللَّه قدمتَ خيرَ مقدم فرأى من تباشرهم بالحسين(ع) ما ساءه فقال مسلم بن عمرو الباهلي - لما أكثروا في ذلك - تأخرّوا هذا الأمير عبيداللَّه بن زياد، وسار حتى وافي القصر بالليل ومعه جماعة قد التفّوا به لا يشكّون أنه الحسين(ع). فأغلق النعمان بن بشير والي الكوفة عليه الباب وعلى خاصّته ثمّ أخرج رأسَهُ وهو يظن الحسين بالباب فقال: أنشدك باللَّه إلّا تنحيّت واللَّه ما أنا بمسلِّمٍ إِليكَ أمانتي ومالي إلى قتالك من حاجة، فقال عبيداللَّه له: افتح لا فتحت فقد طال ليلُك فقالوا: هذا ابن مرجانة والذي لا إِله غيرُه ففتح له النعمان ودخل القصر فلمّا أصبح نادى في الناس الصلاة جامعة فاجتمع الناس فخرج وحمد اللَّه وأثنى عليه ثمّ قال: أما بعد فإنّ أمير المؤمنين يزيد ولّاني مصركم وأمرني بإنصاف مظلومكم وإعطاء محرومكم والإحسان إلى سامعكم ومطيعكم كالوالد البَر وسوطي وسيفي على من ترك أمري وخالف عهدي، ثمّ أخذ الناس أخذاً شديداً.

فلمّا سمع مسلم بن عقيل(ع) مجي‏ء عبيداللَّه إلى الكوفة ومقالته التي قالها خرج من دار المختار حتى انتهى إلى دار هاني بن عروة فدخلها، وأخذت الشيعة تأتي إليه في دار هاني على تستّر واستخفاء من عبيداللَّه بن زياد(١) .

____________________

(١) الإرشاد للشيخ المفيد: ص٢٠٦ - ٢٠٧.

٨٧

وفي بيت الزّعيم المجاهد هاني بن عروة وقعت حادثة مهمّة سيبقى التأريخ يذكرها بفمٍ عاطر وهي: أن شريك بن عبداللَّه الحارثي جاء مع ابن‏زياد من البصرة إلى الكوفة ونزل دار هاني بن عروة، فعندما جاء مسلم(ع) ونزل معه قال شريك لمسلم (وكان شريك مريضاً آنذاك): سيأتيني ابن زياد عائداً فخذ السيف وادخل المخدع فإذا استقرّ به الجلوس اخرج إليه واقتله، والعلامة بيني وبينك هي أن أَرفع عمامتي وأضعها على الأرض. وفعلاً قام مسلم(ع) ودخل وحضر ابن زياد فعندما استقرّ به الجلوس أخذ شريك عمامته من على رأسه ووضعها على الأرض ثمّ وضعها على رأسه فعل ذلك مراراً ومسلم لم يخرج فنادى بصوتٍ عال يُسمع مسلماً:

ما الانتظارُ بسلمى لا تحيُّوها

حيُّوا سليمى وحيُّوا من يُحيِّيها

هل شربة عذبة أُسقى على ظمأٍ

ولو تلفتُ وكانت منيتي فيها

فلو أحسَّت سليمى منك داهيةً

فلستَ تأمَنُ يوماً من دواهيها

وما زال يكرّرها ثمّ صاح بصوتٍ رفيع اسقونيها ولو كان فيها حتفي، فالتفت عبيداللَّه إلى هاني وقال: ابن عمّك يخلط في علّته فقال هاني: إنّ شريكاً يهجر منذ وقع في علّته وإنه يتكلّم بما لا يعلم، فلمّا ذهب ابن زياد وخرج مسلم قال له شريك: ما منعك من قتله؟ قال: منعني شيئان:

الأول: حديث سمعته عن عمّي أمير المؤمنين(ع) عن رسول اللَّه(ص): (إنّ الإيمانَ قيدُ الفتك فلا يفتك مؤمن).

والثاني: منعتني امرأةُ هاني وأقسمت عليّ باللَّه أن لا أفعل هذا في

٨٨

دارها وبكت في وجهي فقال هاني: ياويلها قتلتني وقتلت نفسها والذي فرّت منه وقعت فيه(١) .

ولكنّ السبب المخفي في عدم فتك مسلم بابن زياد هو أنّ مسلم(ع) كان سفيراً للإمام الحسين(ع) وهذا اللون من القتل - ولو لعدوٍّ فاجرٍ فاسق - لا يناسب المنصب الذي شرّفه به الإمام(ع) يقول السيد المقرّم في ذلك:

فمسلم(ع) كبقيّة رجالات أهل هذا البيت الرّفيع أراد بفعله هذا وبقيّة أعماله أن يفيض على الأمّة دروساً أخلاقية لا تعدوه الأمة في التجنّب عن رذيلة الفتك والغدر فتستفيد به كما استفادت من كلّ فرد من شهداء الطفّ إباء ونخوة وحمية(٢) .

و لما خفي على ابن زياد مكان مسلم بن عقيل دعا رجلاً اسمه (معقل) وأعطاه ثلاثة آلاف درهم وأمره أن يلقى الشيعة ويعرّفهم إنه من أهل الشام وقد أنعم اللَّه عليه بحبّ أهل البيت، وبلغه قدوم رجلٍ منهم يدعو للإمام الحسين وعنده مال يريد أن يوصله إليه.

وفعلاً جاء (معقل) ودخل الجامع الأعظم ورأى مسلمَ بن عوسجة الأسدي يصلّي وسمع الناس يقولون هذا يبايع للحسين اجتمع به وأوقفه على ما عنده فدعا له مسلم بن عوسجة بالخير والتوفيق وأخذ منه البيعة والمواثيق على الكتمان حتى لا يصل الخبر لابن زياد ثمّ أدخله على مسلم ابن عقيل في دار هاني بن عروة وسلّم المال إلى أبي ثمامة الصّائدي وكان

____________________

(١) الشهيد مسلم للمحقّق المقرّم: ص١٣٨ - ١٣٩.

(٢) المصدر السابق: ص١٤١.

٨٩

قد عيّنه مسلم لقبض الأموال ليشتري بها السّلاح، فبقي معقل يراقبهم وينقل الأخبار إلى ابن زياد عند المساء. و لما عرف ابن زياد ان مسلم مختبئ في دار هاني دعا أسماء بن خارجة ومحمّد بن الأشعث وعمرو بن الحجاج الزبيدي وسألهم عن سبب انقطاع هاني بن عروة عنه فقالوا: المرض يمنعُهُ فلم يقتنع ابن زياد فركب هؤلاء الثلاثة وسألوه المصير إلى ابن زياد وألحّوا عليه فجاء معهم و لما دخل على ابن زياد قال:

(أتتك بخائنٍ رجلاه) والتفت إلى شريح القاضي وقال:

أريدُ حباءَه ويريدُ قتلي

عذيرك من خليلك من مرادِ

ثمّ التفت إلى هاني قائلاً: أتيتَ بابن عقيل إلى دارك وجمعت له السلاح فأنكر هاني ذلك فلمّا كثر الجدال دعا ابن زياد ذلك الجاسوس (معقل) ففهم هاني أنّ الخبر أتاه من جهتِهِ فقال هاني: لم أدعه إلى منزلي وإنّما استجار بي وإذا أذنت لي أخرجته من داري فأبى ابن زياد أن يطلق سراحه إلّا أن يأتيه بمسلم، هنا صرّح هاني ابن عروة بعقيدته فقال: إنّ مسلم بن عقيل أحقُّ منك بالأمر وأنا سأقوم بحمايتك مع أهل بيتك حتى تخرجوا إلى الشام سالمين لأنّ مسلم أولى بالقيام على أمرِ الأمّة وإدارة شؤونها، فغضب ابن زياد من كلام هاني وألحّ عليه بالإتيان بابن عقيل فأفهمه هاني بأنّ هذا محالٌ عليه ويأباه دينه وعقيدته وقال: لو كان ابن‏عقيل تحت قدمي لما رفعتهما عنه، فأغلظ له ابن زياد في القول وتهدّده بالقتل فتعجّب هاني من جرأته وهو واحد ويتبع ابن عروة ثلاثون ألفاً

٩٠

من الرجال الأشداء فاستدناه ابن زياد وضرَبه على وجهِهِ حتى كسر أنفَهُ ونثرَ لحمَ خدّيه وجبينه وسال الدم على لحيته وهاني يستغيث فلا يُغاث ثمّ أمر به ابن زياد إلى الحبس(١) وعندما علم مسلم بن عقيل(ع) بذلك عجّل الخروج لعلّه يستطيع أن ينقذ حياة هاني بن عروة. فنادى المنادي بكلمة السر وهي (يامنصورُ أمِتْ)(٢) فخرج الكوفيّون وأحاطوا بقصر الإمارة وضاق الخناق على ابن زياد فلم يكن أمامَه من حيلة سوى إرعاب الناس بالقتل وترغيبهم بالمال، وفعلاً نزل جماعة من أعوان الشيطان منهم محمّد بن الأشعث وحجّار بن أبجر وشمر بن ذي الجوشن يمنّونهم العطاء مع الطّاعة، ويهدّدونهم بجند الشام الموهوم، ثمّ أشرف على الناس من أعلى القصر كثير بن شهاب حين كادت الشمس أن تغرب وقال: أيّها الناس الحقوا بأهاليكم لا تعجلوا الشرّ ولا تعرّضوا أنفسكم للقتل فإنّ هذه جنود أمير المؤمنين يزيد قد أقبلت وقد أعطى الأمير عهداً لئن بقيتم على حربكم ولم تنصرفوا من عشيتكم أن يحرم ذريّتكم العطاء ويفرّق مقاتلتكم في مغازي الشام، وأن يأخذ البري‏ء بالسقيم والغائب بالشاهد حتى لا يبقى فيكم بقيّة من أهل المعصية إلّا ذاق وبالَ ما جنت يدُهُ، وأمثال هذه الكلمات والألفاظ.

فأخذ الأخ يخذّل أخاه، والمرأة تتعلّق بزوجها حتى يرجع، والآباء يمنعون أبناءهم عن الجهاد ويحبّذون لهم العافية فتفرّق ذلك الجمع عن مسلم(ع) حتى لم يبق

____________________

(١) الشهيد مسلم للمحقّق المقرّم: ص١٥٠ - ١٥٢ بتصرّف.

(٢) منصور هو اسم رئيس الملائكة الذين نزلوا لنصرة النبي(ص) يوم بدر، وكان شعار المسلمين آنذاك يامنصور أمت. (من الحاشية)

٩١

معه إلّا ثلثمائة رجل، صلّى العشاء في المسجد ومعه ثلاثون رجلاً(١) وخرج(ع) من المسجد وغاب في أزقة الكوفة لا يدري أين وكيف سينتهي به الحال حتى وصل إلى باب دار وامرأة واقفة سلّم عليها وطلب منها الماء فسقته فجلس على الباب قالت له: ألم تشرب الماء؟ قال: بلى. قالت: فاذهب إلى أهلك بارك اللَّه فيك فسكت فأعادت عليه مثل ذلك فسكت فقالت له: سبحان اللَّه ياعبد اللَّه قم عافاك اللَّه إلى أهلك لا يصلح لك الجلوس على باب داري ولا أحلّهُ لك فقام وقال: ياأمة اللَّه مالي في هذا المصر أهلٌ ولا عشيرة فهل لكِ في أجرٍ ومعروف ولعلّي مكافيك بعد اليوم قالت: ياعبد اللَّه وما ذاك؟ قال: أنا مسلم بن عقيل كذّبني هؤلاء القوم وغرّوني قالت: أنت مسلم؟ قال: نعم. قالت: ادخل فدخل دارها:

اجت ليه العفيفة واسگته الماي

وگالت گوم شنهي گعدتك هاي

لا تگعد يروحي وماي عيناي

گوم وروح لهلك چاهلك وين

* * *

ون ونه يتگطّع منها الفواد

يهل حرّه هلي ما هم بالبلاد

غريب الدّار وهلي عنّي بعاد

وين أهلي هلي ما هم قريبين

* * *

نادت يابعد عگلي والأنفاس

كأنك هاشمي مومن عرض ناس

هله وكل الهله عل عين والراس

إِلك منزل يمسلم بين هل عين

____________________

(١) الشهيد مسلم: ص١٥٥ - ١٥٦.

٩٢

أنا مسلم وعندك ضيف هليل

فرحت طوعة ومنها الدّمع هليل

على رحب وسعة والوجه هلّل

بسرور تفضّل ومنّه عليّه

دخل دارها أفردت له حجرة عرضت عليه الطعام فلم يأكل، فما زال صافّاً قدميه للصلاة حتى عاد ولدها بلال رآها تكثر الدخول والخروج فسألها فقالت بني إِلهُ عن هذا ألحّ عليها قالت فلا تخبر أحداً من الناس بشي‏ءٍ ممّا أخبرك به؟ قال: نعم أخذت عليه الأيمان فحلف لها فأخبرته ولكن ما أصبح الصباح حتى ذهب إلى ابن زياد وأخبره الخبر. أما مسلم(ع) عندما جاءته طوعة ورأت الطعام على حاله قالت: سيدي ما أراك أكلت قليلاً ولا نمت قليلاً قال: بلى هوّمت عيناي فرأيت عمّي أمير المؤمنين في الرؤيا وهو يقول: ولدي مسلم إنك عن قريب صائرٌ إلينا فبينا هي تحادثه وإذا بوقع الخيل وإذا هو محمّد بن الأشعث ومعه خمسمائة فارس فقام مسلم وشدّ وسطه بمنطقه وحمل سيفه وتدرّع بدرعه وخرج إلى القوم وهو يرتجز:

أقسمتُ لا أُقتَلُ إلّا حُرّا

وإن رأيتُ الموتَ شيئاً نُكرا

أخافُ أن أُخدَعُ أو أُغرَّا

كلّ امرى‏ءٍ يوماً ملاقٍ شرّ

قاتلهم قتال الشجعان فقتل منهم مقتلةً عظيمة فأخذوا يشعلون النار بالقصب ويرمونها عليه، ويرضخونه بالحجارة فلم ينفع حتى حفروا له حفيرة وغطّوها بالتراب إنهزموا من بين يديه فسقط في الحفيرة فاجتمعوا عليه وأخرجوه فضربه محمّد بن الأشعث على فمه فسالت دماؤه على لحيته الكريمة وأخذوا سيفه

٩٣

فبكى فقال له ابن الأشعث: إنّ الذي يطلُبُ مثلَ ما تطلُبُ إذا نزل به الذي نزل بك لا يبكي عندها قال: واللَّه ما على نفسي بكيت ولكن أبكي لأهلي المقبلين أبكي لحسينٍ وآل حسين.

جاءوا به إلى قصر الامارة وأدخلوه على ابن زياد دار بينهما كلام فشتمَ اللعينُ أميرَ المؤمنين(ع) والإمام الحسن والحسين وعقيل حتى أمر أن يُصعد إلى أعلى القصر وتُضرب عنقُهُ وفعلاً ضربه الغلام فقتله ومضى إلى ربّه مظلوماً شهيداً غريباً ورميت جثّته من أعلى القصر إلى الأرض ثمّ أخرجوا هاني ابن عروة وهو ينادي وامذحجاه ولا مذحج لي اليوم حتى ضُربت عنقُهُ وربطوا برجليهما الحبال وسحبوهما في الأسواق:

فإن كنت‏لاتدرين ماالموت فانظري

إلى هاني‏ءٍ في السوق وابن عقيلِ

إلى بطلٍ قد هشَّمَ السيفُ وجهَهُ

وآخرَ يَهوي من طمارٍ قتيل

أصابهما أمرُ اللعينِ فأصبحا

أحاديثَ من يسري بكلِّ سبيلِ

* * *

عاده اليستجير يكون ينجار

وعن قتله حليف الشرف ينجار

مثل مسلم صدگ بالحبل ينجار

وتتنومس بقتله أرذال اميه

و لما سمع الإمام الحسين(ع) بمصرع مسلم وذلك عندما وصلَ إلى منطقة تُعرف بـ (زرود) كأني بالإمام(ع) قام يتخطّى الأطفال حتى وقف على حميدة بنت الشهيد مسلم فأخذ يمسح على رأسها ودموعه جارية فأحست الطفلة فقالت: ياخال ياأبا عبداللَّه هل أصيب أبي بشي‏ء؟ قال لاعليك أنا أبوك وهذه النسوة أخواتك ولسان الحال:

٩٤

گلبي كسرته ياغريب الغاضرية

مثل اليتامى تمسح بكفّك عليه

* * *

تمسح على راسي ودمع‏العين همّال

كأني يتيمةالكافي‏اللَّه من هل احوال

ماعوّدتني بهل فعل من گبل ياخال

خلّيت عبراتي على خدودي جريّه

* * *

بمسحك‏ على راسي ‏تركت ‏الگلب ‏ذايب

وهذا يخالي ‏من ‏علامات ‏المصايب

گلبي تروّع حيث أبوي بسفر غايب

طوّل الغيبه يعوده اللَّه بعجل ليّه

* * *

جاني ‏الخبر عن حال مسلم يا حزينه

يگولون من قصر الإماره ذابينه

وبالحبل ‏في‏ الأسواق‏ جسمه‏ ساحبينه

وراسه يويلي راح للطاغي هديه

* * *

صرخت ‏الطفله ‏والدمع‏ بخدودها يسيح

وتگوم ‏مذعوره ‏وعلى وجه ‏الثره ‏تطيح

تلطم ‏على ‏الهامه‏ بعشرها ونوبٍ‏ تصيح

فگد الأبوياناس ‏أعظم‏ كل ‏رزيه

* * *

لم يبكها عدمُ الوثوق بعمِّها

كلّا ولا الوجدُ المبرِّحُ فيها

لكنّها تبكي مخافةَ أنَّها

تُمسي يتيمةَ عمِّها وأبيه

لاحول ولا قوة إلا باللَّه العليّ العظيم

وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلبٍ ينقلبون والعاقبة للمتقين

٩٥

الليلة الخامسة المجلس التاسع

فضل أصحاب الإمام الحسين(ع)

كيف تهنيني الحياةُ وقلبي

بعد قتلى الطّفوفِ دامِ الجِراحِ

بأبي مَن شَرَوا لِقاءَ حسينٍ

بفراقِ النُّفوسِ والأرواحِ

وقفوا يدرؤونَ سُمرَ العوالي

عنه والنّبلَ وقفةَ الأشباحِ

فوقَوهُ بيضَ الظُّبى بالنُّحورِ البـ

ـيض والنّبلَ بالوجوهِ الصِّباحِ

فئةٌ إن تعاورَ النّقعُ ليلاً

أطلعوا في سماه شُهبَ الرّماحِ

وإذا غنّتِ السيوفُ وطافت

أكؤسُ الموتِ وانتشى كلُّ صاحِ

باعدوا بين قربِهم والمواظي

وجسومِ الأعداءِ والأرواحِ

أدركوا بالحسين أكبرَ عيدٍ

فغدَوا في منى الطّفوفِ أضاحي

لستُ أنسى من بعدهم طودَ عِزٍّ

وأعاديه مثلُ سيلِ البِطاحِ(١)

* * *

گضوا حق العليهم دون الخيام

ولا خلّوا خوات حسين تنضام

لما طاحوا تفايض منهم الهام

تهاوَوا مثل مهوى النّجم من خر

* * *

هذا الرّمح بفواده تثنّه

وهذا بيه للنشّاب رنّه

وهذا الخيل صدره رضرضنه

وهذا وذاك بالهندي موذّر

* * *

____________________

(١) هذه ‏الأبيات ‏من ‏قصيدةٍ عصماء للمرحوم ‏السيد جعفر الحِلي (ره)، ومرّت ترجمته ‏في ‏ص٤٣.

٩٦

ركب غوجه وتعنّه حسين ليها

لگاها بس جثث ومسلّبيها

صبّ الدّمع وتحسّر عليها

وگال احتسب عند اللَّه وأصبر

* * *

من خطبة لأبي عبداللَّه الحسين(ع) قال: أمّا بعدُ فإني لا أعلمُ أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي، ولا أهلَ بيتٍ أبرَّ ولا أوصلَ من أهل بيتي فجزاكم اللَّهُ عنّي خيراً(١) .

بهذه الكلمة الذهبية الخالدة، وبهذا المدح الـمُركّز والتوثيق الذي لم يسبقهُ مثيل يُعرِّف الإمام الحسين(ع) أصحابه وأهل بيته الأوفياء.

قوله(ع): (لا أعلم أصحاباً أوفى..الخ) يعني أنّ الإمام(ع) وهو الحجّة المعصوم الوارث لعلوم جدّه وأبيه وجميع الأنبياء الذين كان علمهم بتوسّط الوحي والإلهام الإلهي لا بتعليم معلّم أو تفهيم مفهّم يقول لا أعلم أنّ هناك أصحاباً في كلّ زمان ومكان، وفي كلّ عصر ومصر أولى من أصحابي ولا أبرّ وأوفى ولا أوصل منهم، فصار أصحابه(ع) أفضل من أصحاب كلّ نبيّ ووصيّ.

ولكنّ الأفضليّة هنا هي بمقابلة المجموع بالمجموع لا بمقابلة الواحد بالواحد بمعنى أنّ مجموع أصحاب الإمام الحسين(ع) أفضل من مجموع أصحاب رسول اللَّه أو أمير المؤمنين (صلى اللَّه عليهما وآلهم)، لا بمعنى أنّ كلّ واحد من أصحاب الإمام الحسين(ع) أفضل من كلّ واحد من أصحاب رسول اللَّه(ص) فإنّ من أصحاب رسول اللَّه(ص) سلمان وأباذر وهما في

____________________

(١) إبصار العين في أنصار الحسين(ع) للمرحوم الشيخ محمد السماوي: ص٩.

٩٧

الإيمان والقرب بحيث يصعب أن يُقاس بهم واحد من أتباع الأنبياء والأوصياء، وانّ في أصحاب أمير المؤمنين(ع) مالك الأشتر وهو الآخر يصعب أن يُدانيه أحد من أصحاب الأنبياء والأوصياء وهكذا.

روى الشيخ الصدوق؛ في (علل الشرائع) عن ميثم التمّار: أنّ الحسين ابن علي(ع) سيدّ الشهداء يوم القيامة ولأصحابه على سائر الشهداء درجة(١) .

وروى الشيخ ابن قولويه؛ في (كامل الزيارات) عن أمير المؤمنين(ع) أنّه مرّ بكربلاء فطاف بها على بغلتِهِ فأنشأ يقول: (مناخ ركاب ومصارع الشهداء لا يسبقهم من كان قبلهم ولا يلحقهم مَن أتى بعدهم)(٢) .

ويقول المرحوم الشيخ جعفر الشوشتري: لقد تأمّلت فرأيت أنّ أفضليّة شهداء كربلاء على سائر الشُهداء ليس أمراً اعتباطياً، وحيازتهم على هذه الدرجات العالية ليس اعتباطياً بل يعود إلى كمالهم في العبودية للَّه بحيث أنّهم الأكمل في جميع المراتب، فهم سادةُ الموحّدين، وسادةُ المتيقّنين، وسادةُ المصلّين والصائمين والمزكّين والمخمّسين وسادةُ المضحّين في سبيل اللَّه تعالى(٣) .

ترى لهُمُ عند القِراعِ تباشراً

كأنّ لهم يومَ الكريهةِ عيدُ

فما وهَنوا عن نصرةِ الدِّين والهُدى

إلى أن تفانى جمعُهُم وأُبيدوا

____________________

(١) علل الشرايع: ج١ ص٢٢٧ ح ١٢.

(٢) كامل الزيارات: ص٢٧٠ ح ١٢.

(٣) فوائد المشاهد: ص٣٩٣.

٩٨

ويقول المرحوم الشيخ عباس القمّي في (نفس المهموم): أصحاب الإمام الحسين رضوان اللَّه تعالى عليهم هم سادات الشهداء يوم القيامة والرّاضون عن اللَّه تعالى وهو راضٍ عنهم، وأخبر النبي(ص) عنهم في اخباره بشهادة الحسين(ع) بقوله: وهو يومئذٍ في عصبةٍ كأنّهم نجوم السماء يتهادون إلى القتل، وكأنّي أنظر إلى معسكرهم وإلى موضع رحالهم وتربتهم(١) .

فما أحقهم بوصفِ من قال:

للَّهِ قومٌ إذا ما الليلُ جنَّهُمُ

قاموا من الفرشِ للرّحمنِ عبّادا

ويركبون مطايا لا تملُّهُمُ

إذا هُمُ بمنادي الصبحِ قد نادى

هُمُ إذا ما بياضُ الصبح لاح لهم

قالوا من الشوقِ ليتَ الليلَ قد عادا

هُمُ المطيعون في الدّنيا لسيّدهم

وفي القيامةِ سادوا كلَّ مَن سادى

الأرضُ تبكي عليهم حين تفقدهم

لأنّهم جُعلوا للأرضِ أوتادا(٢)

تعال واُنظر إلى تفانيهم في نصرة الدين والهدى، فهذا سعيد بن عبداللَّه الحنفي قام حين جمعهم الإمام الحسين(ع) ليلة العاشر وأَذِنَ لهم بالانصراف وقال لهم: هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً، قام سعيد فقال: واللَّه لا نخلّيك حتى يعلمَ اللَّهُ أنّا قد حفظنا نبيّه محمداً(ص) فيك، واللَّه لو علمت أني أُقتلُ ثمّ أحيى ثمّ أُحرق حياً ثم أذرّ يُفعل بي ذلك سبعين مرّة ما

____________________

(١) نفس المهموم: ص٦٢٦ - ٦٢٧.

(٢) نفس المهموم: ص٦٣٠.

٩٩

فارقتك حتى ألقى حمامي دونك، فكيف لا أفعل ذلك وإنّما هي قتلةٌ واحدة ثمّ هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبداً، وفعلاً وفى سعيد بما قال وضمّ إلى قوله فعلاً أكسبه الثناءَ في الدنيا، وأحسن الجزاء في الآخرة، وذلك انّه لما صلّى الإمام الحسين(ع) الظهر صلاة الخوف، اقتتلوا بعد الظهر واشتدّ القتال ولما قرب الأعداء من الحسين وهو قائمٌ بمكانه تقدّم سعيد الحنفي أمام الحسين(ع) وصار هدفاً لهم يرمونه بالنّبل يميناً وشمالاً وهو قائمٌ بين يدي الإمام(ع) يقيه السهام طوراً بوجههِ وطوراً بصدره وطوراً بيديه وطوراً بجنبه فلم يصل إلى الإمام(ع) شي‏ءٌ من ذلك حتى سقط سعيد الحنفي إلى الأرض وهو يقول: اللهمّ العنهم لعنَ عادٍ وثمود، اللهمّ ابلغ نبيّك عنّي السلام وابلغه ما لقيتُ من ألمِ الجراح، فإنّي أردت ثوابك في نصرة نبيّك، ثمّ التفت إلى الإمام الحسين(ع) فقال: أَوَفَيْتُ ياابن رسول اللَّه قال: (نعم أنت أمامي في الجنّة)، ثمّ فاضت نفسُهُ النّفيسة(١) .

وهذا جون مولى أبي ذرّ الغفاري وقف أمام الإمام الحسين(ع) يستأذنه في القتال فقال له الإمام(ع): (يا جون أنت في إذنٍ منّي فإنّما تبعتنا طلباً للعافية فلا تبتلِ بطريقتن)، فوقع جون على قدمي أبي عبداللَّه يقبّلهما ويقول: ياابن رسول اللَّه(ص) أنا في الرّخاء ألحسُ قصاعكم وفي الشدّة أخذلكم إنّ ريحي لنتن، وحسبي للئيم، ولوني لأسود فتنفّس عليّ في الجنّة ليطيب ريحي، ويشرُف حسبي، ويبيض لوني، لا واللَّه لا أفارقكم حتى يختلط هذا الدّم الأسود مع دمائكم، فأذن له الإمام الحسين(ع) فبرز وهو يقول:

____________________

(١) إبصار العين: ص١٢٦.

١٠٠