دروس في فنّ الخطابة

دروس في فنّ الخطابة0%

دروس في فنّ الخطابة مؤلف:
المحقق: معهد سيد الشهداء للمنبر الحسيني
الناشر: جمعية المعارف الاسلامية الثقافية
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 128

دروس في فنّ الخطابة

مؤلف:
المحقق: معهد سيد الشهداء للمنبر الحسيني
الناشر: جمعية المعارف الاسلامية الثقافية
تصنيف:

الصفحات: 128
المشاهدات: 18211
تحميل: 3990

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 128 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 18211 / تحميل: 3990
الحجم الحجم الحجم
دروس في فنّ الخطابة

دروس في فنّ الخطابة

مؤلف:
الناشر: جمعية المعارف الاسلامية الثقافية
العربية

ملاحظة : لقد ذُكرت مصادر الكتاب في صفحات منفردة ؛ لذا تمّ نقلها إلى صفحاتها المناسبة لها ؛ لكي يسهل للقارئ مطالعتها ، وعليه لا نعيد هذه الملاحظة مرّة أُخرى في الصفحات القادمة عندما ترونها خالية. [ موقع معهد الإمامين الحسنين (عليهما‌السلام ) للخطابة ]

٢١

الدرس الثاني :

الجهة الخاصّة للخطيب

يقع البحث عمّا يجب على الخطيب فعله حال الإلقاء أو قبله ، والكلام فيها من جهتين ، أو فلنقل في موضعين :

الموضع الأوّل : مقدّمات إلقاء الخطاب

وهي ثلاث مقدّمات رئيسيّة :

الأولى : الاطلاع على أصول فنّ الخطابة وحفظ قواعده ، والسعي لتطبيقها أثناء إلقاء الخطاب مهما أمكن ؛ فإنّ ذلك أمر أساسيّ لـمَنْ يريد أن يُصبح خطيباً ناجحاً ، وأمّا أولئك الذين يخطبون في الناس دون أن يسيروا على هدى من أمرهم ، ودون أن يعرفوا ما يجب فعله وما يجب تركه فأولئك سيبقون خطباء فاشلين مدى عمرهم ، وإن وصلوا فسوف يصلون متأخّرين بعد أن يكونوا قد أفنوا كثيراً من عمرهم في التعلّم من التجارب.

الثانية : كثرة المطالعة والتمعّن في كلّ ما يقرأ ، وحفظ أكبر قدر ممكن من القرآن ونهج البلاغة مع الاطلاع التامّ على معنى ما يحفظ ، وعلى المناسبة التي نزلت فيها الآية ، وأُلقيت فيها الخطبة، وعلى ما

٢٢

وردّ فيها من محطّات بيانيّة ، أو مفردات لغويّة فصيحة ، أو تراكيب بليغة إلى ما هنالك من أمور تساعد مَنْ يطّلع عليها في طلاقة اللسان ، وحسن التعبير عن المقصود ، ويعطيه مخزوناً من الألفاظ والمعاني الجميلة التي لا غنى في هذا المضمار عنها.

وقد أكّد ابن الأثير على ذلك في كتابه ( المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر ) حيث قال: إنّ في الاطلاع على أقوال المتقدّمين من المنظوم والمنثور فوائد جمّة ؛ لأنّه يعلم منه أغراض الناس ونتائج عقولهم ، يعرف به مقاصد كلّ فريق منهم وإلى أين ترامت به صنعته في ذلك ؛ فإنّ هذه الأشياء تشحذ القريحة وتقوّي الفطنة... ؛ فإنّه إذا كان مطّلعاً على المعاني المسبوق إليها قد ينقدح له من بينها معنى غريب لم يسبق إليه(١) .

ثمّ إنّ مَنْ يريد أن يكون خطيباً ناجحاً فعليه أن يطّلع على مقدار جليل من العلوم ، خصوصاً السيرة والتاريخ ، والأخلاق والتفسير ، وأصول الفقه والسياسة ، وعلم الاجتماع وعلم النفس والمنطق ، بالإضافة إلى جمع المعلومات المتفرّقة الذي يحصل بالإكثار من مطالعة المجلات التي تحتوي على مباحث دقيقة ، وإحصائيّات ذات أرقام موثوقة ، وأخبار العالم الإسلامي وحتى غير الإسلامي ؛ فإنّ الخطيب يحتاج إلى كثرة الاطلاع من جهة ، وإلى حفظ أهمّ ما يقرأه من جهة أُخرى.

وقد نقل الجاحظ في البيان والتبيين عن الخليل بن أحمد الفراهيديّ أنّه قال : تكثّر من العلوم لتعرف ، وتقلّل منها لتحفظ(٢) .

____________________

١ - المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر.

٢ - البيان والتبيين / ١٤١.

٢٣

وكلّما ازداد المخزون الثقافيّ عند المرء ازدادت قدرته على اكتساب ثقة الناس الذين يستمعون لكلماته.

الثالثة : المران والممارسة ؛ فإنّه ما من علم إلّا ويحتاج صاحبه للممارسة والتمرين ، وإلّا فسوف يأتي عليه يوم يرى نفسه فيه وحيداً نضب ما كان له من ماء علم ، وجفّ ما كان لديه من معين فنّ ، وربما أعطت الممارسة ما لا يمكن أن تعطيه المطالعة أو الدراسة ؛ إذ قد يتوصّل المتمرّس إلى قواعد جديدة ونظريّات حديثة ، ويحصل على ملكات خطابيّة لا يمكن تحصيلها إلّا بكثرة التجارب في هذا الحقل.

ولا أدلّ على ذلك ممّا نشاهده ونلمسه من أنّ الإنسان الذي يقف على المنبر لأوّل مرّة يرى فيه ارتباك واضطراب ظاهران ، ولا يقدر على أداء ما لديه من معلومات بشكل مطلوب ولو كان عالماً متبحّراً.

وأمّا مَنْ تمرّس على صعود المنابر وإلقاء الخطب ، وتعوّد على مقابلة الناس والتحدّث إلى الجماهير والإقبال عليهم بوجهه فنراه يهدر كالسيل الجارف ، بل لا يكاد يتمّ عبارة جيدة إلّا ويبدأ بأخرى أجود ، وهكذا إلى أن يشغف الجمهور بقوله ويأنس بكلامه ، ويتمنّى المستمعون لو أنّ خطبته تلك ليس لها نهاية.

وقد أطلعني أحد المعارف العلماء أنّه بينما كان يحضر حفلاً خطابيّاً قد دُعي إليه كبار الخطباء في إيران ، جاءه أحد الأشخاص سائلاً إيّاه عن تفسير إحدى الآيات فشرحها له بما حضره ، وما هي إلّا دقائق حتى ارتقى ذلك الشخص المنبر وبدأ خطاباً حول معنى

٢٤

تلك الآية وما يرتبط بها من أمور ، وهو يتدفّق كالشلال بأسلوب رزين ، وحركات محكمة ، ونظرات موزّعة ، والناس مشدودون إليه ، وكأنّ على رؤوسهم الطير حتى إنّني قد أُعجبت به ، وكدت أشكّك في نفسي بأنّ الذي فسّر الآية لم يكن إيّاي. وهذا يشير بوضوح إلى أهميّة الممارسة والمران.

أمّا أمثلة تأثير الممارسة على متعلّم الخطابة فكثيرة نكتفي بمثالين :

المثال الأوّل : ديموستين

أحد أخطب اليونانيّين القدامى ، وقد قيل : إنّه حينما حاول التكلّم على المنبر لأوّل مرّة أثار في سامعيه غريزة الضحك وأخذوا يسخرون منه ، إلّا إنّه صمّم على أن يكون خطيباً ، وأخذ يتمرّن على الخطابة إلى أن وصل إلى مرتبة من التمكّن منها أمكن معها القول أنّه خطيب اليونانيّين الأوحد.

المثال الثاني : ما يحكى عن فضيلة الشيخ أحمد الوائليّ

وهو من مشاهير الخطباء المسلمين المعاصرين في ميدان الخطب الدينيّة ، بل بعض أنواع المحاضرات العلميّة أيضاً ، فقد نُقل أنّه قال عن نفسه : أنّه حينما حاول الخطابة لأوّل مرّة ضحك منه زملاؤه الذين كانوا يشاركونه درس الخطابة.

ولكنّنا نرى أنّه بالممارسة والمثابرة وصل إلى مرتبة يُغبط عليها ، ومُدح من كبار العلماء.

وأمّا بالنسبة لِما قيل من لزوم وجود ما سُمّي بالاستعداد الفطريّ للخطابة عند مَنْ يريد أن يُصبح خطيباً فليس لذلك أساس من

٢٥

الصحّة ؛ إذ يمكن لأيّ إنسان وطّد نفسه على أن يُصبح خطيباً ، وعزم على تحمّل المشاق من أجل خطب ودّها وسعى لذلك دون يأس أو ملل ، محاولاً جهده تعلّم فنونها وتطبيق قواعدها ؛ فإنّه سينالها لا محالة ولو لم يكن عنده ذلك الاستعداد المزعوم.

الموضع الثاني : ما يجب فعله حال إلقاء الخطاب

أوّلاً : لا بدّ من ذكر ثلاث توصيات نقدّمها للخطيب ؛ كي ينتفع بها في هذا المجال ، وهي :

الأولى : من المستحسن للخطيب إلّا يكون جائعاً فارغ المعدة ، ولا شبعاناً متخماً ؛ فإنّ لكلّ منهما أثراً سلبيّاً عليه.

فالشبع يمنعه من أن يتمتّع بصوت عال ونفس طويل ، بل قد تتلبّد أفكاره ، ويأخذه النعاس فيتثاءب وحينئذٍ يفقد الخطاب رونقه وتأثيره على الناس ، كما إنّ الجوع يمنعه من التمادي في الكلام ، ومن تناسق الصوت ؛ فإنّ البدن يعطي جهداً حال الخطاب ، خصوصاً إذا كان هناك حاجة للصوت العالي ، فلو كانت المعدة خالية لا يمكن للجسم أن يتحمّل جهداً كبيراً كما هو ظاهر وواضح.

الثانية : يحسن به أيضاً أن يكون مرتدياً ما يناسب جوّ الحفل من البرودة والحرارة ، وإلّا أخذته رعشة القرّ فمنعته عن حريّة التكلّم ، أو أصابه الحرور فتصبّب عرقاً ، ممّا يجعل المستمعين يعدّون ذلك خجلاً منه وارتباكاً ، وهما عيبان في الخطيب.

الثالثة : يحسن به أيضاً قبل حال التكلّم أن يدخل إلى بيت الخلاء ويقضي حاجته ؛ كي لا تصيبه المدافعة حين التكلّم فيضطر أن يقصّر

٢٦

خطبته فيخلّ بالمطلوب ، أو يضطرّ إلى أفعال أُخرى لا تليق به ؛ وممّا لا يشكُ فيه أن ذلك له تأثير قويٌّ على التفكير.

ثانياً : أمّا ما يجب فعله حال الخطاب يمكن حصره في سبع مسائل :

المسألة الأوّلى : يجب أن يكون الخطيب مستحضراً كلّ النقاط التي يريد أن يتعرّض لها فيما لو كان خطابه ارتجاليّاً ، وذلك بأن يكون قد نسّق أفكاره التي يريد أن يطرحها ورتّبها مسبقاً.

فلا بدّ أن يقدّم ما حقّه التقديم ، ويؤخّر ما حقّه التأخير ، ويهيّئ لذلك بعض الألفاظ المعيّنة يستعين بها حال الإلقاء تكون كمخزون لغوي عنده.

ولا بدّ أن يكون مستذكراً الكلام الذي يريد إلقاءه كي لا يأخذه حصر الكلام فيصيبه العيّ كما حصل مع كثيرين ، أمثال : مصعب بن حيّان حين دُعي لإلقاء خطبة في مناسبة عقد نكاح، ولمـّا وقف للتكلّم أخذه العيّ وارتبك وتشتّت أفكاره ، فنسي ما كان يريد قوله ، فإذا به يقول : لقنّوا موتاكم شهادة أن لا إله إلّا الله.

فغضبت أُمّ العروس أشدّ الغضب ، وقالت له : عجّل الله موتك ، ألهذا دعوناك ؟!

فضحك الناس جميعاً(١) .

ولو لم يكن الخطيب مستعدّاً ومستحضراً أفكاره لواجه أحد أمرين :

١ - أن يقول ما لا يريد قوله ، وقد يكون ثمن ذلك غالياً ، بأن يتلفّظ بألفاظ لا يريدها تضع من شأنه ، أو يتلفّظ بما يكون مستمسكاً عليه لخصومه فيفسح لهم المجال للحطّ من قدره وسمعته، أو

____________________

١ - جمهرة خطب العرب ٣ / ٣٥٢.

٢٧

يتكلّم بما يثير السخرية والاشمئزاز ، كما حصل لأحد الخلفاء العبّاسيّين حينما صعد المنبر لإلقاء خطبة الجمعة ، وقد كان على نزاع مع زوجته إثر خلافات وقعت بينهما ، فخرج وهو يفكّر بطلاقها ، وحينما استوى على المنبر قال : أمّا بعد... ، فانعقد لسانه ونسي ما كان يريد أن يقوله فما نطق إلّا بقول : زوجتي فلانة طالق.

فضحك الناس منه ضحكاً شديداً.

٢ - أن يترك المنبر دون أن يتكلّم بشيء وسط جوّ من اشمئزاز الجمهور وسخريته ، اللّهمّ إلّا إذا كان حادّ الذهن متوقّده ، فإنّه قد ينجو بنفسه بأن يورد كلاماً آخر غير ما كان يريد قوله أوّلاً.

وقد اتفق ذلك لكثيرين من الخطباء المشهود لهم(١) ، ومنهم ثابت قطنة(٢) أحد أمراء سجستان ، حيث صعد المنبر يوم الجمعة فنسي ما كان يريد قوله ، وارتجّ عليه ، وظهر ذلك للناس ، فتدارك قائلاً : سيجعل الله بعد عسر يسراً ، وبعد عيّ بياناً ، وأنتم إلى أمير فعّال أحوج منكم إلى أمير قوّال ، وأنشد :

فألا أكن فيكم خطيباً فإنّني

بسيفي إذا حدَّ الوغى لخطيبُ(٣)

ويُقال أنّه لـمّا وصل نبأه إلى خالد بن صفوان قال : واللهِ ما علا ذلك المنبر أخطب منه في كلماته هذه.

____________________

١ - راجع باب نوادر الخطباء في أواخر هذا الكتاب.

٢ - وفي كتب أُخرى ( ثابت بن قطبة ).

٣ - أمالي السيّد المرتضى ، علم الهدى ٤ / ٢١.

٢٨

٢٩

الدرس الثالث :

ما يجب فعله حال الإلقاء

المسألة الثانية : الاهتمام بالمظهر الخارجي

الاهتمام بالمظهر الخارجيّ للخطيب بحيث يظهر أمامهم بما يدعو إلى تقديره واحترامه والوثوق بقوله ، وبما يتناسب مع ما يريد أن يقوله ، وذلك يحصل بأمرين :

الأمر الأوّل : لباسه وهندامه

من اللازم على الخطيب أن يعرف نفسيّات المجتمعين ، وما يجب على مثله أن يظهر به بينهم، فقد يقتضي المقام أن يظهر الخطيب بأفخر لباس وأحسن بزّة ما يليق به ، وقد يقتضي أن يظهر بمظهر متواضع كزاهد أو ناسك ، وذلك يختلف باختلاف الدعوة التي يدعو إليها ، وباختلاف طباع الحاضرين ؛ فكثير من الواعظين يتأثّر الناس بهم بمجرّد النظر إليهم قبل أن يتفوّهوا بكلمة.

ألا تعتقد أنّ خطيباً على الهيئة التي يصفها نوف البكاليّ حيث يقول في مستهلّ خطبة من خطب أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) قبل أن يرويها : خطبنا بهذه الخطبة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه‌السلام )

٣٠

الكوفة ، وهو قائم على حجارة نصبها له جعدة بن هبيرة المخزوميّ ، وعليه مدرعة من صوف ، وحمائل سيفه ليف ، وفي رجليه نعلان من ليف ، وكأنّ جبينه ثفنة بعير(١) .

ألا تعتقد أنّ الخطيب الذي على هذه الهيئة سيؤثّر في سامعيه وعظه وحثّه لهم على الزهد والتقوى والتقشّف ؟

وكم من خطيب في مجالس ذكرى عاشوراء يدفع الناس بمجرّد مشاهدة هيئته إلى البكاء ، وقبل أن ينبسّ ببنت شفة.

ولا بدّ أيضاً للخطيب أن يظهر بما يليق به أمام الجمهور ؛ كي لا يثير تهكّمهم واشمئزازهم.

فمثلاً : لو كانت عمامة الخطيب مائلة ، أو كانت عباءته مقلوبة ، أو كان ثوبه ممزّقاً ، أو قميصه وسخاً وما شابه ذلك ، فسوف لن يكون الأقدر على الإقناع ، ولا الأقوى في الحمل على الانقياد والاستماع.

الأمر الثاني : سحنة وجه الخطيب

قال الفارابيّ : ومنها ، أي من الأمور التي لا بدّ منها للخطيب ، سحنة وجه الإنسان ، أو شكله وشكل أعضائه ومنظره ، أو فعله عندما يتكلّم ، مثل أن ينذر بورود أمر مخوف قد قرب ، فيرى وجهه وجه خائف أو هارب(٢) .

وقد قال أبو عليّ ابن سينا في هذا المضمار : وأمّا الحال المحسوسة غير القول ، كمثل مَنْ يخبر ببشارة وسحنة وجهه سحنة مسرور مبتهج ، أو يخبر بإطلال آفة وسحنة وجهه سحنة مذعور خائف ، أو ينطق عن تقرير بالعذاب أو الثواب(٣) .

فملامح وجه الخطيب وتقاطيع جبينه ، ونظرات عينيه وحركات يديه

____________________

١ - نهج البلاغة / ٢٦٠ خطبة رقم ١٨٢.

٢ - الخطابة - للفارابيّ / ١٠.

٣ - الشفاء ، قسم الخطابة / ١٠.

٣١

أمور معبّرة ومؤثّرة في السامعين فيما إذا استطاع أن يُحسن التصرّف بها حسبما يريده البيان.

وبعبارة أكثر صراحة : يجب على الخطيب أن يكون ممثّلاً في مظهره الخارجيّ وحركات حاجبيه، ويبدو حزيناً في موضع الحزن ، وغليظاً فظّاً في موضع الشدّة.

بل ربما يجب عليه في بعض الأحيان أن يبكي ، أو يتباكى فيما لو دعت الحاجة إلى ذلك ، ويبدو مسروراً مستبشراً في موضع السرور ، ويبدو بمظهر الواثق من قوله المؤمن بدعوته في موضع يتطلّب ذلك.

٣٢

المسألة الثالثة : ما يجب فعله حال الإلقاء مدح القبيح وذمّ الحسن

لا بدّ للخطيب أن يكون قد تدرّب على تطويع العبارات والاستفادة من الأمور بحسب الحاجة، وتسخير كلّ الأدلّة لصالحه حتّى لو كان ظاهر الدليل غير موافق لمطلوبه.

وذلك بأن يتمكّن من أمرين :

الأمر الأوّل : مدح القبيح

قد تدعو الحاجة لإظهار وجه الحسن في مَنْ اشتهر بالقبح.

فمثلاً : قد تدعو الحاجة إلى مدح فاسق فينظر الخطيب إلى النواحي الأُخرى غير الفسق ويختار منها ما يمكن مدحه به ، فيقول مثلاً : إنّه سمح سهل ، غير متزمّت ولا متعنّت ، منفتح على الآخرين ، لطيف المعاشرة ، خفيف الروح ، يخدم الناس... الخ ، وما شابه ذلك.

وقد يمدح الأبله الأحمق بأنّه بسيط صافي النفس ، بريء براءة الأطفال ، لا تشوبه شائبة الغدر والمكر ، ولا يهتمّ بأمور الدنيا مهما عظمت وتعقّدت ، وأنّه لا يزال على فطرته التي فطره الله عليها لم تغيّرها الخطايا والذنوب....

وقد يمدح الهمَّاز النمَّام الذي يتتبّع عورات الناس فلا يكاد يرى عيباً إلّا وينشره في المجتمع ، فيخبر به القاصي والداني بأنّه صادق وصريح ، ولا تأخذه في الله لومة لائم ، وأنّه يقول الحقّ ولو على نفسه ، وأنّه لا يمكنه السكوت عن قبيح الفعال ، ولا يستطيع أن يغضّ طرفه حينما يرى شرّاً لِما فيه من علوّ الهمّة وكبر النفس ، ولأنّه ليس بشيطان أخرس... إلى ما هنالك.

٣٣

الأمر الثاني : ذمّ الحسن

قد يقتضي الأمر إظهار بعض مساوئ أمرٍ معلوم الحسن ، فقد يذمّ الإنسان المؤمن المحافظ على دينه بأنّه جافٍ متزمّت رجعيّ لا يمكن الكلام معه ، وليس عنده للحلّ الوسط مجال ، ولا يقتنع بشيء ، ولا يقبل نصيحة أحد... الخ.

وقد يذمّ الشجاع بأنّه متهوّر طائش ، يرمي بنفسه في كلّ مخوفة ، ويبحث عن الشرّ ، ويلقي بيديه إلى التهلكة... الخ.

وقد يذمّ الكريم بأنّه مسرف جاهل بحقّ المال وقيمته ، ويعطي مَنْ يستحقّ ومَنْ لا يستحقّ ، وأنّ الناس يستفيدون من طيب قلبه ، ويأخذون أمواله بحجّة أنّه كريم وهو لا يعرف أنّهم يستحمقونه ، وبأنّه سوف يأتيه يوم يلتفت فيه إلى نفسه ويدرك خطأه وذلك حينما يجد نفسه محتاجاً لما في أيدي الناس حيث لن يجد مَنْ يساعده بدرهم.

وقد يذمّ الحليم الذي يصفح عمّن آذاه ، أو تصابى معه ، أو تكلّم معه بما لا يليق به ، يذمّ بأنّه جبان لا يجرأ على دفع الاعتداء عن نفسه حتى تطاول عليه الكبار والصغار.

وأنّ فيه ذلّة ، وأنّه متعوّد على استماع السباب والشتائم فلم تعد تؤثّر فيه شيئاً... ، إلى ما هنالك من أمثلة لمدح القبح وذمّ الحسن ممّا لا يخفى على القارئ الكريم ؛ فإنّ التدرّب على هذه الأمور تطوّع الاستعمالات والعبارات بين يدي الخطيب وتجعل ذهنه متوقّداً مستحضراً لكلّ سؤال جواباً مهيّئاً لكلّ شخص ما يناسبه من الكلام.

واعلم أنّ ما قدّمناه لك ليس دعوة لاعتماد أسلوب الكذب في الخطاب أبداً ، وليس تشجيعاً على التعرّض للآخرين بالنقد والتجريح كما قد

٣٤

يسبق إلى أذهان البعض ممّن تخفى عليهم النكات العلميّة ، وإنّما هو توضيح لفكرة أدبيّة ، وجلاء لقاعدة خطابيّة ، لو أتقنها الخطيب لأخذت بيده إلى إظهار الحقّ والدفاع عنه ، وكشف زيغ المبطلين وتفنيد كلام مَنْ لا يستعين على مراده إلّا بالكذب ، والنفاق فيسلّط الضوء على نقاط ضعفه ومواضع زلاته ؛ كي لا يعود إلى استحماق الناس للتسلّط عليهم.

واعلم أيضاً أنّه ليس فيما ذكرنا شيء من الكذب ، بل هو صدق ناصع ، غاية ما في الأمر أنّه تصوير قبيح للصورة الحسنة ، أو تصوير حسن للصورة القبيحة ، وذلك يحصل بالسكوت عن المحاسن وذكر ما هو موجود من المساوئ ، وهذا أمر شائع بين الفصحاء ممّن يعرفون مواضع الكلم ولم ينكر من الشرع ، ولنعطك على ذلك شاهداً حيّاً :

ورد في البيان والتبيين أنّ رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) سأل عمرو بن الأهتم عن الزبرقان بن بدر وهو حاضر فقال عمرو : إنّه مانع لحوزته ، مطاع في أُذينة.

فقال الزبرقان : يا رسول الله ، إنّه ليعلم منّي أكثر ممّا قال ، ولكنّه حسدني يا رسول الله في شرفي فقصّر بي.

فقال عمرو بن الأهتم حينئذٍ : وهو واللهِ زمر المرؤة(١) ، ضيّق الصدر ، لئيم الخال ، حديث الغنى.

فنظر النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) في عينيه فقال : يا رسول الله ، رضيت فقلت أحسن ما علمت ، وغضبت فقلت أقبح ما علمت ، وما كذبت في الأوّلى ، ولقد صدقت في الآخرة.

____________________

١ - زمر المرؤة أي قليلها.

٣٥

فقال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : (( إنّ من البيان لسحراً ))(١) .

وحتّى تطمئن نفسك إلى ما قلناه لك ، ولا يبقى في نفسك منه شيء سنضرب لك مثالاً حيّاً على مدح القبيح ، وآخر على ذمّ الحسن.

ورد عن الحجّاج أنّه حينما مرض وفرح أهل العراق بذلك ، وأرجفوا بموته وبلغه ذلك تحامل حتى صعد المنبر فقال : إنّ طائفة من أهل العراق ، أهل الشقاق والنفاق ، نزغ الشيطان بينهم فقالوا : مات الحجّاج ، ومات الحجّاج فمه ؟ وهل يرجو الحجّاج الخير إلّا بعد الموت ؟ واللهِ ما سرّني إلّا أموت وأنّ لي الدنيا وما فيها ، وما رأيت الله رضي بالتخليد إلّا لأهون خلقه إبليس. قال :( قَالَ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ إِنَّكَ مِنَ الـمُنظَرِينَ ) (٢) .

كما روى ابن سلام الجمحيّ في طبقات الشعراء أنّه اجتمع جرير والفرزدق عند سليمان بن عبد الملك وهو يومئذ خليفة ، وأتى بأسرى من الروم ، وكان في حرسه رجل من بني عبس قد علم أنّ سليمان سيأمر أصحابه بضرب أعناقهم.

فأتى الفرزدق فقال : إنّ أمير المؤمنين جرى بأن يضرب هؤلاء الأسرى. وحثّه على أن يكون هو الضارب لهم ، وأتاه بسيف كليل كهام(٣) .

فقال الفرزدق : ممّن أنت ؟

قال : من بني ضبّة أخوالك.

وأمره سليمان بضرب عنق بعضهم ، فتناول السيف من العبسيّ ثمّ هزّه

____________________

١ - البيان والتبيين / ٤٣ و ١٨٤.

٢ - مروج الذهب ٢ / ١٤٢، وشرح ابن أبي الحديد ١ / ١٥١.

٣ - السيف الكهام هو الضعيف الشيء لا يقطع.

٣٦

فضرب به عنقه فماحص(١) شعرة ولم يؤثّر به أثراً.

فضحك سليمان والناس وقال : هذه ضربة سيقول فيها هذا ، يعني جريراً ، وتقول فيها العرب.

فقال الفرزدق ( متخلّصاً من سيئته ، مصوِّراً لها بصورة حسنة ) :

فهل ضربةُ الروميّ جاعلةٌ لكم

ولا نقتلُ الأسرى ولكن نفّكهم

أباً عن كليبٍ أو أباً مثلَ دارم

إذا أثقلَ الأعناقَ حملُ المغارمِ(٢)

فانظر كيف بدّل السيئة بالحسنة ، وعبّر عن عجزه عن قتل الروميّ بأنّه قد تعوّد على فكّ الأسرى ، ولم يتعوّد على قتلهم. وهذه مفخرة ما بعدها مفخرة ، وتعريض بالخليفة وتفاخر عليه.

وقد نسب أبو حيّان التوحيديّ في كتابه البصائر والذخائر إلى سقراط تعريفاً للخطابة ورد فيه هذا القول : قيل لسقراط الفيلسوف. - وكان من خطبائهم - ما صناعة الخطيب ؟ قال : أن يعظّم الأشياء الحقيرة ، ويصغّر شأن الأشياء العظيمة.

وهذا تعبير آخر عن مدح القبيح وذمّ الحسن.

____________________

١ - محصّ : يعني قطع وحلق ، يقال : محصّ الشعرة أي قطعها.

٢ - طبقات الشعراء - لابن سلام الجمحيّ / ٩٣.

٣٧

الدرس الرابع :

ما يجب فعله حال الإلقاء

المسألة الرابعة : الوقوف على مرتفع

لا بدّ للخطيب أن يقف على مرتفع يطلّ به على الجمهور ؛ كي يروا وجهه ويتأثّروا بكلماته وإشاراته ، ولقد جرت العادة قديماً وحديثاً بأن ينصب للخطيب منبر من خشب ، ولو لم يكن هناك منبر وكانت الخطابة في الفلاة يُعمل له منبر بسيط من الحجارة كما مرّ في وصف نوف البكاليّ لعليّ (عليه‌السلام ) ، أو من رحل الدوابّ كما حصل لرسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) في خطبة الوداع حين نصّ على خلافة عليّ (عليه‌السلام ) ، أو أن يقف الخطيب على مرتفع عالٍ ، أو يصعد إلى هضبة كما حصل مع الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) حينما صعد الصفا وقال : (( يا صباحاه )).

فاجتمعت إليه قريش. فأخبرهم بنزول آية :( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ) (١) .

ويحسن في الخطيب أن يقف معتمداً على إحدى رجليه فإذا تعبت اعتمد على الأُخرى ؛ فإنّ ذلك يعينه على تحمّل طول الوقوف إلى إتمام خطبته وإن طالت.

____________________

١ - مجمع البيان - للطبرسيّ ٤ / ٢٠٦ ، سورة الشعراء / ٢١٤.

٣٨

وأمّا الإشارات فهي أمر مهمّ للخطيب ولا يمكن الاستغناء عنها في إثارة مشاعر مستمعيه. قال الجاحظ : الإشارة واللفظ شريكان ، ونِعْمَ العون هي له ، ونِعْمَ الترجمان هي عنه ، وما أكثر ما تنوب عن اللفظ وتُغني عن الخطّ(١) .

ولا بدّ في الإشارة من أمور :

الأمر الأوّل

إلّا تكون مبتذلة متصنّعة يشعر المخاطبون أنّها مقصودة وأنّ الخطيب يتعمّدها ؛ فإنّ ذلك يذهب بتأثيرها ويفقدها رونقها ، فلا بدّ أن تبدو عفوية قد صدرت منه من غير قصد ، وأنّه لم يتصنّع فيها ولم يتكلّف.

الأمر الثاني

إلّا تكون على نسق واحد بحيث يكون تكرّرها واضحاً للناظرين ، وذلك كما لو ظلّ يحرّك يده بحركة واحدة وعلى نسق واحد طيلة الخطبة ؛ إنّ ذلك يجعل الخطيب في موضع انتقاد الجمهور ، ولا يُعطي النتائج المطلوبة في المساعدة على الإقناع ، فلا بدّ أن تكون الحركات متنوّعة بتنوّع أسلوب الكلام من الأخبار والإنشاء ، ومن التعجّب والاستفهام وما شابه ذلك ، ولا بدّ أن تكون كثيرة كفعل الممثّلين ، وإلّا لم تكن ( نِعْمَ العون ).

الأمر الثالث

يجب على الخطيب أن لا يتنقّل على المنبر ، ولا يعتمد الإشارات المضحكة ، ولا الحركات الخفيّة ؛ كي لا يتحوّل إلى ممثّل أو إلى مهرّج.

____________________

١ - البيان والتبيين ، تحقيق السندوبيّ ١/ ٦٩.

٣٩

فعليه مثلاً أن لا يهتزّ ولا يستدبر ، ولا يلتفت بكلّ بدنه من جهة إلى أُخرى ، ولا يُحرّك رجله، ولا يهزّ برقبته ، ولا يغمز بعينيه ، ولا يخرج لسانه ، ولا يقلّد الآخرين بأفعالهم وأقوالهم ؛ فكلّ هذه الأمور تُفسد الجوّ العامّ للخطبة.

وهناك بعض الحركات تُعدّ من آفات الخطيب ، وهي أن يكثر من السعال أثناء الإلقاء ، أو من الالتفات يمنة ويسرة ، أو بأن يقصر نفسه عن إتمام الجملة التي بدأها فيستعين بنفس ثان لإتمامها ، وأن يفتل أصابعه ، أو أن ينشغل بالعبث بلحيته ، أو يكثر من المسح عليها أو على شاربيه ؛ فإنّ كلّ ذلك من العيب الذي لا بدّ للخطيب أن يتخلّص منه فيعوّد نفسه على النفس الطويل ، ويسعى جهده للتخلّص من السعال في الخطابة ، ويقلع عن العادات الأُخرى المشار إليها.

وقد جمع أحدهم هذه الحركات ببيت من الشعر فقال :

مليء ببهرٍ(١) والتفاتٍ وسعلة

ومسحةِ عثنونٍ(٢) وتلِّ الأصابعِ(٣)

____________________

١ - البهر : يعني انقطاع النفس والإعياء.

٢ - العثنون : هو اللحية ، وقيل : ما ينبت على الذقن خاصّة.

٣ - البيان والتبيين / ١.

٤٠