دروس في فنّ الخطابة

دروس في فنّ الخطابة0%

دروس في فنّ الخطابة مؤلف:
المحقق: معهد سيد الشهداء للمنبر الحسيني
الناشر: جمعية المعارف الاسلامية الثقافية
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 128

دروس في فنّ الخطابة

مؤلف:
المحقق: معهد سيد الشهداء للمنبر الحسيني
الناشر: جمعية المعارف الاسلامية الثقافية
تصنيف:

الصفحات: 128
المشاهدات: 18209
تحميل: 3990

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 128 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 18209 / تحميل: 3990
الحجم الحجم الحجم
دروس في فنّ الخطابة

دروس في فنّ الخطابة

مؤلف:
الناشر: جمعية المعارف الاسلامية الثقافية
العربية

المسألة الخامسة : مقتضيات الإلقاء

هناك أمور يقتضيها الإلقاء تختلف باختلاف أنواع الخطب ، وتتلخّص في ستّة أمور :

الأمر الأوّل : كيفيّة الوقوف على المنبر

لا بدّ للخطيب الذي يكون في موضع الحماس ويريد أن يدبّ الشجاعة في قلوب سامعيه أن يقف وقفة متأهّب مستعدّ ، وكأنّه سينزل إلى ساحة الحرب بعد لحظات ، وأن تكون أعصابه مشدودة ، والتفاتاته سريعة وخاطفة ، وحركات يديه عصبيّة ، ونظراته إلى المستمعين محرقة ، تخرج من عين تتأجّج فيها النّار حماساً وقوّة ؛ فإنّ كلّ ذلك مهمّ في الخطب العسكريّة ، وهو أدعى لحملهم على الاستبسال ، ولدبّ الشجاعة والجرأة في قلوبهم.

ولا بدّ لِمَنْ كان في مقام الوعظ والإرشاد ، وأمر الناس بالتقوى وترك المعاصي أن يقف بارتخاء نوعاً ما ، ويحرّك يديه بحركات خفيفة بطيئة في موضع الخشوع ، وبحركات الحذر في موضع إثارة الخوف ، فيفتح فاه قليلاً بما يعبّر عن ذلك فيما لو تعرّض لذكر أمر مخيف ، كما لو تكلّم عن جهنّم ، أو عذاب القبر ، أو شدّة الألم وما شابه ذلك ، وهكذا في سائر أنواع الخطب يراعي ما يناسبها.

الأمر الثاني : طريقة النطق بالكلمات

تارة يقتضي أمر الخطابة أن تخرج الكلمات من الفم مشدودة متراصّة ، وكأنّ هناك مَنْ ينتزعها من الفم بقوّة ، فيصدر للحرف صوت يتناسب معه شدّة وضعفاً ، وتارة يقتضي أن تخرج هادئة ناعمة تكاد

٤١

تشبه النجوى ؛ فإنّ ذلك أبلغ في إيصالها الخشوع إلى قلوب السامعين ، وتارة تقتضي أن تخرج عاديّة لا شدّة فيها ولا ضعف ، كما في الخطب العلميّة. كلّ ذلك يرجع إلى معاني الكلمات وما يتناسب معها.

الأمر الثالث : نظرات الخطيب

لا بدّ من توزيع النظرات على المستمعين كلّ بحسبه. فالذي يكون مشدوداً للكلام متوجّهاً لما يُقال ، ينظر إليه وكأنّه المستمع الوحيد فيزداد أُنساً واستماعاً وإقبالاً ، والذي يكون في سهو وغفلة عمّا يقوله الخطيب يتوجّه الخطيب إليه وكأنّه يسأل عن أمر عرض له في أثناء الكلام ، ثمّ ينصت قليلاً ليتوهّم المستمع أنّه يسأله عن الجواب ، وأنّه ينتظر منه الإجابة ، وبما أنّه غير ملتفت إلى السؤال ولا يعرف بماذا يجيب تدخل الرهبة في قلبه في اطلاع الحاضرين على غفلته ، أو جهله بالإجابة فيضطرّ حينذاك للتوجّه وتركيز ذهنه على فهم ما يقوله الخطيب ؛ كي لا يقع في ذلك مرّة أُخرى ، وحينئذٍ يسهل إقناعه.

ولا بدّ للخطيب أن ينظر في عيون السامعين ؛ كيّ لا يشعروا أنّه بعيد عنهم فيما لو ركّز نظراته في السقف ، كما يفعل كثير من المبتدئين في الخطابة خوفاً من أعين الناظرين.

وهناك كثير من الخطباء ليس لهم الجرأة على مواجهة المستمع والنظر في عينيه ، كما حصل للجنرال كرافت حيث كان يخشى من ذلك فنصحه أحد علماء الخطابة بالنظر في أنوفهم ؛ كي يتوهمّوا أنّه ينظر إلى أعينهم فلا يشعرون بأنّه بعيد عنهم(١) .

وكذلك عليه أن لا ينظر من خلال النافذة إلى الخارج ولا يلهو عن

____________________

١ - أصول فنّ الخطابة - لعليّ باشا صالح / ٢٩ ، وكرافت رئيس أميركا عام ١٨٦٩.

٤٢

مستمعيه بمراقبة كتاب أو أيّ شيء آخر.

الأمر الرابع : خروج الكلام من القلب

يجب على الخطيب أن يشعر السامع بأنّ ما يقوله يخرج من قلبه ، وأنّه من جملة اعتماداته التي لا تقبل الشكّ والترديد ، وذلك بأن يتفادى قدر الإمكان التوقّف بين الكلمات والتلكّؤ في النطق بها ؛ فإنّ ذلك ممّا يجعل المستمع مشتّت الذهن ، ومتردّداً في الاقتناع بما يُقال ، أو على أقل تقدير لا يجد في نفسه ما يشدّه للاقتناع به.

وقد قيل قديماً : الكلام الذي يخرج من القلب يدخل إلى القلب ، والذي يخرج من اللسان لا يتجاوز شحمة الأذن.

الأمر الخامس : تناسب المعاني وطريقة التلفّظ

على الخطيب أن يحرص على أن تكون طريقة التلفّظ بالعبارات مناسبة لمعانيها ، فمثلاً الجملة الاستفهاميّة تحتاج إلى نمط خاصّ من التلفّظ مغاير لنمط تلفّظ الجملة الخبريّة ، والجملة المنفيّة تختلف طريقة تلفّظها عن الجملة المثبتة ، وكذلك سائر أنواع الجمل.

وأوضح ممّا ذكرنا أسلوب تلفّظ الجملة التعجبيّة ؛ فإنّ لها أسلوباً خاصّاً لا يقوم مقامه غيره ، ولا يمكن توضيحه للقارئ الكريم بالعبارة إلّا أنّ الإنسان يدرك ذلك بطبعه السليم ، وسليقته الصحيحة في التلفّظ بالكلام العربيّ ، بل إنّ ذلك لا يختلف من لغة إلى أُخرى وهو مشترك بين جميع الناس.

فلو تلفّظ الخطيب بالجملة التعجبيّة أو الاستفهاميّة كما يتلفّظ بالجملة الخبريّة لدلّ ذلك على أنّه غير ملتفت إلى معناها ، ولما حصل للمستمع تلك الفائدة المرجوّة منها.

٤٣

وأكثر ما يقع الخطيب بهذا النوع من الخطأ فيما لو كان يقرأ خطابه عن الورقة ؛ إذ يجد نفسه قد بدأ بجملة على النهج الخبريّ مثلاً ، ولا يلتفت إلى أنّها تعجبيّة إلّا بعد أن يتمّها ، خصوصاً إذا كان يقرأ الخطبة لأوّل مرّة.

وهذا لا يحصل لِمَنْ يخطب ارتجالاً إلّا نادراً ، كذلك يمكن تجنّبه إذا حضَّر خطبته وطالعها مراراً قبل إلقائها.

الأمر السادس : مراعاة أماكن الوقف والدرج

حينما تنتهي الجملة لا بدّ من التوقّف هنيهة ؛ ليعلم المخاطب انتهاءها ولا يتوهّم اتصالها بما بعدها ، وأمّا في وسط الجملة فلا بدّ من وصل الكلام مع بعضه البعض حتى لا يصبح مقطّعاً خالياً عن الفائدة التامّة المرجوة من الكلام. ولا يصحّ الدرج في أماكن الوقف ، ولا الوقف في أماكن الدرج ، فلا بدّ من مراعاة كلّ منهما بحسب المقام.

ولا بدّ أن تكون أماكن الوقف شافية بيّنة ، ولا يمكن معرفة ذلك وإدراكه من خلال القراءة ، بل لا بدّ من تتبّع استعمالات الخطباء والاستماع إلى خطبهم ، والتأمل في الأماكن التي يقفون عليها والأماكن التي يدرجونها.

٤٤

٤٥

الدرس الخامس :

ما يجب فعله حال الإلقاء

المسألة السادسة : التحلّي بخصلتين

لا بدّ للخطيب أن يتحلّى بخصلتين مهمّتين في باب الخطابة هما :

الأولى : حضور الذهن

يجب أن يكون الخطيب حاضر الذهن حال الإلقاء ، ملتفتاً إلى كلّ ما يقوله ، وإلى ما يمكن أن يرد عليه من اعتراضات ، وكيفيّة التخلّص منها والإجابة عنها. فإذا فاجأه أحدهم باعتراض ردّه بردّ حسن ليّن دون إظهار عجز أو جهل أو تأفّف.

وإذا سأله بعضهم عن أمر يتعلّق بخطبته يكون مُعدّاً له الجواب الشافي ، وإلّا وجد نفسه في مأزق لا يعرف الخروج منه ، وينقض بذلك غرضه فلا يتمكّن من إقناع الجمهور بفكرته ولا تلقينهم عقيدته.

ولنعطك على ذلك مثالاً :

دار بين السيّدة زينب بنت عليّ (عليها‌السلام ) وعبيد الله بن زياد حوار بعد خطبة ألقتها بحضوره أظهرت فيها نقصه وعدم تديّنه ، وأحصت عليه عيوبه وذنوبه.

فقال رادّاً عليها ، يقصد إبطال قولها أمام الحاضرين : مَنْ هي هذه المتنكرة ؟

فقال بعض مَنْ حضر : هي زينب بنت علي.

٤٦

فقال لها بمكر وخبث ، محاولاً إظهارها مستحقّة لما وقع بهم من السبي والإذلال ؛ فيكون بذلك بريئاً ولم يفعل ذنباً يستحقّ عليه التوبيخ : الحمد لله الذي فضحكم وأكذب أحدوثتكم.

فقالت الحوراء (عليها‌السلام ) : الحمد لله الذي أكرمنا بالنبوّة ، وطهّرنا من الرجس تطهيراً ، إنّما يُفتضح الفاسق ، ويُكذب الفاجر ، وهو غيرنا.

فلمّا سمع هذا التعريض به أمام مناصريه سلك طريقاً آخر لإفحامها : هل رأيت ما صنع الله بأخيك الحسين ؟

فقالت له ببيان فصيح : ما رأيت إلّا جميلاً ، هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم ، وسيجمع الله بينك وبينهم ، فتُحاج وتُخاصم فانظر لِمَنْ الفلاح يومئذٍ ، ثكلتك أمّك يابن مرجانة !

فأطرق عبيد الله بن زياد لا يحير جواباً ، وقد أُفحم واسودّ وجهه(١) .

وليس هناك أوضح دلالة على أهميّة حضور الذهن حال الخطاب ممّا جاء في آخر خطبة المتقين للإمام عليّ بن أبي طالب (عليه‌السلام ) ، حينما صعق همّام العابد فاعترض رجل من الحاضرين على الإمام بقوله : فما بالك يا أمير المؤمنين ؟

يقصد أنّه هو الذي كان السبب بموت همّام.

فأجابه (عليه‌السلام ) : (( ويحك ! إنّ لكلّ أجل وقتاً لا يعدوه ، وسبباً لا يتجاوزه ، فمهلاً ! لا تعُد لمثلها ؛ فإنّما نفث الشيطان على لسانك ))(٢) .

الثانية : حسن التخلّص

إن ّمن الأمور المهمّة للخطيب أن يجيد التخلّص من الخطأ لو حصل ووقع فيه ، ويحسن الاعتذار عن ذلك ؛ فإنّ كلّ إنسان معرّض

____________________

١ - معالي السبطين - للحائريّ ٢ / ١١٢ ، بتصرّف.

٢ - نهج البلاغة / ٥٠٣ الخطبة ٩٣.

٤٧

للخطأ لا محالة ، ولعلّه من المواقع الصعبة عليه أمام الجمهور الذي كان يقف فيه ملقّناً ومسدّداً ، يظهر بظهر المحتاج إلى مَنْ يعلّمه ويقوّم اعوجاجه ويصلح خطأه ، فإن كان الخطيب ماهراً يعرف كيف يدير دفّة الخلاص ، نجا بنفسه إلى شاطئ الأمان باعتذار حسن ، أو بطريقٍ خفيّ يسلكه للهروب من ورطة الغلط ، ويظهر نفسه كأنّه تعمّد ما صدر منه ، وأنّ ذلك لم يكن خطأ وإنّما قصده لعلّة في نفسه ، ثمّ يبِّرر تلك العلّة ويوضّح السبب الذي دعاه إلى ذلك بوجه سليم بسيط لا يدع للمستمعين شكّاً ولا ريباً.

وسنضرب لك مثالين لتوضيح حسن التخلّص والاعتذار :

الأوّل :

في فتح بلاد خراسان كان قتيبة بن مسلم قائداً لجيوش بني أُميّة ، وكان وكيع بن الأسود التميميّ أحد قادة جنوده ، وقد صعد وكيع هذا يوماً لوعظ الناس وإرشادهم ، فقال في ضمن خطبته : إنّ الله خلق السماوات والأرض في ستّة أشهر. فانبرى له رجل من الحاضرين قائلاً : إنّما كان ذلك في ستّة أيام(١) .

فقال وكيع بلهجة البصرة الواثق من نفسه ، وكأنّه لم يصدر منه أيّ خطأ : وأبيك لقد قلتها وإنّي لأستقلّها(٢) .

أيّ إنّه يرى أنّ ستّة أشهر قليل على خلق السماوات والأرض ، فكيف بستّة أيام ؟ فما ذلك إلّا لأنّ الله قويّ عزيز فلا بدّ من إطاعته وعدم التعرّض له بالمعصية.

____________________

١ - إشارة إلى قوله تعالى :( اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ) . سور ة الأعراف / ٥٤.

٢ - جمهرة خطب العرب ٣ / ٣٥٧.

٤٨

المثال الثاني :

روي أنّ الشيخ محمّد تقي فلسفيّ صاحب كتاب الطفل بين الوراثة والتربية ، وهو من مشاهير الخطباء الإيرانيّين المعاصرين ، كان يخطب في مناسبة مرور أربعين يوماً على وفاة المرحوم آية الله البروجرديّ الذي كان مرجعاً للشيعة آنذاك ، فقال في طيّ خطابه هذه العبارة : إنّ آية الله البروجرديّ دامت بركاته....

وهذا خطأ منه إذ كان عليه أن يقول قدّس سرّه ، أو رحمه الله ، أو أسكنه الله فسيح جنّاته ، أو ما شابه ذلك من العبارات التي تُقال في هكذا مقام ، فالتفت إلى خطأه وتابع قائلاً : نعم دامت بركاته ؛ لأنّه وإن ذهب للقاء ربّه إلّا أنّ بركات أفعاله الخيّرة دائمة ولا تزال بيننا.

٤٩

المسألة السابعة : قدرة السيطرة على المجلس

لا بدّ أن يتحلّى الخطيب بالقدرة على السيطرة على المجلس من جهة إصغاء الحاضرين جميعاً ، فإن حاول بعضهم التشويش عرف كيف يتوجّه نحوه وهو يتابع كلامه بصوت عالٍ ، وكأنّه يقول له : لا تتكلّم أثناء كلامي.

وإذا أحسّ بأنّ هناك مَنْ يتكلّم مع جالس بجانبه عرف كيف يورد في ضمن كلامه ، وعلى نحو الجملة الاعتراضيّة ما يعرّض فيه بهما ؛ ممّا يجعلهما يقلعان عن ذلك ، ويؤدّب بذلك الباقين فلا يحاول أحد خلق ضوضاء أثناء الإلقاء.

وقد يكون من المناسب أن يصمت قليلاً بشكل ملحوظ ؛ ليسمع الناس الحاضرون صوت الذي يتكلّم مع زميله فيخجل ويمسك ولا يعود لمثلها.

وكلّما كان الخطيب متفاعلاً مع خطابه ، وكان خطابه مؤثّراً في المستمعين كلّما سيطر على الحفل أكثر ، وإلّا فسوف لن يتمكّن من كبح جماح الضوضاء التي قد تزداد حتى تتغلّب عليه وتلزمه الصمت.

وقد ورد في كتاب الخطابة لمحمّد أبو زهرة كلام لديكوب ، وهو أحد علماء النفس الفرنسيّين ، وكان نائباً في البرلمان الفرنسيّ ، يُصف به الخطيب النيابي الفاشل الذي لا يعرف كيف يسيطر على المستمعين : إذا استوى على المنبر أخرج من محفظته أوراقاً فنشرها أمامه على الترتيب وشرع يخطب مطمئنّاً ، وهو يفخر في نفسه بأنّه سيبثّ عقيدته لتسكن روح سامعيه ؛ لأنّه وزن أدلّته وحرّرها ، وأعدّ شيئاً كثيراً من الإحصاءات والحجج ، وأيقن أنّ الحقّ في جانبه ، وأنّ معارضه لا يثبت أمام الحقيقة التي يأتي بها.

٥٠

وهكذا يبدأ معتمداً على صواب رأيه ، واصفاً إخوانه باعتقاده أنّهم لا يطلبون إلّا الحقّ ، وبينما هو يخطب إذ تأخذه الدهشة من اضطراب الحاضرين ، ويتقزّز من الضوضاء الناتجة من ذلك الاضطراب ويتساءل ؟

- لماذا لا يسود السكون ؟

- وما السبب في هذا الاضطراب ؟

- وما السبب القوي الذي يحمل ذلك على ترك مجلسه ؟

فيفرك حاجبيه ، والحيرة تعلو جبينه ، ويمسك عن الكلام ، فيشجّعه الرئيس ، فيعود بصوت مرتفع فيزيد الأعضاء في عدم الإصغاء ، فيجهر ويهتزّ فتزداد الجلبة من حوله ، ويعود لا يسمع نفسه فيمسك عن الكلام مرّة أُخرى ، ثمّ يخشى أن يدعو سكوته إلى أصوات الأقفال فيرجع إلى الخطابة بما فيه من قوّة ، وهناك تعلو الجلبة ويختلط الحابل بالنابل ممّا لا يقدر على وصفه الواصفون(١) .

ومن كلّ ما تقدّم خلال المسائل السبع ، نستخلص : أنّه يجب على الخطيب أن يكون سائقاً ماهراً ، يعرف مقصده وهدفه جيّداً ؛ فيسير بمَنْ معه من المسافرين الذين يقلّهم إلى النقطة التي حدّدها لنفسه ، عالماً بمكان تحرّكه وابتدائه ، عارفاً بموضع وصوله وانتهائه. يسرع بهم طوراً ويبطئ أحياناً ، ويذهب بهم شمالاً مرّة ويميناً مرّة أُخرى ، حتى إذا تعب الركّاب من السفر ، وشعروا بالملل من طول الجلوس عرف كيف يعرج بهم على واحة مريحة يتناولون قسطاً من الراحة في ظلالها ، فيورد لهم قصّة طريفة ، أو حكاية مضحكة ، أو مثالاً غربياً فيستعيدون

____________________

١ - الخطابة - لمحمّد أبو زهرة.

٥١

نشاطهم ، وتتجدّد عزيمتهم ، ثمّ يتابع بهم المسير إلى الهدف المحدّد ، والنقطة المرجوّة وهم في غاية النشاط والسرور والراحة.

٥٢

٥٣

الدرس السادس :

تهيئة مواد الخطاب‏

الأمر الأوّل : تهيئة موادّ الخطاب‏

يمكن وضع منهاج تدريجيّ لتهيئة موادّ الخطاب وجمعها يتكوّن من ستّ مراحل تخدم الخطيب بشكل كبير ، لا بدّ من اتّباعه للمبتدئ وكلّ مَنْ لم يتمرّس في هذا الفنّ.

وأمّا مَنْ تمرّس فيه واشتدّ ساعده فقد لا يحتاج في تحضير خطابه إلّا إلى مراجعة بسيطة لبعض المصادر ؛ ليضيف إليها ما لديه من معلومات سابقة ، وينسّق الجميع في ذهنه ليخرج بخطبة كاملة متكاملة.

وهذه المراحل هي :

المرحلة الأولى

تحديد نوعيّة الخطاب المنويّ إلقاؤه ، كأن يكون في حقل الأخلاق ، أو في حقل التفسير ، أو السياسة ، أو التاريخ ، أو القضاء ، كما لو كان الخطيب قائداً عسكريّاً ، أو مسؤولاً سياسيّاً ، أو واعظاً دينيّاً ، أو محاضراً في علم التاريخ ، أو كان محامياً عن متهم ، أو وكيلاً للنيابة العامّة ، أو ما شابه ذلك ، فإنّ عليه أن يحدّد نوعيّة الخطاب.

٥٤

المرحلة الثانية

تحديد عنوان الموضوع الذي سيتناوله في خطبته ، مثلاً :

( الغيبة ) في الموضوع الأخلاقيّ.

( تفسير سورة القدر ) في علم التفسير.

( تحديد الموقف العمليّ للمسلمين في مقابل الغزو الفكريّ ) في عرض المفاهيم الإسلاميّة ، أو تطبيق السياسة الإسلاميّة.

( معركة النهروان ) في التحليل التاريخيّ.

( الدفاع عن متهم بالقتل ) في القانون والقضاء. وما شابه ذلك.

المرحلة الثالثة

طلب الموضوع من مظانّه من الكتب التي تتعرّض لهذا النوع من الخطب أو البحوث ، وعليه أن يراجع كتابين في كلّ علم على أقلّ تقدير ، وكلّما طالع أكثر وعدّد المصادر كان أفضل ؛ فإنّ ذلك يعطيه مجالاً أوسع في استعراض الآراء ومناقشتها والاستفادة منها في إثبات المطلوب ، ويفسح له المجال للتعرّض لدقائق الأمور وجزئيّاتها ، ففي موضوع ( الغيبة ) يراجع مثلاً : ( المحجّة البيضاء ) للفيض الكاشانيّ ، وكتاب ( الغيبة ) للشهيد الثاني....

وفي موضوع التفسير يراجع مثلاً : ( الكشّاف ) للزمخشريّ ، و( مجمع البيان ) للطبرسيّ....

وفي الموضوع التاريخيّ يراجع مثلاً : ( تاريخ الطبريّ ) ، و( مروج الذهب ) للمسعوديّ وهكذا.

ويمكن معرفة الكتب التي تحتوي على مراد الخطيب بواسطة أمرين :

٥٥

١- أن يكون عنده اطلاع تفصيليّ على ما في الكتب التي تخدمه نتيجة مطالعاته السابقة ، أو اطلاع عام إجمالي على الكتب التي تمتّ إلى موضوعه بصلة ، بحيث لو راجعها لتفتّحت أمامه أبواب أُخرى ومصادر ثانية لموضوعه.

٢- مراجعة فهارس المكتبات العامّة في المادة التي يريد البحث فيها ، فيبحث في فهارس مادّة التاريخ عن الكتب التي تناسب موضوعه ، وهكذا في التفسير والأخلاق وغيرهما(١) .

ويجب إلّا تخفى على الخطيب هكذا أمور ، وإلّا فعليه أن يعود للمطالعة العامّة لمدّة من الزمن؛ فيقرأ بتروٍّ وإمعان ، ويكتب رؤوس أقلام لما قرأ ، ويحفظ ما له علاقة بالمواضيع التي يحتمل أن يتطرّأ لها ويبحث عنها.

المرحلة الرابعة

البحث عن الشواهد التي تنفع الخطيب في دعم الموضوع الذي يريد التحدّث فيه ، كالبحث عن الآيات التي تتعرّض للغيبة مثلاً ، والأحاديث الشريفة والأقوال المأثورة ، والقصص التي تناسب المقام ، وبعض الأشعار والأمثال وما شابه ذلك ممّا سيأتي تفصيله وكيفيّة الاستفادة منه.

ولعلّ البحث عن الشواهد ، أو ما نسمّيه بالأعوان ، أصعب وأشقّ من البحث عن أصل الموضوع ؛ وذلك لأنّ الأعوان أمور جزئيّة متفرّقة هنا وهناك ، فربما تحصل على شاهد للأخلاق من كتب التاريخ ، وربما تحصل على شاهد للسياسة من كتب التفسير ، وهكذا....

____________________

١ - راجع حول هذا الموضوع كيف تكتب بحثاً أو رسالة - لأحمد شلبي / ٤١.

٥٦

ويمكن القول بكلّ وضوح أنّ سعة اطلاع الخطيب ، وكثرة معلوماته ومحفوظاته تظهر جليّة في هذا المضمار.

فمن الخطباء البارزين مَنْ باستطاعته أن يعتمد على محفوظاته في إلقاء الخطب الطوال ، ويذكر فيها من الشواهد والأعوان ما لا يدع عند السامع شكّاً في صحّة كلامه وأحقيّته ، فيورد قصّة من هنا ويروي حادثة من هناك ، ثمّ يدعمه بالآيات القرآنيّة وبالشعر المحفوظ بشكل دقيق ، وعليه إلّا ينسى إيراد اسم صاحب الأبيات ، أو أسماء الأشخاص الذين نزلت الآية فيهم ، أو دارت القصّة حولهم.

المرحلة الخامسة

كتابة النقاط الرئيسيّة على ورقة بشكل مرتّب ومنسّق على هذا الشكل :

أ - الآية أو الحديث ، أو القول المأثور الذي يفتتح به الخطاب.

ب - بعض الألفاظ الخاصّة التي تصلح للمقدّمة كمدخل إلى قلب الموضوع.

ج - طرح الموضوع ، وذلك على النحو التالي :

١ - تعريف محور البحث ، وتوضيح المعاني التي تحيط به.

٢ - ذكر التقسيمات والتفريعات بشكل مرتّب ومنظّم.

٣ - تبيين حكم كلّ قسم.

د - الأدلّة والشواهد والأمثلة على كلّ قسم من الأقسام المتقدّمة بأن تكتب إلى جنبه.

ه - القصص المناسبة للمقام ، والتي لا بدّ من توزيعها بالشكل الذي يتناسب مع نقاط البحث....

٥٧

و - الأعوان العامّة أو الخاصّة ، كالآيات والأحاديث ، والأمثال والأشعار ، وما إلى هنالك... بشرط توزيعها في أماكنها المناسبة حين الكتابة ، أو على الأقل حين الإلقاء.

ز - الخاتمة وما يمكن أن يوجد فيها من ألفاظ بها ، أو أعوان كذلك كما سيأتي في بحث الخاتمة.

فإذا كان للخطيب سابقة خطابيّة ، ويتمتّع بذهنيّة جيّدة يمكنه أن يكتفي بهذا المقدار من التحضير ، وإلّا فلا بدّ أن يمرّ في المرحلة السادسة.

المرحلة السادسة

كتابة الخطاب مفصّلاً ، كما لو كان الخطيب يكتب بحثاً أو رسالة أو مقالة ، ولا يوجد كثير فرق بين الخطاب والبحث إلّا من حيث نوعيّة القضايا التي تُستعمل في الخطابة ؛ فإنّها مشهورات ذائعات في الغالب دون البحث العلميّ أو المقالة الأدبيّة ، ومن حيث الألفاظ الرنّانة التي يمتاز بها الأسلوب الخطابيّ عن غيره ، وهكذا من حيث التكرار ؛ فإنّه يُستحسن في الخطابة ولا يُستحسن في غيرها.

ثمّ بعد إتمام الكتابة يطالع الخطاب عدّة مرّات ، ويصحّح ما وقع فيه من الخطأ ، ثمّ يقرأه بصوت عال عدّة مرّات ؛ ليتعوّد على قراءته ولا يُفاجأ به على المنبر.

فإن كان الخطيب مبتدئاً فلا بدّ له أن يصطحب معه الأوراق التي كتب الخطاب عليها ؛ ليتلوه من على المنبر.

وننصح الخطيب هنا إلّا يُظهر الأوراق للمخاطبين إن أمكنه ذلك ، وخصوصاً إذا كان الموضوع طويلاً وقد استغرق عدّة أوراق ، أو كان

٥٨

قد كتبه على ورقة كبيرة ؛ فإنّ رؤية المخاطب لهذه الأوراق الكبيرة ومعرفته بأنّها ستُتلى عليه بعد قليل بأكملها تقود إليه الضجر والسأم باكراً حتّى في بداية القراءة ، فإن أمكنه ستر الأوراق الكثيرة خلف المنبر سترها ، وإلّا فالأحسن أن تُكتب على ورقة واحدة أو اثنتين من الحجم المتوسّط أو الصغير ، وعدم مراعاة هذا الأمر سيؤدّي بالخطيب إلى نفس المصير الذي وصل إليه الخطيب النابي الذي مرّ كلام ( ديكوب )(١) عنه.

وأمّا إذا كان صاحب خبرة سابقة وتجربة ماضية فالأحسن له أن تُكتب رؤوس الأقلام فقط ، أي يكتفي بالمرحلة الخامسة التي تقدّم الكلام عنها ، ثمّ يضع الورقة في كفّه بشكل غير ملحوظ للجمهور ويشرع في خطابه ، فإذا احتاج إلى مراجعة آية أو نقطة ما استرق النظر إلى الورقة فقرأها، أو استذكر بها ما يريده.

وهذا الأسلوب متّبع عند كثير من الخطباء ، وقد شاهدت العديد من الخطباء لا يبدو عليهم التحرّج من هذا الأسلوب ، وميزته أنّه ارتجال إلى حدّ ما ، ويعين على الارتجال التامّ ، والمخاطب يرتاح إلى الخطاب الارتجاليّ أكثر بكثير من ارتياحه للخطاب المقروء عن الورقة.

وبما أنّ الكلام قادنا إلى الارتجال فلنبحث عنه في هذا الفصل.

____________________

١ - راجع ص ١٤٧ ، من هذا الكتاب.

٥٩

٦٠